اعلم أن من الناس من يترك العمل خوفا من أن يكون مرائيا و ذلك غلط و موافقة للشيطان و اعلم أن الطاعات اللازمة للبدن التي لا يتعلق بالغير و لا لذة في عينها كالصلاة و الصوم و الحج فخطرات الرياء فيها ثلاثة .
أحدها ما يدخل قبل العمل فيبعث على الابتداء لرؤية الناس و ليس معه باعث الدين فهذا ينبغي أن يترك لأنه معصية لا طاعة فيها فإنه بصورة الطاعة إلى طلب المنزلة عند الناس .
فإن قدر الإنسان على أن يدفع عن نفسه باعث الرياء و يقول لها أ لا تستحيي من مولاك و لا تسخو بالعمل لأجله و تسخو بالعمل لأجل عباده حتى يندفع باعث الرياء و تسخو النفس بالعمل لله عقوبة للنفس على خاطر الرياء و كفارة عليه فليشتغل بالعمل.
الثاني أن ينبعث لأجل الله و لكن يعترض الرياء مع عقد العبادة في أولها فلا ينبغي أن يترك العمل لأنه وجد باعثا دينيا فليشرع في العمل و ليجاهد نفسه في دفع الرياء و تحصيل الإخلاص بالمعالجة التي ذكرناها من إلزام النفس كراهة الرياء و الإباء على القبول .
الثالث أن يعقد على الإخلاص ثم يطرأ الرياء و دواعيه فينبغي أن يجاهد في الدفع و لا يترك العمل لكن يرجع إلى عقد الإخلاص و يرد نفسه إليه بهذا حتى يتم العمل لأن الشيطان يدعوك أولا إلى ترك العمل فإذا لم تجب و اشتغلت فيدعوك إلى الرياء فإذا لم تجب و دفعته يقول لك هذا العمل ليس بخالص و أنت مرائي و تعبك ضائع فأي فائدة لك في عمل لا إخلاص فيه حتى يحملك بذلك على ترك العمل فإذا تركته فقد حصلت غرضه .
و مثال من يترك العمل لخوفه أن يكون مرائيا كمن سلم إليه مولاه حنطة فيها تراب و قال خلصها من التراب و نقها منه تنقية جيدة بالغة فيترك أصل العمل و يقول أخاف أن اشتغلت به لم يخلص خلاصا صافيا نقيا فيترك العمل من أصله و من هذا القبيل من يترك العمل خوفا من الناس أن يقولوا له إنه مرائي فيعصون الله به و هذا من مكايد الشيطان لأنه أولا أساء الظن بالمسلمين و ما كان من حقه أن يظن بهم ذلك ثم إن كان فلا يضره قولهم و يفوته ثواب العبادة و ترك العمل خوفا من قولهم إنه مرائي هو عين الرياء فلو لا حبه لمحمدتهم و خوفه من ذمهم و إلا فما له و لقولهم قالوا إنه مرائي أو قالوا إنه مخلص فأي فرق بين أن يترك العمل خوفا من أن يقال إنه مرائي و بين أن يحسن العمل خوفا من أن يقال إنه غافل مقصر بل ترك العمل أشد من ذلك فهذه كلها مكايد الشيطان على العباد الجهال و ترك العمل يجر إلى البطالة و ترك الخيرات فما دمت تجد باعثا دينيا على العمل فلا تترك العمل و جاهد .
خاطر الرياء و ألزم قلبك الحياء من الله تعالى إذ دعتك نفسك إلى أن تستبدل بحمده حمد المخلوقين و هو مطلع على قلبك و لو اطلع الخلق على قلبك و إنك تريد حمدهم لمقتوك بل إن قدرت على أن تزيد في العمل حياء من ربك و عقوبة لنفسك فافعل فإن قال الشيطان أنت مرائي فاعلم كذبه بما تصادف في قلبك من كراهة الرياء .
و إن لم تجد في قلبك كراهية للرياء و لا باعثا دينيا بل مجرد باعث الرياء فحينئذ ينبغي أن تترك العمل عند ذلك و هو بعيد ممن شرع في العمل لله فإنه لا بد أن يبقى معه أصل قصد الثواب .
