* محمد بن جرير الطبري في بشارة المصطفى, أخبرنا الشيخ أبو البقاء إبراهيم بن الحسين بن إبراهيم البصري بقراءتي عليه في المحرم سنة ست عشرة وخمسمائة بمشهد مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) قال: حدثنا أبو طالب محمد بن الحسن بن عتبة قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن الحسين بن أحمد قال: أخبرنا محمد بن وهبان الدبيلي قال: حدثنا علي بن أحمد بن كثير العسكري قال: حدثني أحمد بن المفضل أبو سلمة الأصفهاني قال: أخبرني راشد بن علي بن وائل القرشي قال: حدثني عبد الله بن حفص المدني قال: أخبرني محمد بن إسحاق, عن سعيد بن زيد بن أرطاة قال: لقيت كميل بن زياد وسألته عن فضل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) فقال: ألا أخبرك بوصية أوصاني بها يوما هي خير لك من الدنيا بما فيها؟ فقلت: بلى, قال: قال لي علي (ع): يا كميل بن زياد, فسم كل يوم باسم الله ولا حول ولا قوة إلا بالله, وتوكل على الله واذكرنا وسم بأسمائنا وصل علينا واستعذ بالله ربنا وادرأ عن نفسك وما تحوطه عنايتك تكف شر ذلك اليوم. يا كميل, إن رسول الله (ص) أدبه الله عز وجل وهو أدبني وأنا أؤدب المؤمنين وأورث الأدب المكرمين. يا كميل, ما من علم إلا وأنا أفتحه, وما من سر إلا والقائم (ع) يختمه. يا كميل, {ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم}. يا كميل, لا تأخذ إلا عنا تكن منا. يا كميل, ما من حركة إلا وأنت محتاج فيها إلى معرفة. يا كميل, إذا أكلت الطعام فسم باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء وهو الشفاء من جميع الأسواء. يا كميل, إذا أكلت الطعام فواكل به ولا تبخل به فإنك لم ترزق الناس شيئا والله يجزل لك الثواب بذلك. يا كميل, أحسن خلقك وابسط إلى جليسك ولا تنهرن خادمك. يا كميل, إذا أكلت فطول أكلك يستوف من معك ويرزق منه غيرك. يا كميل, إذا استوفيت طعامك فاحمد الله على ما رزقك وارفع بذلك صوتك ليحمده سواك فيعظم بذلك أجرك. يا كميل, لا توقرن معدتك طعاما ودع فيها للماء موضعا وللريح مجالا. يا كميل لا تنقد طعامك فإن رسول الله (ص) لم ينقده. يا كميل, لا ترفعن يدك من الطعام إلا وأنت تشتهيه, فإذا فعلت ذلك فأنت تستمرئه. يا كميل, صحة الجسم من قلة الطعام وقلة الماء. يا كميل, البركة في المال من إيتاء الزكاة ومواساة المؤمنين وصلة الأقربين وهم الأقربون لنا. يا كميل, زد قرابتك المؤمن على ما تعطي سواه من المؤمنين وكن بهم أرأف وعليهم أعطف وتصدق على المساكين. يا كميل, لا تردن سائلا ولو بشق تمرة أو من شطر عنب. يا كميل, الصدقة تنمى عند الله. يا كميل, حسن خلق المؤمن التواضع, وجماله التعطف, وشرفه الشفقة, وعزه ترك القال والقيل. يا كميل, إياك والمراء فإنك تغري بنفسك السفهاء إذا فعلت وتفسد الإخاء. يا كميل, إذا جادلت في الله تعالى فلا تخاطب إلا من يشبه العقلاء وهذا ضرورة. يا كميل, هم على كل حال سفهاء كما قال الله تعالى {ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون}. يا كميل, في كل صنف قوم أرفع من قوم فإياك ومناظرة الخسيس منهم وإن أسمعوك فاحتمل, وكن من الذين وصفهم الله تعالى بقوله {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما}. يا كميل, قل الحق على كل حال ووازر المتقين واهجر الفاسقين. يا كميل, جانب المنافقين ولا تصاحب الخائنين. يا كميل, إياك إياك والتطرق إلى أبواب الظالمين والاختلاط بهم والاكتساب منهم, وإياك أن تطيعهم وأن تشهد في مجالسهم بما يسخط الله. يا كميل, إن اضطررت إلى حضورها فداوم ذكر الله تعالى والتوكل عليه واستعذ بالله من شرهم وأطرق عنهم وأنكر بقلبك فعلهم واجهر بتعظيم الله عز وجل وأسمعهم فإنهم يهابوك وتكفى. يا كميل, إن أحب ما أمت العباد إلى الله تعالى بعد الإقرار به وبأوليائه التجمل والتعفف والاصطبار. يا كميل لا بأس بأن لا يعلم سرك. يا كميل, لا ترين الناس افتقارك واضطرارك واصطبر عليه احتسابا تعرف بستر. يا كميل, لا بأس بأن تعلم أخاك سرك. يا كميل ومن أخوك؟ أخوك الذي لا يخذلك عند الشدة, ولا يغفل عنك عند الجريرة, ولا يخدعك حين تسأله, ولا يتركك وأمرك حتى يعلمه, فإن كان مميلا أصلحه. يا كميل المؤمن مرآة المؤمن يتأمله ويسد فاقته ويجمل حالته. يا كميل, المؤمنون إخوة ولا شيء آثر عند كل أخ من أخيه. يا كميل, إذا لم تحب أخاك فلست أخاه. يا كميل, إنما المؤمنون من قال بقولنا, فمن تخلف عنا قصر عنا, ومن قصر عنا لم يلحق بنا, ومن لم يكن معنا ف{في الدرك الأسفل من النار}. يا كميل, كل مصدور ينفث فمن نفث إليك منا بأمر وأمرك بستره فإياك أن تبديه فليس لك من إبدائه توبة, فإذا لم يكن لك توبة فالمصير إلى لظى. يا كميل, إذاعة سر آل محمد (ص) لا يقبل الله تعالى منها ولا يحتمل عليها أحدا. يا كميل, وما قالوه لك مطلقا فلا تعلمه إلا مؤمنا موفقا. يا كميل, لا تعلم الكافرين أخبارنا فيزيدوا عليها فيبدوكم بها يوم يعاقبون عليها. يا كميل, لا بد لماضيكم خير من أوبة, ولا بد لنا فيكم من غلبة. يا كميل, سيجمع الله لكم خير البدء والعاقبة. يا كميل, أنتم ممتعون بأعدائكم, تطربون بطربهم وتشربون بشربهم وتأكلون بأكلهم وتدخلون مداخلهم وربما غلبتم على نعمتهم, إي والله على إكراه منهم لذلك ولكن الله عز وجل ناصركم وخاذلهم فإذا كان والله يومكم وظهر صاحبكم لم يأكلوا والله معكم, ولم يردوا مواردكم ولم يقرعوا أبوابكم ولم ينالوا نعمتكم, أذلة خاسئين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا. يا كميل, احمد الله تعالى والمؤمنون على ذلك وعلى كل نعمة. يا كميل, قل عند كل شدة: "لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" تكفها, وقل عند كل نعمة: "الحمد لله" تزد منها, وإذا أبطأت الأرزاق عليك فاستغفر الله يوسع عليك فيها. يا كميل, إذا وسوس الشيطان في صدرك فقل: "أعوذ بالله القوي من الشيطان الغوي, وأعوذ بمحمد الرضي من شر ما قدر وقضى, وأعوذ بإله الناس من شر الجنة والناس أجمعين" وسلم تكف مئونة إبليس والشياطين معه, ولو أنهم كلهم أبالسة مثله. يا كميل, إن لهم خداعا وشقاشق وزخاريف ووساوس وخيلاء على كل أحد قدر منزلته في الطاعة والمعصية فبحسب ذلك يستولون عليه بالغلبة. يا كميل, لا عدو أعدى منهم, ولا ضار أضر منهم, أمنيتهم أن تكون معهم غدا إذا اجتثوا في العذاب الأليم, لا يفتر عنهم شرره ولا يقصر عنهم خالدين فيها أبدا. يا كميل, سخط الله تعالى محيط بمن لم يحترز منهم باسمه ونبيه وجميع عزائمه وعوذه جل وعز وصلى الله على نبيه وآله وسلم. يا كميل, إنهم يخدعونك بأنفسهم فإذا لم تجبهم مكروا بك وبنفسك, وبتحسينهم إليك شهواتك وإعطائك أمانيك وإرادتك, ويسولون لك وينسونك وينهونك ويأمرونك ويحسنون ظنك بالله عز وجل حتى ترجوه فتغتر بذلك وتعصيه وجزاء العاصي لظى. يا كميل, احفظ قول الله عز وجل {الشيطان سول لهم وأملى لهم} والمسول الشيطان والمملي الله تعالى. يا كميل, اذكر قول الله تعالى لإبليس لعنه الله {وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا} يا كميل, إن إبليس لا يعد عن نفسه وإنما يعد عن ربه ليحملهم على معصيته فيورطهم. يا كميل, إنه يأتي لك بلطف كيده فيأمرك بما يعلم أنك قد ألفته من طاعته لا تدعها, فتحسب أن ذلك ملك وإنما هو شيطان رجيم, فإذا سكنت إليه واطمأننت على العظائم المهلكة التي لا نجاة