المقدمة الأولى
* استعراض سلسلة من المقدمات تفضي إلى ضرورة الرجوع إلى علم الرجال.
* زيف الآراء القائمة على إنكار الحاجة إليه.
* تفنيد المذهب القائل: إن الكتب الأربعة قطعية الصدور.
الحاجة إلى علم الرجال قد ثبت بالأدلة الأربعة حرمة العمل بالظن، وأنه لا يجوز نسبة حكم إلى الله سبحانه ما لم يثبت ذلك بدليل قطعي، أو بما ينتهي إلى الدليل القطعي، وناهيك في ذلك قوله سبحانه: (آلله أذن لكم أم على الله تفترون). دلت الآية المباركة على أن كل ما لم يثبت فيه إذن من الله تعالى، فنسبته إليه افتراء عليه سبحانه، كما ثبت بتلك الأدلة أن الظن بنفسه لا يكون منجزا للواقع، ولا معذرا عن مخالفته في ما نتجز بمنجز، ويكفي في ذلك قوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم)، وقوله تعالى: (وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا). وأما الروايات الناهية عن العمل بغير العلم: فهي فوق حد الاحصاء، ففي صحيح أبي بصير: (قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ترد علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب الله ولا سنة فننظر فيها؟ فقال: لا، أما أنك إن أصبت لم تؤجر، وإن أخطأت كذبت على الله) . ثم إنه لا ريب في أن العقل لا طريق له إلى إثبات الأحكام الشرعية لعدم إحاطته بالجهات الواقعية الداعية إلى جعل الأحكام الشرعية. نعم يمكن ذلك في موارد قليلة، وهي إدراك العقل الملازمة بين حكم شرعي وحكم آخر، كإدراكه الملازمة بين النهي عن عبادة: كالصوم يومي العيدين وفساده. وأما الكتاب العزيز: فهو غير متكفل ببيان جميع الأحكام، ولا بخصوصيات ما تكفل ببيانه من العبادات، كالصلاة والصوم والحج والزكاة فلم يتعرض لبيان الاجزاء والشرائط والموانع. وأما الاجماع الكاشف عن قول المعصوم عليه السلام: فهو نادر الوجود. وأما غير الكاشف عن قوله عليه السلام، فهو لا يكون حجة لأنه غير خارج عن حدود الظن غير المعتبر. والمتحصل: أن استنباط الحكم الشرعي في الغالب لا يكون إلا من الروايات المأثورة عن أهل بيت العصمة صلوات الله عليهم. والاستدلال بها على ثبوت حكم شرعي يتوقف على إثبات أمرين:
الأول: إثبات حجية خبر الواحد، فإنا إذا لم نقل بحجيته، إنتهى الامر إلى الالتزام بانسداد باب العلم والعلمي. ونتيجة ذلك هو التنزل في مرحلة الامتثال إلى الامتثال الظني، أو القول بحجية الظن في هذا الحال، على ما ذهب إليه بعضهم.
الثاني: إثبات حجية ظواهر الروايات بالإضافة إلينا أيضا، فإنا إذا قلنا باختصاصها بمن قصد بالافهام، وإنهم المخاطبون فقط، لم يكن الاستدلال بها على ثبوت حكم من الاحكام أصلا. وهذان الأمران قد أشبعنا الكلام فيهما في مباحثنا الأصولية. ولكن ذكرنا أن كل خبر عن معصوم لا يكون حجة، وإنما الحجة هو خصوص خبر الثقة أو الحسن. ومن الظاهر أن تشخيص ذلك لا يكون إلا بمراجعة علم الرجال ومعرفة أحوالهم وتمييز الثقة والحسن عن الضعيف. وكذلك الحال لو قلنا بحجية خبر العادل فقط. فإن الجزم بعدالة رجل أو الوثوق بها لا يكاد يحصل إلا بمراجعته. هذا.، والحاجة إلى معرفة حال الرواة موجودة. حتى لو قلنا بعدم حجية خبر الواحد، أو قلنا باختصاص حجية الظهور بمن قصد افهامه، فانتهى الامر إلى القول بحجية الظن الانسدادي أو لزوم التنزل إلى الامتثال الظني، فإن دخل توثيق علماء الرجال رواة رواية في حصول الظن بصدورها غير قابل للانكار. ومن الغريب - بعد ذلك - إنكار بعض المتأخرين الحاجة إلى علم الرجال بتوهم أن كل رواية عمل بها المشهور فهي حجة. وكل رواية لم يعمل بها المشهور ليست بحجة، سواء أكانت رواتها ثقات أم ضعفاء. فإنه مع تسليم ما ذكره من الكلية - وهي غير مسلمة وقد أوضحنا بطلانها في مباحثنا الأصولية - فالحاجة إلى