لما رأت قريش أنه - رسول الله ص - يفشو أمره في القبائل وأن حمزة (ع) أسلم, وأن عمرو بن العاص رد في حاجته عند النجاشي, فأجمعوا أمرهم ومكرهم على أن يقتلوا رسول الله (ص) علانية, فلما رأى ذلك أبو طالب (ع) جمع بني عبد المطلب فأجمع لهم أمرهم على أن يدخلوا رسول الله (ص) شعبهم, فاجتمع قريش في دار الندوة وكتبوا صحيفة على بني هاشم أن لا يكلموهم ولا يزوجوهم ولا يتزوجوا إليهم ولا يبايعوهم أو يسلموا إليهم رسول الله (ص), وختم عليها أربعون خاتما وعلقوها في جوف الكعبة - وفي رواية عند زمعة بن الأسود - فجمع أبو طالب (ع) بني هاشم وبني عيد المطلب في شعبه وكانوا أربعين رجلا مؤمنهم وكافرهم ما خلا أبا لهب - وساق الحديث - فظاهراهم عليه فحلف أبو طالب (ع) لئن شاكت محمدا (ص) شوكة لآتين عليكم يا بني هاشم, وحصن الشعب وكان يحرسه بالليل والنهار وفي ذلك يقول:
ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا ... نبيا كموسى خط في أول الكتب
أليس أبونا هاشم شد أزره ... وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب
وإن الذي علقتم من كتابكم ... يكون لكم يوما كراغية السقب
أفيقوا أفيقوا قبل أن تحفر الزبى ... ويصبح من لم يجن ذنبا كذي الذنب
وله:
وقالوا خطة جورا وحمقا ... وبعض القول أبلج مستقيم
لتخرج هاشم فيصير منها ... بلاقع بطن مكة والحطيم
فمهلا قومنا لا تركبونا ... بمظلمة لها أمر وخيم
فيندم بعضكم ويذل بعض ... وليس بمفلح أبدا ظلوم
فلا والراقصات بكل خرق ... إلى معمور مكة لا يريم
طوال الدهر حتى تقتلونا ... ونقتلكم وتلتقي الخصوم
ويعلم معشر قطعوا وعقوا ... بأنهم هم الجد الظليم
أرادوا قتل أحمد ظالميه ... وليس لقتله فيهم زعيم
ودون محمد فتيان قوم ... هم العرنين والعضو الصميم
------------
مناقب آل أبي طالب ج 1 ص 63, بحار الأنوار ج 35 ص 91
تحقيق مركز سيد الشهداء (ع) للبحوث الاسلامية
فاجتمعوا في دار الندوة، وكتبوا بينهم صحيفة، أن لا يؤاكلوا بني هاشم، ولا يكلموهم، ولا يبايعوهم، ولا يزوجوهم، ولا يتزوجوا إليهم، ولا يحضروا معهم، حتى يدفعوا محمدا إليهم فيقتلونه، وإنهم يد واحدة على محمد، ليقتلوه غيلة أو صراحا. فلما بلغ ذلك أبا طالب، جمع بني هاشم، ودخل الشعب، وكانوا أربعين رجلا، فحلف لهم أبو طالب بالكعبة، والحرم، والركن، والمقام، لئن شاكت محمدا شوكة لآتين عليكم يا بني هاشم، وحصن الشعب، وكان يحرسه بالليل والنهار، فإذا جاء الليل، يقوم بالسيف عليه، ورسول الله (ص) مضطجع، ثم يقيمه ويضطجعه في موضع آخر، فلا يزال الليل كله هكذا، ووكل ولده، وولد أخيه به، يحرسونه بالنهار، وأصابهم الجهد، وكان من دخل من العرب مكة، لا يجسر أن يبيع من بني هاشم شيئا، ومن باع منهم شيئا انتهبوا ماله. وكان أبو جهل والعاص بن وائل والنضر بن الحارث بن كلدة، وعقبة بن أبي معيط، يخرجون إلى الطرقات التي تدخل مكة، فمن رأوه معه ميرة (الطعام الذي يدخره الإنسان) نهوه أن يبيع من بني هاشم شيئا، ويحذرونه إن باع شيئا أن ينهبوا ماله، وكانت خديجة لها مال كثير، فأنفقته على رسول الله (ص) في الشعب، ولم يدخل في حلف الصحيفة مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد المطلب بن عبد مناف وقال: هذا ظلم. وختموا الصحيفة بأربعين خاتما، ختمها كل رجل من رؤساء قريش بخاتمه، وعلقوها في الكعبة، وتابعهم أبو لهب على ذلك، وكان رسول الله (ص) يخرج في كل موسم، فيدور على قبائل العرب، فيقول لهم: تمنعون لي جانبي حتى أتلو عليكم كتاب ربي، وثوابكم على الله الجنة، وأبو لهب في أثره، فيقول: لا تقبلوا منه، فإنه ابن أخي، وهو ساحر كذاب. فلم يزل هذه حاله، فبقوا في الشعب أربع سنين، لا يأمنون إلا من موسم إلى موسم، ولا يشترون، ولا يبايعون إلا في الموسم وكان يقوم بمكة موسمان في كل سنة: موسم للعمرة في رجب، وموسم للحج في ذي الحجة، فكان إذا جاءت المواسم، يخرج بنو هاشم من الشعب، فيشترون ويبيعون، ثم لا يجسر أحد منهم أن يخرج إلى الموسم الثاني، فأصابهم الجهد وجاعوا، وبعثت قريش إلى أبي طالب (ع): ادفع إلينا محمدا حتى نقتله ونملكك علينا فقال أبو طالب (ع): قصيدته الطويلة اللامية التي يقول فيها.
فلما رأيت القوم لا ود فيهم ... وقد قطعوا كل العرى والوسائل
ألم تعلموا أن ابننا لا مكذب ... لدينا ولا يعبأ بقول الأباطل
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يطوف به الهلاك من آل هاشم ... فهم عنده في نعمة وفواضل
كذبتم وبيت الله نبزي محمدا ... ولما نطاعن دونه ونقاتل
ونسلمه حتى نصرع دونه ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد ... وأحببته حب الحبيب المواصل
وجدت بنفسي دونه وحميته ... ودرأت عنه بالذرى والكلاكل
فلا زال في الدنيا جمالا لأهلها ... وشينا لمن عادى وزين المحافل
حليما، رشيدا، حازما، غير طائش ... يوالي إله الحق ليس بماحل
فأيده رب العباد بنصره ... وأظهر دينا حقه غير باطل
فلما سمعوا هذه القصيدة أيسوا منه.
-------------
إعلام الورى ص 49, حلية الأبرار ج 1 ص 81, بحار الأنوار ج 19 ص 1, القصص للراوندي ص 327 نحوه
تحقيق مركز سيد الشهداء (ع) للبحوث الاسلامية
وحصروا بني هاشم في شعب أبي طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع من حين تنبئ رسول الله (ص)
----------
الطبقات الكبرى ج 1 ص 209, نهاية الأرب ج 16 ص 259, نحوه: عمدة القاري ج 9 ص 230, حياة الحيوان الكبرى ج 1 ص 35, إمتاع الأسماع ج 1 ص 44, كفاية الطالب اللبيب ج 1 ص 151
تحقيق مركز سيد الشهداء (ع) للبحوث الاسلامية
فلم يدعوا أحدا من الناس يدخل عليهم طعاما ولا شيئا مما يرفق بهم, وكانوا يخرجون من الشعب إلى الموسم وكانت قريش تبادرهم إلى الأسواق فيشترونها ويغلونها عليهم, ونادى منادي الوليد بن المغيرة في قريش" أيما رجل وجدتموه عند طعام يشتريه فزيدوا عليه.