معها. يا كميل, إن له فخاخا ينصبها فاحذر أن يوقعك فيها. يا كميل, إن الأرض مملوءة من فخاخهم فلن ينجوا منها إلا من تثبت بنا, وقد أعلمك الله عز وجل أنه لن ينجو منها إلا عباده, وعباده أولياؤنا. يا كميل, وهو قول الله عز وجل {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} وقوله عز وجل {إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون}. يا كميل, انج بولايتنا من أن يشركك في مالك وولدك كما أمر. يا كميل, لا تغتر بأقوام يصلون فيطيلون, ويصومون فيداومون, ويتصدقون فيحسبون أنهم موفقون. يا كميل, أقسم بالله لسمعت رسول الله (ص) يقول: إن الشيطان إذا حمل قوما على الفواحش مثل الزنى وشرب الخمر والربا وما أشبه ذلك من الخنى والمآثم, حبب إليهم العبادة الشديدة والخشوع والركوع والخضوع والسجود, ثم حملهم على ولاية الأئمة الذين {يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون}. يا كميل, إنه مستقر ومستودع, فاحذر أن تكون من المستودعين. يا كميل, إنما تستحق أن تكون مستقرا إذا لزمت الجادة الواضحة التي لا تخرجك إلى عوج ولا تزيلك عن منهج ما حملناك عليه وهديناك إليه. يا كميل, لا رخصة في فرض, ولا شدة في نافلة. يا كميل, إن الله عز وجل لا يسألك إلا عما فرض وإنما قدمنا عمل النوافل بين أيدينا للأهوال العظام والطامة يوم المقام. يا كميل, إن الله أعظم من أن تزيله الفرائض والنوافل وجميع الأعمال وصالح الأموال, ولكن من {تطوع خيرا فهو خير له}. يا كميل, إن ذنوبك أكثر من حسناتك, وغفلتك أكثر من ذكرك, ونعمة الله عليك أكثر من كل عمل. يا كميل, إنه لا تخلو من نعمة الله عز وجل عندك وعافيته, فلا تخل من تحميده وتمجيده وتسبيحه وتقديسه وشكره وذكره على كل حال. يا كميل, لا تكونن من الذين قال الله عز وجل {نسوا الله فأنساهم أنفسهم} ونسبهم إلى الفسق {أولئك هم الفاسقون}. يا كميل, ليس الشأن أن تصلي وتصوم وتتصدق, إنما الشأن أن تكون الصلاة فعلت بقلب نقي, وعمل عند الله مرضي, وخشوع سوي إبقاء للحد فيها. يا كميل, عند الركوع والسجود وما بينهما تبتلت العروق والمفاصل حتى تستوفي إلى ما تأتي من جميع صلواتك. يا كميل, انظر فيم تصلي, إن لم يكن من وجهه وحله فلا قبول. يا كميل, إن اللسان يبوح من القلب, والقلب يقوم بالغذاء, فانظر فيما تغذي قلبك وجسمك, فإن لم يكن ذلك حلالا لم يقبل الله تسبيحك ولا شكرك. يا كميل, افهم واعلم أنا لا نرخص في ترك أداء الأمانات لأحد من الخلق, فمن روى عني في ذلك رخصة فقد أبطل وأثم وجزاؤه النار بما كذب, أقسم لسمعت رسول الله (ص) يقول لي قبل وفاته بساعة مرارا ثلاثا: يا أبا الحسن أد الأمانة إلى البر والفاجر فيما قل وجل في الخيط والمخيط. يا كميل, لا غزو إلا مع إمام عادل, ولا نفل إلا مع إمام فاضل. يا كميل, أرأيت لو أن الله لم يظهر نبيا وكان في الأرض مؤمن تقي, أكان في دعائه إلى الله مخطئا أو مصيبا؟ بلى والله مخطئا حتى ينصبه الله عز وجل ويؤهله. يا كميل, الدين لله فلا تغترن بأقوال الأمة المخدوعة التي ضلت بعد ما اهتدت وأنكرت وجحدت بعد ما قبلت. يا كميل, الدين لله فلا يقبل الله تعالى من أحد القيام به إلا رسولا أو نبيا أو وصيا. يا كميل, هي نبوة ورسالة وإمامة وما بعد ذلك إلا متولين ومتغلبين وضالين ومعتدين, يا كميل, إن النصارى لم تعطل الله تعالى, ولا اليهود, ولا جحدت موسى ولا عيسى (ع), ولكنهم زادوا ونقصوا وحرفوا وألحدوا فلعنوا ومقتوا ولم يتوبوا ولم يقبلوا. يا كميل, إن أبانا آدم (ع) لم يلد يهوديا ولا نصرانيا ولا كان ابنه إلا حنيفا مسلما, فلم يقم بالواجب عليه فأداه ذلك إلى أن لم] يقبل الله له قربانا, بل قبل من أخيه فحسده وقتله وهو من المسجونين في الفلق الذين عدتهم اثنا عشر, ستة من الأولين وستة من الآخرين, الفلق لأسفل من النار ومن بخاره حر جهنم, وحسبك فيما حر جهنم من بخاره. يا كميل, نحن والله {الذين اتقوا والذين هم محسنون}. يا كميل, إن الله عز وجل كريم رحيم عظيم حليم, دلنا على الخلافة وأمرنا بالأخذ بها وحمل الناس عليها, فقد أديناها غير مختلفين, وأرسلناها غير منافقين, وصدقناها غير مكذبين, وقبلناها غير مرتابين, لم يكن لنا والله شياطين نوحي إليها وتوحي إلينا كما وصف الله تعالى قوما ذكرهم الله عز وجل في كتابه فاقرأ كما أنزل {شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا}. يا كميل, الويل لهم فسوف يلقون غيا. يا كميل, لست والله متملقا حتى أطاع, ولا ممنيا حتى لا أعصى, ولا مهانا لطغام الأعراب حتى أنتحل إمرة المؤمنين أو أدعى بها. يا كميل, نحن الثقل الأصغر والقرآن الثقل الأكبر, وقد أسمعهم رسول الله (ص) وقد جمعهم, فنادى فيهم الصلاة جامعة يوم كذا وكذا وأياما سبعة وقت كذا وكذا فلم يتخلف أحد, فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: معاشر الناس, إني مؤد عن ربي عز وجل ولا مخبر عن نفسي فمن صدقني فلله صدق ومن صدق الله أثابه الجنان, ومن كذبني كذب الله عز وجل ومن كذب الله أعقبه النيران, ثم ناداني فصعدت فأقامني دونه ورأسي إلى صدره, والحسن والحسين (ع) عن يمينه وشماله, ثم قال: معاشر الناس, أمرني جبرئيل (ع) عن الله تعالى أنه ربي وربكم, أن أعلمكم أن القرآن الثقل الأكبر وأن وصيي هذا وابناي ومن خلفهم من أصلابهم حاملا وصاياهم الثقل الأصغر, يشهد الثقل الأكبر للثقل الأصغر, ويشهد الثقل الأصغر للثقل الأكبر, كل واحد منهما ملازم لصاحبه غير مفارق له حتى يردا إلى الله فيحكم بينهما وبين العباد. يا كميل, فإذا كنا كذلك فعلام تقدمنا من تقدم, وتأخر عنا من تأخر؟ يا كميل, قد بلغهم رسول الله (ص) رسالة ربه ونصح لهم ولكن لا يحبون الناصحين. يا كميل, قال رسول الله (ص) لي قولا والمهاجرون والأنصار متوافرون يوما بعد العصر, يوم النصف من شهر رمضان قائما على قدميه فوق منبره: علي وابناي منه الطيبون مني وأنا منهم وهم الطيبون بعد أمهم, وهم سفينة من ركبها نجا ومن تخلف عنها هوى, الناجي في الجنة والهاوي في لظى. يا كميل, الفضل {بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} يا كميل, علام يحسدوننا والله أنشأنا من قبل أن يعرفونا, أفتراهم بحسدهم إيانا عن ربنا يزيلوننا. يا كميل, من لا يسكن الجنة {فبشره بعذاب أليم} وخزي مقيم, وأكبال ومقامع وسلاسل طوال, ومقطعات النيران, ومقارنة كل شيطان, الشراب صديد, واللباس حديد, والخزنة فظظة, والنار ملتهبة, والأبواب موثقة مطبقة, ينادون فلا يجابون, ويستغيثون فلا يرحمون, نداؤهم {يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون}. يا كميل, نحن والله الحق الذي قال الله عز وجل {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن}. يا كميل, ثم ينادون الله تقدست أسماؤه بعد أن يمكثوا أحقابا: اجعلنا على الرجاء, فيجيبهم {اخسؤا فيها ولا تكلمون} يا كميل. فعندها ييأسون من الكرة. واشتدت الحسرة, وأيقنوا بالهلكة, والمكث جزاء بما كسبوا وعذبوا. يا كميل, قل: {الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين} يا كميل, أنا أحمد الله على توفيقه إياي والمؤمنين وعلى كل حال, إنما حظي من حظي بدنيا زايلة مدبرة, فافهم وتحظى بآخرة باقية ثابتة. يا كميل, كل يصير إلى الآخرة, والذي يرغب فيه منها رضا الله تعالى والدرجات العلى من الجنة التي لا يورثها إلا {من كان تقيا}. يا كميل, إن شئت فقم.