علم الرجال باقية بحالها، فإن جملة من المسائل لا طريق لنا إلى معرفة فتاوى المشهور فيها، لعدم التعرض لها في كلماتهم، وجملة منها لا شهرة فيها على أحد الطرفين، فهما متساويان. أو أن أحدهما أشهر من الاخر، وليست كل مسألة فقهية كان أحد القولين، أو الأقوال فيها مشهورا، وكان ما يقابله شاذا. بل الحال كذلك حتى لو قلنا بأن صدور روايات الكتب الأربعة قطعي، فإن أدلة الأحكام الشرعية لا تختص بالكتب الأربعة، فنحتاج - في تشخيص الحجة من الروايات الموجودة في غيرها عن غير الحجة - إلى علم الرجال. ومن الضروري التكلم على هذا القول بما يناسب المقام:
روايات الكتب الأربعة ليست قطعية الصدور ذهب جماعة من المحدثين إلى أن روايات الكتب الأربعة قطعية الصدور. وهذا القول باطل من أصله؟ إذ كيف يمكن دعوى القطع بصدور رواية رواها واحد عن واحد. ولا سيما أن في رواة الكتب الأربعة من هو معروف بالكذب والوضع، على ما ستقف عليه قريبا وفي موارده إن شاء الله تعالى. ودعوى القطع بصدقهم في خصوص روايات الكتب الأربعة - لقرائن دلت على ذلك - لا أساس لها، فإنها بلا بينة وبرهان، فإن ما ذكروه في المقام - وادعوا أنها قرائن تدلنا على صدور هذا الروايات من المعصوم - عليه السلام - لا يرجع شئ منها إلى محصل. وأحسن ما قيل في ذلك هو: أن اهتمام أصحاب الأئمة عليهم السلام وأرباب الأصول والكتب بأمر الحديث إلى زمان المحمدين الثلاثة - قدس الله أسرارهم - يدلنا على أن الروايات التي أثبتوها في كتبهم قد صدرت عن المعصومين عليهم السلام، فإن الاهتمام المزبور يوجب - في العادة - العلم بصحة ما أودعوه في كتبهم، وصدوره من المعصومين عليهم السلام. ولكن هذه الدعوى فارغة من وجوه:
أولا: إن أصحاب الأئمة عليهم السلام وإن بذلوا غاية جهدهم واهتمامهم في أمر الحديث وحفظه من الضياع والاندراس حسبما أمرهم به الأئمة عليهم السلام، إلا أنهم عاشوا في دور التقية، ولم يتمكنوا من نشر الأحاديث علنا، فكيف بلغت هذه الأحاديث حد التواتر أو قريبا منه! وهذا ابن أبي عمير حبس أيام الرشيد، وطلب منه أن يدل على مواضع الشيعة وأصحاب موسى بن جعفر عليه السلام، وأن أخته دفنت كتبه عندما كان في الحبس فهلكت، أو تركها في غرفته، فسال عليها المطر فهلكت. وهكذا حال سائر أصحاب الأئمة عليهم السلام، فإن شدتهم في ما كانوا عليه، وعدم تمكنهم من نشر الأحاديث علنا مما لا شك فيه ذو مسكة. ومع ذلك كيف يمكن دعوى: أنها قطعية الصدور؟
ثانيا: إن الاهتمام المزبور لو سلمنا أنه يورث العلم، فغاية الامر أنه يورث العلم بصدور هذه الأصول والكتب عن أربابها، فنسلم أنها متواترة، ولكنه مع ذلك لا يحصل لنا العلم بصدور رواياتها عن المعصومين عليهم السلام، وذلك فإن أرباب الأصول والكتب لم يكونوا كلهم ثقات وعدولا، فيحتمل فيهم الكذب. وإذا كان صاحب الأصل ممن لا يحتمل الكذب في حقه، فيحتمل فيه السهو والاشتباه. وهذا حذيفة بن منصور قد روى عنه الشيخ بعدة طرق: منها: ما رواه بطرقه المعتبرة عن محمد بن أبي عمير عنه رواية: أن شهر رمضان لا ينقص عن ثلاثين يوما ثم قال: (وهذا الخبر لا يصح العمل به من وجوه: أحدها أن متن هذا الحديث لا يوجد في شئ من الأصول المصنفة، وإنما هو موجود في الشواذ من الاخبار. ومنها: أن كتاب حذيفة بن منصور عري منه، والكتاب معروف مشهور، ولو كان هذا الحديث صحيحا عنه لضمنه كتابه). إلى آخر ما ذكره - قدس سره -. فنرى أن الشيخ - قدس سره - يناقش في صحة هذا الحديث عن حذيفة مع أن في رواتها عنه محمد بن أبي عمير. وقد رواها الشيخ عنه بطرق معتبرة، ولا يكون منشأ ذلك إلا احتمال وقوع السهو والاشتباه من الرواة، فإذا كانت مثل هذه الرواية لا يحكم بصحتها، فما حال الروايات التي يرويها الضعفاء أو المجهولون؟!.
