المقدمة الثانية
* المعايير العلمية التي تثبت بها الوثاقة أو الحسن.
* تحديد هذه المعايير وتمحيصها وجلاؤها بشكل دقيق بماذا تثبت الوثاقة أو الحسن ما تثبت به الوثاقة أو الحسن أمور:
١ - نص أحد المعصومين: مما تثبت به الوثاقة أو الحسن أن ينص على ذلك أحد المعصومين عليهم السلام. وهذا لا إشكال فيه. إلا أن ثبوت ذلك يتوقف على إحرازه بالوجدان، أو برواية معتبرة. والوجدان وإن كان غير متحقق في زمان الغيبة إلا نادرا، إلا أن الرواية المعتبرة موجودة كثيرا، وستعرف موارده في تضاعيف الكتاب إن شاء الله تعالى. وربما يستدل بعضهم على وثاقة الرجل أو حسنه برواية ضعيفة أو برواية نفس الرجل، وهذا من الغرائب!! فإن الرواية الضعيفة غير قابلة للاعتماد عليها، كما أن في إثبات وثاقة الرجل وحسنه بقول نفسه دورا ظاهرا. هذا وقد ذكر المحدث النوري في ترجمة عمران بن عبد الله القمي ما لفظه: (روى الكشي خبرين فيهما مدح عظيم لا يضر ضعف سندهما بعد حصول الظن منهما). وذكر ذلك غيره أيضا مدعيا الاجماع على حجية الظنون الرجالية. أقول: يرد على ذلك:
أولا: أن وجود الرواية الضعيفة لا يلازم الظن بالصدق.
وثانيا: أن الظن لا يغني من الحق شيئا، ودعوى الاجماع على حجيته في المقام قطعية البطلان. كيف وهذه الكتب الأصولية - قديما وحديثا - ترى أنها ذكرت أن العمل بالظن حرام ما لم يقم دليل على حجيته. ونسبة الحكم المظنون إلى الشارع حينئذ تشريع محرم. وفد ذكروا موارد خاصة قام الدليل فيها على حجية الظن، وموارد وقع الخلاف فيها ولم يذكر في شئ من الموردين الظنون الرجالية، ولم تنسب حجية الظن الرجالي إلى أحد من الاعلام، فضلا عن أن يدعى الاجماع عليها. وهذه الكتب الفقهية الاستدلالية من زمان الشيخ إلى زمان الفاضلين المحقق والعلامة ومن بعدهما: لا تجد فيها من يدعي ذلك أبدا. وإنما صدر هذا القول من بعض متأخري المتأخرين من دون ذكر منشئه. ولا يبعد أن منشأ ذلك تخيله أن باب العلم منسد في باب الرجال، فينتهي الامر إلى العمل بالظن لا محالة. ولعل مدعي الاجماع على حجية الظن الرجالي استند إلى هذا أيضا، بتخيل أن حجية الظن - على تقدير انسداد باب العلم - إجماعية. ويرد على هذا القول:
أولا: أن باب العلم بالتوثيقات وما بحكمها غير منسد، بناء على ما نبين من جواز الاعتماد على أخبار الاعلام المتقدمين.
وثانيا: أن انسداد باب العلم في كل موضوع لا يوجب حجية الظن في ذلك الموضوع. وإنما العبرة في حجية الظن من باب الكشف أو الحكومة بانسداد باب العلم بمعظم الأحكام الشرعية، فان ثبت ذلك كان الظن بالحكم الشرعي - وإن نشأ من الظن الرجالي - حجة، سواء أكان باب العلم في الرجال منسدا أم لم يكن، وإذا كان باب العلم والعلمي بمعظم الاحكام مفتوحا لم يكن الظن الرجالي حجة، سواء أكان باب العلم بالرجال منسدا أم لم يكن. وعلى الجملة، فدعوى حجية الظن الرجالي بخصوصه - فضلا عن دعوى الاجماع عليها - باطلة جزما.