* الشيخ المفيد في الأمالي, أخبرني أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين قال: حدثنا أبي قال: حدثنا محمد بن أبي القاسم ماجيلويه، عن محمد بن علي الصيرفي، عن نصر بن مزاحم، عن عمرو بن سعد، عن فضيل بن خديج، عن كميل بن زياد النخعي قال: كنت مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) في مسجد الكوفة، وقد صلينا العشاء الآخرة، فأخذ بيدي حتى خرجنا من المسجد، فمشى حتى خرج إلى ظهر الكوفة لا يكلمني بكلمة، فلما أصحر تنفس ثم قال: يا كميل, إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها، احفظ عني ما أقول، الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق. يا كميل, العلم خير من المال: العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق. يا كميل, محبة العالم خير يدان الله به، تكسبه الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد موته. يا كميل, منفعة المال تزول بزواله. يا كميل, مات خزان الأموال، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة. هاه هاه إن ههنا - وأشار بيده إلى صدره - لعلما جما لو أصبت له حملة، بلى أصيب له لقنا غير مأمون، يستعمل آلة الدين في الدنيا، ويستظهر بحجج الله على خلقه، وبنعمه على عباده، ليتخذه الضعفاء وليجة دون ولي الحق، أو منقادا للحكمة لا بصيرة له في أحنائه فقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، ألا لا ذا ولا ذاك. فمنهوم باللذات، سلس القياد للشهوات، أو مغرى بالجمع والادخار، ليس من رعاة الدين، أقرب شبها بهؤلاء الأنعام السائمة، كذلك يموت العلم بموت حامليه. اللهم بلى لا تخلي الأرض من قائم بحجة ظاهر مشهور، أو مستتر مغمور، لئلا تبطل حجج الله وبيناته، فإن أولئك الأقلون عددا الأعظمون خطرا، بهم يحفظ الله حججه حتى يودعوها نظراءهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقائق الأمور، فباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى، أولئك خلفاء الله في أرضه، والدعاة إلى دينه. هاه هاه شوقا إلى رؤيتهم، وأستغفر الله لي ولكم. ثم نزع يده من يدي وقال: انصرف إذا شئت.
* يوسف بن حاتم في الدر النظيم, قال أمير المؤمنين (ع) ذات يوم يوصي كميل بن زياده: يا كميل, ذب عن المؤمن فان ظهره حمى الله، ونفسه كريمة عليه، وظالمه خصم الله، فاحذركم ممن ليس له ناصر غير الله.
* إبراهيم بن محمد الثقفي في الغارات, عن عبد الله بن الحسن، عن عباية قال: كتب علي (ع) إلى محمد وأهل مصر: أما بعد؛ فإني أوصيكم بتقوى الله والعمل بما أنتم عنه مسؤولون، فأنتم به رهن وأنتم إليه صائرون، فإن الله عز وجل يقول: {كل نفس بما كسبت رهينة} وقال: {ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير} وقال: {فوربك لنسئلنهم أجمعين عما كانوا يعملون}. فاعلموا عباد الله أن الله سائلكم عن الصغير من أعمالكم والكبير، فإن يعذب فنحن أظلم، وإن يعف فهو أرحم الراحمين. واعلموا أن أقرب ما يكون العبد إلى الرحمة والمغفرة حين يعمل بطاعة الله ومناصحته في التوبة، فعليكم بتقوى الله عز وجل، فإنها تجمع من الخير ما لا يجمع غيرها، ويدرك بها من الخير ما لا يدرك بغيرها؛ خير الدنيا وخير الآخرة، يقول الله: {وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين}. واعلموا عباد الله، أن المؤمن يعمل لثلاث: إما لخير الدنيا، فإن الله يثيبه بعمله في الدنيا، قال الله سبحانه: {وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين} فمن عمل لله تعالى أعطاه أجره في الدنيا والآخرة، وكفاه المهم فيهما، وقد قال: {يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} فما أعطاهم الله في الدنيا لم يحاسبهم به في الآخرة، قال: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} فالحسنى هي الجنة، والزيادة هي الدنيا، وإما لخير الآخرة؛ فإن الله يكفر عنه بكل حسنة سيئة، يقول: {إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين} حتى إذا كان يوم القيامة حسبت لهم حسناتهم، وأعطوا بكل واحدة عشر أمثالها إلى سبعمئة ضعف؛ فهو الذي يقول: {جزآء من ربك عطآء حسابا} ويقول عز وجل: {فأولئك لهم جزآء الضعف بما عملوا وهم فى الغرفات آمنون} فارغبوا فيه، واعملوا به، وتحاضوا عليه. واعلموا عباد الله أن المؤمنين المتقين ذهبوا بعاجل الخير وآجله، شاركوا أهل الدنيا في دنياهم، ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم، يقول الله عز وجل: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون} سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت، وأكلوها بأفضل ما أكلت، شاركوا أهل الدنيا في دنياهم؛ أكلوا من أفضل ما يأكلون، وشربوا من أفضل ما يشربون، ولبسوا من أفضل ما يلبسون، وسكنوا بأفضل ما يسكنون، وتزوجوا من أفضل ما يتزوجون، وركبوا من أفضل ما يركبون، أصابوا لذة الدنيا مع أهل الدنيا، مع أنهم غدا من جيران الله عز وجل يتمنون عليه، فيعطيهم ما يتمنون، لا يرد لهم دعوة ولا ينقص لهم نصيب من لذة، فإلى هذا يشتاق من كان له عقل، ولا حول ولا قوة إلابالله. واعلموا عباد الله، أنكم إن اتقيتم ربكم وحفظتم نبيكم في أهل بيته فقد عبدتموه بأفضل ما عبد، وذكرتموه بأفضل ما ذكر، وشكرتموه بأفضل ما شكر، وأخذتم بأفضل الصبر، وجاهدتم بأفضل الجهاد، وإن كان غيركم أطول صلاة منكم، وأكثر صياما؛ إذ كنتم أتقى لله، وأنصح لأولياء الأمر من آل محمد (ص) وأخشع. واحذروا عباد الله الموت ونزوله، وخذوا له عدته، فإنه يدخل بأمر عظيم، خير لا يكون معه شر أبدا، وشر لا يكون معه خير أبدا، فمن أقرب إلى الجنة من عاملها؟ ومن أقرب إلى النار من عاملها؟ إنه ليس أحد من الناس تفارق روحه جسده حتى يعلم إلى أي المنزلين يصير, إلى الجنة أو إلى النار؟ أعدو هو لله أم هو ولي له؟ فإن كان وليا لله فتحت له أبواب الجنة، وشرعت له طرقها، ورأى ما أعد الله له فيها، ففرغ من كل شغل، ووضع عنه كل ثقل، وإن كان عدوا لله فتحت له أبواب النار، وشرعت له طرقها، ونظر إلى ما أعد الله له فيها، فاستقبل كل مكروه، وترك كل سرور؛ كل هذا يكون عند الموت، وعنده يكون بيقين، فقال الله تعالى: {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} ويقول: {الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين}. واعلموا عباد الله أن الموت ليس منه فوت، فاحذروه قبل وقوعه، وأعدوا له عدته، فإنكم طرداء الموت وجدوا للثواب، إن أقمتم له أخذكم، وإن هربتم منه أدرككم، فهو ألزم لكم من ظلكم، معقود بنواصيكم، والدنيا تطوي من خلفكم، فأكثروا ذكر الموت عندما تنازعكم إليه أنفسكم من الشهوات، فإنه كفى بالموت واعظا، وكان رسول الله (ص) كثيرا ما يوصي أصحابه بذكر الموت فيقول: أكثروا ذكر الموت فإنه هادم اللذات، حائل بينكم وبين الشهوات. واعلموا عباد الله، أن ما بعد الموت أشد من الموت لمن لم يغفر الله له ويرحمه، واحذروا القبر وضمته وضيقه وظلمته وغربته، فإن القبر يتكلم كل يوم، ويقول: أنا بيت التراب، وأنا بيت الغربة، وأنا