ثالثا: لو سلمنا أن صاحب الكتاب أو الأصل لم يكذب ولم يشتبه عليه الامر، فمن الممكن أن من روى عنه صاحب الكتاب قد كذب عليه في روايته، أو أنه اشتبه عليه الامر، وهكذا.. ومن هنا قال الشيخ - قدس سره - في كتاب العدة عند بحثه عن حجية خبر الواحد. والذي يدل على ذلك: إجماع الفرقة المحقة على العمل بهذه الاخبار التي رووها في تصانيفهم ودونوها في أصولهم لا يتناكرون ذلك، ولا يتدافعونه حتى أن واحدا منهم إذا أفتى بشئ لا يعرفونه سألوه من أين قلت هذا؟ فإذا أحالهم إلى كتاب معروف أو أصل مشهور، وكان راوية ثقة لا ينكر حديثه سكتوا، وسلموا الامر في ذلك وقبلوا قوله. فإن دلالة هذا الكلام على أن روايات الكتب المعروفة والأصول المشهورة لم تكن قطعية الصدور، وإنما يلزم قبولها بشرط أن تكون رواتها ثقات، للاجماع على حجيتها - حينئذ - واضحة ظاهرة. رابعا: إن الأصول والكتب المعتبرة لو سلمنا أنها كانت مشهورة ومعروفة إلا أنها كانت كذلك على إجمالها، وإلا فمن الضروري أن كل نسخة منها لم تكن معروفة ومشهورة، وإنما ينقلها واحد إلى آخر قراءة أو سماعا، أو مناولة مع الإجازة في روايتها، فالواصل إلى المحمدين الثلاثة إنما وصل إليهم من طريق الآحاد، ولذلك ترى أن الشيخ الصدوق بعد ما ذكر في خطبة كتابه من لا يحضره الفقيه أن: جميع ما أورده فيه مستخرج من كتب مشهورة معروفة أشار إلى طريقه إليها، وقال: (وطرقي إليها معروفة في فهرس الكتب التي رويتها عن مشايخي وأسلافي رضي الله عنهم). فإنه يظهر من ذلك أنه - قدس سره - كان قد ألف فهرسا ذكر فيه طرقه إلى الكتب التي رواها عن مشايخه وأسلافه، فهو إنما يروي الكتب بتلك الطرق المعروفة في ذلك الفهرس، ولكنه لم يصل إلينا، فلا نعرف من طرقه غير ما ذكره في المشيخة من طرقه إلى من روى عنهم في كتابه. وأما طرقه إلى أرباب الكتب فهي مجهولة عندنا، ولا ندري أن أيا منها كان صحيحا، وأيا منها غير صحيح. ومع ذلك كيف يمكن دعوى العلم بصدور جميع هذه الروايات من المعصومين عليهم السلام. وعلى الجملة: إن دعوى القطع بصدور جميع روايات الكتب الأربعة من المعصومين عليهم السلام واضحة البطلان. ويؤكد ذلك أن أرباب هذه الكتب بأنفسهم لم يكونوا يعتقدون ذلك. وهذا محمد بن يعقوب - قدس الله تعالى سره - بعد ما ذكر أنه طلب منه تأليف كتاب كاف يجمع فيه من جميع فنون علم الدين ما يكتفي به المتعلم ويرجع إليه المسترشد، ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهما السلام، قال بعد كلام له: (فاعلم يا أخي أرشدك الله أنه لا يسع أحدا تمييز شئ مما اختلف الرواية فيه عن العلماء - عليهم السلام - برأيه إلا على ما أطلقه العالم بقوله عليه السلام: أعرضوها على كتاب الله فما وافق كتاب الله عز وجل فخذوه، وما خالف كتاب الله فردوه. وقوله: دعوا ما وافق القوم فإن الرشد في خلافهم. وقوله عليه السلام: خذوا بالمجمع عليه، فإن المجمع عليه لا ريب فيه. ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلا أقله، ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من رد علم ذلك كله إلى العالم عليه السلام: وقبول ما وسع من الامر فيه بقوله: بأيما أخذتم من باب التسليم وسعكم. وقد يسر الله - ولله الحمد - تأليف ما سألت، وأرجو أن يكون بحيث توخيت). وهذا الكلام ظاهر في أن محمد بن يعقوب لم يكن يعتقد صدور روايات كتابه عن المعصومين عليهم السلام جزما، وإلا لم يكن مجال للاستشهاد بالرواية على لزوم الاخذ بالمشهور من الروايتين عند التعارض، فان هذا لا يجتمع مع الجزم بصدور كلتيهما، فإن الشهرة إنما تكون مرجحة لتمييز الصادر عن غيره، ولا مجال للترجيح بها مع الجزم بالصدور. وأما الشيخ الصدوق - قدس سره - فقد قال في خطبة كتابه: (ولم أقصد فيه قصد المصنفين من إيراد جميع ما رووه، بل قصدت إلى إيراد ما أفتي به وأحكم بصحته وأعتقد أنه حجة فيما بيني وبين ربي). فإن هذا الكلام ظاهر في أن كتاب الكافي في اعتقاد الصدوق كان مشتملا على الصحيح وغير الصحيح كسائر المصنفات، فكيف يمكن أن يدعى أن جميع رواياته قطعية الصدور؟. وأيضا، فإن الشيخ الصدوق إنما كتب كتابه: من لا يحضره الفقيه، إجابة لطلب السيد الشريف أبي عبد الله المعروف ب (نعمة الله) فإنه قد طلب من الشيخ الصدوق أن يصنف له كتابا في الفقه ليكون إليه مرجعه، وعليه معتمده، ويكون شافيا في معناه مثل ما صنفه محمد بن زكريا الرازي وترجمه بكتاب: من لا يحضره الطبيب. ولا شك أن كتاب الكافي أوسع وأشمل من كتاب من لا يحضره الفقيه، فلو كانت جميع روايات الكافي صحيحة عند الشيخ الصدوق - قدس سره - فضلا عن أن تكون قطعية الصدور لم تكن حاجة إلى كتابة كتاب: من لا يحضره الفقيه، بل كان على الشيخ الصدوق أن يرجع السيد الشريف إلى كتاب الكافي، ويقول له: إن كتاب الكافي في - بابه - ككتاب من لا يحضره الطبيب في بابه في أنه شاف في معناه. ويزيد ذلك وضوحا: أن الشيخ الصدوق قال في باب الوصي يمنع الوارث: (ما وجدت هذا الحديث إلا في كتاب محمد بن يعقوب، ولا رويته إلا من طريقه) فلو كانت روايات الكافي كلها قطعية الصدور، فكيف يصح ذلك القول من الشيخ الصدوق - قدس سره -. بقي هنا شئ، وهو: أنه قد يتوهم أن شهادة الشيخ الصدوق بصحة جميع روايات كتابه شهادة منه بصدور جميعها عن المعصومين عليهم السلام، فإن الصحيح عند القدماء هو ما علم صدوره من المعصوم عليه السلام، فهو وإن لم يكن يرى صحة جميع روايات الكافي، إلا أنه كان معتقدا بصحة جميع ما اشتمل عليه كتابه من الروايات. ولكن هذا توهم صرف، فإن الصدوق إنما يريد بالصحيح ما هو حجة بينه وبين الله، أي ما أحرز صدوره من المعصوم عليه السلام ولو بالتعبد، ولم يزد بذلك قطعي الصدور وما لا يحتمل فيه الكذب أو الخطأ، كما سيجئ منه - قدس سره - عند البحث عن صحة جميع أخبار الكتب الأربعة وعدمها: تصريحه بأنه يتبع في التصحيح وعدمه شيخه ابن الوليد، فيصحح ما صححه، ولا يصحح ما لم يصححه. أفهل يمكن أن يقال: إنه كان يتبع شيخه في القطع بالصدور وعدم القطع به؟ فكل ما كان مقطوع الصدور لابن الوليد كان مقطوع الصدور للشيخ الصدوق وإلا فلا. فالمتلخص: أنه لم يظهر من الشيخ الصدوق إلا أنه كان يعتقد حجية جميع روايات كتابه ولم يكن يرى ذلك بالإضافة إلى الكافي وغيره من المصنفات.
