الشيخ الطبرسي في الإحتجاج, ذكر كتاب ورد من الناحية المقدسة حرسها الله ورعاها في أيام بقيت من صفر, سنة عشر وأربعمائة على الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان قدس الله روحه ونور ضريحه, ذكر موصله أنه يحمله من ناحية متصلة بالحجاز, نسخته:
للأخ السديد, والولي الرشيد, الشيخ المفيد, أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان أدام الله اعزازه, من مستودع العهد المأخوذ على العباد بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد,
سلام عليك أيها الولي المخلص في الدين, المخصوص فينا باليقين فإنَّا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو, ونسأله الصلاة على سيدنا ومولانا ونبينا محمد وآله الطاهرين, ونُعلمك أدام الله توفيقك لنصرة الحق, وأجزل مثوبتك على نطقك عنا بالصدق أنه قد أُذن لنا في تشريفك بالمكاتبة, وتكليفك ما تؤديه عنا إلى موالينا قبلك, أعزهم الله بطاعته, وكفاهم المهم برعايته لهم وحراسته, فقف أيدك الله بعونه على أعدائه المارقين من دينه على ما أذكره, واعمل في تأديته إلى من تسكن إليه بما نرسمه إن شاء الله.
نحن وإن كنا ناوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين, حسب الذي أراناه الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الدنيا للفاسقين, فإنَّا نحيط علماً بأنبائكم, ولا يعزب عنا شيء من أخباركم, ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً, ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، إنَّا غير مهملين لمراعاتكم, ولا ناسين لذكركم, ولولا ذلك لنزل بكم اللاواء أو اصطلمكم الأعداء فاتقوا الله جل جلاله وظاهرونا على انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم, يهلك فيها من حُم أجله ويحمى عنها من أدرك أمله, وهي أمارة لازوف حركتنا ومباثتكم بأمرنا ونهينا, والله متم نوره ولو كره المشركون.
اعتصموا بالتقية من شب نار الجاهلية, يحششها عصب أموية, يهول بها فرقة مهدية, أنا زعيم بنجاة من لم يرم فيها المواطن, وسلك في الطعن منها السبل المرضية, إذا حل جمادى الاولى من سنتكم هذه فاعتبروا بما يحدث فيه, واستيقظوا من رقدتكم لما يكون في الذي يليه، ستظهر لكم من السماء آية جلية, ومن الارض مثلها بالسوية, ويحدث في أرض المشرق ما يحزن ويقلق, ويغلب من بعد على العراق طوائف عن الاسلام مراق, تضيق بسوء فعالهم على أهله الارزاق, ثم تنفرج الغمة من بعد ببوار طاغوت من الاشرار, ثم يستر بهلاكه المتقون الأخيار, ويتفق لمريدي الحج من الافاق ما يؤملونه منه على توفير عليه منهم واتفاق, ولنا في تيسير حجهم على الاختيار منهم والوفاق شأن يظهر على نظام واتساق، فليعمل كل امرء منكم بما يقرب به من بمحبتنا, ويتجنب ما يدنيه من كراهتنا وسخطنا, فإن أمرنا بغتة فجأة حين لا تنفعه توبة ولا ينجيه من عقابنا ندم على حوبة، والله يلهمكم الرشد, ويلطف لكم في التوفيق برحمته.
نسخة التوقيع باليد العليا على صاحبها السلام, هذا كتابنا إليك أيها الاخ الولي، والمخلص في ودنا الصفي، والناصر لنا الوفي، حرسك الله بعينه التي لا تنام، فاحتفظ به ولا تظهر على خطنا الذي سطرناه بما له ضمناه أحداً, وأد ما فيه إلى من تسكن إليه، وأوص جماعتهم بالعمل عليه إن شاء الله، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
--------------
الإحتجاج ج2 ص322، عنه البحار ج53 ص174، المزار للشيخ المفيد ص7، تهذيب الأحكام للطوسي ج1 ص37، خاتمة المستدرك ج3 ص224.
تحقيق مركز سيد الشهداء (ع) للبحوث الاسلامية
الشيخ الطبرسي في الاحتجاج, ورد على الشيخ أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان قدس الله روحه كتاب آخر من قبله صلوات الله عليه, يوم الخميس الثالث والعشرين من ذي الحجة, سنة اثني عشر وأربعمائة نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم سلام الله عليك أيها الناصر للحق, الداعي إليه بكلمة الصدق, فإنا نحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو, إلهنا وإله آبائنا الأولين, ونسأله الصلاة على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين, وعلى أهل بيته الطاهرين, وبعد فقد كنا نظرنا مناجاتك عصمك الله بالسبب الذي وهبه الله لك من أوليائه, وحرسك به من كيد أعدائه, وشفعنا ذلك الآن من مستقر لنا ينصب في شمراخ، من بهماء صرنا إليه آنفاً من غماليل ألجأنا إليه السباريت من الايمان، ويوشك أن يكون هبوطنا إلى صحصح من غير بعد من الدهر ولا تطاول من الزمان, ويأتيك نبأ منا بما يتجدد لنا من حال، فتعرف بذلك ما نعتمده من الزلفة إلينا بالاعمال، والله موفقك لذلك برحمته، فلتكن حرسك الله بعينه التي لا تنام أن تقابل لذلك فتنة تسبل نفوس قوم حرثت باطلاً لاسترهاب المبطلين، يبتهج لذمارها المؤمنون، ويحزن لذلك المجرمون، وآية حركتنا من هذه اللوثة حادثة بالحرم المعظم من رجس منافق مذمم، مستحل للدم المحرم، يعمد بكيده أهل الايمان ولا يبلغ بذلك غرضه من الظلم والعدوان، لاننا من وراء حفظهم بالدعاء الذي لا يحجب عن ملك الارض والسماء، فليطمئن بذلك من أوليائنا القلوب، وليثقوا بالكفاية منه، وإن راعتهم بهم الخطوب، والعاقبة بجميل صنع الله سبحانه تكون حميدة لهم ما اجتنبوا المنهي عنه من الذنوب.
ونحن نعهد إليك أيها الولي المخلص المجاهد فينا الظالمين أيدك الله بنصره الذي أيد به السلف من أوليائنا الصالحين، أنه من اتقى ربه من إخوانك في الدين وأخرج مما عليه إلى مستحقيه، كان آمناً من الفتنة المبطلة، ومحنها المظلمة المظلة, ومن بخل منهم بما أعاده الله من نعمته على من أمره بصلته، فإنه يكون خاسراً بذلك لأولاه وآخرته, ولو أن أشياعنا وفقهم الله لطاعته على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم, لما تأخر عنهم اليمن بلقائنا, ولتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة وصدقها منهم بنا, فما يحبسنا عنهم إلا ما يتصل بنا مما نكرهه, ولا نؤثره منهم, والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل, وصلاته على سيدنا البشير النذير محمد وآله الطاهرين وسلم.
وكتب في غرة شوال من سنة اثني عشر وأربعمائة, نسخة التوقيع باليد العليا صلوات الله على صاحبها: هذا كتابنا إليك أيها الولي الملهم للحق العلي, بإملائنا وخط ثقتنا, فاخفه عن كل احد, واطوه واجعل له نسخة يطلع عليها من تسكن إلى أمانته من أوليائنا شملهم الله ببركتنا إن شاء الله, الحمد لله والصلاة على سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين.
-----------
الإحتجاج ج2 ص324, عنه البحار ج53 ص176, المزار للشيخ المفيد ص9, تهذيب الأحكام ج1 ص39, خاتمة المستدرك ج3 ص226.
تحقيق مركز سيد الشهداء (ع) للبحوث الاسلامية
الشيخ الطوسي في الغيبة, أخبرني جماعة, عن أبي محمد التلعكبري, عن أحمد بن علي الرازي, عن الحسين بن علي القمي قال: حدثني محمد بن علي بن بنان الطلحي الآبي, عن علي بن محمد بن عبدة النيسابوري قال: حدثني علي بن إبراهيم الرازي قال: حدثني الشيخ الموثوق به بمدينة السلام قال: تشاجر ابن أبي غانم القزويني وجماعة من الشيعة في الخلف, فذكر ابن أبي غانم أن أبا محمد (ع) مضى ولا خلف له, ثم إنهم كتبوا في ذلك كتاباً وأنفذوه إلى الناحية, وأعلموه بما تشاجروا فيه, فورد جواب كتابهم بخطه عليه وعلى آبائه السلام:
بسم الله الرحمن الرحيم عافانا الله وإياكم من الضلالة والفتن, ووهب لنا ولكم روح اليقين, وأجارنا وإياكم من سوء المنقلب أنه أنهي إلي ارتياب جماعة منكم في الدين, وما دخلهم من الشك والحيرة في ولاة أمورهم, فغمنا ذلك لكم لا لنا, وساءنا فيكم لا فينا, لأن الله معنا ولا فاقة بنا إلى غيره, والحق معنا فلن يوحشنا من قعد عنا, ونحن صنائع ربنا, والخلق بعد صنائعنا.
