تمهيد
إن البحث عن المذاهب ودراسة الظروف والملابسات التي أحاطت بها يجب أن تدرس دراسة تأريخية بعيدة عن التعصب والتحيز لأن التحيز لجهة والتعصب على اخرى يغير صور الحوادث ويشوه الحقيقة وهذا هو الظلم الأدبي كما يقولون. وإذا كان دافع البحث هو حب الحقيقة فلا بد أن يكون بصدق وموضوعية بعيدا عن التأثر بعوامل اخرى وبذلك يكون الباحث قد نال شرف خدمة الحق واتباعه.
ولا بد لنا أن نلمس خطورة البحث وأهميته ولهذا يلزمنا أن نتجرد عما يخالف الحقيقة بل يجب أن نخوضه بروح صادقة ونية خالصة لمعالجة هذا الموضوع الذي له دخل في واقع المسلمين في الحاضر والماضي وأن
الحوادث المؤلمة التي توالت على مسرح حياتنا في جميع الأدوار وما أدت إليه من نتائج سيئة في المجتمع الإسلامي وإن كانت نتيجة عوامل كثيرة متداخلة إنما يعود إلى التعصب المذهبي فهو المؤثر الأكبر والعامل القوي في تفرق المسلمين شيعا وأحزابا وقد انقسموا على أنفسهم انقساما شائنا فكل يتهم الآخر بالانحراف عن الدين وكل طائفة اعتزلت الاخرى ترميها بما لايتفق وروح الإسلام ونظمه.
ومما يؤسف له أنهم قد أسرفوا في الجدل إسرافا أخرجهم عن ميزان العدل فقد راحوا يلتمسون على ذلك ألوانا من الحجج يبدو فيها التكلف ويتجلى فيها البطلان. وقد غلب عليهم الجمود الفكري والتزموا بالتقليد في أخذ الأحكام عن أئمة المذاهب إذ لا يمكن في نظرهم أن يصل أحد إلى ما وصلوا إليه من العلم فهو مقصور عليهم والاجتهاد في الأحكام من اختصاصهم دون غيرهم.
لقد مرت أجيال وهم يعتقدون أن ليس لأحد بعد الأئمة الأربعة أن يجتهد في الشريعة الإسلامية والخارج عن المذاهب الأربعة وهو رأي الجمهور صاحب بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
ومن المضحكات بل المبكيات أن تتغلغل هذه العقيدة في الجماهير الإسلامية حتى نجد من يسأل عن مذهب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): أشافعي أم مالكي؟ وغفلة العوام من غفلة الخواص. هكذا يقول الدكتور زكي مبارك وعليه عهدة ما يقول. ونحن لا تعوزنا النصوص التاريخية على تأييد قوله فقد وقفنا على رأي من يزعمون بأن رئيس مذهبهم كان أعلم من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في القضاء(2).
وآخرون يقال لهم: قال رسول الله فيقولون: قال فلان. كما أن الكثير منهم تمسكوا بأقوال أئمتهم تمسكا جعلهم يقدمونها على كتاب الله وسنة رسوله(3).
ومهما يكن من أمر فإن تلك الاتجاهات التي سار عليها المتعصبون بعيدة عن روح الإسلام ومفاهيمه فهي امور ارتجالية غذتها الأنانية وتولت بثها دعاية التضليل تقويضا لصرح تماسك الامة الذي يقف حائلا دون كل خطر يهدد المجتمع الإسلامي في الداخل والخارج.
نعم ليس من روح الإسلام ومفاهيمه تحامل طائفة على اخرى واتهامها بالزندقة والخروج عن الإسلام لمجرد الخلاف في الرأي. فالشافعي يكفر الحنبلي والحنبلي يكفر الشافعي وهكذا بدون التفات إلى واقع الأمر وما ينجم من وراء ذلك من خطر على الامة الإسلامية.
وإن تلك المساجلات الجدلية حول المذاهب قد خرجت عن النطاق العلمي إلى الامور التافهة من الهزل والمجون ومن أظرف ما جرى بين الحنفية والشافعية قول الحنفية لهم: ما جسر إمامكم أن يخرج إلى الوجود حتى مات إمامنا. ويجيبهم الشافعية: بل إمامكم ما ثبت لظهور إمامنا(4).
وذلك أن الشافعي ولد في السنة التي مات فيها أبو حنيفة سنة (150هـ) وقيل في اليوم الذي مات فيه. وقد بقي الشافعي في بطن امه أربع سنين أو أقل(5).
وكذلك جرت مساجلات شعرية هي أقرب إلى المساجلات الأدبية فلا حاجة لذكرها. وقد بلغ الأمر حدا مؤسفا من تكفير طائفة لاخرى وإباحة دماء أبنائها كما أثبت ذلك وقوع تلك الحوادث الدامية في الشام وخراسان والري وغيرها.
ونحن عندما نقف على بعض الأقوال كقول المظفر الطوسي الشافعي: لو كان لي من الأمر شيء لأخذت على الحنابلة الجزية(6) وقول محمد بن موسى الحنفي: لو كان لي من الأمر شيء لأخذت على الشافعية الجزية(7) فإننا نجد اتساع الخرق ووقوع ما لا تحمد عقباه من الخروج عن الموازين العلمية إلى الامور الانفعالية التي لا صلة لها بالإسلام ونظمه.
وكذلك نستوحي معلومات أكثر فأكثر عندما نصغي إلى النداء بدمشق وغيرها من كان على دين ابن تيمية حل ماله ودمه(8) وقد أفتى بعضهم بتكفير من يسمي ابن تيمية بشيخ الإسلام(9) وابن تيمية هذا هو شيخ الحنابلة وقد لقبوه بشيخ الإسلام ومعنى هذا النداء بأن كل حنبلي كافر. وبجانب هذا نجد الشيخ أبا حاتم يرى ويفتي: بأنه من لم يكن حنبليا فليس بمسلم(10).
وهكذا أدى النشاط المذهبي إلى هذه الامور التي فجرت المآسي المؤلمة في المجتمع الإسلامي من تفكك وتباعد ووجود مشاكل يصعب حلها إلا عن طريق التروي والتنبه لأثر البعد عن روح الاخوة والسقوط في وهدة التعصب.
واستمرت عجلة الزمن تدور والأمر يشتد وظهر ذلك الانقسام في صفوف الامة بوضوح وتعاقبت على المسلمين أدوار سوداء ذهبت بكثير من الأرواح والأموال وملأت النفوس حقدا والقلوب غيظا.
وأسرفت الطوائف في الخصومة كما بالغوا في اتخاذ وسائل الانتصار لمذاهبهم من افتراء في القول وكذب في النقل ووضع أحاديث عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بما يؤيد المذهب ويشد عضد أنصاره من أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بشر برئيس المذهب الذي يتبعونه قبل ولادته ووضع آخرون منامات مبشرة وهي في الاعتبار عندهم كاليقظة من وجوب الأخذ بها وكلا الأمرين لا يصح منه شيء لأنها ادعاءات وهمية يقصدون بها تقويم شخصية إمامهم من وفور علم وعلو منزلة وشرف بيت حتى قال بعض الحنفية: إن أهل الكوفة كلهم موال لأبي حنيفة(11). أي أنهم كانوا عبيدا فأعتقهم مع العلم بأن أبا حنيفة كان فارسي الأصل.