وأما الشيخ - قدس سره - فلا شك في أنه لم يكن يعتقد صدور جميع روايات كتابيه ولا سائر الكتب والأصول عن المعصومين عليهم السلام. ومن ثم ذكر في آخر كتابه أنه يذكر طرقه إلى أرباب الكتب الذين روى عنهم في كتابه، لتخرج الروايات بذلك عن الارسال إلى الاسناد، فان هذا الكلام صريح في أن ما رواه في كتابه أخبار آحاد محتملة الصدق والكذب، فإن كان الطريق إليها معلوما كانت من الروايات المسندة، وإلا فهي مرسلات وغير قابلة للاعتماد عليها. وبعبارة أخرى: إن الشيخ إنما التزم بذكر الطريق، لئلا تسقط روايات كتابه عن الحجية لأجل الارسال، فلو كانت تلك الروايات قطعية الصدور، وكان ذكر الطريق لمجرد التيمن والتبرك، لم يكن الامر كذلك مع أنه خلاف ما صرح به - قدس سره -، وأيضا فإنه قد تقدم منه أن جواز العمل بما في الكتب المعروفة والأصول المشهورة مشروط بوثاقة الراوي. وهذا ظاهر في أنه لم يكن يرى صحة جميع روايات تلك الكتب، فضلا عن القطع بصدورها. وأيضا إنه - قدس سره - قد ناقش في غير مورد من كتابه في صحة رواية رواها عن الكافي أو أنه لم يروها عنه، ولكنها موجودة في الكافي، أو فيه وفي من لا يحضره الفقيه أيضا، ومع ذلك قد حكم بضعفها، فلو كانت تلك الروايات صحيحة ومقطوعة الصدور من المعصومين عليهم السلام فكيف ساغ للشيخ أن يناقش فيها بضعف السند. ومن تلك الموارد:
١ - ما رواه عن محمد بن يعقوب بسنده عن أبي سعيد الخدري، قال: (أمر رسول الله صلى الله عليه وآله بلالا أن ينادي..) فإنه قال بعد رواية الحديث: قال محمد بن الحسن: فما تضمن هذا الحديث من تحريم لحم الحمار الأهلي موافق للعامة، والرجال الذين رووا هذا الخبر أكثرهم عامة، وما يختصون بنقله لا يلتفت إليه. وهذا تصريح منه بأن روايات الكافي ليست كلها بصحيحة، فضلا عن كونها مقطوعة الصدور.
٢ - ما رواه عنه بسنده عن عمران الزعفراني، قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن السماء تطبق علينا..)، وما رواه عنه بسنده عن عمران الزعفراني أيضا، قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إنا نمكث في الشتاء..) . فإنه قال بعد روايتهما: (إنهما خبر واحد لا يوجبان علما ولا عملا، ولأن راويهما عمران الزعفراني، وهو مجهول، وفي إسناد الحديثين قوم ضعفاء لا نعمل بما يختصون بروايته). وهذا تصريح من الشيخ بأن كل رواية في الكافي أو غيره إذا كان في سندها ضعفاء لا يعمل بها فيما إذا اختصوا بروايتها.
٣ - ما رواه بسنده عن القاسم بن محمد الزيات، قال: (قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام: إني ظاهرت من امرأتي..)، وما رواه عن محمد بن يعقوب بسنده عن ابن بكير عن رجل: (قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام: إني قلت لامرأتي..)، وما رواه بطريقه عن ابن فضال عمن أخبره عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: (لا يكون الظهار إلا على مثل موضع الطلاق) . والأولى من هذه الروايات الثلاث رواها محمد بن يعقوب، عن عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن القاسم بن محمد الزيات . كما إن الثالثة منها رواها الشيخ الصدوق - قدس سره - مرسلة عن الصادق عليه السلام . قال الشيخ بعد ذكر هذه الروايات: (أول ما في هذه الأخبار أن الخبرين منهما وهم الأخيران مرسلان، والمراسيل لا يعترض بها على الاخبار المسندة لما بيناه في غير موضع. وأما الخبر الأول فراويه أبو سعيد الآدمي - سهل بن زياد - وهو ضعيف جدا عند نقاد الاخبار، وقد استثناه أبو جعفر بن بابويه في رجال نوادر الحكمة). أقول: لو كان الشيخ يعتقد أن جميع روايات الكافي والفقيه قطعية الصدور أو أنها صحيحة، وإن لم تكن قطعية الصدور لم يكن يعترض على هذه الروايات بضعف السند أو بالارسال، ولا سيما أن المرسل ابن بكير وهو من أصحاب الاجماع، وابن فضال المعروف بالوثاقة.
