اعلم أن الفقر محمود و لكن ينبغي أن يكون الفقير قانعا منقطع الطمع عن الخلق غير ملتفت إلى ما في أيديهم و لا حريصا على اكتساب المال كيف كان و لا يمكنه ذلك إلا أن يقنع بقدر الضرورة من المطعم و المشرب و الملبس و يقتصر على أقله قدرا و لا يتشوق إلى الكثرة و طول الأمل فإن ذلك غير القناعة و يتدنس لا محالة بالطمع و ذل الحرص و يجره الحرص و الطمع إلى مساوي الأخلاق و ارتكاب المنكرات الخارقة للمروات و قد جبل الآدمي على الحرص و الطمع و قلة القناعة .
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى وراءهما ثالثا و لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب و يتوب على من تاب .
و قال : منهومان لا يشبعان طالب علم و طالب مال .
و قال : يهرم ابن آدم و يشب منه اثنتان الأمل و حب المال .
و لما كانت هذه جبلة الآدمي مضلة و غريزة مهلكة أثنى الله و رسوله على القناعة .
و قال : طوبى لمن هدي للإسلام و كان عيشه كفافا و قنع به .
و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس الغنى كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس .
و نهى عن شدة الحرص و المبالغة في الطلب فقال ألا أيها الناس أجملوا في الطلب فإنه ليس للعبد إلا ما كتب له و ليس يذهب عبد في الدنيا حتى يستكمل ما كتب له في الدنيا و هي راغمة .
و روي : أن موسى ع سأل الله تعالى فقال أي عبادك أغنى فقال أقنعهم بما أعطيته قال و أيهم أعدل قال من أنصف من نفسه .
و روى ابن مسعود قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله و أجملوا في الطلب.
و قال أبو هريرة : قال لي النبي يا أبا هريرة إذا اشتد بك الجوع فعليك برغيف و كوز من ماء و على الدنيا الدمار .
و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : كن ورعا تكن أعبد الناس و كن قنعا تكن أشكر الناس و أحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا .
و نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الطمع فيما رواه أبو أيوب الأنصاري أن أعرابيا أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال يا رسول الله عظني و أوجز فقال إذا صليت فصل صلاة مودع و لا تحدثن بحديث تعتذر منه غدا و اجمع الإياس عما في أيدي الناس .
و قال مالك بن عوف الأشجعي : كنا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال أ لا تبايعون رسول الله قلنا أ و ليس قد بايعناك يا رسول الله ثم قال أ لا تبايعون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فبسطنا أيدينا فبايعناه فقال قائل ما بايعناك فعلام نبايعك قال إن تعبدوا الله و لا تشركوا به شيئا و الصلوات الخمس و تسمعوا و تطيعوا و أسر كلمة خفية و لا تسألوا الناس شيئا و الكلمة الخفية ولاية علي بن أبي طالب بالخلافة من بعده غير أن الراوي لميله لم يذكر ذلك.
قال بعضهم إن الطمع فقر و إن اليأس غنى و إنه من يئس عما عند الناس استغنى عنهم .
و قيل لبعض الحكماء ما الغنى قال قلة تمنيك و رضاك بما يكفيك .
و لذلك قيل :
العيش ساعات تمر *** و خطوب أيام تكر
و كان بعضهم يبل الخبز اليابس بالماء و يأكله و يقول من قنع بهذا لم يحتج إلى أحد .
و قال ابن مسعود ما من يوم إلا و ملك ينادي يا ابن آدم قليل يكفيك خير من كثير يطغيك .
و قال آخر : إنما بطنك شبر في شبر فلم يدخلك النار .
و يروى أن الله تعالى قال يا ابن آدم لو كانت الدنيا كلها لك لم يكن لك منها إلا القوت فإذا أنا أعطيتك منها القوت و جعلت حسابها على غيرك فأنا إليك محسن .
و قال ابن مسعود إذا طلب أحدكم الحاجة فليطلبها طلبا يسيرا و لا يأتي الرجل فيقول إنك إنك فتقطع ظهره فإنما يأتيه ما قسم له أو ما رزق .
