قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ .
و قال تعالى إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ .
و قال تعالى مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَ هُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ .
و قال تعالى أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ .
و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حب المال و الشرف ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل .
و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : ما ذئبان ضاريان أرسلا في زريبة غنم بأكثر فسادا فيها من حب المال و الجاه في دين الرجل المسلم .
و قيل يا رسول الله أي أمتك أشر قال الأغنياء .
و قال : سيأتي بعدكم قوم يأكلون أطائب الدنيا و ألوانها و ينكحون أجمل النساء و ألوانها و يلبسون ألين الثياب و ألوانها و يركبون فرة الخيل و ألوانها لهم بطون من القليل لا تشبع و أنفس بالكثير لا تقنع عاكفين على الدنيا يغدون و يروحون إليها اتخذوها آلهة من دون إلههم و ربا دون ربهم إلى أمرهم ينتهون و هواهم يتبعون فعزيمة من محمد بن عبد الله لازمة لمن أدركه ذلك الزمان من عقب عقبكم و خلف خلفكم أن لا يسلم عليهم و لا يعود مرضاهم و لا يتبع جنائزهم و لا يوقر كبيرهم فمن يفعل ذلك فقد أعان على هدم الإسلام .
و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : دعوا الدنيا لأهلها فمن أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ حتفه و هو لا يشعر .
و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : يقول ابن آدم مالي مالي هل لك من مالك إلا ما تصدقت فأبقيت أو أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت .
و قال رجل : يا رسول الله ما لي لا أحب الموت فقال هل معك مال فقال نعم قال فقدم مالك فإن قلب المرء مع ماله فإن قدمه أحب أن يلحقه و إن خلفه أحب أن يتخلف معه .
و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : أخلاء ابن آدم ثلاثة واحد يتبعه إلى قبض روحه و الثاني إلى قبره و الثالث إلى محشره فالذي يتبعه إلى قبض روحه فماله و الذي يتبعه إلى قبره فأهله و الذي يتبعه إلى محشره فعمله .
و قال الحواريون لعيسى (عليه السلام) ما لك تمشي على الماء و نحن لا نقدر على ذلك فقال لهم و ما منزلة الدينار و الدرهم عندكم قالوا حسن قال لكنهما عندي و المدر سواء .
و كتب سلمان الفارسي رضي الله عنه إلى أبي الدرداء يا أخي إياك أن تجمع من الدنيا ما لا تؤدي شكره فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول يجاء بصاحب الدنيا الذي أطاع الله فيها و ماله بين يديه كلما تكفأ به الصراط قال له ماله امض فقد أديت حق الله في ثم يجاء بصاحب الدنيا الذي لم يطع الله فيها و ماله بين كتفيه كلما تكفأ به الصراط قال له ماله ويلك إلا أديت حق الله في فما يزال كذلك حتى يدعو بالثبور و الويل .
قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا مات العبد قالت الملائكة ما قدم و قال الناس ما خلف .
و يروى أن أمير المؤمنين عليا (عليه السلام) وضع درهما على كفه ثم قال أما إنك إن لم تخرج عني لا تنفعني .
و روي : أن رجلا نال من أبي الدرداء أو أراه سوءا فقال اللهم من فعل بي سوءا فأصح جسمه و أطل عمره و أكثر ماله فانظر كيف رأى كثرة المال غاية البلاء مع صحة الجسم و طول العمر لأنه لا بد و أن يفضي إلى الطغيان .
و قال الحسن و الله ما أعز الدرهم أحد إلا أذله الله .
و قيل إن الدينار و الدرهم أزمة المنافقين يقادون بها إلى النار .
و قيل الدرهم عقرب فإن لم تحسن رقيته فلا تأخذه فإنه إن لدغك قتلك سمه قيل ما رقيته قال أخذه من حله و وضعه في حقه .