وبهذه الزوائد ملأوا صفحات كتب المناقب كما وصفوهم ببطولات لا يعترف التاريخ بها وأحاطوا شخصياتهم بهالة من آيات المديح والإطراء بما يضفي عليهم لباس قدسية رفعتهم عن مقام البشرية وصورتهم بمنتهى درجة من الكمال تبلغ بهم العصمة وإن لم يصرحوا بها.
ومهما يكن من أمر؛ فإن تلك الأقوال الناتجة عن مؤثرات سياسية أو اجتماعية عقيمة الإنتاج إذ هي مبالغات وغلو أوجدهما النشاط المذهبي عندما عظم الخلاف بين أتباع أئمة المذاهب ودب التقليد في صدورهم دبيب النمل وهم لا يشعرون وكان سبب ذلك تزاحم الفقهاء وتجادلهم فيما بينهم(12).
وقد مرت الإشارة إلى الظروف القاسية التي مرت بالمسلمين من جراء ذلك الخلاف الناشئ من الاختلاف بين معتنقي المذاهب فأصبحوا أعداء متباعدين بعد أن كانوا إخوة متحابين وأدى الأمر إلى القتل والنهب وحرق الأسواق وتخريب المساجد وهدم الدور ولا ندخل هنا في تفاصيل تلك الحوادث المؤلمة ونكتفي بما أشرنا إليه في الأجزاء السابقة.
والآن وقد لخصنا باختصار أثر ذلك الانقسام الذي حل بالمسلمين يجدر بنا أن نولي وجوهنا شطر المسلمين من أتباع مذهب أهل البيت وهم الشيعة لنرى ما نالهم من أثر ذلك الانقسام وما أدى إليه ذلك التدخل من أعداء الدين الذين يبثون العداء ويثيرون الأحقاد لإيقاع الفتنة ويخوضون تلك المعارك بوجه مقنع. فلا بد أن ننظر إليهم من زاوية الواقع لا زاوية الخيال التي فتحها المغرضون من أعداء الامة ورسموا للشيعة صورا غريبة وحاكوا لهم تهما وهمية ونسبوا لهم عقائد مفتعلة وآراء بعيدة عن واقع الأمر ورشقوهم بسهام نقد من هنا وهناك حتى آل الأمر إلى إبعادهم عن حظيرة الإسلام زورا وبهتانا.
ولا ذنب لهم إلا عدم مسايرتهم لحكام الجور وتمسكهم بالانتصار لآل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)أهل الحق المضيع وهذا أمر واقع قد يكون إنكاره من المكابرة والتعنت.
وتكشف النظرة السريعة والعجلى الى معالم تاريخ الشيعة عن أسرار موجات العداء وتيارات النقمة عليهم وقد التقت في قيام هذه الموجات والتيارات قوى عديدة تمثلت فيها السلطة الزمنية والقضائية والحزبية والاجتماعية ولا أصف من لبس لبوس الفقه و تزيا بزي العلم بالسلطة الدينية فحاشى الإسلام وسلطته الروحية أن تطلق يوما على من يناصر ظلما أو يغض عن جور أو يسهم في انتهاك حرمة أحد وإنما هم قوم عملوا في الفقه فباعوا دينهم بدنياهم. وقد تقدم معنا بعض مواقفهم في تعضيد دور الحكام تكشف هذه النظرة عن ثبات نهج الشيعة ودوام مواقفهم وهذا النهج والموقف هما سبيل اتباع محمد(صلى الله عليه وآله) والتمسك برسالة السماء. ويبدو أن الكثيرين يهملون حقائق التاريخ ويسيئون الى صفات التعقل والوعي سواء كانوا حكاما أو متعاطين للعلم والثقافة. فمن مرتكب لذات الجرائم التي ارتكبها الامويون والعباسيون بحق الشيعة ومن معرض عن الحق مستسلم لبواعث التفرقة والعداء ولا يشينه أن يكون مع الظلمة فأين روح العصر الحديث والوعي الموضوعي ومسؤولية القلم والتزام الكلمة؟ ولا اريد أن أدخل في تفصيل ما نال أتباع آل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) من بلاء نتيجة للتعصب الأعمى والطائفية الرعناء فلنقتصر على بعض ما يهمنا عرضه الآن.
بين الواقع والخيال
وليس من الغريب أن يتنكر الإنسان لما يعرف من الحقائق فيبرزها بصورة غير صورتها إذ من السهل جدا أن يغمض الإنسان عينيه عن واقع الامور ومحاسن الأشياء فيذم حيث لا موجب للذم ويمدح حيث لا موقع للمدح وما ذلك إلا لتعصب شائن وتحامل بغيض يبتلى به كثير من الناس.
وبهذا فقد أساءوا لأنفسهم بصورة خاصة ولمجتمعهم بصورة عامة وراحوا يلتمسون الحجج الواهية للضعة بمن يتعصبون عليه ولرفعة من يتعصبون له وهم يجعلون أنفسهم حكام عدل ورواد حقيقة ولكنهم عكس ذلك.
ومنهم من غلب عليه الجمود الفكري فقلدوا غيرهم في النقل بما يروق لهم ويوافق رغباتهم وإن اتضح لهم خلاف ذلك وبهذا فلم يعطوا الأشياء ما يلزم أن تعطى حسب الواقع. وبصورة خاصة اولئك الكتاب الذين يكتبون عن تاريخ الشيعة فنرى أكثرهم يتخبط في بيداء التهجم ويسير في طرق ملتوية لا تؤدي به إلى الغرض المطلوب منه في أداء حق التاريخ الذي هو مرآة الامم السالفة للأجيال القادمة لأنه بهذا العمل يصدأ مرآته ويذهب بمحاسنه.
ولو أنهم درسوا تلك الفترة وما نجم عنها من آراء وأحكام تنافي روح الأخاء وروابط الإيمان و ما شاع من اتهامات دراسة مستفيضة من جميع نواحيها وما يحيط بها من ملابسات وفكروا فيما يرتأون في استخلاص النتائج لإبداء الرأي الحر الذي يبعد بهم عن المؤثرات لكان ذلك أنفع لهم وللامة جمعاء ولكنهم قد تعمدوا التشويه والخلط لغرض في أنفسهم وميلا مع الأهواء.
ومن نتائج توالي الملوك الجائرين والحكام العتاة الذين ناصبوا أهل البيت العداء ونصبوا الحرب لشيعتهم كما أن من نتائج دوام الشيعة على وقوفهم بوجه الطغاة هو انتشار آراء الملوك السابقين وشيوع أغراضهم ومواقفهم ضد الشيعة وتداولها عبر الأجيال دون انتباه الى ما يعنيه ذلك من تأييد لسياسات الظلم والانحراف.
ولقد اثيرت حول الشيعة عواصف اتهامات باطلة مهدت السبيل لمن يريد أن ينفث سمومه في جسم الامة الإسلامية ويطعن في عقائدها عندما التبست الحقائق التاريخية بالأكاذيب والحوادث الواقعية بالأساطير فاتسع المجال أمام المتدخلين والمندسين في صفوف المسلمين؛ ليعملوا عملهم ويضربوا ضربتهم انتصارا لمبادئهم وانتقاما لعروشهم التي دك الإسلام صروحها وهدم كيانها فانهزموا أمامه مخذولين. وقد عجزوا عن مقابلته وجها لوجه فراحوا يتلصصون في الظلام ويعملون من وراء الستار.
