* مناظرة أصحاب الأديان
عن الحسن بن محمد النوفلي قال: لما قدم علي بن موسى الرضا (ع) على المأمون أمر الفضل بن سهل أن يجمع له أصحاب المقالات, مثل الجاثليق, ورأس الجالوت, ورؤساء الصابئين, والهربذ الأكبر, وأصحاب ذردهشت, ونسطاس الرومي, والمتكلمين, ليسمع كلامه وكلامهم, فجمعهم الفضل بن سهل, ثم أعلم المأمون باجتماعهم, فقال المأمون: أدخلهم علي, ففعل, فرحب بهم المأمون, ثم قال لهم: إني إنما جمعتكم لخير وأحببت أن تناظروا ابن عمي هذا المدني القادم علي, فإذا كان بكرة فاغدوا علي ولا يتخلف منكم أحد, فقالوا: السمع والطاعة يا أمير المؤمنين, نحن مبكرون إن شاء الله, قال الحسن بن محمد النوفلي: فبينا نحن في حديث لنا عند أبي الحسن الرضا (ع), إذ دخل علينا ياسر وكان يتولى أمر أبي الحسن الرضا (ع), فقال له: يا سيدي, إن أمير المؤمنين يقرئك السلام, ويقول: فداك أخوك إنه اجتمع إلي أصحاب المقالات وأهل الأديان والمتكلمون من جميع الملل, فرأيك في البكور علينا إن أحببت كلامهم, وإن كرهت ذلك فلا تتجشم, وإن أحببت أن نصير إليك خف ذلك علينا, فقال أبو الحسن (ع): أبلغه السلام وقل له: قد علمت ما أردت, وأنا صائر إليك بكرة إن شاء الله, قال الحسن بن محمد النوفلي: فلما مضى ياسر التفت إلينا, ثم قال لي: يا نوفلي, أنت عراقي ورقة العراقي غير غليظة, فما عندك في جمع ابن عمك علينا أهل الشرك وأصحاب المقالات؟ فقلت: جعلت فداك, يريد الامتحان, ويحب أن يعرف ما عندك, ولقد بنى على أساس غير وثيق البنيان, وبئس والله ما بنى, فقال لي: وما بناؤه في هذا الباب؟ قلت: إن أصحاب الكلام والبدع خلاف العلماء, وذلك أن العالم لا ينكر غير المنكر, وأصحاب المقالات والمتكلمون وأهل الشرك أصحاب إنكار ومباهتة, إن احتججت عليهم بأن الله واحد قالوا: صحح وحدانيته, وإن قلت: إن محمدا رسول الله (ص), قالوا: أثبت رسالته, ثم يباهتون الرجل وهو يبطل عليهم بحجته, ويغالطونه حتى يترك قوله, فاحذرهم جعلت فداك, قال: فتبسم (ع) ثم قال: يا نوفلي, أفتخاف أن يقطعوني على حجتي؟ قلت: لا والله, ما خفت عليك قط وإني لأرجو أن يظفرك الله بهم إن شاء الله, فقال (ع) لي: يا نوفلي, أتحب أن تعلم متى يندم المأمون؟ قلت: نعم, قال (ع): إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم, وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم, وعلى أهل الزبور بزبورهم, وعلى الصابئين بعبرانيتهم, وعلى الهرابذة بفارسيتهم, وعلى أهل الروم بروميتهم, وعلى أصحاب المقالات بلغاتهم, فإذا قطعت كل صنف ودحضت حجته وترك مقالته ورجع إلى قولي, علم المأمون أن الموضع الذي هو بسبيله ليس بمستحق له, فعند ذلك تكون الندامة منه, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم, فلما أصبحنا أتانا الفضل بن سهل فقال له: جعلت فداك, ابن عمك ينتظرك وقد اجتمع القوم, فما رأيك في إتيانه؟ فقال له الرضا (ع): تقدمني فإني سائر إلى ناحيتكم إن شاء الله, ثم توضأ (ع) وضوءه للصلاة, وشرب شربة سويق وسقانا منه, ثم خرج وخرجنا معه, حتى دخلنا على المأمون, فإذا المجلس غاص بأهله, ومحمد بن جعفر في جماعة الطالبيين والهاشميين, والقواد حضور, فلما دخل الرضا (ع) قام المأمون وقام محمد بن جعفر وجميع بني هاشم, فما زالوا وقوفا والرضا (ع) جالس مع المأمون, حتى أمرهم بالجلوس فجلسوا, فلم يزل المأمون مقبلا عليه يحدثه ساعة, ثم التفت إلى الجاثليق, فقال: يا جاثليق, هذا ابن عمي علي بن موسى بن جعفر (ع) وهو من ولد فاطمة بنت نبينا (ص) وابن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهما, فأحب أن تكلمه وتحاجه وتنصفه, فقال الجاثليق: يا أمير المؤمنين, كيف أحاج رجلا يحتج علي بكتاب أنا منكره, ونبي لا أؤمن به, فقال له الرضا (ع): يا نصراني, فإن احتججت عليك بإنجيلك, أتقر به؟ قال الجاثليق: وهل أقدر على دفع ما نطق به الإنجيل, نعم والله أقر به على رغم أنفي, فقال له الرضا (ع): سل عما بدا لك, وافهم الجواب, قال الجاثليق: ما تقول في نبوة عيسى وكتابه, هل تنكر منهما شيئا؟ قال الرضا (ع): أنا مقر بنبوة عيسى وكتابه, وما بشر به أمته وأقرت به الحواريون, وكافر بنبوة كل عيسى لم يقر بنبوة محمد (ص) وبكتابه, ولم يبشر به أمته, قال الجاثليق: أليس إنما تقطع الأحكام بشاهدي عدل؟ قال (ع): بلى, قال: فأقم شاهدين من غير أهل ملتك على نبوة محمد (ص) ممن لا تنكره النصرانية, وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملتنا, قال الرضا (ع): الآن جئت بالنصفة يا نصراني, ألا تقبل مني العدل المقدم عند المسيح عيسى ابن مريم؟ قال الجاثليق: من هذا العدل؟ سمه لي, قال (ع): ما تقول في يوحنا الديلمي؟ قال: بخ بخ ذكرت أحب الناس إلى المسيح, قال (ع): فأقسمت عليك, هل نطق الإنجيل أن يوحنا قال: إن المسيح أخبرني بدين محمد العربي وبشرني به أنه يكون من بعده, فبشرت به الحواريين فآمنوا به؟ قال الجاثليق: قد ذكر ذلك يوحنا عن المسيح, وبشر بنبوة رجل وبأهل بيته ووصيه, ولم يلخص متى يكون ذلك, ولم يسم لنا القوم فنعرفهم, قال الرضا (ع): فإن جئناك بمن يقرأ الإنجيل, فتلا عليك ذكر محمد وأهل بيته (ع) وأمته, أتؤمن به؟ قال: شديدا, قال الرضا (ع) لنسطاس الرومي: كيف حفظك للسفر الثالث من الإنجيل؟ قال: ما أحفظني له, ثم التفت إلى رأس الجالوت, فقال: ألست تقرأ الإنجيل؟ قال: بلى لعمري, قال: فخذ علي السفر الثالث, فإن كان فيه ذكر محمد وأهل بيته (ع) وأمته فاشهدوا لي, وإن لم يكن فيه ذكره فلا تشهدوا لي, ثم قرأ (ع) السفر الثالث, حتى إذا بلغ ذكر النبي (ص) وقف, ثم قال: يا نصراني, إني أسألك بحق المسيح وأمه, أتعلم أني عالم بالإنجيل؟ قال: نعم, ثم تلا علينا ذكر محمد وأهل بيته (ع) وأمته, ثم قال (ع)ك ما تقول يا نصراني, هذا قول عيسى ابن مريم, فإن كذبت ما ينطق به الإنجيل فقد كذبت موسى وعيسى (ع), ومتى أنكرت هذا الذكر وجب عليك القتل, لأنك تكون قد كفرت بربك وبنبيك وبكتابك, قال الجاثليق: لا أنكر ما قد بان لي في الإنجيل وإني لمقر به, قال الرضا (ع): اشهدوا على إقراره, ثم قال: يا جاثليق, سل عما بدا لك؟ قال الجاثليق: أخبرني عن حواري عيسى ابن مريم, كم كان عدتهم وعن علماء الإنجيل كم كانوا؟ قال الرضا (ع): على الخبير سقطت, أما الحواريون فكانوا اثني عشر رجلا, وكان أفضلهم وأعلمهم ألوقا, وأما علماء النصارى فكانوا ثلاثة رجال: يوحنا الأكبر بأج, ويوحنا بقرقيسا, ويوحنا الديلمي بزجار, وعنده كان ذكر النبي (ص) وذكر أهل بيته (ع) وأمته, وهو الذي بشر أمة عيسى وبني إسرائيل به, ثم قال (ع) له: يا نصراني, والله إنا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمد (ص), وما ننقم على عيساكم شيئا إلا ضعفه وقلة صيامه وصلاته, قال الجاثليق: أفسدت والله علمك وضعفت أمرك, وما كنت ظننت إلا أنك أعلم أهل الإسلام, قال الرضا (ع): وكيف ذاك؟ قال الجاثليق: من قولك إن عيسى كان ضعيفا قليل الصيام, قليل الصلاة, وما أفطر عيسى يوما قط, ولا نام بليل قط, وما زال صائم الدهر قائم الليل, قال الرضا (ع): فلمن كان يصوم ويصلي؟ قال: فخرس الجاثليق وانقطع, قال الرضا (ع): يا نصراني, أسألك عن مسألة؟ قال: سل, فإن كان عندي علمها أجبتك, قال الرضا (ع): ما أنكرت أن عيسى كان يحيي الموتى بإذن الله عز وجل؟ قال الجاثليق: أنكرت ذلك من قبل أن من أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص فهو رب مستحق لأن يعبد, قال الرضا (ع): فإن اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى, مشى على الماء, وأحيا الموتى, وأبرأ الأكمه والأبرص, فلم تتخذه أمته ربا, ولم يعبده أحد من دون الله عز وجل, ولقد صنع حزقيل النبي مثل ما صنع عيسى ابن مريم, فأحيا خمسة وثلاثين ألف رجل من بعد موتهم بستين سنة, ثم التفت إلى رأس الجالوت فقال له: يا رأس الجالوت, أتجد هؤلاء في شباب بني إسرائيل في التوراة اختارهم بخت نصر من سبي بني إسرائيل حين غزا بيت المقدس, ثم انصرف بهم إلى بابل فأرسله الله تعالى عز وجل إليهم فأحياهم الله هذا في التوراة لا يدفعه إلا كافر منكم, قال رأس الجالوت: قد سمعنا به وعرفناه, قال (ع): صدقت, ثم قال: يا يهودي, خذ على هذا السفر من التوراة, فتلا (ع) علينا من التوراة آيات, فأقبل اليهودي يترجح لقراءته ويتعجب, ثم أقبل على النصراني فقال: يا نصراني, أفهؤلاء كانوا قبل عيسى أم عيسى كان قبلهم؟ قال: بل كانوا قبله, قال الرضا (ع): لقد اجتمعت قريش إلى رسول الله (ص) فسألوه أن يحيي لهم موتاهم, فوجه معهم علي بن أبي طالب (ع), فقال (ص) له: اذهب إلى الجبانة فناد بأسماء هؤلاء الرهط الذين يسألون عنهم بأعلى صوتك: يا فلان ويا فلان ويا فلان, يقول لكم محمد رسول الله: قوموا بإذن الله عز وجل, فقاموا ينفضون التراب عن رءوسهم, فأقبلت قريش تسألهم عن أمورهم, ثم أخبروهم أن محمدا (ص) قد بعث نبيا, وقالوا: وددنا أنا أدركناه فنؤمن به, ولقد أبرأ الأكمه والأبرص والمجانين, وكلمه البهائم والطير والجن والشياطين, ولم نتخذه ربا من دون الله عز وجل, ولم ننكر لأحد من هؤلاء فضلهم, فمتى اتخذتم عيسى ربا جاز لكم أن تتخذوا اليسع والحزقيل, لأنهما قد صنعا مثل ما صنع عيسى من إحياء الموتى وغيره, وإن قوما من بني إسرائيل هربوا من بلادهم من الطاعون {و هم ألوفٌ حذر الموت} فأماتهم الله في ساعة واحدة فعمد أهل تلك القرية, فحظروا عليهم حظيرة فلم يزالوا فيها حتى نخرت عظامهم وصاروا رميما, فمر بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل فتعجب منهم, ومن كثرة العظام البالية, فأوحى الله عز وجل إليه: أتحب أن أحييهم لك فتنذرهم؟ قال: نعم يا رب, فأوحى الله عز وجل إليه: أن نادهم فقال: أيتها العظام البالية, قومي بإذن الله عز وجل, فقاموا أحياء أجمعون ينفضون التراب عن رءوسهم, ثم إبراهيم خليل الرحمن حين أخذ الطير فقطعهن قطعا ثم وضع {على كل جبل منهن جزءا} ثم ناداهن فأقبلن سعيا إليه, ثم موسى بن عمران وأصحابه السبعون الذين اختارهم صاروا معه إلى الجبل فقالوا له: إنك قد رأيت الله سبحانه فأرناه كما رأيته, فقال لهم: إني لم أره فقالوا: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} فأخذتهم الصاعقة فاحترقوا عن آخرهم, وبقي موسى وحيدا, فقال: يا رب, إني اخترت سبعين رجلا من بني إسرائيل فجئت بهم وأرجع وحدي فكيف يصدقني قومي بما أخبرهم به, ف{ لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا} فأحياهم الله عز وجل من بعد موتهم, وكل شيء ذكرته لك من هذا لا تقدر على دفعه, لأن التوراة والإنجيل والزبور والفرقان قد نطقت به, فإن كان كل من أحيا الموتى, وأبرأ الأكمه والأبرص والمجانين, يتخذ ربا من دون الله فاتخذ هؤلاء كلهم أربابا, ما تقول يا يهودي؟ قال الجاثليق: القول قولك, ولا إله إلا الله, ثم التفت (ع) إلى رأس الجالوت فقال: يا يهودي, أقبل علي أسألك بالعشر الآيات التي أنزلت على موسى بن عمران, هل تجد في التوراة مكتوبا نبأ محمد (ص) وأمته, إذا جاءت الأمة الأخيرة أتباع راكب البعير يسبحون الرب جدا جدا تسبيحا جديدا في الكنائس الجدد, فليفزع بنو إسرائيل إليهم وإلى ملكهم لتطمئن قلوبهم, فإن بأيديهم سيوفا ينتقمون بها من الأمم الكافرة في أقطار الأرض, أهكذا هو في التوراة مكتوب؟ قال رأس الجالوت: نعم, إنا لنجده كذلك, ثم قال (ع) للجاثليق: يا نصراني, كيف علمك بكتاب شعيا؟ قال: أعرفه حرفا حرفا, قال (ع) لهما: أتعرفان هذا من كلامه, يا قوم, إني رأيت صورة راكب الحمار لابسا جلابيب النور, ورأيت راكب البعير ضوؤه مثل ضوء القمر, فقالا: قد قال ذلك شعيا, قال الرضا (ع): يا نصراني, هل تعرف في الإنجيل قول عيسى إني ذاهب إلى ربكم وربي, والبارقليطا جاء هو الذي يشهد لي بالحق, كما شهدت له, وهو الذي يفسر لكم كل شيء وهو الذي يبدي فضائح الأمم, وهو الذي يكسر عمود الكفر, فقال الجاثليق: ما ذكرت شيئا في الإنجيل إلا ونحن مقرون به, قال (ع): أتجد هذا في الإنجيل ثابتا يا جاثليق؟ قال: نعم, قال الرضا (ع): يا جاثليق, ألا تخبرني عن الإنجيل الأول حين افتقدتموه عند من وجدتموه, ومن وضع لكم هذا الإنجيل؟ قال له: ما افتقدنا الإنجيل إلا يوما واحدا, حتى وجدناه غضا طريا, فأخرجه إلينا يوحنا ومتى, فقال له الرضا (ع): ما أقل معرفتك بسر الإنجيل وعلمائه, فإن كان هذا كما تزعم, فلم اختلفتم في الإنجيل, وإنما وقع الاختلاف في هذا الإنجيل الذي في أيديكم اليوم, فلو كان على العهد الأول لم تختلفوا فيه, ولكني مفيدك علم ذلك, اعلم أنه لما افتقد الإنجيل الأول اجتمعت النصارى إلى علمائهم, فقالوا لهم: قتل عيسى ابن مريم, وافتقدنا الإنجيل, وأنتم العلماء فما عندكم؟ فقال لهم ألوقا ومرقابوس: إن الإنجيل في صدورنا, ونحن نخرجه إليكم سفرا سفرا في كل أحد فلا تحزنوا عليه ولا تخلوا الكنائس, فإنا سنتلوه عليكم في كل أحد سفرا سفرا, حتى نجمعه كله, فقعد ألوقا ومرقابوس ويوحنا ومتى فوضعوا لكم هذا الإنجيل بعد ما افتقدتم الإنجيل الأول, وإنما كان هؤلاء الأربعة تلاميذ التلاميذ الأولين, أعلمت ذلك؟ قال الجاثليق: أما هذا فلم أعلمه وقد علمته الآن, وقد بان لي من فضل علمك بالإنجيل, وسمعت أشياء مما علمته شهد قلبي أنها حق, فاستزدت كثيرا من الفهم فقال له الرضا (ع): فكيف شهادة هؤلاء عندك؟ قال: جائزة, هؤلاء علماء الإنجيل, وكل ما شهدوا به فهو حق, فقال الرضا (ع) للمأمون, ومن حضره من أهل بيته, ومن غيرهم: اشهدوا عليه, قالوا: قد شهدنا, ثم قال (ع) للجاثليق: بحق الابن وأمه, هل تعلم أن متى قال: إن المسيح هو ابن داود بن إبراهيم بن إسحاق بن يعقوب بن يهودا بن حضرون؟ وقال مرقابوس في نسبة عيسى ابن مريم: أنه كلمة الله أحلها في الجسد الآدمي, فصارت إنسانا؟ وقال ألوقا: إن عيسى ابن مريم وأمه كانا إنسانين من لحم ودم, فدخل فيهما روح القدس؟ ثم إنك تقول من شهادة عيسى على نفسه: حقا أقول لكم يا معشر الحواريين, إنه لا يصعد إلى السماء إلا من نزل منها, إلا راكب البعير خاتم الأنبياء (ص), فإنه يصعد إلى السماء وينزل, فما تقول في هذا القول؟ قال الجاثليق: هذا قول عيسى لا ننكره, قال الرضا (ع): فما تقول في شهادة ألوقا ومرقابوس ومتى على عيسى وما نسبوه إليه؟ قال الجاثليق: كذبوا على عيسى, قال الرضا (ع): يا قوم, أليس قد زكاهم وشهد أنهم علماء الإنجيل وقولهم حق؟ فقال الجاثليق: يا عالم المسلمين, أحب أن تعفيني من أمر هؤلاء, قال الرضا (ع): فإنا قد فعلنا, سل يا نصراني عما بدا لك, قال الجاثليق: ليسألك غيري, فلا وحق المسيح ما ظننت أن في علماء المسلمين مثلك, فالتفت الرضا (ع) إلى رأس الجالوت فقال له: تسألني أو أسألك؟ فقال: بل أسألك ولست أقبل منك حجة إلا من التوراة, أو من الإنجيل, أو من زبور داود, أو بما في صحف إبراهيم وموسى, قال الرضا (ع): لا تقبل مني حجة إلا بما تنطق به التوراة على لسان موسى بن عمران, والإنجيل على لسان عيسى ابن مريم, والزبور على لسان داود؟ فقال رأس الجالوت: من أين تثبت نبوة محمد (ص)؟ قال الرضا (ع): شهد بنبوته موسى بن عمران, وعيسى ابن مريم, وداود خليفة الله عز وجل في الأرض, فقال له: ثبت قول موسى بن عمران, قال الرضا (ع): هل تعلم يا يهودي, أن موسى بن عمران أوصى بني إسرائيل فقال لهم: إنه سيأتيكم نبي من إخوانكم فبه فصدقوا, ومنه فاسمعوا, فهل تعلم أن لبني إسرائيل إخوة غير ولد إسماعيل, إن كنت تعرف قرابة إسرائيل من إسماعيل والنسب الذي بينهما من قبل إبراهيم؟ فقال رأس الجالوت: هذا قول موسى لا ندفعه, فقال له الرضا (ع): هل جاءكم من إخوة بني إسرائيل نبي غير محمد (ص)؟ قال: لا, قال الرضا (ع): أفليس قد صح هذا عندكم؟ قال: نعم, ولكني أحب أن تصححه لي من التوراة فقال له الرضا (ع): هل تنكر أن التوراة تقول لكم: قد جاء النور من جبل طور سيناء, وأضاء لنا من جبل ساعير, واستعلن علينا من جبل فاران, قال رأس الجالوت: أعرف هذه الكلمات, وما أعرف تفسيرها, قال الرضا (ع): أنا أخبرك به, أما قوله: جاء النور من قبل طور سيناء فذلك وحي الله تبارك وتعالى الذي أنزله على موسى على جبل طور سيناء, وأما قوله: وأضاء الناس من جبل ساعير فهو الجبل الذي أوحى الله عز وجل إلى عيسى ابن مريم وهو عليه, وأما قوله: واستعلن علينا من جبل فاران فذلك جبل من جبال مكة بينه وبينها يوم, وقال شعيا النبي: فيما تقول أنت وأصحابك في التوراة, رأيت راكبين أضاء لهما الأرض أحدهما على حمار والآخر على جمل, فمن راكب الحمار ومن راكب الجمل؟ قال رأس الجالوت: لا أعرفهما فخبرني بهما, قال (ع): أما راكب الحمار فعيسى, وأما راكب الجمل فمحمد (ص), أتنكر هذا من التوراة؟ قال: لا, ما أنكره, ثم قال الرضا (ع): هل تعرف حيقوق النبي؟ قال: نعم, إني به لعارف, قال (ع): فإنه قال وكتابكم ينطق به: جاء الله بالبيان من جبل فاران, وامتلأت السماوات من تسبيح أحمد وأمته, يحمل خيله في البحر كما يحمل في البر, يأتينا بكتاب جديد بعد خراب بيت المقدس يعني بالكتاب القرآن, أتعرف هذا وتؤمن به؟ قال رأس الجالوت: قد قال ذلك حيقوق النبي, ولا ننكر قوله, قال الرضا (ع): فقد قال داود في زبوره وأنت تقرؤه: اللهم ابعث مقيم السنة بعد الفترة, فهل تعرف نبيا أقام السنة بعد الفترة غير محمد (ص)؟ قال رأس الجالوت: هذا قول داود نعرفه ولا ننكره, ولكن عنى بذلك عيسى وأيامه هي الفترة, قال له الرضا (ع): جهلت إن عيسى لم يخالف السنة, وكان موافقا لسنة التوراة, حتى رفعه الله إليه وفي الإنجيل مكتوب: أن ابن البرة ذاهب والبارقليطا جاء من بعده, وهو يخفف الآصار ويفسر لكم كل شيء, ويشهد لي كما شهدت له, أنا جئتكم بالأمثال وهو يأتيكم بالتأويل, أتؤمن بهذا في الإنجيل؟ قال: نعم لا أنكره, فقال له الرضا (ع): يا رأس الجالوت, أسألك عن نبيك موسى بن عمران, فقال: سل, قال (ع): ما الحجة على أن موسى ثبتت نبوته؟ قال اليهودي: إنه جاء بما لم يجئ به أحد من الأنبياء قبله, قال (ع) له: مثل ماذا؟ قال: مثل فلق البحر, وقلبه العصا حية تسعى, وضربه الحجر فانفجرت منه العيون, وإخراجه يده {بيضاء للناظرين}, وعلامات لا يقدر الخلق على مثلها, قال له الرضا (ع): صدقت في أنه كانت حجة على نبوته, إنه جاء بما لا يقدر الخلق على مثله, أفليس كل من ادعى أنه نبي ثم جاء بما لا يقدر الخلق على مثله وجب عليكم تصديقه؟ قال: لا, لأن موسى لم يكن له نظير لمكانه من ربه وقربه منه, ولا يجب علينا الإقرار بنبوة من ادعاها حتى يأتي من الأعلام بمثل ما جاء به, قال الرضا (ع): فكيف أقررتم بالأنبياء الذين كانوا قبل موسى, ولم يفلقوا البحر, ولم يفجروا من الحجر اثنتي عشرة عينا, ولم يخرجوا بأيديهم مثل إخراج موسى يده بيضاء, ولم يقلبوا العصا حية تسعى؟ قال له اليهودي: قد خبرتك أنه متى ما جاءوا على نبوتهم من الآيات, بما لا يقدر الخلق على مثله, ولو جاءوا بما لم يجئ به موسى أو كان على غير ما جاء به موسى وجب تصديقهم, قال: قال الرضا (ع): يا رأس الجالوت, فما يمنعك من الإقرار بعيسى ابن مريم, وقد كان يحيي الموتى, ويبرئ الأكمه والأبرص, ويخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله, قال رأس الجالوت: يقال إنه فعل ذلك ولم نشهده, قال الرضا (ع): أرأيت ما جاء به موسى من الآيات شاهدته, أليس إنما جاءت الأخبار من ثقات أصحاب موسى أنه فعل ذلك؟ قال: بلى, قال: فكذلك أيضا أتتكم الأخبار المتواترة بما فعل عيسى ابن مريم, فكيف صدقتم بموسى, ولم تصدقوا بعيسى, فلم يحر جوابا, قال الرضا (ع): وكذلك أمر محمد (ص), وما جاء به وأمر كل نبي بعثه الله ومن آياته أنه كان يتيما فقيرا راعيا أجيرا, لم يتعلم كتابا ولم يختلف إلى معلم, ثم جاء بالقرآن الذي فيه قصص الأنبياء وأخبارهم حرفا حرفا, وأخبار من مضى ومن بقي إلى يوم القيامة, ثم كان يخبرهم بأسرارهم وما يعملون في بيوتهم, وجاء بآيات كثيرة لا تحصى, قال: قال رأس الجالوت: لم يصح عندنا خبر عيسى, ولا خبر محمد (ص), ولا يجوز لنا أن نقر لهما بما لم يصح, قال الرضا (ع): فالشاهد الذي شهد لعيسى, ولمحمد صلى الله عليهما شاهد زور؟ فلم يحر جوابا, ثم دعا بالهربذ الأكبر فقال له الرضا (ع): أخبرني عن زردهشت الذي تزعم أنه نبي, ما حجتك على نبوته؟ قال: إنه أتى بما لم يأتنا به أحد قبله, ولم نشهده, ولكن الأخبار من أسلافنا وردت علينا, بأنه أحل لنا ما لم يحله غيره, فاتبعناه, قال (ع): أفليس إنما أتتكم الأخبار فاتبعتموه؟ قال: بلى, قال (ع): فكذلك سائر الأمم السالفة, أتتهم الأخبار بما أتى به النبيون, وأتى به موسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم, فما عذركم في ترك الإقرار لهم, إذ كنتم إنما أقررتم بزردهشت من قبل الأخبار المتواترة, بأنه جاء بما لم يجئ به غيره, فانقطع الهربذ مكانه, فقال الرضا (ع): يا قوم, إن كان فيكم أحد يخالف الإسلام وأراد أن يسأل فليسأل غير محتشم, فقام إليه عمران الصابئ, وكان واحدا من المتكلمين فقال: يا عالم الناس, لو لا أنك دعوت إلى مسألتك لم أقدم عليك بالمسائل, فلقد دخلت الكوفة والبصرة والشام والجزيرة ولقيت المتكلمين, فلم أقع على أحد يثبت لي واحدا ليس غيره قائما بوحدانيته, أفتأذن لي أن أسألك؟ قال الرضا (ع): إن كان في الجماعة عمران الصابئ فأنت هو؟ قال: أنا هو, قال (ع): سل يا عمران, وعليك بالنصفة وإياك والخطل والجور؟ قال: والله يا سيدي, ما أريد إلا أن تثبت لي شيئا أتعلق به فلا أجوزه, قال (ع): سل عما بدا لك, فازدحم الناس وانضم بعضهم إلى بعض, فقال عمران الصابئ: أخبرني عن الكائن الأول وعما خلق؟ قال (ع): سألت فافهم, أما الواحد فلم يزل واحدا, كائنا لا شيء معه بلا حدود ولا أعراض, ولا يزال كذلك, ثم خلق خلقا مبتدعا مختلفا, بأعراض وحدود مختلفة, لا في شيء أقامه ولا في شيء حده, ولا على شيء حذاه ومثله له, فجعل الخلق من بعد ذلك صفوة وغير صفوة, واختلافا وائتلافا, وألوانا وذوقا وطعما, لا لحاجة كانت منه إلى ذلك, ولا لفضل منزلة لا يبلغها إلا به, ولا رأي لنفسه فيما خلق زيادة ولا نقصانا, تعقل هذا يا عمران؟ قال: نعم والله يا سيدي, قال (ع): واعلم يا عمران, أنه لو كان خلق ما خلق لحاجة لم يخلق إلا من يستعين به على حاجته, ولكان ينبغي أن يخلق أضعاف ما خلق, لأن الأعوان كلما كثروا كان صاحبهم أقوى والحاجة يا عمران لا يسعها, لأنه لم يحدث من الخلق شيئا إلا حدثت فيه حاجة أخرى, ولذلك أقول لم يخلق الخلق لحاجة, ولكن نقل بالخلق الحوائج بعضهم إلى بعض, وفضل بعضهم على بعض بلا حاجة منه إلى من فضل, ولا نقمة منه على من أذل, فلهذا خلق, قال عمران: يا سيدي, هل كان الكائن معلوما في نفسه عند نفسه؟ قال الرضا (ع): إنما يكون المعلمة بالشيء لنفي خلافه, وليكون الشيء نفسه بما نفي عنه موجودا, ولم يكن هناك شيء يخالفه فتدعوه الحاجة إلى نفي ذلك الشيء عن نفسه بتحديد ما علم منها, أفهمت يا عمران؟ قال: نعم والله يا سيدي, فأخبرني بأي شيء علم ما علم, أبضمير أم بغير ذلك؟ قال الرضا (ع): أرأيت إذا علم بضمير هل تجد بدا من أن تجعل لذلك الضمير حدا تنتهي إليه المعرفة, قال عمران: لابد من ذلك قال الرضا (ع): فما ذلك الضمير؟ فانقطع عمران ولم يحر جوابا, قال الرضا (ع): لا بأس, إن سألتك عن الضمير نفسه تعرفه بضمير آخر؟ فقلت: نعم أفسدت عليك قولك, ودعواك يا عمران, أليس ينبغي أن تعلم أن الواحد ليس يوصف بضمير, وليس يقال له أكثر من فعل وعمل وصنع, وليس يتوهم منه مذاهب وتجربة كمذاهب المخلوقين وتجربتهم, فاعقل ذلك وابن عليه ما علمت صوابا, قال عمران: يا سيدي, ألا تخبرني عن حدود خلقه, كيف هي, وما معانيها, وعلى كم نوع تكون؟ قال (ع): قد سألت فافهم, إن حدود خلقه على ستة أنواع: ملموس, وموزون, ومنظور إليه, وما لا ذوق له وهو الروح, ومنها منظور إليه, وليس له وزن, ولا لمس, ولا حس, ولا لون, ولا ذوق, والتقدير والأعراض والصور والطول والعرض, ومنها العمل والحركات التي تصنع الأشياء وتعملها وتغيرها من حال إلى حال وتزيدها وتنقصها, فأما الأعمال والحركات فإنها تنطلق لأنه لا وقت لها أكثر من قدر ما يحتاج إليه, فإذا فرغ من الشيء انطلق بالحركة وبقي الأثر, ويجري مجرى الكلام الذي يذهب ويبقى أثره, قال له عمران: يا سيدي, ألا تخبرني عن الخالق إذا كان واحدا لا شيء غيره ولا شيء معه, أليس قد تغير بخلقه الخلق؟ قال له الرضا (ع): لم يتغير عز وجل بخلق الخلق, ولكن الخلق يتغير بتغيره, قال عمران: فبأي شيء عرفناه؟ قال (ع): بغيره, قال: فأي شيء غيره؟ قال الرضا (ع): مشيته واسمه وصفته, وما أشبه ذلك وكل ذلك محدث مخلوق مدبر, قال عمران: يا سيدي, فأي شيء هو؟ قال (ع): هو نور بمعنى أنه هاد لخلقه من أهل السماء وأهل الأرض, وليس لك على أكثر من توحيدي إياه, قال عمران: يا سيدي, أليس قد كان ساكتا قبل الخلق لا ينطق, ثم نطق؟ قال الرضا (ع): لا يكون السكوت إلا عن نطق قبله, والمثل في ذلك أنه لا يقال للسراج هو ساكت لا ينطق, ولا يقال إن السراج ليضيء فيما يريد أن يفعل بنا, لأن الضوء من السراج ليس بفعل منه ولا كون, وإنما هو ليس شيء غيره, فلما استضاء لنا قلنا قد أضاء لنا حتى استضأنا به, فبهذا تستبصر أمرك, قال عمران: يا سيدي, فإن الذي كان عندي أن الكائن قد تغير في فعله عن حاله بخلقه الخلق, قال الرضا (ع): أحلت يا عمران في قولك, إن الكائن يتغير في وجه من الوجوه حتى يصيب الذات منه ما يغيره يا عمران, هل تجد النار يغيرها تغير نفسها, أو هل تجد الحرارة تحرق نفسها, أو هل رأيت بصيرا قط رأى بصره, قال عمران: لم أر هذا, ألا تخبرني يا سيدي أهو في الخلق أم الخلق فيه؟ قال الرضا (ع): جل يا عمران عن ذلك, ليس هو في الخلق ولا الخلق فيه, تعالى عن ذلك وسأعلمك ما تعرفه به و{ لا قوة إلا بالله}, أخبرني عن المرآة أنت فيها أم هي فيك, فإن كان ليس واحد منكما في صاحبه فبأي شيء استدللت بها على نفسك؟ قال عمران: بضوء بيني وبينها, قال الرضا (ع): هل ترى من ذلك الضوء في المرآة أكثر مما تراه في عينك؟ قال: نعم, قال الرضا (ع): فأرناه فلم يحر جوابا, قال (ع): فلا أرى النور إلا وقد دلك ودل المرآة على أنفسكما من غير أن يكون في واحد منكما, ولهذا أمثال كثرة غير هذا لا يجد الجاهل فيها مقالا{ولله المثل الأعلى}, ثم التفت إلى المأمون فقال (ع): الصلاة قد حضرت, فقال عمران: يا سيدي, لا تقطع علي مسألتي فقد رق قلبي, قال الرضا (ع): نصلي ونعود, فنهض ونهض المأمون فصلى الرضا (ع) داخلا, وصلى الناس خارجا خلف محمد بن جعفر, ثم خرجا فعاد الرضا (ع) إلى مجلسه ودعا بعمران, فقال: سل يا عمران, قال: يا سيدي, ألا تخبرني عن الله عز وجل, هل يوحد بحقيقة أو يوحد بوصف, قال الرضا (ع): إن الله المبدئ الواحد الكائن الأول, لم يزل واحدا لا شيء معه, فردا لا ثاني معه, لا معلوما, ولا مجهولا, ولا محكما, ولا متشابها, ولا مذكورا, ولا منسيا, ولا شيئا يقع عليه اسم شيء من الأشياء غيره, ولا من وقت كان ولا إلى وقت يكون, ولا بشيء قام ولا إلى شيء يقوم, ولا إلى شيء استند ولا في شيء استكن, وذلك كله قبل الخلق إذ لا شيء غيره, وما أوقعت عليه من الكل فهي صفات محدثة وترجمة يفهم بها من فهم, واعلم أن الإبداع والمشية والإرادة معناها واحد وأسماؤها ثلاثة, وكان أول إبداعه وإرادته ومشيته الحروف التي جعلها أصلا لكل شيء, ودليلا على كل مدرك, وفاصلا لكل مشكل, وبتلك الحروف تفريق كل شيء من اسم حق وباطل, أو فعل أو مفعول, أو معنى أو غير معنى, وعليها اجتمعت الأمور كلها ولم يجعل للحروف في إبداعه لها معنى غير أنفسها يتناهى ولا وجود لها, لأنها مبدعة بالإبداع والنور في هذا الموضع أول فعل الله الذي هو نور السماوات والأرض والحروف هي المفعول بذلك الفعل, وهي الحروف التي عليها الكلام والعبارات كلها من الله عز وجل, علمها خلقه وهي ثلاثة وثلاثون حرفا, فمنها ثمانية وعشرون حرفا تدل على لغات العربية, ومن الثمانية والعشرين اثنان وعشرون حرفا تدل على لغات السريانية والعبرانية, ومنها خمسة أحرف متحرفة في سائر اللغات من العجم لأقاليم اللغات كلها, وهي خمسة أحرف تحرفت من الثمانية والعشرين الحرف من اللغات, فصارت الحروف ثلاثة وثلاثين حرفا, فأما الخمسة المختلفة فحجج لا يجوز ذكرها أكثر مما ذكرناه, ثم جعل الحروف بعد إحصائها وإحكام عدتها فعلا منه كقوله عز وجل: {كن فيكون} وكن منه صنع, وما يكون به المصنوع, فالخلق الأول من الله عز وجل الإبداع لا وزن له ولا حركة, ولا سمع ولا لون ولا حس, والخلق الثاني الحروف لا وزن لها ولا لون, وهي مسموعة موصوفة غير منظور إليها, والخلق الثالث ما كان من الأنواع كلها محسوسا ملموسا, ذا ذوق منظور إليه والله تبارك وتعالى سابق للإبداع, لأنه ليس قبله عز وجل شيء ولا كان معه شيء, والإبداع سابق للحروف والحروف لا تدل على غير نفسها, قال المأمون: وكيف لا تدل على غير نفسها؟ قال الرضا (ع): لأن الله تبارك وتعالى لا يجمع منها شيئا لغير معنى أبدا, فإذا ألف منها أحرفا أربعة أو خمسة أو ستة أو أكثر من ذلك أو أقل, لم يؤلفها لغير معنى ولم يك إلا لمعنى محدث, لم يكن قبل ذلك شيئا, قال عمران: فكيف لنا بمعرفة ذلك؟ قال الرضا (ع): أما المعرفة فوجه ذلك وبيانه أنك تذكر الحروف, إذا لم ترد بها غير نفسها ذكرتها فردا فقلت: أ ب ت ث ج ح خ حتى تأتي على آخرها, فلم تجد لها معنى غير أنفسها, فإذا ألفتها وجمعت منها أحرفا وجعلتها اسما وصفة لمعنى ما طلبت ووجه ما عنيت, كانت دليلة على معانيها داعية إلى الموصوف بها, أفهمته؟ قال: نعم, قال الرضا (ع): واعلم أنه لا تكون صفة لغير موصوف, ولا اسم لغير معنى, ولا حد لغير محدود والصفات والأسماء, كلها تدل على الكمال والوجود, ولا تدل على الإحاطة كما تدل على الحدود التي هي التربيع والتثليث والتسديس, لأن الله عز وجل تدرك معرفته بالصفات والأسماء, ولا تدرك بالتحديد بالطول والعرض, والقلة والكثرة واللون والوزن, وما أشبه ذلك وليس يحل بالله جل وتقدس شيء من ذلك, حتى يعرفه خلقه بمعرفتهم أنفسهم بالضرورة التي ذكرنا, ولكن يدل على الله عز وجل بصفاته, ويدرك بأسمائه, ويستدل عليه بخلقه, حتى لا يحتاج في ذلك الطالب المرتاد إلى رؤية عين, ولا استماع أذن, ولا لمس كف, ولا إحاطة بقلب, فلو كانت صفاته جل ثناؤه لا تدل عليه, وأسماؤه لا تدعو إليه, والمعلمة من الخلق لا تدركه لمعناه, كانت العبادة من الخلق لأسمائه وصفاته دون معناه, فلو لا أن ذلك كذلك لكان المعبود الموحد غير الله, لأن صفاته وأسماءه غيره, أفهمت؟ قال: نعم يا سيدي زدني, قال الرضا (ع): إياك وقول الجهال أهل العمى والضلال الذين يزعمون أن الله جل وتقدس موجود في الآخرة للحساب والثواب والعقاب, وليس بموجود في الدنيا للطاعة والرجاء, ولو كان في الوجود لله عز وجل نقص واهتضام لم يوجد في الآخرة أبدا, ولكن القوم تاهوا وعموا وصموا عن الحق من حيث لا يعلمون, وذلك قوله عز وجل: {ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا} يعني أعمى عن الحقائق الموجودة, وقد علم ذوو الألباب أن الاستدلال على ما هناك لا يكون إلا بما هاهنا, من أخذ علم ذلك برأيه وطلب وجوده وإدراكه عن نفسه دون غيرها لم يزدد من علم ذلك إلا بعدا, لأن الله عز وجل جعل علم ذلك خاصة عند قوم يعقلون ويعلمون ويفهمون, قال عمران: يا سيدي, ألا تخبرني عن الإبداع أخلق هو أم غير خلق؟ قال له الرضا (ع): بل خلق ساكن لا يدرك بالسكون, وإنما صار خلقا لأنه شيء محدث, والله الذي أحدثه فصار خلقا له, وإنما هو الله عز وجل وخلقه لا ثالث بينهما, ولا ثالث غيرهما, فما خلق الله عز وجل لم يعد أن يكون خلقه, وقد يكون الخلق ساكنا ومتحركا, ومختلفا ومؤتلفا, ومعلوما ومتشابها, وكل ما وقع عليه حد فهو خلق الله عز وجل, واعلم أن كل ما أوجدتك الحواس فهو معنى مدرك للحواس, وكل حاسة تدل على ما جعل الله عز وجل لها في إدراكها والفهم من القلب بجميع ذلك كله, واعلم أن الواحد الذي هو قائم بغير تقدير ولا تحديد, خلق خلقا مقدرا بتحديد وتقدير, وكان الذي خلق خلقين اثنين التقدير والمقدر, وليس في واحد منهما لون ولا وزن ولا ذوق, فجعل أحدهما يدرك بالآخر, وجعلهما مدركين بنفسهما, ولم يخلق شيئا فردا قائما بنفسه دون غيره للذي أراد من الدلالة على نفسه وإثبات وجوده, فالله تبارك وتعالى فرد واحد لا ثاني معه يقيمه, ولا يعضده, ولا يكنه, والخلق يمسك بعضه بعضا بإذن الله ومشيته, وإنما اختلف الناس في هذا الباب حتى تاهوا وتحيروا وطلبوا الخلاص من الظلمة بالظلمة في وصفهم الله بصفة أنفسهم, فازدادوا من الحق بعدا, ولو وصفوا الله عز وجل بصفاته ووصفوا المخلوقين بصفاتهم لقالوا بالفهم واليقين, ولما اختلفوا فلما طلبوا من ذلك ما تحيروا فيه ارتبكوا فيه {والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} قال عمران: يا سيدي, أشهد أنه كما وصفت ولكن بقيت لي مسألة, قال (ع): سل عما أردت, قال: أسألك عن الحكيم في أي شيء هو, وهل يحيط به شيء, وهل يتحول من شيء إلى شيء, أو به حاجة إلى شيء؟ قال الرضا (ع): أخبرك يا عمران فاعقل ما سألت عنه, فإنه من أغمض ما يرد على المخلوقين في مسائلهم وليس يفهمه المتفاوت عقله العازب حلمه, ولا يعجز عن فهمه أولو العقل المنصفون, أما أول ذلك فلو كان خلق ما خلق لحاجة منه لجاز لقائل أن يقول يتحول إلى ما خلق لحاجته إلى ذلك, ولكنه عز وجل لم يخلق شيئا لحاجة ولم يزل ثابتا لا في شيء ولا على شيء, إلا أن الخلق يمسك بعضه بعضا ويدخل بعضه في بعض ويخرج منه, والله جل وتقدس بقدرته يمسك ذلك كله, وليس يدخل في شيء ولا يخرج منه, ولا يئوده حفظه ولا يعجز عن إمساكه, ولا يعرف أحد من الخلق كيف ذلك إلا الله عز وجل ومن أطلعه عليه من رسله, وأهل سره, والمستحفظين لأمره, وخزانه القائمين بشريعته, وإنما أمره {كلمح بالبصر أو هو أقرب إذا شاء شيئا فإنما يقول له كن فيكون} بمشيته وإرادته وليس شيء من خلقه أقرب إليه من شيء, ولا شيء أبعد منه من شيء, أفهمت يا عمران؟ قال: نعم يا سيدي, قد فهمت, وأشهد أن الله على ما وصفته ووحدته, وأن محمدا عبده المبعوث بالهدى ودين الحق, ثم خر ساجدا نحو القبلة وأسلم, قال الحسن بن محمد النوفلي: فلما نظر المتكلمون إلى كلام عمران الصابئ, وكان جدلا لم يقطعه عن حجته أحد قط, لم يدن من الرضا (ع) أحد منهم, ولم يسألوه عن شيء وأمسينا, فنهض المأمون والرضا (ع) فدخلا, وانصرف الناس وكنت مع جماعة من أصحابنا إذ بعث إلي محمد بن جعفر فأتيته فقال لي: يا نوفلي, أما رأيت ما جاء به صديقك لا والله ما ظننت أن علي بن موسى (ع) خاض في شيء من هذا قط, ولا عرفناه به, أنه كان يتكلم بالمدينة أو يجتمع إليه أصحاب الكلام, قلت: قد كان الحاج يأتونه فيسألونه عن أشياء من حلالهم وحرامهم فيجيبهم, وربما كلم من يأتيه يحاجه, فقال محمد بن جعفر: يا أبا محمد, إني أخاف عليه أن يحسده هذا الرجل فيسمه أو يفعل به بلية, فأشر عليه بالإمساك عن هذه الأشياء, قلت: إذا لا يقبل مني وما أراد الرجل إلا امتحانه ليعلم هل عنده شيء من علوم آبائه (ع), فقال لي: قل له إن عمك قد كره هذا الباب, وأحب أن تمسك عن هذه الأشياء لخصال شتى, فلما انقلبت إلى منزل الرضا (ع) أخبرته بما كان من عمه محمد بن جعفر, فتبسم ثم قال (ع): حفظ الله عمي ما أعرفني به لم كره ذلك, يا غلام صر إلى عمران الصابئ فأتني به, فقلت: جعلت فداك, أنا أعرف موضعه وهو عند بعض إخواننا من الشيعة, قال (ع): فلا بأس قربوا إليه دابة, فصرت إلى عمران فأتيته به فرحب به, ودعا بكسوة فخلعها عليه وحمله ودعا بعشرة آلاف درهم فوصله بها, فقلت: جعلت فداك, حكيت فعل جدك أمير المؤمنين (ع) قال (ع): هكذا يجب, ثم دعا (ع) بالعشاء فأجلسني عن يمينه, وأجلس عمران عن يساره, حتى إذا فرغنا قال لعمران: انصرف مصاحبا وبكر علينا نطعمك طعام المدينة, فكان عمران بعد ذلك يجتمع إليه المتكلمون من أصحاب المقالات فيبطل أمرهم, حتى اجتنبوه ووصله المأمون بعشرة آلاف درهم, وأعطاه الفضل مالا وحمله وولاه الرضا (ع) صدقات بلخ فأصاب الرغائب.
-----------------
التوحيد ص417, عيون اخبار الرضا (ع) ج1 ص154, الاحتجاج ج2 ص415, بحار الانوار ج10 ص299, باختصار: إثبات الهداة ج 4 ص 315, رياض الأبرار ج 2 ص 376
تحقيق مركز سيد الشهداء (ع) للبحوث الإسلامية
* مناظرة احرى أصحاب الأديان
عن محمد بن الفضل الهاشمي قال: لما توفي موسى بن جعفر (ع), أتيت المدينة فدخلت على الرضا (ع) فسلمت عليه بالأمر وأوصلت إليه ما كان معي, وقلت: إني سائر إلى البصرة وعرفت كثرة خلاف الناس, وقد نعي إليهم موسى (ع) وما أشك أنهم سيسألوني عن براهين الإمام, ولو أريتني شيئا من ذلك, فقال الرضا (ع): لم يخف علي هذا, فأبلغ أولياءنا بالبصرة وغيرها أني قادم عليهم ولا قوة إلا بالله, ثم أخرج إلي جميع ما كان للنبي (ص) عند الأئمة من بردته, وقضيبه, وسلاحه وغير ذلك, فقلت: ومتى تقدم عليهم؟ قال (ع): بعد ثلاثة أيام من وصولك ودخولك البصرة, فلما قدمتها سألوني عن الحال, فقلت لهم: إني أتيت موسى بن جعفر (ع) قبل وفاته بيوم واحد, فقال: إني ميت لا محالة, فإذا واريتني في لحدي فلا تقيمن, وتوجه إلى المدينة بودائعي هذه وأوصلها إلى ابني علي بن موسى (ع) فهو وصيي وصاحب الأمر بعدي, ففعلت ما أمرني به, وأوصلت الودائع إليه, وهو يوافيكم إلى ثلاثة أيام من يومي هذا, فاسألوه عما شئتم, فابتدر الكلام عمرو بن هداب عن القوم, وكان ناصبيا ينحو نحو التزيد والاعتزال, فقال: يا محمد, إن الحسن بن محمد رجل من أفاضل أهل هذا البيت في ورعه وزهده وعلمه وسنه, وليس هو كشاب مثل علي بن موسى (ع), ولعله لو سئل عن شيء من معضلات الأحكام لحار في ذلك, فقال الحسن بن محمد وكان حاضرا في المجلس: لا تقل يا عمرو ذلك, فإن عليا (ع) على ما وصف من الفضل, وهذا محمد بن الفضل يقول إنه يقدم إلى ثلاثة أيام, فكفاك به دليلا, وتفرقوا فلما كان في اليوم الثالث من دخولي البصرة إذا الرضا (ع) قد وافى, فقصد منزل الحسن بن محمد, داخلا له داره وقام بين يديه يتصرف بين أمره ونهيه, فقال (ع): يا حسن بن محمد, أحضر جميع القوم الذين حضروا عند محمد بن الفضل وغيرهم من شيعتنا, وأحضر جاثليق النصارى, ورأس الجالوت, ومر القوم يسألوا عما بدا لهم, فجمعهم كلهم والزيدية والمعتزلة, وهم لا يعلمون لما يدعوهم الحسن بن محمد, فلما تكاملوا ثني للرضا (ع) وسادة فجلس عليها, ثم قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, هل تدرون لم بدأتكم بالسلام؟ قالوا: لا, قال (ع): لتطمئن أنفسكم, قالوا: من أنت يرحمك الله؟ قال (ع): أنا علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) وابن رسول الله (ص), صليت اليوم صلاة الفجر في مسجد رسول الله (ص) مع والي المدينة, وأقرأني بعد أن صلينا كتاب صاحبه إليه, واستشارني في كثير من أموره, فأشرت عليه بما فيه الحظ له, ووعدته أن يصير إلي بالعشي بعد العصر من هذا اليوم, ليكتب عندي جواب كتاب صاحبه, وأنا واف له بما وعدته, ولا حول ولا قوة إلا بالله, فقالت الجماعة: يا ابن رسول الله (ص), ما نريد مع هذا الدليل برهانا, وأنت عندنا الصادق القول, وقاموا لينصرفوا, فقال لهم الرضا (ع): لا تتفرقوا فإني إنما جمعتكم لتسألوا عما شئتم من آثار النبوة وعلامات الإمامة, التي لا تجدونها إلا عندنا أهل البيت, فهلموا مسائلكم, فابتدأ عمرو بن هداب فقال: إن محمد بن الفضل الهاشمي, ذكر عنك أشياء لا تقبلها القلوب, فقال الرضا (ع): وما تلك؟ قال: أخبرنا عنك أنك تعرف كل ما أنزله الله, وأنك تعرف كل لسان ولغة, فقال الرضا (ع): صدق محمد بن الفضل, فأنا أخبرته بذلك, فهلموا فاسألوا قال: فإنا نختبرك قبل كل شيء بالألسن واللغات, وهذا رومي, وهذا هندي, وفارسي, وتركي, فأحضرناهم, فقال (ع): فليتكلموا بما أحبوا أجب كل واحد منهم بلسانه إن شاء الله, فسأل كل واحد منهم مسألة بلسانه ولغته, فأجابهم عما سألوا بألسنتهم ولغاتهم, فتحير الناس وتعجبوا وأقروا جميعا بأنه أفصح منهم بلغاتهم, ثم نظر الرضا (ع) إلى ابن هداب فقال: إن أنا أخبرتك أنك ستبتلى في هذه الأيام بدم ذي رحم لك كنت مصدقا لي؟ قال: لا, فإن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى, قال (ع): أوليس الله يقول: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول}, فرسول الله (ص) عند الله مرتضى, ونحن ورثة ذلك الرسول الذي أطلعه الله على ما شاء من غيبه, فعلمنا ما كان وما يكون إلى يوم القيامة, وإن الذي أخبرتك به يا ابن هداب لكائن إلى خمسة أيام, فإن لم يصح ما قلت في هذه المدة فإني كذاب مفتر, وإن صح فتعلم أنك الراد على الله ورسوله, وذلك دلالة أخرى أما إنك ستصاب ببصرك وتصير مكفوفا فلا تبصر سهلا ولا جبلا, وهذا كائن بعد أيام, ولك عندي دلالة أخرى, إنك ستحلف يمينا كاذبة فتضرب بالبرص, قال محمد بن الفضل: تالله, لقد نزل ذلك كله بابن هداب, فقيل له: صدق الرضا أم كذب؟ قال: والله لقد علمت في الوقت الذي أخبرني به أنه كائن, ولكنني كنت أتجلد, ثم إن الرضا (ع) التفت إلى الجاثليق فقال: هل دل الإنجيل على نبوة محمد (ص)؟ قال: لو دل الإنجيل على ذلك ما جحدناه, فقال (ع): أخبرني عن السكتة التي لكم في السفر الثالث, فقال الجاثليق: اسم من أسماء الله تعالى, لا يجوز لنا أن نظهره, قال الرضا (ع): فإن قررتك أنه اسم محمد (ص), وذكره, وأقر عيسى به وأنه بشر بني إسرائيل بمحمد (ص) لتقر به ولا تنكره, قال الجاثليق: إن فعلت أقررت, فإني لا أرد الإنجيل ولا أجحد, قال الرضا (ع): فخذ على السفر الثالث الذي فيه ذكر محمد (ص), وبشارة عيسى بمحمد, قال الجاثليق: هات, فأقبل الرضا (ع) يتلو ذلك السفر من الإنجيل, حتى بلغ ذكر محمد (ص) فقال: يا جاثليق, من هذا الموصوف؟ قال الجاثليق: صفه, قال (ع): لا أصفه إلا بما وصفه الله, هو صاحب الناقة والعصا والكساء النبي الأمي {الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} يهدي إلى الطريق الأقصد والمنهاج الأعدل والصراط الأقوم, سألتك يا جاثليق بحق عيسى روح الله وكلمته, هل تجدون هذه الصفة في الإنجيل لهذا النبي؟ فأطرق الجاثليق مليا وعلم أنه إن جحد الإنجيل كفر, فقال: نعم, هذه الصفة من الإنجيل, وقد ذكر عيسى في الإنجيل هذا النبي, ولم يصح عند النصارى أنه صاحبكم, فقال الرضا (ع): أما إذا لم تكفر بجحود الإنجيل, وأقررت بما فيه من صفة محمد (ص), فخذ علي في السفر الثاني, فإني أوجدك ذكره وذكر وصيه, وذكر ابنته فاطمة (ع) وذكر الحسن والحسين (ع), فلما سمع الجاثليق ورأس الجالوت ذلك, علما أن الرضا (ع) عالم بالتوراة والإنجيل, فقالا: والله قد أتى بما لا يمكننا رده ولا دفعه, إلا بجحود التوراة والإنجيل والزبور, ولقد بشر به موسى وعيسى جميعا, ولكن لم يتقرر عندنا بالصحة أنه محمد (ص) هذا, فأما اسمه فمحمد فلا يجوز لنا أن نقر لكم بنبوته, ونحن شاكون أنه محمدكم أو غيره, فقال الرضا (ع): احتججتم بالشك, فهل بعث الله قبل أو بعد من ولد آدم إلى يومنا هذا نبيا اسمه محمد, أو تجدونه في شيء من الكتب الذي أنزلها الله على جميع الأنبياء غير محمد؟ فأحجموا عن جوابه, وقالوا: لا يجوز لنا أن نقر لك بأن محمدا هو محمدكم, لأنا إن أقررنا لك بمحمد ووصيه وابنته وابنيها على ما ذكرتم أدخلتمونا في الإسلام كرها, فقال الرضا (ع): أنت يا جاثليق آمن في ذمة الله وذمة رسوله, إنه لا يبدؤك منا شيء تكره مما تخافه وتحذره, قال: أما إذ قد آمنتني فإن هذا النبي الذي اسمه محمد, وهذا الوصي الذي اسمه علي, وهذه البنت التي اسمها فاطمة, وهذان السبطان اللذان اسمهما الحسن والحسين في التوراة والإنجيل والزبور, قال الرضا (ع): فهذا الذي ذكرته في التوراة والإنجيل والزبور من اسم هذا النبي, وهذا الوصي, وهذه البنت, وهذين السبطين صدق وعدل أم كذب وزور؟ قال: بل صدق وعدل ما قال إلا الحق, فلما أخذ الرضا (ع) إقرار الجاثليق بذلك, قال (ع) لرأس الجالوت: فاسمع الآن يا رأس الجالوت السفر الفلاني من زبور داود, قال: هات بارك الله عليك وعلى من ولدك, فتلا الرضا (ع) السفر الأول من الزبور, حتى انتهى إلى ذكر محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين (ع) فقال (ع): سألتك يا رأس الجالوت بحق الله, هذا في زبور داود, ولك من الأمان والذمة والعهد, ما قد أعطيته الجاثليق, فقال رأس الجالوت: نعم هذا بعينه في الزبور بأسمائهم, قال الرضا (ع): بحق العشر الآيات التي أنزلها الله على موسى بن عمران في التوراة, هل تجد صفة محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين (ع) في التوراة منسوبين إلى العدل والفضل؟ قال: نعم, ومن جحدها كافر بربه وأنبيائه, قال له الرضا (ع): فخذ الآن في سفر كذا من التوراة, فأقبل الرضا (ع) يتلو التوراة ورأس الجالوت يتعجب من تلاوته, وبيانه وفصاحته ولسانه, حتى إذا بلغ ذكر محمد (ص), قال رأس الجالوت: نعم, هذا أحماد وإليا, وبنت أحماد, وشبر وشبير, وتفسيره بالعربية: محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين (ع), فتلا الرضا (ع) إلى تمامه, فقال رأس الجالوت لما فرغ من تلاوته: والله يا ابن محمد, لو لا الرئاسة التي حصلت لي على جميع اليهود, لآمنت بأحمد (ص) واتبعت أمرك, فو الله الذي أنزل التوراة على موسى, والزبور على داود, ما رأيت أقرأ للتوراة والإنجيل والزبور منك, ولا رأيت أحسن تفسيرا وفصاحة لهذه الكتب منك, فلم يزل الرضا (ع) معهم في ذلك إلى وقت الزوال, فقال (ع) لهم حين حضر وقت الزوال: أنا أصلي وأصير إلى المدينة للوعد الذي وعدت والي المدينة ليكتب جواب كتابه, وأعود إليكم بكرة إن شاء الله, قال: فأذن عبد الله بن سليمان وأقام, وتقدم الرضا (ع) فصلى بالناس وخفف القراءة, وركع تمام السنة وانصرف, فلما كان من الغد عاد إلى مجلسه ذلك, فأتوه بجارية رومية فكلمها بالرومية والجاثليق يسمع, وكان فهما بالرومية, فقال الرضا (ع) بالرومية: أيما أحب إليك محمد أم عيسى؟ فقالت: كان فيما مضى عيسى أحب إلي حين لم أكن عرفت محمدا (ص), فأما بعد أن عرفت محمدا, فمحمد الآن أحب إلي من عيسى ومن كل نبي, فقال لها الجاثليق: فإذا كنت دخلت في دين محمد, فتبغضين عيسى؟ قالت: معاذ الله, بل أحب عيسى وأومن به, ولكن محمدا أحب إلي, فقال الرضا (ع) للجاثليق: فسر للجماعة ما تكلمت به الجارية, وما قلت أنت لها, وما أجابتك به, ففسر لهم الجاثليق ذلك كله, ثم قال الجاثليق: يا ابن محمد, هاهنا رجل سندي وهو نصراني صاحب احتجاج وكلام بالسندية, فقال (ع) له: أحضرنيه, فأحضره فتكلم معه بالسندية, ثم أقبل يحاجه وينقله من شيء إلى شيء بالسندية في النصرانية, فسمعنا السندي يقول: ثبطى ثبطى ثبطلة, فقال الرضا (ع): قد وحد الله بالسندية, ثم كلمه في عيسى ومريم فلم يزل يدرجه من حال إلى حال إلى أن قال بالسندية: أشهد أن لا إله إلا الله, وأن محمدا رسول الله, ثم رفع منطقة كانت عليه, فظهر من تحتها زنار في وسطه, فقال اقطعه أنت بيدك يا ابن رسول الله, فدعا الرضا (ع) بسكين فقطعه, ثم قال (ع) لمحمد بن الفضل الهاشمي: خذ السندي إلى الحمام وطهره, واكسه وعياله واحملهم جميعا إلى المدينة, فلما فرغ من مخاطبة القوم قال: قد صح عندكم صدق ما كان محمد بن الفضل يلقي عليكم عني؟ قالوا: نعم والله, لقد بان لنا منك فوق ذلك أضعافا مضاعفة, وقد ذكر لنا محمد بن الفضل أنك تحمل إلى خراسان, فقال (ع): صدق محمد, إلا أني أحمل مكرما معظما مبجلا, قال محمد بن الفضل: فشهد له الجماعة بالإمامة وبات عندنا تلك الليلة, فلما أصبح ودع الجماعة وأوصاني بما أراد ومضى وتبعته, حتى إذا صرنا في وسط القرية عدل عن الطريق, فصلى أربع ركعات, ثم قال: يا محمد, انصرف في حفظ الله غمض طرفك, فغمضته, ثم قال: افتح عينيك ففتحتهما فإذا أنا على باب منزلي بالبصرة, ولم أرى الرضا (ع), قال: وحملت السندي وعياله إلى المدينة في وقت الموسم, قال محمد بن الفضل: كان فيما أوصاني به الرضا (ع) في وقت منصرفه من البصرة, أن قال لي: صر إلى الكوفة فاجمع الشيعة هناك وأعلمهم أني قادم عليهم, وأمرني أن أنزل في دار حفص بن عمير اليشكري, فصرت إلى الكوفة فأعلمت الشيعة أن الرضا (ع) قادم عليكم, فأنا يوما عند نصر بن مزاحم, إذ مر بي سلام خادم الرضا (ع), فعلمت أن الرضا (ع) قد قدم, فبادرت إلى دار حفص بن عمير, فإذا هو في الدار فسلمت عليه, ثم قال لي: احتشد من طعام تصلحه للشيعة, فقلت: قد احتشدت وفرغت مما يحتاج إليه, فقال (ع): الحمد لله على توفيقك, فجمعنا الشيعة, فلما أكلوا قال (ع): يا محمد, انظر من بالكوفة من المتكلمين والعلماء فأحضرهم, فأحضرناهم, فقال لهم الرضا (ع): إني أريد أن أجعل لكم حظا من نفسي كما جعلت لأهل البصرة, وإن الله قد أعلمني كل كتاب أنزله, ثم أقبل على جاثليق وكان معروفا بالجدل والعلم والإنجيل, فقال (ع): يا جاثليق, هل تعرف لعيسى صحيفة فيها خمسة أسماء يعلقها في عنقه, إذا كان بالمغرب فأراد المشرق فتحها, فأقسم على الله باسم واحد من خمسة الأسماء أن تنطوي له الأرض فيصير من المغرب إلى المشرق, ومن المشرق إلى المغرب في لحظة, فقال الجاثليق: لا علم لي بها, وأما الأسماء الخمسة فقد كانت معه يسأل الله بها أو بواحد منها, يعطيه الله جميع ما يسأله, قال (ع): الله أكبر, إذا لم تنكر الأسماء, فأما الصحيفة فلا يضر أقررت بها أم أنكرتها, اشهدوا على قوله, ثم قال (ع): يا معاشر الناس, أليس أنصف الناس من حاج خصمه بملته وبكتابه وبنبيه وشريعته؟ قالوا: نعم, قال الرضا (ع): فاعلموا أنه ليس بإمام بعد محمد (ص) إلا من قام بما قام به محمد (ص), حين يفضى الأمر إليه ولا يصلح للإمامة إلا من حاج الأمم بالبراهين للإمامة, فقال رأس الجالوت: وما هذا الدليل على الإمام؟ قال (ع): أن يكون عالما بالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن الحكيم, فيحاج أهل التوراة بتوراتهم, وأهل الإنجيل بإنجيلهم, وأهل القرآن بقرآنهم, وأن يكون عالما بجميع اللغات, حتى لا يخفى عليه لسان واحد, فيحاج كل قوم بلغتهم, ثم يكون مع هذه الخصال تقيا نقيا من كل دنس طاهرا من كل عيب, عادلا منصفا حكيما, رءوفا رحيما غفورا عطوفا, صادقا مشفقا بارا, أمينا مأمونا راتقا فاتقا, فقام إليه نصر بن مزاحم فقال: يا ابن رسول الله, ما تقول في جعفر بن محمد؟ قال (ع): ما أقول في إمام شهدت أمة محمد (ص) قاطبة بأنه كان أعلم أهل زمانه, قال: فما تقول في موسى بن جعفر؟ قال (ع): كان مثله, قال: فإن الناس قد تحيروا في أمره, قال (ع): إن موسى بن جعفر عمر برهة من الزمان, فكان يكلم الأنباط بلسانهم, ويكلم أهل خراسان بالدرية, وأهل روم بالرومية, ويكلم العجم بألسنتهم, وكان يرد عليه من الآفاق علماء اليهود والنصارى فيحاجهم بكتبهم وألسنتهم, فلما نفدت مدته وكان وقت وفاته, أتاني مولى برسالته يقول: يا بني, إن الأجل قد نفد والمدة قد انقضت وأنت وصي أبيك, فإن رسول الله (ص) لما كان وقت وفاته, دعا عليا (ع) وأوصاه ودفع إليه الصحيفة التي كان فيها الأسماء التي خص الله بها الأنبياء والأوصياء, ثم قال (ص): يا علي, ادن مني فغطى رسول الله (ص) رأس علي (ع) بملاءة, ثم قال له: أخرج لسانك فأخرجه, فختمه بخاتمه, ثم قال (ص): يا علي, اجعل لساني في فيك فمصه, وابلع عني كل ما تجد في فيك, ففعل علي (ع) ذلك, فقال (ص) له: إن الله قد فهمك ما فهمني, وبصرك ما بصرني, وأعطاك من العلم ما أعطاني إلا النبوة, فإنه لا نبي بعدي, ثم كذلك إمام بعد إمام, فلما مضى موسى علمت كل لسان وكل كتاب.
----------------
الخرائج والجرائح ج 1 ص 351, بحار الأنوار ج 49 ص 73, رياض الأبرار ج 2 ص 347
تحقيق مركز سيد الشهداء (ع) للبحوث الإسلامية
* مناظرته (ع) من الجاثليق من النصارى
عن صفوان بن يحيى صاحب السابري قال: سألني أبو قرة صاحب الجاثليق أن أوصله إلى الرضا (ع) فاستأذنته في ذلك, فقال (ع): أدخله علي, فلما دخل عليه قبل بساطه, وقال: هكذا علينا في ديننا أن نفعل بأشراف أهل زماننا, ثم قال له: أصلحك الله, ما تقول في فرقة ادعت دعوى فشهدت لهم فرقة أخرى معدلون؟ قال (ع): الدعوى لهم, قال: فادعت فرقة أخرى دعوى فلم يجدوا شهودا من غيرهم؟ قال (ع): لا شيء لهم, قال: فإنا نحن ادعينا أن عيسى روح الله وكلمته فوافقنا على ذلك المسلمون, وادعى المسلمون أن محمدا (ص) نبي فلم نتابعهم عليه, وما أجمعنا عليه خير مما افترقنا فيه, فقال له الرضا (ع): ما اسمك؟ قال: يوحنا, قال: يا يوحنا, إنا آمنا بعيسى روح الله وكلمته الذي كان يؤمن بمحمد (ص), ويبشر به, ويقر على نفسه أنه عبد مربوب, فإن كان عيسى الذي هو عندك روح الله وكلمته, ليس هو الذي آمن بمحمد (ص) وبشر به, ولا هو الذي أقر لله بالعبودية والربوبية, فنحن منه براء, فأين اجتمعنا؟ فقام, فقال لصفوان بن يحيى: قم فما كان أغنانا عن هذا المجلس .
--------------
عيون اخبار الرضا (ع) ج 2 ص 230, بحار الأنوار ج 10 ص 341, تفسير نور الثقلين ج 5 ص 312, تفسير كنز الدقائق ج 13 ص 224
تحقيق مركز سيد الشهداء (ع) للبحوث الإسلامية
* مناظرة في المسيح (ع)
في كتاب الصفواني أنه قال الرضا (ع) لابن قرة النصراني: ما تقول في المسيح؟ قال: يا سيدي, إنه من الله فقال (ع): ما تريد بقولك من ومن على أربعة أوجه لا خامس لها, أتريد بقولك من كالبعض من الكل فيكون مبعضا, أو كالخل من الخمر فيكون على سبيل الاستحالة, أو كالولد من الوالد فيكون على سبيل المناكحة, أو كالصنعة من الصانع فيكون على سبيل المخلوق من الخالق, أو عندك وجه آخر فتعرفناه فانقطع.
-------------
مناقب آل أبي طالب (ع) ج 4 ص 351, بحار الأنوار ج 10 ص 349
تحقيق مركز سيد الشهداء (ع) للبحوث الإسلامية
* احتجاجه (ع) وجوابه لسليمان المروزي متكلم خراسان
عن الحسن بن محمد النوفلي قال: قدم سليمان المروزي متكلم خراسان على المأمون فأكرمه ووصله, ثم قال له: إن ابن عمي علي بن موسى (ع) قدم علي من الحجاز, وهو يحب الكلام وأصحابه فلا عليك أن تصير إلينا يوم التروية لمناظرته, فقال سليمان: يا أمير المؤمنين, إني أكره أن أسأل مثله في مجلسك في جماعة من بني هاشم, فينتقص عند القوم إذا كلمني ولا يجوز الاستقصاء عليه, قال المأمون: إنما وجهت إليك لمعرفتي بقوتك, وليس مرادي إلا أن تقطعه عن حجة واحدة فقط, فقال سليمان: حسبك يا أمير المؤمنين اجمع بيني وبينه وخلني والذم, فوجه المأمون إلى الرضا (ع) فقال: إنه قد قدم علينا رجل من أهل مرو, وهو واحد خراسان من أصحاب الكلام, فإن خف عليك أن تتجشم المصير إلينا فعلت, فنهض (ع) للوضوء وقال: لنا تقدموني وعمران الصابئ معنا, فصرنا إلى الباب فأخذ ياسر وخالد بيدي فأدخلاني على المأمون, فلما سلمت قال: أين أخي أبو الحسن أبقاه الله؟ قلت: خلفته يلبس ثيابه, وأمرنا أن نتقدم ثم قلت: يا أمير المؤمنين, إن عمران مولاك معي وهو بالباب, فقال: من عمران؟ قلت: الصابئ الذي أسلم على يديك, قال: فليدخل, فدخل فرحب به المأمون, ثم قال له: يا عمران, لم تمت حتى صرت من بني هاشم؟ قال: الحمد لله الذي شرفني بكم يا أمير المؤمنين, فقال له المأمون: يا عمران, هذا سليمان المروزي متكلم خراسان, قال عمران: يا أمير المؤمنين, إنه يزعم أنه واحد خراسان في النظر وينكر البداء, قال: فلم لا تناظره, قال عمران: ذاك إليه, فدخل الرضا (ع) فقال: في أي شيء كنتم؟ قال عمران: يا ابن رسول الله, هذا سليمان المروزي, فقال سليمان: أترضى بأبي الحسن وبقوله فيه؟ قال عمران: قد رضيت بقول أبي الحسن (ع) في البداء, على أن يأتيني فيه بحجة أحتج بها على نظرائي من أهل النظر, قال المأمون: يا أبا الحسن, ما تقول فيما تشاجرا فيه؟ قال (ع): وما أنكرت من البداء يا سليمان؟ والله عز وجل يقول: { أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا} ويقول عز وجل: {وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده} ويقول: {بديع السماوات والأرض} ويقول عز وجل: {يزيد في الخلق ما يشاء} ويقول: {وبدأ خلق الإنسان من طين} ويقول عز وجل: {وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم} ويقول عز وجل: {وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب} قال سليمان: هل رويت فيه عن آبائك (ع) شيئا؟ قال (ع): نعم, رويت عن أبي عن أبي عبد الله (ع) أنه قال: إن لله عز وجل علمين, علما مخزونا مكنونا لا يعلمه إلا هو من ذلك يكون البداء, وعلما علمه ملائكته ورسله, فالعلماء من أهل بيت نبيك يعلمونه, قال سليمان: أحب أن تنزعه لي من كتاب الله عز وجل, قال: قول الله تعالى لنبيه (ص): {فتول عنهم فما أنت بملوم} أراد هلاكهم, ثم بدا لله تعالى فقال: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} قال سليمان: زدني جعلت فداك, قال الرضا (ع): لقد أخبرني أبي عن آبائه (ع) أن رسول الله (ص) قال: إن الله عز وجل أوحى إلى نبي من أنبيائه: أن أخبر فلان الملك أني متوفيه إلى كذا وكذا, فأتاه ذلك النبي فأخبره, فدعا الله الملك وهو على سريره حتى سقط من السرير, وقال: يا رب أجلني حتى يشب طفلي وأقضي أمري, فأوحى الله عز وجل إلى ذلك النبي: أن ائت فلان الملك فأعلمه أني قد أنسيت أجله, وزدت في عمره خمس عشرة سنة, فقال ذلك النبي: يا رب, إنك لتعلم أني لم أكذب قط, فأوحى الله عز وجل إليه: إنما أنت عبد مأمور, فأبلغه ذلك والله {لا يسئل عما يفعل} ثم التفت إلى سليمان فقال: أحسبك ضاهيت اليهود في هذا الباب؟ قال: أعوذ بالله من ذلك, وما قالت اليهود؟ قال (ع): قالت اليهود {يد الله مغلولة} يعنون أن الله تعالى قد فرغ من الأمر فليس يحدث شيئا, فقال الله عز وجل: {غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا} ولقد سمعت قوما سألوا أبي موسى بن جعفر (ع) عن البداء, فقال: وما ينكر الناس من البداء, وأن يقف الله قوما يرجئهم لأمره, قال سليمان: ألا تخبرني عن { إنا أنزلناه في ليلة القدر} في أي شيء أنزلت؟ قال (ع): يا سليمان, ليلة القدر يقدر الله عز وجل فيها ما يكون من السنة إلى السنة, من حياة أو موت, أو خير أو شر, أو رزق فما قدره في تلك الليلة فهو من المحتوم, قال سليمان: الآن قد فهمت جعلت فداك, فزدني قال (ع): يا سليمان, إن من الأمور أمورا موقوفة عند الله تبارك وتعالى, يقدم منها ما يشاء ويؤخر ما يشاء, يا سليمان, إن عليا (ع) كان يقول العلم علمان: فعلم علمه الله ملائكته ورسله, فما علمه ملائكته ورسله فإنه يكون ولا يكذب نفسه ولا ملائكته ولا رسله, وعلم عنده مخزون لم يطلع عليه أحدا من خلقه, يقدم منه ما يشاء ويؤخر ما يشاء, ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء, قال سليمان للمأمون: يا أمير المؤمنين, لا أنكر بعد يومي هذا البداء ولا أكذب به إن شاء الله, فقال المأمون: يا سليمان, سل أبا الحسن (ع) عما بدا لك, وعليك بحسن الاستماع والإنصاف, قال سليمان: يا سيدي, أسألك؟ قال الرضا (ع): سل عما بدا لك, قال: ما تقول فيمن جعل الإرادة اسما وصفة, مثل حي وسميع وبصير وقدير, قال الرضا (ع): إنما قلتم حدثت الأشياء واختلفت لأنه شاء وأراد, ولم تقولوا حدثت واختلفت لأنه سميع بصير, فهذا دليل على أنها ليست مثل سميع ولا بصير ولا قدير, قال سليمان: فإنه لم يزل مريدا, قال (ع): يا سليمان, فإرادته غيره, قال: نعم, قال (ع): فقد أثبت معه شيئا غيره لم يزل, قال سليمان: ما أثبت؟ قال الرضا (ع): أهي محدثة؟ قال سليمان: لا, ما هي محدثة, فصاح به المأمون وقال: يا سليمان, مثله يعايا أو يكابر عليك بالإنصاف, أما ترى من حولك من أهل النظر؟ ثم قال: كلمه يا أبا الحسن, فإنه متكلم خراسان, فأعاد عليه المسألة فقال (ع): هي محدثة يا سليمان, فإن الشيء إذا لم يكن أزليا كان محدثا, وإذا لم يكن محدثا كان أزليا, قال سليمان: إرادته منه كما أن سمعه منه, وبصره منه, وعلمه منه, قال الرضا (ع): فإرادته نفسه؟ قال: لا, قال (ع): فليس المريد مثل السميع والبصير, قال سليمان: إنما أراد نفسه كما سمع نفسه, وأبصر نفسه, وعلم نفسه, قال الرضا (ع): ما معنى أراد نفسه, أراد أن يكون شيئا, أو أراد أن يكون حيا, أو سميعا أو بصيرا أو قديرا؟ قال: نعم, قال الرضا (ع): أفبإرادته كان ذلك؟ قال سليمان: نعم, قال الرضا (ع): فليس لقولك أراد أن يكون حيا سميعا بصيرا معنى, إذا لم يكن ذلك بإرادته, قال سليمان: بلى, قد كان ذلك بإرادته, فضحك المأمون ومن حوله وضحك الرضا (ع), ثم قال لهم: ارفقوا بمتكلم خراسان فقال يا سليمان فقد حال عندكم عن حاله, وتغير عنها, وهذا ما لا يوصف الله عز وجل به, فانقطع ثم قال الرضا (ع): يا سليمان, أسألك مسألة؟ قال: سل جعلت فداك, قال (ع): أخبرني عنك وعن أصحابك, تكلمون الناس بما تفقهون وتعرفون, أو بما لا تفقهون ولا تعرفون؟ قال: بما نفقه ونعلم, قال الرضا (ع): فالذي يعلم الناس أن المريد غير الإرادة, وأن المريد قبل الإرادة, وأن الفاعل قبل المفعول, وهذا يبطل قولكم: إن الإرادة والمريد شيء واحد, قال: جعلت فداك, ليس ذاك منه على ما يعرف الناس, ولا على ما يفقهون, قال (ع): فأراكم ادعيتم علم ذلك بلا معرفة, وقلتم الإرادة كالسمع والبصر, وإذا كان ذلك عندكم على ما لا يعرف ولا يعقل, فلم يحر جوابا؟ ثم قال الرضا (ع): يا سليمان, هل يعلم الله جميع ما في الجنة والنار؟ قال سليمان: نعم, قال (ع): فيكون ما علم الله عز وجل أنه يكون من ذلك؟ قال: نعم, قال (ع): فإذا كان حتى لا يبقى منه شيء إلا كان, أيزيدهم أو يطويه عنهم؟ قال سليمان: بل يزيدهم, قال (ع): فأراه في قولك قد زادهم, ما لم يكن في علمه أنه يكون, قال: جعلت فداك, فالمزيد لا غاية له, قال (ع): فليس يحيط علمه عندكم بما يكون فيهما, إذا لم يعرف غاية ذلك, وإذا لم يحط علمه بما يكون فيهما لم يعلم ما يكون فيهما, أن يكون تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا, قال سليمان: إنما قلت لا يعلمه لأنه لا غاية لهذا, لأن الله عز وجل وصفهما بالخلود, وكرهنا أن نجعل لهما انقطاعا, قال الرضا (ع): ليس علمه بذلك بموجب لانقطاعه عنهم, لأنه قد يعلم ذلك ثم يزيدهم, ثم لا يقطعه عنهم, وكذلك قال عز وجل في كتابه: {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب} وقال لأهل الجنة: {عطاء غير مجذوذ} وقال عز وجل: {وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة} فهو جل وعز يعلم ذلك ولا يقطع عنهم الزيادة, أرأيت ما أكل أهل الجنة وما شربوا, أليس يخلف مكانه؟ قال: بلى, قال (ع): أفيكون يقطع ذلك عنهم, وقد أخلف مكانه؟ قال سليمان: لا, قال (ع): فكذلك كلما يكون فيها إذا أخلف مكانه فليس بمقطوع عنهم, قال سليمان: بل يقطعه عنهم ولا يزيدهم, قال الرضا (ع): إذا يبيد ما فيهما, وهذا يا سليمان إبطال الخلود وخلاف الكتاب, لأن الله عز وجل يقول: {لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد} ويقول عز وجل: {عطاء غير مجذوذ} ويقول عز وجل: {وما هم منها بمخرجين} ويقول عز وجل: {خالدين فيها أبدا} ويقول عز وجل: {وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة} فلم يحر جوابا, ثم قال الرضا (ع): يا سليمان, ألا تخبرني عن الإرادة, فعل هي أم غير فعل؟ قال: بلى, هي فعل, قال (ع): فهي محدثة, لأن الفعل كله محدث, قال: ليست بفعل, قال (ع): فمعه غيره لم يزل قال سليمان: الإرادة هي الإنشاء, قال (ع): يا سليمان, هذا الذي عبتموه على ضرار وأصحابه من قولهم: إن كل ما خلق الله عز وجل في سماء, أو أرض, أو بحر, أو بر, من كلب أو خنزير, أو قرد أو إنسان, أو دابة إرادة الله, وإن إرادة الله تحيا وتموت, وتذهب وتأكل وتشرب, وتنكح وتلد وتظلم, وتفعل الفواحش وتكفر وتشرك, فنبرأ منها ونعاديها, وهذا حدها, قال سليمان: إنها كالسمع والبصر والعلم, قال الرضا (ع): قد رجعت إلى هذا ثانية, فأخبرني عن السمع والبصر والعلم, أمصنوع؟ قال سليمان: لا, قال الرضا (ع): فكيف نفيتموه؟ فمرة قلتم لم يرد ومرة قلتم أراد, وليست بمفعول له, قال سليمان: إنما ذلك كقولنا مرة علم ومرة لم يعلم, قال الرضا (ع): ليس ذلك سواء, لأن نفي المعلوم ليس بنفي العلم, ونفي المراد نفي الإرادة, أن تكون لأن الشيء إذا لم يرد لم يكن إرادة, وقد يكون العلم ثابتا, وإن لم يكن المعلوم بمنزلة البصر فقد يكون الإنسان بصيرا, وإن لم يكن المبصر ويكون العلم ثابتا وإن لم يكن المعلوم, قال سليمان: إنها مصنوعة, قال (ع): فهي محدثة ليست كالسمع والبصر, لأن السمع والبصر ليسا بمصنوعين, وهذه مصنوعة, قال سليمان: إنها صفة من صفاته لم تزل, قال (ع): فينبغي أن يكون الإنسان لم يزل لأن صفته لم تزل, قال سليمان: لا, لأنه لم يفعلها, قال الرضا (ع): يا خراساني, ما أكثر غلطك, أفليس بإرادته وقوله تكون الأشياء؟ قال سليمان: لا, قال (ع): فإذا لم تكن بإرادته ولا مشيته, ولا أمره ولا بالمباشرة, فكيف يكون ذلك؟ تعالى الله عن ذلك, فلم يحر جوابا, ثم قال الرضا (ع): ألا تخبرني عن قول الله عز وجل: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها} يعني بذلك أنه يحدث إرادة, قال له: نعم, قال (ع): فإذا أحدث إرادة كان قولك إن الإرادة هي هو, أو شيء منه باطلا, لأنه لا يكون أن يحدث نفسه, ولا يتغير عن حاله تعالى الله عن ذلك, قال سليمان: إنه لم يكن عنى بذلك أنه يحدث إرادة, قال (ع): فما عنى به؟ قال: عنى به فعل الشيء, قال الرضا (ع): ويلك, كم تردد هذه المسألة, وقد أخبرتك أن الإرادة محدثة, لأن فعل الشيء محدث, قال: فليس لها معنى, قال الرضا (ع): قد وصف نفسه عندكم حتى وصفها بالإرادة بما لا معنى له, فإذا لم يكن لها معنى قديم, ولا حديث, بطل قولكم إن الله لم يزل مريدا, قال سليمان: إنما عنيت أنها فعل من الله لم يزل, قال (ع): ألا تعلم أن ما لم يزل لا يكون مفعولا وقديما حديثا في حالة واحدة, فلم يحر جوابا, قال الرضا (ع): لا بأس, أتمم مسألتك, قال سليمان: قلت إن الإرادة صفة من صفاته, قال الرضا (ع): كم تردد علي أنها صفة من صفاته, فصفته محدثة, أو لم تزل؟ قال سليمان: محدثة, قال الرضا (ع): الله أكبر, فالإرادة محدثة, وإن كانت صفة من صفاته لم تزل, فلم يرد شيئا, قال الرضا (ع): إن ما لم يزل لا يكون مفعولا, قال سليمان: ليس الأشياء إرادة, ولم يرد شيئا, قال الرضا (ع): وسوست يا سليمان, فقد فعل وخلق ما لم يزل خلقه وفعله, وهذه صفة من لا يدري ما فعل, تعالى الله عن ذلك, قال سليمان: يا سيدي, فقد أخبرتك أنها كالسمع والبصر والعلم, قال المأمون: ويلك يا سليمان, كم هذا الغلط والترداد, اقطع هذا وخذ في غيره, إذ لست تقوى على غير هذا الرد, قال الرضا (ع): دعه يا أمير المؤمنين, لا تقطع عليه مسألته فيجعلها حجة, تكلم يا سليمان, قال: قد أخبرتك أنها كالسمع والبصر والعلم, قال الرضا (ع): لا بأس, أخبرني عن معنى هذه, أمعنى واحد أو معاني مختلفة؟ قال سليمان: معنى واحد, قال الرضا (ع): فمعنى الإرادات كلها معنى واحد؟ قال سليمان: نعم, قال الرضا (ع): فإن كان معناها معنى واحدا, كانت إرادة القيام إرادة القعود, وإرادة الحياة إرادة الموت, إذ كانت إرادته واحدة لم يتقدم بعضها بعضا, ولم يخالف بعضها بعضا, وكان شيئا واحدا, قال سليمان: إن معناها مختلف, قال (ع): فأخبرني عن المريد, أهو الإرادة أو غيرها؟ قال سليمان: بل هو الإرادة, قال الرضا (ع): فالمريد عندكم مختلف, إذ كان هو الإرادة, قال: يا سيدي ليس الإرادة المريد, قال (ع): فالإرادة محدثة, وإلا فمعه غيره, افهم وزد في مسألتك, قال سليمان: فإنها اسم من أسمائه, قال الرضا (ع): هل سمى نفسه بذلك؟ قال سليمان: لا لم يسم نفسه بذلك, قال الرضا (ع): فليس لك أن تسميه, بما لم يسم به نفسه, قال: قد وصف نفسه بأنه مريد, قال الرضا (ع): ليس صفته نفسه, أنه مريد إخبارا عن أنه إرادة, ولا إخبارا عن أن الإرادة اسم من أسمائه, قال سليمان: لأن إرادته علمه, قال الرضا (ع): يا جاهل, فإذا علم الشيء فقد أراده, قال سليمان: أجل, قال (ع): فإذا لم يرده لم يعلمه, قال سليمان: أجل, قال (ع): من أين قلت ذاك, وما الدليل على أن إرادته علمه, وقد يعلم ما لا يريده أبدا, وذلك قوله عز وجل {ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك} فهو يعلم كيف يذهب به, ولا يذهب به أبدا, قال سليمان: لأنه قد فرغ من الأمر فليس يزيد فيه شيئا, قال الرضا (ع): هذا قول اليهود, فكيف قال: {ادعوني أستجب لكم} قال سليمان: إنما عنى بذلك أنه قادر عليه, قال (ع): أفيعد ما لا يفي به؟ فكيف قال: {يزيد في الخلق ما يشاء} وقال عز وجل: {يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} وقد فرغ من الأمر, فلم يحر جوابا, قال الرضا (ع): يا سليمان, هل يعلم أن إنسانا يكون ولا يريد أن يخلق إنسانا أبدا, أو أن إنسانا يموت ولا يريد أن يموت اليوم؟ قال سليمان: نعم, قال الرضا (ع): فيعلم أنه يكون ما يريد أن يكون, أو يعلم أنه يكون ما لا يريد أن يكون, قال: يعلم أنهما يكونان جميعا, قال الرضا (ع): إذا يعلم أن إنسانا حي ميت قائم قاعد أعمى بصير في حالة واحدة, وهذا هو المحال, قال: جعلت فداك, فإنه يعلم أن يكون أحدهما دون الآخر, قال (ع): لا بأس, فأيهما يكون الذي أراد أن يكون, أو الذي لم يرد أن يكون؟ قال سليمان: الذي أراد أن يكون فضحك الرضا (ع) والمأمون وأصحاب المقالات, قال الرضا (ع): غلطت وتركت قولك, إنه يعلم أن إنسانا يموت اليوم وهو لا يريد أن يموت اليوم, وإنه يخلق خلقا وإنه لا يريد أن يخلقهم, وإذا لم يجز العلم عندكم بما لم يرد أن يكون فإنما يعلم أن يكون ما أراد أن يكون, قال سليمان: فإنما قولي إن الإرادة ليست هو ولا غيره, قال الرضا (ع): يا جاهل, إذا قلت ليست هو فقد جعلتها غيره, فإذا قلت ليست هي غيره فقد جعلتها هو, قال سليمان: فهو يعلم كيف يصنع الشيء, قال (ع): نعم, قال سليمان: فإن ذلك إثبات للشيء, قال الرضا (ع): أحلت, لأن الرجل قد يحسن البناء وإن لم يبن, ويحسن الخياطة وإن لم يخط, ويحسن صنعة الشيء وإن لم يصنعه أبدا, ثم قال (ع) له: يا سليمان, هل يعلم أنه واحد لا شيء معه؟ قال: نعم, قال (ع): أفيكون ذلك إثباتا للشيء؟ قال سليمان: ليس يعلم أنه واحد لا شيء معه, قال الرضا (ع): أفتعلم أنت ذاك؟ قال: نعم, قال (ع): فأنت يا سليمان أعلم منه إذا, قال سليمان: المسألة محال, قال (ع): محال عندك, أنه واحد لا شيء معه, وأنه سميع بصير حكيم قادر, قال: نعم, قال (ع): فكيف أخبر عز وجل أنه واحد حي سميع بصير حكيم قادر عليم خبير, وهو لا يعلم ذلك, وهذا رد ما قال وتكذيبه تعالى الله عن ذلك, ثم قال له الرضا (ع): فكيف يريد صنع ما لا يدري صنعه ولا ما هو, وإذا كان الصانع لا يدري كيف يصنع الشيء قبل أن يصنعه, فإنما هو متحير تعالى الله عن ذلك, قال سليمان: فإن الإرادة القدرة, قال الرضا (ع): وهو عز وجل يقدر على ما لا يريده أبدا, ولا بد من ذلك, لأنه قال تبارك وتعالى: {ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك} فلو كانت الإرادة هي القدرة كان قد أراد أن يذهب به لقدرته, فانقطع سليمان قال المأمون عند ذلك: يا سليمان, هذا أعلم هاشمي, ثم تفرق القوم.
----------------
التوحيد ص 441, عيون أخبار الرضا (ع) ج 1 ص 179, الاحتجاج ج 2 ص 401, بحار الأنوار ج 10 ص 329
تحقيق مركز سيد الشهداء (ع) للبحوث الإسلامية
* جواب الامام الرضا (ع) لأسئلة المأمون عن آيات قرانيه
عن أبي الصلت عبد السلام بن صالح الهروي قال: سأل مأمون أبا الحسن علي بن موسى الرضا (ع) عن قول الله عز وجل: {وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا} فقال (ع): إن الله تبارك وتعالى خلق العرش والماء والملائكة قبل خلق السماوات والأرض, فكانت الملائكة تستدل بأنفسها وبالعرش والماء على الله عز وجل, ثم جعل عرشه على الماء ليظهر بذلك قدرته للملائكة, فتعلم أنه على كل شيء قدير, ثم رفع العرش بقدرته, ونقله فجعله فوق السماوات السبع, ثم خلق السماوات والأرض في ستة أيام, وهو مستول على عرشه, وكان قادرا على أن يخلقها في طرفة عين ولكنه عز وجل خلقها في ستة أيام ليظهر للملائكة ما يخلقه منها شيئا بعد شيء, فتستدل بحدوث ما يحدث على الله تعالى ذكره مرة بعد مرة, ولم يخلق الله العرش لحاجة به إليه, لأنه غني عن العرش وعن جميع ما خلق لا يوصف بالكون على العرش, لأنه ليس بجسم تعالى عن صفة خلقه علوا كبيرا, وأما قوله عز وجل: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا} فإنه عز وجل خلق خلقه ليبلوهم بتكليف طاعته وعبادته, لا على سبيل الامتحان والتجربة, لأنه لم يزل عليما بكل شيء, فقال المأمون: فرجت عني يا أبا الحسن فرج الله عنك, (1) ثم قال له: يا ابن رسول الله, فما معنى قول الله جل ثناؤه: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله} فقال الرضا (ع): حدثني أبي موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسن بن علي عن أبيه علي بن أبي طالب (ع) قال: إن المسلمين قالوا لرسول الله (ص): لو أكرهت يا رسول الله من قدرت عليه من الناس على الإسلام لكثر عددنا وقوينا على عدونا, فقال رسول الله (ص): ما كنت لألقى الله عز وجل ببدعة لم يحدث إلي فيها شيئا, {وما أنا من المتكلفين} فأنزل الله عز وجل عليه: يا محمد, {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا} على سبيل الإلجاء والاضطرار في الدنيا, كما يؤمنون عند المعاينة ورؤية البأس في الآخرة, ولو فعلت ذلك بهم لم يستحقوا مني ثوابا ولا مدحا, ولكني أريد منهم أن يؤمنوا مختارين غير مضطرين, ليستحقوا مني الزلفى والكرامة ودوام الخلود في جنة الخلد, {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} وأما قوله عز وجل: {وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله} فليس ذلك على سبيل تحريم الإيمان عليها, ولكن على معنى أنها ما كانت لتؤمن إلا بإذن الله, وإذنه أمره لها بالإيمان, ما كانت مكلفة متعبدة, وإلجاؤه إياها إلى الإيمان عند زوال التكليف والتعبد عنها, فقال المأمون: فرجت عني يا أبا الحسن فرج الله عنك, فأخبرني عن قول الله عز وجل: {الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا} فقال (ع): إن غطاء العين لا يمنع من الذكر الذكر لا يرى بالعين, ولكن الله عز وجل شبه الكافرين بولاية علي بن أبي طالب (ع) بالعميان, لأنهم كانوا يستثقلون قول النبي (ص) فيه, ولا يستطيعون له سمعا, فقال المأمون: فرجت عني فرج الله عنك.
