* في القياس:
عن محمد الصيرفي وعن عبد الرحمن بن سالم أنه دخل ابن شبرمة وأبو حنيفة على الصادق (ع), فقال لأبي حنيفة: اتق الله ولا تقس الدين برأيك فإن أول من قاس إبليس إذ أمره الله تعالى بالسجود فقال {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين}, ثم قال: هل تحسن أن تقيس رأسك من جسدك؟ قال: لا, قال: فأخبرني عن الملوحة في العينين, والمرارة في الأذنين, والبرودة في المنخرين, والعذوبة في الشفتين, لأي شيء جعل ذلك؟ قال: لا أدري, فقال (ع): إن الله تعالى خلق العينين فجعلها شحمتين وجعل الملوحة فيهما منا على بني آدم ولو لا ذلك لذابتا, وجعل المرارة في الأذنين منا منه على بني آدم ولو لا ذلك لقحمت الدواب فأكلت دماغه, وجعل الماء في المنخرين ليصعد النفس وينزل ويجد منه الريح الطيبة والرديئة, وجعل العذوبة في الشفتين ليجد ابن آدم لذة مطعمه ومشربه, ثم قال له: أخبرني عن كلمة أولها شرك, وآخرها إيمان؟ قال: لا أدري, قال: لا إله إلا الله, ثم قال: أيما أعظم عند الله تعالى القتل أو الزنا؟ فقال: بل القتل, قال: فإن الله تعالى قد رضي في القتل بشاهدين ولم يرض في الزنا إلا بأربعة؟ ثم قال: إن الشاهد على الزنا شهد على اثنين وفي القتل على واحد, لأن القتل فعل واحد والزنا فعلان, ثم قال: أيما أعظم عند الله تعالى الصوم أو الصلاة؟ قال: لا بل الصلاة, قال: فما بال المرأة إذا حاضت تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ ثم قال (ع): لأنها تخرج إلى صلاة فتداومها ولا تخرج إلى صوم, ثم قال: المرأة أضعف أم الرجل؟ قال: المرأة, قال: فما بال المرأة وهي ضعيفة لها سهم واحد والرجل قوي له سهمان؟ ثم قال: لأن الرجل يجبر على الإنفاق على المرأة ولا تجبر المرأة على الإنفاق على الرجل, ثم قال: البول أقذر أم المني؟ قال: البول, قال: يجب على قياسك أن يجب الغسل من البول دون المني وقد أوجب الله تعالى الغسل من المني دون البول, ثم قال: لأن المني اختيار ويخرج من جميع الجسد ويكون في الأيام, والبول ضرورة ويكون في اليوم مرات, قال أبو حنيفة: كيف يخرج من جميع الجسد والله يقول {يخرج من بين الصلب والترائب}؟ قال أبو عبد الله (ع): فهل قال لا يخرج من غير هذين الموضعين؟ ثم قال (ع): لم لا تحيض المرأة إذا حبلت؟ قال: لا أدري, قال (ع): حبس الله تعالى الدم فجعله غذاء للولد, ثم قال (ع): أين مقعد الكاتبين؟ قال: لا أدري, قال: مقعدهما على الناجدين, والفم الدواة, واللسان القلم, والريق المداد, ثم قال: لم يضع الرجل يده على مقدم رأسه عند المصيبة والمرأة على خدها؟ قال: لا أدري, فقال (ع): اقتداء بآدم وحواء حيث أهبطا من الجنة, اما ترى أن من شأن الرجل الاكتئاب عند المصيبة, ومن شأن المرأة رفعها رأسها إلى السماء إذا بكت, ثم قال (ع): ما ترى في رجل كان له عبد فتزوج وزوج عبده في ليلة واحدة, ثم سافرا وجعلا امرأتيهما في بيت واحد, فسقط البيت عليهم فقتل المرأتين وبقي الغلامان, أيهما في رأيك المالك وأيهما المملوك؟ وأيهما الوارث وأيهما الموروث؟ ثم قال: فما ترى في رجل أعمى فقأ عين صحيح وأقطع قطع يد رجل, كيف يقام عليهما الحد؟ ثم قال (ع): فأخبرني عن قول الله تعالى لموسى وهارون (ع) حين بعثهما إلى فرعون {لعله يتذكر أو يخشى}, لعل منك شك؟ قال: نعم, قال: وكذلك من الله شك إذ قال {لعله}, ثم قال: أخبرني عن قول الله تعالى {وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين}, أي موضع هو: قال: هو ما بين مكة والمدينة؟ قال (ع): نشدتكم بالله هل تسيرون بين مكة والمدينة لا تأمنون على دمائكم من القتل وعلى أموالكم من السرق, ثم قال: وأخبرني عن قول الله تعالى {ومن دخله كان آمنا}, أي موضع هو؟ قال: ذاك بيت الله الحرام, فقال: نشدتكم بالله هل تعلمون أن عبد الله بن الزبير وسعيد بن جبير دخلاه فلم يأمنا القتل, قال: فاعفني يا ابن رسول الله, قال: فأنت الذي تقول {سأنزل مثل ما أنزل الله}, قال: أعوذ بالله من هذا القول, قال: إذا سئلت فما تصنع؟ قال: أجيب عن الكتاب أو السنة أو الاجتهاد, قال: إذا اجتهدت من رأيك وجب على المسلمين قبوله؟ قال: نعم, قال: وكذلك وجب قبول ما أنزل الله تعالى, فكأنك قلت {سأنزل مثل ما أنزل الله} تعالى. [1]
عن محمد بن مسلم قال: دخل أبو حنيفة على أبي عبد الله (ع), فقال: إني رأيت ابنك موسى يصلي والناس يمرون بين يديه فلا ينهاهم, وفيه ما فيه, فقال أبو عبد الله (ع): ادع, فلما جاءه قال: يا بني إن أبا حنيفة يذكر أنك تصلي والناس يمرون بين يديك فلا تنهاهم, قال: نعم يا أبة, إن الذي كنت أصلي له كان أقرب إلي منهم, يقول الله تعالى {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد}, قال: فضمه أبو عبد الله (ع) إلى نفسه وقال: بأبي أنت وأمي يا مودع الأسرار. فقال أبو عبد الله (ع): يا أبا حنيفة القتل عندكم أشد أم الزنا؟ فقال: بل القتل, قال: فكيف أمر الله تعالى في القتل بالشاهدين وفي الزنا بأربعة؟ كيف يدرك هذا بالقياس؟ يا أبا حنيفة ترك الصلاة أشد أم ترك الصيام؟ فقال: بل ترك الصلاة, قال: فكيف تقضي المرأة صيامها ولا تقضي صلاتها؟ كيف يدرك هذا بالقياس؟ ويحك يا أبا حنيفة النساء أضعف عن المكاسب أم الرجال؟ فقال: بل النساء, قال: فكيف جعل الله تعالى للمرأة سهما وللرجل سهمين؟ كيف يدرك هذا بالقياس؟ يا أبا حنيفة الغائط أقذر أم المني؟ قال: بل الغائط, قال: فكيف يستنجى من الغائط ويغتسل من المني؟ كيف يدرك هذا بالقياس؟ تقول: سأنزل مثل ما أنزل الله؟ قال: أعوذ بالله أن أقوله, قال (ع) بلى تقوله أنت وأصحابك من حيث لا تعلمون, قال أبو حنيفة: جعلت فداك حدثني بحديث أرويه عنك, قال: حدثني أبي محمد بن علي, عن أبيه علي بن الحسين, عن جده الحسين بن علي, عن أبيه علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم أجمعين قال: قال رسول الله (ص): إن الله أخذ ميثاق أهل البيت من أعلى عليين, وأخذ طينة شيعتنا منه, ولو جهد أهل السماء وأهل الأرض أن يغيروا من ذلك شيئا ما استطاعوه, قال: فبكى أبو حنيفة بكاء شديدا وبكى أصحابه, ثم خرج وخرجوا. [2]