لقد اتهم أتباع مذهب أهل البيت وأنصارهم بتهم كثيرة ووصفوا بصفات متناقضة بعيدة عن الواقع بل هي مجرد إشاعة مغرضة وأقوال كاذبة وافتراءات صريحة.
وكان من أعظم تلك التهم التي وجهت إليهم هي أن الشيعة يعبدون عليا ويؤلهونه أو أنهم يعبدون الأئمة أجمع وأن الأئمة عندهم أنبياء يوحى إليهم وأن لهم أحكاما هي غير أحكام الإسلام. وأنهم يشتمون أصحاب محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)ويكفرونهم جميعا وإنهم وإنهم... إلى آخر تلك الأقوال والتقولات التي أوحى بها الشيطان ليوقع الفتنة وينشر الفساد.
وقد رأينا فيما تقدم أن السياسة كانت تشد أزر المتهجمين وتحمي اولئك التائهين في غوايتهم لتنتقم من أنصار أهل البيتالذين أعلنوا انفصالهم عن الدولة التي يتحكم فيها حكام انتحلوا إمرة المؤمنين وادعوا الولاية على المسلمين خلافا لما يقتضيه نظام الإسلام وتمردا على مفاهيمه وخروجا عن حدوده وقواعده.
وقد وقفت الشيعة مواقف حاسمة وبذلوا كل ما في وسعهم أن يبذلوه في مقاومة كل سلطان يحكم بغير ما أنزل الله فكان مصيرهم السجون والتشريد والقتل.
والخلاصة: أن عدم تعاون الشيعة مع حكام الجور وأئمة الضلال أدى إلى اتخاذ شتى الأساليب وإيجاد مختلف العوامل للقضاء عليهم حفظا للمملكة وصيانة لها عن المؤاخذات التي تقوم على مبادئ العدل الإسلامي.
لقد تضاعفت القوى لمحاربة الشيعة وتوالت عليهم الحملات لأن الدولة لا تسمح لمن يخالفها في الرأي أن يتمتع بحرية إبداء رأيه وترى من الحزم القضاء عليه وقد ذهب كثير من العلماء ضحية أفكارهم وآرائهم ولحق الاضطهاد بكثير من الفقهاء وكان أكثرهم عرضة للقتل إذ لم يكن له أحد يحميه في قصر الملك أو الأمير لأن القوم أصبحوا ونفوسهم لا تشتفي ممن يخالفهم في معتقد أو فكر إلا أن تضرب عنقه(13).
وعلى هذا النهج سار ولاة الأمر وبهذه السياسة الخرقاء كانوا يعاملون حملة العلم وأبطال الفكر وأعظم من هذا أنهم نسبوا تلك الامور إلى الدين بدعوى أن في قتل هؤلاء ضم شمل الجماعة وإغلاق باب الفرقة والقضاء على البدع والضلالات وقد اتخذوا من علماء السوء مطايا لأغراضهم فكانوا يستفتونهم في إراقة الدماء حفظا للدولة من مؤاخذة العامة.
فالمخالف للسلطة في نظر علماء السوء وأتباعهم زنديق ملحد كافر إلى آخر ما تتسع له صحيفة الاتهامات وكما يشاء ولاة الأمر وتقتضيه سياستهم وتدعو إليه رغباتهم في قمع أي حركة معارضة لهم أو أي إنكار على سوء عملهم.
وقد استخدموا لنشر تلك الاتهامات شيوخا يقصون على الناس بأساليب خداعة وأحاديث جذابة مزجوها بمناقب وفضائل تعود لمصلحة الدولة كمناقب العباسيين وغيرهم والبشارة بدولتهم وفضائل بعض الشخصيات التي ناقش المفكرون أعمالهم وحاسبوهم على سوء تصرفهم وهذا أمر لا ترغب فيه السلطة لأنه يشد أزر المخالفين لهم.
وبهذه العوامل الخداعة صوروا مذهب الشيعة ورسموا صورته بإطار الشذوذ وأن اسسه قد قامت على غير التعاليم الإسلامية. وتقدم الكذابون بوضع أساطير قصدوا بها التقرب لولاة الأمر كوضع اسطورة عبدالله بن سبأ اليهودي كما صورها سيف بن عمر المشهور بالكذب والزندقة والمعروف بالوضع وتناولها الحاقدون على الشيعة والمبغضون لأهل البيت فأحاطوها بهالة من التهويل وأبرزوها بإطار ماكر خداع وهم يقصدون توسيع شقة الخلاف وإيقاد نار الفتنة.
وأصبح بمقتضى هذه الاسطورة وغيرها من الأساطير أن مذهب الشيعة قامت اسسه على التعاليم اليهودية وأن مؤسسه عبدالله بن سبأ اليهودي وهو شخصية موهومة رسمتها ريشة رسام البلاط العباسي. وما أكثر البسطاء الذين يتأثرون بالقصص الوهمية!
وقامت حول هذه الافتراءات دعايات التضليل ونفخت أبواق الباطل وما أسهل الانخداع بهذه الأكاذيب ممن لا يقوى على تمحيصها بفكر ثاقب وعقل راسخ.
وكانت السلطة من وراء ذلك تشد أزر اولئك المخدوعين وتتولى نشر تلك التهم وتأييدها بكل حول وقوة لتركيز فكرة خروج الشيعة عن الإسلام وطبع عقائدهم بطابع الكفر ليجعلوا من ذلك حصانة للدولة عن مؤاخذة المسلمين لهم وإنكارهم عليهم ولأجل أن تصبح تلك الثورات التي قام بها الشيعة ثورات على الجماعة الإسلامية. حتى عرفوا في قاموس لغة السياسة: أنهم امة هدامة أو حزب ثوري لا يعترف بنظام الحكم القائم؛ ولهذا أصبح الانتماء إلى التشيع ذنبا لا يغفر لأنه ينتمي إلى جماعة مخربة تحاول القضاء على الدولة الشرعية التي يترأسها سلطان يعمل بأمر الله وهدايته.
وكل ذلك ادعاء باطل وتدخل شائن كما بذلوا جهدهم في خلق تهم وإشاعات يحاولون من ورائها إبعاد الشيعة عن المجتمع الإسلامي.
وإن ذلك التدخل السياسي قد أوقع كثيرا من الكتاب في حدود ضيقة وحرمهم من حرية الفكر وصواب الرأي.
ولا بد لنا في هذا الموضوع أن نلفت أنظار القراء الكرام إلى الدور الذي لعبه المستشرقون في كتاباتهم حول الشيعة والتي أصبحت مصدرا يستمد منه كتاب عصرنا الحاضر معلوماتهم بدون مناقشة كأنها هي عين الحقيقة والصواب فلا يتطرق إليها وهن ولا يعارضها أي نقاش.
وصار اولئك الكتاب يطلقون تلك الآراء الشاذة والأقوال التي تحمل طابع التزييف والخداع كدليل جاءوا به من عند أنفسهم أو نتيجة بحث موضوعي قائم على حرية الرأي والمنطق الصحيح. ولو أنهم أعطوا لعقولهم مدى يسيرا لتكون نظرتهم مشتملة على شيء من الواقعية والتمحيص لما تلبسوا تلك الأقوال احتراما لعقيدتهم ولأنفسهم.