٤ - الروايات التي دلت على أن شهر رمضان لا ينقص عن ثلاثين يوما أبدا فإن هذه الروايات مع أن جملة منها مذكورة في الكافي والفقيه قد ناقش فيها الشيخ ومن قبله الشيخ المفيد، وحكما بعدم صحتها، وبأنها من شواذ الاخبار. وبيان ذلك: أن محمد بن يعقوب قد عقد بابا ذكر فيه ثلاث روايات دلت على أن شهر رمضان لا ينقص أبدا، الأولى: ما رواه حذيفة بن منصور عن أبي عبد الله عليه السلام. الثانية: ما رواه محمد بن إسماعيل عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه السلام. الثالثة: ما رواه حذيفة بن منصور عن معاذ بن كثير عن أبي عبد الله عليه السلام . وهذه الروايات ذكرها الصدوق، إلا أنه روى الثانية عن محمد بن إسماعيل ابن بزيع، عن محمد بن يعقوب بن شعيب، عن أبيه، عن أبي عبد الله عليه السلام: وزاد رواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام، ورواية ياسر الخادم. عن الرضا عليه السلام . قال الصدوق بعد ذكر هذه الروايات: (قال مصنف هذا الكتاب رضي الله عنه: من خالف هذه الأخبار، وذهب إلى الاخبار الموافقة للعامة في ضدها، أتقي كما يتقي العامة ولا يكلم إلا بالتقية كائنا من كان، إلا أن يكون مسترشدا فيرشد ويبين له، فإن البدعة إنما تمات وتبطل بترك ذكرها ولا قوة إلا بالله). أقول: هذه الروايات التي ذكرها محمد بن يعقوب، وصححها الصدوق، وبالغ في تصحيحها ولزوم العمل بها قد تعرض لها الشيخ المفيد - قدس سره - في رسالته المعروفة بالرسالة العددية، وناقش في إسنادها، وذكر أنها روايات شاذة لا يمكن الاستدلال بها. قال المفيد: (وأما ما تعلق به أصحاب العدد من أن شهر رمضان لا يكون أقل من ثلاثين يوما، فهي أحاديث شاذة قد طعن نقلة الآثار من الشيعة في سندها، وهي مثبتة في كتب الصيام، في أبواب النوادر، والنوادر هي التي لا عمل عليها. وأنا أذكر جملة ما جاءت به الأحاديث الشاذة وأبين عن خللها وفساد التعلق بها في خلاف الكافة إن شاء الله. فمن ذلك حديث رواه محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن محمد بن سنان، عن حذيفة بن منصور، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: شهر رمضان ثلاثون يوما لا ينقص أبدا. وهذا حديث شاذ نادر غير معتمد عليه. في طريقه محمد بن سنان، وهو مطعون فيه، لا تختلف العصابة في تهمته وضعفه، وما كان هذا سبيله لم يعمل عليه في الدين. ومن ذلك حديث رواه محمد بن يحيى العطار، عن سهل بن زياد الآدمي، عن محمد بن إسماعيل، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: إن الله عز وجل خلق الدنيا في ستة أيام، ثم اختزلها من أيام السنة، فالسنة ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما، وشعبان لا يتم، وشهر رمضان لا ينقص أبدا، ولا تكون فريضة ناقصة، إن الله تعالى يقول: ولتكملوا العدة. وهذا الحديث شاذ مجهول الاسناد، ولو جاء بفعل صدقة أو صيام أو عمل لوجب التوقف فيه، فكيف إذا جاء بشئ يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولا يصح على حساب ذمي ولا ملي ولا مسلم ولا منجم، ومن عول على مثل هذا الحديث في فرائض الله تعالى فقد ضل ضلالا بعيدا، وبعد: فالكلام الذي فيه بعيد من كلام العلماء فضلا عن أئمة الهدى عليهم السلام، لأنه قال فيه لا تكون فريضة ناقصة وهذا لا معنى له، لان الفريضة بحسب ما فرضت، فإذا أديت على الثقيل أو الخفيف لم تكن ناقصة، والشهر إذا كان تسعة وعشرين يوما، ففرض صيامه لا ينسب إلى النقصان في الفرض، كما أن صلاة السفر إذا كانت على الشطر من صلاة الحضر