قد عرفت فيما سبق شدة أحوال الميت في سكرات الموت ثم مقاساته لظلمة القبر و ديدانه ثم لمنكر و نكير و سؤالهما ثم العذاب و أعظم من ذلك كله الأخطار التي بين يديه من نفخ الصور و البعث يوم النشور و العرض على الجبار و السؤال عن القليل و الكثير و نصب الميزان ثم مجاوزة الصراط مع دقته و حدته ثم انتظار النداء عند فصل القضاء فهذه أهوال و أحوال لا بد لك من معرفتها ثم الإيمان بها على سبيل الجزم و التصديق ثم تطويل الفكر فيها لتنبعث من قلبك دواعي الاستعداد لها .
و قد قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال الله تعالى شتمني ابن آدم و ما كان ينبغي له أن يشتمني و كذبني و ما كان له أن يكذبني أما شتمه إياي فيقول إن لي ولدا و أما تكذيبه فيقول لن يعيدني كما بدأني .
و لذلك قوله تعالى أَ وَ لَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ و قال تعالى أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ففي خلق الآدمي مع كثرة عجائبه و اختلاف تركيب أعضائه عجائب يزيد على العجائب في بعثه و إعادته فكيف ينكر ذلك من قدرة الله و حكمته من يشاهد ذلك في صنعه و قدرته فإن كان في إيمانك ضعف فقو الإيمان بالنظر في النشأة الأولى فإن الثانية مثلها و أسهل فإن كنت قوي الإيمان بها فأشعر قلبك المخاوف و الأخطار و أكثر فيها التفكر و الاعتبار ليستلب عن قلبك الراحة و القرار فتشتغل بالتشمير للعرض على الجبار و تفكر أولا فيما يقرع سمع سكان القبور من شدة نفخ الصور فإنها صيحة واحدة ينفرج بها القبور عن رءوس الموتى يثورون دفعة واحدة فتوهم في نفسك و قد وثبت متغيرا وجهك متغيرا بدنك من قرنك إلى قدمك من تراب قبرك مبهوتا من شدة الصعقة شاخص العينين نحو النداء و قد ثار الخلق ثورة واحدة من القبور التي طال فيها بلاؤهم و قد أزعجهم الفزع و الرعب مضافا إلى ما كان عليهم من الغموم و الهموم و شدة الانتظار كما قال تعالى وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ و قال تعالى فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ و قال وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَ لا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ فلو لم يكن بين يدي الموتى إلا هول تلك النفخة لكان ذلك جديرا بأن يتقى فإنها نفخة و صيحة يصعق بها من في السماوات و الأرض يعني يموتون بها إلا من شاء الله .
و لذلك :
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : كيف أتنعم و صاحب الصور قد التقم القرن و جثا جثية و أصغى بالأذن حتى يؤمر فينفخ .
قيل الصور هو القرن و ذلك أن إسرافيل (عليه السلام) واضع فاه على القرن كهيئة البوق و دائرة رأس القرن كعرض السماوات و الأرض و هو شاخص ببصره نحو العرش فينظر حتى يؤمر فينفخ النفخة الأولى فإذا نفخ صعق من في السماوات و الأرض أي مات كل حيوان من شدة الفزع إلا من شاء الله ثم يلبث الخلق بعد النفخة الأولى في البرزخ أربعين سنة ثم يحيي الله إسرافيل (عليه السلام) فيأمره أن ينفخ النفخة الثانية فذلك قوله تعالى ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ على أرجلهم ينظرون إلى البعث.
و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين بعث إلى صاحب الصور فأهوى به إلى فيه و قد قدم رجلا و أخر أخرى ينتظر متى يؤمر بالنفخ ألا فاتقوا النفخة.
فتفكر في الخلائق و ذلهم و انكسارهم و استكانتهم عند الانبعاث خوفا من هذه الصعقة و انتظارا لما يقضى عليهم من سعادة أو شقاوة و أنت فيما بينهم منكسر كانكسارهم متحير كتحيرهم بل إن كنت في الدنيا من المسرفين و الأغنياء المتنعمين فملوك الأرض في ذلك اليوم هم أذل أهل الأرض و أصغرهم و أحقرهم يوطئون بالأقدام مثل الذر و عند ذلك تقبل الوحوش من الجبال و البراري منكسة رءوسها مختلطة بالخلائق بعد توحشها ذليلة ليوم النشور من غير خطيئة تدنست بها و لكن حشرهم شدة الصعقة و هول النفخة و شغلهم ذلك عن الهرب من الخلق و التوحش منهم و ذلك قوله تعالى وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ثم أقبلت الشياطين المردة بعد تمردها و أذعنت خاشعة من هيبة العرض على الله تعالى تصديقا لقوله تعالى فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ الشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا فتفكر في حالك و حال قلبك هنالك .