ونحن إذ نقدم هنا أمثلة لما نقول والألم يحز في نفوسنا لما بلغت إليه الحالة من الانحطاط والتدهور في أخذ آراء قوم تحترق قلوبهم بنار الحقد على المسلمين وقد وجهوا حملاتهم العنيفة ضد الإسلام ونبيه الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) باتهامات باطلة وأقوال فارغة وقد حفلت كتبهم بالاتهامات والشتائم وكلها تتصف بالافتراءات الغريبة التي تدل على تفكير سقيم(14).
فاندفعوا بأقلامهم المسمومة وخيالهم الواسع مستغلين فرصة الخلاف بين الطوائف واتهام بعضهم بعضا فراحوا يختلقون أشياء كثيرة ويضعون خططا للطعن في العقيدة الإسلامية من طرق مختلفة حسب الخطط المرسومة والهدف المقصود.
آراء المستشرقين في التشيع
وإن لكثير من المستشرقين خططا يقومون بتنفيذها عن طريق الكتابة أو خططا استعمارية يقوم بتنفيذها كثير من المستشرقين في البلدان الإسلامية والمتتبع يجد ذلك فيما يكتبونه فهم يثيرون أحقادا ويوقظون الفتنة وكل ينتصر إلى جهة وقد اشتدت حملتهم على الشيعة من بين الفرق الإسلامية لأسباب نوضحها فيما بعد.
ولسنا الآن بصدد عرض ما قاموا به من النشاط في صفوف المسلمين لفتح باب الخلافات ولكننا نريد أن نعطي صورة عما قاموا به من تزييف الحقائق والمغالطة ليطعنوا في العقائد الإسلامية من باب أين ما أصابت فتح.
وقلدهم في ذلك بعض الكتاب عن دراية أو غير دراية فمن تلك الآراء التي تحمل طابع التزييف للحقائق التاريخية أو الجهل المزري هو ما ذهب إليه "جوبينو" بقوله حول تشيع الفرس: كانت هذه النظرية عقيدة سياسية وهي التشيع غير متنازع فيها عند الفرس وهي أن العلويين وحدهم يملكون حق حمل التاج وذلك بصفتهم المزدوجة لكونهم وارثي آل ساسان من جهة امهم "بيبي شهر بانو" ابنة يزدجرد آخر ملوك الفرس والأئمة رؤساء هذا الدين حقا. ثم يأتي من بعده "بارون" فيؤيد هذه النظرية بإيضاح السبب الذي استمال الفرس إلى التشيع معتمدا على ما قاله جوبينو في هذا الصدد فيقول بارون: "إني أعتقد أن جوبينو قد أصاب فيما قاله: أن نظرية الحق الإلهي وحصرها في البيت الساساني كان لهما تأثير عظيم في تاريخ الفرس في العصور التي تلتها إلى أن يقول : ومن جهة اخرى فإن الحسين وهو أصغر ولد فاطمة بنت النبي وعلي ابن عمه قد قالوا: إنه تزوج من "شهر بانو" ابنة يزدجرد الثالث آخر ملوك آل ساسان" (15).
هذا هو منطق المستشرق جوبينو وهذه عقليته إذ يجعل التشيع فارسيا بحتا وإن تشيع الفرس كان منهم تعصبا لا تدينا؛ لأنهم أصهار آل علي(عليه السلام)فالذي دفعهم لمناصرة آل علي في نظره هو علقة المصاهرة؛ لأن الحسين(عليه السلام) قد تزوج إحدى بنات يزدجرد اللاتي جيء بهن سبايا في أيام خلافة عمر بن الخطاب وكن ثلاث بنات فاشتراهن الإمام علي(عليه السلام) ودفع واحدة لعبدالله بن عمر فأولدها سالما ودفع الثانية إلى محمد بن أبي بكر فأولدها القاسم ودفع الثالثة لابنه الحسين(عليه السلام)فأولدها زين العابدين(عليه السلام)(16).
فعلي بن الحسين زين العابدين(عليه السلام) والقاسم وسالم هم أبناء خالة لأنهم أولاد بنات يزدجرد.
فدليل هذا المستشرق على ارتباط التشيع بالفرس ومناصرة أبناء فارس لأهل البيت إنما كان للمصاهرة كما يذهب جوبينو وغيره وهذا من خطل الرأي وسقم التفكير.
ويقول "ولهوسن": إن العقيدة الشيعية نبعت من اليهودية أكثر مما نبعت من الفارسية مستدلا باسطورة ابن سبأ الخرافية(17). وما أكثر من يصدق بالأساطير ويخضع للخرافات.
ويقول دوزي وغيره من المستشرقين: إن أصل التشيع فارسي. مستدلين بالمصاهرة المذكورة وإن الفرس تدين بالملك وبالوراثة في البيت المالك والشيعة تقول بوجوب طاعة الإمام(18).
ويقول "نيبرج" في مقدمة كتاب الانتصار للخياط: وكانت الشيعة محل امتزاج الثنوية بالإسلام خاصة... إلخ (19).
إلى كثير من تلك الأقوال المفتعلة والآراء الشاذة المنافية للحقائق من جعل التشيع فارسيا بحتا وغرضهم في ذلك هو أن تصبح عقيدة الشيعة ذات صلة بعقائد الفرس القديمة وبهذا فهم يطعنون في العقيدة الإسلامية في الصميم كما أنهم قد جعلوا إسلام أبناء فارس إسلاما عنصريا لا إسلاما حقيقيا منبعثا عن عقيدة راسخة.
هذا هو منطقهم الخاطئ وهذه هي آراؤهم الشاذة وأقوالهم الكاذبة وهم لا يلامون على ما جنوه لأنهم خصوم الإسلام وهل يرتجى الخير من خصم يحترق قلبه بنار الغيظ وقد آن لهم أن يشفوا غيظهم وينفثوا سمومهم بين المجتمع الإسلامي. فلا لوم عليهم ولكن اللوم كل اللوم على كتاب يدعون الحمية على الإسلام وأهله فيقرون في بحوثهم تلك الآراء ويثبتون تلك الطعون وكأنها مكرمة جاءوا بها للامة؛ حتى بلغ الانحراف والشذوذ ببعضهم أنه نسب إلى أصحاب محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)وخريجي مدرسته بأنهم قد أخذوا بآراء ابن سبأ اليهودي وتأثروا بتعاليمه(20).
وهذا من أعظم الجنايات وأقبح الامور ولكن هذا القائل قد بلغ حدا في مناصرة الباطل جعلنا نتهاون في أمره فألقيناه في سلة المهملات غير مأسوف عليه لأن الانشغال بكل ما بدر من أعداء الإسلام يفوق الطاقة ولذا فهو من مهمات المسلمين جميعا.
ونجد أحمد أمين في بحوثه وبالأخص في فجر الإسلام(21) قد أخذ بهذه الآراء وأقرها كأنها مصدر وثيق لا يتطرق إليه وهن ولا يداخله أي نقاش.