و كتب بعض بني أمية إلى أبي حازم يعزم عليه برفع حوائجه إليه فكتب إليه رفعت حوائجي إلى مولاي فما أعطاني منها قبلت و ما أمسك عني قنعت .
و قال بعض الحكماء وجدت أطول الناس غما الحسود و أهنأهم عيشا القنوع و أصبرهم على الأذى الحريص إذا طمع و أخفضهم عيشا أرفضهم للدنيا و أعظمهم ندامة العالم المفرط .
و عاتب أعرابي أخاه على الحرص فقال يا أخي أنت طالب و مطلوب يطلبك ما لا تفوته و تطلب أنت ما قد كفيته و كل ما غاب عنك قد كشف لك و ما أنت فيه قد نقلت إليه كأنك يا أخي لم تر حريصا محروما و زاهدا مرزوقا .
قال بعضهم :
أراك يزيدك الإثراء حرصا *** على الدنيا كأنك لا تموت
فهل لك غاية إن صرت يوما *** إليها قلت حسبي قد كفيت
و قال بعضهم حكي أن رجلا صاد قنبرة فقالت ما تريد أن تصنع بي قال أذبحك و آكلك قالت و الله ما أشفي من قرم و لا أشبع من جوع و لكن أعلمك ثلاث خصال هن خير لك من الدنيا و أكلي أما واحدة فأعلمك بها و أنا في يدك و أما الثانية فإذا صرت على الشجرة و أما الثالثة فإذا صرت على الجبل قال هات الأولى قالت لا تلهفن على ما فات فخلاها فلما صارت على الشجرة قال هات الثانية قالت لا تصدقن بما لا يكون أنه يكون ثم طارت فصارت على الجبل فقالت يا شقي لو ذبحتني لأخرجت من حوصلتي درتين وزن كل درة عشرون مثقالا قال فعض على شفتيه و تلهف و قال هات الثالثة قالت أنت قد نسيت الثنتين فكيف أخبرك الثالثة أ لم أقل لك لا تلهفن على ما فاتك و لا تصدقن بما لا يكون أنا و لحمي و ريشي لا يكون عشرين مثقالا فكيف يكون في حوصلتي درتان وزن كل واحدة عشرون مثقالا ثم طارت و ذهبت و هذا مثال لفرط طمع الآدمي فإنه يعميه عن درك الحق حتى يقدر ما لا يكون .
قال بعضهم الرجاء حبل في قلبك قيد في رجلك فأخرج الحبل من قلبك يخرج القيد من رجلك .
قال بعضهم دخلت على الرشيد فوجدته ينظر في ورقة مكتوب فيها بالذهب فلما رآني تبسم فقلت فائدة قال نعم وجدت هذين البيتين في بعض خزائن بني أمية فاستحسنتهما و قد أضفت إليهما ثالثا و أنشدني :
إذا سد باب عنك من دون حاجة *** فدعه لأخرى ينفتح لك بابها
فإن قراب البطن يكفيك ملؤه *** و يكفيك سوءات الأمور اجتنابها
و لا تك مبذالا لعرضك و اجتنب *** ركوب المعاصي يجتنبك عقابها
قال عبد الله بن سلام لكعب ما يذهب العلوم من قلوب العلماء بعد إذ وعوه و عقلوه قال الشره و الطمع و طلب الحوائج فقيل لبعضهم فسر لنا هذا قال يطمع الرجل في شيء فيطلبه و يذهب عليه دينه و الشره فشره النفس في هذا و في هذا حتى تحب أن لا يفوتها شيء و يكون لك إلى هذا حاجة فإذا قضاها خرم أنفك و قادك حيث شاء و خضعت له فمن حبك للدنيا سلمت عليه و عدته إذا مرض و لم تسلم عليه لله و لا عدته لله فلو لم يكن لك إليه حاجة كان خيرا لك .
