قد ذكرنا في غير موضع .
قول رسول الله ص الدنيا مزرعة الآخرة.
فكلما خلق في الدنيا فيمكن أن يتزود منه للآخرة و كما أنه لا بد من أدنى مال لضرورة المطعم و الملبس فلا بد من أدنى جاه لضرورة المعيشة مع الخلق و الإنسان كما لا يستغني عن طعام يتناوله فيجوز أن يحب الطعام أو المال الذي يباع به الطعام فكذلك لا يخلو عن الحاجة إلى خادم يخدمه و رفيق يعينه و سلطان يحرسه و يدفع عنه ظلم الأشرار فحبه لأن يكون له في قلب خادمه من المحل ما يدعوه إلى الخدمة ليس بمذموم و حبه لأن يكون له في قلب رفيقه من المحل ما يحسن مرافقته و معاونته ليس بمذموم و حبه أن يكون له في قلب أستاده من المحل ما يحسن به إرشاده و تعليمه و العناية به ليس بمذموم و حبه لأن يكون له من المحل في قلب السلطان ما يحثه ذلك على دفع الشر عنه ليس بمذموم فإن الجاه وسيلة إلى الأغراض كالمال فلا فرق بينهما إلا أن التحقيق في هذا يقتضي أن لا يكون المال و الجاه في أعيانهما محبوبين بل ينزل ذلك منزلة حب الإنسان أن يكون في داره بيت ماء لأنه يضطر إليه لقضاء حاجته و يود لو استغنى عن قضاء الحاجة حتى يستغني عن بيت الماء و هذا على التحقيق ليس بمحب لبيت الماء و كلما يراد التوسل به إلى محبوب فالمحبوب المقصود لا المتوسل به .
اعلم أن أكثر الخلق إنما هلكوا لخوف مذمة الناس و حب مدحهم فصارت حركاتهم و سكناتهم كلها موقوفة على ما يوافق رضا الناس رجاء للمدح و خوفا من الذم و ذلك من المهلكات فلا ينبغي للإنسان أن يفرح بمدح المادح بل يعرض ذلك على نفسه و عقله و ينصف من نفسه فإن كان يوافق لما يقال فيه فيشكر الله تعالى و يكون فرحه بفضل الله تعالى عليه و ما من به عليه من الألطاف و الحسنى و لا يسكن نفسه إلى ذلك المدح بل يزرى عليها طلبا للزيادة فيما آتاه الله و إن كان خاليا من ذلك ففرحه بالمدح غاية الجنون و يكون مثاله مثال من يهزأ به إنسان و يقول سبحان الله ما أكثر العطر الذي في أحشائه و ما أطيب الروائح التي تفوح منه إذا قضى حاجته و هو يعلم ما يشتمل عليه أمعاؤه من الأقذار و الأنتان ثم يفرح به فكذلك إذا أثنوا عليكم بالصلاح و الورع ففرحت به و الله مطلع على خبائث باطنك و غوائل سريرتك كان ذلك من غاية الجهل فإذا المادح إن صدق فليكن فرحك بصفتك التي هي من فضل الله عليك و إن كذب فينبغي أن يغمك ذلك و لا تفرح به .
و يجب أن تعلم أن طلب المنزلة في قلوب الناس و فرحك بها يسقط منزلتك عند الله فكيف تفرح به بل ينبغي أن يغمك مدح المادح و تكرهه و تغضب به فإنه قيل إن من فرح بمدح المادح فقد أمكن الشيطان من أن يدخل في بطنه.
و قال بعضهم : إذا قيل لك نعم الرجل أنت فكان أحب إليك من أن يقال بئس الرجل أنت فأنت و الله بئس الرجل .
و من ذمك لا يخلو من ثلاثة أحوال إما أن يكون قد صدق فيما قال و قصد النصح .
و الشفقة أو قصد الإيذاء و التعنت أو يكون كاذبا فإن كان صادقا فلا ينبغي أن تذمه و تغضب عليه و تحقد بسببه بل ينبغي أن تتقلد منه منة فإن من أهدى إليك عيوبك فقد أرشدك إلى عيوبك حتى تتقيها فينبغي أن تفرح و تشتغل بإزالة الصفة المذمومة عن نفسك إن قدرت عليها فإن اغتمامك بسببه و كراهيتك له و ذمك إياه غاية الجهل و إن كان قصده الإيذاء و التعنت فأنت قد انتفعت بقوله إذا أرشدك إلى عيبك إن كنت جاهلا به أو ذكرك عيبك إن كنت غافلا عنه أو قبحه في عينك لينبعث حرصك على إزالته إن كنت قد استحسنته و كل ذلك أسباب سعادتك و قد استفدته منه فاشتغل بطلب السعادة فقد أتيح لك أسبابها بسبب ما سمعته من المذمة فمهما قصدت الدخول على ملك و ثوبك ملوث بالعذرة و أنت لا تدري و لو دخلت عليه كذلك لخفت أن يجز رقبتك لتلويثك مجلسه بالعذرة فقال لك قائل أيها الملوث بالعذرة طهر نفسك فينبغي أن تفرح به لأن تنبهك بقوله غنيمة و جميع مساوي الأخلاق مهلكة في الآخرة و الإنسان إنما يعرفها من قول أعدائه فيجب أن يغتنمه و أما قصد العدو و المتعنت فجناية منه على دين نفسه و هو نعمة منه عليك فلم تغضب عليه بفعل انتفعت أنت به و استضر هو .
الحالة الثالثة أن يفتري عليك بما أنت بريء منه عند الله تعالى فينبغي أن لا تكره ذلك و لا تشتغل بذمة بل تتفكر في ثلاثة أمور.
أحدها أنك إن خلوت من ذلك العيب فلا تخلو من أمثاله و أخواته و ما يستر الله من عيوبك أكثر فاشكر الله الذي لم يطلعه على عيوبك و دفعه عنك بذكر ما أنت بريء منه .
و الثاني أن ذلك كفارات لبقية مساويك و ذنوبك فكأنه رماك بعيب أنت منه بريء و طهرك من ذنوب أنت ملوث بها و كل من اغتابك فكأنما أهدى إليك حسناته و كل من مدحك فقد قطع ظهرك فما بالك تفرح بقطع الظهر و تحزن بهدايا الحسنات التي تقربك إلى الله و أنت تزعم أنك تحب القرب من الله .
و أما الثالث فهو أن المسكين جنى على دينه دون دينك حتى سقط من عين الله و أهلك نفسه بافترائه و تعرض لأليم عقابه فلا ينبغي أن تغضب عليه مع غضب الله عليه فيشمت الشيطان به فتقول اللهم أهلكه بل ينبغي أن تقول اللهم أصلحه اللهم ارحمه .
كما قال (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ قال اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون .
لما أن ضربوه و مما يهون عليك كراهة المذمة قطع الطمع فإن من استغنيت عنه مهما ذمك لم يعظم أثر ذلك في قلبك و أصل الدين القناعة و بها ينقطع الطمع عن الجاه و المال و ما دام الطمع قائما كان حب الجاه و المدح في قلب من طمعت فيه غالبا و كانت همتك إلى تحصيل المنزلة في قلبه مصروفة و لا ينال ذلك إلا بهدم الدين فلا ينبغي أن يطمع طالب المال و الجاه و محب المدح و مبغض الذم في سلامة دينه فإن ذلك بعيد جدا .