اعلم أن الجنازة عبرة للبصير و فيها تنبيه و تذكير و أهل الغفلة فإنهم بها لا يزيدهم مشاهدتهم إلا قساوة لأنهم يظنون أنهم أبدا إلى جنازة غيرهم ينظرون و لا يحسبون أنهم لا محالة على الجنائز يحملون أو يحسبون ذلك و لكنهم لا يقدرون أن ذلك على القرب و لا يتفكرون أن المحمولين على الجنائز كلهم هكذا كانوا يحسبون فبطل حسابهم و انقرض على القرب زمانهم فلا ينبغي أن ينظر عبد إلى الجنازة إلا و يقدر نفسه محمولا عليها و أنه محمول عليها على القرب و كان قدومه لعله في غد أو بعد غد.
و روي أن بعضهم كان إذا رأى جنازة قال امضوا إنا على الأثر .
و كان بعضهم يقول إذا رأى جنازة اغدوا فإنا رائحون موعظة بليغة و غفلة شنيعة يذهب الأول و الآخر لا عقل له .
و ينبغي لمن شاهد جنازة أن لا يحدث نفسه بشيء سوى ما هو مفعول به و ما هو صائر إليه و نحن لا ننظر الآن إلى جماعة يحضرون الجنائز إلا و أكثرهم يضحكون و يلهون و لا يتكلمون إلا في ميراثه و ما خلف لورثته و لا يتفكر أقرانه و أقاربه إلا في الحيلة التي بها يتناول بعض ما خلفه و لا يتفكر واحد منهم إلا ما شاء الله تعالى في جنازة نفسه و في حاله إذا صار إليها و لا سبب لهذه العلة إلا قسوة القلب بكثرة المعاصي و الذنوب حتى نسينا الله و اليوم الآخر و الأهوال التي بين أيدينا قصرنا نلهو و نغفل و نشتغل بما لا يعنينا فنسأل الله تعالى اليقظة من هذه الغفلة فإن أحسن أحوال الحاضرين على الجنائز بكاؤهم على الميت و لو عقلوا لبكوا على أنفسهم لا على الميت كما قال بعض العلماء.
و يبكي على الموتى و يترك نفسه و يزعم أن قد قل عنهم عزاؤهفلو كان ذا عقل و رأي و فطنة لكان عليه لا عليهم بكاؤه .
قال رجل يا رسول الله صلى الله عليك من أزهد الناس قال من لم ينس القبر و البلى و ترك فضل زينة الدنيا و آثر ما يبقى على ما يفنى و لم يعد غدا من أيامه و عد نفسه من أهل القبور .
و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : ما رأيت منظرا إلا و القبر أفظع منه.
و قيل أول ما يتكلم ابن آدم حفرته فتقول أنا بيت الدود و بيت الوحدة و بيت الغربة و بيت الظلمة هذا ما أعددت لك فما أعددت لي .
و قال أبو ذر أ لا أخبركم بيوم فقري يوم أوضع في قبري .
و كان جعفر بن محمد (عليه السلام) ربما يأتي القبور ليلا و يقول يا أهل القبور ما لي إذا دعوتكم لا تجيبون ثم يقول حيل و الله بينهم و بين الجواب و كأني أكون مثلهم ثم يستقبل القبلة إلى طلوع الشمس .
و كان بعضهم يقول أيها المقبور في قبره و المتخلي في القبر بوحدته و المستأنس في بطن الأرض بأعماله ليت شعري بأي أعمالك استبشرت و بأي إخوانك اغتبطت ثم يبكي حتى يبل عمامته ثم يقول استبشر و الله بأعماله الصالحة و اغتبط و الله بإخوانه المتعاونين على طاعة الله و كان إذا نظر إلى القبور خار كما يخور الثور .
و قال بعضهم من مر بالقبور و لم يتفكر لنفسه و لم يدع لهم فقد خان نفسه و خانهم .