لا يقال لها صلاة ناقصة، وقد أجل الله إمام الهدى عليه السلام عن القول بأن الفريضة إذا أديت على التخفيف كانت ناقصة. وقد بينا أن من صام شهرين متتابعين في كفارة ظهار، فكانا ثمانية وخمسين يوما لم يكن فرضا ناقصا، بل كان فرضا تاما. ثم احتج لكون شهر رمضان ثلاثين يوما لم ينقص عنها بقوله تعالى: ولتكملوا العدة. وهذا نقد في قضاء الفائت بالمرض والسفر. ألا ترى إلى قوله تعالى: (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، ولتكملوا العدة) أي عدة صوم شهر رمضان، وما أوجب ذلك أن يكون ثلاثين يوما إذا كان ناقصا. وقد بينا ذلك في صيام الكفارة إذا كانا شهرين متتابعين وإن كانا ناقصين أو أحدهما كاملا والآخر ناقصا. ومما تعلقوا به أيضا حديث رواه محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن محمد بن بن إسماعيل بن بزيع، عن محمد بن يعقوب بن شعيب، عن أبيه عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قلت له: إن الناس يروون أن رسول الله صلى الله عليه وآله صام شهر رمضان تسعة وعشرين يوما أكثر مما صام ثلاثين يوما؟ فقال: كذبوا ما صام إلا تاما، ولا تكون الفرائض ناقصة. وهذا الحديث من جنس الأول وطريقه، وهو حديث شاذ لا يثبت عند أصحابه إلا نادرا، وقد طعن فيه فقهاء الشيعة، فإنهم قالوا محمد بن يعقوب بن شعيب لم يرو عن أبيه حديثا واحدا غير هذا الحديث، ولو كانت له رواية عن أبيه لروى عنه أمثال هذا الحديث، ولم يقتصر على حديث واحد لم يشركه فيه غيره، مع أن ليعقوب بن شعيب رحمه الله أصلا قد جمع فيه كل ما رواه عن أبي عبد الله عليه السلام، ليس هذا الحديث منه، ولو كان مما رواه يعقوب بن شعيب لأورده في أصله الذي جمع فيه حديثه عن أبي عبد الله عليه السلام، ليس هذا الحديث منه، ولو كان مما رواه يعقوب بن شعيب لأورده في أصله الذي جمع فيه حديثه عن أبي عبد الله عليه السلام، وفي خلو أصله منه دليل على أنه وضع، مع أن في الحديث ما قد بيناه بعده في قول الأئمة عليهم السلام وهو الطعن في قول من قال: إن شهر رمضان تسعة وعشرون يوما، لان الفريضة لا تكون ناقصة، والشهر إذا كان تسعة وعشرين يوما كانت فريضة الصوم فيه غير ناقصة وإذا كان فرض السفر لصلاة الظهر ركعتين لم يكن الفرض ناقصا، وإن كان على الشطر من صلاة الحضر، كما أن صلاة العليل جالسا لا يكون فرضها ناقصا كذلك إذا صام الكفارة فصام شهرين ناقصين لا تكون الكفارة ناقصة. وهذا يدلك على أن واضع الحديث عامي غفل بعيد من العلماء، وحاشا أئمة الهدى عليهم السلام مما أضافه إليهم الجاهلون، وعزاه إليهم المفترون والله المستعان.
فهذه الأحاديث الثلاثة مع شذوذها، واضطراب سندها وطعن العلماء في رواتها التي يعتمد عليها أصحاب العدد المتعلقون بالنقل، وقد بينا ضعف التعلق بها مما فيه كفاية (والحمد لله). وتقدم كلام الشيخ الطوسي في ذلك قريبا. ولا شك في أن المفيد والشيخ كانا يعاملان مع روايات الكافي والفقيه وغيرها من الروايات المودعة في الكتب والأصول معاملة الخبر غير القطعي فإن كان راويها من الضعفاء أو كانت الرواية مرسلة طرحاها، سواء كانت الرواية مروية في الكافي أو الفقيه أو غيرهما من الكتب والأصول المعروفة والمشهورة. وليت شعري إذا كان مثل المفيد والشيخ - قدس سرهما -، مع قرب عصرهما، وسعة اطلاعهما لم يحصل لهما القطع بصدور جميع هذه الروايات من المعصومين عليهم السلام، فمن أين حصل القطع لجماعة متأخرين عنهما زمانا ورتبة؟ أو ليس حصول القطع يتوقف على مقدمات قطعية بديهية أو منتهية إلى البداهة؟.
وقد ذكر صاحب الوسائل لاثبات ما ادعاه من صحة ما أودعه في كتابه من الاخبار، وصدورها من المعصومين عليهم السلام وجوها، سماها أدلة، ولا يرجع شئ منها إلى محصل، ولا يترتب على التعرض لها والجواب عنها غير تضييع الوقت، وأحسنها الوجه الأول الذي أشرنا إليه وأجبنا عنه، ولا بأس أن نذكر له كلاما في المقام ليظهر للباحث حال بقية ما ذكره دليلا على مدعاه. قال في الوجه التاسع مما ذكره: (والعجب أن هؤلاء المتقدمين، بل من تأخر عنهم كالمحقق والعلامة والشهيدين وغيرهم إذا نقل واحد منهم قولا عن أبي حنيفة أو غيره من علماء العامة أو الخاصة أو نقل كلاما من كتاب معين، ورجعنا إلى وجداننا، نرى أنه قد حصل لنا العلم بصدق دعواه، وصحة نقله - لا الظن - وذلك علم عادي، كما نعلم أن الجبل لم ينقلب ذهبا، والبحر لم ينقلب دما.
فكيف يحصل العلم من نقله عن غير المعصوم، ولا يحصل من نقله عن المعصوم غير الظن، مع أنه لا يتسامح ولا يتساهل من له أدنى ورع وصلاح في القسم الثاني، وربما يتساهل في الأول) . أقول: ليت شعري كيف خفي على مثل الشيخ الحر: الفارق بين الامرين، والمائز بين الموردين؟ فإن المحقق والعلامة والشهيدين وأمثالهم إذا نقلوا شيئا من أبي حنيفة، فإنما ينقلونه عن حس، لمشاهدة ذلك في كتاب جامع لآرائه، وأما إذا نقلوا أمرا من معصوم، فإنما ينقلونه عنه حسبما أدت إليه آراؤهم وأنظارهم، وكيف يقاس الثاني بالأول. ومما يؤكد أيضا بطلان دعوى القطع بصدور أخبار الكتب الأربعة عن المعصومين عليهم السلام، اختلاف هذه الكتب في السند أو المتن. وسنبين موارده في ضمن التراجم إن شاء الله تعالى. بل يتفق - في غير مورد - أن الرواية الواحدة تذكر في كتاب واحد مرتين أو أكثر مع الاختلاف بينهما في السند أو المتن، وأكثر هذه الكتب اختلافا كتاب التهذيب حتى أنه قال في الحدائق : (قلما يخلو حديث فيه من ذلك في متنه أو سنده).
وما ذكره - قدس سره - وإن كان لا يخلو من نوع من المبالغة، إلا أنه صحيح في الجملة. والخلل في روايات التهذيب كثير، نتعرض لبيانه من جهة السند ضمن التراجم إن شاء الله. ثم إن في الكافي - ولا سيما في الروضة - روايات لا يسعنا التصديق بصدورها عن المعصوم عليه السلام، ولا بد من رد علمها إليهم عليهم السلام. والتعرض لها يوجب الخروج عن وضع الكتاب، لكننا نتعرض لواحدة منها ونحيل الباقي إلى الباحثين. فقد روى محمد بن يعقوب باسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل: (وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون. فرسول الله صلى الله عليه وآله الذكر وأهل بيته المسؤولون وهم أهل الذكر) . أقول: لو كان المراد بالذكر في الآية المباركة رسول الله صلى الله عليه وآله فمن المخاطب، ومن المراد من الضمير في قوله تعالى: لك ولقومك وكيف يمكن الالتزام بصدور مثل هذا الكلام من المعصوم عليه السلام فضلا عن دعوى القطع بصدوره؟!.
وعلى الجملة: ان دعوى القطع بعدم صدور بعض روايات الكافي عن المعصوم عليه السلام - ولو إجمالا - قريبة جدا، ومع ذلك كيف يصح دعوى العلم بصدور جميع رواياته عن المعصوم عليه السلام؟ بل ستعرف - بعد ذلك - أن روايات الكتب الأربعة ليست كلها بصحيحة، فضلا عن كونها قطعية الصدور.