حسن الخلق يرجع إلى اعتدال صحة العقل بكمال الحكمة فإن الغضب و الشهوة مطيعة للعقل و هذا يحصل بصحة العقل و الميل إلى الأفعال الجميلة فإن العاقل الراغب قادر على أن يحسن أخلاقه و يزين أفعاله و يؤدب نفسه بغير تعلم من عالم كعيسى ابن مريم (عليه السلام) و يحيى بن زكريا و سائر الأنبياء و الأئمة (عليهم السلام) و من أراد مثل ذلك قدر عليه و هو متمكن و ربما حصلت هذه الحالات بتعليم فيكتسب هذه الأخلاق بمجاهدة النفس و الرياضة فمن أراد الجود فيعاطي نفسه أن يتكلف فعل الجواد و هو بذل المال و لا يزال يكلف ذلك نفسه حتى يصير لها طبعا و يتيسر ذلك عليه فيصير جوادا و كذا من أراد أن يحصل لنفسه خلق التواضع فطريقه أن يواظب على أفعاله المتواضعين مدة مديدة و هو مجاهد لنفسه و يتكلف إلى أن يصير ذلك له خلقا و طبعا فيتيسر ذلك عليه و غايتها أن يصير الفعل الصادر منه لذيذا فالسخي هو الذي يستلذ ببذل المال دون الذي يبذله عن كراهة و المتواضع هو الذي يستلذ التواضع و لن يترسخ أخلاق الدين ما لم يتعود جميع العادات الحسنة و يترك جميع العادات السيئة و يريد أن يواظب على الأفعال الحميدة مواظبة من يشتاق إليها و يتنعم بها و يكره الأفعال القبيحة و يتألم بها .
كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : و جعلت قرة عيني في الصلاة.
و مهما كانت العبادات و ترك المحضورات مع كراهة و استثقال فهو لنقصان و لا ينال كمال السعادة به غير أن في المواظبة عليه بالإكراه خير كثير و لكن بين الطوع و الإكراه فضل كبير و كذلك قوله تعالى وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ .
و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : اعبدوا الله في الرضا فإن لم تستطع ففي الصبر على ما تكره خير كثير ثم لا يكفي في نيل السعادة الموعودة على حسن الخلق استلذاذ الطاعة و استكراه المعصية في زمان دون زمان بل ينبغي أن يكون كذلك على الدوام و في جمله العمر و كلما كان العمر أطول كانت الفضيلة أرسخ و أكمل.
و لذلك لما سئل (صلى الله عليه وآله وسلم) عن السعادة فقال طول العمر في طاعة الله .
و لذلك كره الأنبياء و الأوصياء و الصالحون الموت فإن الدنيا مزرعة الآخرة و كلما كانت العبادات أكثر بطول العمر كان الثواب أجزل و النفس أزكى و أنمى مقصود العبادات تأكد تأثيرها فإنما تأثيرها بكثرة المواظبة على العبادات و غاية هذه الأخلاق أن ينقلع عن النفس حب الدنيا و يترسخ فيها حب الآخرة فلا يكون شيء أحب إليه من لقاء الله فلا يستعمل جميع ماله و آلاته إلا على الوجه الذي يوصله إلى رضاه و يحب أن يوطن نفسه على ألم العبادة و مضضها حتى يصير ذلك له خلقا و سجية و يكون عنده أثر من النوم و الراحة لما يعلم و يتحقق عنده من جنى ثمرة ذلك فإن المقامر يجد للقمار لذة مع سلبه ماله و تركه مفلسا و مع هذا فهو يحبه و يلتذ به و ذلك لطول إلفه له و رده نفسه إليه و كذلك اللاعب بالحمام يقف طول نهاره في الشمس قائما على رجليه و هو لا يحس بألمه لفرحه بالطيور و حركاتها و طيرانها بل يرى العيار الفاجر يفتخر بما يلقاه من أليم الضرب و القطع على السياط و على أن يتقدم به إلى الصلب و هو مع ذلك متبجح و يقويه في الصبر أن يرى ذلك فخرا لنفسه حتى يقطع الواحد منهم إربا إربا على أن يقر بما تعاطاه أو تعاطى غيره فيصبر على ذلك و لا يبالي بالعقوبات فرحا بما يعتقده رجله و شجاعة فقد صارت أحواله مع ما فيه من النكال قرة عينه و سبب افتخاره على أهل صناعته حتى يخرج من الحجامين و الكناسين التفاخر و المباهاة كما يجري بين الملوك و العلماء و كل ذلك نتيجة العادة و المواظبة على نمط واحد على الدوام مدة مديدة فإذا كانت النفس بالعادة تستلذ الباطل و تميل إلى القبائح فكيف لا تستلذ الحق لو ردت إليه مدة مديدة و ألزمت المواظبة عليه بل ميل النفس إلى هذه الأمور الشنيعة خارج عن الطبع يضاهي الميل الطبيعي كالميل إلى أكل الطين و قد يغلب على بعض الناس بالعادة فأما ميله إلى الحكمة و حب الله تعالى و معرفته و عبادته و معرفة نبيه و الأئمة (عليهم السلام) فهو كالميل إلى الطعام و الشراب فهو يقتضي طبع القلب فإنه أمر رباني و ميلة إلى مقتضيات الشهوات غريب من ذاته و عارض على طبعه و إنما غذاء القلب الحكمة و المعرفة و حب الله تعالى و لكن انصرف عن مقتضى طبعه بمرض حل به كما يحل المرض بالمعدة فلا يشتهي الطعام و الشراب و هما سبب حياته فكل قلب مائل إلى حب شيء سوى حب الله سبحانه و تعالى فلا ينفك عن مرض بقدر ميله إلا إذا أحب ذلك الشيء لكونه معينا على حب الله و دينه فعند ذلك لا يدل على المرض .