عن أبي عبد الله (ع) أنه قال لأبي حنيفة: وقد دخل عليه, فقال له: يا نعمان ما الذي تعتمد عليه فيما لم تجد فيه نصا في كتاب الله ولا خبرا عن الرسول (ص)؟ قال: أقيسه على ما وجدت من ذلك, قال له: أول من قاس إبليس فأخطأ إذ أمره الله عز وجل بالسجود لآدم (ع), فقال: {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين}, فرأى أن النار أشرف عنصرا من الطين, فخلده ذلك في العذاب المهين, يا نعمان أيهما أطهر المني أو البول؟ قال: المني, قال: فقد جعل الله عز وجل في البول الوضوء, وفي المني الغسل, ولو كان يحمل على القياس لكان الغسل في البول, وأيهما أعظم عند الله الزنا أم قتل النفس؟ قال: قتل النفس, قال: فقد جعل الله عز وجل في قتل النفس الشاهدين وفي الزنا أربعة, ولو كان على القياس لكان الأربعة الشهداء في القتل لأنه أعظم, وأيهما أعظم عند الله الصلاة أم الصوم؟ قال: الصلاة, قال: فقد أمر رسول الله (ص) الحائض بأن تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة, ولو كان على القياس لكان الواجب أن تقضي الصلاة, فاتق الله يا نعمان ولا تقس, فإنا نقف غدا نحن وأنت ومن خالفنا بين يدي الله عز وجل, فيسألنا عن قولنا ويسألهم عن قولهم, فنقول: قلنا: قال الله, وقال رسول الله (ص), وتقول أنت وأصحابك: رأينا وقسنا, فيفعل الله بنا وبكم ما يشاء. [3]
عن عيسى بن عبد الله القرشي قال: دخل أبو حنيفة على أبي عبد الله (ع) فقال له: يا أبا حنيفة, بلغني أنك تقيس! قال: نعم, قال (ع): لا تقس فإن أول من قاس إبليس, حين قال: {خلقتني من نار وخلقته من طين} [4] فقاس ما بين النار والطين, ولو قاس نورية آدم بنورية النار عرف فضل ما بين النورين, وصفاء أحدهما على الآخر. [5]
* في فضائل الأئمة عليهم السلام:
* ولاية الأئمة عليهم السلام هي النعيم
عن محمد بن السائب الكلبي قال: لما قدم الصادق (ع) العراق نزل الحيرة, فدخل عليه أبو حنيفة وسأله عن مسائل, وكان مما سأله أن قال له: جعلت فداك ما الأمر بالمعروف؟ فقال (ع): المعروف يا أبا حنيفة المعروف في أهل السماء المعروف في أهل الأرض وذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع), قال: جعلت فداك فما المنكر؟ قال: اللذان ظلماه حقه وابتزاه أمره وحملا الناس على كتفه, قال: ألا ما هو أن ترى الرجل على معاصي الله فتنهاه عنها؟ فقال أبو عبد الله (ع): ليس ذاك أمر بمعروف ولا نهي عن منكر, إنما ذلك خير قدمه, قال أبو حنيفة: أخبرني جعلت فداك عن قول الله عز وجل {ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم}؟ قال: فما هو عندك يا أبا حنيفة؟ قال: الأمن في السرب, وصحة البدن, والقوت الحاضر, فقال: يا أبا حنيفة لئن وقفك الله - أو أوقفك - يوم القيامة حتى يسألك عن كل أكلة أكلتها وشربة شربتها ليطولن وقوفك, قال: فما النعيم جعلت فداك؟ قال: النعيم نحن الذين أنقذ الله الناس بنا من الضلالة, وبصرهم بنا من العمى, وعلمهم بنا من الجهل, قال: جعلت فداك فكيف كان القرآن جديدا أبدا؟ قال: لأنه لم يجعل لزمان دون زمان فتخلقه الأيام, ولو كان كذلك لفني القرآن قبل فناء العالم. [6]
روى العياشي بإسناده في حديث طويل قال: سأل أبو حنيفة أبا عبد الله × عن هذه الآية {ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم} فقال له: ما النعيم عندك يا نعمان؟ قال: القوت من الطعام والماء البارد؟ فقال: لئن أوقفك الله بين يديه يوم القيامة حتى يسألك عن كل أكلة أكلتها, أو شربة شربتها, ليطولن وقوفك بين يديه, قال: فما النعيم جعلت فداك؟ قال: نحن أهل البيت النعيم الذي أنعم الله بنا على العباد, وبنا ائتلفوا بعد ما كانوا مختلفين, وبنا ألف الله بين قلوبهم فجعلهم إخوانا بعد أن كانوا أعداء, وبنا هداهم الله للإسلام وهو النعمة التي لا تنقطع, والله سائلهم عن حق النعيم الذي أنعم به عليهم وهو النبي | وعترته (عليهم السلام). [7]
* هذا لحم رسول الله |
روي أنه أتى أبو حنيفة إلى أبي عبد الله جعفر بن محمد (ع), فخرج إليه يتوكأ على عصا, فقال له أبو حنيفة: ما هذه العصا يا أبا عبد الله؟ ما بلغ بك من السن ما كنت تحتاج إليها, قال: أجل, ولكنها عصا رسول الله (ص) فأردت أن أتبرك بها, قال: أما إني لو علمت ذلك وأنها عصا رسول الله (ص) لقمت وقبلتها, فقال أبو عبد الله (ع): سبحان الله - وحسر عن ذراعه – وقال: والله يا نعمان لقد علمت أن هذا من شعر رسول الله (ص) ومن بشره فما قبلته, فتطاول أبو حنيفة ليقبل يده, فاستل كمه وجذب يده, ودخل منزله. [8]
* اللهم هذا منك ومن رسولك
روي أن أبا حنيفة أكل طعاما مع الإمام الصادق جعفر بن محمد (ع) فلما رفع الصادق (ع) يده من أكله قال: الحمد لله رب العالمين, اللهم هذا منك ومن رسولك, فقال أبو حنيفة: يا أبا عبد الله اجعلت مع الله شريكا؟ فقال (ع) له: ويلك إن الله تبارك يقول في كتابه {وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله}, ويقول عز وجل في موضع آخر: {ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله}, فقال أبو حنيفة: والله لكأني ما قرأتهما قط من كتاب الله ولا سمعتهما إلا في هذا الوقت, فقال أبو عبد الله (ع): بلى قد قرأتهما وسمعتهما, ولكن الله تعالى أنزل فيك وفي أشباهك {أم على قلوب أقفالها}, وقال الله تعالى: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}.[9]
* {سيروا فيها ليالي وأياما آمنين}
عن أبي زهير بن شبيب إبن أنس, عن بعض أصحابه, عن أبي عبد الله (ع) قال: كنت عند أبي عبد الله (ع) إذ دخل عليه غلام من كندة فإستفتاه في مسألة فأفتاه فيها، فعرفت الغلام والمسألة فقدمت الكوفة، فدخلت على أبي حنيفة فإذا ذاك الغلام بعينه يستفتيه في تلك المسألة بعينها فأفتاه فيها بخلاف ما أفتاه فيها أبو عبد الله (ع)، فقمت إليه فقلت: ويلك يا أبا حنيفة إني كنت العام حاجا فأتيت أبا عبد الله (ع) مسلما عليه فوجدت هذا الغلام يستفتيه في هذه المسألة بعينها فأفتاه بخلاف ما أفتيته. فقال: وما يعلم جعفر بن محمد، أنا أعلم منه، أنا لقيت الرجال وسمعت من أفواههم، وجعفر بن محمد صحفي، أخذ العلم من الكتب فقلت في نفسي: والله لأحجن ولو حبوا قال: فكنت في طلب حجة فجائتني حجة فحججت فأتيت أبا عبد الله (ع) فحكيت له الكلام، فضحك ثم قال (ع): عليه لعنة الله أما في قوله: إني رجل صحفي فقد صدق، قرأت صحف آبائي إبراهيم وموسى فقلت له: ومن له بمثل تلك الصحف؟ قال: فما لبثت أن طرق الباب طارق وكان عنده جماعة من أصحابه فقال للغلام: انظر من ذا؟ فرجع الغلام فقال: أبو حنيفة. قال: أدخله، فدخل وسلم على أبي عبد الله (ع) فرد عليه، ثم قال: أصلحك الله أتاذن لي في القعود؟ فأقبل على أصحابه يحدثهم ولم يلتفت اليه ثم قال الثانية والثالثة فلم يلتفت إليه، فجلس أبو حنيفة من غير اذنه. فلما علم أنه قد جلس إلتفت إليه فقال: أين أبو حنيفة؟ فقال: هو ذا أصلحك الله. فقال: أنت فقيه أهل العراق؟ قال: نعم، قال: فبما تفتيهم؟ قال: بكتاب الله وسنة نبيه. قال: يا أبا حنيفة تعرف كتاب الله حق معرفته وتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: نعم. قال: يا ابا حنيفة لقد إدعيت علما ويلك ما جعله الله ذلك إلا عند أهل الكتاب الذين انزل عليهم، ويلك ولا هو إلا عند الخاص من ذرية نبينا (ص) وما ورثك الله من كتابه حرفا، فإن كنت كما تقول: ولست كما تقول، فأخبرني عن قول الله عز وجل: {سيروا فيها ليالي وأياما آمنين} أين ذلك من الأرض؟ قال: أحسبه ما بين مكة والمدينة، فإلتفت أبو عبد الله (ع) إلى أصحابه فقال: تعلمون أن الناس يقطع عليهم بين المدينة ومكة فتؤخذ أموالهم ولا يؤمنون على أنفسهم ويقتلون؟ قالوا: نعم.قال: فسكت أبو حنيفة. فقال: يا أبا حنيفة أخبرني عن قول الله عز وجل: {ومن دخله كان آمنا} اين ذلك من الأرض؟ قال: الكعبة. قال: أفتعلم أن الحجاج بن يوسف حين وضع المنجنيق على إبن الزبير في الكعبة فقتله كان آمنا فيها؟ قال: فسكت، ثم قال له: يا أبا حنيفة إذا ورد عليك شيء ليس في كتاب الله ولم يات به خبر ولا أثر كيف صنع؟ فقال: أصلحك الله أقيس وأعمل فيه برأيي قال: يا أبا حنيفة إن أول من قاس إبليس الملعون، قاس على ربنا تبارك وتعالى، فقال {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} فسكت أبو حنيفة، فقال: يا أبا حنيفة أيما أرجس البول أو الجنابة؟ فقال: البول؟ فقال: فما بال الناس يغتسلون من الجنابة ولا يغتسلون من البول؟ فسكت، فقال: يا أبا حنيفة أيما أفضل الصلوة أم الصوم. قال: الصلوة. قال: فما بال الحائض تقضي صومها ولا تقضي صلوتها؟ فسكت. فقال: يا أبا حنيفة أخبرني عن رجل كانت له ام ولد وله منها إبنة وكانت له حرة لا تلد فزارت الصبية بنت أم الولد أباها فقام الرجل بعد فراغه من صلوة الفجر فواقع أهله التي لا تلد وخرج إلى الحمام فأرادت الحرة ان تكيد ام الولد وإبنتها عند الرجل فقامت إليها بحرارة ذلك الماء فوقعت عليها وهي نائمة فعالجتها كما يعالج الرجل المراة فعلقت، أي شيء عندك فيها قال: لا والله ما عندي فيها شيء. فقال: يا أبا حنيفة أخبرني عن رجل كانت له جارية فزوجها من مملوك له وغاب المملوك فولد له من أهله مولود وولد للمملوك مولود من ام ولد له فسقط البيت على الجاريتين ومات المولى من الوارث؟ فقال: جعلت فداك لا والله ما عندي فيها شيء. فقال أبو حنيفة: أصلحك الله إن عندنا قوما بالكوفة يزعمون أنك تأمرهم البراءة من فلان وفلان وفلان. فقال: ويلك يا أبا حنيفة لم يكن هذا معاذ الله، فقال: أصلحك الله إنهم يعظموه الأمر فيهما. قال: فما تأمرني؟ قال: تكتب إليهم، قال: بماذا؟ قال: تسألهم الكف عنهما. قال: لا يطيعوني. قال: بلى أصلحك الله إذا كنت أنت الكاتب وأنا الرسول أطاعوني. فقال: يا أبا حنيفة أبيت إلا جهلا، كم بيني وبين الكوفة من الفراسخ؟ قال: أصلحك الله ما لا يحصى. فقال: كم بيني وبينك؟ قال: لا شيء. قال: أنت دخلت علي في منزلي فاستأذنت في الجلوس ثلاث مرات فلم آذن لك فجلست بغير إذن خلافا علي كيف يطيعوني أولئك وهم هناك وأنا ههنا؟! قال: فقبل رأسه وخرج وهو يقول: أعلم الناس ولم نره عند عالم. فقال: أبو بكر الحضرمي: جعلت فداك الجواب في المسئلتين الاوليين. فقال (ع): يا أبا بكر {سيروا فيها ليالي وأياما آمنين} فقال: مع قائمنا أهل البيت، وأما قوله: {ومن دخله كان آمنا} فمن بايعه ودخل معه ومسح على يده ودخل في عقد أصحابه كان آمنا. [10]
* أنا فرع من فروع الزيتونة
عن الربيع صاحب المنصور قال: بعث المنصور إلى الصادق جعفر بن محمد (ع) يستقدمه لشيء بلغه عنه, فلما وافى بابه خرج إليه الحاجب فقال: أعيذك بالله من سطوة هذا الجبار, فإني رأيت حرده عليك شديدا, فقال الصادق (ع): علي من الله جنة واقية تعينني عليه إن شاء الله, استأذن لي عليه, فاستأذن فأذن له, فلما دخل سلم فرد (ع) ثم قال له: يا جعفر, قد علمت أن رسول الله (ص) قال لأبيك علي بن أبي طالب (ع): لو لا أن يقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى في المسيح, لقلت فيك قولا لا تمر بملإ إلا أخذوا من تراب قدميك يستشفون به, وقال علي (ع): يهلك في اثنان ولا ذنب لي, محب غال ومفرط, قال: قال ذلك اعتذارا منه, إنه لا يرضى بما يقول فيه الغالي والمفرط, ولعمري إن عيسى ابن مريم (ع) لو سكت عما قالت فيه النصارى لعذبه الله, ولقد تعلم ما يقال فيك من الزور والبهتان, وإمساكك عن ذلك ورضاك به سخط الديان, زعم أوغاد الحجاز ورعاع الناس أنك حبر الدهر وناموسه, وحجة المعبود وترجمانه, وعيبة علمه وميزان قسطه, ومصباحه الذي يقطع به الطالب عرض الظلمة إلى ضياء النور, وأن لا يقبل من عامل جهل جدك في الدنيا عملا, ولا يرفع له يوم القيامة وزنا, فنسبوك إلى غير جدك, وقالوا فيك ما ليس فيك, فقل: فإن أول من قال الحق جدك (ص), وأول من صدقه عليه أبوك (ع), وأنت حري أن تقتص آثارهما وتسلك سبيلهما, فقال الصادق (ع): أنا فرع من فروع الزيتونة, وقنديل من قناديل بيت النبوة, وأديب السفرة, وربيب الكرام البررة, ومصباح من مصابيح المشكاة التي فيها نور النور, وصفو الكلمة الباقية في عقب المصطفين إلى يوم الحشر, فالتفت المنصور إلى جلسائه فقال: هذا قد أحالني على بحر مواج, لا يدرك طرفه ولا يبلغ عمقه, يحار فيه العلماء ويغرق فيه السبحاء, ويضيق بالسابح عرض الفضاء, هذا الشجا المعترض في حلوق الخلفاء, الذي لا يجوز نفيه ولا يحل قتله, ولو لا ما يجمعني وإياه شجرة طاب أصلها, وبسق فرعها, وعذب ثمرها, وبوركت بالذر, وقدست في الزبر, لكان مني إليه ما لا يحمد في العواقب, لما يبلغني من شدة عيبه لنا وسوء القول فينا, فقال الصادق (ع): لا تقبل في ذي رحمك وأهل الرعاية من أهل بيتك, قول من حرم الله عليه الجنة وجعل مأواه النار, فإن النمام شاهد زور وشريك إبليس في الإغراء بين الناس, فقد قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} ونحن لك أنصار وأعوان, ولملكك دعائم وأركان, ما أمرت بالعرف والإحسان, وأمضيت في الرعية أحكام القرآن, وأرغمت بطاعتك لله أنف الشيطان, وإن كان يجب عليك في سعة فهمك وكثرة علمك, ومعرفتك بآداب الله أن تصل من قطعك, وتعطي من حرمك, وتعفو عمن ظلمك, فإن المكافي ليس بالواصل, إنما الواصل من إذا قطعته رحمه وصلها, فصل رحمك يزد الله في عمرك, ويخفف عنك الحساب يوم حشرك, فقال المنصور: قد صفحت عنك لقدرك, وتجاوزت عنك لصدقك, فحدثني عن نفسك بحديث أتعظ به ويكون لي زاجر صدق عن الموبقات, فقال الصادق (ع): عليك بالحلم, فإنه ركن العلم, واملك نفسك عند أسباب القدرة, فإنك إن تفعل ما تقدر عليه كنت كمن شفى غيظا, أو تداوى حقدا, أو يحب أن يذكر بالصولة, واعلم بأنك إن عاقبت مستحقا لم تكن غاية ما توصف به إلا العدل, ولا أعرف حالا أفضل من حال العدل, والحال التي توجب الشكر أفضل من الحال التي توجب الصبر, فقال المنصور: وعظت فأحسنت, وقلت فأوجزت, فحدثني عن فضل جدك علي بن أبي طالب (ع) حديثا لم تؤثره العامة, فقال الصادق (ع): حدثني أبي عن أبيه عن جده (ع) قال: قال رسول الله (ص) لما أسري بي إلى السماء, عهد إلي ربي جل جلاله في علي (ع) ثلاث كلمات, فقال: يا محمد, فقلت: لبيك ربي وسعديك, فقال عز وجل: إن عليا إمام المتقين, وقائد الغر المحجلين, ويعسوب المؤمنين, فبشره بذلك, فبشره النبي (ص) بذلك, فخر علي (ع) ساجدا شكرا لله عز وجل, ثم رفع رأسه فقال: يا رسول الله, بلغ من قدري حتى إني أذكر هناك؟ قال (ص): نعم, وإن الله يعرفك, وإنك لتذكر في الرفيق الأعلى, فقال المنصور: {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء}.[11]
[1] مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 252, بحار الانوار ج 10 ص 212
[2] الاختصاص ص189, بحار الانوار ج10 ص204
[3] دعائم الاسلام ج1 ص91, بحار الأنوار ج10 ص221
[4] إلى هنا في وسائل الشيعة
[5] الكافي ج 1 ص 58, الإحتجاج ج 2 ص 362, الوافي ج 1 ص 257, تفسير الصافي ج 2 ص 183, البرهان ج 2 ص 520, بحار الأنوار ج 47 ص 226, وسائل الشيعة ج 27 ص 46
[6] تأويل الآيات ص 816, بحار الانوار ج10 ص208, تفسير كنز الدقائق ج 14 ص 426
[7] تفسير مجمع البيان ج 10 ص 433, تفسير الصافي ج 5 ص 370, البرهان ج 5 ص 749, اللوامع النورانية ص 886, غاية المرام ج 3 ص 85, بحار الأنوار ج 7 ص 258, تفسير نور الثقلين ج 5 ص 663, تفسير كنز الدقائق ج 14 ص 420, تأويل الآيات ص 817 نحوه
[8] دعائم الاسلام ج 1 ص 95, بحار الانوار ج 10 ص 222
[9] كنز الفوائد ج 2 ص 36, بحار الانوار ج 10 ص 216, رياض الأبرار ج 2 ص 207
[10] علل الشرائع ج 1 ص 89, نوادر الأخبار ص 43, حلية الأبرار ج 4 ص 31, بحار الأنوار ج 2 ص 292
[11] الأمالي للصدوق ص 611, بحار الأنوار ج 47 ص 167