ينبغي للإنسان أن يهذب أخلاقه و يعالجها كما أن المريض ينبغي له أن يعالج بدنه و صحته فلا يعالج كل شيء إلا بضده فعلاج الحار بالبارد و البارد بالحار و اليابس بالرطب و الرطب باليابس فهكذا أمراض الأخلاق يعالج مرض الجهل بالعلم و مرض البخل بالسخاء و مرض الكبر بالتواضع و مرض الشره بالكف عن المشتهيات تكلفا و كما أنه لا بد من احتمال مرارة الدواء و شدة الصبر عن المشتهيات بعلاج الأبدان المريضة فلا بد من احتمال مرارة المجاهدة بالصبر على العبادة لمداواة مرض القلب بل ذلك أولى فإن مرض البدن يخلص منه بالموت و مرض القلب العياذ بالله عذاب يدوم بعد الموت أبد الآباد و أصل تهذيب النفس أن يقف الإنسان على عيوب نفسه فمن كملت بصيرته لم تخف عليه عيوبه فإذا عرف العيوب أمكنه الخروج منها و أكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفسهم يرون القذى في عين غيرهم .
و لا يرون الجذع في عين أنفسهم فمن أراد أن يقف على عيب نفسه فليطلب صديقا صدوقا بصيرا متدينا و ينصبه رقيبا على نفسه ليلاحظ أحواله و أفعاله مما يكرهه من أخلاقه و أفعاله و عيوبه الظاهرة و الباطنة فينبهه عليها فهكذا كان يفعل من يريد صلاح نفسه .
كان بعضهم يقول :
رحم الله من أهدى إلي عيوبي و كان عمر يسأل حذيفة بن اليمان و يقول أنت صاحب سر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنافقين فهل ترى علي شيئا من آثار النفاق فيقول له أنت تعلم بحال نفسك و قد قل الأصدقاء و عز من يترك المداهنة فيخبر بالعيب و لا تخلو في أصدقائك عن حسود أو صاحب غرض يرى ما ليس بعيب عيبا أو عن مداهن يخفى عنك بعض عيوبك .
زياد :
و لهذا كان بعضهم اعتزل عن الناس .
فقيل له لم لا تخالط الناس فقال ما أصنع بقوم يخفوني عيوبي فقد كانت شهوة ذوي الدين أن ينتبهوا لعيوبهم بتنبيه غيرهم و قد آل الأمر إلى أن أهل زماننا هذا أبغض الخلق إليهم من يعرفهم عيوبهم و يكاد يكون هذا مفصحا عن ضعف الإيمان فإن الأخلاق السيئة عقارب و حيات لدغة و لو نبهنا منبه على أن تحت ثوبنا عقربا لتقلدنا منه منه و فرحنا به و اشتغلنا بأبعاد العقرب و قتله و إنما نكايته على البدن يوما فما دونه و نكاية الأخلاق المردية على صميم القلب و يخشى أن يدوم بعد الموت أبدا أو آلافا من السنين ثم إنا لا نفرح بمن نبهنا عليها و لا نشتغل بإزالتها بل نشتغل بمقابلة الناصح بمثله فنقول فأنت أيضا تصنع كيت و كيت و تشغلنا العداوة معه عن الانتفاع بنصحه فيشبه هذا أن يكون من قساوة القلب الذي أثمرته كثرة الذنوب و أصل كل ذلك ضعف الإيمان فنسأل الله تعالى أن يعرفنا رشدنا و يبصرنا بعيوب أنفسنا بمنه و لطفه .
و من أراد أن يقف على عيوب نفسه و يتحققها فيأخذ ذلك من لسان أعدائه فإن عيون السخط تبدي المساويا و لعل انتفاع الإنسان بعدو مشاحن يذكره
عيوبه أكثر من انتفاعه بصديق مداهن يثني عليه و يمدحه و يخفى عنه عيوبه إلا أن الطبع مجبول على تكذيب العدو و حمل ما يقوله على الحسد و لكن البصير لا يخلو من الانتفاع بقول أعدائه فإن مساويه لا بد أن تنشر على ألسنتهم ثم إنه يخالط الناس فكلما يراه مذموما فيما بين الخلق. فيطالب نفسه إليه فإن المؤمن مرآة المؤمن .