و قال بعض الحكماء من عجيب أمر الإنسان أنه لو نودي له بدوام البقاء في أيام الدنيا لم يكن في قوى خليقته من الحرص على الجمع أكثر مما يستعمله مع قصر المدة و توقع الزوال .
و قال بعضهم : مررت براهب فقلت من أين تأكل قال من بيدر اللطيف الخبير الذي خلق الرحى و هو يأتيها بالطحين و أومأ بيده إلى أضراسه .
علاج الحرص و الطمع و الدواء الذي يكتسب به صفة القناعة .
اعلم أن هذا الدواء مركب من ثلاثة أركان الصبر و العلم و العمل و مجموع ذلك من أمور و هو العمل بالاقتصاد في المعيشة و الرفق في الإنفاق فمن أراد عز القناعة فينبغي أن يسد على نفسه أبواب الحرص ما أمكنه و يرد نفسه إلى ما لا بد منه فإن من كثر حرصه و اتسع إنفاقه لم يمكنه القناعة بل إن كان وحده فينبغي له أن يقنع بثوب واحد و يقنع بأي طعام كان و يقلل من المشتهيات ما أمكنه و يوطن نفسه عليه و إن كان له عيال فيرد كل واحد إلى هذا القدر فإن هذا القدر يتيسر بأدنى جهد و يمكن معه الإجمال في الطلب فالاقتصاد في المعيشة هو الأصل في القناعة و نعني به الرفق في الإنفاق و ترك الخرق .
قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما عال من اقتصد .
و قال : ثلاث منجيات خشية الله في السر و العلانية و الاقتصاد في الغنى و الفقر و العدل في الرضا و الغضب .
و روي : أن رجلا رأى أبا الدرداء يلتقط حبا من الأرض و يقول إن من فقهك رفقك في معيشتك .
و قال ابن عباس رضي الله عنه : قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الاقتصاد و حسن السمت و الهدى الصالح جزء من بضع و عشرين جزءا من النبوة .
و في الخبر التدبير نصف المعيشة .
و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : من اقتصد أغناه الله و من بذر أفقره الله و من ذكر الله عز و جل أحبه الله .
و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : إذا أردت أمرا فعليك بالتؤدة حتى يجعل الله لك فرجا و مخرجا و التؤدة في الإنفاق من أهم الأمور .
الثاني إذا تيسر له في الحال ما يكفيه فلا ينبغي أن يكون شديد الاضطراب لأجل الاستقبال و يعينه على ذلك قصر الأمل و التحقيق بأن الرزق الذي قدر له لا بد أن يأتيه و إن لم يشتد حرصه فإن شدة الحرص ليس هو السبب لوصول الأرزاق بل ينبغي أن يكون واثقا بوعد الله تعالى إذ قال وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها و ذلك لأن الشيطان يعد الفقر و يأمر بالفحشاء و يقول إن لم تحرص على الجمع و الادخار فربما تمرض و ربما تفقر و تحتاج إلى احتمال الذلة بالسؤال فلا يزال طول العمر يبعثه في الطلب خوفا من التعب و يضحك عليه في احتماله التعب هذا مع الغفلة عن الله لتوهم تعوزه في ثاني الحال و ربما لا يكون و في مثله قيل :
و من ينفق الساعات في جمع ماله *** مخافة فقر فالذي فعل الفقر
و قد دخل ابنا خالد على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لا تأيسا من الرزق ما تهزهزت رءوسكما فإن الإنسان تلده أمه أجم ليس عليه قشر ثم يرزقه الله تعالى.
و لا ينفك الإنسان عن الحرص إلا بحسن الثقة بتدبير الله تعالى في تقدير أرزاق العباد فإن ذلك يصل لا محالة مع الإجمال في الطلب بل يجب أن تعلم أن رزق العبد من حيث لا يحتسب أكثر قال الله تعالى وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ فإذا انسد عليه باب كان ينتظر الرزق منه فلا ينبغي أن يضطرب قلبه لأجله .
قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أبى الله أن يرزق عبده المؤمن إلا من حيث لا يحتسب .
و قال بعضهم : اتق الله فما رأيت تقيا محتاجا أي لا يترك التقي فاقدا لضرورته يلقى الله في قلوب المسلمين أن يوصلوا إليه رزقه .
و قال بعضهم : قلت لأعرابي أين معاشك قال برد الحاج قلت فإذا صدر فاتك فبكى و قال لو لم نعش إلا من حيث ندري لم نعش .
فهذا ينبغي أن يعرف لدفع تخويف الشيطان و إنذاره الفقر و ينبغي أن يعرف ما في القناعة من عز الاستغناء و ما في الطمع و الحرص من الذل فإذا تحقق هذا عند ذلك انبعثت رغبته إلى القناعة لأنه في الحرص لا يخلو من تعب و في التعب لا يخلو من ذل و ليس في القناعة إلا ألم الصبر عن شهوات الفضول و هذا ألم لا يطلع عليه أحد و فيه ثواب الآخرة ثم يقويه عز النفس و القدرة على متابعة الحق فإن من كثر طمعه و حرصه كثرت حاجته إلى الناس و من كثرت حاجته إلى الناس ذلت نفسه و هلك دينه و من لا يؤثر عز النفس على شهوة البطن فهو ركيك العقل ناقص الإيمان .
قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : عز المؤمن استغناؤه عن الناس.
و في القناعة الحرية و العز .
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) استغن عمن شئت فأنت نظيره و احتج إلى من شئت فأنت أسيره و أحسن إلى من شئت فأنت أميره .
و ينبغي له أن يكثر تأمله في تنعم اليهود و النصارى و أراذل الناس و الحمقى من الأكراد و الأعراب و من لا دين لهم و لا عقل ثم ينظر إلى أحوال الأتقياء و الصالحين و يستمع أحاديثهم و يطالع أحوالهم و يخير عقله بين أن يكون على مشابهة أراذل الخلق أو على الاقتداء بمن هو أعز أصناف الخلق على الله تعالى حتى يهون عليه بذلك الصبر على القليل و القناعة باليسير فإنه إن تنعم في البطن فالحمار أكثر أكلا منه و إن تنعم في الوقاع فالخنزير أعلى رتبة منه و إن تزين في الملبس و الخيل ففي اليهود من هو أعلى رتبة منه و إن قنع بالقليل و رضي به لم يساهمه في رتبته إلا الأولياء و الأنبياء.
و يعلم أن في جمع المال من الخطر كما ذكرناه من آفات المال مع ما يفوته من المقام في الموقف للحساب و يدخل الفقراء قبله الجنة بخمسمائة عام فإنه إذا لم يقنع بما يكفيه التحق بزمرة الأغنياء و أخرج من جريدة الفقراء فإذا أراد أن يتم له ذلك فلينظر أبدا إلى من هو دونه في الدنيا لا إلى من هو فوقه فإن الشيطان أبدا يصرف نظره إلى من هو فوقه فيقول له لم تفتر عن الطلب و أرباب الأموال يتنعمون في المطاعم و الملابس و يصرف نظره في الدين إلى من هو دونه فيقول و لم تضيق على نفسك و تخاف و فلان أعلم منك و هو لا يخاف و الناس كلهم مشغولون بالتنعم فلم تريد أن تميز عنهم .
و قال أبو ذر رحمة الله عليه أوصاني خليلي أن أنظر إلى من هو دوني لا إلى من هو فوقي .
أي في الدنيا و قال أبو هريرة قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا نظر أحدكم إلى من فضله الله تعالى عليه في المال و الخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه .
فبهذه الأمور يقدر على اكتساب خلق القناعة و عماد الأمر الصبر و قصر الأمل و أن يعلم أن غاية صبره في الدنيا أيام قلائل ليتمتع دهورا طويلة لا انتهاء لها كما قال الله تعالى خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ فيكون كالمريض الذي يصبر على مرارة الدواء لشدة طعمه في انتظار الشفاء .