٢ - نص أحد الاعلام المتقدمين: ومما تثبت به الوثاقة أو الحسن أن ينص على ذلك أحد الاعلام، كالبرقي، وابن قولويه، والكشي، والصدوق، والمفيد، والنجاشي، والشيخ وأضرابهم. وهذا أيضا لا إشكال فيه، وذلك من جهة الشهادة وحجية خبر الثقة. وقد ذكرنا في أبحاثنا الأصولية أن حجية خبر الثقة لا تختص بالأحكام الشرعية ، وتعم الموضوعات الخارجية أيضا، إلا فيما قام دليل على اعتبار التعدد كما في المرافعات، كما ذكرنا أنه لا يعتبر في حجية خبر الثقة العدالة. ولهذا نعتمد على توثيقات أمثال ابن عقدة وابن فضال وأمثالهما. فإن قيل: إن إخبارهم عن الوثاقة والحسن - لعله - نشأ من الحدس والاجتهاد وإعمال النظر، فلا تشمله أدلة حجية خبر الثقة، فإنها لا تشمل الاخبار الحدسية، فإذا احتمل أن الخبر حدسي كانت الشبهة مصداقية. قلنا: إن هذا الاحتمال لا يعتنى به بعد قيام السيرة على حجية خبر الثقة فيما لم يعلم أنه نشأ من الحدس.
ولا ريب في أن احتمال الحدس في أخبارهم - ولو من جهة نقل كابر عن كابر وثقة عن ثقة - موجود وجدانا. كيف؟ وقد كان تأليف كتب الفهارس والتراجم لتمييز الصحيح من السقيم أمرا متعارفا عندهم، وقد وصلتنا جملة من ذلك ولم تصلنا جملة أخرى. وقد بلغ عدد الكتب الرجالية من زمان الحسن بن محبوب إلى زمان الشيخ نيفا ومئة كتاب على ما يظهر من النجاشي والشيخ وغيرهما. وقد جمع ذلك البحاثة الشهير المعاصي الشيخ آقا بزرك الطهراني في كتابه مصفي المقال. قال الشيخ في كتاب العدة في آخر فصل في ذكر خبر الواحد: (إنا وجدنا الطائفة ميزت الرجال الناقلة لهذه الأخبار فوثقت الثقات منهم، وضعفت الضعفاء، وفرقت بين من يعتمد على حديثه وروايته وبين من لا يعتمد على خبره، ومدحوا الممدوح منهم وذموا المذموم. وقالوا: فلان متهم في حديثه، وفلان كذاب، وفلان مخلط، وفلان مخالف في المذهب والاعتقاد، وفلان واقفي، وفلان فطحي، وغير ذلك من الطعون التي ذكروها. وصنفوا في ذلك الكتب واستثنوا الرجال من جملة ما رووه من التصانيف في فهارسهم، حتى أن واحدا منهم إذا أنكر حديثا طعن في إسناده وضعفه بروايته. هذه عادتهم على قديم وحديث لا تنخرم). والنجاشي قد يسند ما يذكره إلى أصحاب الرجال ويقول: (ذكره أصحاب الرجال). وهذه العبارات - كما ترى - صريحة الدلالة على أن التوثيقات أو التضعيفات، والمدح أو القدح كانت من الأمور الشائعة المتعارفة بين العلماء وكانوا ينصون عليها في كتبهم. وبهذا يظهر أن مناقشة الشيخ فخر الدين الطريحي في مشتركاته - بأن توثيقات النجاشي أو الشيخ يحتمل أنها مبنية على الحدس، فلا يعتمد عليها - في غير محلها.
٣ - نص أحد الاعلام المتأخرين: ومما تثبت به الوثاقة أو الحسن أن ينص على ذلك أحد الاعلام المتأخرين، بشرط أن يكون من أخبر عن وثاقته معاصرا للمخبر أو قريب العصر منه، كما يتفق ذلك في توثيقات الشيخ منتجب الدين، أو ابن شهرآشوب وأما في غير ذلك كما في توثيقات ابن طاووس والعلامة وابن داود ومن تأخر عنهم كالمجلسي لمن كان بعيدا عن عصرهم فلا عبرة بها، فإنها مبنية على الحدس والاجتهاد جزما.