-----------------
(1) إلى هنا في البرهان وتفسير نور الثقلين
(2) التوحيد ص 320, عيون اخبار الرضا (ع) ج 1 ص 134, الاحتجاج ج 2 ص 412, بحار الأنوار ج 10 ص 342, البرهان ج 3 ص 81, تفسير نور الثقلين ج 2 ص 335, تفسير كنز الدقائق ج 6 ص 112 بعضه
تحقيق مركز سيد الشهداء (ع) للبحوث الإسلامية
* في التوحيد
عن صفوان بن يحيى قال: سألني أبو قرة المحدث صاحب شبرمة أن أدخله إلى أبي الحسن الرضا (ع) فاستأذنته فأذن له, فدخل فسأله عن أشياء من الحلال والحرام, والفرائض والأحكام, حتى بلغ سؤاله إلى التوحيد فقال له: أخبرني جعلني الله فداك, عن كلام الله لموسى فقال (ع): الله أعلم بأي لسان كلمه بالسريانية أم بالعبرانية, فأخذ أبو قرة بلسانه فقال: إنما أسألك عن هذا اللسان, فقال أبو الحسن (ع): سبحان الله عما تقول, ومعاذ الله أن يشبه خلقه أو يتكلم بمثل ما هم متكلمون, ولكنه تبارك وتعالى {ليس كمثله شيء} ولا كمثله قائل فاعل, قال: كيف ذلك؟ قال (ع): كلام الخالق لمخلوق ليس ككلام المخلوق لمخلوق, ولا يلفظ بشق فم ولا لسان, ولكن يقول له: كن فكان بمشيته, ما خاطب به موسى من الأمر والنهي من غير تردد في نفس, (1) فقال أبو قرة: فما تقول في الكتب؟ فقال أبو الحسن (ع): التوراة والإنجيل والزبور والفرقان, وكل كتاب أنزل كان كلام الله تعالى, أنزله للعالمين نورا وهدى وهي كلها محدثة, وهي غير الله حيث يقول: {أو يحدث لهم ذكرا} وقال: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون} والله أحدث الكتب كلها التي أنزلها فقال أبو قرة: فهل يفنى؟ فقال أبو الحسن (ع): أجمع المسلمون على أن ما سوى الله فان, وما سوى الله فعل الله والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان, فعل الله تعالى ألم تسمع الناس يقولون رب القرآن, وإن القرآن يقول يوم القيامة: يا رب, هذا فلان وهو أعرف به, قد أظمأت نهاره وأسهرت ليله فشفعني فيه, وكذلك التوراة والإنجيل والزبور, كلها محدثة مربوبة أحدثها من {ليس كمثله شيء} هدى لقوم يعقلون, فمن زعم أنهن لم يزلن فقد أظهر أن الله ليس بأول قديم ولا واحد, وأن الكلام لم يزل معه وليس له بدء وليس بإله, قال أبو قرة: وإنا روينا أن الكتب كلها تجيء يوم القيامة والناس في صعيد واحد صفوف قيام لرب العالمين ينظرون, حتى ترجع فيه لأنها منه وهي جزء منه, فإليه تصير, قال أبو الحسن (ع): فهكذا قالت النصارى في المسيح, إنه روحه جزء منه ويرجع فيه, وكذلك قالت المجوس في النار والشمس, إنهما جزء منه يرجع فيه, تعالى ربنا أن يكون متجزئا أو مختلفا, وإنما يختلف ويأتلف المتجزي, لأن كل متجزئ متوهم والقلة والكثرة مخلوقة دالة على خالق خلقها, فقال أبو قرة: فإنا روينا أن الله قسم الرؤية والكلام بين نبيين, فقسم لموسى الكلام, ولمحمد (ص) الرؤية, فقال أبو الحسن (ع): فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين من الجن والإنس أنه {لا تدركه الأبصار ولا يحيطون به علما وليس كمثله شيء} أليس محمد (ص), قال بلى, قال أبو الحسن (ع): فكيف يجيء رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم أنه جاء من عند الله وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله, ويقول إنه {لا تدركه الأبصار ولا يحيطون به علما وليس كمثله شيء} ثم يقول: أنا رأيته بعيني وأحطت به علما وهو على صورة البشر, أما تستحيون ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون, أتى عن الله بأمر ثم يأتي بخلافه من وجه آخر, فقال أبو قرة: فإنه يقول {ولقد رآه نزلة أخرى} فقال أبو الحسن (ع): إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث يقول: {ما كذب الفؤاد ما رأى} يقول: ما كذب فؤاد محمد (ص) ما رأت عيناه, ثم أخبر بما رأت عيناه فقال: {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} فآيات الله غير الله, وقال: {ولا يحيطون به علما} فإذا رأته الأبصار فقد أحاطت به العلم, ووقعت المعرفة, فقال أبو قرة: فتكذب بالرواية؟ فقال أبو الحسن (ع): إذا كانت الرواية مخالفة للقرآن كذبتها, وما أجمع المسلمون عليه أنه لا يحاط به علما, و{لا تدركه الأبصار وليس كمثله شيء} وسأله عن قول الله: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام} فقال أبو الحسن (ع): قد أخبر الله تعالى أنه أسرى به, ثم أخبر لم أسرى به, فقال: {لنريه من آياتنا} فآيات الله غير الله, لقد أعذر وبين لم فعل به ذلك وما رآه فقال: {فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون} فأخبر أنه غير الله, فقال أبو قرة: فأين الله؟ فقال أبو الحسن (ع): الأين مكان, وهذه مسألة شاهد عن غائب, والله تعالى ليس بغائب ولا يقدمه قادم, وهو بكل مكان موجود, مدبر صانع حافظ, ممسك السماوات والأرض, فقال أبو قرة: أليس هو فوق السماء دون ما سواها؟ فقال أبو الحسن (ع): {هو الله في السماوات وفي الأرض وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء وهو معكم أين ما كنتم وهو الذي استوى إلى السماء وهي دخان وهو الذي استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو الذي استوى على العرش} قد كان ولا خلق وهو كما كان, إذ لا خلق لم ينتقل مع المنتقلين, فقال أبو قرة: فما بالكم إذا دعوتم رفعتم أيديكم إلى السماء, فقال أبو الحسن (ع): إن الله استعبد خلقه بضروب من العبادة, ولله مفازع يفزعون إليه, ويستعبد فاستعبد عباده بالقول: والعلم والعمل, والتوجيه ونحو ذلك استعبدهم بتوجيه الصلاة إلى الكعبة, ووجه إليها الحج والعمرة, واستعبد خلقه عند الدعاء والطلب والتضرع, ببسط الأيدي ورفعها إلى السماء, لحال الاستكانة وعلامة العبودية والتذلل له, فقال أبو قرة: فمن أقرب إلى الله الملائكة أو أهل الأرض؟ قال أبو الحسن (ع): إن كنت تقول بالشبر والذراع فإن الأشياء كلها باب واحد هي فعله, لا يشتغل ببعضها عن بعض, يدبر أعلى الخلق من حيث يدبر أسفله, ويدبر أوله من حيث يدبر آخره من غير عناء, ولا كلفة ولا مئونة, ولا مشاورة ولا نصب, وإن كنت تقول من أقرب إليه في الوسيلة, فأطوعهم له, وأنتم تروون أن أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد ورويتم: أن أربعة أملاك التقوا أحدهم من أعلى الخلق, وأحدهم من أسفل الخلق, وأحدهم من شرق الخلق, وأحدهم من غرب الخلق, فسأل بعضهم بعضا فكلهم قال: من عند الله أرسلني بكذا وكذا, ففي هذا دليل على أن ذلك في المنزلة دون التشبيه والتمثيل, فقال أبو قرة: أتقر أن الله تعالى محمول؟ فقال أبو الحسن (ع): كل محمول مفعول ومضاف إلى غيره محتاج, فالمحمول اسم نقص في اللفظ, والحامل فاعل وهو اللفظ في ممدوح, وكذلك قول القائل: فوق وتحت وأعلى وأسفل, وقد قال الله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} ولم يقل في شيء من كتبه, أنه محمول بل هو الحامل في البر والبحر, والممسك للسماوات والأرض, والمحمول ما سوى الله ولم نسمع أحدا آمن بالله وعظمه قط قال في دعائه: يا محمول, قال أبو قرة: أفتكذب بالرواية, أن الله إذا غضب إنما يعرف غضبه, أن الملائكة الذين يحملون العرش يجدون ثقله على كواهلهم, فيخرون سجدا, فإذا ذهب الغضب خف فرجعوا إلى مواقفهم؟ فقال (ع): أخبرني عن الله تبارك وتعالى منذ لعن إبليس إلى يومك هذا وإلى يوم القيامة, غضبان هو على إبليس وأوليائه, أو راض عنهم؟ فقال: نعم هو غضبان عليه, قال (ع): فمتى رضي فخفف وهو في صفتك لم يزل غضبان عليه وعلى أتباعه, ثم قال (ع): ويحك, كيف تجتري أن تصف ربك بالتغير من حال إلى حال, وأنه يجري عليه ما يجري على المخلوقين, سبحانه لم يزل مع الزائلين ولم يتغير مع المتغيرين, قال صفوان: فتحير أبو قرة ولم يحر جوابا, حتى قام وخرج. (2)
----------------
(1) إلى هنا في تفسير كنز الدقائق
(2) الاحتجاج ج 2 ص 405, بحار الأنوار ج 10 ص 343, تفسير كنز الدقائق ج 3 ص 590, بعضه: الكافي ج 1 ص 130, الوافي ج 1 ص 498, البرهان ج 3 ص 752
تحقيق مركز سيد الشهداء (ع) للبحوث الإسلامية
عن البزنطي قال: جاء رجل إلى أبي الحسن الرضا (ع) من وراء نهر بلخ, قال: إني أسألك عن مسألة, فإن أجبتني فيها بما عندي قلت بإمامتك, فقال أبو الحسن (ع): سل عما شئت, فقال: أخبرني عن ربك, متى كان, وكيف كان, وعلى أي شيء كان اعتماده؟ فقال أبو الحسن (ع): إن الله تبارك وتعالى أين الأين بلا أين, وكيف الكيف بلا كيف, وكان اعتماده على قدرته, فقام إليه الرجل فقبل رأسه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله, وأن محمدا رسول الله, وأن عليا وصي رسول الله, والقيم بعده بما أقام به رسول الله (ص), وأنكم الأئمة الصادقون, وأنك الخلف من بعدهم.
----------------
الكافي ج 1 ص 88, الوافي ج 1 ص 350, بحار الأنوار ج 49 ص 104. نحوه: التوحيد ص 125, عيون أخبار الرضا (ع) ج 1 ص 117
تحقيق مركز سيد الشهداء (ع) للبحوث الإسلامية
قال الآبي في نثر الدر: علي بن موسى الرضا (ع) سأله الفضل بن سهل في مجلس المأمون فقال: يا أبا الحسن, الخلق مجبرون؟ فقال (ع): الله أعدل من أن يجبر ثم يعذب, قال: فمطلقون؟ قال (ع): الله أحكم من أن يهمل عبده ويكله إلى نفسه, (1) أتي المأمون بنصراني قد فجر بهاشمية, فلما رآه أسلم فغاظه ذلك وسأل الفقهاء فقالوا: هدر الإسلام, ما قبله فسأل الرضا (ع) فقال: اقتله لأنه أسلم حين رأى البأس قال الله عز وجل: {فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده} إلى آخر السورة.
---------------
(1) من هنا في رياض الأبرار
كشف الغمة ج 2 ص 306, بحار الأنوار ج 49 ص 172, رياض الأبرار ج 2 ص 375
تحقيق مركز سيد الشهداء (ع) للبحوث الإسلامية
* عصمة الأنبياء (ع)
عن أبي الصلت الهروي قال: لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا (ع) أهل المقالات من أهل الإسلام والديانات, من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين وسائر أهل المقالات, فلم يقم أحد إلا وقد ألزمه حجته كأنه ألقم حجرا, قام إليه علي بن محمد بن الجهم فقال له: يا ابن رسول الله, أتقول بعصمة الأنبياء؟ قال (ع): نعم, قال: فما تعمل في قول الله عز وجل: {وعصى آدم ربه فغوى} وفي قوله عز وجل: {وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه} وفي قوله عز وجل في يوسف (ع): {ولقد همت به وهم بها} وفي قوله عز وجل في داود: {ظن داود أنما فتناه} وقوله تعالى في نبيه محمد (ص): {وتخفي في نفسك ما الله مبديه} فقال الرضا (ع): ويحك يا علي, اتق الله ولا تنسب إلى أنبياء الله الفواحش, ولا تتأول كتاب الله برأيك, فإن الله عز وجل قد قال: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون} وأما قوله عز وجل في آدم: {وعصى آدم ربه فغوى} فإن الله عز وجل خلق آدم حجة في أرضه وخليفة في بلاده لم يخلقه للجنة, وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض, وعصمته تجب أن يكون في الأرض (1) ليتم مقادير أمر الله, فلما أهبط إلى الأرض وجعل حجة وخليفة عصم بقوله عز وجل: {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} وأما قوله عز وجل: {وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه} إنما ظن بمعنى استيقن أن الله لن يضيق عليه رزقه, ألا تسمع قول الله عز وجل: {وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه} أي ضيق عليه رزقه, ولو ظن أن الله لا يقدر عليه لكان قد كفر, وأما قوله عز وجل في يوسف: {ولقد همت به وهم بها} فإنها همت بالمعصية وهم يوسف بقتلها إن أجبرته لعظم ما تداخله, فصرف الله عنه قتلها والفاحشة, وهو قوله عز وجل: {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء} يعني القتل والزناء, وأما داود (ع) فما يقول من قبلكم فيه؟ فقال علي بن محمد بن الجهم يقولون: إن داود (ع) كان في محرابه يصلي, فتصور له إبليس على صورة طير أحسن ما يكون من الطيور, فقطع داود صلاته وقام ليأخذ الطير, فخرج الطير إلى الدار, فخرج الطير إلى السطح فصعد في طلبه, فسقط الطير في دار أوريا بن حنان, فأطلع داود في أثر الطير فإذا بامرأة أوريا تغتسل, فلما نظر إليها هواها, وكان قد أخرج أوريا في بعض غزواته, فكتب إلى صاحبه: أن قدم أوريا أمام التابوت فقدم فظفر أوريا بالمشركين, فصعب ذلك على داود فكتب إليه ثانية: أن قدمه أمام التابوت, فقدم فقتل أوريا فتزوج داود بامرأته, قال: فضرب الرضا (ع) بيده على جبهته, وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون, لقد نسبتم نبيا من أنبياء الله إلى التهاون بصلاته, حتى خرج في أثر الطير, ثم بالفاحشة, ثم بالقتل, فقال: يا ابن رسول الله, فما كان خطيئته؟ فقال (ع): ويحك, إن داود إنما ظن أن ما خلق الله عز وجل خلقا هو أعلم منه, فبعث الله عز وجل إليه الملكين فتسورا المحراب, فقالا: خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط, واهدنا إلى سواء الصراط, إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة, ولي نعجة واحدة, فقال: أكفلنيها وعزني في الخطاب, فعجل داود (ع) على المدعى عليه فقال: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه, ولم يسأل المدعي البينة على ذلك, ولم يقبل على المدعى عليه, فيقول له: ما تقول, فكان هذا خطيئة, رسم الحكم لا ما ذهبتم إليه, ألا تسمع الله عز وجل يقول: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى} إلى آخر الآية, فقال: يا ابن رسول الله, فما قصته مع أوريا؟ فقال الرضا (ع): إن المرأة في أيام داود (ع) كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوج بعده أبدا, وأول من أباح الله له أن يتزوج بامرأة قتل بعلها كان داود (ع), فتزوج بامرأة أوريا لما قتل وانقضت عدتها منه, فذلك الذي شق على الناس من قبل أوريا, وأما محمد (ص), وقول الله عز وجل: {وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} فإن الله عز وجل عرف نبيه (ص) أسماء أزواجه في دار الدنيا, وأسماء أزواجه في دار الآخرة, وأنهن أمهات المؤمنين, وإحداهن من سمي له زينب بنت جحش, وهي يومئذ تحت زيد بن حارثة, فأخفى اسمها في نفسه ولم يبده لكيلا يقول أحد من المنافقين إنه قال في امرأة في بيت رجل إنها إحدى أزواجه من أمهات المؤمنين, وخشي قول المنافقين, فقال الله عز وجل: {وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} يعني في نفسك, وإن الله عز وجل ما تولى تزويج أحد من خلقه إلا تزويج حواء من آدم (ع), وزينب من رسول الله (ص) بقوله: {فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها} الآية, وفاطمة من علي (ع), قال: فبكى علي بن محمد بن الجهم, فقال: يا ابن رسول الله, أنا تائب إلى الله عز وجل من أن أنطق في أنبياء الله (ع) بعد يومي هذا إلا بما ذكرته. (2)
---------
(1) العلامة المجلسي في البحار: بيان: قوله (ع) وكانت المعصية من آدم في الجنة ظاهره, يوهم تجويز الخطيئة عليه على بعض الجهات, إما لأنها كانت في الجنة وإنما تجب عصمتهم في الدنيا أو لأنها كانت قبل البعثة, وإنما تجب عصمتهم بعد النبوة, وكلاهما خلاف ما أجمعت عليه الإمامية رضوان الله عليهم من وجوب عصمتهم على جميع الأحوال, ودلت عليه الأخبار المستفيضة على ما سيأتي في هذا الكتاب, وكتاب الإمامة وغيرهما, فيمكن أن يحمل كلامه (ع) على أن المراد بالخطيئة ارتكاب المكروه, ويكونون بعد البعثة معصومين عن مثلها أيضا, ويكون ذكر الجنة لبيان كون النهي تنزيهيا وإرشاديا, إذ لم تكن دار تكليف حتى يتصور فيها النهي التحريمي, ويحتمل أن يكون إيراد الكلام على هذا النحو لنوع من التقية, مماشاة مع العامة لموافقة بعض أقوالهم, كما سنشير إليه, أو على سبيل التنزل والاستظهار ردا على من جوز الذنب مطلقا عليهم صلوات الله عليهم.