و قال بعضهم : لعمر بن عبد العزيز عند موته صنعت صنعا لم يصنعه غيرك تركت ولدك ليس لهم دينار و لا درهم و كان له ثلاثة عشر من الولد فقال أقعدوني فأقعدوه فقال أما قولك لم أدع لهم دينارا و لا درهما فإني لم أمنعهم حقا لهم و لم أعطهم حقا لغيرهم و إنما ولدي أحد رجلين إما مطيع لله فالله كافية و الله يتولى الصالحين و إما عاص لله فلا أبالي على ما وقع. و روي أن بعضهم أصاب مالا كثيرا فقيل له لو ادخرته لولدك من بعدك فقال و لكني ادخرته لنفسي عند ربي و ادخر ربي لولدي .
و قال آخر : مصيبتان لم يسمع الأولون و الآخرون بمثلها للعبد في ماله عند موته قيل و ما هما قال يؤخذ منه كله و يسأل عنه كله .
بيان مدح المال و الجمع بينه و بين الذم .
اعلم أن الله تعالى قد سمى المال خيرا في مواضع فقال إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ ... الآية .
و قال رسول الله ص نعم المال الصالح للرجل الصالح .
و كل ما جاء في ثواب الصدقة و الحج فهو بناء على المال لم يمكن الوصول إلا به و قال تعالى وَ يَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ و قال تعالى ممتنا على عباده وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً .
و قال كاد الفقر أن يكون كفرا .
و هو بناء على المال و لا تقف على وجه الجمع بين المدح و الذم إلا بأن تعرف حكمه المال و مقصوده و آفاته و غوائله حتى ينكشف لك أنه خير من وجه و شر من وجه و أنه محمود من حيث هو خير و مذموم من حيث هو شر و أنه ليس بخير محض و لا هو شر محض بل هو سبب الأمرين جميعا و ما هذا وصفه فيمدح لا محالة مرة و يذم أخرى و لكن البصير المميز يدرك أن المحمود منه غير المذموم و بيانها الاستمداد منه بما يصلح الحال لحفظ الدين و القوة على الطاعة المفضية به إلى سعادة الآخرة التي هي النعيم الدائم و الملك المقيم و لا بد من مطعم و مشرب و مسكن و منكح و ملبس فمن المطاعم إبقاء البدن و من المناكح إبقاء النسل و من البدن تكميل النفس و تزكيتها و تزيينها بالعلم و الخلق و من عرف هذا الترتيب فقد عرف قدر المال و وجه شرفه و أنه من حيث ضرورة البدن إلى هذه الأسباب لتصح العبادة .
فمن عرف فائدة ذلك و غايته و مقصده استعمله لتلك الغاية ملتفتا إليها غير ناس لها فقد أحسن و انتفع و كان ما حصل له الغرض محمودا في حقه فإذا المال آلة و وسيلة إلى مقصود صحيح و يصلح أن يتخذ آلة و وسيلة إلى مقاصد فاسدة و هي المقاصد الصادة عن سعادة الآخرة و يسد سبيل العلم و العمل فهو إذ ذاك محمود مذموم محمود بالإضافة إلى المقصود المحمود و مذموم بالإضافة إلى المقصود المذموم فمن أخذ من الدنيا أكثر مما يكفيه فقد أخذ حتفه و هو لا يشعر كما ورد به الخبر .
و لما كانت الطباع مائلة إلى اتباع الشهوات القاطعة لسبيل الله و كان المال مسهلا لها و آلة إليها عظم الخطر فيما يزيد على قدر الكفاية فاستعاذ الأنبياء من شره .
قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : اللهم اجعل قوت آل محمد كفافا فلم يطلب من الدنيا إلا ما يتمحض خيره .
و قال : اللهم أحيني مسكينا و أمتني مسكينا .
و قال رسول الله ص : تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس و لا انتعش بين أن محبها عبد لها و من عبد حجرا فهو عابد صنم .