وكذلك الدكتور حسن إبراهيم حسن في تاريخ الإسلام السياسي(22) والشيخ محمد أبو زهو في كتابه الحديث والمحدثون(23) ومصطفى الشكعة(24)وغيرهم فالجميع قد ساروا على هذا الخط الذي رسمه أمثال هؤلاء المستشرقين بدوافع واحدة وأغراض معينة لا تبعد عن محاولة الإساءة للإسلام وتشويه عقائده بدون رجوع إلى الوثائق التاريخية التي تفند هذه المزاعم ولا يتسع المجال إلى عرض أقوال هؤلاء الكتاب المقلدين وللمثال نضع في هذا المورد قول أحد الكتاب المعاصرين وهو الاستاذ مصطفى الشكعة إذ يقول: والمنطق في ذلك أن الفرس يعتقدون أنهم انسباء الحسين لأنه تزوج جهان شاه "سلافة" ابنة يزدجرد بعد أن وقعت أسيرة في أيدي المسلمين ولقد أنجبت سلافة عليا زين العابدين وإذن فهم أخوال علي ويمكن الربط بين تحمسهم لابن ابنتهم وبين تشيعهم. فتشيعهم والحال كذلك لا يمكن أن يقال أنه تشيع عقيدة خالصة بل هو أقرب إلى تشيع العصبية منه إلى تشيع العقيدة وتشيع العصبية يساوي تشيع السياسة ففكرة التشيع من ناحية الفرس على الأقل فكرة سياسية خالصة بل إن بعض الفرس قد أعلن انتصاره لعلي زين العابدين لما يربط بين الفرس وبين بيت الحسين مننسب(25).
التشيع والفرس
هذا هو منطق الاستاذ الشكعة يتعاطاه بدون انتباه إلى الأخطاء التي أحاطت به فأخرجته عن جادة الصواب.
لقد أبدى الاستاذ رأيه وكأنه هو السابق إليه إذ لم يذكر الذين سبقوه بهذه الأخطاء وكأنه يقصد بذلك أن ينفي عنه التقليد لغيره فبرز بهذه المكرمة المبتكرة لينال الثناء على عظيم فكرته ورجاحة عقليته.
وكان اللازم عليه وعلى غيره ممن اعتمدوا على آراء المستشرقين ألا يقفوا عند الحدود الضيقة التي وقف بها اولئك المتعصبون لأن العلم يأبى الانقياد والأخذ دون دليل.
وكان الأجدر بهم وهم رسل الثقافة وحملة أمانة التاريخ بأن يفكروا في صحة تلك الأقوال وصواب تلك الآراء ونحن نطالب الأساتذة ومنهم الدكتور حسن إبراهيم والاستاذ الشكعة وغيرهم بأن يسائلوا أنفسهم عن صحة رأي جوبينو وبارون وغيرهم في الامور التالية:
1 لم ناصر الفرس ابن أختهم زين العابدين؟ ولم يناصروا ابن اختهم سالما الذي كان هو وأبوه من أنصار الدولة الاموية وكانت لعبد الله بن عمر اليد الطولى في انتصار جيش أهل الشام على جيش أهل المدينة يوم الحرة فقد كان يخذل الناس ويدعو إلى الوفاء ببيعة يزيد ولماذا لم يدخلوا في الحزب الاموي تعصبا لصهرهم ابن عمر وابن أختهم سالم ولماذا لم ينتصروا لأبي بكر وهم أصهاره؟
2 إن انتشار المذهب الحنفي في بلاد فارس أكثر من غيره من المذاهب الإسلامية وإن العلماء الذين نشروه وخدموه بمؤلفاتهم أكثرهم كان من أبناء فارس.
فهل كان ذلك أمرا واقعيا؟ أم أنهم تعصبوا له لأن أبا حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي كان من بلاد فارس فاعتناقهم لمذهبه تعصبا له لأنه ابنهم.
3 هل أن إسلام رجال الحديث من العلماء الذين هم من أبناء فارس كالبخاري والحاكم والبيهقي وغيرهم كان واقعيا أم تعصبا لجهة أم تقليدا لآبائهم واتباعا لقومهم؟
ولعلهم يقولون إن إسلام العصبية كان خاصا بمن يتشيع فهذا شيء لا نعرفه ولا نجيب عما لا نعرف مما يخرج عن قواعد التحقيق ونواميس الواقع.
4 هل كان تشيع بلاد فارس بالصورة التي هو عليها الآن في القرون الأولى أم القرون المتأخرة؟ ومن هم الذين نشروا التشيع هناك؟
ولو أن هؤلاء الكتاب كانوا يهدفون إلى الحقيقة لاستقاموا في أبحاثهم ونهجوا نهج المؤرخ الذي يحاول اظهار الواقع وجلاء الغامض ولظهر لهم هناك أن انتشار التشيع في إيران كان في القرن السابع الهجري وأن الذين تولوا نشره في الزمن الأول هم الفاتحون من كبار المسلمين ودعاة أهل البيت(عليهم السلام)وكانت البلاد تختلف باتجاهاتها ونزعاتها.
وباختصار أن تلك الآراء الشاذة والأقوال التي لا تستند إلى وثائق تاريخية كان الباعث لها حقد اولئك القوم الذين تغلي قلوبهم بنار الغيظ على الإسلام. وإن كانت هناك فئة تتصف بالاتزان ومراعاة الحقيقة فهم قليلون بالنسبة للكثرة التي يتصف بها اولئك الحاقدون من المستشرقين والزنادقة المتدخلين في صفوف المسلمين.
وخلاصة القول: ان الانحراف الذي وقع فيه بعض كتاب العصر الحاضر يرجع إلى أسباب كثيرة اهمها: عدم رعاية الأبحاث العلمية واعطاء الموضوع حقه من النظر والتفكير والوقوف على مدى تأثير الوقائع في الآراء وأنهم قد أهملوا جانب العدل والاستقامة وركنوا إلى امور وهمية. وبعبارة أوضح أنهم يكتبون بوحي العاطفة والتعصب الأعمى فجمدوا على ما يكتبه سلف عاش في عصور التطاحن والتناحر. هذا من جهة ومن جهة اخرى فإن تذوقهم لقراءة ما يكتبه اولئك الحاقدون من المستشرقين جعلهم لم يلتفتوا لما اشتملت عليه كتبهم من التناقض ومخالفة الحق ولو تنبهوا لذلك لما جعلوا شيئا منها محورا لأبحاثهم ولم يستندوا إلى تلك الأقوال وكأنها صادرة من منبع صدق لا يتطرق إليه أي شك ولا يداخله أي احتمال.
ولهذا فقد أهملوا دراسة العوامل التي انتشر بها المذهب الشيعي في بلاد فارس في فترات متعاقبة وأدوار مختلفة.
ولو درسوا ذلك لما ظلموا امة تدين بالإسلام عن عقيدة خالصة ونية صادقة ولهم مواقف مشهودة فجعلوا إسلامها تعصبا لا تدينا كل ذلك مما يهدف إليه المرجفون والذين يحاربون الإسلام من طريق الطعن في العقيدة.
الشيعة والمستشرقون
وإذا ألقينا نظرة سريعة على أسباب تحامل المستشرقين على الشيعة بالأخص وجدنا أنها حاصلة من مؤثرات متداخلة أهمها امتناع الشيعة عن ملامستهم ومواكلتهم مما بعث في نفوسهم حقدا مضاعفا وقد اشتملت مؤلفات الأوربيين الذين عاشوا بين ظهراني الشيعة على بيان ذلك ونكتفي بما ذكره البعض منهم.