فإذا عرفت هذا قطعا إن هذه الأخلاق الجميلة يمكن اكتسابها بالعادة و الرياضة و هي تكلف الأفعال الصادرة عنها ابتداء لتصير طبعا له انتهاء .
مثال ذلك من أراد أن يصير حاذقا في الكتابة حتى يصير كاتبا بالطبع فلا طريق له إلا أن يتعاطى بجارحة اليد ما يتعاطاه الكاتب الحاذق و يواظب عليه مدة طويلة و هو الخط الحسن فإن فعل الكاتب هو الخط الحسن فيشبه بالكاتب تكلفا ثم لا يزال يواظب عليه حتى يصير ذلك صفة راسخة في نفسه فيصدر منه الخط الحسن بالطبع و كذلك من أراد أن يصير فقيها فلا طريق له إلا أن يتعاطى أفعال الفقهاء و هي التكرار للفقه حتى ينعطف منه على قلبه صنعة الفقه فيصير فقيها و كذلك من أراد أن يصير سخيا عفيفا حليما متواضعا فيلزمه أن يتعاطى أفعال هؤلاء تكلفا حتى يصير له ذلك بالعادة طبعا و كما أن طالب الفقه لا ييأس من هذه الرتبة بتعطيل ليله و لا ينالها بتكرار ليله و كذلك طالب تزكية النفس و تحليتها بالأخلاق الحسنة لا ينالها بعبادة يوم و لا يحرمها بعصيان يوم و هو معنى قولنا إن الكبيرة الواحدة لا توجب الشقاوة المؤبدة و لكن العطلة في يوم واحد تدعو إلى مثلها ثم يتداعى قليلا قليلا ثم تأنس النفس بالكسل و تهجر التحصيل رأسا فيفوته فضيلة الفقه و كذلك صغائر المعاصي تجر بعضها إلى بعض و كم من فقيه يستهين بتعطيل يوم و ليلة و هكذا على التوالي إما أن يختطفه الموت و هو يسوف نفسه يوما بعد يوم إلى أن يخرج طبعه عن قبول الفقه و كذلك من يستهين بصغائر المعاصي و يسوف نفسه بالتوبة على التوالي إما أن يختطفه الموت بغتة أو يتراكم ظلمة الذنوب على قلبه و يتعذر عليه التوبة إذ القليل يدعو إلى الكثير و يصير القلب مقيدا بسلاسل الشهوات فلا يحصل معه و .
كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) الإيمان يبدو في القلب نكتة بيضاء كلما ازداد الإيمان ازداد ذلك البياض فإذا استكمل العبد الإيمان ابيض القلب كله و إن النفاق ليبدو في القلب لمعة سوداء كلما ازداد النفاق ازداد ذلك السواد فإذا استكمل النفاق اسود القلب كله .
فإذا ينبغي لصاحب العقل الصحيح و القريحة الصافية أن يجالس أهل العلم و الخير و الصلاح و الدين و العفاف ليتزيا بأفعالهم و يتخلق بأخلاقهم و يجانب أهل الشر و الفساد الذين ميلهم إلى الدنيا و لذاتها لئلا يميل طبعه إلى أفعالهم فيهلك .