بيت الدود، والهوام، والقبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، إن المسلم إذا دفن قالت له الأرض: مرحبا وأهلا، قد كنت ممن أحب أن يمشي على ظهري، فإذا وليتك فستعلم كيف صنعي بك؛ فيتسع له مد البصر، وإذا دفن الكافر قالت له الأرض: لا مرحبا ولا أهلا، قد كنت ممن أبغض أن يمشي على ظهري، فإذا وليتك فستعلم كيف صنعي بك؛ فتنضم عليه حتى تلتقي أضلاعه، واعلموا أن المعيشة الضنك التي قال الله تعالى: {فإن له معيشة ضنكا} هي عذاب القبر، وإنه ليسلط على الكافر في قبره تسعة وتسعين تنينا تنهش لحمه حتى يبعث، لو أن تنينا منها نفخ في الأرض ما أنبتت ريعها أبدا. واعلموا عباد الله أن أنفسكم وأجسادكم الرقيقة الناعمة التي يكفيها اليسير من العقاب ضعيفة عن هذا؛ فإن استطعتم أن ترحموا أنفسكم وأجسادكم مما لا طاقة لكم به ولا صبر لكم عليه، فتعملوا بما أحب الله سبحانه، وتتركوا ما كره؛ فافعلوا، ولا حول ولا قوة إلابالله. واعلموا عباد الله أن ما بعد القبر أشد من القبر، يوم يشيب فيه الصغير، ويسكر فيه الكبير، ويسقط فيه الجنين، وتذهل كل مرضعة عما أرضعت، واحذروا يوما عبوسا قمطريرا، يوما كان شره مستطيرا، أما إن شر ذلك اليوم وفزعه استطار، حتى فزعت منه الملائكة الذين ليست لهم ذنوب، والسبع الشداد، والجبال الأوتاد، والأرضون المهاد، وانشقت السماء فهي يومئذ واهية، وتغيرت فكانت وردة كالدهان، وكانت الجبال سرابا بعدما كانت صما صلابا، يقول سبحانه: {ونفخ في الصور فصعق من في السماوات و من في الأرض إلا من شاء الله} فكيف بمن يعصيه بالسمع والبصر واللسان واليد والرجل والفرج والبطن، إن لم يغفر الله ويرحم. واعلموا عباد الله أن ما بعد ذلك اليوم أشد وأدهى على من لم يغفر الله له من ذلك اليوم، فإنه يقضي ويصير إلى غيره؛ إلى نار قعرها بعيد، وحرها شديد، وعذابها جديد، وشرابها صديد، ومقامعها حديد، لا يفتر عذابها، ولا يموت ساكنها، دار ليست لله سبحانه فيها رحمة، ولا يسمع فيها دعوة. واعلموا عباد الله أن مع هذا رحمة الله التي وسعت كل شيء لا تعجز عن العباد، وجنة عرضها كعرض السماوات والأرض أعدت للمتقين، خير لا يكون معه شر أبدا، وشهوة لا تنفد أبدا، ولذة لا تفنى أبدا، ومجمع لا يتفرق أبدا، قوم قد جاوروا الرحمن، وقام بين أيديهم الغلمان، بصحاف من ذهب فيها الفاكهة والريحان. فقال رجل: يا رسول الله (ص)، إني أحب الخيل، أفي الجنة خيل؟ قال: نعم، والذي نفسي بيده، إن فيها خيلا من ياقوت أحمر عليها يركبون، فتدف بهم خلال ورق الجنة. قال رجل: يا رسول الله (ص)، إني يعجبني الصوت الحسن؛ أفي الجنة الصوت الحسن؟ قال: نعم، والذي نفسي بيده، إن الله ليأمر لمن أحب ذلك منهم بشجر يسمعه صوتا بالتسبيح ما سمعت الآذان بأحسن منه قط. قال رجل: يا رسول الله (ص)، إني أحب الإبل، أفي الجنة إبل؟ قال: نعم، والذي نفسي بيده، إن فيها نجائب من ياقوت أحمر، عليها رحال الذهب، قد ألحفت بنمارق الديباج، يركبون فتزف بهم خلال ورق الجنة، وإن فيها صور رجال ونساء يركبون مراكب أهل الجنة، فإذا أعجب أحدهم الصورة قال: اجعل صورتي مثل هذه الصورة، فيجعل صورته عليها، وإذا أعجبته صورة المرأة قال: رب اجعل صورة فلانة زوجته مثل هذه الصورة، فيرجع وقد صارت صورة زوجته على ما اشتهى. وإن أهل الجنة يزورون الجبار كل جمعة، فيكون أقربهم منه على منابر من نور، والذين يلونهم على منابر من ياقوت، والذين يلونهم على منابر من زبرجد، والذين يلونهم على منابر من مسك، فبينا هم كذلك ينظرون إلى نور الله جل جلاله، وينظر الله في وجوههم، إذ أقبلت سحابة تغشاهم فتمطر عليهم من النعمة واللذة والسرور والبهجة ما لا يعلمه إلاالله سبحانه. ثم قال: بلى إن مع هذا ما هو أفضل منه، رضوان الله الأكبر، فلو أننا لم يخوفنا ببعض ما خوفنا، لكنا محقوقين أن يشتد خوفنا مما لا طاقة لنا به، ولا صبر لنا عليه، وأن يشتد شوقنا إلى ما لا غنى لنا عنه، ولابد لنا منه، فإن استطعتم عباد الله أن يشتد خوفكم من ربكم، ويحسن به ظنكم فافعلوا، فإن العبد إنما تكون طاعته على قدر خوفه، إن أحسن الناس طاعة لله أشدهم له خوفا.
في الصلاة والوضوء: انظر يا محمد، صلاتك كيف تصليها، فإنما أنت إمام ينبغي لك أن تتمها وأن تحفظها بالأركان، ولا تخففها، وأن تصليها لوقتها، فإنه ليس من إمام يصلي بقوم فيكون في صلاتهم نقص إلاكان إثم ذلك عليه، ولا ينقص ذلك من صلاتهم شيئا. ثم الوضوء، فإنه من تمام الصلاة، اغسل كفيك ثلاث مرات، وتمضمض ثلاث مرات، واستنشق ثلاث مرات، واغسل وجهك ثلاث مرات، ثم يدك اليمنى ثلاث مرات إلى المرفق، ثم يدك الشمال ثلاث مرات إلى المرفق، ثم امسح رأسك، ثم اغسل رجلك اليمنى ثلاث مرات، ثم اغسل رجلك اليسرى ثلاث مرات، فإني رأيت النبي (ص) هكذا كان يتوضأ، قال النبي (ص): الوضوء نصف الإيمان. انظر صلاة الظهر فصلها لوقتها، لا تعجل بها عن الوقت لفراغ، ولا تؤخرها عن الوقت لشغل، فإن رجلا جاء إلى رسول الله (ص) فسأله عن وقت الصلاة، فقال (ص): أتاني جبرئيل فأراني وقت الصلاة، فصلى الظهر حين زالت الشمس، ثم صلى العصر، وهي بيضاء نقية، ثم صلى المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى العشاء حين غاب الشفق، ثم صلى الصبح فأغلس به والنجوم مشتبكة، كان النبي (ص) كذا يصلي قبلك، فإن استطعت ولا قوة إلا بالله أن تلتزم السنة المعروفة، وتسلك الطريق الواضح الذي أخذوا؛ فافعل، لعلك تقدم عليهم غدا. ثم انظر ركوعك وسجودك، فإن النبي (ص) كان أتم الناس صلاة، وأحفظهم لها، - الى ان قال - في الوصية: إن استطعتم يا أهل مصر، ولا قوة إلا بالله أن يصدق قولكم فعلكم وسركم علانيتكم، ولا تخالف ألسنتكم قلوبكم فافعلوا، عصمنا الله وإياكم بالهدى، وسلك بنا وبكم المحجة الوسطى، وإياكم ودعوة الكذاب ابن هند، وتأملوا واعلموا أنه لا سواء إمام الهدى، وإمام الردى، ووصي النبي، وعدو النبي، جعلنا الله وإياكم ممن يحب ويرضى، وقد قال النبي (ص): إني لا أخاف على أمتي مؤمنا ولا مشركا، أما المؤمن، فيمنعه الله بإيمانه وأما المشرك، فيخزيه الله بشركه، ولكني أخاف عليكم كل منافق عالم اللسان، يقول ما تعرفون، ويعمل ما تنكرون، ليس به خفاء، وقال النبي (ص): من سرته حسناته وساءته سيئاته فذلك المؤمن حقا، وقد كان يقول: خصلتان لا تجتمعان في منافق، حسن سمت، وفقه في سنة. اعلم يا محمد: أن أفضل الفقه: الورع في دين الله، والعمل بطاعته، أعاننا الله وإياك على شكره، وذكره، وأداء حقه، والعمل بطاعته إنه سميع قريب. ثم إني أوصيك بتقوى الله في سر أمرك وعلانيته، وعلى أي حال كنت عليها؛ جعلنا الله وإياك من المتقين، ثم أوصيك بسبع هن جوامع الإسلام: اخش الله ولا تخش الناس في الله، فإن خير القول ما صدقه العمل، ولا تقض في أمر واحد بقضاءين مختلفين فيتناقض أمرك وتزيغ عن الحق، وأحب لعامة رعيتك ما تحب لنفسك وأهل بيتك، واكره لهم ما تكره لنفسك وأهل بيتك والزم الحجة عند الله، وأصلح أحوال رعيتك، وخض الغمرات إلى الحق، ولا تخف في الله لومة لائم، وانصح لمن استشارك، واجعل نفسك أسوة لقريب المسلمين وبعيدهم.