فيرى في عيوب غيره عيوب نفسه و يعلم أن الطبائع متقاربة في اتباع الهوى فيتفقد نفسه و يطهرها عن كل ما يذمه من غيره و ناهيك بهذا تأديبا فلو ترك الناس كلهم ما يكرهونه من غيرهم .
لاستغنوا عن المؤدب .
قيل لعيسى (عليه السلام) من أدبك : قال ما أدبني أحد .
رأيت قبح الجهل فجانبته .
فكل آفة تدخل على المكلف ; من اتباع الهوى و حب الشهوات فإن من تأمل ذلك بعين الاعتبار انفتحت له بصيرته و انكشفت له علل قلبه فينبغي له أن يزيل ذلك بالمخالفة لهما قال الله تعالى وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى .
و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : المؤمن بين خمس شدائد مؤمن يحسده و منافق يبغضه و كافر يقاتله و شيطان يضله و نفس تنازعه فبين أن النفس عدو منازع يجب مجاهدتها .
و يروى : أن الله تعالى أوحى إلى داود (عليه السلام) حذر و أنذر أصحابك أكل الشهوات فإن القلوب المتعلقة بشهوات الدنيا .
عقولها عني محجوبة .
و قال عيسى (عليه السلام) : طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعود غائب لم يره .
و قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : كف أذاك عن نفسك و لا تتابع هواها في معصية الله إذ تخاصمك يوم القيامة فيلعن بعضكم بعضا إلا أن يغفر الله و يستر .
و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لقوم قدموا من الجهاد : مرحبا بكم قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر فقالوا و ما الجهاد الأكبر يا رسول الله فقال جهاد النفس .
و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : المجاهد من جاهد نفسه في الله عز و جل .
و كان بعضهم يقول :
يا نفس لا في الدنيا مع أبناء الملوك تتنعمين و لا في طلب الآخرة مع العباد تجتهدين .
و قال الحسن : ما الدابة الجموح بأحوج إلى اللجام الشديد من نفسك و مجاهدة النفس على أربعة أوجه القوت من الطعام و الغمض من المنام و الحاجة من الكلام و حمل الأذى من جميع الأنام فيتولد من قلة الطعام موت الشهوات و من قلة المنام صفو الإرادات و من قلة الكلام السلامة من الآفات و من احتمال الأذى البلوغ إلى الغايات .
و قال بعضهم : إن النعيم لا يدرك إلا بترك النعيم .
و قالت امرأة العزيز ليوسف (عليه السلام) بعد ما ملك خزائن الأرض يا يوسف إن الحرص و الشهوة صير الملوك عبيدا و إن الصبر و التقوى صير العبيد ملوكا قال الله تعالى إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ .
قال بعضهم : سلام على الماء البارد في الدنيا .
لعلي لا أحرمه في الآخرة .
قال رجل لعمر بن عبد العزيز متى أتكلم قال إذا اشتهيت الصمت .
قال فمتى أصمت قال إذا اشتهيت الكلام .
و قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : من اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات.
و لا يمكن دفع النفس عن الشهوات ما لم تمنعها من التنعم بالمباحات فإن النفس إذا لم تمنع بعض المباحات .
طمعت في المحظورات فمن أراد حفظ لسانه عن الغيبة و الفضول فحقه أن يلزم السكوت إلا عن المهمات و لا يتكلم إلا بحق فيكون سكوته عبادة و كلامه عبادة لأن الذي يشتهي به الحلال هو الذي بعينه يشتهي به الحرام فالشهوة واحدة و قد وجب على العبد منعها عن الحرام فإن لم يعودها الاقتصار على قدر الضرورة في الشهوات غلبته الشهوة فإن النفس تفرح بالتنعم في الدنيا و تركن إليها و تطمئن بها أشرا و بطرا حتى تصير ممتلئا به كالسكران الذي لا يفيق من سكره و ذلك أن الفرح بالدنيا سم قاتل .
يسري في العروق فيخرج من القلب الخوف و الحزن و ذكر الموت و أهوال يوم القيامة قال الله تعالى وَ فَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ و قال تعالى اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ إلى قوله وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ و أما علامة حسن الخلق قال الله تعالى قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ إلى قوله أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ .
و قال إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ إلى قوله أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا و كذلك قال وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً .
فمن أشكل عليه حاله .
فليعرض نفسه على هذه الآيات فوجود جميع هذه الصفات حسن الخلق و فقد جميعها علامة سوء الخلق و وجود بعضها دون بعض يدل على البعض دون البعض فليشتغل تحصيل ما فقده و حفظ ما وجده و وصف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المؤمن بصفات كثيرة و أشار بجميعها إلى محاسن الأخلاق فقال المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه .
و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليكرم ضيفه .
و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر .
فليقل خيرا أو ليصمت .
و ذكر أن صفات الإيمان هي حسن الخلق فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا.
و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا رأيتم المؤمن صموتا وقورا فادنوا منه فإنه يلقي الحكمة .
و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) من سرته حسنة و ساءته سيئة فهو مؤمن .
و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا يحل لمؤمن أن يشير إلى أخيه بنظرة تؤذيه .
و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا يحل لمؤمن أن يروع مسلما.
و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما يتجالس المتجالسان بأمانة الله فلا يحل لأحدهما أن يفشي على أخيه ما يكره .
و جمع بعضهم علامات حسن الخلق فقال أن يكون كثير الحياء قليل الأذى صدوق اللسان قليل الكلام كثير العمل قليل الزلل وصولا وقورا صبورا رضيا شكورا رفيقا عفيفا شفيقا لا نمام و لا مغتاب و لا عجول و لا حقود .
و لا بخيل و لا حسود هشاش بشاش يحب في الله و يبغض في الله و يرضى في الله .
و يسخط في الله .
سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن المؤمن و المنافق فقال إن المؤمن همته في الصلاة و الصيام و العبادة و المنافق همته في الطعام و الشراب كالبهيمة .
و قال بعضهم المؤمن مشغول بالفكر و العبر و المنافق مشغول بالحرص و الأمل و المؤمن يحسن و يبكي و المنافق يسيء و يضحك و أولى ما يمتحن به حسن الخلق الصبر على الأذى و احتمال الجفاء و من شكا من سوء خلق غيره .
فيدل على سوء خلقه لأن حسن الخلق احتمال الأذى .
فقد روي : أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يمشي و معه بعض أصحابه فأدركه أعرابي فجذبه جذبا شديدا و كان عليه برد نجراني غليظ الحاشية فأثرت الحاشية في عنقه (صلى الله عليه وآله وسلم) من شدة جذبه ثم قال يا محمد هب لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فضحك و أمر بإعطائه .
و لما أكثرت قريش أذاه و ضربه قال اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون .
فلذلك قال الله تعالى وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ .
كان بعضهم مجتازا بسكة .
فطرحت عليه إجانة فيها رماد فنزل عن دابته و جعل ينفض ذلك عن ثيابه. و لم يقل شيئا فقيل ألا زبرتهم قال من استحق النار فصولح بالرماد .
لم يجز أن يغضب. و سئل بعضهم عن حسن الخلق فقال عشرة أشياء قلة الخلاف و حسن الإنصاف و ترك طلب العثرات و تحسين ما يبدو من السيئات و التماس المعذرة و احتمال الأذى و الرجوع باللائمة و التفرد بمعرفة عيوب نفسه دون عيوب غيره و طلاقة الوجه للصغير و الكبير و لطف الكلام لمن دونه و فوقه .
و سئل آخر عن حسن الخلق .
فقال أدناه احتمال الأذى و ترك المكافاة و الرحمة للظالم و الاستغفار له و الشفقة عليه .