قال الدكتور "بولاك" الذي قضى أعواما طويلة في فارس متقلدا منصب الطبيب الخاص للشاه ناصر الدين.
إذا قدم اوربي مصادفة وعلى غير انتظار في بداية تناول الطعام يقع الفارسي في الحيرة والارتباك ويسقط في يده لأن الآداب تمنعه من أن يأمر زائره بالانصراف وإذا سمح له بالدخول تحرج؛ لأن ما يلمسه الكافر من طعام تلحقه النجاسة والفضلات التي تبقى من طعام الاوربيين يأبى أن يتناوله الخدم ويتركونها للكلاب.
ثم يقول: يلزم الاوربي أن لا يغفل أن يعد لنفسه إناء يشرب منه فليس من أحد يعيره شيئا فعقيدة الفرس أن كل إناء يتنجس إذا ما استخدمه الكافر(26).
وكذلك قال "فولني" في كتابه "رحلة في سوريا ومصر" وقرر في مشاهداته هذه الامور التي تحز في نفوسهم.
وجاء في مشاهدة آخرين من السائحين شبيهة بهذه المشاهدات في الحجاز من النخاولة وغير الحجاز من البلدان الإسلامية.
وبهذا وجه المستشرقون حملتهم الشعواء على الشيعة وزادوا على ما شاهدوه: بأن هذه النزعة تشمل غير الكفار.
يقول أجناس جولدزيهير: إن هذه النزعة المتعصبة عند الشيعيين الصادقين في تشيعهم لم تقتصر على الكفار بل شملت المسلمين من مختلف النحل والمذاهب وكتب الشيعة تفيض بالدلالة على هذا البغض والتحامل(27).
وهنا نلمس أثر ذلك الانفعال الحاصل من رد الفعل في نفوس هؤلاء المستشرقين لعدم ملامسة الشيعة لهم وتجنبهم عن مواكلتهم مما حملهم على افتعال هذه الامور تشفيا منهم.
وهم عندما يعودون من رحلاتهم يصورون الشيعة بصور مشوهة ويحكمون عليهم بأحكام جائرة ولعجزهم عن الإلمام بتاريخ الشيعة ليكتبوا وفقا لما يتطلبه منهاج البحث التاريخي دونوا في كتبهم ما هو بعيد عن جوهر التشيع وجردوا المبدأ من جميع مفاهيمه الدينية واسسه الأخلاقية فوصفوا معتنقيه بكلمات نابية إذ فسحوا المجال لخيالهم وانقادوا وراء شعور الحقد.
وعوضا عن أن يتأملوا بنظرات مستنيرة ليدخلوا باب الأبحاث التاريخية راحوا يصورون بدون تثبت ويتخبطون في مجالات البحث بصورة تدلنا على الغرض الذي كتبوا من أجله ونستشف الدافع الذي دفعهم لذلك وقد جمعوا عدة طعون غذاها الحقد وأملاها الخيال وسجلوها في قائمة المؤاخذات على الدين الإسلامي ليرموا المسلمين بها عن كثب.
يضاف إلى ذلك أنهم استمدوا أكثر معلوماتهم من كتب اناس عاشوا في عصر اشتد فيه الصراع بين الطوائف وتلاطمت فيه أمواج الفتنة فكان أتباع مذهب أهل البيت أشدهم عناء وأعظمهم محنة لتدخل السلطة حين بذلت جهدها في القضاء على مذهب أهل البيت(عليهم السلام) ومن يناصره.
فكانت التهم تكال جزافا والحرب بين الشيعة وبين السلطة ونفوذها من أعوان ومؤيدين سجالا حتى حكموا عليهم بالكفر والخروج عن الدين واتهموهم بالشرك وأنهم يعبدون الأئمة وأن التشيع حزب سياسي.. إلخ. فأخذ المستشرقون وغيرهم ممن يكيدون للشيعة تلك التهم فأزادوها وأبرزوها للعالم بأسلوب ماكر خداع طلبا لاتساع رقعة الخلاف وإيقاد نارالفتنة.
والمتتبع لما يكتبونه يجد لهم كثيرا من الآراء الشاذة فمثلا أنهم يقولون: إن أصل التصوف في الإسلام مأخوذ من أصل مجوسي(28).
وإذا طالبتهم بالدليل قالوا: إن عددا كبيرا من المجوس ظلوا على مجوسيتهم في شمال إيران بعد الفتح الإسلامي وإن كثيرا من كبار مشايخ الصوفية ظهروا من إيران.
وبهذا القياس العقيم والاستنتاج الغريب حكموا على أن المتصوفة مجوس وهم يحاولون أن يطعنوا الإسلام بتجريده من الروحيات وجعله دينا جامدا لا صلة له بالروحيات والحب الإلهي.
وعلى أي حال: فإن عواصف الاتهامات التي اثيرت حول الشيعة كانت من وحي الخيال سداها الهوى ولحمتها الحقد وإن قليلا من التأمل في حوادث التاريخ ووقائع الزمن واختلاف الظروف يكفي بطيبعة الحال للكشف عن الواقع وجلاء الغامض.
ولا أبعد عن الواقع إن قلت: إن مهمة المؤرخ عن الشيعة هي أعسر من مهمة من يؤرخ لغيرها من طوائف المسلمين لوجود عواصف الاتهام وزوابع الافتراء. والسبب الأساسي لذلك هو انفصال الشيعة عن الدولة ومعارضتهم للحكم القائم على الظلم طبقا لنهج أهل البيت(عليهم السلام) الذي ساروا عليه.
والواجب يقضي على كل مؤرخ وباحث أن لا يغفل هذه النقطة الأساسية التي لها أثرها في توجيه المجتمع لتحقيق ما وراءها من هدف فالاستسلام لكل قول والأخذ بكل رأي دون تمحيص جناية على التاريخ وتمرد على الواقع.
ومما لا جدال فيه وما يلزمنا الاعتراف به: أن كلا من الدولتين الاموية والعباسية قد تنكرتا لأهل البيت(عليهم السلام) وأصبح من عرف بالولاء لهم هدفا للنقمة إذ الولاء لآل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) كما هو مفهوم تلك السياسة خطر يهدد كيان الدولة وذلك ذنب لا يغفر.
وكم اريقت بذلك من الشيعة دماء وهدمت دور ونهبت أموال وازهقت نفوس واهتزت مشانق. وملئت سجون؟!
وكان أسهل شيء على من يخشى سطوة الدولة أو يتهم بالانحراف عنها أن يتظاهر بالعداء لأهل البيت(عليهم السلام) وذم شيعتهم ويظهر ذلك في نظم أو نثر أو تأليف كتاب أو وضع حديث أو خلق حكاية تحط من كرامة الشيعة؛ وقد أصبح ذلك طريقا لكسب المغنم وحصول الجوائز أيضا.
ومن أظرف الأشياء ما قاله المرزباني: إن رجلا دخل على الرشيد فقال: لقد هجوت الرافضة ويقصد بهم الشيعة طبعا.
قال الرشيد: هات. فأنشد:
رغما وشما وزيتونا ومظلمة *** من أن تنالوا من الشيخين طغيانا
فقال الرشيد: فسره لي. قال: لا ولكن أنت وجيشك أجهد من أن تدري ما أقول.