يا هؤلاء! ما لكم في الريب تترددون, وفي الحيرة تنعكسون؟ أو ما سمعتم الله عز وجل يقول: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}؟! أو ما علمتم ما جاءت به الآثار مما يكون ويحدث في أئمتكم عن الماضين والباقين منهم عليهم السلام؟! أو ما رأيتم كيف جعل الله لكم معاقل تأوون إليها, وأعلاماً تهتدون بها من لدن آدم (ع) إلى أن ظهر الماضي (ع), كلما غاب علم بدا علم, وإذا أفل نجم طلع نجم؟! فلما قبضه الله إليه ظننتم أن الله تعالى أبطل دينه, وقطع السبب بينه وبين خلقه, كلا ما كان ذلك ولا يكون حتى تقوم الساعة, ويظهر أمر الله سبحانه وهم كارهون، وإن الماضي (ع) مضى سعيداً فقيداً على منهاج آبائه عليهم السلام حذو النعل بالنعل, وفينا وصيته وعلمه, ومن هو خلفه ومن هو يسد مسده, لا ينازعنا موضعه إلا ظالم آثم, ولا يدعيه دوننا إلا جاحد كافر, ولولا أن أمر الله تعالى لا يُغلب, وسره لا يُظهر ولا يُعلن, لظهر لكم من حقنا ما تبين منه عقولكم, ويزيل شكوككم, لكنه ما شاء الله كان, ولكل أجل كتاب، فاتقوا الله وسلموا لنا, وردوا الامر إلينا, فعلينا الاصدار كما كان منا الايراد, ولا تحاولوا كشف ما غطي عنكم ولا تميلوا عن اليمين, وتعدلوا إلى الشمال, واجعلوا قصدكم إلينا بالمودة على السنة الواضحة, فقد نصحت لكم, والله شاهد عليَّ وعليكم, ولولا ما عندنا من محبة صلاحكم ورحمتكم, والاشفاق عليكم, لكنا عن مخاطبتكم في شغل فيما قد امتحنا به من منازعة الظالم العتل الضال المتتابع في غيه, المضاد لربه, الداعي ما ليس له, الجاحد حق من افترض الله طاعته, الظالم الغاصب، وفي ابنة رسول الله (ص) لي أسوة حسنة وسيردي الجاهل رداءة عمله, وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار, عصمنا الله وإياكم من المهالك والاسواء, والآفات والعاهات كلها برحمته, فإنه ولي ذلك والقادر على ما يشاء, وكان لنا ولكم ولياً وحافظاً, والسلام على جميع الأوصياء والأولياء والمؤمنين ورحمة الله وبركاته, وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليماً.
-------------
الغيبة للطوسي ص285، الإحتجاج ج2 ص278، عنه البحار ج53 ص178, منتخب الأنوار المضيئة ص221، إلزام الناصب ج1 ص386.
تحقيق مركز سيد الشهداء (ع) للبحوث الاسلامية
مما كتب الامام المهدي (عج) جوابا لإسحاق بن يعقوب إلى العمري: أما ظهور الفرج فإنه إلى الله و كذب الوقاتون و أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم و أنا حجة الله و أما المتلبسون بأموالنا فمن استحل منها شيئا فأكل فإنما يأكل النيران و أما الخمس فقد أبيح لشيعتنا و جعلوا منه في حل إلى وقت ظهور أمرنا لتطيب ولادتهم و لا تخبث و أما علة ما وقع من الغيبة فإن الله عز و جل قال {يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} إنه لم يكن أحد من آبائي إلا و قد وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه و إني أخرج حين أخرج و لا بيعة لأحد من الطواغيت في عنقي و أما وجه الانتفاع بي في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيبها عن الأبصار السحاب و إني أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء.