وذلك: فإن السلسلة قد انقطعت بعد الشيخ، فأصبح عامة الناس إلا قليلا منهم مقلدين يعملون بفتاوى الشيخ ويستدلون بها كما يستدل بالرواية على ما صرح به الحلي في السرائر وغيره في غيره. والذي يكشف عما ذكرناه أنهم حينما يذكرون طرقهم إلى أرباب الأصول والكتب، المعاصرين للمعصومين عليهم السلام يذكرون طرقهم إلى الشيخ، ويحيلون ما بعد ذلك إلى طرقه. فهذا العلامة ذكر في إجازته الكبيرة لبني زهرة طريقا له إلى الشيخ الصدوق، وإلى والده علي بن الحسين بن بابويه، وإلى الشيخ المفيد، وإلى السيد المرتضى، وإلى أخيه السيد الرضي - قدس الله أسرارهم -، ثم ذكر طرقه إلى كثير من كتب العامة وصحاحهم وإلى جماعة من المتأخرين عن الشيخ - قدس سره -. ثم قال: (ومن ذلك جميع كتب أصحابنا السابقين الذين تقدموا على الشيخ أبي جعفر الطوسي زمانا، مثل: الشيخ محمد بن يعقوب الكليني، والحسين بن سعيد، وأخيه الحسن، وظريف بن ناصح، وغيرهم مما هو مذكور في كتاب فهرست المصنف للشيخ أبي جعفر الطوسي برجاله المثبتة في الكتاب).
وهذا الشهيد الثاني في إجازته الكبيرة للشيخ عبد الصمد والد الشيخ البهائي بعد ما ذكر عدة طرق له إلى الشيخ أبي جعفر الطوسي، قال: (وبهذه الطرق نروي جميع مصنفات من تقدم على الشيخ أبي جعفر من المشايخ المذكورين وغيرهم، وجميع ما اشتمل عليه كتابه فهرست أسماء المصنفين وجميع كتبهم ورواياتهم بالطرق التي تضمنتها الأحاديث.
وإنما أكثرنا الطرق إلى الشيخ أبي جعفر، لان أصول المذهب كلها ترجع إلى كتبه ورواياته). وعلى الجملة: فالشيخ - قدس سره - هو حلقة الاتصال بين المتأخرين وأرباب الأصول التي أخذ منها الكتب الأربعة وغيرها. ولا طريق للمتأخرين إلى توثيقات رواتها وتضعيفهم غالبا إلا الاستنباط، وإعمال الرأي والنظر. ومما يؤكد ما ذكرناه من انقطاع السلسلة أن كتاب الكشي الذي هو أحد الأصول الرجالية - وقد حكى عنه النجاشي في رجاله - لم يصل إلى المتأخرين، فلم ينقلوا عنه شيئا، وإنما وصل إليهم اختيار الكشي الذي رتبه الشيخ واختاره من كتاب الكشي. وكذلك كتاب رجال ابن الغضائري. فإنه لم يثبت عند المتأخرين، وقد ذكره ابن طاووس عند ذكره طرقه إلى الأصول الرجالية أنه لا طريق له إلى هذا الكتاب. وأما العلامة ابن داود والمولى القهبائي فإنهم وإن كانوا يحكون عن هذا الكتاب كثيرا إلا أنهم لم يذكروا إليه طريقا. ومن المطمأن به عدم وجود طريق لهم إليه. وهذا العلامة قد ذكر في إجازته الكبيرة أسماء الكتب التي له طريق إليها، حتى أنه - مضافا إلى ما ذكره من كتب أصحابنا المتقدمين على الشيخ والمتأخرين عنه - ذكر شيئا كثيرا من كتب العامة في الحديث والفقه والأدب وغير ذلك.