قال الرشيد: والله ما أدري ما هو. وأجازه بعد ذلك(29).
ومنها: أن رجلا بالكوفة اسمه علي اشتكى إلى الحجاج بن يوسف ظلامته من أهله فسأله عن ذلك فأجابه: إنهم ظلموني فسموني عليا(30).
لأن التسمية باسم علي تستوجب الاتهام وقطع الصلة وهكذا مما يطول به الحديث والتاريخ حافل بالأعمال الإرهابية التي اتخذها الحكام في توجيه الطاقات الاجتماعية لبناء مجتمع يخضع لإرادتهم وتكييف الجماعات لبغض أهل البيت(عليهم السلام) وكان الدور الاموي يلقن أبناءه بغض علي(عليه السلام)ويوجبون شتمه علنا فكان في المملكة الاموية سبعون ألف منبر يشتم عليها علي بن أبي طالب(عليه السلام)(31). وكان المحدثون والقصاص يختمون مجالسهم بشتم علي(عليه السلام).
قال جنادة بن عمرو بن الجنيد: أتيت من حوران إلى دمشق لأخذ عطائي فصليت الجمعة ثم خرجت من باب الدرج فإذا عليه شيخ يقال له أبو شيبة يقص على الناس فرغب فرغبنا وخوف فبكينا فلما أنقضى حديثه قال: أختموا مجلسنا بلعن أبي تراب. فالتفت إلى من على يميني فقلت له: فمن أبوتراب؟
فقال: علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله وزوج ابنته وأول الناس إسلاما وأبو الحسن والحسين.
فقلت: ما أصاب هذا القاص؟ فقمت إليه وكان ذا وفرة فأخذت وفرته بيدي وجعلت ألطم وجهه فصاح واجتمع أعوان المسجد فجعلوا ردائي في رقبتي وساقوني إلى هشام بن عبدالملك وأبو شيبة يقدمني ويصيح: يا أمير المؤمنين قاصك وقاص آبائك وأجدادك أتى إليه اليوم أمر عظيم.
قال هشام: من فعل بك هذا؟
فقال: هذا. وأشار إلى جنادة.
ولما سألني هشام أخبرته بالخبر.
فقال هشام: بئس ما صنع ثم عقد لي على السند وقال لجلسائه: مثل هذا لا يجاورني ها هنا فيفسد علي البلد فباعدته إلى السند(32).
وصفوة القول إن الامويين كانوا يبذلون جهودهم في توجيه المجتمع لإخفاء مآثر علي(عليه السلام) فلا يسمح لأحد أن يروي عنه أو يتحدث بحديثه حتى صار المحدثون يكنون عنه(عليه السلام) بأبي زينب(33).
أما من يروي حديثا في فضله أو فضل أهل بيته فمصيره إلى التعذيب ونهايته إلى الموت وعلى العكس فإن من يضع رواية في ذمه وهو المبرأ فذاك هو المقرب وله ما يحب من صلتهم ورفدهم.
وقد أعلن ولاتهم على المنابر بشكل رسمي إلزام الناس شتم علي(عليه السلام)والبراءة منه وأثاروا الشكوك والريب حول أتباعه وأنصاره وكانوا يتخذون من تكنية النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)له "بأبي تراب" ذريعة لتنقيصه وقد لقي المسلمون في ذلك أذى وتنكيلا.
وباختصار فإن ما نال الشيعة من وطأة الظلم بأنواعه إنما كان لأجل انتصارهم لأهل البيت وانفصالهم عن دولة الظلمة وإعلانهم الغضب على تلك الأعمال التي ارتكبها اولئك الحكام وقد رفع الشيعة لواء المعارضة على ممر العصور والأدوار وقدموا التضحيات المجيدة وهذه حقيقة يجب أن يسير الباحثون على ضوئها في البحث عن تاريخ الشيعة.
ويلزم أن يقدروا أثر تدخلالسلطات في تغيير الحقائق وتصوير الحوادث لأنه النول الذي حيكت عليه التهم الكاذبة والتي كان سداها الهوى ولحمتها الحقد بل هو القانون الذي يستمد منه علماء السوء أحكامهم الجائرة في حق الشيعة.
نعم إن ذلك التدخل هو مصدر الصعوبات والمشاكل التي تقف أمام رواد الحقيقة الذين يحاولون الوصول إلى الأمر الواقع عندما تنطلق أقلامهم من قيود الطائفية الرعناء وتتحرر أفكارهم من أساطير الأوهام وخرافات الماضي.
ونحن نشتد باللائمة على رجال الفكر وأعلام الأدب وحاملي شهادات الدراسات العالية إذ لم يتحملوا صعوبة البحث ومشقة التنقيب عندما حاولوا معالجة مواضيع لها علاقة في الشيعة إما حول تاريخهم أو آرائهم أو فقههم أو غير ذلك؛ فإنا وجدنا الكثير منهم قد خلطوا في كثير من الامور فزادوها تعقيدا وأصدروا أحكامهم بدون تحقيق علمي أو ضبط تاريخي وهذا نقص يؤاخذون عليه. وعلى سبيل المثال نضع بين يدي القراء ما يلي:
الدكتور شلبي والشيعة
قال الدكتور أحمد شلبي استاذ الدراسات الإسلامية بجامعات أندنوسيا: المصادر الرئيسية للشريعة الإسلامية هي القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة إلى أن يقول: ولكن الشيعة يعتقدون في أئمتهم أن الله يؤتيهم من مخزون علمه وحكمه ما لا يؤتيه غيرهم وتنزل عليهم الملائكة وتأتيهم بالأخبار وإذا أراد الإمام أن يعلم شيئا أعلمه الله إياه وهم من أجل هذا لا يحتاجون إلى الرأي والقياس فكلما جد أمر ليس في القرآن ولا في أحاديث الرسول إجابة صريحة عنه تلقى الإمام من الله الرد على هذا السؤال كما كانت الحالة مع الرسول تماما ومن أجل هذا يبطل استعمال القياس والرأي.
وبناء على اختلاف الاسس التي تؤخذ منها الشريعة وسبب المصدر الجديد الذي اعتمده الشيعة أصبح لهم فقه خاص بهم يختلف ويتفق مع فقه السنة وفيما يلي أمثلة لفقه الشيعة مقتبسة من الترجمة العبقرية للعلامة غلام حليم بن قطب الدين الهندي:
الطهارة: طهارة الخمر.
لا يحتمون طهارة مكان الصلاة ما دامت النجاسة لا تعلق بالثوب.
الصلاة: يجيزون الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء من غيرعذر.
لا يجيزون القصر لصلاة المسافر إلا إذا كان مسافرا إلى مكة والمدينة أو الكوفة أو كربلاء.
تختلف عدد التكبيرات على الميت تبعا لمكانته.
الصوم: صوم اليوم الثامن عشر من ذي القعدة سنة مؤكدة.
لا يبحثون عن هلال رمضان ولا عن هلال شوال ودائما يبدأون رمضان قبل أهل السنة بيوم أو يومين ورمضان عندهم كامل دائما.
لا تجب الزكاة في أموال التجارة.
النكاح: يجوز نكاح المتعة.
لا يقع الطلاق إلا بشاهدين كالزواج.