ثم بعد ذلك جميعه ينبغي أن يلزم قلبه في سائر أوقاته القناعة بعلم الله تعالى في جميع طاعاته و لا يقنع بعلم الله إلا من لا يخاف إلا الله و لا يرجو إلا الله فإن من خاف غيره و ارتجاه اشتهى اطلاعه على محاسن أعماله و أحواله فإن كان في هذه الرتبة فليلزم قلبه كراهة ذلك من جهة العقل و الإيمان لما فيه من خطر التعرض للمقت و ليراقب نفسه على الطاعات العظيمة الشاقة التي لا يقدر عليها غيره فإن النفس عند ذلك تكاد تغلي حرصا على الإفشاء و تقول مثل هذا العمل العظيم أو الخوف العظيم و البكاء العظيم لو عرفه الخلق لكان أحسن من يقدر على ذلك فكيف ترضى بإخفائه فيجهل الناس محلك و ينكرون قدرك و يحرمون عن الاقتداء بك ففي مثل هذا الأمر ينبغي أن يثبت قدمه و يتذكر في مقابلة عظم عمله عظم نعم الله عليه من الإيجاد و الإحياء و الإقدار و التمكين و التسهيل و عظم ملك الآخرة و نعيم الجنة و دوامها أبد الآباد و عظم غضب الله و مقته على من طلب بطاعته ثوابا من عباده و يعلم أن طلب إظهاره لغيره تحبب إليهم و سقوط عند الله فيقول و كيف أبيع مثل هذا العمل بحمد الخلق و هم عاجزون لا يقدرون لي على رزق و أجل فيلزم ذلك قلبه و لا ينبغي أن يعجز نفسه و يقول إنما يقوى على الإخلاص الأقوياء فأما المخلطون فليس ذلك من شأنهم فيترك المجاهدة في الإخلاص و هذا جهل بل ينبغي أن يجتهد في الإخلاص لله بحيث لا يريد بعمله إلا وجه الله تعالى لأن الله تعالى لا يقبل العمل إلا إذا كان خالصا و هو من مقدور البشر لا يعجز عنه الأزكياء فالتشمير في طلب ذلك واجب على كل مكلف و ينبغي أن يكون حاله إذا كان في عبادة فاطلع الناس كلهم عليه لم يزده ذلك خشوعا و لم يدخله سرور بسبب اطلاعهم عليه و إن داخله سرور يسير بطبع البشرية فيجهد في رده بكراهة العقل و الإيمان و لا يلتفت قلبه إلى الخلق إلا بخطرات ضعيفة لا تشق عليه إزالتها فمن علامة الصدق في ذلك أنه لو كان له صاحبان أحدهما غني و الآخر فقير فلا يجد عند إقبال الغني زيادة هزة في نفسه لإكرامه إلا إذا كان في الغني زيادة علم أو زيادة ورع فيكون مكرما له بذلك الوصف لا بالغنى فمن كان استرواحه إلى مشاهدة الأغنياء أكثر فهو مرائي أو طماع و إلا فالنظر إلى الفقراء يزيد في رغبة الآخرة و يحبب إلى القلب المسكنة و النظر إلى الأغنياء بخلافه فكيف استروح إلى الغني أكثر مما استروح إلى الفقير و زيادة إكرام الغني إذا كان أقرب إليك إذ كان بينك و بينه حق و صداقة و سابقة و لكن يكون بحيث لو وجدت تلك العلاقة في فقير لكنت لا تقدم الغني عليه في إكرام و توقير البتة فإن الفقير أكرم على الله من الغني فإيثارك له لا يكون إلا طمعا و رياء ثم إذا استويت بينهما في المجالسة فيخشى عليك أن تظهر الحكمة و الخشوع للغني أكثر مما تظهره للفقير و إنما ذلك رياء خفي أو طمع خفي كما قال ابن السماك لجارية له ما لي إذا أتيت بغداد فتحت لي الحكمة قالت الطمع يشحذ لسانك و قد صدقت بأن اللسان ينطلق إلى الغني بما لا ينطلق عند الفقير و كذلك يحضر عنده الخشوع ما لا يحضره عند الفقير و مكايد النفس و جناياتها في هذا الفن لا تنحصر و لا ينجيك منها إلا بأن تخرج ما سوى الله عن قلبك و تتجرد للشفقة على بقية عمرك و لا ترضى لها بالنار بسبب شهوات منغصة .
في أيام متفاوتة منقضية و تكون في الدنيا كملك من ملوك الدنيا قد أمكنته الشهوات و ساعدته اللذات و لكن في بدنه سقم هو يخاف الهلاك على نفسه في كل ساعة لو اتسع في الشهوات و علم أنه لو احتمى و جاهد شهوته عاش و دام ملكه فلما عرف ذلك جالس الأطباء و حارف الصيادلة و عود نفسه شرب الأدوية المرة فصبر على بشاعتها و هجر جميع اللذات و صبر على مفارقتها فبدنه يزداد كل يوم نحولا بقلة أكله و لكن سقمه كل يوم يزداد نقصانا لشدة احتمائه فمهما نازعته نفسه إلى شهوة تفكر في توالى الآلام و الأوجاع عليه و أداء ذلك إلى الموت المفرق بينه و بين مملكته الموجب لشماتة الأعداء و مهما اشتد عليه شرب دواء تفكر فيما يستفيد منه من الشفاء الذي هو سبب التمتع بملكه و نعيمه في عيش هنيء و بدن صحيح و قلب رخي و أمر نافذ فتخف عليه مهاجرة اللذات فكذلك المؤمن المريد لملك الآخرة احتمى عن كل مهلك في آخرته و نفى لذات الدنيا و زهرتها فاجتزى منها بالقليل و اختار النحول و الذبول و الحزن و الخوف خوفا من أن يحل عليه غضب الله فيهلك و رجاء أن ينجو من عذابه فخف ذلك كله عليه عند شدة يقينه و إيمانه بعاقبة أمره و بما أعد الله تعالى له من النعيم المقيم في رضوان الله تعالى أبد الآباد ثم علم أن الله تعالى كريم رحيم لم يزل لعباده الراغبين في مرضاته عونا و بهم رءوفا و عليهم عطوفا تم كتاب الرياء .