اعلم أن المال مثل حية فيها سم و ترياق ففوائدها ترياقها و غوائلها سمومها فمن عرف غوائلها و فوائدها أمكنه أن يحترز من شرها و يستدر منها خيرها .
أما الفوائد فهي تنقسم إلى دنيوية و دينية أما الدنيوية فلا حاجة في ذكرها فإن معرفتها مشتركة بين أصناف الخلق و لو لا ذلك لم يتهالكوا على طلبها و أما الدينية فنحصر جميعها في ثلاثة أنواع .
النوع الأول أن ينفقه على نفسه أما في عباده أو في الاستعانة على العبادة .
أما العبادة كالاستعانة على الحج و الصدقة فإنه لا يتوصل إليهما إلا بالمال و هما من أمهات القربات و الفقير محروم عن فضلهما .
و أما فيما يقويه على العبادة و ذلك هو المطعم و الملبس و المنكح فإن هذه الضرورات إذا لم يتيسر كان القلب منصرفا إلى تدبيرها فلا يتفرغ للدين و ما لا يتوصل إلى العبادة إلا به فهو عباده و أخذ الكفاية من الدنيا للاستعانة على الدين من الفوائد الدينية فلا يدخل في هذه التنعم و الزيادة على الحاجة فإن ذلك من حظوظ الدنيا فقط .
النوع الثاني ما تصرفه إلى الناس من صدقة و استخدام و مروة و وقاية العرض و الاستخدام .
أما الصدقة فلا يخفى ثوابها و إنها لتطفي غضب الرب و فضائلها معروفة فلا نطول بذكرها .
و أما المروءة فنعني بها صرف المال إلى الأغنياء و الأشراف في ضيافة و هدية و إعانة و ما يجري مجراه فإن هذه لا تسمى صدقة بل الصدقة ما تسلم إلى المحتاج إلا أن هذا أيضا من الفوائد الدينية إذ به يكتسب العبد الإخوان و الأصدقاء و به يكتسب صفة السخاء و يلتحق بزمرة الأسخياء فلا يوصف بالجود إلا من يصطنع المعروف و يسلك سبيل الفتوة و المروءة و هذا أيضا مما يعظم الثواب فيه فقد وردت أخبار كثيرة في الهدايا و الضيافات و إطعام الطعام من غير اشتراط الفقر و الفاقة في مصارفها .
و أما وقاية العرض فنعني به بذل المال لدفع هجو الشعراء و ثلب السفهاء و دفع شرهم و قطع ألسنتهم و هذا أيضا مع تبخز فائدته في العاجلة من الحظوظ الدينية أيضا .
و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما وقى به المرء عرضه فهو له صدقة .
فكيف لا و فيه منع المغتاب عن معصية الغيبة و احتراز عما يثور من كلامه من العداوة التي تحمل في المكاره و الانتقام على مجاوزة الحد في الشرع .
و أما الاستخدام فهو أن الأعمال التي يحتاج إليها الإنسان لتهية أسبابه كثيرة و لو تولاها بنفسه ضاعت أوقاته و تعذر عليه سلوك سبيل الآخرة بالفكر و الذكر الذي هو أعلى مقامات السالكين و من لا مال له افتقر إلى أن يتولى بنفسه خدمة نفسه من شراء الطعام و طبخه و كنسه البيت حتى نسخ الكتاب الذي يحتاج إليه و كلما يتصور أن يقوم به غيرك و يحصل غرضك فأنت مغبون إذا اشتغلت به إذ عليك من العلم و العمل و الفكر و الذكر ما لا يتصور أن يقوم به غيرك فتضييع الوقت في غيره خسران .