----------
سيرة ابن إسحاق ج 2 ص 140
تحقيق مركز سيد الشهداء (ع) للبحوث الاسلامية
من قصيدة لأبي طالب (ع)
فأمسى ابن عبد الله فينا مصدقا ... على ساخط من قومنا غير معتب
فلا تحسبونا خاذلين محمدا ... لدى غربة منا ولا متقرب
ستمنعه منا يد هاشمية ... ومركبها في الناس أحسن مركب
فلا والذي تخذى له كل نضوة ... طليح بجنبي نخلة فالمحصب
يمينا صدقنا الله فيها ولم نكن ... لنحلف بطلا بالعتيق المحجب
نفارقه حتى نصرع حوله ... وما بال تكذيب النبي المقرب
----------
مناقب آل أبي طالب ج 1 ص 64, بحار الأنوار ج 19 ص 21
تحقيق مركز سيد الشهداء (ع) للبحوث الاسلامية
من كتاب أمير المؤمنين (ع) إلى معاوية
فأراد قومنا قتل نبينا واجتياح أصلنا, وهموا بنا الهموم وفعلوا بنا الأفاعيل, فمنعونا الميرة وأمسكوا عنا العذب وأحلسونا الخوف, وجعلوا علينا الأرصاد والعيون واضطرونا إلى جبل وعر, وأوقدوا لنا نار الحرب وكتبوا علينا بينهم كتابا لا يؤاكلونا ولا يشاربونا ولا يناكحونا ولا يبايعونا ولا نأمن فيهم حتى ندفع النبي (ص) فيقتلوه ويمثلوا به, فلم نكن نأمن فيهم إلا من موسم إلى موسم, فعزم الله لنا على منعه والذب عن حوزته والرمي من وراء حرمته والقيام بأسيافنا دونه في ساعات الخوف بالليل والنهار, فمؤمننا يرجو بذلك الثواب وكافرنا يحامى به عن الأصل, فأما من أسلم من قريش بعد فإنهم مما نحن فيه أخلياء, فمنهم حليف ممنوع أو ذو عشيرة تدافع عنه.
-------
من كتب الشيعة: وقعة صفين ص 89, بحار الأنوار ج 33 ص 111, نهج البلاغة ص 368 بإختصار
من كتب السنة نحوه: المناقل للخوارزمي ص 252, جواهر المطالب ج 1 ص 359
تحقيق مركز سيد الشهداء (ع) للبحوث الاسلامية
عن ابن عباس: قطعوا عنا الميرة, حتى أن الرجل ليخرج منا بالنفقة فما يبايع حتى يرجع حتى هلك فينا من هلك.
--------
الدر المنثور ج 6 ص 408, أنساب الأشراف ج 1 ص 224, سبل الهدى والرشاد ج 2 ص 377
تحقيق مركز سيد الشهداء (ع) للبحوث الاسلامية
وحصروا بني هاشم في شعب أبي طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع من حين تنبئ رسول الله (ص), وانحاز بنو المطلب بن عبد مناف إلى أبي طالب في شعبة مع بني هاشم, وخرج أبو لهب إلى قريش فظاهرهم على بني هاشم وبني المطلب, وقطعوا عنهم الميرة والمادة, فكانوا لا يخرجون
إلا من موسم إلى موسم حتى بلغهم الجهد وسمع أصوات صبيانهم من وراء الشعب, فمن قريش من سره ذلك ومنهم من ساءه.
----------
الطبقات الكبرى ج 1 ص 209, نهاية الأرب ج 16 ص 259, نحوه: عمدة القاري ج 9 ص 230, حياة الحيوان الكبرى ج 1 ص 35, إمتاع الأسماع ج 1 ص 44, كفاية الطالب اللبيب ج 1 ص 151
تحقيق مركز سيد الشهداء (ع) للبحوث الاسلامية
كان أبو طالب (ع) يخاف أن يغتالوا رسول الله (ص) ليلا أو سرا, فكان رسول الله (ص) إذا أخذ مضجعه أو رقد بعثه أبو طالب (ع) من فراشه وجعله بينه وبين بنيه خشية أن يقتلوه, ويصبح قريش فيسمعوا من الليل أصوات صبيان بني هاشم الذين في الشعب يتضاغون من الجوع, فإذا أصبحوا جلسوا عند الكعبة فيسئل بعضهم بعضا فيقول الرجل لصاحبه: كيف بات أهلك البارحة؟ فيقول: بخير, فيقول: لكن اخوانكم هاؤلاء الذين في الشعب بات صبيانهم يتضاغون من الجوع حتى أصبحوا, فمنهم من يعجبه ما يلقى محمد (ص) ورهطه ومنهم من يكره ذلك, فقال أبو طالب (ع) وهو يذكر ما طلبوا من محمد (ص) وما حشدوهم في كل موسم يمنعونهم أن يبتاعوا بعض ما يصلحهم وذكر في الشعر:
ألا من لهم آخر الليل معنم ... طواني وأخرى النجم لم يتقحم
طواني وقد نامت عيون كثيرة ... وسائر أخرى ساهر لم ينوم
لأحلام أقوام أرادوا محمدا ... بسوء ومن لا يتقي الظلم يظلم
سعوا سفها واقتادهم سورايهم ... على قليل من رأيهم غير محكم
رجاء أمور لم يسألوا نظامها ... وان حشدوا في كل نفر وموسم
يرجون أن نسخى بقتل محمد ... ولم تختضب سمر العوالي من الدم
يرجون منا خطة دون نيلها ... أضراب وطعن بالوشيح المقوم
كذبتم وبيت الله لا تقتلونه ... جماجم تلقى بالحطيم وزمزم
وتقطع أرحام وتنسى حليلة ... خليلا وتغشى محرما بعد محرم
وينهض قوم في الدروع إليكم ... يذبون عن أحسابهم كل مجرم
------------
سيرة ابن إسحاق ج 2 ص 141
تحقيق مركز سيد الشهداء (ع) للبحوث الاسلامية
فلما أتى لرسول الله في الشعب أربع سنين، بعث الله على صحيفتهم القاطعة دابة الأرض، فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم وظلم وجور، وتركت اسم الله باسمك اللهم، ونزل جبرئيل على رسول الله، فأخبره بذلك، فأخبر رسول الله (ص) أبا طالب، فقام أبو طالب، فلبس ثيابه، ثم مضى حتى دخل المسجد على قريش، وهم مجتمعون فيه، فلما بصروا به قالوا: قد ضجر أبو طالب، وجاء الآن ليسلم محمدا ابن أخيه، فدنا منهم، وسلم عليهم، فقاموا إليه، وعظموه، وقالوا: يا أبا طالب، قد علمنا أنك أردت مواصلتنا، والرجوع إلى جماعتنا، وأن تسلم إلينا ابن أخيك، قال: والله ما جئت لهذا، ولكن ابن أخي أخبرني- ولم يكذبني- أن الله أخبره، أنه بعث على صحيفتكم القاطعة دابة الأرض، فلحست جميع ما فيها، من قطيعة رحم وظلم وجور، وتركت اسم الله، فابعثوا إلى صحيفتكم، فإن كان حقا، فاتقوا الله، وارجعوا عما أنتم عليه من الظلم وقطيعة الرحم، وإن كان باطلا، دفعته إليكم، فإن شئتم قتلتموه، وإن شئتم استحييتموه. فبعثوا إلى الصحيفة، فأنزلوها من الكعبة، وعليها أربعون خاتما، فلما أتوا بها نظر كل رجل منهم إلى خاتمه، ثم فكوها فإذا ليس فيها حرف واحد، إلا باسمك اللهم. فقال أبو طالب: يا قوم، اتقوا الله، وكفوا عما أنتم عليه، فتفرق القوم، ولم يتكلم أحد، ورجع أبو طالب إلى الشعب، وقال في ذلك قصيدته البائية، التي أولها:
ألا من لهم آخر الليل منصب ... وشعب العصا من قومك المتشعب
وقد كان في أمر الصحيفة عبرة ... متى ما يخبر غائب القوم يعجب
محا الله منها كفرهم وعقوقهم ... وما نقموا من ناطق الحق معرب
وأصبح ما قالوا من الأمر باطلا ... ومن يختلق ما ليس بالحق يكذب
وأمسى ابن عبد الله فينا مصدقا ... على سخط من قومنا غير معتب
فلا تحسبونا مسلمين محمدا ... لذي عزة منا ولا متعرب
ستمنعه منا يد هاشمية ... مركبها في الناس خير مركب
و قال عند ذلك نفر من بني عبد مناف، وبني قصي، ورجال من قريش ولدتهم نساء بني هاشم: منهم مطعم بن عدي بن عامر بن لؤي، وكان شيخا كبيرا كثير المال له أولاد، وأبو البختري بن هشام وزهير بن أبي أمية المخزومي، في رجال من أشرافهم: نحن برآة مما في هذه الصحيفة، فقال أبو جهل: هذا قد قضي بليل, وخرج النبي (ص) من الشعب ورهطه وخالطوا الناس, ومات أبو طالب بعد ذلك بشهرين, وماتت خديجة بعد ذلك.
-------------
إعلام الورى ص 49, حلية الأبرار ج 1 ص 81, بحار الأنوار ج 19 ص 1, القصص للراوندي ص 327 نحوه
تحقيق مركز سيد الشهداء (ع) للبحوث الاسلامية