و كان بعضهم يقول يا أماه ليتك كنت عقيما إن لابنك في القبر حبسا طويلا و من بعد ذلك منه رحيلا .
و قال بعضهم : يا ابن آدم دعاك ربك إلى دار السلام فانظر من أين تجيبه إن أجبته من دنياك و اشتغلت بالرحلة إليه دخلتها و إن أجبته من قبرك منعتها .
و كان بعضهم إذا أشرف على القبور يقول ما أحسن ظواهرك إنما الدواهي في بواطنك.
و كان آخر إذا جن الليل عليه خرج إلى المقبرة ثم يقول يا أهل القبور متم فيا موتاه و عاينتم أعمالكم فوا عملاه .
و كان بعضهم يقول من أكثر ذكر القبر وجده روضة من رياض الجنة و من غفل عن ذكره وجده حفرة من حفر النار .
و كان بعضهم قد حفر في داره قبرا و كان إذا وجد في قلبه قساوة دخل فيه فاضطجع و مكث ما شاء الله ثم يقول رب ارجعوني لعلي أعمل صالحا فيما تركت يرددها ثم يردد على نفسه يا فلان قد رجعتك فاعمل .
و قال آخر تعجب الأرض من رجل يمهد مضجعه و يسوي فراشه للنوم فيقول يا ابن آدم أ ما تذكر طول بلائك و ما بيني و بينك شيء .
و كان عمر بن عبد العزيز يخرج إلى المقبرة فإذا نظر إلى القبور بكى ثم يقول هذه قبور آبائي بني أمية كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذاتهم و عيشهم أ ما تراهم صرعى قد حلت بهم المثلات و استحكم فيهم البلى و أصابت الهوام مقبلا في أبدانهم ثم يبكي .
أبيات وجدت مكتوبة على قبر :
تناجيك أجداث و هن سكوت *** و سكانها تحت التراب خفوت
أيا جامع الدنيا لغير بلاغه *** لمن تجمع الدنيا و أنت تموت
و وجدت على قبر طبيب مكتوب :
قد قلت لما قال لي قائل *** قد صار نعمان إلى رمسه
فأين ما يوصف من طبه *** و حذقه في الماء مع حسه
هيهات لا يدفع عن غيره *** من كان لا يدفع عن نفسه
و وجدت على قبر مكتوب :
يا أيها الناس كان لي أمل *** قصرني عن بلوغه الأجل
ما أنا وحدي الذي خصصت *** به كل إلى مثل ذا سينتقل
فليتق الله ربه رجل *** أمكنه في حياته العمل
فهذه الأبيات كتبت على القبور لتقصير سكانها عن الاعتبار قبل الموت و البصير هو الذي ينظر إلى قبر غيره فيرى مكانه بين أظهرهم و يعلم أنه لاحق بهم لا محالة و ليتحقق أنه لو عرض عليهم يوما واحدا من أيام عمره الذي هو مضيع له لكان ذلك اليوم أحب إليهم من الدنيا بحذافيرها لأنهم عرفوا قدر الأعمال و انكشف لهم حقائق الأمور فإنما حسرتهم يوم واحد من العمر ليتدارك المقصر له بتقصيره فيتخلص من العقاب و ليستزيد الموفق به رتبته فيضاعف له الثواب فإنهم إنما عرفوا قدر العمر بعد انقطاعه فحسرتهم في ساعة من الحياة و أنت قادر على تلك الساعة و لعلك تقدر على أمثالها و أنت مضيع لها فوطن نفسك على التحسر على تضييعها عند خروج الأمر من الاختيار إن لم تأخذ نصيبك من ساعتك على سبيل الابتدار .
و قد قال بعض الصالحين رأيت أخا في الله في النوم فقلت يا فلان عشت الحمد الله رب العالمين قال لئن أقدر أن أقولها يعني الحمد لله أحب إلي من الدنيا بما فيها.