جارية الزهراء ( عليها السلام )
سيرتها :
كانت فِضَّة على درجة عالية من الإيمان والتقوى ، والزهد والورع .
وكانت مَحبَّتُها لأهل البيت ( عليهم السلام ) معروفة ومشهورة ، وأمّا بلاغتها وحسن منطقها فهو لا يخفى على الكثير .
كما أنّ مساعدتها للزهراء ( عليها السلام ) لم تكن مقتصرة على العمل اليومي في المنزل ، ولم يكن إسهامها في خدمة البيت فقط ، بل كانت التربية الفاطميَّة تنعكس على هذه التلميذة التي كانت ملازمة لمعلِّمتِها ( عليها السلام ) .
وعن ورقة بن عبد الله الأزدي قال : خرجتُ حاجّاً إلى بيت الله الحرام ، راجياً لثواب الله ربِّ العالمين .
فبينما أنا أطوف وإذا أنا بجارية سمراء مليحة الوجه ، عذبة الكلام ، وهي تنادي بفصاحة منطقها وتقول : ربَّ البيت الحرام ، والحفظة الكرام ، وزمزم والمقام ، والمشاعر العِظام ، وربَّ محمد ( صلى الله عليه وآله ) خير الأنام ، البررة الكرام ، أن تحشرني مع ساداتي الطاهرين ، وأبنائِهم الغرِّ المحجلين الميامين .
ثم قالت : ألا فاشهدوا يا جماعة الحُجَّاج والمعتمرين ، أنَّ مواليَّ خيرة الأخيار ، وصفوة الأبرار ، الذين عَلا قدرهم على الأقدار ، وارتفع ذكرهم في سائر الأمصار ، المرتدين بالفخار .
قال ورقة : فقلتُ : يا جارية ، إنِّي لأظنَّك من موالي أهل البيت ( عليهم السلام ) ؟
فقالت : أجل .
فقلت لها : ومَن أنتِ من مواليهم ؟
قالت : أنا فِضَّة ، أَمَةُ فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) بنت محمد المصطفى ( صلى الله عليه وآله ) .
فقلت لها : مرحباً بك ، وأهلاً وسهلاً ، فلقد كنتُ مشتاقاً إلى كلامكِ ومنطقكِ ، فأريدُ منكِ الساعة أن تجيبني عن مسألة أسألك .
فإذا أنت فرغتِ من الطواف قفي لي عند سوق الطعام حتى آتيك ، وأنت مثابة مأجورة .
فافترقنا في الطواف ، فلمّا فرغتُ من الطواف وأردتُ الرجوع إلى منزلي جعلتُ طريقي على سوق الطعام ، وإذا أنا بها جالسة في معزل عن الناس .
فأقبلتُ عليها واعتزلتُ بها ، وأهديتُ إليها هدية ،ولم أعتقد أنَّها صدقة ، ثم قلت لها : يا فِضَّة ، أخبريني عن مولاتك فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) ، وما الذي رأيتِ منها عند وفاتها ( عليها السلام ) بعد موت أبيها محمد ( صلى الله عليه وآله ) ؟
قال ورقة : فلمَّا سمعتْ كلامي تغرغرت عيناها بالدموع ، ثم انتحبت باكية ، وقالت : يا ورقة هيَّجت عليَّ حزناً ساكناً ، وأشجاناً في فؤادي كانت كامنة …
وفي الإصابة : روي عن الإمام الصادق عن آبائه ، عن علي ( عليهم السلام ) أنّه قال : ( إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أخدم فاطمة ابنته ( عليها السلام ) جارية اسمها فِضَّة النوبيَّة ) .
وكانت تشاطرها الخدمة ، فعلَّمها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) دعاء تدعو به .
فقالت لها فاطمة : ( أتعجنين أو تخبزين ) ؟
فقالت : بل أعجن يا سيَّدتي واحتطب .
فذهبت واحتطبت وبيدها حزمة ، فأرادت حملها فعجزت ، فدعت بالدعاء الذي علَّمَها ( صلى الله عليه وآله ) .
وكان الدعاء هو : ( يَا واحدُ لَيس كَمِثلِهِ أَحَد ، تُميتَ كُلَّ أحدٍ وأنتَ على عَرشِكَ وَاحِد لا تَأخُذهُ سِنَةٌ وَلا نَوم ) .
فجاء أعرابي كأنّه من أزد شنوءة ، فحمل الحزمة إلى باب فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) .
ولاؤها لأهل البيت ( عليهم السلام ) :
وروي في سبب نزول قوله تعالى : ( يُوفُونَ بالنَّذرِ وَيَخَافُونَ يَوماً كَانَ شَرُّهُ مُستَطِيراً * وَيُطعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ) الإنسان : 7 – 8 .
إنّ الحسن والحسين ( عليهما السلام ) مَرِضَا ، فعادهما جدُّهُما ( صلى الله عليه وآله ) ، وعادَهُما جمع من المؤمنين ، فقالوا : يا أبا الحسن لو نذرت نذراً .
