اعلم أن معرفة ذم الدنيا لا يكفيك ما لم تعرف الدنيا المذمومة ما هي و ما الذي ينبغي لك أن تجتنب منها و ما الذي لا يجتنب فلا بد و أن تبين الدنيا المذمومة المأمور باجتنابها لكونها عدوه الله قاطعة لطريق أولياء الله .
فنقول دنياك و آخرتك عبارتان عن حالتين من أحوال قلبك و القريب الداني منهما يسمى الدنيا و هي كل ما قبل الموت و المتأخر المتراخي يسمى آخرة و هي ما بعد الموت فكلما لك فيها غرض و نصيب و شهوة و لذة في عاجل الحال قبل الوفاة فهي الدنيا في حقك إلا أن كل ما لك إليه ميل و فيه نصيب و حظ فليس بمذموم بل هي ثلاثة أقسام القسم الأول ما يصحبك في الآخرة و تبقى معك ثمرته بعد الموت و هو شيئان العلم و العمل فقط و أعني بالعلم العلم بالله و بجميع صفاته و أفعاله و ملائكته و رسله و ملكوتأرضه و سمائه و العلم بشريعة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) و أعني بالعمل العبادة الخالصة لوجه الله تعالى .
القسم الثاني كل ما فيه حظ عاجل و لا ثمرة له في الآخرة أصلا كالتلذذ بالمعاصي كلها و التنعم بالمباحات الزائدة الداخلة في جملة الرفاهات و الرعونات كالتنعم بالقناطير المقنطرة من الذهب و الفضة و الخيل المسومة و الأنعام و الحرث و الغلمان و الجواري و الدور و القصور و رقيق الثياب و لذيذ الأطعمة فحظ العبد من هذه كلها هي الدنيا المذمومة فمتى أخذ ذلك على قصد التنعم و الالتذاذ فهو من أبناء الدنيا و الراغبين فيها و في حظوظها إلا أن الرغبة في حظ الدنيا ينقسم إلى ما يعرض صاحبه لعذاب الآخرة و سخط الخالق و سمي ذلك حراما و قسم آخر و هو ما يحول بين العبد و الدرجات العلى و يعرضه لطول الحساب و يسمى ذلك حلالا و البصير يعلم أن طول الوقوف في عرصات القيامة لأجل المحاسبة أيضا عذاب فمن نوقش في الحساب عذب إذ .
قال رسول الله حلالها حساب و حرامها عقاب .
بل لو لم يكن إلا الحساب لكان ما يفوت من الدرجات العلى في الجنة و ما يرد على القلب من التحسر على تفويتها بحظوظ حقيره خسيسة لا بقاء لها هو أيضا عذاب و قس به حالك في الدنيا إذا نظرت إلى أقرانك قد سبقوك بسعادات دنيوية كيف ينقطع قلبك حسرات مع علمك أنها سعادات متصرمة لا بقاء لها و منغصة بكدورات لا صفاء لها فما حالك في فوت سعادات لا يحيط الوصف بعظمتها و ينقطع الدهر دون غايتها فكل من تنعم في الدنيا بأسباب يرجع إلى الدنيا لا يكون قصده بها الآخرة فهي تنقص من حظه في الآخرة و القسم الثالث و هو الذي لا بد منه و لا غنى عنه و هو ما يرجع إلى المطعم و المشرب و المسكن و الملبس فيؤخذ من ذلك بقدر الحاجة الداعية إليه بقدر ما يعين على طاعة الله و تقواه فإن ذلك القدر ليس من الدنيا و كل من كانت معرفته أقوى و أيقن كان حذره من نعيم الدنيا أشد حتى أن عيسى (عليه السلام) وضع رأسه على حجر لما نام ثم رماها إذ تمثل له إبليس و قال رغبت في الدنيا و حتى أن سليمان (عليه السلام) في ملكه كان يطعم الناس لذائذ الأطعمة و هو يأكل خبز الشعير فجعل الملك على نفسه بهذه الطريق امتحانا و شدة و لهذا زوى الله تعالى عن نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) الدنيا فكان يطوي أياما و كان يشد الحجر على بطنه من الجوع و لهذا سلط الله تعالى البلاء و المحن على الأنبياء و الأوصياء ثم الأمثل فالأمثل كل ذلك نظرا لهم و امتنانا عليهم ليوفر في الآخرة حظهم كما يمنع الوالد الشفيق ولده لذة الفواكه و الأطعمة و يلزمه ألم الفصد و الحجامة شفقة منه عليه و حبا له لا بخلا عليه فما يؤخذ من الدنيا من هذه الأسباب بقدر الحاجة و القصد به الاستعانة على التقوى و الطاعة فهو لله معناه و إن كانت صورته صوره الدنيا و جميع ما يؤخذ من الدنيا و يقصد به اللذة و المفاخرة و المكاثرة فليس لله إلا الدنيا و ما أخذ على وجه التقوى و الطاعة فهو لله .
و قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من طلب الدنيا حلالا مكاثرا مفاخرا لقي الله و هو عليه غضبان و من طلبها استعفافا عن المسألة و صيانة لنفسه جاء يوم القيامة و وجهه كالقمر ليلة البدر .
فانظر إلى قول الله تعالى وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى و مجامع الهوى خمسة أمور و هي ما جمعه الله تعالى في قوله أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ فهذه بينها الله تعالى إنها للدنيا و الذي هو لله تعالى فهو قدر الضرورة و ما لا بد منه من مسكن و ملبس و مطعم و مشرب و الحزم في الحذر و التقوى و أخذ هذه الأسباب بقدر الحاجة اقتداء بالأنبياء و الأولياء إذ كانوا يردون أنفسهم إلى حد الضرورة كما أن سلمان الفارسي رض لم يحضر بين يديه طعام عليه إدامان قط و أنه ورد أن أبا ذر رحمه الله استضافه فقدم له خبز شعير و ملحا قال زدنا خلا و بقلا فرهن سلمان ركوته على ذلك فلما فرغا من الأكل قال أبو ذر الحمد لله على القناعة فقال سلمان لو كنت قنعت لما كانت ركوتي مرهونة فانظر إلى هذين السيدين الكريمين المحتشمين كيف رأيا الخل و البقل زيادة و روي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان أكله قرص الشعير و الملح الجريش .
و روي : أنه كتب إلى بعض عماله يقول له إن إمامك علي بن أبي طالب قد اقتنع من دنياه بطمريه و يسد فوره جوعة بقرصيه و لا يطعم الفلذة إلا في سنة أضحية و لن تقدروا على ذلك فأعينوني بورع و اجتهاد.
انظر إلى هذا الرجل الجليل القدر العظيم الخطر لما علم حال الدنيا بنظره الثاقب كيف لفظها لفظا غير مكترث بها و كان أقدر الناس عليها .
لقوله و الله لو شئت لتسربلت الدمقس من ديباجكم و أكلت لباب البر بصدور دجاجكم و لشربت الماء الصافي في رقيق زجاجكم .
و أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما أقبل عليه مصعب بن عمير و عليه إهاب كبش قال انظروا إلى رجل قد نور الله قلبه و لقد رأيته و هو بين أبويه يغذيانه بأطيب الأطعمة و ألين اللباس فدعاه حب الله و رسوله إلى ما ترون .
و أن أويس القرني كان يظن أهله أنه مجنون لكثرة عبادته و تضييقه على نفسه في المطعم فبنوا له بيتا على باب دورهم فكان يأتي عليهم السنة و السنتان لا يرون له وجها و كان يخرج أول الأذان و يأتي منزله العشاء الآخرة حتى .
أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن .
إشارة إليه رض فالزائد عنه من هذه الدنيا يلهي و اليسير منها ما يصلح به حاله يكفي و يبلغ إلى خير الآخرة و نعيمها .
و مثال العبد في نسيان نفسه و مقصده مثال الحاج الذي يقف في منازل الطريق و لا يزال يعلف الناقة و يتعهدها و يتلطفها و يكسوها ألوان الثياب و يحمل عليها أنواع الحشيش و يبرد لها الماء فيشتغل بذلك فتفوته القافلة و هو غافل عن الحج و عن مرور القافلة و عن بقائه في البادية فيهلك و تفترسه السباع هو و ناقته و الحاج البصير لا يهمه من أمر الجمل إلا القدر الذي يقوى به على المشي فيتعهده و قلبه إلى الكعبة و الحج و إنما يلتفت إلى الناقة بقدر الضرورة و كذلك البصير في سفر الآخرة لم يشتغل بتعهد البدن إلا للضرورة و لا فرق بين إدخال الطعام في البطن و بين إخراجه من البطن في إن كل واحد منهما ضرورة للبدن و من كان همه ما يدخل في بطنه فقيمته ما يخرج من بطنه .