العلماء الذين أحكموا العلوم الشرعية و العقلية و تفقهوا فيها و اشتغلوا بها و أهملوا الطاعات و اجتناب المقبحات و اغتروا بعلمهم أنهم عند الله بمكان فلو نظروا بعين البصيرة علموا أن العلم علمان علم بالله تعالى و صفاته و علم بالحلال و الحرام و معرفة أخلاق النفس المذمومة و المحمودة و كيفية علاجها فهي علوم لا تراد إلا للعمل و لو لا الحاجة إلى العمل لم يكن لهذه العلوم فائدة فكل علم يراد للعمل فلا فائدة له إلا العمل فمثال ذلك كمريض به علة لا غنى به عن دواء مركب من أخلاط كثيرة لا يعرفها إلا حذاق الأطباء فيسعى في طلب الطبيب بعد أن سافر عن وطنه حتى عثر على طبيب حاذق فعلمه الدواء و فصل له الأخلاط و أنواعها و مقاديرها و معادنها التي منها تجلب و علمه كيفية دق كل واحد منها و كيفية الخلط و العجن فيتعلم ذلك منه و يكتب منه نسخة حسنة بخط حسن و يرجع إلى بيته و هو يكررها و يقرؤها و يعلمها المرضى و لم يشتغل بشربها و استعمالها أ فترى أن ذلك يغني عنه من مرضه شيئا هيهات لو كتب منه ألف نسخة و علمه ألف مريض و كرره كل ليلة ألف مرة لم يغنه ذلك عن مرضه شيئا إلى أن يزن الذهب و يشتري الدواء و يخلطه كما تعلم و يشربه و يصبر على مرارته و يكون شربه في وقته و بعد تقديم الاحتماء و جميع شروطه فمن ظن أن ذلك يكفيه و يشفيه فقد ظهر غروره و هكذا الفقيه الذي أحكم علم الطاعات و لم يعملها و أحكم علم الأخلاق المحمودة و لم يتصف بها فهو مغرور قال الله تعالى قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها و لم يقل قد أفلح من يعلم كيفية تزكيتها و كتب علمها و علمها الناس و عند هذا يقول له الشيطان لا يغرنك هذا المثال فإن العلم بالدواء لا يزيل المرض و إنما مطلبك القرب من الله و ثوابه و العلم يجلب الثواب و يتلو عليه الأخبار الواردة في فضائل العلم فإن كان المسكين معتوها مغرورا وافق ذلك مراده فاطمأن إليه و أهمل العمل و إن كان كيسا قال أ تذكرني فضائل العلم و تنسيني ما ورد في العالم الفاجر الذي لا يعمل بعلمه كقوله تعالى كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ و كقوله تعالى مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً فأي خزي أعظم من التمثيل بالكلب و الحمار .
و قد قال (صلى الله عليه وآله وسلم) من ازداد علما و لم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بعدا .
و كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) شر الناس علماء السوء .
و قول مقسم بن أبي الدرداء ويل للذي لا يعلم مرة و ويل للذي يعلم سبع مرات أي إن العلم حجة عليه إذ يقال ما ذا عملت فيما علمت و كيف قضيت شكر الله .
و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : أشد الناس عذابا في القيامة عالم لم يعمل بعلمه و لم ينفعه علمه .
فما أوردناه لا يوافق العالم الفاجر بل ما ورد في فضل العلم يوافقه فيميل الشيطان قلبه إليه و إلى ما يهواه و ذلك عين الغرور فإنه إن نظر بعين البصيرة فمثاله ما ذكرناه و إن نظر بعين الإيمان فالذي أخبره بفضيلة العلم هو الذي أخبره بذم العالم السوء و إن حالهم عند الله أشد من حال الجهال .
و مثل العالم بالله و صفاته و أسمائه و هو يهمل العمل و يضيع أمر الله تعالى و حدوده مثل من أراد خدمة ملك فعرف الملك و عرف أخلاقه و أوصافه و لونه و شكله و طوله و عرضه و عادته و مجلسه إلا أنه قصد خدمته و هو ملابس لجميع ما يغضب عليه و عاطل عن جميع ما يحبه من زي و هيئة و حركة و سكون متلطخا بجميع ما يكرهه الملك متوسلا إليه بمعرفته له و نسبه و اسمه و صورته و عادته في سياسة غلمانه فهذا مغرور جدا إذ لو أضاف إلى معرفته باسمه و نسبه و عادته التلبس بمحبوباته و الامتثال لأمره لكان ذلك أقرب إلى نيل المراد من قربه و الاختصاص به غير أن تقصيره في التقوى و اتباعه الشهوات يدل على أنه لم يكن له من معرفة الله تعالى إلا الأسامي دون المعاني إذ لو عرف الله حق معرفته لخشيه و اتقاه فلا يتصور أن يعرف الأسد عاقل إلا و يتقيه و يخافه .
و قد أوحى الله تعالى إلى داود (عليه السلام) خفني كما تخاف السبع .
و لهذا قال تعالى إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ.
و فاتحة الزبور : رأس الحكمة خشية الله .
و قال بعضهم : كفى بخشية الله علما و كفى بالاغترار جهلا فالعالم من فقه عن الله أمره و نهيه و علم من صفاته ما أحبه و ما كرهه و هكذا يكون العالم