فقال ( عليه السلام ) : ( إن برئا ممَّا بهما صمتُ لله عزَّ وجلَّ ثلاثة أيام شكراً ) ، وقالت فاطمة كذلك ، وقالت جاريتهما فضة النوبيَّة : إن برأ سيّداي صمت لله عزَّ وجلَّ شكراً .
فلبس الغلامان العافية ، وليس عند آل محمد ( صلى الله عليه وآله ) قليل ولا كثير .
فانطلق علي ( عليه السلام ) إلى شمعون الخيبري ، فاستقرض منه ثلاثة أَصُعٍّ من شعير ، فجاء بهما فوضعها ، فقامت فاطمة ( عليها السلام ) إلى صَاعٍ فطحنتهُ واختبَزَتهُ ، وصلَّى علي ( عليه السلام ) مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ثم أتى المنزل فَوُضِعَ الطعام بَين يديه .
وفي تلك الحال أتاهم مسكين ، فوقف على الباب فقال : السلام عليكم أهل بيت محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، مسكين من أولاد المسلمين ، أطعموني أطعمكم الله عزَّ وجلَّ على موائد الجَنَّة .
فسمعه علي ( عليه السلام ) فأمرهم بإعطائه الطعام ، ومكثوا يومَهم وليلتهم لم يذوقوا إلاّ الماء .
فلمَّا كان اليوم الثاني قامت فاطمة ( عليها السلام ) إلى الصاع الثاني وخبزته ، وصلَّى علي ( عليه السلام ) مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ووُضِعَ الطعام بين يديه ( عليه السلام ) .
وفي تلك الحال أتاهم يتيم فوقف بالباب وقال : السلام عليكم أهل بيت محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، يتيم بالباب من أولاد المهاجرين ، استُشهِدَ والدي ، أطعموني ، فأعطوه الطعام ( عليهم السلام ) فمكثوا يومين ولم يذوقوا إلاّ الماء .
فلما كان اليوم الثالث قامت فاطمة ( عليها السلام ) إلى الصاع الباقي فطحنته واختبزته ، وصلَّى علي ( عليه السلام ) مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وُوضع الطعام بين يديه ( عليه السلام ) .
وفي تلك الحال أتاهم أسير فوقف بالباب وقال : السلام عليكم أهل بيت النبوة ، تُأسِّرُونَنَا وتشدُّونَنَا ولا تُطعِمُونَنَا ، أطعموني فإني أسير .
فأعطوه ( عليهم السلام ) الطعام ، ومكثوا ثلاثة أيام ولياليها لم يذوقوا إلاّ الماء .
فأتاهم الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ورأى ما بهم من الجوع ، فأنزل الله تعالى قوله : ( هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ منَ الدَّهرِ لَمْ يَكُن شَيئاً مَذْكُوراً ... لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً ) الإنسان : 1 – 9 .
من فضائلها :
قال أبوالقاسم القسري : انقطعت في البادية عن القافلة فوجدت امرأة ، فقلت : من أنت ؟ فقالت : ( وقل سلام فسوف تعلمون ) .
فسلّمت عليها وقلت : ما تصنعين ها هنا ؟ قالت : ( من يهدي الله فلا مضلّ له ) .
فقلت : أمن الجن أنت أم من الإنس ؟ قالت : ( يا بني آدم خذوا زينتكم ) .
فقلت : من أين أقبلت ؟ فقالت : ( ينادون من مكان بعيد ) .
قلت : أين تقصدين ؟ قالت : ( ولله على الناس حجّ البيت ) .
فقلت : متى انقطعت ؟ قالت : ( ولقد خلقنا السماوات والأرض في ستّة أيّام ) .
فقلت : أتشتهين طعاماً ؟ فقالت : ( وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام ) .
فأطعمتها ثمّ قلت : هرولي وتعجّلي ، فقالت : ( لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها ) .
فقلت : أردفك ؟ فقالت : ( لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا ) .
فنزلت فأركبتها ، فقالت : ( سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنّا له بمقرنين ) .
فلمّا أدركنا القافلة قلت : ألك أحد فيها ؟ قالت : ( يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض ) ، ( وما محمّد إلاّ رسول ) ، ( يا يحيى خذ الكتاب ) ، ( يا موسى لا تخف ) .
فصحت بهذه الأسماء فإذا أنا بأربعة شباب متوجّهين نحوها ، فقلت : من هؤلاء منك ؟ قالت : ( المال والبنون زينة الحياة الدنيا ) .
فلمّا أتوها قالت : ( يا أبت استأجره إنّ خير من استأجرت القويّ الأمين ) .
فكافوني بأشياء فقالت : ( والله يضاعف لمن يشاء ) فزادوا لي ، فسألتهم عنها ، فقالوا : هذه اُمّنا فضة جارية الزهراء ( عليها السلام ) ، ما تكلّمت منذ عشرين سنة إلاّ بالقرآن .