اعلم أن البخل سببه حب المال و لحب المال سببان أحدهما حب الشهوات التي لا وصول إليها إلا بالمال مع طول الأمل فإن الإنسان لو علم أنه يموت بعد مدة قليلة ربما كان لا يبخل بماله إذ القدر الذي يحتاج في يوم أو في شهر أو في سنة قريب .
و إن كان قصير الأمل و كان له أولاد قام الولد مقام طول الأمل لأنه يقدر بقاءهم كبقاء نفسه فيمسك لأجلهم .
و لذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الولد مبخلة مجنبة مجهلة.
فإذا انضاف إلى ذلك خوف الفقر و قلة الثقة بمجيء الرزق قوي البخل لا محالة .
السبب الثاني أن يحب عين المال فمن الناس من معه ما يكفيه لبقية عمره إذا اقتصر على ما جرت عادته بنفقته و يفضل آلاف و هو شيخ لا ولد له و معه أموال كثيرة و لا تسمح نفسه بإخراج الزكاة و لا بمداواة نفسه عند المرض بل صار محبا للدنانير عاشقا لها يلتذ بوجودها في يده و بقدرته عليها فيكنزها تحت الأرض و هو يعلم أنه يموت فتضيع أو يأخذها أعداؤه و مع هذا فلا يسمح لنفسه بأن يأكل منها و يتصدق فهذا مرض القلب عظيم عسير العلاج لا سيما في كبر السن و هو مرض مزمن لا يرجى علاجه و كل شيء له علاج و علاج كل علة بمضادة سببها فيعالج حب الشهوات بالقناعة باليسير و بالصبر و يعالج طول الأمل بكثرة ذكر الموت و النظر في موت الأقران و طول تعبهم في جمع المال و ضياعه بعدهم و يعالج التفات القلب إلى الولد بأن الذي خلقه خلق معه رزقه و كم من ولد لم يرث من أبيه مالا و حاله أحسن ممن ورث و بأن يعلم أنه يجمع المال لولده يريد أن يترك ولده بخير و ينقلب هو إلى شر و إن ولده إن كان تقيا صالحا فيكفيه الله تعالى و إن كان فاسقا فيستعين بماله على المعصية و ترجع مظلمته عليه و يعالج أيضا قلبه بكثرة التأمل في كثرة الأخبار الواردة في ذم البخل و مدح السخاء و ما توعد الله تعالى به على البخل من العقاب فينبغي أن يعلم أن جمع المال فتنة عظيمة و آفة مهولة يسوق صاحبه إلى النار و هو مصيبة في الدنيا و الآخرة لما يحتاج إليه من المراعات و الحفظ و الاشتمال عليه و هو قاطع عن الطريق إلا ما يشاء الله تعالى و الخروج منه من أعظم الفوائد و الراحات إلا بقدر ما يحتاج إليه مما لا بد منه للاستعفاف عن المسألة قيل إن بعضهم حمل إلى ملك قدحا من فيروزج مرصعا بالجواهر لم ير له نظير ففرح الملك بذلك فرحا شديدا و قال لبعض الحكماء عنده كيف ترى هذا قال أراه مصيبة أو فقرا قال كيف قال إن انكسر كانت مصيبة لا جبر لها و إن سرق صرت فقيرا إليه و لم تجد مثله و قد كنت قبل أن يحمل إليك في أمن و أمان من المصيبة و الفقر ثم اتفق أن انكسر يوما و عظمت مصيبته فيه فقال صدق الحكيم ليته لم يحمل إلينا و هذا شأن صاحب المال لا يحظى منه إلا بالهم و الغم و تعبه به أهم من راحته فمن عرف آفة المال لم يأنس به و لم يأخذ منه إلا قدر حاجته و من قنع بقدر الحاجة فلا يبخل لأن ما أمسكه بقدر حاجته فليس ببخيل و ما لا يحتاج إليه فلا يتعب نفسه بحفظه فيبذله بل هو كالماء الجاري على شاطئ دجلة إذ لا يبخل به أحد لقناعة الناس منه بقدر الحاجة .