و روي : أن أمير المؤمنين عليا (عليه السلام) دعا غلامه فلم يجبه فدعا ثانيا و ثالثا فلم يجبه .
فقام إليه فرآه متضجعا فقال أ ما تسمع يا غلام فقال نعم قال فما حملك على ترك جوابي قال أمنت عقوبتك فتكاسلت .
فقال امض فأنت حر لوجه الله .
و قيل ينبغي أن يقول الإنسان في نفسه الله معي الله ناظر إلى الله شاهدي فمن كان الله معه فهو ناظر إليه و شاهده فينبغي له أن لا يعصيه .
روي ; أن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يدخل ملكوت السماوات و الأرض من ملأ بطنه .
و قيل يا رسول الله صلى الله عليك أي الناس أفضل قال من قل طعمه و ضحكه .
و رضي بما يستر عورته .
و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : البسوا و كلوا و اشربوا في أنصاف البطون فإنه جزء من النبوة .
و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : أفضلكم منزلة عند الله تعالى أطولكم جوعا و تفكرا و أبغضكم إلى الله تعالى كل نئوم .
و أكول و شروب .
و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه .
حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه إن كان لا محالة فثلث لطعامه .
و ثلث لشرابه و ثلث لنفسه .
و عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) : إن أقرب الناس إلى الله تعالى يوم القيامة من طال جوعه و عطشه و حزنه في الدنيا الأخفياء الأتقياء الذين إن شهدوا لم يعرفوا و إن غابوا لم يفتقدوا تعرفهم بقاع الأرض و تحف بهم ملائكة السماء نعم الناس بالدنيا و نعموا بطاعة الله تعالى افترش الناس الفرش فافترشوا الجباه و الركب ضيع الناس فعل النفس و أخلاقهم و حفظوا هم تبكي الأرض لفقدهم و يسخط الله على كل بلدة ليس فيها منهم لم يتكالبوا على الدنيا تكالب الكلاب على الجيف شعثا غبرا يراهم الناس يظنون أن بهم داء و ما بهم داء و يقال قد خولطوا و ذهبت عقولهم و ما ذهبت عقولهم و لكن نظر القوم بقلوبهم إلى أمر أذهب عنهم الدنيا فهم عند أهل الدنيا يمشون بلا عقول .
عقلوا حين ذهبت عقول الناس .
و قيل في التوراة مكتوب أن الله تعالى يبغض الحبر السمين لأن السمن يدل على الغفلة و كثرة الأكل و ذلك قبيح خصوصا بالحبر .
و لأجله قال ابن مسعود إن الله يبغض القارئ السمين .
و في خبر مرسل إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع و العطش .
و في الخبر أن الأكل على الشبع يورث البرص .
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : المؤمن يأكل في معاء واحد .
و الكافر يأكل في سبعة أمعاء أي يأكل سبعة أضعاف المؤمن .
أو تكون شهوته سبعة أضعاف و يكون المعاء كناية عن الشهوة لأن الشهوة هي التي تقبل الطعام و تأخذه كما يأخذه المعاء و ليس المعنى زيادة عدد معاء المنافق على معاء المؤمن .
و روى بعضهم : أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال أديموا قرع باب الجنة يفتح لكم قلت و كيف نديم قرع باب الجنة قال بالجوع و الظمأ .
و روي : أن أبا حجيفة تجشأ في مجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال اقصر من جشائك فإن أطول الناس جوعا يوم القيامة أكثرهم شبعا في الدنيا .
و كانت عائشة تقول إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يمتل قط شبعا و ربما بكيت رحمة له مما أرى له من الجوع فأمسح بطنه بيدي و أقول نفسي لك الفداء لو تبلغت من الدنيا بقدر ما يقوتك و يمنعك من الجوع فيقول يا عائشة إخواني أولو العزم قد صبروا على ما هو أشد من هذا فمضوا على حالهم فقدموا على ربهم فأكرم مآبهم و أجزل ثوابهم فأجدني أستحيي أن ترفهت في معيشتي أن تقصرني دونهم فأصبر أياما قصيرة أحب إلي من أن ينقص حظي غدا في الآخرة و ما من شيء أحب إلي من اللحوق بأخلائي و إخواني قالت و الله ما استكمل بعد ذلك جمعة حتى قبضه الله .
