* روي إن الجعد بن درهم جعل في قارورة ماء وترابا, فاستحال دودا وهواما فقال لأصحابه: أنا خلقت ذلك لأني كنت سبب كونه, فبلغ ذلك جعفر بن محمد (ع) فقال: ليقل كم هي, وكم الذكران منه والإناث إن كان خلقه, وكم وزن كل واحد منهن, وليأمر الذي سعى إلى هذا الوجه أن يرجع إلى غيره, فانقطع وهرب.
-----------------
مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 251, بحار الانوار ج10 ص199, العوالم ج 20 ص 568
تحقيق مركز سيد الشهداء (ع) للبحوث الإسلامية
* عن هشام بن الحكم قال: دخل أبا شاكر الديصاني على أبي عبد الله (ع) الصادق فقال له: إنك لأحد النجوم الزواهر, وكان آباؤك بدورا بواهر, وأمهاتك عقيلات عباهر, وعنصرك من أكرم العناصر, وإذا ذكر العلماء فعليك تثنى الخناصر, خبرنا أيها البحر الزاخر ما الدليل على حدوث العالم؟ فقال أبو عبد الله (ع): من أقرب الدليل على ذلك ما أذكره لك, ثم دعا ببيضة ثم وضعها في راحته وقال: هذا حصن ملموم داخله غرقئ رقيق, يطيف به كالفضة السائلة والذهبة المائعة, اتشك في ذلك؟ فقال أبو شاكر: لا شك فيه, قال أبو عبد الله (ع): ثم إنه تنفلق عن صورة كالطاوس أدخله شيء غير ما عرفت, قال: لا, قال: فهذا الدليل على حدوث العالم, قال أبو شاكر: دللت أبا عبد الله فأوضحت, وقلت فأحسنت, وذكرت فأوجزت, وقد علمت أنا لا نقبل إلا ما أدركناه بأبصارنا أو سمعناه بآذاننا أو ذقناه بأفواهنا أو شممناه بآنافنا أو لمسناه ببشرتنا, فقال أبو عبد الله (ع): ذكرت الحواس الخمس وهي لا تنفع في الاستنباط إلا بدليل كما لا تقطع الظلمة بغير مصباح.
----------------
الأمالي للصدوق ص 351, التوحيد ص 292, الإرشاد 2 ص 201, روضة الواعظين ج 1 ص 22, إعلام الورى ص 290, كشف الغمة ج 2 ص 177, أعلام الدين ص 36, بحار الأنوار ج10 ص211, رياض الأبرار ج 2 ص 437, العوالم ج 20 ص 565
تحقيق مركز سيد الشهداء (ع) للبحوث الاسلامية
عن هشام بن الحكم في حديث الزنديق الذي أتى أبا عبد الله (ع) فكان من قول أبي عبد الله (ع) له: لا يخلو قولك إنهما اثنان من أن يكونا قديمين قويين, أو يكونا ضعيفين, أو يكون أحدهما قويا والآخر ضعيفا, فإن كانا قويين فلم لا يدفع كل واحد منهم صاحبه وينفرد بالتدبير, وإن زعمت أن أحدهما قوي والآخر ضعيف ثبت أنه واحد كما نقول للعجز الظاهر في الثاني, وإن قلت إنهما اثنان لم يخلو من أن يكونا متفقين من كل جهة أو مفترقين من كل جهة, فلما رأينا الخلق منتظما, والفلك جاريا, واختلاف الليل والنهار والشمس والقمر دل صحة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أن المدبر واحد, ثم يلزمك إن ادعيت اثنين فلا بد من فرجة بينهما حتى يكونا اثنين, فصارت الفرجة ثالثا بينهما قديما معهما, فليزمك ثلاثة, وإن ادعيت ثلاثة لزمك ما قلنا في الاثنين حتى يكون بينهما فرجتان, فيكون خمسة, ثم يتناهى في العدد إلى ما لا نهاية في الكثرة, قال هشام: فكان من سؤال الزنديق أن قال: فما الدليل عليه؟ قال أبو عبد الله (ع): وجود الأفاعيل التي دلت على أن صانعا صنعها, الا ترى أنك إذا نظرت إلى بناء مشيد مبني علمت أن له بانيا وإن كنت لم تر الباني ولم تشاهده, قال: فما هو؟ قال: هو شيء بخلاف الأشياء, أرجع بقولي شيء إلى إثبات معنى وأنه شيء بحقيقة الشيئية غير أنه لا جسم ولا صورة ولا يحس ولا يجس ولا يدرك بالحواس الخمس, لا تدركه الأوهام ولا تنقصه الدهور ولا يغيره الزمان. (1) قال السائل: فتقول إنه سميع بصير؟ قال: هو سميع بصير, سميع بغير جارحة, وبصير بغير آلة, بل يسمع بنفسه ويبصر بنفسه, ليس قولي إنه يسمع بنفسه ويبصر بنفسه أنه شيء والنفس شيء آخر, ولكن أردت عبارة عن نفسي إذ كنت مسئولا وإفهاما لك إذ كنت سائلا, وأقول يسمع بكله لا أن الكل منه له بعض ولكني أردت إفهامك والتعبير عن نفسي وليس مرجعي في ذلك إلا إلى أنه السميع البصير العالم الخبير بلا اختلاف الذات ولا اختلاف المعنى, قال السائل: فما هو؟ قال أبو عبد الله (ع): هو الرب, وهو المعبود, وهو الله, وليس قولي الله إثبات هذه الحروف ألف لام لاه, ولكني أرجع إلى معنى هو شيء خالق الأشياء وصانعها, وقعت عليه هذه الحروف وهو المعنى الذي يسمى به الله والرحمن والرحيم والعزيز وأشباه ذلك من أسمائه وهو المعبود جل وعز, قال السائل: فإنا لم نجد موهوما إلا مخلوقا, قال أبو عبد الله (ع): لو كان ذلك كما تقول لكان التوحيد عنا مرتفعا, لأنا لم نكلف أن نعتقد غير موهوم, ولكنا نقول كل موهوم بالحواس مدرك, فما تحده الحواس وتمثله فهو مخلوق, ولا بد من إثبات صانع للأشياء خارج من الجهتين المذمومتين, إحداهما النفي إذ كان النفي هو الإبطال والعدم, والجهة الثانية التشبيه من صفة المخلوق الظاهر التركيب والتأليف, فلم يكن بد من إثبات الصانع لوجود المصنوعين والاضطرار منهم إليه ثبت أنهم مصنوعون وأن صانعهم غيرهم, وليس مثلهم إذ كان مثلهم شبيها بهم في ظاهر التركيب والتأليف وفيما يجري عليهم من حدوثهم بعد أن لم يكونوا وتنقلهم من صغر إلى كبر وسواد إلى بياض وقوة إلى ضعف, وأحوال موجودة لا حاجة بنا إلى تفسيرها لثباتها ووجودها, قال السائل: فقد حددته إذ أثبت وجوده, قال أبو عبد الله (ع): لم أحدده, ولكن أثبته إذ لم يكن بين الإثبات والنفي منزلة, قال السائل: فله إنية ومائية؟ قال: نعم, لا يثبت الشيء إلا بإنية ومائية, قال السائل: فله كيفية؟ قال: لا, لأن الكيفية جهة الصفة والإحاطة, ولكن لا بد من الخروج من جهة التعطيل والتشبيه لأن من نفاه أنكره ودفع ربوبيته وأبطله ومن شبهه بغيره فقد أثبته بصفة المخلوقين المصنوعين الذين لا يستحقون الربوبية, ولكن لا بد من إثبات ذات بلا كيفية لا يستحقها غيره, لا يشارك فيها ولا يحاط بها ولا يعلمها غيره, قال السائل: فيعاني الأشياء بنفسه؟ قال أبو عبد الله (ع): هو أجل من أن يعاني الأشياء بمباشرة ومعالجة لأن ذلك صفة المخلوق الذي لا تجيء الأشياء إليه إلا بالمباشرة والمعالجة, وهو تعالى نافذ الإرادة والمشية فعال لما يشاء, قال السائل: فله رضا وسخط؟ قال أبو عبد الله (ع): نعم وليس ذلك على ما يوجد في المخلوقين, وذلك أن الرضا والسخط دخال يدخل عليه فينقله من حال إلى حال وذلك صفة المخلوقين العاجزين المحتاجين, وهو تبارك وتعالى العزيز الرحيم لا حاجة به إلى شيء مما خلق وخلقه جميعا محتاجون إليه, وإنما خلق الأشياء من غير حاجة ولا سبب اختراعا وابتداعا, قال السائل: فقوله {الرحمن على العرش استوى}؟ قال أبو عبد الله (ع): بذلك وصف نفسه, وكذلك هو مستول على العرش بائن من خلقه من غير أن يكون العرش حاملا له ولا أن يكون العرش حاويا له, ولا أن العرش محتاز له ولكنا نقول هو حامل العرش وممسك العرش, ونقول من ذلك ما قال {وسع كرسيه السماوات والأرض} فثبتنا من العرش والكرسي ما ثبته, ونفينا أن يكون العرش أو الكرسي حاويا له, وأن يكون عز وجل محتاجا إلى مكان أو إلى شيء مما خلق بل خلقه محتاجون إليه, قال السائل: فما الفرق بين أن ترفعوا أيديكم إلى السماء وبين أن تخفضوها نحو الأرض؟ قال أبو عبد الله (ع): ذلك في علمه وإحاطته وقدرته سواء, ولكنه عز وجل أمر أولياءه وعباده برفع أيديهم إلى السماء نحو العرش لأنه جعله معدن الرزق, فثبتنا ما ثبته القرآن والأخبار عن الرسول (ص) حين قال: ارفعوا أيديكم إلى الله عز وجل, وهذا يجمع عليه فرق الأمة كلها, قال السائل: فمن أين أثبت أنبياء ورسلا؟ قال أبو عبد الله (ع): إنا لما أثبتنا أن لنا خالقا صانعا متعاليا عنا وعن جميع ما خلق وكان ذلك الصانع حكيما لم يجز أن يشاهده خلقه ولا يلامسوه ولا يباشرهم ولا يباشروه ويحاجهم ويحاجوه فثبت أن له سفراء في خلقه وعباده يدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم, فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه وثبت عند ذلك أن له معبرين وهم الأنبياء وصفوته من خلقه حكماء مؤدبين بالحكمة مبعوثين بها غير مشاركين للناس في أحوالهم على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص, فلا تخلو أرض الله من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقال الرسول ووجوب عدالته. (2)
----------------
(1) الى هنا في الكافي والوافي والفصول المهمة والبرهان ومرآة العقول
(2) التوحيد ص243, بحار الانوار ج 10 ص 194, العوالم ج 20 ص 527, الكافي ج 1 ص 80, الوافي ج 1 ص 325, الفصول المهمة ج 1 ص 130, البرهان ج 3 ص 808, مرآة العقول ج 1 ص 260
تحقيق مركز سيد الشهداء (ع) للبحوث الاسلامية
عن الحسن بن محمد الجمال، عن بعض أصحابنا قال: بعث عبد الملك بن مروان إلى عامل المدينة أن وجه الى محمد بن علي بن الحسين ولا تهيجه ولا تروعه واقض له حوائجه وقد كان ورد على عبد الملك رجل من القدرية فحضر جميع من كان بالشام فأعياهم جميعا فقال: ما لهذا إلا محمد بن علي، فكتب إلى صاحب المدينة أن يحمل محمد بن علي إليه، فأتاه صاحب المدينة بكتابه فقال له أبو جعفر (ع): إني شيخ كبير لا أقوى على الخروج وهذا جعفر إبني يقوم مقامي فوجهه إليه. فلما قدم على الأموي أزراه لصغره وكره أن يجمع بينه وبين القدري مخافة أن يغلبه وتسامع الناس بالشام بقدوم جعفر لمخاصمة القدري، فلما كان من الغد إجتمع الناس بخصومتهما فقال الأموي لأبي عبد الله (ع): إنه قد أعيانا أمر هذا القدري وإنما كتبت إليك لأجمع بينك وبينه فانه لم يدع أحدا إلا خصمه فقال: إن الله يكفيناه. قال: فلما إجتمعوا قال القدري لأبي عبد الله (ع): سل عما شئت فقال له: إقرأ سورة الحمد. قال: فقرأها، وقال الأموي وأنا معه: ما في سورة الحمد علينا! إنا لله وإنا إليه راجعون. قال فجعل القدري يقرء سورة الحمد حتى بلغ قول الله تبارك وتعالى {إياك نعبد وإياك نستعين} فقال له جعفر (ع): قف من تستعين وما حاجتك الى المعونة ان الامر إليك؟ {فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين}. (1) (2)
------------
(1) قال السيد هاشم البحراني في حلية الأبرار بعد ذكر الحديث: توجيه ذلك أن القدري يقول: إن فعل العبد من العبد مفوض إليه أمره من الله سبحانه وتعالى، وليس لله سبحانه مشية في فعله، بل هو مهمل، ونفسه مستقل في أفعاله، وهذا القول خلاف الجبر، والقول الصحيح هو المنزلة بين المنزلتين لا جبر ولا تفويض، والجبر هو قول المجبرة، والتفويض هو قول القدرية. وقول المجبرة بأن العباد مجبورون على أفعالهم وأن أفعال العباد من الله سبحانه مخلوقة منه تعالى الطاعات والمعاصي. والتفويض هو قول القدرية وهو أن فعل العبد مفوض الى العبد حسب ما قررناه سابقا فقال الامام أبو عبد الله (ع) في رده على القدري من سورة الفاتحة في قوله تعالى: {وإياك نستعين} من نستعين إذا كنت في زعمك الأمر إليك في أفعالك مفوض إليك بالإستقلال لست محتاجا إلى غيرك فيه، فكيف تطلب المعونة فيما أنت فيه مستقلا غير محتاج؟ فلما تطلب المعونة على افعالك من الله سبحانه وتعالى دل على الحاجة في افعالك وطلب المعونة من الله تعالى على أفعالك ولست بمفوض إليك في أفعالك ومهمل، كما زعمت {فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين}.
(2) تفسير العياشي ج 1 ص 23, البرهان ج 1 ص 116, حلية الأبرار ج 4 ص 187, بحار الأنوار ج 5 ص 55, تفسير نور الثقلين ج 1 ص 20, تفسير كنز الدقائق ج 1 ص 62
تحقيق مركز سيد الشهداء (ع) للبحوث الإسلامية
جواب الامام الصادق (ع) للزنديق في اسئلة عن الله
من سؤال الزنديق الذي سأل أبا عبد الله (ع) عن مسائل كثيرة - أن قال - كيف يعبد الله الخلق ولم يروه؟ قال (ع): رأته القلوب بنور الإيمان, وأثبتته العقول بيقظتها إثبات العيان, وأبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب وإحكام التأليف, ثم الرسل وآياتها والكتب ومحكماتها واقتصرت العلماء على ما رأت من عظمته دون رؤيته, قال: اليس هو قادرا أن يظهر لهم حتى يروه ويعرفوه فيعبد على يقين؟ قال: ليس للمحال جواب, قال: فمن أين أثبت أنبياء ورسلا؟ قال (ع): إنا لما أثبتنا أن لنا خالقا صانعا متعاليا عنا وعن جميع ما خلق وكان ذلك الصانع حكيما لم يجز أن يشاهده خلقه ولا أن يلامسوه ولا أن يباشرهم ويباشروه ويحاجهم ويحاجوه ثبت أن له سفراء في خلقه وعباده يدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم, فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه, وثبت عند ذلك أن له معبرين وهم الأنبياء وصفوته من خلقه حكماء مؤدبين بالحكمة مبعوثين عنه مشاركين للناس في أحوالهم على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب, مؤدين من عند الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص, فلا تخلو الأرض من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقال الرسول ووجوب عدالته, ثم قال (ع) بعد ذلك: نحن نزعم أن الأرض لا تخلو من حجة ولا تكون الحجة إلا من عقب الأنبياء, ما بعث الله نبيا قط من غير نسل الأنبياء, وذلك أن الله تعالى شرع لبني آدم طريقا منيرا وأخرج من آدم نسلا طاهرا طيبا أخرج منه الأنبياء والرسل, هم صفوة الله وخلص الجوهر طهروا في الأصلاب وحفظوا في الأرحام, لم يصبهم سفاح الجاهلية ولا شاب أنسابهم, لأن الله عز وجل جعلهم في موضع لا يكون أعلى درجة وشرفا منه, فمن كان خازن علم الله وأمين غيبه ومستودع سره وحجته على خلقه وترجمانه ولسانه لا يكون إلا بهذه الصفة, فالحجة لا يكون إلا من نسلهم يقوم مقام النبي في الخلق بالعلم الذي عنده وورثه عن الرسول إن جحده الناس سكت, وكان بقاء ما عليه الناس قليلا مما في أيديهم من علم الرسول على اختلاف منهم فيه قد أقاموا بينهم الرأي والقياس, إن هم أقروا به وأطاعوه وأخذوا عنه ظهر العدل وذهب الاختلاف والتشاجر واستوى الأمر وأبان الدين وغلب على الشك اليقين, ولا يكاد أن يقر الناس به أو يحقوا له بعد فقد الرسول, وما مضى رسول ولا نبي قط لم يختلف أمته من بعده, وإنما كان علة اختلافهم خلافهم على الحجة وتركهم إياه, قال: فما يصنع بالحجة إذا كان بهذه الصفة؟ قال: قد يقتدى به ويخرج عنه الشيء بعد الشيء مما فيه منفعة الخلق وصلاحهم, فإن أحدثوا في دين الله شيئا أعلمهم, وإن زادوا فيه أخبرهم, وإن نقصوا منه شيئا أفادهم, ثم قال الزنديق: من أي شيء خلق الأشياء؟ قال (ع): لا من شيء, فقال: فكيف يجيء من لا شيء شيء؟ قال (ع): إن الأشياء لا تخلو أن تكون خلقت من شيء أو من غير شيء, فإن كانت خلقت من شيء كان معه, فإن ذلك الشيء قديم والقديم لا يكون حديثا ولا يفنى ولا يتغير ولا يخلو ذلك الشيء من أن يكون جوهرا واحدا ولونا واحدا, فمن أين جاءت هذه الألوان المختلفة والجواهر الكثيرة الموجودة في هذا العالم من ضروب شتى؟ ومن أين جاء الموت إن كان الشيء الذي أنشئت منه الأشياء حيا؟ أو من أين جاءت الحياة إن كان ذلك الشيء ميتا؟ ولا يجوز أن يكون من حي وميت قديمين لم يزالا, لأن الحي لا يجيء منه ميت وهو لم يزل حيا, ولا يجوز أيضا أن يكون الميت قديما لم يزل بما هو به من الموت لأن الميت لا قدرة له ولا بقاء. قال" فمن أين قالوا إن الأشياء أزلية؟ قال: هذه مقالة قوم جحدوا مدبر الأشياء فكذبوا الرسل ومقالتهم والأنبياء وما أنبئوا عنه, وسموا كتبهم أساطير الأولين ووضعوا لأنفسهم دينا بآرائهم واستحسانهم إن الأشياء تدل على حدوثها من دوران الفلك بما فيه, وهي سبعة أفلاك, وتحرك الأرض ومن عليها وانقلاب الأزمنة واختلاف الوقت والحوادث التي تحدث في العالم من زيادة ونقصان وموت وبلى واضطرار النفس إلى الإقرار بأن لها صانعا ومدبرا, اما ترى الحلو يصير حامضا والعذب مرا والجديد باليا؟ وكل إلى تغير وفناء, قال: فلم يزل صانع العالم عالما بالأحداث التي أحدثها قبل أن يحدثها, قال: لم يزل يعلم فخلق ما علم, قال: امختلف هو أم مؤتلف؟ قال (ع): لا يليق به الاختلاف ولا الائتلاف, إنما يختلف المتجزئ ويأتلف المتبعض, فلا يقال له مؤتلف ولا مختلف, قال: فكيف هو الله الواحد؟ قال: واحد في ذاته, فلا واحد كواحد, لأن ما سواه من الواحد متجزئ وهو تبارك وتعالى واحد لا متجزئ, ولا يقع عليه العد. قال: فلأي علة خلق الخلق وهو غير محتاج إليهم ولا مضطر إلى خلقهم ولا يليق به العبث بنا؟ قال: خلقهم لإظهار حكمته وإنفاذ علمه وإمضاء تدبيره, قال: وكيف لا يقتصر على هذه الدار فيجعلها دار ثوابه ومحتبس عقابه؟ قال: إن هذه الدار دار ابتلاء ومتجر الثواب, ومكتسب الرحمة ملئت آفات وطبقت شهوات ليختبر فيها عبيده بالطاعة, فلا يكون دار عمل دار جزاء. قال: افمن حكمته أن جعل لنفسه عدوا وقد كان ولا عدوا به؟ فخلق كما زعمت إبليس فسلطه على عبيده يدعوهم إلى خلاف طاعته ويأمرهم بمعصيته, وجعل له من القوة كما زعمت يصل بلطف الحيلة إلى قلوبهم فيوسوس إليهم فيشككهم في ربهم ويلبس عليهم دينهم فيزيلهم عن معرفته, حتى أنكر قوم لما وسوس إليهم ربوبيته وعبدوا سواه, فلم سلط عدوه على عبيده وجعل له السبيل إلى إغوائهم؟ قال (ع): إن هذا العدو الذي ذكرت لا يضره عداوته, ولا ينفعه ولايته عداوته لا تنقص من ملكه شيئا وولايته لا تزيد فيه شيئا, وإنما يتقى العدو إذا كان في قوة يضر وينفع, إن هم بملك أخذه أو بسلطان قهره, فأما إبليس فعبد خلقه ليعبده ويوحده وقد علم حين خلقه ما هو وإلى ما يصير إليه, فلم يزل يعبده مع ملائكته حتى امتحنه بسجود آدم فامتنع من ذلك حسدا وشقاوة غلبت عليه, فلعنه عند ذلك وأخرجه عن صفوف الملائكة, وأنزله إلى الأرض ملعونا مدحورا, فصار عدو آدم وولده بذلك السبب, وما له من السلطنة على ولده إلا الوسوسة والدعاء إلى غير السبيل, وقد أقر مع معصيته لربه بربوبيته. قال: أفيصلح السجود لغير الله؟ قال: لا, قال: فكيف أمر الله الملائكة بالسجود لآدم؟ قال (ع): إن من سجد بأمر الله سجد لله, فكان سجوده لله إذا كان عن أمر الله. قال: فمن أين أصل الكهانة؟ ومن أين يخبر الناس بما يحدث؟ قال: إن الكهانة كانت في الجاهلية في كل حين فترة من الرسل, كان الكاهن بمنزلة الحاكم يحتكمون إليه فيما يشتبه عليهم من الأمور بينهم, فيخبرهم بأشياء تحدث وذلك في وجوه شتى من فراسة العين وذكاء القلب ووسوسة النفس وفطنة الروح مع قذف في قلبه, لأن ما يحدث في الأرض من الحوادث الظاهرة فذلك يعلم الشيطان ويؤديه إلى الكاهن ويخبره بما يحدث في المنازل والأطراف, وأما أخبار السماء فإن الشياطين كانت تقعد مقاعد استراق السمع إذ ذاك وهي لا تحجب ولا ترجم بالنجوم, وإنما منعت من استراق السمع لئلا يقع في الأرض سبب يشاكل الوحي من خبر السماء, ولبس على أهل الأرض ما جاءهم عن الله لإثبات الحجة ونفي الشبه, وكان الشيطان يسترق الكلمة الواحدة من خبر السماء بما يحدث من الله في خلقه فيختطفها ثم يهبط بها إلى الأرض فيقذفها إلى الكاهن, فإذا قد زاد من كلمات عنده فيختلط الحق بالباطل, فما أصاب الكاهن من خبر مما كان يخبر به فهو ما أداه إليه شيطانه مما سمعه, وما أخطأ فيه فهو من باطل ما زاد فيه, فمذ منعت الشياطين عن استراق السمع انقطعت الكهانة, واليوم إنما تؤدي الشياطين إلى كهانها أخبارا للناس مما يتحدثون به وما يحدثونه, والشياطين تؤدي إلى الشياطين ما يحدث في العبد من الحوادث من سارق سرق وقاتل قتل وغائب غاب وهم بمنزلة الناس أيضا صدوق وكذوب. فقال: كيف صعدت الشياطين إلى السماء وهم أمثال الناس في الخلقة والكثافة, وقد كانوا يبنون لسليمان بن داود من البناء ما يعجز عنه ولد آدم؟ قال: غلظوا لسليمان كما سخروا وهم خلق رقيق, غذاؤهم التنسم, والدليل على ذلك صعودهم إلى السماء لاستراق السمع ولا يقدر الجسم الكثيف على الارتقاء إليها إلا بسلم أو سبب. قال: فأخبرني عن السحر ما أصله؟ وكيف يقدر الساحر على ما يوصف من عجائبه وما يفعل؟ قال (ع): إن السحر على وجوه شتى, وجه منها بمنزلة الطب كما أن الأطباء وضعوا لكل داء دواء فكذلك علم السحر احتالوا لكل صحة آفة, ولكل عافية عاهة, ولكل معنى حيلة, ونوع منه آخر خطفة وسرعة ومخاريق وخفة, ونوع منه ما يأخذ أولياء الشياطين عنهم. قال: فمن أين علم الشياطين السحر؟ قال: من حيث عرف الأطباء الطب بعضه تجربة وبعضه علاج. قال: فما تقول في الملكين: هاروت وماروت؟ وما يقول الناس بأنهما يعلمان الناس السحر؟ قال (ع): إنهما موضع ابتلاء وموقف فتنة, تسبيحهما اليوم لو فعل الإنسان كذا وكذا لكان كذا, ولو يعالج بكذا وكذا لصار كذا أصناف سحر, {فيتعلمون منهما} ما يخرج عنهما, فيقولان لهم {إنما نحن فتنة}, فلا تأخذوا عنا ما يضركم ولا ينفعكم. قال: افيقدر الساحر أن يجعل الإنسان بسحره في صورة الكلب والحمار أو غير ذلك؟ قال (ع): هو أعجز من ذلك وأضعف من أن يغير خلق الله, إن من أبطل ما ركبه الله وصوره وغيره فهو شريك لله في خلقه, تعالى عن ذلك علوا كبيرا, لو قدر الساحر على ما وصفت لدفع عن نفسه الهموم والآفة والأمراض, ولنفى البياض عن رأسه والفقر عن ساحته, وإن من أكبر السحر النميمة, يفرق بها بين المتحابين ويجلب العداوة على المتصافين, ويسفك بها الدماء, ويهدم بها الدور, ويكشف الستور, والنمام أشر من وطئ على الأرض بقدم, فأقرب أقاويل السحر من الصواب أنه بمنزلة الطب, إن الساحر عالج الرجل فامتنع من مجامعة النساء, فجاء الطبيب فعالجه بغير ذلك العلاج فأبرئ. قال: فما بال ولد آدم فيهم شريف ووضيع؟ قال (ع): الشريف المطيع والوضيع العاصي. قال: اليس فيهم فاضل ومفضول؟ قال: إنما يتفاضلون بالتقوى. قال: فتقول إن ولد آدم كلهم سواء في الأصل, لا يتفاعلون إلا بالتقوى؟ قال: نعم, إني وجدت أصل الخلق التراب, والأب آدم, والأم حواء, خلقهم إله واحد وهم عبيده, إن الله عز وجل اختار من ولد آدم أناسا طهر ميلادهم وطيب أبدانهم وحفظهم في أصلاب الرجال وأرحام النساء, أخرج منهم الأنبياء والرسل فهم أزكى فروع آدم, فعل ذلك لا لأمر استحقوه من الله عز وجل ولكن علم الله منهم حين ذرأهم أنهم يطيعونه ويعبدونه ولا يشركون به شيئا, فهؤلاء بالطاعة نالوا من الله الكرامة والمنزلة الرفيعة عنده, وهؤلاء الذين لهم الشرف والفضل والحسب وسائر الناس سواء, ألا من اتقى الله أكرمه ومن أطاعه أحبه, ومن أحبه لم يعذبه بالنار. قال: فأخبرني عن الله عز وجل كيف لم يخلق الخلق كلهم مطيعين موحدين؟ وكان على ذلك قادرا, قال (ع) لو خلقهم مطيعين لم يكن لهم ثواب, لأن الطاعة إذا ما كانت فعلهم, ولم تكن جنة ولا نار, ولكن خلق خلقه فأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته, واحتج عليهم برسله, وقطع عذرهم بكتبه, ليكونوا هم الذين يطيعون ويعصون ويستوجبون بطاعتهم له الثواب وبمعصيتهم إياه العقاب. قال: فالعمل الصالح من العبد هو فعله, والعمل الشر من العبد هو فعله, قال (ع): العمل الصالح العبد يفعله والله به أمره, والعمل الشر العبد يفعله والله عنه نهاه, قال: اليس فعله بالآلة التي ركبها فيه؟ قال: نعم ولكن بالآلة التي عمل بها الخير قدر بها على الشر الذي نهاه عنه, قال: فإلى العبد من الأمر شيء؟ قال: ما نهاه الله عن شيء إلا وقد علم أنه يطيق تركه, ولا أمره بشيء إلا وقد علم أنه يستطيع فعله, لأنه ليس من صفته الجور والعبث والظلم وتكليف العباد ما لا يطيقون. قال: فمن خلقه الله كافرا يستطيع الإيمان, وله عليه بتركه الإيمان حجة, قال (ع): إن الله خلق خلقه جميعا مسلمين, أمرهم ونهاهم, والكفر اسم يلحق الفعل حين يفعله العبد, ولم يخلق الله العبد حين خلقه كافرا, إنه إنما كفر من بعد أن بلغ وقتا لزمته الحجة من الله تعالى, فعرض عليه الحق فجحده فبإنكار الحق صار كافرا. قال: فيجوز أن يقدر على العبد الشر ويأمره بالخير؟ وهو لا يستطيع الخير أن يعمله ويعذبه عليه, قال: إنه لا يليق بعدل الله ورأفته أن يقدر على العبد الشر ويريده منه, ثم يأمره بما يعلم أنه لا يستطيع أخذه والانتزاع عما لا يقدر على تركه ثم يعذبه على تركه أمره الذي علم أنه لا يستطيع أخذه. قال: فبما ذا استحق الذين أغناهم وأوسع عليهم من رزقه الغنى والسعة؟ وبما ذا استحق الفقراء التقتير والضيق؟ قال: اختبر الأغنياء بما أعطاهم لينظر كيف شكرهم, والفقراء إنما منعهم لينظر كيف صبرهم, ووجه آخر أنه عجل لقوم في حياتهم ولقوم آخر ليوم حاجتهم إليه, ووجه آخر أنه علم احتمال كل قوم فأعطاهم على قدر احتمالهم, ولو كان الخلق كلهم أغنياء لخربت الدنيا وفسد التدبير وصار أهلها إلى الفناء, ولكن جعل بعضهم لبعض عونا, وجعل أسباب أرزاقهم في ضروب الأعمال وأنواع الصناعات, وذلك أدوم في البقاء وأصح في التدبير, ثم اختبر الأغنياء باستعطاف الفقراء كل ذلك لطف ورحمة من الحكيم الذي لا يعاب تدبيره. قال: فما استحق الطفل الصغير ما يصيبه من الأوجاع والأمراض بلا ذنب عمله ولا جرم سلف منه؟ قال: إن المرض على وجوه شتى, مرض بلوى, ومرض العقوبة, ومرض جعل عليه الفناء, وأنت تزعم أن ذلك من أغذية رديئة وأشربة وبيئة أو من علة كانت بأمه, وتزعم أن من أحسن السياسة لبدنه وأجمل النظر في أحوال نفسه وعرف الضار مما يأكل من النافع لم يمرض, وتميل في قولك إلى من يزعم أنه لا يكون المرض والموت إلا من المطعم والمشرب, قد مات أرسطاطاليس معلم الأطباء, وأفلاطون رئيس الحكماء, وجالينوس شاخ ودق بصره, وما دفع الموت حين نزل بساحته, ولم يألوا حفظ نفسهم والنظر لما يوافقها, كم من مريض قد زاده المعالج سقما, وكم من طبيب عالم وبصير بالأدواء والأدوية ماهر مات, وعاش الجاهل بالطب بعده زمانا, فلا ذاك نفعه علمه بطبه عند انقطاع مدته وحضور أجله, ولا هذا ضره الجهل بالطب مع بقاء المدة وتأخر الأجل, ثم قال (ع): إن أكثر الأطباء قالوا إن علم الطب لم يعرفه الأنبياء, فما نصنع على قياس قولهم بعلم زعموا ليس تعرفه الأنبياء الذين كانوا حجج الله على خلقه وأمناءه في أرضه وخزان علمه وورثة حكمته والأدلاء عليه والدعاة إلى طاعته, ثم إني وجدت أكثرهم يتنكب في مذهبه سبل الأنبياء, ويكذب الكتب المنزلة عليهم من الله تبارك وتعالى, فهذا الذي أزهدني في طلبه وحامليه, قال: فكيف تزهد في قوم وأنت مؤدبهم وكبيرهم؟ قال: إني لما رأيت الرجل منهم الماهر في طبه إذا سألته لم يقف على حدود نفسه وتأليف بدنه وتركيب أعضائه ومجرى الأغذية في جوارحه ومخرج نفسه وحركة لسانه ومستقر كلامه ونور بصره وانتشار ذكره واختلاف شهواته وانسكاب عبراته ومجمع سمعه وموضع عقله ومسكن روحه ومخرج عطسته وهيج غمومه وأسباب سروره وعلة ما حدث فيه من بكم وصمم وغير ذلك لم يكن عندهم في ذلك أكثر من أقاويل استحسنوها, وعلل فيما بينهم جوزوها. قال: فأخبرني عن الله عز وجل, اله شريك في ملكه أو مضاد له في تدبيره؟ قال: لا, قال: فما هذا الفساد الموجود في هذا العالم, من سباع ضارية, وهوام مخوفة, وخلق كثير مشوهة, ودود وبعوض وحيات وعقارب, وزعمت أنه لا يخلق شيئا إلا لعلة لأنه لا يعبث؟ قال: الست تزعم أن العقارب تنفع من وجع المثانة والحصاة ولمن يبول في الفراش؟ وإن أفضل الترياق ما عولج من لحوم الأفاعي, وإن لحومها إذا أكلها المجذوم لشبت نفعه, وتزعم أن الدود الأحمر الذي يصاب تحت الأرض نافع للأكلة, قال: نعم, قال (ع): فأما البعوض والبق فبعض سببه أنه جعل أرزاق الطير, وأهان بها جبارا تمرد على الله وتجبر وأنكر ربوبيته, فسلط الله عليه أضعف خلقه ليريه قدرته وعظمته وهي البعوض, فدخلت في منخره حتى وصلت إلى دماغه فقتلته, واعلم أنا لو وقفنا على كل شيء خلقه الله لم خلقه ولأي شيء أنشأه, لكنا قد ساويناه في علمه, وعلمنا كل ما يعلم, واستغنينا عنه, وكنا وهو في العلم سواء. قال: فأخبرني هل يعاب شيء من خلق الله وتدبيره؟ قال: لا, قال: فإن الله خلق خلقه غرلا اذلك منه حكمة أم عبث؟ قال: بل حكمة منه, قال: غيرتم خلق الله وجعلتم فعلكم في قطع القلفة أصوب مما خلق الله لها, وعبتم الأقلف والله خلقه, ومدحتم الختان وهو فعلكم, أم تقولون إن ذلك من الله كان خطأ غير حكمة؟ قال (ع): ذلك من الله حكمة وصواب, غير أنه سن ذلك وأوجبه على خلقه, كما أن المولود إذا خرج من بطن أمه وجدنا سرته متصلة بسرة أمه, كذلك خلقها الحكيم, فأمر العباد بقطعها وفي تركها فساد بين للمولود والأم, وكذلك أظفار الإنسان, أمر إذا طالت أن تقلم وكان قادرا يوم دبر خلقة الإنسان أن يخلقها خلقة لا تطول, وكذلك الشعر من الشارب والرأس يطول فيجز, وكذلك الثيران خلقها فحولة وإخصاؤها أوفق, وليس في ذلك عيب في تقدير الله تعالى. قال: الست تقول: يقول الله {ادعوني أستجب لكم}؟ وقد نرى المضطر يدعوه فلا يستجاب له, والمظلوم يستنصره على عدوه فلا ينصره, قال (ع): ويحك ما يدعوه أحد إلا استجاب له, أما الظالم فدعاؤه مردود إلى أن يتوب إليه, وأما المحق فإنه إذا دعاه استجاب له وصرف عنه البلاء من حيث لا يعلمه, وادخر له ثوابا جزيلا ليوم حاجته إليه, وإن لم يكن الأمر الذي سأل العبد خيرة له إن أعطاه أمسك عنه, والمؤمن العارف بالله ربما عز عليه أن يدعوه فيما لا يدري اصواب ذلك أم خطأ, وقد يسأل العبد ربه إهلاك من لم ينقطع مدته, ويسأل المطر وقتا ولعله أوان لا يصلح فيه المطر, لأنه أعرف بتدبير ما خلق من خلقه وأشباه ذلك كثيرة, فافهم هذا. قال فأخبرني أيها الحكيم ما بال السماء لا ينزل منها إلى الأرض أحد, ولا يصعد من الأرض إليها بشر, ولا طريق إليها ولا مسلك؟ فلو نظر العباد في كل دهر مرة من يصعد إليها وينزل لكان ذلك أثبت في الربوبية, وأنفى للشك, وأقوى لليقين, وأجدر أن يعلم العباد أن هناك مدبرا إليه يصعد الصاعد, ومن عنده يهبط الهابط, قال (ع): إن كل ما ترى في الأرض من التدبير إنما هو ينزل من السماء ومنها ما يظهر, اما ترى الشمس منها تطلع وهي نور النهار وفيها قوام الدنيا, ولو حبست حار من عليها وهلك, والقمر منها يطلع وهو نور الليل, وبه يعلم عدد السنين والحساب والشهور والأيام, ولو حبس لحار من عليها, وفسد التدبير, وفي السماء النجوم التي يهتدى بها في ظلمات البر والبحر, ومن السماء ينزل الغيث الذي فيه حياة كل شيء من الزرع والنبات والأنعام, وكل الخلق لو حبس عنهم لما عاشوا, والريح لو حبست أياما لفسدت الأشياء جميعا وتغيرت, ثم الغيم والرعد والبرق والصواعق كل ذلك إنما هو دليل على أن هناك مدبرا يدبر كل شيء ومن عنده ينزل, وقد كلم الله موسى (ع) وناجاه, ورفع الله عيسى ابن مريم (ع) والملائكة تنزل من عنده, غير أنك لا تؤمن بما لم تره بعينك وفيما تراه بعينك كفاية أن تفهم وتعقل. قال: فلو أن الله رد إلينا من الأموات في كل مائة عام لنسأله عمن مضى منا إلى ما صاروا, وكيف حالهم, وما ذا لقوا بعد الموت, وأي شيء صنع بهم ليعمل الناس على اليقين اضمحل الشك, وذهب الغل عن القلوب, قال: إن هذه مقالة من أنكر الرسل وكذبهم, ولم يصدق بما به من عند الله, إذا أخبروا وقالوا إن الله أخبر في كتابه عز وجل على لسان الأنبياء حال من مات منا افيكون أحد أصدق من الله قولا ومن رسله, وقد رجع إلى الدنيا ممن مات خلق كثير, منهم أصحاب الكهف أماتهم الله ثلاثمائة عام وتسعة, ثم بعثهم في زمان قوم أنكروا البعث ليقطع حجتهم وليريهم قدرته وليعلموا أن البعث حق, وأمات الله إرميا النبي الذي نظر إلى خراب بيت المقدس وما حوله حين غزاهم بخت نصر فقال {أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام} ثم أحياه ونظر إلى أعضائه كيف تلتئم وكيف تلبس اللحم وإلى مفاصله وعروقه كيف توصل فلما استوى قاعدا قال {أعلم أن الله على كل شيء قدير}, وأحيا الله قوما خرجوا عن أوطانهم هاربين من الطاعون لا يحصى عددهم فأماتهم الله دهرا طويلا حتى بليت عظامهم وتقطعت أوصالهم وصاروا ترابا, فبعث الله تعالى في وقت أحب أن يرى خلقه قدرته نبيا يقال له حزقيل (ع), فدعاهم فاجتمعت أبدانهم ورجعت فيها أرواحهم وقاموا كهيئة يوم ماتوا لا يفتقدون من أعدادهم رجلا, فعاشوا بعد ذلك دهرا طويلا, وإن الله أمات قوما خرجوا مع موسى (ع) حين توجه إلى الله فقالوا{أرنا الله جهرة} فأماتهم الله ثم أحياهم. قال" فأخبرني عمن قال بتناسخ الأرواح, من أي شيء قالوا ذلك؟ وبأي حجة قاموا على مذاهبهم؟ قال: إن أصحاب التناسخ قد خلفوا وراءهم منهاج الدين وزينوا لأنفسهم الضلالات, وأمرجوا أنفسهم في الشهوات, وزعموا أن السماء خاوية ما فيها شيء مما يوصف, وأن مدبر هذا العالم في صورة المخلوقي,ن بحجة من روى أن الله عز وجل خلق آدم على صورته, وأنه لا جنة ولا نار ولا بعث ولا نشور والقيامة عندهم, خروج الروح من قالبه وولوجه في قالب آخر إن كان محسنا في القالب الأول أعيد في قالب أفضل منه حسنا في أعلى درجة الدنيا, وإن كان مسيئا أو غير عارف صار في بعض الدواب المتعبة في الدنيا أو هوام مشوهة الخلقة وليس عليهم صوم ولا صلاة ولا شيء من العبادة أكثر من معرفة من تجب عليه معرفته, وكل شيء من شهوات الدنيا مباح لهم من فروج النساء وغير ذلك من نكاح الأخوات والبنات والخالات وذوات البعولة, وكذلك الميتة والخمر والدم, فاستقبح مقالتهم كل الفرق ولعنهم كل الأمم, فلما سألوا الحجة زاغوا وحادوا فكذب مقالتهم التوراة, ولعنهم الفرقان, وزعموا مع ذلك أن إلههم ينتقل من قالب إلى قالب, وأن الأرواح الأزلية هي التي كانت في آدم ثم هلم جرا تجري إلى يومنا هذا في واحد بعد آخر, فإذا كان الخالق في صورة المخلوق فبما يستدل على أن أحدهما خالق صاحبه؟ وقالوا إن الملائكة من ولد آدم, كل من صار في أعلى درجة دينهم خرج من منزلة الامتحان والتصفية فهو ملك, فطورا تخالهم نصارى في أشياء, وطورا دهرية يقولون إن الأشياء على غير الحقيقة, قد كان يجب عليهم أن لا يأكلوا شيئا من اللحمان, لأن الدواب عندهم كلها من ولد آدم حولوا من صورهم فلا يجوز أكل لحوم القرابات. قال: ومن زعم أن الله يزل ومعه طينة موذية فلم يستطيع التفصي منها إلا بامتزاجه بها ودخوله فيها, فمن تلك الطينة خلق الأشياء؟ قال: سبحان الله تعالى ما أعجز إلها يوصف بالقدرة, لا يستطيع التفصي من الطينة إن كانت الطينة حية أزلية, فكانا إلهين قديمين فامتزجا ودبر العالم من أنفسهما, فإن كان ذلك كذلك فمن أين جاء الموت والفناء؟ وإن كانت الطينة ميتة فلا بقاء للميت مع الأزلي القديم والميت لا يجيء منه حي, هذه مقالة الديصانية أشد الزنادقة قولا, وأهملهم مثلا, نظروا في كتب قد صنفتها أوائلهم وحبروها لهم بألفاظ مزخرفة من غير أصل ثابت ولا حجة توجب إثبات ما ادعوا, كل ذلك خلافا على الله وعلى رسله وتكذيبا بما جاءوا به عن الله, فأما من زعم أن الأبدان ظلمة والأرواح نور وأن النور لا يعمل الشر والظلمة لا تعمل الخير فلا تجب عليهم أن يلوموا أحدا على معصية, ولا ركوب حرمة, ولا إتيان فاحشة, وإن ذلك على الظلمة غير مستنكر, لأن ذلك فعلها ولا له أن يدعو ربا ولا يتضرع إليه, لأن النور رب, والرب لا يتضرع إلى نفسه, ولا يستعيذ بغيره, ولا لأحد من أهل المقالة أن يقول أحسنت أو أسأت, لأن الإساءة من فعل الظلمة وذلك فعلها, والإحسان من النور, ولا يقول النور لنفسه أحسنت يا محسن, وليس هناك ثالث فكانت الظلمة على قياس قولهم أحكم فعلا وأتقن تدبيرا وأعز أركانا من النور, لأن الأبدان محكمة, فمن صور هذا الخلق صورة واحدة على نعوت مختلفة, وكل شيء يرى ظاهرا من الزهر والأشجار والثمار والطير والدواب يجب أن يكون إلها, ثم حبست النور في حبسها والدولة لها, وأما ما ادعوا بأن العاقبة سوف تكون للنور فدعوى وينبغي على قياس قولهم أن لا يكون للنور فعل, لأنه أسير وليس له سلطان فلا فعل له ولا تدبير, وإن كان له مع الظلمة تدبير فما هو بأسير بل هو مطلق عزيز, فإن لم يكن كذلك وكان أسير الظلمة فإنه يظهر في هذا العالم إحسان وخير مع فساد وشر فهذا يدل على أن الظلمة تحسن الخير وتفعله كما تحسن الشر وتفعله, فإن قالوا محال ذلك, فلا نور يثبت ولا ظلمة, وبطلت دعواهم ورجع الأمر إلى أن الله واحد وما سواه باطل, فهذه مقالة ماني الزنديق وأصحابه, وأما من قال النور والظلمة بينهما حكم فلا بد من أن يكون أكبر الثلاثة الحكم, لأنه لا يحتاج إلى الحاكم إلا مغلوب أو جاهل أو مظلوم, وهذه مقالة المدقونية والحكاية عنهم تطول. قال: فما قصة ماني؟ قال: متفحص أخذ بعض المجوسية فشابها ببعض النصرانية فأخطأ الملتين ولم يصب مذهبا واحدا منهما, وزعم أن العالم دبر من إلهين نور وظلمة, وأن النور في حصار من الظلمة على ما حكينا منه فكذبته النصارى وقبلته المجوس. قال: فأخبرني عن المجوس, ابعث الله إليهم نبيا, فإني أجد لهم كتبا محكمة ومواعظ بليغة وأمثالا شافية يقرون بالثواب والعقاب, ولهم شرائع يعملون بها, قال: {ما من أمة إلا خلا فيها نذير} وقد بعث إليهم نبي بكتاب من عند الله فأنكروه وجحدوا لكتابه, قال: ومن هو؟ فإن الناس يزعمون أنه خالد بن سنان, قال (ع): إن خالدا كان عربيا بدويا ما كان نبيا, وإنما ذلك شيء يقوله الناس, قال: افزردشت؟ قال: إن زردشت أتاهم بزمزمة وادعى النبوة, فآمن منهم قوم وجحده قوم, فأخرجوه فأكلته السباع في برية من الأرض. قال: فأخبرني عن المجوس, كانوا أقرب إلى الصواب في دهرهم أم العرب؟ قال: العرب في الجاهلية كانت أقرب إلى الدين الحنيفي من المجوس, وذلك أن المجوس كفرت بكل الأنبياء وجحدت كتبها وأنكرت براهينها, ولم تأخذ بشيء من سننها وآثارها, وأن كيخسرو ملك المجوس في الدهر الأول قتل ثلاثمائة نبي, وكانت المجوس لا تغتسل من الجنابة والعرب كانت تغتسل, والاغتسال من خالص شرائع الحنيفية, وكانت المجوس لا تختتن وهو من سنن الأنبياء, وإن أول من فعل ذلك إبراهيم خليل الله (ع), وكانت المجوس لا تغتسل موتاهم ولا تكفنها وكانت العرب تفعل ذلك, وكانت المجوس ترمي الموتى في الصحاري والنواويس والعرب تواريها في قبورها وتلحد لها, وكذلك السنة على الرسل, إن أول من حفر له قبر آدم أبو البشر وألحد له لحد, وكانت المجوس تأتي الأمهات وتنكح البنات والأخوات وحرمت ذلك العرب, وأنكرت المجوس بيت الله الحرام وسمته بيت الشيطان والعرب كانت تحجه وتعظمه ويقول بيت ربنا, وتقر بالتوراة والإنجيل, وتسأل أهل الكتاب وتأخذ عنهم, وكانت العرب في كل الأسباب أقرب إلى الدين الحنيفي من المجوس. قال: فإنهم احتجوا بإتيان الأخوات أنها سنة من آدم, قال: فما حجتهم في إتيان البنات والأمهات؟ وقد حرم ذلك آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وسائر الأنبياء (ع), وكل ما جاء عن الله عز وجل, قال: فلم حرم الله تعالى الخمر ولا لذة أفضل منها؟ قال: حرمها لأنها أم الخبائث, أو ليس كل شيء يأتي على شاربها ساعة يسلب لبه ولا يعرف ربه, ولا يترك معصية إلا ركبها, ولا حرمة إلا انتهكها, ولا رحما ماسة إلا قطعها, ولا فاحشة إلا أتاها, والسكران زمامه بيد الشيطان, إن أمره أن يسجد للأوثان سجد وينقاد حيث ما قاده. قال: فلم حرم الدم المسفوح؟ قال: لأنه يورث القساوة, ويسلب الفؤاد رحمته, ويعفن البدن, ويغير اللون, وأكثر ما يصيب الإنسان الجذام يكون من أكل الدم, قال: فأكل الغدد؟ قال (ع): يورث الجذام, قال: فالميتة لم حرمها؟ قال: فرقا بينها وبين ما يذكر عليه اسم الله, والميتة قد جمد فيها الدم وتراجع إلى بدنها فلحمها ثقيل غير مريء, لأنها يؤكل لحمها بدمها, قال: فالسمك ميتة, قال: إن السمك ذكاته إخراجه حيا من الماء, ثم يترك حتى يموت من ذات نفسه, وذلك أنه ليس له دم وكذلك الجراد. قال: فلم حرم الزنا؟ قال: لما فيه من الفساد, وذهاب المواريث, وانقطاع الأنساب, لا تعلم المرأة في الزنا من أحبلها, ولا المولود يعلم من أبوه, ولا أرحام موصولة ولا قرابة معروفة. قال: فلم حرم اللواط؟ قال: من أجل أنه لو كان إتيان الغلام حلالا لاستغنى الرجال عن النساء, وكان فيه قطع النسل وتعطيل الفروج, وكان في إجازة ذلك فساد كثير. قال: فلم حرم إتيان البهيمة؟ قال (ع): كره أن يضيع الرجل ماءه ويأتي غير شكله, ولو أباح ذلك لربط كل رجل أتانا يركب ظهرها ويغشى فرجها, فكان يكون في ذلك فساد كثير, فأباح ظهورها وحرم عليهم فروجها, وخلق للرجال النساء ليأنسوا بهن, ويسكنوا إليهن, ويكن موضع شهواتهم وأمهات أولادهم. قال: فما علة الغسل من الجنابة؟ وإن ما أتي حلال وليس في الحلال تدنيس, قال (ع): إن الجنابة بمنزلة الحيض, وذلك أن النطفة دم ولا تستحكم ولا يكون الجماع إلا بحركة شديدة وشهوة غالبة, وإذا فرغ تنفس البدن ووجد الرجل من نفسه رائحة كريهة, فوجب الغسل لذلك, وغسل الجنابة مع ذلك أمانة ائتمن الله تعالى عليها عبيده ليختبرهم بها. قال: أيها الحكيم, فما تقول فيمن زعم أن هذا التدبير الذي يظهر في هذا العالم تدبير النجوم السبعة؟ قال: يحتاجون إلى دليل, أن هذا العالم الأكبر والعالم الأصغر من تدبير النجوم التي تسبح في الفلك وتدور حيث دارت متعبة لا تفتر وسائرة لا تقف, ثم قال (ع): وإن كل نجم منها موكل مدبر فهي بمنزلة العبيد المأمورين المنهيين, فلو كانت قديمة أزلية لم تتغير من حال إلى حال. قال: فمن قال بالطبائع؟ قال: من لم يملك البقاء ولا صرف الحوادث, وغيرته الأيام والليالي, لا يرد الهرم ولا يدفع الأجل, ما تصنع به. قال: فأخبرني عمن زعم أن الخلق لم يزل يتناسلون ويتوالدون, ويذهب قرن ويجيء قرن, تفنيهم الأمراض والأعراض وصنوف الآفات, يخبرك الآخر عن الأول, وينبئك الخلف عن السلف, والقرون عن القرون, أنهم وجدوا الخلق على هذا الوصف بمنزلة الشجر والنبات في كل دهر يخرج منه حكيم عليم بمصلحة الناس, بصير بتأليف الكلام ويصنف كتابا قد حبره بفطنته وحسنه بحكمته, قد جعله حاجزا بين الناس يأمرهم بالخير ويحثهم عليه وينهاهم عن السوء والفساد ويزجرهم عنه لئلا يتهاوشوا ولا يقتل بعضهم بعضا؟ قال (ع): ويحك إن من خرج من بطن أمه أمس ويرحل عن الدنيا غدا, لا علم له بما كان قبله ولا ما يكون بعده, ثم إنه لا يخلو الإنسان من أن يكون خلق نفسه أو خلقه غيره أو لم يزل موجودا, فما ليس بشيء لا يقدر على أن يخلق شيئا وهو ليس بشيء, وكذلك ما لم يكن فيكون شيئا يسأل فلا يعلم كيف كان ابتداؤه, ولو كان الإنسان أزليا لم تحدث فيه الحوادث لأن الأزلي لا تغيره الأيام ولا يأتي عليه الفناء مع أنا لم نجد بناء من غير بان ولا أثرا من غير مؤثر ولا تأليفا من غير مؤلف, فمن زعم أن أباه خلقه قيل: فمن خلق أباه؟ ولو أن الأب هو الذي خلق ابنه لخلقه على شهوته وصوره على محبته ولملك حياته ولجار فيه حكمه مرض, فلم ينفعه ومات فعجز عن رده, إن من استطاع أن يخلق خلقا وينفخ فيه روحا حتى يمشي على رجليه سويا يقدر أن يدفع عنه الفساد. قال: فما تقول في علم النجوم؟ قال: هو علم, قلت: منافعه وكثرت مضراته لأنه لا يدفع به المقدور ولا يتقى به المحذور, إن أخبر المنجم بالبلاء لم ينجه التحرز من القضاء, وإن أخبر هو بخير لم يستطع تعجيله, وإن حدث به سوء لم يمكنه صرفه, والمنجم يضاد الله في علمه بزعمه أنه يرد قضاء الله عن خلقه, قال: فالرسول أفضل أم الملك المرسل إليه؟ قال: بل الرسول أفضل, قال: فما علة الملائكة الموكلين بعباده يكتبون عليهم ولهم والله عالم السر وما هو أخفى؟ قال (ع): استعبدهم بذلك وجعلهم شهودا على خلقه ليكون العباد لملازمتهم إياهم أشد على طاعة الله مواظبة, وعن معصيته أشد انقباضا, وكم من عبد يهم بمعصية فيذكر مكانها فارعوى, وكف فيقول ربي يراني وحفظتي علي بذلك تشهد, وإن الله برأفته ولطفه أيضا وكلهم بعباده يذبون عنه مردة الشياطين وهوام الأرض وآفات كثيرة من حيث لا يرون بإذن الله إلى أن يجيء أمر الله عز وجل. قال: فخلق الخلق للرحمة أم للعذاب؟ قال خلقهم للرحمة وكان في علمه قبل خلقه إياهم أن قوما منهم يصيرون إلى عذابه بأعمالهم الرديئة وجحدهم به, قال: يعذب من أنكر فاستوجب عذابه بإنكاره, فبم يعذب من وحده وعرفه؟ قال: يعذب المنكر لإلهيته عذاب الأبد, ويعذب المقر به عذابا عقوبة لمعصيته إياه فيما فرض عليه, ثم يخرج {ولا يظلم ربك أحدا}. قال: فبين الكفر والإيمان منزلة؟ قال: لا, قال: فما الإيمان وما الكفر؟ قال: الإيمان أن يصدق الله فيما غاب عنه من عظمة الله لتصديقه بما شاهد من ذلك وعاين, والكفر الجحود, قال: فما الشرك وما الشك؟ قال: الشرك أن يضم إلى الواحد الذي ليس كمثله شيء آخر, والشك ما لم يعتقد قلبه شيئا. قال: افيكون العالم جاهلا؟ قال: عالم بما يعلم وجاهل بما يجهل. قال: فما السعادة وما الشقاوة؟ قال: السعادة سبب خير تمسك به السعيد فيجره إلى النجاة, والشقاوة سبب خذلان تمسك به الشقي فجره إلى الهلكة, وكل بعلم الله تعالى. قال: أخبرني عن السراج إذا انطفأ أين يذهب نوره؟ قال: يذهب فلا يعود, قال: فما أنكرت أن يكون الإنسان مثل ذلك, إذا مات وفارق الروح البدن لم يرجع إليه أبدا كما لا يرجع ضوء السراج إليه أبدا إذا انطفأ؟ قال: لم تصب القياس, إن النار في الأجسام كامنة, والأجسام قائمة بأعيانها كالحجر والحديد, فإذا ضرب أحدهما بالآخر سطعت من بينهما نار يقتبس منهما سراج له الضوء, فالنار ثابتة في أجسامها والضوء ذاهب, والروح جسم رقيق قد ألبس قالبا كثيفا وليس بمنزلة السراج الذي ذكرت, إن الذي خلق في الرحم جنينا من ماء صاف وركب فيه ضروبا مختلفة من عروق وعصب وأسنان وشعر وعظام وغير ذلك هو يحييه بعد موته ويعيده بعد فنائه. قال: فأين الروح؟ قال: في بطن الأرض حيث مصرع البدن إلى وقت البعث, قال: فمن صلب أين روحه؟ قال: في كف الملك الذي قبضها حتى يودعها الأرض, قال: فأخبرني عن الروح اغير الدم؟ قال: نعم الروح على ما وصفت لك مادته من الدم, ومن الدم رطوبة الجسم وصفاء اللون وحسن الصوت وكثرة الضحك, فإذا جمد الدم فارق الروح البدن, قال: فهل يوصف بخفة وثقل ووزن؟ قال: الروح بمنزلة الريح في الزق, إذا نفخت فيه امتلأ الزق منها فلا يزيد في وزن الزق ولوجها فيه ولا ينقصها خروجها منه, كذلك الروح ليس لها ثقل ولا وزن. قال: فأخبرني ما جوهر الريح؟ قال: الريح هواء إذا تحرك سمي ريحا, فإذا سكن سمي هواء, وبه قوام الدنيا, ولو كفت الريح ثلاثة أيام لفسد كل شيء على وجه الأرض ونتن وذلك, أن الريح بمنزلة المروحة تذب وتدفع الفساد عن كل شيء وتطيبه, فهي بمنزلة الروح إذا خرج عن البدن نتن البدن وتغير, تبارك الله أحسن الخالقين. قال: افيتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه أم هو باق؟ قال: بل هو باق إلى وقت ينفخ في الصور, فعند ذلك تبطل الأشياء وتفنى فلا حس ولا محسوس, ثم أعيدت الأشياء كما بدأها مدبرها وذلك أربعمائة سنة تسبت فيها الخلق, وذلك بين النفختين. قال: وأنى له بالبعث والبدن قد بلي والأعضاء قد تفرقت, فعضو ببلدة يأكلها سباعها, وعضو بأخرى تمزقه هوامها, وعضو قد صار ترابا بني به مع الطين حائط؟ قال: إن الذي أنشأه من غير شيء وصوره على غير مثال كان سبق إليه قادر أن يعيده كما بدأه, قال: أوضح لي ذلك, قال: إن الروح مقيمة في مكانها, روح المحسن في ضياء وفسحة, وروح المسيء في ضيق وظلمة, والبدن يسير ترابا منه خلق وما تقذف به السباع والهوام من أجوافها مما أكلته ومزقته, كل ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرة في ظلمات الأرض, ويعلم عدد الأشياء ووزنها, وإن تراب الروحانيين بمنزلة الذهب في التراب, فإذا كان حين البعث مطرت الأرض مطر النشور, فتربو الأرض ثم تمخض مخض السقاء فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب, إذا غسل بالماء والزبد من اللبن إذا مخض فيجتمع تراب كل قالب فينقل بإذن القادر إلى حيث الروح, فتعود الصور بإذن المصور كهيئتها وتلج الروح فيها, فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا. قال: أخبرني عن الناس يحشرون يوم القيامة عراة؟ قال: بل يحشرون في أكفانهم, قال: أنى لهم بالأكفان وقد بليت؟ قال: إن الذي أحيا أبدانهم جدد أكفانهم, قال: فمن مات بلا كفن؟ قال: يستر الله عورته بما شاء من عنده, قال: فيعرضون صفوفا؟ قال: نعم هم يومئذ عشرون ومائة ألف صف في عرض الأرض. قال: اوليس توزن الأعمال؟ قال (ع): لا إن الأعمال ليست بأجسام وإنما هي صفة ما عملوا, وإنما يحتاج إلى وزن الشيء من جهل عدد الأشياء ولا يعرف ثقلها وخفتها, وإن الله لا يخفى عليه شيء, قال: فما الميزان؟ قال: العدل, قال: فما معناه في كتابه: {فمن ثقلت موازينه}؟ قال: فمن رجح عمله. قال: فأخبرني اوليس في النار مقنع أن يعذب خلقه بها دون الحيات والعقارب؟ قال: إنما يعذب بها قوما زعموا أنها ليست من خلقه, إنما شريكه الذي يخلقه فيسلط الله تعالى عليهم العقارب والحيات في النار ليذيقهم بها وبال ما كانوا عليه فجحدوا أن يكون صنعه. قال: فمن أين قالوا إن أهل الجنة يأتي الرجل منهم إلى ثمرة يتناولها فإذا أكلها عادت كهيئتها؟ قال: نعم ذلك على قياس السراج, يأتي القابس فيقتبس منه فلا ينقص من ضوئه شيء وقد امتلأت الدنيا منه سرجا. قال: اليسوا يأكلون ويشربون, وتزعم أنه لا تكون لهم الحاجة؟ قال: بلى, لأن غذاءهم رقيق لا ثفل له, بل يخرج من أجسادهم بالعرق, قال: فكيف تكون الحوراء في كل ما أتاها زوجها عذراء؟ قال: لأنها خلقت من الطيب لا تعتريها عاهة ولا تخالط جسمها آفة ولا يجري في ثقبها شيء ولا يدنسها حيض, فالرحم ملتزقة إذ ليس فيه لسوى الإحليل مجرى, قال: فهي تلبس سبعين حلة ويرى زوجها مخ ساقها من وراء حللها وبدنها؟ قال: نعم كما يرى أحدكم الدراهم إذا ألقيت في ماء صاف قدره قيد رمح, قال: فكيف ينعم أهل الجنة بما فيها من النعيم وما منهم أحد إلا وقد افتقد ابنه أو أباه أو حميمه أو أمه, فإذا افتقدوهم في الجنة لم يشكوا في مصيرهم إلى النار, فما يصنع بالنعيم من يعلم أن حميمه في النار يعذب؟ قال (ع): إن أهل العلم قالوا إنهم ينسون ذكرهم, وقال بعضهم: انتظروا قدومهم ورجوا أن يكونوا بين الجنة والنار في أصحاب الأعراف. قال: فأخبرني عن الشمس أين تغيب؟ قال: إن بعض العلماء قالوا إذا انحدرت أسفل القبة دار بها الفلك إلى بطن السماء صاعدة أبدا إلى أن تنحط إلى موضع مطلعها, يعني أنها تغيب في عين حامئة ثم تخرق الأرض راجعة إلى موضع مطلعها, فتحير تحت العرش حتى يؤذن لها بالطلوع, ويسلب نورها كل يوم ويتجلل نور آخر. قال: فالكرسي أكبر أم العرش؟ قال: كل شيء خلقه الله تعالى في جوف الكرسي خلا عرشه, فإنه أعظم من أن يحيط به الكرسي. قال: فخلق النهار قبل الليل؟ قال: نعم خلق النهار قبل الليل, والشمس قبل القمر, والأرض قبل السماء, ووضع الأرض قبل الحوت, والحوت في الماء, والماء في صخرة مجوفة, والصخرة على عاتق ملك, والملك على الثرى, والثرى على الريح العقيم, والريح على الهواء, والهواء تمسكه القدرة, وليس تحت الريح العقيم إلا الهواء والظلمات, ولا وراء ذلك سعة ولا ضيق ولا شيء يتوهم, ثم خلق الكرسي فحشاه السماوات والأرض, والكرسي أكبر من كل شيء خلق, ثم خلق العرش فجعله أكبر من الكرسي.
---------------
بحار الانوار ج 10 ص 164, الاجتجاج ج 2 ص 336, العوالم ج 20 ص 533
تحقيق مركز سيد الشهداء (ع) للبحوث الإسلامية