في الصوم والاعتكاف: وعليك بالصوم فإن رسول الله (ص) عكف عاما في العشر الأول من شهر رمضان، وعكف في العام المقبل في العشر الأوسط من شهر رمضان، فلما كان العام الثالث رجع من بدر فقضى اعتكافه فنام، فرأى في منامه ليلة القدر في العشر الأواخر، كأنه يسجد في ماء وطين فلما استيقظ رجع من ليلته وأزواجه وأناس معه من أصحابه، ثم إنهم مطروا ليلة ثلاث وعشرين فصلى النبي (ص) حين أصبح، فرأى في وجه النبي (ص) الطين، فلم يزل يعتكف في العشر الأواخر من شهر رمضان حتى توفاه الله. وقال النبي (ص): من صام رمضان ثم صام ستة أيام من شوال فكأنما صام السنة، جعل الله خلتنا وودنا خلة المتقين، وود المخلصين، وجمع بيننا وبينكم في دار الرضوان إخوانا على سرر متقابلين، إن شاء الله أحسنوا يا أهل مصر مؤازرة محمد، واثبتوا على طاعتكم تردوا حوض نبيكم (ص).
* نهج البلاغة, من كتاب أمير المؤمنين (ع) كتبه لمالك الأشتر النخعي لما ولاه على مصر وأعمالها: بسم الله الرحمن الرحيم, هذا ما أمر به عبد الله علي أميرالمؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاه مصر جباية خراجها، وجهاد عدوها واستصلا ح أهلها، وعمارة بلادها، أمره بتقوى الله، وإيثار طاعته، واتباع ما أمر به في كتابه، من فرائضه وسننه، التي لا يسعد أحد إلا باتباعها، ولا يشقى إلامع جحودها وإضاعتها، وأن ينصر الله سبحانه بقلبه ويده ولسانه، فإنه جل اسمه قد تكفل بنصر من نصره، وإعزاز من أعزه، وأمره أن يكسر نفسه من الشهوات، ويزعها عند الجمحات، فإن النفس أمارة بالسوء إلاما رحم الله. ثم اعلم يا مالك، أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور، وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم، وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده، فليكن أحب الذخائر إليك، ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك، وشح بنفسك عما لا يحل لك، فإن الشح بالنفس الانصاف منها فيما أحبت أو كرهت. وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك، مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم ووالي الامر عليك فوقك، والله فوق من ولاك، وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم. ولا تنصبن نفسك لحرب الله، فإنه لا يد لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته، ولا تندمن على عفو ولا تبجحن بعقوبة، ولا تسرعن إلى بادرة وجدت منها مندوحة، ولا تقولن إني مؤمر آمر فأطاع، فإن ذلك إدغال في القلب، ومنهكة للدين، وتقرب من الغير، وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة، فانظر إلى عظم ملك الله فوقك، وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك، فإن ذلك يطامن إليك من طماحك، ويكف عنك من غربك، ويفيء إليك بما عزب عنك من عقلك. إياك ومساماة الله في عظمته، والتشبه به في جبروته، فإن الله يذل كل جبار، ويهين كل مختال. أنصف الله، وأنصف الناس من نفسك، ومن خاصة أهلك، ومن لك فيه هوى من رعيتك، فإنك إن لا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته، وكان لله حربا حتى ينزع أو يتوب، وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله، وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإن الله سميع دعوة المضطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد. وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعها لرضى الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة، وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء، وأقل معونة له في البلاء، وأكره للانصاف، وأسأل بالالحاف، وأقل شكرا عند الاعطاء، وأبطأ عذرا عند المنع، وأضعف صبرا عند ملمات الدهر، من أهل الخاصة، وإنما عماد الدين، وجماع المسلمين، والعدة للاعداء العامة من الامة، فليكن صغوك لهم، وميلك معهم. ليكن أبعد رعيتك منك، وأشنأهم عندك، أطلبهم لمعايب الناس، فإن في الناس عيوبا، الوالي أحق من سترها، فلا تكشفن عما غاب عنك منها فإنما عليك تطهير ما ظهر لك، والله يحكم على ما غاب عنك، فاستر العورة ما استطعت، يستر الله منك ما تحب ستره من رعيتك. أطلق عن الناس عقدة كل حقد، واقطع عنك سبب كل وتر، وتغاب عن كل ما لا يضح لك، ولا تعجلن إلى تصديق ساع، فإن الساعي غاش، وإن تشبه بالناصحين. ولا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل، ويعدك الفقر، ولا جبانا يضعفك عن الامور، ولا حريصا يزين لك الشره بالجور، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله. إن شر وزرائك من كان للاشرار قبلك وزيرا، ومن شركهم في الآثام، فلا يكونن لك بطانة، فإنهم أعوان الأثمة، وإخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم وآثامهم، ممن لم يعاون ظالما على ظلمه، ولا آثما على إثمه، أولئك أخف عليك مؤونة، وأحسن لك معونة، وأحنى عليك عطفا، وأقل لغيرك إلفا، فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك. ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمر الحق لك، وأقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه واقعا، ذلك من هواك حيث وقع، والصق بأهل الورع والصدق، ثم رضهم على أن لا يطروك، ولا يبجحوك بباطل لم تفعله، فإن كثرة الاطراء تحدث الزهو، وتدني من العزة. ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريبا لأهل الإساءة على الإساءة، وألزم كلا منهم ما ألزم نفسه، واعلم أنه ليس شيء بأدعى إلى حسن ظن راع برعيته من إحسانه إليهم، وتخفيفه المؤونات عليهم، وترك استكراهه إياهم على ما ليس له قبلهم، فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك، فإن حسن الظن يقطع عنك نصبا طويلا، وإن أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده، وإن أحق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده. ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الامة، واجتمعت بها الالفة، وصلحت عليها الرعية، ولا تحدثن سنة تضر بشيء من ماضي تلك السنن، فيكون الأجر لمن سنها، والوزر عليك بما نقضت منها. وأكثر مدارسة العلماء، ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك. واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض، فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة وكل قد سمى الله له سهمه، ووضع على حده فريضة في كتابه، أو سنة نبيه (ص) عهدا منه عندنا محفوظا. فالجنود بإذن الله حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلا بهم، ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به على جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم، ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة، والعمال، والكتاب، لما يحكمون من المعاقد، ويجمعون من المنافع، ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها، ولا قوام لهم جميعا إلا بالتجار وذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم، ويقيمونه من أسواقهم، ويكفونهم من الترفق بأيديهم ما لا يبلغه رفق غيرهم، ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم، وفي الله لكل سعة، ولكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه، وليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه الله من ذلك إلا بالاهتمام والاستعانة بالله، وتوطين نفسه على لزوم الحق، والصبر عليه فيما خف عليه أو ثقل. فول من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك، وأنقاهم جيبا، وأفضلهم حلما، ممن يبطئ عن الغضب، ويستريح إلى العذر، ويرأف بالضعفاء، وينبو على الأقوياء، وممن لا يثيره العنف، ولا يقعد به الضعف. ثم الصق بذوي المروءات والأحساب، وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة، ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة؛ فإنهم جماع من الكرم، وشعب من العرف، ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من ولدهما، ولا يتفاقمن في نفسك شيء قويتهم به، ولا تحقرن لطفا تعاهدتهم به وإن قل، فإنه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك، وحسن الظن بك، ولا تدع تفقد لطيف أمورهم اتكالا على جسيمها، فإن لليسير من لطفك موضعا ينتفعون به، وللجسيم موقعا لا يستغنون عنه. وليكن آثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته، وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم، ويسع من وراء هم من خلوف أهليهم، حتى يكون همهم هما واحدا في جهاد العدو، فإن عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك، وإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودة الرعية وإنه لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم، ولا تصح نصيحتهم إلا بحيطتهم على ولاة الأمور وقلة استثقال دولهم، وترك استبطاء انقطاع مدتهم، فافسح في آمالهم، وواصل في حسن الثناء عليهم، وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم، فإن كثرة الذكر لحسن أفعالهم تهز الشجاع، وتحرض الناكل إن شاء الله. ثم اعرف لكل امرئ منهم ما أبلى، ولا تضمن بلاء امرئ إلى غيره، ولا تقصرن به دون غاية بلائه، ولا يدعونك شرف امرئ إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيرا، ولا ضعة امرئ إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما، واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب، ويشتبه عليك من الأمور، فقد قال الله تعالى لقوم أحب إرشادهم: {يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنزعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول}، فالرد إلى الله الأخذ بمحكم كتابه، والرد إلى الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة. ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى، فهم دون أقصاه وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء، وأولئك قليل، ثم أكثر تعاهد قضائه، وافسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك، فانظر في ذلك نظرا بليغا، فإن هذا الدين قد كان أسيرا في أيدي الأشرار، يعمل فيه بالهوى، وتطلب به الدنيا. ثم انظر في أمور عمالك، فاستعملهم اختبارا، ولا تولهم محاباة، وأثرة فإنهما جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة. والقدم في الإسلام المتقدمة، فإنهم أكرم أخلاقا، وأصح أعراضا، وأقل في المطامع إشراقا، وأبلغ في عواقب الأمور نظرا، ثم أسبغ عليهم الأرزاق، فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك، أو ثلموا أمانتك، ثم تفقد أعمالهم، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة، والرفق بالرعية. وتحفظ من الأعوان، فإن أحد منهم بسط يده، إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا، فبسطت عليه العقوبة في بدنه، وأخذته بما أصاب من عمله، ثم نصبته بمقام المذلة، ووسمته بالخيانة، وقلدته عار التهمة. وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله. وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد، وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلا، فإن شكوا ثقلا أو علة، أو انقطاع شرب، أو بالة ، أو إحالة أرض اغتمرها غرق، أو أجحف بها عطش، خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم، ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤونة عنهم، فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك، وتزيين ولايتك مع استجلابك حسن ثنائهم، وتبجحك باستفاضة العدل فيهم، معتمدا فضل قوتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم، والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم، ورفقك بهم، فربما حدث من الأمور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبة أنفسهم به، فإن العمران محتمل ما حملته، وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء، وقلة انتفاعهم بالعبر. ثم انظر في حال كتابك، فول على أمورك خيرهم، واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكايدك، وأسرارك بأجمعهم، لوجوه صالح الأخلاق ممن لا تبطره الكرامة فيجترئ بها عليك في خلاف لك بحضرة ملاء، ولا تقصر به الغفلة عن إيراد مكاتبات عمالك عليك، وإصدار جواباتها على الصواب عنك فيما يأخذ لك، ويعطي منك، ولا يضعف عقدا اعتقده لك، ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك. ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور، فإن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل. ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك، واستنامتك، وحسن الظن منك، فإن الرجال يتعرضون لفراسات الولاة بتصنعهم، وحسن خدمتهم، وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شيء، ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك، فاعمد لأحسنهم كان في العامة أثرا، وأعرفهم بالأمانة وجها، فإن ذلك دليل على نصيحتك لله، ولمن وليت أمره. واجعل لرأس كل أمر من أمورك رأسا منهم لا يقهره كبيرها ولا يتشتت عليه كثيرها، ومهما كان في كتابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته. ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات، وأوص بهم خيرا: المقيم منهم، والمضطرب بماله، والمترفق ببدنه، فإنهم مواد المنافع، وأسباب المرافق، وجلابها من المباعد والمطارح في برك وبحرك وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يجترؤون عليها، فإنهم سلم لا تخاف بائقته، وصلح لا تخشى غائلته، وتفقد أمورهم بحضرتك، وفي حواشي بلادك، واعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقا فاحشا، وشحا قبيحا، واحتكارا للمنافع، وتحكما في البياعات، وذلك باب مضرة للعامة، وعيب على الولاة، فامنع من الاحتكار، فإن رسول الله (ص) منع منه، وليكن البيع بيعا سمحا، بموازين عدل وأسعار، لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع، فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكل به، وعاقبه في غير إسراف. ثم الله الله، في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، من المساكين، والمحتاجين، وأهل البؤسى، والزمنى، فإن في هذه الطبقة قانعا ومعترا، واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسما من بيت مالك، وقسما من غلات صوافي الإسلام في كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكل قد استرعيت حقه، فلا يشغلنك عنهم بطر، فإنك لا تعذر بتضييعك التافه، لإحكامك الكثير المهم، فلا تشخص همك عنهم، ولا تصعر خدك لهم، وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم، ممن تقتحمه العيون، وتحقره الرجال، ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم، ثم اعمل فيهم بالإعذار إلى الله يوم تلقاه، فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم، وكل فأعذر إلى الله في تأدية حقه إليه. وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن، ممن لا حيلة له، ولا ينصب للمسألة نفسه، وذلك على الولاة ثقيل، والحق كله ثقيل. وقد يخففه الله على أقوام طلبوا العاقبة، فصبروا أنفسهم، ووثقوا بصدق موعودالله لهم. واجعل لذوي الحاجات منك قسما، تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلسا عاما، فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك، وأعوانك، من أحراسك وشرطك حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع، فإني سمعت رسول الله (ص) يقول في غير موطن: لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع؛ ثم احتمل الخرق منهم والعي، ونح عنهم الضيق والأنف، يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته، ويوجب لك ثواب طاعته، وأعط ما أعطيت هنيئا، وامنع في إجمال وإعذار. ثم أمور من أمورك لا بد لك من مباشرتها، منها إجابة عمالك بما يعيا عنه كتابك، ومنها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك بما تحرج به صدور أعوانك. وأمض لكل يوم عمله، فإن لكل يوم ما فيه، واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله أفضل تلك المواقيت، وأجزل تلك الأقسام، وإن كانت كلها لله، إذا صلحت فيها النية، وسلمت منها الرعية، وليكن في خاصة ما تخلص به لله دينك إقامة فرائضه التي هي له خاصة، فأعط الله من بدنك في ليلك ونهارك، ووف ما تقربت به إلى الله من ذلك، كاملا غير مثلوم ولا منقوص، بالغا من بدنك ما بلغ. وإذا قمت في صلاتك للناس فلا تكونن منفرا، ولا مضيعا، فإن في الناس من به العلة وله الحاجة، وقد سألت رسول الله (ص) حين وجهني إلى اليمن كيف أصلي بهم؟ فقال: صل بهم كصلاة أضعفهم، وكن بالمؤمنين رحيما. وأما بعد: فلا تطولن احتجابك عن رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور، والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه، فيصغر عندهم الكبير، ويعظم الصغير، ويقبح الحسن، ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل، وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الامور، وليست على الحق سمات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب، وإنما أنت أحد رجلين، إما امرؤ سخت نفسك بالبذل في الحق، ففيم احتجابك من واجب حق تعطيه، أو فعل كريم تسديه، أو مبتلى بالمنع، فما أسرع كف الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك، مع أن أكثر حاجات الناس إليك مما لا مؤونة فيه عليك من شكاة مظلمة، أو طلب إنصاف في معاملة. ثم إن للوالي خاصة وبطانة، فيهم استئثار وتطاول، وقلة إنصاف في معاملة، فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال، ولا تقطعن لأحد من حاشيتك، وحامتك قطيعة، ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤونته على غيرهم، فيكون مهنأ ذلك لهم دونك وعيبه عليك في الدنيا والآخرة. وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد، وكن في ذلك صابرا محتسبا، واقعا ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع، وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه، فإن مغبة ذلك محمودة، وإن ظنت الرعية بك حيفا فأصحر لهم بعذرك، واعدل عنك ظنونهم بإصحارك، فإن في ذلك رياضة منك لنفسك، ورفقا برعيتك، وإعذارا تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق. ولا تدفعن صلحا دعاك إليه عدوك، ولله فيه رضا، فإن في الصلح دعة لجنودك، وراحة من همومك، وأمنا لبلادك، ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه، فإن العدو ربما قارب ليتغفل فخذ بالحزم، واتهم في ذلك حسن الظن، وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة، أو ألبسته منك ذمة، فحط عهدك بالوفاء. وارع ذمتك بالأمانة، واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت، فإنه ليس من فرائض الله شيء الناس أشد عليه اجتماعا مع تفرق أهوائهم، وتشتت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين، لما استوبلوا من عواقب الغدر، فلا تغدرن بذمتك، ولا تخيسن بعهدك، ولا تختلن عدوك، فإنه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقي، وقد جعل الله عهده وذمته أمنا أفضاه بين العباد برحمته، وحريما يسكنون إلى منعته، ويستفيضون إلى جواره، فلا إدغال ولا مدالسة، ولا خداع فيه، ولا تعقد عقدا تجوز فيه العلل، ولا تعولن على لحن قول بعد التأكيد والتوثقة، ولا يدعونك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله إلى طلب انفساخه بغير الحق، فإن صبرك على ضيق أمر ترجو انفراجه وفضل عاقبته، خير من غدر تخاف تبعته، وأن تحيط بك من الله فيه طلبة لا تستقبل فيها دنياك ولا آخرتك. إياك والدماء وسفكها بغير حلها، فإنه ليس شيء أدنى لنقمة، ولا أعظم لتبعة، ولا أحرى بزوال نعمة، وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها، والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة، فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام، فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه بل يزيله، وينقله ولا عذر لك عند الله، ولا عندي في قتل العمد، لأن فيه قود البدن. وإن ابتليت بخطإ وأفرط عليك، سوطك أو سيفك أو يدك بالعقوبة، فإن في الوكزة فما فوقها مقتلة، فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي إلى أولياء المقتول حقهم. وإياك والإعجاب بنفسك، والثقة بما يعجبك منها وحب الإطراء، فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه، ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين. وإياك والمن على رعيتك بإحسانك، أو التزيد فيما كان من فعلك، أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فإن المن يبطل الإحسان، والتزيد يذهب بنور الحق، والخلف يوجب المقت عند الله والناس، قال الله تعالى: {كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لاتفعلون}. وإياك والعجلة بالامور قبل أوانها، أو التسقط فيها عند إمكانها، أو اللجاجة فيها إذا تنكرت، أو الوهن عنها إذا استوضحت، فضع كل أمر موضعه، وأوقع كل أمر موقعه. وإياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة، والتغابي عما تعنى به مما قد وضح للعيون، فإنه مأخوذ منك لغيرك، وعما قليل تنكشف عنك أغطية الأمور وينتصف منك للمظلوم. أملك حمية أنفك، وسورة حدك، وسطوة يدك، وغرب لسانك، واحترس من كل ذلك بكف البادرة، وتأخير السطوة، حتى يسكن غضبك، فتملك الاختيار، ولن تحكم ذلك من نفسك، حتى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربك. والواجب عليك أن تتذكر ما مضى لمن تقدمك من حكومة عادلة، أو سنة فاضلة أو أثر عن نبينا (ص)، أو فريضة في كتاب الله فتقتدي بما شاهدت مما عملنا به فيها، وتجتهد لنفسك في اتباع ما عهدت إليك في عهدي هذا، واستوثقت به من الحجة لنفسي عليك، لكيلا تكون لك علة عند تسرع نفسك إلى هواها. وأنا أسأل الله بسعة رحمته، وعظيم قدرته على إعطاء كل رغبة أن يوفقني وإياك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح إليه، وإلى خلقه مع حسن الثناء في العباد، وجميل الأثر في البلاد، وتمام النعمة وتضعيف الكرامة، وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة، إنا إليه راجعون، والسلام على رسول الله صلى الله عليه وآله الطيبين الطاهرين، وسلم تسليما كثيرا، والسلام.
* ابن شعبة الحراني في تحف العقول, قال أمير المؤمنين (ع) للأشتر: يا مالك, احفظ عني هذا الكلام وعه. يا مالك, بخس مروته من ضعف يقينه, وأزرى بنفسه من استشعر الطمع, ورضي بالذل من كشف عن ضره, وهانت عليه نفسه من أطلع على سره, وأهلكها من أمر عليه لسانه, الشره جزار الخطر, من أهوى إلى متفاوت خذلته الرغبة. البخل عار, والجبن منقصة, والورع جنة, والشكر ثروة, والصبر شجاعة, والمقل غريب في بلده, والفقر يخرس الفطن عن حجته, ونعم القرين الرضا الأدب حلل جدد. ومرتبة الرجل عقله, وصدره خزانة سره, والتثبت حزم, والفكر مرآة صافية, والحلم سجية فاضلة, والصدقة دواء منجح, وأعمال القوم في عاجلهم, نصب أعينهم في آجلهم, والاعتبار منذر صالح, والبشاشة فخ المودة.
* العلامة المجلسي في البحار, أقول ذكر والدي أنه رأى في كتاب عتيق، جمعه بعض محدثي أصحابنا في فضائل أمير المؤمنين (ع) هذا الخبر ووجدته أيضا في كتاب عتيق مشتمل على أخبار كثيرة قال: روي عن محمد بن صدقة أنه قال سأل أبو ذر الغفاري سلمان الفارسي: يا أبا عبد الله ما معرفة الإمام أمير المؤمنين (ع) بالنورانية؟ قال: يا جندب فامض بنا حتى نسأله عن ذلك, قال فأتيناه فلم نجده, قال: فانتظرناه حتى جاء, قال (ع): ما جاء بكما؟ قالا: جئناك يا أمير المؤمنين نسألك عن معرفتك بالنورانية قال (ع): مرحبا بكما من وليين متعاهدين لدينه, لستما بمقصرين, لعمري إن ذلك الواجب على كل مؤمن ومؤمنة، ثم قال (ع): يا سلمان ويا جندب, قالا: لبيك يا أمير المؤمنين, قال (ع): إنه لا يستكمل أحد الإيمان حتى يعرفني كنه معرفتي بالنورانية, فإذا عرفني بهذه المعرفة فقد امتحن الله قلبه للإيمان, وشرح صدره للإسلام, وصار عارفا مستبصرا, ومن قصر عن معرفة ذلك فهو شاك ومرتاب. يا سلمان ويا جندب, قالا: لبيك يا أمير المؤمنين, قال (ع): معرفتي بالنورانية معرفة الله عز وجل, ومعرفة الله عز وجل معرفتي بالنورانية وهو الدين الخالص الذي قال الله تعالى عنه {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} يقول ما أمروا إلا بنبوة محمد (ص) وهو دين الحنيفية المحمدية السمحة ,وقوله {يقيمون الصلاة} فمن أقام ولايتي فقد أقام الصلاة, وإقامة ولايتي صعب مستصعب لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان، فالملك إذا لم يكن مقربا لم يحتمله, والنبي إذا لم يكن مرسلا لم يحتمله, والمؤمن إذا لم يكن ممتحنا لم يحتمله، قلت: يا أمير المؤمنين, من المؤمن وما نهايته وما حده حتى أعرفه؟ قال (ع): يا أبا عبد الله, قلت: لبيك يا أخا رسول الله, قال: المؤمن الممتحن هو الذي لا يرد من أمرنا إليه شيء إلا شرح صدره لقبوله ولم يشك ولم يرتب، إعلم يا أبا ذر أنا عبد الله عز وجل وخليفته على عباده لا تجعلونا أربابا وقولوا في فضلنا ما شئتم فإنكم لا تبلغون كنه ما فينا ولا نهايته, فإن الله عز وجل قد أعطانا أكبر وأعظم مما يصفه وأصفكم أو يخطر على قلب أحدكم فإذا عرفتمونا هكذا فأنتم المؤمنون. قال سلمان: قلت: يا أخا رسول الله, ومن أقام الصلاة أقام ولايتك؟ قال: نعم يا سلمان, تصديق ذلك قوله تعالى في الكتاب العزيز {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} فالصبر رسول الله (ص) والصلاة إقامة ولايتي, فمنها قال الله تعالى {وإنها لكبيرة} ولم يقل وإنهما لكبيرة, لأن الولاية كبيرة حملها إلا على الخاشعين, والخاشعون هم الشيعة المستبصرون، وذلك لأن أهل الأقاويل من المرجئة والقدرية والخوارج وغيرهم من الناصبية يقرون لمحمد (ص) ليس بينهم خلاف, وهم مختلفون في ولايتي منكرون لذلك جاحدون بها إلا القليل, وهم الذين وصفهم الله في كتابه العزيز فقال: {إنها لكبيرة إلا على الخاشعين} وقال الله تعالى في موضع آخر في كتابه العزيز في نبوة محمد (ص) وفي ولايتي فقال عز وجل {وبئر معطلة وقصر مشيد} فالقصر محمد, والبئر المعطلة ولايتي, عطلوها وجحدوها ومن لم يقر بولايتي لم ينفعه الإقرار بنبوة محمد (ص) إلا أنهما مقرونان, وذلك أن النبي (ص) نبي مرسل وهو إمام الخلق وعلي من بعده إمام الخلق ووصي محمد (ص), كما قال له النبي (ص): أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي, وأولنا محمد وأوسطنا محمد وآخرنا محمد فمن استكمل معرفتي فهو على الدين القيم كما قال الله تعالى: {وذلك دين القيمة} وسأبين ذلك بعون الله وتوفيقه. يا سلمان ويا جندب, قالا: لبيك يا أمير المؤمنين صلوات الله عليك, قال: كنت أنا ومحمد نورا واحدا من نور الله عز وجل, فأمر الله تبارك وتعالى ذلك النور أن يشق, فقال للنصف: كن محمدا, وقال للنصف: كن عليا, فمنها قال رسول الله (ص): علي مني وأنا من علي, ولا يؤدي عني إلا علي, وقد وجه أبا بكر ببراءة إلى مكة فنزل جبرئيل (ع) فقال: يا محمد, قال: لبيك, قال: إن الله يأمرك أن تؤديها أنت أو رجل منك, فوجهني في استرداد أبي بكر فرددته فوجد في نفسه وقال: يا رسول الله أنزل في القرآن؟ قال: لا, ولكن لا يؤدي إلا أنا أو علي. يا سلمان ويا جندب, قالا: لبيك يا أخا رسول الله, قال (ع): من لا يصلح لحمل صحيفة يؤديها عن رسول الله (ص) كيف يصلح للإمامة؟ يا سلمان ويا جندب, فأنا ورسول الله (ص) كنا نورا واحدا, صار رسول الله (ص) محمد المصطفى, وصرت أنا وصيه المرتضى, وصار محمد الناطق وصرت أنا الصامت, وإنه لا بد في كل عصر من الأعصار أن يكون فيه ناطق وصامت, يا سلمان, صار محمد المنذر وصرت أنا الهادي وذلك قوله عز وجل {إنما أنت منذر ولكل أمة هاد} فرسول الله (ص) المنذر وأنا الهادي، {الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفطونه من أمر الله} قال: فضرب (ع) بيده على أخرى وقال: صار محمد صاحب الجمع وصرت أنا صاحب النشر, وصار محمد صاحب الجنة وصرت أنا صاحب النار, أقول لها خذي هذا وذري هذا, وصار محمد (ص) صاحب الرجفة وصرت أنا صاحب الهدة, وأنا صاحب اللوح المحفوظ ألهمني الله عز وجل علم ما فيه. نعم يا سلمان ويا جندب, وصار محمد {يس والقرآن الحكيم} وصار محمد {ن والقلم} وصار محمد {طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} وصار محمد صاحب الدلالات وصرت أنا صاحب المعجزات والآيات, وصار محمد خاتم النبيين وصرت أنا خاتم الوصيين, وأنا الصراط المستقيم, وأنا النبأ العظيم {الذي هم فيه مختلفون}, ولا أحد اختلف إلا في ولايتي. وصار محمد صاحب الدعوة وصرت أنا صاحب السيف, وصار محمد نبيا مرسلا وصرت أنا صاحب أمر النبي (ص), قال الله عز وجل {يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده} وهو روح الله لا يعطيه ولا يلقي هذا الروح إلا على ملك مقرب أو نبي مرسل أو وصي منتجب, فمن أعطاه الله هذا الروح فقد أبانه من الناس, وفوض إليه القدرة, وأحيا الموتى, وعلم بما كان وما يكون, وسار من المشرق إلى المغرب ومن المغرب إلى المشرق في لحظة عين, وعلم ما في الضمائر والقلوب, وعلم ما في السماوات والأرض, يا سلمان ويا جندب وصار محمد الذكر الذي قال الله عز وجل عنه {قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله}، إني أعطيت علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب, واستودعت علم القرآن وما هو كائن إلى يوم القيامة, ومحمد (ص) أقام الحجة حجة للناس وصرت أنا حجة الله عز وجل, جعل الله لي ما لم يجعل لأحد من الأولين والآخرين لا لنبي مرسل ولا لملك مقرب. يا سلمان ويا جندب, قالا: لبيك يا أمير المؤمنين, قال (ع): أنا الذي حملت نوحا في السفينة بأمر ربي, وأنا الذي أخرجت يونس من بطن الحوت بإذن ربي, وأنا الذي جاوزت بموسى بن عمران البحر بأمر ربي, وأنا الذي أخرجت إبراهيم من النار بإذن ربي, وأنا الذي أجريت أنهارها وفجرت عيونها وغرست أشجارها بإذن ربي, وأنا عذاب يوم الظلة, وأنا المنادي من مكان قريب قد سمعه الثقلان الجن والإنس وفهمه قوم, إني لأسمع كل قوم الجبارين والمنافقين بلغاتهم, وأنا الخضر عالم موسى, وأنا معلم سليمان بن داود, وأنا ذو القرنين, وأنا قدرة الله عز وجل. يا سلمان ويا جندب, أنا محمد ومحمد أنا, وأنا من محمد ومحمد مني, قال الله تعالى: {مرج البحر يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان}. يا سلمان ويا جندب, قالا: لبيك يا أمير المؤمنين, قال: إن ميتنا لم يمت, وغائبنا لم يغب, وإن قتلانا لن يقتلوا، يا سلمان ويا جندب, قالا: لبيك صلوات الله عليك, قال (ع): أنا أمير كل مؤمن ومؤمنة ممن مضى وممن بقي, وأيدت بروح العظمة, وإنما أنا عبد من عبيد الله لا تسمونا أربابا وقولوا في فضلنا ما شئتم فإنكم لن تبلغوا من فضلنا كنه ما جعله الله لنا ولا معشار العشر, لأنا آيات الله ودلائله وحجج الله وخلفاؤه وأمناؤه وأئمته ووجه الله وعين الله ولسان الله, بنا يعذب الله عباده وبنا يثيب ومن بين خلقه طهرنا واختارنا واصطفانا, ولو قال قائل لم؟ وكيف؟ وفيم؟ لكفر وأشرك لأنه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. يا سلمان ويا جندب, قالا: لبيك يا أمير المؤمنين صلوات الله عليك, قال (ع): من آمن بما قلت وصدق بما بينت وفسرت وشرحت وأوضحت ونورت وبرهنت فهو مؤمن ممتحن امتحن الله قلبه للإيمان وشرح صدره للإسلام وهو عارف مستبصر قد انتهى وبلغ وكمل, ومن شك وعند وجحد ووقف وتحير وارتاب فهو مقصر وناصب. يا سلمان ويا جندب, قالا: لبيك يا أمير المؤمنين صلوات الله عليك, قال (ع): أنا أحيي وأميت بإذن ربي, وأنا أنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم بإذن ربي, وأنا عالم بضمائر قلوبكم والأئمة من أولادي يعلمون ويفعلون هذا إذا أحبوا وأرادوا, لأنا كلنا واحد أولنا محمد وآخرنا محمد وأوسطنا محمد وكلنا محمد فلا تفرقوا بيننا, ونحن إذا شئنا شاء الله, وإذا كرهنا كره الله, الويل كل الويل لمن أنكر فضلنا وخصوصيتنا وما أعطانا الله ربنا, لأن من أنكر شيئا مما أعطانا الله فقد أنكر قدرة الله عز وجل ومشيته فينا. يا سلمان ويا جندب, قالا: لبيك يا أمير المؤمنين صلوات الله عليك, قال (ع): لقد أعطانا الله ربنا ما هو أجل وأعظم وأعلى وأكبر من هذا كله, قلنا: يا أمير المؤمنين, ما الذي أعطاكم ما هو أعظم وأجل من هذا كله؟ قال: قد أعطانا ربنا عز وجل علمنا للاسم الأعظم الذي لو شئنا خرقت السماوات والأرض والجنة والنار ونعرج به إلى السماء ونهبط به الأرض ونغرب ونشرق وننتهي به إلى العرش فنجلس عليه بين يدي الله عز وجل, ويطيعنا كل شيء حتى السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب والبحار والجنة والنار, أعطانا الله ذلك كله بالاسم الأعظم الذي علمنا وخصنا به ومع هذا كله نأكل ونشرب ونمشي في الأسواق ونعمل هذه الأشياء بأمر ربنا, ونحن عباد الله المكرمون الذين {لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} وجعلنا معصومين مطهرين وفضلنا على كثير من عباده المؤمنين, فنحن نقول: {الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله} {وحقت كلمة العذاب على الكافرين} أعني الجاحدين بكل ما أعطانا الله من الفضل والإحسان. يا سلمان ويا جندب, فهذا معرفتي بالنورانية فتمسك بها راشدا فإنه لا يبلغ أحد من شيعتنا حد الاستبصار حتى يعرفني بالنورانية, فإذا عرفني بها كان مستبصرا بالغا كاملا قد خاض بحرا من العلم وارتقى درجة من الفضل واطلع على سر من سر الله ومكنون خزائنه.
* الشيخ المفيد في كتاب الجمل, عن الواقدي، عن رجاله قال: لما أراد أمير المؤمنين (ع) الخروج من البصرة استخلف عليها عبد الله ابن عباس ووصاه، وكان في وصيته ان قال له: يا بن عباس، عليك بتقوى الله والعدل بمن وليت عليه وأن تبسط للناس وجهك، وتوسع عليهم مجلسك، وتسعهم بحلمك, وإياك والغضب فإنه طيرة الشيطان, وإياك والهوى فإنه يصدك عن سبيل الله, واعلم أن ما قربك من الله فهو مباعدك من النار وما باعدك من الله فمقربك من النار, واذكر الله كثيرا ولا تكن من الغافلين.