و عن أنس : قال جاءت فاطمة (عليه السلام) بكسرة خبز لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال ما هذه الكسرة قالت قرص خبزته و لم تطب نفسي حتى أتيتك بهذه الكسرة فقال أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) إن أهل الجوع في الدنيا هم أهل الشبع في الآخرة و إن أبغض الناس إلى الله المتخمون الملاء و ما ترك العبد أكلة يشتهيها إلا كانت له درجة في الجنة .
فقال بعضهم إياك و البطنة فإنها ثقل في الحياة و نتن في الممات .
و قال لقمان لابنه : يا بني إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة و خرست الحكمة و قعدت الأعضاء عن العبادة .
و قيل لمحمد بن واسع طوبى لمن كانت له غليلة تقويه و تغنيه عن الناس فقال طوبى لمن أصبح جائعا و هو عن الله راض .
و في التوراة اتق الله و إذا شبعت فاذكر الجائع .
و إنما مدح الجوع و استعمله الأنبياء (عليه السلام) لأشياء أنه لا ينسى بلاء الله و عذابه و لا ينسى أهل البلاء فإن الشبعان ينسى الجائع و العبد الفطن لا يشاهد بلاء إلا و يتذكر بلاء الآخرة فيتذكر بعطشه عطش الخلق في عرصات يوم القيامة و من جوعه جوع أهل النار حين يجوعون فيطعمون الزقوم و الضريع و يسقون الغساق و لا ينبغي أن يغيب عن العبد عذاب الآخرة فإنه يهيج الخوف و من لم يكن في ذلة و لا علة و لا قلة و لا بلاء ينسى عذاب الآخرة و لم يتمثل ذلك في نفسه فينبغي أن يكون العبد في بلاء أو مشاهدة بلاء و أول ما يقاسيه من البلاء بلاء الجوع و لذلك قيل ليوسف (عليه السلام) لم تجوع و في يدك خزائن الأرض قال أخاف أن أشبع فأنسى الجائع و إنما أردنا بذكر الجوع و العطش هاهنا مداومة الصيام و قلة تناول الملاذ .
روي : أن موسى (عليه السلام) كان جالسا في بعض مجالسه إذ أقبل إبليس لعنه الله و عليه برنس يتلون فيه ألوانا فلما دنا منه خلع البرنس فوضعه ثم أتاه فقال السلام عليك فقال موسى من أنت قال أنا إبليس قال فلا حياك الله ما جاء بك قال جئت لأسلم عليك لمنزلتك من الله تعالى و مكانك منه قال فما الذي رأيت عليك قال به أختطف قلوب بني آدم قال فما الذي إذا صنعه الإنسان استحوذت عليه قال إذا أعجبته نفسه و استكثر عمله و نسي ذنوبه و أحذرك ثلاثة لا تخل بامرأة فإنه ما خلا رجل بامرأة لا تحل له إلا كنت صاحبه أفتتنه بها و لا تعاهد الله عهدا إلا وفيت به و لا تخرجن صدقة إلا أمضيتها فإنه ما أخرج رجل صدقة و لم يمضها إلا كنت صاحبها دون أصحابه حتى أحول بينه و بين الوفاء بها ثم ولى و هو يقول يا ويلتاه علم موسى ما يحذر به بني آدم .
كتب بعضهم كتابا إلى بعض أخ له أما بعد فإن الزهد في الدنيا راحة البدن و الرغبة فيه تورث الهم و الحزن فإذا أتاك كتابي هذا فهيء زادك و قدم لمعادك و كن وصي نفسك و لا تجعل الرجال أوصيائك فيقسموا تراثك و صم الدهر و اجعل فطرك الموت .