------------
بحار الأنوار ج 75 ص 380, الاحتجاج ج 2 ص 469, اعلام الورى ص 452, غيبة الطوسي ص 290, كشف الغمة ج 2 ص 531, كمال الدين ج 2 ص 483
تحقيق مركز سيد الشهداء (ع) للبحوث الاسلامية
عن سعد بن عبد الله القمي، قال: كنت امرأ لهجا بجمع الكتب المشتملة على غوامض العلوم ودقائقها، كلفا باستظهار ما يصح من حقائقها، مغرما بحفظ مشتبهها ومستغلقها، شحيحا على ما أظفر به من معاضلها ومشكلاتها متعصبا لمذهب الامامية راغبا عن الأمن والسلامة في انتظار التنازع والتخاصم والتعدي الى التباغض والتشاتم، معيبا للفرق ذوي الخلاف، كاشفا عن مثالب أئمتهم هتاكا لحجب قادتهم، إلى أن بليت بأشد النواصب منازعة، وأطولهم مخاصمة، وأكثرهم جدلا، وأشنعهم سؤالا، وأثبتهم على الباطل قدما. فقال ذات يوم- وأنا اناظره- تبا لك يا سعد ولأصحابك معاشر الرافضة تقصدون على المهاجرين والأنصار بالطعن عليهما وتجحدون من رسول الله (ص) ولايتهما وإمامتهما، هذا الصديق الذي فاق جميع الصحابة بشرف سابقته، اما علمتم أن رسول الله (ص) ما أخرجه مع نفسه إلى الغار إلا علما منه بأن الخلافة له من بعده، وأنه هو المقلد لأمر التاويل والملقى إليه أزمة الامة، وعليه المعول في شعب الصدع ولم الشعث وسد الخلل، وإقامة الحدود، وتسريب الجيوش لفتح بلاد الشرك فكما اشفق على نبوته أشفق على خلافته، إذ ليس من حكم الاستتار والتواري أن يروم الهارب من الشر مساعدة إلى مكان يستخفي فيه، ولما رأينا النبي (ص) متوجها إلى الانجحار ولم تكن الحال توجب استدعاء المساعدة من أحد استبان لنا قصد رسول الله (ص) بأبي بكر إلى الغار للعلة التي شرحناها، وإنما أبات عليا (ع) على فراشه لما لم يكن ليكترث له ولم يحفل به ولاستثقاله ولعلمه بأنه إن قتل لم يتعذر عليه نصب غيره مكانه للخطوب التي كان يصلح لها. قال سعد: فأوردت عليه أجوبة شتى فما زال يقصد كل واحد منها بالنقض والرد علي، ثم قال: يا سعد دونكها اخرى بمثلها تخطم آناف الروافض الستم تزعمون ان الصديق المبرى عن دنس الشكوك؛ والفاروق المحامي عن بيضة الإسلام كانا يسران النفاق واستدللتم بليلة العقبة أخبرني عن الصديق والفاروق اأسلما طوعا أو كرها؟ قال سعد: فاحتلت لدفع هذه المسألة عني خوفا من الإلزام وحذرا من أني إن أقررت له بطوعيتهما بالإسلام احتج بأن بدءوا النفاق ونشؤه في القلب لا يكون إلا عند هبوب روائح القهر والغلبة واظهار البأس الشديد في حمل المرء على من ليس ينقاد له قلبه نحو قول الله عز وجل: {فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا} وان قلت: أسلما كرها كان يقصدني بالطعن إذ لم يكن ثمة سيوف منتضاة كانت تريهما البأس. قال سعد: فصدرت عنه مزورا وقد انتفخت أحشائي من الغضب وتقطع كبدي من الكرب، وكنت قد اتخذت طومارا وأثبت فيه نيفا وأربعين مسألة من صعاب المسائل لم أجد لها مجيبا على أن أسأل فيها خبير أهل بلدي أحمد بن إسحاق صاحب مولانا أبي محمد (ع) فارتحلت خلفه، وقد كان خرج قاصدا نحو مولانا بسرمنرأى فلحقته في بعض المناهل، فلما تصافحنا قال: بخير لحاقك بي؟ قلت: الشوق ثم العادة في الأسئلة قال: قد تكافينا على هذه الخطة الواحدة فقد برح بي القرم إلى لقاء مولانا أبي محمد (ع) واريد أن أسأله عن معاضل في التاويل ومشاكل من التنزيل، فدونكها الصحبة المباركة، فإنها تقف بك على ضفة بحر لا تنقضي عجائبه ولا تفنى غرائبه وهو إمامنا. فوردنا سر من رأى، فانتهينا منها إلى باب سيدنا (ع) فاستأذنا، فخرج علينا الآذن بالدخول عليه، وكان على عاتق أحمد بن اسحاق جراب قد غطاه بكساء طبري فيه مائة وستون صرة من الدنانير والدراهم، على كل صرة منها ختم صاحبها. قال سعد: فما شبهت وجه مولانا أبي محمد (ع) حين غشينا نور وجهه إلا ببدر قد استوفي من لياليه أربعا بعد عشر، وعلى فخذه الأيمن غلام يناسب المشتري في الخلقة والمنظر، وعلى رأسه فرق بين وفرتين كأنه ألف بين واوين، وبين يدي مولانا رمانة ذهبية تلمع بدائع نقوشها وسط غرائب الفصوص المركبة عليها، قد كان أهداها إليه بعض رؤساء اهل البصرة، وبيده قلم إذا أراد أن يسطر به على البياض شيئا قبض الغلام على أصابعه، فكان مولانا (ع) يدحرج الرمانة بين يديه ويشغله بردها كيلا يصده عن كتابة ما أراد، فسلمنا عليه فألطف في الجواب وأومأ إلينا بالجلوس. فلما فرغ من كتبه البياض الذي كان بيده أخرج أحمد بن إسحاق جرابه من طي كسائه فوضعه بين يديه، فنظر الهادي (ع) إلى الغلام وقال له: يا بني فض الخاتم عن هدايا شيعتك ومواليك، فقال: يا مولاي ايجوز أن أمد يدا طاهرة إلى هدايا نجسة وأموال رجسة قد شيب أحلها بأحرمها؟ فقال مولاي (ع): يا ابن إسحاق استخرج ما في الجراب ليميز بين الحلال والحرام منها، فأول صرة بدأ أحمد بإخراجها قال الغلام: هذه لفلان ابن فلان من محلة كذا بقم، تشتمل على اثنين وستين دينارا فيها من ثمن حجرة باعها صاحبها وكانت إرثا له عن أبيه خمسة وأربعون دينارا، ومن أثمان تسعة أثواب أربعة عشر دينارا، وفيها من اجرة الحوانيت ثلاثة دنانير. فقال مولانا (ع): صدقت يا بني دل الرجل على الحرام منها. فقال (ع): فتش عن دينار رازي السكة تاريخه سنة كذا قد انطمس من نصف إحدى صفحتيه نقشه وقراضة آملية وزنها ربع دينار، والعلة في تحريمها أن صاحب هذه الجملة وزن في شهر كذا من سنة كذا على حائك من جيرانه من الغزل منا وربع من، فاتت على ذلك مدة وفي انتهائها قيض لذلك الغزل سارقا فأخبر به الحائك صاحبه فكذبه واسترد منه بعد ذلك منا ونصف من غزلا أدق مما كان دفعه إليه واتخذ من ذلك ثوبا كان هذا الدينار مع القراضة ثمنه، فلما فتح رأس الصرة صادف رقعة في وسط الدنانير باسم من أخبر عنه وبمقدارها على حسب ما قال، واستخرج الدنانير والقراضة بتلك العلامة. ثم أخرج صرة اخرى فقال الغلام (ع): هذه لفلان بن فلان من محلة كذا بقم تشتمل خمسين دينارا لا يحل لنا لمسها، قال: وكيف ذلك؟ قال: لأنها ثمن حنطة حاف صاحبها على أكاره في المقاسمة، وذلك أنه قبض حصته منها بكيل واف وكال ما خص الاكار بكيل بخس، فقال مولانا (ع): صدقت يا بني. ثم قال: يا أحمد بن إسحاق احملها بأجمعها لتردها أو توصي بردها على أربابها فلا حاجة لنا في شيء منها وائتنا بثوب العجوز. قال أحمد: وكان ذلك الثوب في حقيبة لي فنسيته. فلما انصرف أحمد بن إسحاق ليأتيه بالثوب نظر إلي مولانا أبو محمد (ع) فقال: ما جاء بك يا سعد؟ فقلت: شوقني أحمد بن إسحاق إلى لقاء مولانا. قال: فالمسائل التي أردت أن تسأله عنها؟ قلت: على حالها يا مولاي. قال: فسل قرة عيني عنها- وأومأ إلى الغلام- فقال لي الغلام: سل عما بدا لك عنها، فقلت له: مولانا وابن مولانا إنا روينا عنكم أن رسول الله (ص) جعل طلاق نسائه بيد أمير المؤمنين (ع) حتى أرسل يوم الجمل إلى عائشة أنك قد أرهجت على الإسلام وأهله بفتنتك، وأوردت بنيك حياض الهلاك بجهلك، فإن كففت عني غربك وإلا طلقتك، ونساء رسول الله (ص) قد كان طلاقهن وفاته. قال: ما الطلاق؟ قلت: تخلية السبيل. قال: فإذا كان وفاة رسول الله (ص) قد خلى لهن السبيل فلم لا يحل لهن الأزواج؟ قلت: لأن الله تبارك وتعالى حرم الازواج عليهن. قال: وكيف وقد خلى الموت سبيلهن؟ قلت: فأخبرني يا ابن مولاي عن معنى الطلاق الذي فوض رسول الله (ص) حكمه الى أمير المؤمنين (ع) قال: إن الله تقدس اسمه عظم شأن نساء النبي (ص) فخصهن بشرف الامهات، فقال رسول الله (ص): يا أبا الحسن إن هذا الشرف باق لهن ما دمن لله على الطاعة، فأيتهن عصت الله بعدي بالخروج عليك فأطلق لها في الأزواج وأسقطها من شرف أمومة المؤمنين. قلت: فأخبرني عن الفاحشة المبينة التي إذا أتت المرأة بها في أيام عدتها حل للزوج أن يخرجها من بيته؟ قال: الفاحشة المبينة هي السحق دون الزنا، فإن المرأة إذا زنت واقيم عليها الحد ليس لمن أرادها أن يمتنع بعد ذلك من التزويج بها لأجل الحد، وإذا سحقت وجب عليها الرجم والرجم خزي ومن قد أمر الله برجمه فقد أخزاه، ومن أخزاه فقد أبعده، ومن أبعده فليس لأحد أن يقربه. قلت: فأخبرني يا ابن رسول الله عن أمر الله تعالى لنبيه موسى (ع): {فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى} فإن فقهاء الفريقين يزعمون أنها كانت من إهاب الميتة. قال: صلوات الله عليه: من قال ذلك فقد افترى على موسى (ع) واستجهله في نبوته لأنه ما خلا الأمر فيها من خطيئتين إما أن تكون صلاة موسى (ع) فيهما جائزة أو غير جائزة، فإن كانت صلاته جائزة جاز له لبسهما في تلك البقعة، إذ لم تكن مقدسة، وإن كانت مقدسة مطهرة فليست بأقدس وأطهر من الصلاة، وإن كانت صلاته غير جائزة فيهما فقد أوجب على موسى (ع) أنه لم يعرف الحلال من الحرام، وما علم ما جاز فيه الصلاة وما لم يجز وهذا كفر. قلت: فأخبرني يا مولاي عن التأويل فيهما، قال صلوات الله عليه: إن موسى (ع) ناجى ربه بالواد المقدس فقال: يا رب إني قد أخلصت لك المحبة مني فغسلت قلبي عما سواك، وكان شديد المحبة لأهله، فقال الله تعالى: {فاخلع نعليك} أي انزع حب أهلك من قلبك إن كانت محبتك لي خالصة، وقلبك من الميل إلى من سواي مغسولا. قلت: فأخبرني يا ابن رسول الله عن تاويل «كهيعص» قال: هذه الحروف من أنباء الغيب اطلع الله عليها عبده زكريا ثم قصها على محمد (ص) وذلك أن زكريا سأل ربه أن يعلمه أسماء الخمسة فأهبط عليه جبرئيل فعلمه إياها، فكان زكريا إذا ذكر محمدا وعليا وفاطمة والحسن والحسين سرى عنه همه وانجلى كربه وإذا ذكر الحسين (ع) خنقته العبرة، ووقعت عليه البهرة فقال ذات يوم: إلهي ما بالي إذا ذكرت أربعا منهم (ع) تسليت بأسمائهم من همومي، وإذا ذكرت الحسين (ع) تدمع عيني وتثور زفرتي؟ فأنبأه الله تبارك وتعالى عن قصته فقال: {كهيعص} «فالكاف» اسم كربلاء «و الهاء» هلاك العترة «و الياء» يزيد لعنه الله وهو ظالم الحسين (ع) «و العين» عطشه «و الصاد» صبره. فلما سمع بذلك زكريا (ع) لم يفارق مسجده ثلاثة أيام ومنع فيها الناس من الدخول عليه، وأقبل على البكاء والنحيب وكانت ندبته: إلهي أتفجع خير خلقك بولده؟ اتنزل بلوى هذه الرزية بفنائه؟ إلهي أتلبس عليا وفاطمة ثياب هذه المصيبة؟ إلهي اتحل كربة هذه الفجيعة بساحتهما؟! ثم كان يقول: إلهي ارزقني ولدا تقر به عيني على الكبر، واجعله وارثا وصيا واجعل محله مني محل الحسين (ع)، فإذا رزقتنيه فافتني بحبه ثم أفجعني به كما تفجع محمدا (ص) حبيبك بولده، فرزقه الله يحيى (ع) وفجعه به وكان حمل يحيى (ع) ستة أشهر، وحمل الحسين (ع) كذلك وله قصة طويلة. قلت: فأخبرني يا مولاي عن العلة التي تمنع القوم من اختيار الإمام لأنفسهم. قال: مصلح أو مفسد؟ قلت: مصلح، قال: فهل يجوز أن يقع خيرتهم على المفسد بعد أن لا يعلم أحد بما يخطر ببال غيره من صلاح أو فساد؟ قلت: بلى قال: فهي العلة، أوردها لك ببرهان يثق به عقلك. ثم قال: اخبرني عن الرسل الذين اصطفاهم الله عز وجل وأنزل عليهم الكتب وأيدهم بالوحي والعصمة أنهم اعلام الامم وأهدى إلى الاختيار منهم مثل موسى وعيسى (ع) هل يجوز مع وفور عقلهما وكمال علمهما إذا هما بالاختيار أن تقع خيرتهما على المنافق وهما يظنان أنه مؤمن، قلت: لا. فقال: هذا موسى كليم الله مع وفور عقله وكمال علمه ونزول الوحي عليه اختار من أعيان قومه ووجوه عسكره لميقات ربه عز وجل سبعين رجلا ممن لا يشك في إيمانهم وإخلاصهم فوقع خيرته على المنافقين قال الله عز وجل: {واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا} الى قوله: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} {فأخذتهم الصاعقة بظلمهم} فلما وجدنا اختيار من قد اصطفاه الله عز وجل للنبوة واقعا على الأفسد دون الأصلح وهو يظن أنه الأصلح دون الأفسد علمنا أن الاختيار لا يجوز أن يفعل إلا من يعلم ما تخفي الصدور وما تكن الضمائر وتتصرف عليه السرائر وأن لا خطر لاختيار المهاجرين والأنصار بعد وقوع خيرة الأنبياء على ذوي الفساد لما أرادوا أهل الصلاح. ثم قال مولانا (ع): يا سعد وحين ادعى خصمك أن رسول الله (ص) ما أخرج مع نفسه مختار هذه الامة الى الغار إلا علما منه أن الخلافة له من بعده وأنه هو المقلد امور التأويل والملقى إليه أزمة الامة وعليه المعول في لم الشعث وسد الخلل وإقامة الحدود، وتسريب الجيوش لفتح بلاد الكفر فكما أشفق على نبوته أشفق على خلافته إذا لم يكن من حكم الاستتار والتواري أن يروم الهارب من الشر مساعدة من غيره الى مكان يستخفي فيه وإنما أبات عليا (ع) على فراشه لما لم يكن يكترث له ولم يحفل به لاستثقاله إياه وعلمه بأنه إن قتل لم يتعذر عليه نصب غيره مكانه للخطوب التي كان يصلح لها. فهلا نقضت عليه دعواه بقولك: اليس قال رسول الله (ص): الخلافة بعدي ثلاثون سنة فجعل هذه موقوفة على أعمار الأربعة الذين هم الخلفاء الراشدون في مذهبكم فكان لا يجد بدا من قوله لك: بلى، فكنت تقول حينئذ اليس كما علم رسول الله أن الخلافة من بعده لأبي بكر علم أنها من بعد أبي بكر لعمر، ومن بعد عمر لعثمان، ومن بعد عثمان لعلي فكان أيضا لا يجد بدا من قوله لك: نعم، ثم كنت تقول له: فكان الواجب على رسول الله (ص) أن يخرجهم جميعا على الترتيب إلى الغار ويشفق عليهم كما أشفق على أبي بكر ولا يستخف بقدر هؤلاء الثلاثة بتركه إياهم وتخصيصه أبا بكر وإخراجه مع نفسه دونهم. ولما قال: أخبرني عن الصديق والفاروق أسلما طوعا أو كرها؟ لم لم تقل له: بل أسلما طمعا وذلك لأنهما كانا يجالسان اليهود ويستخبرانهم عما كانوا يجدون في التوراة وفي سائر الكتب المتقدمة الناطقة بالملاحم من حال الى حال من قصة محمد (ص) ومن عواقب أمره، فكانت اليهود تذكر أن محمدا (ص) يسلط على العرب كما كان بختنصر سلط على بني إسرائيل ولا بد له من الظفر بالعرب كما ظفر بخت نصر ببني إسرائيل غير أنه كاذب في دعواه في أنه نبي. فأتيا محمدا رسول الله (ص) فساعداه على قول شهادة أن لا إله الا الله وبايعا طمعا في أن ينال كل واحد منهما من جهة ولاية بلد إذا استقامت اموره واستتبت أحواله فلما آيسا من ذلك تلثما وصعدا العقبة مع عدة من أمثالهما من المنافقين على أن يقتلوه فدفع الله عز وجل كيدهم وردهم بغيظهم لم ينالوا خيرا، كما أتى طلحة والزبير عليا (ع) فبايعاه وطمع كل واحد منهما أن ينال من جهته ولاية بلد، فلما أيسا نكثا ببيعته، وخرجا عليه فصرع الله كل واحد منهما مصرع أشباههما من الناكثين. قال سعد: ثم قام مولانا الحسن بن علي الهادي (ع) للصلاة مع الغلام فانصرفت عنهما، وطلبت أثر أحمد بن إسحاق فاستقبلني باكيا فقلت: ما أبطأك وأبكاك؟ قال: قد فقدت الثوب الذي سألني مولاي إحضاره، قلت: لا عليك فأخبره، فدخل عليه مسرعا وانصرف من عنده متبسما وهو يصلي على محمد وأهل بيته، فقلت: ما الخبر؟ قال: وجدت الثوب مبسوطا تحت قدمي مولانا (ع) يصلي عليه. قال سعد: فحمدنا الله جل ذكره على ذلك، وجعلنا نختلف بعد ذلك اليوم إلى منزل مولانا (ع) أياما فلا نرى الغلام بين يديه، (1) فلما كان يوم الوداع دخلت أنا وأحمد بن إسحاق وكهلان من أهل ارضنا وانتصب أحمد بن إسحاق بين يديه قائما وقال: يا ابن رسول الله (ص) قد دنت الرحلة واشتدت المحنة فنحن نسأل الله عز وجل أن يصلي على محمد المصطفى جدك وعلي المرتضى أبيك، وعلى سيدة النساء امك، وعلى سيدي شباب أهل الجنة عمك وأبيك وعلى الأئمة الطاهرين من بعدهما آبائك، وأن يصلي عليك وعلى ولدك ونرغب أن يعلي كعبك ويكبت عدوك ولا جعل هذا آخر عهدنا من لقائك. قال: فلما قال هذه الكلمة استعبر مولانا (ع) حتى استهلت دموعه وتقاطرت عبراته ثم قال: يا ابن إسحاق لا تكلف في دعائك شططا فإنك ملاق الله عز وجل في سفرك هذا فخر أحمد مغشيا عليه، فلما أفاق قال: سألتك بالله بحرمة جدك إلا شرفتني بخرقة أجعلها كفنا فأدخل مولانا يده تحت البساط فأخرج ثلاثة عشر درهما فقال: خذها ولا تنفق على نفسك غيرها، فإنك لن تعدم ما سألت، وإن الله تبارك وتعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا. قال سعد: فلما انصرفنا بعد منصرفنا من حضرة مولانا من حلوان على ثلاثة فراسخ حم أحمد بن إسحاق وثارت به علة صعبة أيس من حياته فيها، فلما وردنا حلوان ونزلنا في بعض الخانات دعا أحمد بن إسحاق برجل من أهل بلده كان قاطنا بها ثم قال: تفرقوا عني هذه الليلة واتركوني وحدي فانصرفنا عنه، فرجع كل واحد منا إلى مرقده. قال سعد: فلما حان أن ينكشف الليل عن الصبح أصابتني فكرة ففتحت عيني فاذا أنا بكافور الخادم خادم مولانا أبي محمد (ع) وهو يقول: أحسن الله بالخير عزاكم وجبر بالخير رزيتكم قد فرغنا من غسل صاحبكم ومن تكفينه فقوموا لدفنه فإنه أكرمكم محلا عند سيدكم، ثم غاب عن أعيننا فاجتمعنا على رأسه بالبكاء والعويل حتى قضينا حقه وفرغنا من أمره رحمه الله. (2)
-----------
(1) الى هنا في دلائل الإمامة ومدينة المعاجز
(2) كمال الدين ج 2 ص 453, منتخب الأنوار ص 145, حلية الأبرار ج 6 ص 212, بحار الأنوار ج 52 ص 78, رياض الأبرار ج 3 ص 107, دلائل الإمامه ص 506 بأختصار, مدينة المعاجز ج 8 ص 49 بأختصار
تحقيق مركز سيد الشهداء (ع) للبحوث الاسلامية