اعلم أن السخاء و البخل كل واحد ينقسم إلى درجات فأرفع درجات السخاء الإيثار و هو أن يجود بالمال مع الحاجة إليه .
و أما السخاء عبارة عن بذل ما لا يحتاج إليه لمحتاج أو لغير محتاج و البذل مع الحاجة أشد و كما أن السخاوة قد تنتهي إلى أن يسخو على غيره مع الاحتياج فالبخل قد ينتهي إلى أن يبخل على نفسه مع الحاجة فكم من بخيل يمسك المال و يمرض فلا يتداوى ثم يشتهي الشهوة فلا يمنعه منها إلا البخل بالثمن و لو وجده مجانا لأكله فهذا يبخل على نفسه مع الحاجة و ذلك يؤثر على نفسه مع أن له حاجة إلى ذلك فانظر ما بين الرجلين فإن الأخلاق عطايا يضعها الله حيث يشاء و ليس بعد الإيثار درجة في السخاء و قد أثنى الله تعالى على المؤثرين فقال وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ.
و قال أيما امرئ اشتهى شهوة فرد شهوته و آثر على نفسه غفر له .
و قالت عائشة ما شبع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاثة أيام متوالية حتى فارق الدنيا و لو شاء لشبع و لكنه كان يؤثر على نفسه .
و نزل برسول الله ص ضيف فلم يجد عند أهله شيئا فدخل عليه رجل من الأنصار فذهب به إلى أهله فوضع بين يديه الطعام و أمر امرأته بإطفاء السراج و جعليمد يده إلى الطعام كأنه يأكل حتى أكل الضيف الطعام فلما أصبح قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد عجب الله من صنيعكم بضيفكم و نزلت وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ .
فالسخاء خلق من أخلاق الله تعالى و الإيثار أعلى درجات السخاء و كان ذلك من دأب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى سماه الله عظيما فقال وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ .
قال سهل بن عبد الله قال موسى (عليه السلام) يا رب أرني درجات محمد و أمته قال يا موسى إنك لن تطيق ذلك و لكن أريك منزلة من منازله جليلة عظيمة فضلته بها عليك و على جميع خلقي قال فكشف له عن ملكوت السماء فنظر إلى منزله كادت تتلف نفسه من أنوارها و قربها من الله عز و جل قال يا رب بما ذا بلغته إلى هذه الكرامة قال بخلق اختصصته به من بينهم و هو الإيثار يا موسى لا يأتيني أحد منهم قد عمل به وقتا من عمر إلا استحييت من محاسبته و بوأته من جنتي حيث يشاء .
و قيل خرج عبد الله بن جعفر إلى ضيعة له فنزل على نخيل قوم و فيها غلام أسود يعمل فيها إذ أتى الغلام بقوته و دخل الحائط كلب فدنا من الغلام فرمى إليه الغلام بقرص فأكله ثم رمى إليه بالثاني و الثالث فأكله و عبد الله ينظر إليه فقال يا غلام كم قوتك كل يوم قال ما رأيت قال فلم آثرت هذا الكلب قال ما هي بأرض كلاب و يوشك أنه جاء من مسافة بعيدة جائعا فكرهت رده قال فما أنت صانع اليوم قال أطوي يومي هذا فقال عبد الله بن جعفر ألام على السخاء إن هذا لأسخى مني فاشترى الحائط و الغلام و ما فيه من الأثاث فأعتق الغلام و وهبه له .
و قال بعضهم : أهدى إلي رجل من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) برأس شاة فقال إن أخي كان أحوج مني إليه فبعث إليه به فلم يزل يبعث به الواحد إلى الآخر حتى تداولته سبعة أبيات حتى رجع إلى الأول .
و بات علي بن أبي طالب (عليه السلام) على فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأوحى الله إلى جبرئيل و ميكائيل إني آخيت بينكما و جعلت عمر الواحد منكما أطول من عمر الآخر فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة فاختار كلاهما الحياة فأوحى الله عز و جل إليهما أ فلا كنتما مثل علي بن أبي طالب (عليه السلام) آخيت بينه و بين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فبات على فراشه يفديه بنفسه فيؤثره بالحياة اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه فكان جبرئيل عند رأسه و ميكائيل عند رجليه و جبرئيل ينادي بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة فأنزل الله تعالى وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ .