اعلم أن الرياء حرام و المرائي عند الله ممقوت و قد شهد بذلك الآيات و الأخبار كقوله تعالى فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ و قال تعالى إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً فمدح المخلصين بنفي كل إرادة سوى وجه الله تعالى و الرياء هو ضده .
و قال تعالى فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً أنزل فيمن يطلب الأجر و الحمد بعباداته و أعماله .
قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين سأله رجل يا رسول الله صلى الله عليك فيم النجاة فقال : أن لا يعمل العبد بطاعة الله يريد بها الناس .
و روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بحديث الثلاثة : المقتول في سبيل الله و المتصدق بماله و القارئ لكتابه و إن الله يقول لكل واحد منهم كذبت بل أردت أن يقال فلان جواد كذبت بل أردت أن يقال فلان شجاع كذبت بل أردت أن يقال فلان قارئفأخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنهم لم يثابوا على ذلك.
و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا و ما الشرك الأصغر يا رسول الله قال الرياء يقول الله عز و جل يوم القيامة إذا جازى العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم الجزاء .
و قال عيسى ع للحواريين : إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن رأسه و لحيته و يمسح شفتيه بالزيت لئلا يرى الناس أنه صائم و إذا أعطى بيمينه فليخف عن شماله و إذا صلى فليرخ ستر بابه فإن الله يقسم الثناء كما يقسم الرزق .
و قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إن الله لا يقبل عملا فيه مثقال ذرة من رياء .
و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : إن في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله رجلا يتصدق بيمينه فيكاد أن يخفيها شماله و لذلك ورد أن فضل عمل السر على عمل الجهر سبعين ضعفا .
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : إن المرائي ينادى يوم القيامة يا فاجر يا غادر يا مرائي ضل عملك و حبط أجرك اذهب فخذ أجرك ممن كنت تعمل له .
و رأى بعضهم رجلا يتطأطأ رقبته فقال يا صاحب الرقبة ارفع رقبتك ليس الخشوع في الرقاب و إنما الخشوع في القلوب .
و رأى بعضهم رجلا في المسجد فبكى في سجوده فقال أنت أنت لو كان هذا في بيتك .
و قال أمير المؤمنين (عليه السلام) للمرائي ثلاث علامات يكسل إذا كان وحده و ينشط إذا كان في الناس و يزيد في العمل إذا أثني عليه و ينقص إذا ذم .
و سئل بعضهم فقال أحدنا يصطنع المعروف يحب أن يحمد به أو يؤجر فقال له أ تحب أن تمقت فقال لا قال فإذا عملت لله عملا فأخلصه .
و يقال إنهم كانوا يراءون بما يعملون فصاروا اليوم يراءون بما لا يعملون.
و قال عكرمة إن الله يعطي العبد على نيته ما لا يعطيه على عمله لأن النية لا رياء فيها .
فينبغي أن تكون العبادات و الطاعات خالصة لوجه الله تعالى جاهدا على إخفائها و يكون همه على إخفائها أكثر من همه في إظهارها كما أن الناس همهم إخفاء الفواحش
و ينبغي أن يكون الطالب لثواب الله همه إخفاء عمله و طاعته لأنه يريد أن يخلص عمله لله ليجازيه الله عليه يوم القيامة بإخلاصه على ملا من الخلق إذ علم أن الله تعالى لا يقبل عملا في القيامة إلا الخالص و يعلم أن شدة الفاقة و الحاجة إلى الثواب عظيمة شديدة فإنه يوم لا ينفع فيه مال و لا بنون و لا يجزى والد عن ولده و يشتغل الصديقون بأنفسهم فيقول كل واحد نفسي نفسي فضلا عن غيرهم و ينبغي أن يكون المطيعون لله العابدون له كزوار بيت الله إذا توجه الحاج إلى مكة فإنهم لا يستصحبون معهم إلا الذهب المغربي الجيد الخالص لعلمهم بأن أرباب البوادي لا يجوز عندهم الزيف و الذهب الردي و الحاجة تشتد في البادية و لا وطن يفزع إليه و لا حميم يتمسك به فلا ينجى إلا الخالص من النقد فهكذا شاهد أرباب القلوب يوم القيامة عالم بالضمائر لا تخفى عليه خافية لا يقبل إلا الخالص من كل شوب و متى أدرك النفس تفرفة بين أن يطلع على عبادته إنسان أو يسمع به إنسان ففيه شعبة من الرياء فلو كان مخلصا قانعا بعلم الله لاستخفى من الذين يريدهم أن يطلعوا على عبادته و علم أنهم لا يقدرون على رزق و زيادة ثواب و نقصان عقاب فإذا ينبغي أن لا يفرح باطلاع الناس على أعماله بطاعاته. فإن قيل فما نرى أحدا ينفك عن السرور إذا عرفت طاعته فنقول أولا كل سرور ليس بمذموم بل السرور ينقسم إلى محمود و مذموم فأما المحمود فثلاثة .