ومع ذلك فلم يذكر رجال ابن الغضائري في ما ذكره من الكتب. وهذا كاشف عن أنه لم يكن له طريق إليه، وإلا لكان هذا أولى بالذكر من أكثر ما ذكره في تلك الإجازة. نعم إن الشهيد الثاني في إجازته المتقدمة، والآغا حسين الخونساري في إجازته لتلميذه الأمير ذي الفقار ذكرا كتاب الرجال للحسين بن عبيد الله بن الغضائري في ضمن الكتب التي ذكرا طريقهما إليها. فربما يستظهر من ذلك أن كتاب الرجال للحسين بن عبيد الله قد وصل إليهما وكان عندهما، ولكن واقع الامر على خلاف ذلك، فإن الشهيد قدس سره يذكر في طريقه إلى هذا الكتاب العلامة، وأنه يروي هذا الكتاب بطريق العلامة إليه. وقد عرفت أن المطمأن به أن العلامة لا طريق له إلى هذا الكتاب. هذا، مضافا إلى أن الشهيد يوصل طريقه إلى النجاشي عن الحسين بن عبيد الله الغضائري وهذا على خلاف الواقع، فإن الحسين بن عبيد الله شيخ النجاشي، وتعرض النجاشي لترجمته وذكر كتبه ولم يذكر فيها كتاب الرجال، بل لم ينقل عنه في مجموع كتابه شيئا يستشعر منه أن له كتاب الرجال، وكذلك الشيخ يروي عن الحسين بن عبيد الله كثيرا، ولم ينسب إليه كتاب الرجال، ولا ما يستشعر منه وجود كتاب له في الرجال.
والمتحصل: أن ما ذكره الشهيد الثاني من وجود طريق له إلى كتاب الحسين ابن عبيد الله فيه سهو بين. وبذلك يظهر الحال في طريق الآغا حسين الخونساري، فإن طريقه هو طريق الشهيد الثاني. ويروي ما ذكره من الكتب بطريقه إلى الشهيد قدس سره. هذا حال كتاب الكشي، وكتاب ابن الغضائري المعدودين من الأصول الرجالية. وأما باقي الكتب الرجالية المعروفة في عصر الشيخ والنجاشي فلم يبق منها عين ولا أثر في عصر المتأخرين. نعم قد يتفق أن العلامة وابن داود يحكيان عن ابن عقدة توثيقا لاحد إلا أنهما لا يذكران مستند حكايتهما. والعلامة لم يذكر فيما ذكره من الكتب التي له إليها طريق في إجازته الكبيرة: كتاب الرجال لابن عقدة. وقد تحصل مما ذكرناه أن ابن طاووس والعلامة وابن داود ومن تأخر عنهم إنما يعتمدون في توثيقاتهم وترجيحاتهم على آرائهم واستنباطاتهم أو على ما استفادوه من كلام النجاشي أو الشيخ في كتبهم، وقليلا ما يعتمدون على كلام غيرهما، وقد يخطئون في الاستفادة كما سنشير إلى بعض ذلك في موارده، كما قد يخطئون في الاستنباط، فترى العلامة يعتمد على كل إمامي لم يرد فيه قدح، يظهر ذلك مما ذكره في ترجمة أحمد بن إسماعيل بن سمكة وغير ذلك. وترى المجلسي يعد كل من للصدوق إليه طريق ممدوحا - وهو غير صحيح - على ما نبينه عن قريب إن شاء الله تعالى، وعليه فلا يعتد بتوثيقاتهم بوجه من الوجوه.
٤ - دعوى الاجماع من قبل الأقدمين: ومن جملة ما تثبت به الوثاقة أو الحسن هو أن يدعي أحد من الأقدمين الأخيار الاجماع على وثاقة أحد، فإن ذلك وإن كان إجماعا منقولا، إلا أنه لا يقصر عن توثيق مدعي الاجماع نفسه منضما إلى دعوى توثيقات أشخاص آخرين، بل إن دعوى الاجماع على الوثاقة يعتمد عليه حتى إذا كانت الدعوى من المتأخرين، كما اتفق ذلك في إبراهيم بن هاشم، فقد ادعى ابن طاووس الاتفاق على وثاقته، فان هذه الدعوى تكشف عن توثيق بعض القدماء لا محالة، وهو يكفي في إثبات الوثاقة.