و اعلم أن الزائد من المال الذي يفضل عما يحتاج إليه من الكفاف يجر إلى المعاصي فإن الشهوات متقاضية و العجز قد يحول بين المرء و المعصية و من العصمة أن لا يقدر و متى كان الإنسان آيسا عن نوع من المعصية لم تتحرك داعيته فإذا استشعر القدرة عليه انبعثت و المال نوع من القدرة يحرك داعيه المعاصي و ارتكاب الفجور فإن اقتحم ما اشتهاه هلك و إن صبر وقع في شدة إذ الصبر مع القدرة أشد و فتنة السراء أشد من فتنة الضراء .
النوع الثالث أنه يجر إلى التنعم في المباحات و هذا أقل الدرجات فمتى يقدر صاحب المال أن يتناول خبز الشعير و يلبس الثوب الخشن و يترك لذائذ الأطعمة كما كان يقدر عليه سليمان (عليه السلام) في ملكه و أحسن أحواله أن يترك التنعم بالدنيا لما يعلم من سرعة انقضائها لئلا يمرن عليه نفسه فيصير التنعم مألوفا عنده و محبوبا إليه لا يصبر عنه و يجره البعض منه إلى البعض و إذا اشتد أنسه به ربما لا يقدر على التوصل إليه بالكسب الحلال فيقتحم الشبهات و يخوض في المراءاة و المداهنة و الكذب و النفاق و سائر الأخلاق المردية لينتظم له أمر دنياه و تيسر له تنعمه فإن من كثر ماله كثرت حاجته إلى الناس و من احتاج إلى الناس فلا بد أن ينافقهم و يعصى الله في طلب رضاهم فإن سلم الإنسان من مباشرة المحظورات فلا يسلم عن هذا أصلا و من الحاجة إلى الخلق تثور العداوة و الصداقة و يبتني عليه الحسد و الحقد و الرياء و الكبر و الكذب و الغيبة و النميمة و سائر المعاصي التي تخص القلب و اللسان و لا يخلوا عن التعدي أيضا إلى سائر الجوارح و كل ذلك يلزم من شؤم المال و الحاجة إلى حفظه و إصلاحه و هذا لا ينفك عنه أحد من أصحاب المال ثم إنه يلهيه إصلاح ماله عن ذكر الله تعالى و كلما شغل عن ذكر الله فهو خسران .
و لذلك قال عيسى (عليه السلام) في المال ثلاث خصال أن يأخذه من غير حله فقيل إن أخذه من حله فقال يضعه في غير حقه فقيل إن وضعه في حقه فقال يشغله إصلاحه عن ذكر الله تعالى و هذا هو الداء العضال .
فإن أصل العبادات و مخها و سرها ذكر الله تعالى و الفكر في جلاله و مصنوعاته و يحتاج ذلك إلى قلب فارغ و صاحب الضيعة يمسي و يصبح متفكرا في خصومة الفلاح و محاسبته و خصومة الشركاء و منازعتهم في الماء و الحدود و خصومة أعوان السلطان في الخراج و خصومة الأجراء في التقصير في العمارة و خصومة الفلاحين في خيانتهم و صاحب التجارة يكون متفكرا في خيانة شريكه و انفراده بالربح و تقصيره في العمل و تضييعه للمال و كذلك صاحب المواشي و هكذا سائر أصناف الأموال و أبعدها عن كثرة الاشتغال النقد المكنوز تحت الأرض و لا يزال الفكر مترددا فيما يصرف إليه و في كيفية حفظه و في الخوف ممن يعثر عليه و في دفع أطماع الناس عنه و أودية أفكار أهل الدنيا لا نهاية لها و الذي معه قوت يومه في سلامة عن جميع ذلك و ما يقاسيه أرباب الأموال في الدنيا من الخوف و الحزن و الغم و الهم و التعب في دفع الحساد و تجشم المصاعب في حفظ الأموال و كسبها فإذا ترياق الأموال أخذ الضرورة من ذلك مما بيناه فيما تقدم ما لا غنى عنه لإصلاح البدن بتوفيره على العبادة و صرف الزائد إلى الجيران في الخيرات من الصدقات و غيره و ما عداه سموم و آفات .