الأول أن يكون قصده إخفاء الطاعة و الإخلاص لله و لكن لما اطلع عليه الخلق علم أن الله أطلعهم و أظهر الجميل من أحواله فيستدل به على حسن صنع الله به و نظره له و ألطافه به فإنه يستر الطاعة و المعصية ثم الله يستر عليه المعصية و يظهر الطاعة و لا لطف أحسن من ستر القبيح و إظهار الجميل فيكون فرحه بجميل نظر الله لا بحمد الناس و قيام المنزلة في قلوبهم و قد قال الله تعالى قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا فكأنه ظهر له أنه عند الله مقبول ففرح به .
الثاني أن يستدل بإظهار الله الجميل و ستره القبيح عليه في الدنيا أنه كذلك يفعل به في الآخرة .
إذ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما ستر الله على عبد في الدنيا إلا ستر عليه في الآخرة .
فيكون الأول فرحا بالقبول و الثاني فرحا بالستر .
و الثالث أن يحمده المطلعون على طاعته فيفرح بطاعتهم لله في مدحهم و بحبهم للمطيع و بميل قلوبهم إلى الطاعة إذ من أهل الإيمان من يرى أهل الطاعة فيمقته و يحسده أو يذمه أو يهزأ به و ينسبه إلى الرياء و لا يحمده عليه فهذا فرح يحسن و علامته الإخلاص في هذا الفرح و أما المذموم فهو أن يكون فرحه لقيام منزلته عند الناس حتى يمدحوه و يعظموه و يقوموا بقضاء حاجاته و يقابلوه بالإكرام في مصادره و موارده فهذا مكروه فالرياء أصله حب الدنيا و الرغبة فيها و نسيان الآخرة و قلة التفكر فيما عند الله و قلة التأمل في آفات الحياة الدنيا و عظيم نعيم الآخرة و أصل ذلك كله حب الدنيا و غلبة الشهوات فهو رأس كل خطيئة و منبع كل ذنب لأن العبادة إذا كانت خالصة لله كانت عارية من كل شوب لا يريد بها إلا ثواب الله و الدار الآخرة و الرياء ضد ذلك بميل الإنسان إلى حب الجاه و المنزلة في قلوب الناس و الرغبة في نعيم الدنيا و هذا هو الذي يعطب القلب و يحول بينه و بين التفكر في العاقبة و الاستضاءة بنور العلوم الربانية فإن قيل فمن صادق من نفسه كراهة الرياء و حملته الكراهة على الإباء و لكنه مع ذلك غير خال عن ميل الطبع إليه و حبه له و منازعته إياه إلا أنه كاره لحبه و لميله غير مجيب نفسه إليه فهل يكون في زمرة المراءين .
اعلم أن الله تعالى لم يكلف العبد إلا ما يطيق و ليس في طاقة العبد منع الشيطان عن نزغاته و لا قمع الطمع حتى لا يميل إلى الشهوات و لا ينازع إليها و إنما غايته أن يقابل شهوتها بكراهة استتارها من معرفة العواقب و علم الدين و أصول الإيمان بالله و اليوم الآخر فإذا فعل ذلك فهو الغاية في أداء ما كلف لأن الخواطر المهيجة للرياء هي من الشيطان و الرغبة و الميل بعد ذلك من خواطر النفس و الكراهة من الإيمان و من إيثار العقل فينبغي أن لا يزال الكراهة مقابلة للشهوات ليقمعها عن القلب فالهلاك في حب الشهوات .
قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : حفت الجنة بالمكاره و حفت النار بالشهوات .