(2) الأمالي للصدوق ص 90, عيون أخبار الرضا (ع) ج 1 ص 192, بحار الأنوار ج 11 ص 72, قصص الأنبياء (ع) للجزائري ص11, البرهان ج 4 ص 471 باختصار
تحقيق مركز سيد الشهداء (ع) للبحوث الإسلامية
* في فضائل الأئمة عليهم السلام
عن الحسن بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون يوما, وعنده علي بن موسى الرضا (ع), وقد اجتمع الفقهاء وأهل الكلام من الفرق المختلفة, فسأله بعضهم فقال له: يا ابن رسول الله, بأي شيء تصح الإمامة لمدعيها؟ قال (ع): بالنص والدليل, قال له: فدلالة الإمام فيما هي؟ قال (ع): في العلم واستجابة الدعوة, قال: فما وجه إخباركم بما يكون؟ قال (ع): ذلك بعهد معهود إلينا من رسول الله (ص), قال: فما وجه إخباركم بما في قلوب الناس؟ قال (ع) له: أما بلغك قول الرسول (ص): اتقوا فراسة المؤمن, فإنه ينظر بنور الله, قال: بلى, قال (ع): وما من مؤمن إلا وله فراسة ينظر بنور الله على قدر إيمانه, ومبلغ استبصاره وعلمه, وقد جمع الله للأئمة منا ما فرقه في جميع المؤمنين, وقال عز وجل في محكم كتابه: {إن في ذلك لآيات للمتوسمين} فأول المتوسمين رسول الله (ص) ثم أمير المؤمنين (ع) من بعده ثم الحسن والحسين والأئمة من ولد الحسين (ع) إلى يوم القيامة, (1) قال: فنظر إليه المأمون فقال له: يا أبا الحسن, زدنا مما جعل الله لكم أهل البيت؟ فقال الرضا (ع): إن الله عز وجل قد أيدنا بروح منه مقدسة مطهرة ليست بملك, لم تكن مع أحد ممن مضى إلا مع رسول الله (ص), وهي مع الأئمة منا تسددهم وتوفقهم, وهو عمود من نور بيننا وبين الله عز وجل, (2) قال له المأمون: يا أبا الحسن, بلغني أن قوما يغلون فيكم, ويتجاوزون فيكم الحد, فقال الرضا (ع): حدثني أبي موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي عن أبيه علي بن أبي طالب (ع) قال: قال رسول الله (ص): لا ترفعوني فوق حقي, فإن الله تبارك تعالى اتخذني عبدا قبل أن يتخذني نبيا, قال الله تبارك وتعالى: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} قال علي (ع): يهلك في اثنان ولا ذنب لي, محب مفرط ومبغض مفرط, وأنا أبرأ إلى الله تبارك وتعالى ممن يغلو فينا ويرفعنا فوق حدنا, كبراءة عيسى ابن مريم (ع) من النصارى, قال الله تعالى: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد} وقال عز وجل: {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون} وقال عز وجل: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام} ومعناه أنهما كانا يتغوطان, فمن ادعى للأنبياء ربوبية, وادعى للأئمة ربوبية أو نبوة أو لغير الأئمة إمامة فنحن منه برءاء في الدنيا والآخرة, فقال المأمون: يا أبا الحسن, فما تقول في الرجعة؟ فقال الرضا (ع): إنها لحق قد كانت في الأمم السالفة, ونطق به القرآن, وقد قال رسول الله (ص): يكون في هذه الأمة كل ما كان في الأمم السالفة, حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة, قال (ع): إذا خرج المهدي (ع) من ولدي, نزل عيسى ابن مريم (ع) فصلى خلفه, وقال (ع): إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء, قيل: يا رسول الله, ثم يكون ماذا؟ قال (ص): ثم يرجع الحق إلى أهله, فقال المأمون: يا أبا الحسن, فما تقول في القائلين بالتناسخ؟ فقال الرضا (ع): من قال بالتناسخ فهو كافر بالله العظيم, مكذب بالجنة والنار, قال المأمون: ما تقول في المسوخ؟ قال الرضا (ع): أولئك قوم غضب الله عليهم فمسخهم فعاشوا ثلاثة أيام ثم ماتوا, ولم يتناسلوا فما يوجد في الدنيا من القردة والخنازير وغير ذلك مما وقع عليهم اسم المسوخية, فهو مثل ما لا يحل أكلها والانتفاع بها, قال المأمون: لا أبقاني الله بعدك يا أبا الحسن, فوالله ما يوجد العلم الصحيح إلا عند أهل هذا البيت (ع) وإليك انتهت علوم آبائك, فجزاك الله عن الإسلام وأهله خيرا, قال الحسن بن جهم: فلما قام الرضا (ع) تبعته فانصرف إلى منزله, فدخلت عليه وقلت له: يا ابن رسول الله, الحمد لله الذي وهب لك من جميل رأي أمير المؤمنين ما حمله على ما أرى من إكرامه لك, وقبوله لقولك, فقال (ع): يا ابن الجهم, لا يغرنك ما ألفيته عليه من إكرامي والاستماع مني, فإنه سيقتلني بالسم وهو ظالم إلي, أن أعرف ذلك بعهد معهود إلي من آبائي (ع) عن رسول الله (ص), فاكتم هذا ما دمت حيا, قال الحسن بن الجهم: فما حدثت أحدا بهذا الحديث إلى أن مضى (ع) بطوس مقتولا بالسم, ودفن في دار حميد بن قحطبة الطائي في القبة, التي فيها قبر هارون الرشيد إلى جانبه. (3)
---------------
(1) إلى هنا في البرهان
(2) إلى هنا في إثبات الهداة وتفسير كنز الدقائق
(3) عيون أخبار الرضا (ع) ج 2 ص 200, حلية الأبرار ج 4 ص 345, مدينة المعاجز ج 7 ص 151, بحار الأنوار ج 25 ص 134, إثبات الهداة ج 5 ص 344, البرهان ج 3 ص 379, تفسير كنز الدقائق ج 7 ص 150
تحقيق مركز سيد الشهداء (ع) للبحوث الإسلامية
روي أنه: لما سار المأمون إلى خراسان وكان معه الرضا علي بن موسى (ع), فبينا هما يسيران إذ قال له المأمون: يا أبا الحسن, إني فكرت في شيء فنتج لي الفكر الصواب فيه, فكرت في أمرنا وأمركم, ونسبنا ونسبكم, فوجدت الفضيلة فيه واحدة, ورأيت اختلاف شيعتنا في ذلك محمولا على الهوى والعصبية, فقال له أبو الحسن (ع): إن لهذا الكلام جوابا إن شئت ذكرته لك, وإن شئت أمسكت, فقال له المأمون: إني لم أقله إلا لأعلم ما عندك فيه, قال له الرضا (ع): أنشدك الله يا أمير المؤمنين, لو أن الله بعث نبيه محمدا (ص), فخرج علينا من وراء أكمة من هذه الآكام, يخطب إليك ابنتك كنت مزوجه إياها؟ فقال: يا سبحان الله, وهل يرغب أحد عن رسول الله (ص) فقال له الرضا (ع): أفتراه كان يحل له أن يخطب إلي, قال: فسكت المأمون هنيئة ثم قال: أنتم والله أمس برسول الله (ص) رحما.
--------------
الفصول المختارة ص 37, كنز الفوائد ج 1 ص 356, بحار الأنوار ج 10 ص 349
تحقيق مركز سيد الشهداء (ع) للبحوث الإسلامية
قال المأمون يوما للرضا (ع) أخبرني بأكبر فضيلة لأمير المؤمنين (ع) يدل عليها القرآن، قال: فقال له الرضا (ع): فضيلة في المباهلة، قال الله جل جلاله: {فمن حاجك فيه من بعدما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين} فدعا رسول الله (ص) الحسن والحسين (ع) فكانا ابنيه، ودعا فاطمة (ع) فكانت في هذا الموضع نساؤه، ودعا أمير المؤمنين (ع) فكان نفسه بحكم الله عز وجل، فقد ثبت أنه ليس أحد من خلق الله تعالى أجل من رسول الله (ص) وأفضل، فوجب أن لا يكون أحد أفضل من نفس رسول الله (ص) بحكم الله تعالى. قال: فقال له المأمون: أليس قد ذكر الله تعالى الأبناء بلفظ الجمع وإنما دعا رسول الله ابنيه خاصة؟ وذكر النساء بلفظ الجمع وإنما دعا رسول الله (ص) ابنته وحدها؟ فألا جاز أن يذكر الدعاء لمن هو نفسه، ويكون المراد نفسه في الحقيقة دون غيره فلا يكون لأمير المؤمنين (ع) ما ذكرت من الفضل؟ قال: فقال له الرضا (ع): ليس يصح ما ذكرت يا أمير المؤمنين، وذلك أن الداعي إنما يكون داعيا لغيره، كما أن الآمر آمر لغيره، ولا يصح أن يكون داعيا لنفسه في الحقيقة، كمالا يكون آمرا لها في الحقيقة، وإذا لم يدع رسول الله (ص) رجلا في المباهلة إلا أمير المؤمنين (ع) فقد ثبت أنه نفسه التي عناها الله سبحانه في كتابه وجعل حكمه ذلك في تنزيله، قال: فقال المأمون: إذا ورد الجواب سقط السؤال.
----------------
الفصول المختارة ص 38, بحار الأنوار ج 10 ص 350
تحقيق مركز سيد الشهداء (ع) للبحوث الإسلامية
قال الآبي: أدخل رجل إلى المأمون أراد ضرب رقبته والرضا (ع) حاضر, فقال المأمون: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال (ع): أقول إن الله لا يزيدك بحسن العفو إلا عزا, فعفا عنه, وقال المأمون: يا أبا الحسن, أخبرني عن جدك علي بن أبي طالب (ع) بأي وجه هو قسيم الجنة والنار؟ فقال (ع): يا أمير المؤمنين, ألم ترو عن أبيك عن آبائه, عن عبد الله بن عباس أنه قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: حب علي إيمان وبغضه كفر, فقال: بلى, قال الرضا (ع): فقسم الجنة والنار, فقال المأمون: لا أبقاني الله بعدك يا أبا الحسن, أشهد أنك وارث علم رسول الله (ص). قال أبو الصلت الهروي: فلما رجع الرضا (ع) إلى منزله, أتيته فقلت: يا ابن رسول الله, ما أحسن ما أجبت به أمير المؤمنين, فقال (ع): يا أبا الصلت, أنا كلمته من حيث هو, ولقد سمعت أبي يحدث عن آبائه عن علي (ع) قال: قال لي رسول الله (ص): يا علي, أنت قسيم الجنة والنار يوم القيامة, تقول للنار: هذا لي, وهذا لك.
--------------
بحار الأنوار ج 49 ص 172
تحقيق مركز سيد الشهداء (ع) للبحوث الإسلامية
* اصطفاء الأئمة عليهم السلام
لما حضر علي بن موسى (ع) مجلس المأمون, وقد اجتمع فيه جماعة علماء أهل العراق وخراسان, فقال المأمون: أخبروني عن معنى هذه الآية: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} الآية, فقالت العلماء: أراد الله الأمة كلها, فقال المأمون: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال الرضا (ع): لا أقول كما قالوا, ولكن أقول: أراد الله تبارك وتعالى بذلك العترة الطاهرة (ع) فقال المأمون: وكيف عنى العترة دون الأمة؟ فقال الرضا (ع): لو أراد الأمة لكانت بأجمعها في الجنة, لقول الله: {فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير} ثم جعلهم كلهم في الجنة, فقال عز وجل: {جنات عدن يدخلونها} فصارت الوراثة للعترة الطاهرة لا لغيرهم, ثم قال الرضا (ع): هم الذين وصفهم الله في كتابه فقال: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} وهم الذين قال رسول الله (ص): إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي, لن يفترقا حتى يردا علي الحوض, انظروا كيف تخلفوني فيهما, يا أيها الناس, لا تعلموهم فإنهم أعلم منكم, قالت العلماء: أخبرنا يا أبا الحسن عن العترة, هم الآل أو غير الآل؟ فقال الرضا (ع): هم الآل, فقالت العلماء: فهذا رسول الله (ص) يؤثر عنه أنه قال: أمتي آلي وهؤلاء أصحابه يقولون بالخبر المستفيض الذي لا يمكن دفعه آل محمد أمته, فقال الرضا (ع): أخبروني هل تحرم الصدقة على آل محمد؟ قالوا: نعم, قال (ع): فتحرم على الأمة؟ قالوا: لا, قال (ع): هذا فرق بين الآل وبين الأمة, ويحكم, أين يذهب بكم أصرفتم عن الذكر صفحا أم أنتم قوم مسرفون, أما علمتم أنما وقعت الرواية في الظاهر على المصطفين المهتدين دون سائرهم, قالوا: من أين؟ قلت: يا أبا الحسن, قال (ع): من قول الله {لقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون} فصارت وراثة النبوة والكتاب في المهتدين دون الفاسقين, أما علمتم أن نوحا سأل ربه: {فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق} وذلك أن الله وعده أن ينجيه وأهله, فقال له ربه تبارك وتعالى: {إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسئلن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين} (1) فقال المأمون: فهل فضل الله العترة على سائر الناس؟ فقال الرضا (ع): إن الله العزيز الجبار فضل العترة على سائر الناس في محكم كتابه, قال المأمون: أين ذلك من كتاب الله؟ قال الرضا (ع): في قوله تعالى: {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض} وقال الله في موضع آخر: {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما} ثم رد المخاطبة في أثر هذا إلى سائر المؤمنين فقال: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} يعني الذين أورثهم الكتاب والحكمة وحسدوا عليهما, بقوله: {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما} يعني الطاعة للمصطفين الطاهرين, والملك هاهنا الطاعة لهم, قالت العلماء: هل فسر الله تعالى الاصطفاء في الكتاب؟ فقال الرضا (ع): فسر الاصطفاء في الظاهر سوى الباطن في اثني عشر موضعا, فأول ذلك قول الله: {وأنذر عشيرتك الأقربين} ورهطك المخلصين, هكذا في قراءة أبي بن كعب, وهي ثابتة في مصحف عبد الله بن مسعود, فلما أمر عثمان زيد بن ثابت أن يجمع القرآن خنس هذه الآية, وهذه منزلة رفيعة, وفضل عظيم وشرف عال, حين عنى الله عز وجل بذلك الآل, فهذه واحدة والآية الثانية في الاصطفاء قول الله: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} وهذا الفضل الذي لا يجحده معاند لأنه فضل بين, والآية الثالثة, حين ميز الله الطاهرين من خلقه أمر نبيه في آية الابتهال فقال: {فقل} يا محمد {تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين} فأبرز النبي (ص) عليا والحسن والحسين وفاطمة (ع), فقرن أنفسهم بنفسه, فهل تدرون ما معنى قوله: {وأنفسنا وأنفسكم} قالت العلماء: عنى به نفسه, قال أبو الحسن (ع): غلطتم, إنما عنى به عليا (ع), ومما يدل على ذلك قول النبي (ص) حين قال: لينتهين بنو وليعة, أو لأبعثن إليهم رجلا كنفسي, يعني عليا (ع) فهذه خصوصية لا يتقدمها أحد, وفضل لا يختلف فيه بشر, وشرف لا يسبقه إليه خلق, إذ جعل نفس علي (ع) كنفسه, فهذه الثالثة, وأما الرابعة فإخراجه الناس من مسجده ما خلا العترة, حين تكلم الناس في ذلك وتكلم العباس فقال: يا رسول الله, تركت عليا وأخرجتنا؟ فقال رسول الله (ص): ما أنا تركته وأخرجتكم, ولكن الله تركه وأخرجكم, وفي هذا بيان قوله لعلي (ع): أنت مني بمنزلة هارون من موسى, قالت العلماء: فأين هذا من القرآن؟ قال أبو الحسن (ع): أوجدكم في ذلك قرآنا أقرؤه عليكم, قالوا: هات, قال (ع): قول الله عز وجل: {وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة} ففي هذه الآية منزلة هارون من موسى, وفيها أيضا منزلة علي (ع) من رسول الله (ص), ومع هذا دليل ظاهر في قول رسول الله (ص) حين قال: إن هذا المسجد لا يحل لجنب, ولا لحائض, إلا لمحمد وآل محمد (ع) فقالت العلماء: هذا الشرح وهذا البيان لا يوجد إلا عندكم معشر أهل بيت رسول الله (ص) قال أبو الحسن (ع): ومن ينكر لنا ذلك ورسول الله (ص) يقول: أنا مدينة العلم وعلي بابها, فمن أراد مدينة العلم فليأتها من بابها, ففيما أوضحنا وشرحنا من الفضل والشرف والتقدمة والاصطفاء والطهارة, ما لا ينكره إلا معاند ولله عز وجل الحمد على ذلك, فهذه الرابعة, وأما الخامسة فقول الله عز وجل: {وآت ذا القربى حقه} خصوصية خصهم الله العزيز الجبار بها, واصطفاهم على الأمة, فلما نزلت هذه الآية على رسول الله (ص) قال: ادعوا لي فاطمة (ع) فدعوها له, فقال: يا فاطمة, قالت (ع): لبيك يا رسول الله, فقال: إن فدك لم يوجف عليها ب {خيل ولا ركاب} وهي لي خاصة دون المسلمين, وقد جعلتها لك لما أمرني الله به, فخذيها لك ولولدك, فهذه الخامسة, وأما السادسة فقول الله عز وجل: {قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} فهذه خصوصية للنبي (ص) دون الأنبياء, وخصوصية للآل دون غيرهم, وذلك أن الله حكى عن الأنبياء في ذكر نوح (ع): {يا قوم لا أسئلكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون} وحكى عن هود (ع) قال: {... لا أسئلكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون} وقال لنبيه (ص): {قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} ولم يفرض الله مودتهم إلا وقد علم أنهم لا يرتدون عن الدين أبدا, ولا يرجعون إلى ضلالة أبدا, وأخرى أن يكون الرجل وادا للرجل فيكون بعض أهل بيته عدوا له فلا يسلم قلب, فأحب الله أن لا يكون في قلب رسول الله (ص) على المؤمنين شيء, إذ فرض عليهم مودة ذي القربى, فمن أخذ بها وأحب رسول الله (ص) وأحب أهل بيته (ع) لم يستطع رسول الله أن يبغضه, ومن تركها ولم يأخذ بها, وأبغض أهل بيت نبيه (ص) فعلى رسول الله (ص) أن يبغضه, لأنه قد ترك فريضة من فرائض الله, وأي فضيلة وأي شرف يتقدم هذا, ولما أنزل الله هذه الآية على نبيه (ص): {قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} قام رسول الله (ص) في أصحابه: فحمد الله وأثنى عليه, وقال: أيها الناس, إن الله قد فرض عليكم فرضا فهل أنتم مؤدوه؟ فلم يجبه أحد, فقام فيهم يوما ثانيا فقال: مثل ذلك فلم يجبه أحد, فقام فيهم يوم الثالث فقال: أيها الناس, إن الله قد فرض عليكم فرضا فهل أنتم مؤدوه؟ فلم يجبه أحد, فقال: أيها الناس, إنه ليس ذهبا ولا فضة ولا مأكولا ولا مشروبا, قالوا: فهات إذا, فتلا عليهم هذه الآية, فقالوا: أما هذا فنعم, فما وفى به أكثرهم, ثم قال أبو الحسن (ع): حدثني أبي عن جدي عن آبائه عن الحسين بن علي (ع) قال: اجتمع المهاجرون والأنصار إلى رسول الله (ص) فقالوا: إن لك يا رسول الله مئونة في نفقتك, وفيمن يأتيك من الوفود, وهذه أموالنا مع دمائنا فاحكم فيها بارا مأجورا, أعط ما شئت وأمسك ما شئت من غير حرج, فأنزل الله عز وجل عليه الروح الأمين فقال: يا محمد, {قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} لا تؤذوا قرابتي من بعدي, فخرجوا فقال أناس منهم: ما حمل رسول الله (ص) على ترك ما عرضنا عليه إلا ليحثنا على قرابته من بعده, إن هو إلا شيء افتراه في مجلسه, وكان ذلك من قولهم عظيما, فأنزل الله هذه الآية: {أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم} فبعث إليهم النبي (ص) فقال: هل من حدث؟ فقالوا: إي والله يا رسول الله, لقد تكلم بعضنا كلاما عظيما فكرهناه, فتلا عليهم رسول الله (ص) فبكوا واشتد بكاؤهم, فأنزل الله تعالى: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات ويعلم ما تفعلون} فهذه السادسة, وأما السابعة فيقول الله: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} وقد علم المعاندون منهم, أنه لما نزلت هذه الآية قيل: يا رسول الله, قد عرفنا التسليم عليك فكيف الصلاة عليك؟ فقال (ص): تقولون: اللهم صل على محمد وآل محمد, كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم, إنك حميد مجيد, وهل بينكم معاشر الناس في هذا اختلاف؟ قالوا: لا, فقال المأمون: هذا ما لا اختلاف فيه أصلا وعليه الإجماع, فهل عندك في الآل شيء أوضح من هذا في القرآن؟ قال أبو الحسن (ع): أخبروني عن قول الله: {يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم} فمن عنى بقوله: {يس} قال العلماء: يس محمد ليس فيه شك, قال أبو الحسن (ع): أعطى الله محمدا وآل محمد من ذلك فضلا, لم يبلغ أحد كنه وصفه لمن عقله, وذلك أن الله لم يسلم على أحد إلا على الأنبياء (ع) فقال تبارك وتعالى: {سلام على نوح في العالمين} وقال: {سلام على إبراهيم} وقال: {سلام على موسى وهارون} ولم يقل: سلام على آل نوح, ولم يقل سلام على آل إبراهيم, ولا قال سلام على آل موسى وهارون, وقال عز وجل: {سلام على آل ياسين} يعني آل محمد (ص) فقال المأمون: لقد علمت أن في معدن النبوة شرح هذا وبيانه, فهذه السابعة, وأما الثامنة فقول الله عز وجل: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى} فقرن سهم ذي القربى مع سهمه, وسهم رسوله (ص) فهذا فصل بين الآل والأمة, لأن الله جعلهم في حيز وجعل الناس كلهم في حيز دون ذلك, ورضي لهم ما رضي لنفسه, واصطفاهم فيه وابتدأ بنفسه, ثم ثنى برسوله, ثم بذي القربى في كل ما كان من الفيء والغنيمة وغير ذلك مما رضيه عز وجل لنفسه ورضيه لهم, فقال: وقوله الحق: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى} فهذا توكيد مؤكد وأمر دائم لهم إلى يوم القيامة في كتاب الله الناطق الذي: {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} وأما قوله: {واليتامى والمساكين} فإن اليتيم إذا انقطع يتمه خرج من المغانم ولم يكن له نصيب, وكذلك المسكين إذا انقطعت مسكنته لم يكن له نصيب في المغنم, ولا يحل له أخذه, وسهم ذي القربى إلى يوم القيامة قائم فيهم للغني والفقير, لأنه لا أحد أغنى من الله ولا من رسوله (ص), فجعل لنفسه منها سهما, ولرسوله (ص) سهما, فما رضي لنفسه ولرسوله رضيه لهم, وكذلك الفيء ما رضيه لنفسه ولنبيه (ص) رضيه لذي القربى, كما جاز لهم في الغنيمة فبدأ بنفسه, ثم برسوله (ص), ثم بهم, وقرن سهمهم بسهم الله وسهم رسوله (ص), وكذلك في الطاعة قال عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} فبدأ بنفسه, ثم برسوله (ص) ثم بأهل بيته (ع), وكذلك آية الولاية: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا} فجعل ولايتهم مع طاعة الرسول (ص) مقرونة بطاعته, كما جعل سهمه مع سهم الرسول (ص) مقرونا بأسهمهم في الغنيمة والفيء, فتبارك الله ما أعظم نعمته على أهل هذا البيت, فلما جاءت قصة الصدقة نزه نفسه عز ذكره, ونزه رسوله (ص), ونزه أهل بيته (ع) عنها, فقال: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله} فهل تجد في شيء من ذلك أنه جعل لنفسه سهما, أو لرسوله (ص), أو لذي القربى لأنه لما نزههم عن الصدقة, نزه نفسه ونزه رسوله ونزه أهل بيته, لا بل حرم عليهم لأن الصدقة محرمة على محمد وأهل بيته (ع) وهي أوساخ الناس, لا تحل لهم لأنهم طهروا من كل دنس ووسخ, فلما طهرهم واصطفاهم رضي لهم ما رضي لنفسه, وكره لهم ما كره لنفسه, وأما التاسعة, فنحن أهل الذكر الذين قال الله في محكم كتابه: {فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} قال العلماء: إنما عنى بذلك اليهود والنصارى, قال أبو الحسن (ع): وهل يجوز ذلك, إذا يدعونا إلى دينهم ويقولون: إنه أفضل من دين الإسلام, فقال المأمون: فهل عندك في ذلك شرح يخالف ما قالوا يا أبا الحسن؟ قال (ع): نعم, الذكر رسول الله (ص) ونحن أهله, وذلك بين في كتاب الله بقوله في سورة الطلاق: {فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلوا عليكم آيات الله مبينات} فالذكر رسول الله (ص) ونحن أهله, فهذه التاسعة, وأما العاشرة فقول الله عز وجل في آية التحريم: {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم} إلى آخرها, أخبروني, هل تصلح ابنتي أو ابنة ابني, أو ما تناسل من صلبي لرسول الله (ص) أن يتزوجها, لو كان حيا؟ قالوا: لا, قال (ع): فأخبروني هل كانت ابنة أحدكم تصلح له أن يتزوجها؟ قالوا: بلى, قال: فقال (ع): ففي هذا بيان أنا من آله, ولستم من آله, ولو كنتم من آله لحرمت عليه بناتكم, كما حرمت عليه بناتي, لأنا من آله وأنتم من أمته, فهذا فرق بين الآل والأمة, لأن الآل منه والأمة إذا لم تكن الآل فليست منه, فهذه العاشرة, وأما الحادية عشر فقوله في سورة المؤمن حكاية عن قول رجل: {وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم} الآية, وكان ابن خال فرعون فنسبه إلى فرعون بنسبه, ولم يضفه إليه بدينه, وكذلك خصصنا نحن إذ كنا من آل رسول الله (ص) بولادتنا منه, وعممنا الناس بدينه, فهذا فرق ما بين الآل والأمة, فهذه الحادية عشر, وأما الثانية عشر فقوله: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} فخصنا بهذه الخصوصية, إذ أمرنا مع أمره ثم خصنا دون الأمة, فكان رسول الله (ص) يجيء إلى باب علي وفاطمة (ع) بعد نزول هذه الآية تسعة أشهر في كل يوم عند حضور كل صلاة خمس مرات, فيقول: الصلاة يرحمكم الله, وما أكرم الله أحدا من ذراري الأنبياء بهذه الكرامة التي أكرمنا الله بها, وخصنا من جميع أهل بيته, فهذا فرق ما بين الآل والأمة, {والحمد لله رب العالمين} وصلى الله على محمد نبيه. (2)
----------------
(1) إلى هنا في البرهان
(2) تحف العقول ص 425, الأمالي للصدوق ص 522, بحار الأنوار ج 25 ص 220, البرهان ج 4 ص 548
تحقيق مركز سيد الشهداء (ع) للبحوث الإسلامية
* إثبات الإمامة وفضل الإمام
عن عبد العزيز بن مسلم قال: كنا مع الرضا (ع) بمرو فاجتمعنا في الجامع يوم الجمعة في بدء مقدمنا فأداروا أمر الامامة وذكروا كثرة أختلاف الناس فيها, فدخلت على سيدي (ع) فأعلمته خوض الناس فيه, فتبسم (ع) ثم قال: يا عبد العزيز جهل القوم وخدعوا عن آرائهم, إن الله عز وجل لم يقبض نبيه (ص) حتى أكمل له الدين وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كل شيء, بين فيه الحلال والحرام, والحدود والاحكام, وجميع ما يحتاج إليه الناس كاملاً, فقال عز وجل: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} وأنزل في حجة الوداع وهي آخر عمره (ص): {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا} وأمر الامامة من تمام الدين, ولم يمض (ص) حتى بين لأمته معالم دينهم وأوضح لهم سبيلهم وتركهم على قصد سبيل الحق, وأقام لهم علياً (ع) علماً وإمام وما ترك لهم شيئاً تحتاج إليه الأمة إلا بيَّنه, فمن زعم أن الله عز وجل لم يُكمل دينه فقد رد كتاب الله, ومن رد كتاب الله فهو كافر به. هل يعرفون قدر الامامة ومحلها من الامة فيجوز فيها اختيارهم! إن الامامة أجلُّ قدراً وأعظم شأناً وأعلا مكاناً وأمنع جانباً وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بعقولهم, أو ينالوها بآرائهم, أو يقيموا إماماً باختيارهم, إن الامامة خص الله عز وجل بها إبراهيم الخليل (ع) بعد النبوة والخلة مرتبة ثالثة, وفضيلة شرَّفه بها وأشاد بها ذكره, فقال: {إني جاعلك للناس إماماً} فقال الخليل (ع) سروراً بها: {ومن ذريتي} قال الله تبارك وتعالى: {لا ينال عهدي الظالمين} فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة وصارت في الصفوة ثم أكرمه الله تعالى بأن جعلها في ذريته أهل الصفوة والطهارة فقال: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين} فلم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرناً فقرناً حتى ورَّثها الله تعالى النبي (ص), فقال جل وتعالى: {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين} فكانت له خاصة فقلدها (ص) علياً (ع) بأمر الله تعالى على رسم ما فرض الله, فصارت في ذريته الاصفياء الذين آتاهم الله العلم والايمان, بقوله تعالى: {قال الذين اوتوا العلم والايمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث} فهي في ولد علي (ع) خاصة إلى يوم القيامة, إذ لا نبي بعد محمد (ص) فمن أين يختار هؤلاء الجهال؟! إن الامامة هي منزلة الانبياء, وإرث الاوصياء, إن الامامة خلافة الله وخلافة الرسول (ص) ومقام أمير المؤمنين (ع) وميراث الحسن والحسين (ع) إن الامامة زمام الدين, ونظام المسلمين, وصلاح الدنيا وعز المؤمنين, إن الامامة أسُّ الاسلام النامي, وفرعه السامي, بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد, وتوفير الفيء والصدقات, وإمضاء الحدود والاحكام, ومنع الثغور والاطراف. الامام يحل حلال الله, ويحرم حرام الله, ويقيم حدود الله, ويذب عن دين الله, ويدعو إلى سبيل ربه {بالحكمة والموعظة الحسنة} والحجة البالغة, الامام كالشمس الطالعة المجللة بنورها للعالم وهي في الافق بحيث لا تنالها الايدي والابصار. الامام البدر المنير, والسراج الزاهر, والنور الساطع, والنجم الهادي في غياهب الدجى وأجواز البلدان والقفار, ولجج البحار, الامام الماء العذب على الظماء والدال على الهدى, والمنجي من الردى, الامام النار على اليفاع, الحار لمن اصطلى به والدليل في المهالك, من فارقه فهالك, الامام السحاب الماطر, والغيث الهاطل ووالشمس المضيئة, والسماء الظليلة, والارض البسيطة, والعين الغزيرة, والغدير والروضة, الامام الانيس الرفيق, والوالد الشفيق, والاخ الشقيق, والام البرة بالولد الصغير, ومفزع العباد في الداهية النآد الامام أمين الله في خلقه, وحجته على عباده، وخليفته في بلاده, والداعي إلى الله, والذاب عن حرم الله, الامام المطهر من الذنوب والمبرأ عن العيوب, المخصوص بالعلم, المرسوم بالحلم, نظام الدين, وعز المسلمين وغيظ المنافقين, وبوار الكافرين. الامام واحد دهره, لا يدانيه أحد, ولا يعادله عالم, ولا يوجد منه بدل ولا له مثل ولا نظير, مخصوص بالفضل كله من غير طلب منه له ولا اكتساب, بل اختصاص من المفضل الوهاب. فمن ذا الذي يبلغ معرفة الامام, أو يمكنه اختياره, هيهات هيهات, ضلت العقول, وتاهت الحلوم, وحارت الالباب, وخسئت العيون وتصاغرت العظماء, وتحيرت الحكماء, وتقاصرت الحلماء, وحصرت الخطباء, وجهلت الالباء, وكلت الشعراء, وعجزت الادباء, وعييت البلغاء, عن وصف شأن من شأنه, أو فضيلة من فضائله, وأقرت بالعجز والتقصير, وكيف يُوصف بكله, أو يُنعت بكنهه, أو يُفهم شيء من أمره, أو يوجد من يقوم مقامه ويغني غناه, لا كيف وأنى؟! وهو بحيث النجم من يد المتناولين, ووصف الواصفين, فأين الاختيار من هذا؟! وأين العقول عن هذا؟! وأين يوجد مثل هذا؟! أتظنون أن ذلك يوجد في غير آل الرسول محمد (ص) كذَّبتهم والله أنفسهم, ومنَّتهم الاباطيل فارتقوا مرتقاً صعباً دحضاً, تزلُّ عنه إلى الحضيض أقدامهم, راموا إقامة الامام بعقول حائرة بائرة ناقصة, وآراء مضلة, فلم يزدادوا منه إلا بعداً, {قاتلهم الله أنى يؤفكون} ولقد راموا صعباً, وقالوا إفكاً, وضلوا ضلالاً بعيداً, ووقعوا في الحيرة, إذ تركوا الامام عن بصيرة, وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين, رغبوا عن اختيار الله واختيار رسول الله (ص) وأهل بيته إلى اختيارهم والقرآن يناديهم: {وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون} وقال عز وجل: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} الآية وقال: {ما لكم كيف تحكمون أم لكم كتاب فيه تدرسون إن لكم فيه لما تخيرون أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون سلهم أيهم بذلك زعيم أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين} وقال عز وجل: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} أم طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون أم {قالوا سمعنا وهم لا يسمعون إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} أم {قالوا سمعنا وعصينا} بل هو {فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم}, فكيف لهم باختيار الامام؟ والامام عالم لا يَجهل, وراع لا ينكل, معدن القدس والطهارة, والنسك والزهادة, والعلم والعبادة, مخصوص بدعوة الرسول (ص) ونسل المطهرة البتول, لا مغمز فيه في نسب, ولا يدانيه ذو حسب, في البيت من قريش والذروة من هاشم, والعترة من الرسول (ص) والرضا من الله عز وجل, شرف الاشراف, والفرع من عبد مناف, نامي العلم, كامل الحلم, مضطلع بالامامة, عالم بالسياسة, مفروض الطاعة, قائم بأمر الله عز وجل, ناصح لعباد الله, حافظ لدين الله. إن الانبياء والائمة صلوات الله عليهم يوفقهم الله ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمه ما لا يؤتيه غيرهم, فيكون علمهم فوق علم أهل الزمان في قوله تعالى: {أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يُهدى فمالكم كيف تحكمون} وقوله تبارك وتعالى: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيراً} وقوله في طالوت: {إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم} وقال لنبيه (ص): {أنزل عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً} وقال في الائمة من أهل بيت نبيه وعترته وذريته صلوات الله عليهم: {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيراً}. وإن العبد إذا اختاره الله عز وجل لأمور عباده, شرح صدره لذلك, وأودع قلبه ينابيع الحكمة, وألهمه العلم إلهاماً, فلم يعي بعده بجواب, ولا يحير فيه عن الصواب, فهو معصوم مؤيد, موفق مسدد, قد أمن من الخطايا والزلل والعثار, يخصه الله بذلك ليكون حجته على عباده, وشاهده على خلقه, و{ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم}, فهل يقدرون على مثل هذا فيختارونه! أو يكون مختارهم بهذه الصفة فيقدمونه! تعدوا وبيت الله الحق ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون, وفي كتاب الله الهدى والشفاء, فنبذوه واتبعوا أهواءهم, فذمهم الله ومقتهم وأتعسهم فقال جل وتعالى: {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين} وقال: {فتعساً لهم وأضل أعمالهم} وقال: {كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار} وصلى الله على النبي محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً.
----------------
الكافي ج 1 ص 198، تحف العقول ص 436, غيبة النعماني ص 216، عيون أخبار الرضا (ع) ج 1 ص 216، كمال الدين ج 2 ص 675، معاني الأخبار ص 96, الوافي ج 3 ص 480, البرهان ج 1 ص 322, بحار الأنوار ج 25 ص 120
تحقيق مركز سيد الشهداء (ع) للبحوث الإسلامية
* إثبات الإمامة
عن أحمد الطوسي عن أشياخه في حديث, أنه انتدب للرضا (ع) قوم يناظرون في الإمامة عند المأمون, فأذن لهم فاختاروا يحيى بن الضحاك السمرقندي فقال (ع): سل يا يحيى, فقال يحيى: بل سل أنت يا ابن رسول الله, لتشرفني بذلك, فقال (ع): يا يحيى, ما تقول في رجل ادعى الصدق لنفسه, وكذب الصادقين, أيكون صادقا محقا في دينه أم كاذبا, فلم يحر جوابا ساعة, فقال المأمون: أجبه يا يحيى, فقال: قطعني يا أمير المؤمنين, فالتفت إلى الرضا (ع) فقال: ما هذه المسألة التي أقر يحيى بالانقطاع فيها؟ فقال (ع): إن زعم يحيى أنه صدق الصادقين فلا إمامة لمن شهد بالعجز على نفسه, فقال على منبر الرسول: وليتكم ولست بخيركم, والأمير خير من الرعية, وإن زعم يحيى أنه صدق الصادقين فلا إمامة لمن أقر على نفسه على منبر الرسول (ص) أن لي شيطانا يعتريني, والإمام لا يكون فيه الشيطان, وإن زعم يحيى أنه صدق الصادقين فلا إمامة لمن أقر عليه صاحبه, فقال: كانت إمامة أبي بكر فلتة, وقى الله شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه, فصاح المأمون عليهم: فتفرقوا, ثم التفت إلى بني هاشم فقال لهم: ألم أقل لكم أن لا تفاتحوه ولا تجمعوا عليه, فإن هؤلاء علمهم من علم رسول الله (ص).
---------------
مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 351, بحار الأنوار ج 10 ص 348
تحقيق مركز سيد الشهداء (ع) للبحوث الإسلامية