الميراث: يقدمون القرابة على العصبة.
يقدمون البنت على الولد في الميراث لا يورثون الجد عند وجود ابن الابن.
الأذان: يزيدون فيه عبارة: حي على خير العمل(34).
هذا ما يقوله الدكتور الشلبي: ولنمر أولا مر الكرام على ما قاله حول اعتقاد الشيعة بالأئمة(عليهم السلام) من أنهم تنزل عليهم الملائكة وتأتيهم بالأخبار وأن حالهم حال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فالحديث حول هذا يطول وهذه التهمة من محدثات عصور التطاحن والتناحر. وليست هذه الفرية على الشيعة مما يصح السكوت عنها ولكن ضيق المجال يدعونا إلى الإعراض عن المناقشة هنا كما يدعونا ذلك إلى ترك التعرض لما ذكره في مسألة القياس ورأي الشيعة فيه. وقد مر في الجزء الثاني من هذا الكتاب بحث حول رأي الشيعة في القياس.
واما ما نسبه إلى الشيعة من الفروع الفقهية التي جعلها انموذجا ومثالا فهي خلط وخبط وتزوير وجهل وتعصب وسيقف القراء على حقيقة ذلك في بحث الفقه المقارن.
ومن أعجب الأشياء قوله: إن الشيعة لا يجيزون قصر الصلاة للمسافر إلا إذا كان مسافرا إلى مكة والمدينة أو الكوفة وكربلاء وهذا قول بعيد عن الصواب تماما فإنهم يوجبون القصر في الصلاة اجماعا ويقولون بالتخيير بين القصر والإتمام في هذه الأماكن الأربعة والقصر عندهم أفضل(35).
وأما قوله باستحباب صوم اليوم الثامن عشر من ذي القعدة فهذا بهتان يعجز عن إثباته إذ لا يوجد قائل بهذا أبدا إلا الاستاذ الشلبي.
وأما طهارة الخمر فهو كذب ولا أثر لذلك بل إن الشيعة تشددوا في نجاسة الخمر وقالوا بنجاسة كل مسكر مائع بالإصالة وان صار جامدا بالعرض وأما ما ذكر من نكاح المتعة والجمع بين الظهرين وحضور شاهدين في الطلاق فهذه أبحاث علمية وللمسلمين في ذلك خلاف يأتي فيما بعد إن شاء الله.
والذي نود أن نشير إليه هو أن الدكتور لم يكلف نفسه عناء البحث ولم يعط من وقته للتنقيب. وإن قال إن الوقت ثمين فيجب أن تكون الكرامة أثمن من الوقت وأن ظهور النقص لعدم اطلاعه أو كذبه هو حط في كرامته إذ لا يوثق بنقله وهو موجه جيل ومعلم فئة ورئيس جامعة وربما له عذر النقل من مصدر وهو غير معذور بصفته عالما موجها فيلزمه البحث والتدقيق.
هذه صورة من صور التجني على الحقائق والخروج عن القواعد العلمية وسيجد القراء زيادة بيان في الدراسات الفقهية الآتية وفيها ما يفند هذه المزاعم والمفتريات والخلط والخبط في الامور الواضحة. مما يدلنا بوضوح على عظيم التأثر بدعايات التضليل المسيطرة على أذهان الكثيرين من المتنورين في البلاد الإسلامية.
مناقشة أخطاء المؤلفين
ومن المفيد في هذا المجال توضيح ما ذهب إليه بعض المؤلفين في حقيقة هي أجلى من رائعة النهار وذلك أنه مزج بين المذهب الشيعي والمذهب الشافعي اشتباها أو جهلا بالموضوع وهو الحاج خليفة(36).
قال: والكتب المؤلفة على مذهب الإمامية الذين ينسبون إلى مذهب ابن إدريس أعني الشافعي(رحمه الله) كثيرة منها: شرائع الإسلام والذكرى والقواعد والنهاية...
ويقول تحت عنوان الكتب المؤلفة على مذهب الإمامية: البيان والذكرى وشرائع الأحكام وحاشيته والقواعد والنهاية.
ومن أقوالهم الباطلة: عدم وجوب الوضوء للصلاة المندوبة ووجوب الغسل بعد غسل الميت ووجوبه لصوم المستحاضة وكراهية الطهارة بماء أسخن في غسل الميت ووجوب المسح على القدمين وعدم لزوم الاستيعاب في التيمم وكفاية مسح الجبهة. وقال معلقا: ويطلقون ابن إدريس على الشافعي.
وقال عند ذكر تفسير الشيخ الطوسي فقيه الشيعة: هو أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي فقيه الشيعة الشافعي كان ينتمي إلى مذهب الشافعي المتوفى سنة (460 ه) سماه مجمع البيان لعلوم القرآن(37).
ونحن هنا أمام حقيقة يلزم أن نجلو عنها غشاوة الأوهام ولا أراني بحاجة إلى التعليق على وقوع مثل هذا الخلط بأكثر من أن أقول: أن الذي أوقع هذا المؤلف بشبكة المؤاخذة: هو اغماض عينيه عن الطريق الموصل إلى الحقيقة ليسلم من ذلك.
والذي يؤاخذ عليه الامور التالية:
1 قوله: كتب الإمامية المنتسبين إلى محمد بن إدريس الشافعي.
2 قوله: يطلقون ابن إدريس على الشافعي.
3 قوله: عند ذكر تفسير الشيخ الطوسي هو أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي فقيه الشيعة الشافعي كان ينتمي إلى مذهب الشافعي المتوفى سنة(460 ه) سماه مجمع البيان لعلوم القرآن.
ولنتعرض لإيضاح هذه الامور التي وقع فيها المؤلف بشبكة المؤاخذة هنا عن دراية أو غير دراية.
* * *
1 إن الفرق بين المذهب الشيعي والمذهب الشافعي لا يحتاج إلى زيادة بيان فلكل مذهب مقوماته ومنابعه وهذه النسبة غير صحيحة فالإمامية لا يأخذون بمذهب الشافعي ولئن التقت أقوالهما في بعض الموارد فلا يدل ذلك على وجود هذه الملازمة فمذهب الشيعة هو أقدم نشأة من مذهب الشافعي بل أقدم المذاهب كلها. وهو يستقي تعاليمه من ينبوع أهلالبيت(عليهم السلام) الذين هم عدل القرآن وورثة صاحب الرسالة وباب الاجتهاد عندهم مفتوح على مصراعيه وعند غيرهم موصد لا ينفذ منه قول ولا يسمح لأحد أنيلجه.
وإن مذهب الشيعة هو كسائر المذاهب الإسلامية بعضها مع بعض في نقطة الاتفاق والافتراق فربما تتفق جميعها على قول وربما تختلف فالقول بانتساب الشيعة إلى الشافعي خطأ بين وجهل صريح.
ولنقف على مبعث هذا الخلط وأسبابه وهو ما صرح به في القول الثاني: من أن الشيعة يطلقون اسم ابن إدريس على الشافعي.
هذا هو مبعث الخلط ومثار التشكيك وذلك أن الحاج خليفة صاحب كشف الظنون وقف على نقل الشيعة لأقوال محمد بن أحمد بن إدريس العجلي الحلي(38) عالم الشيعة وفقيههم والمبرز في علمه وفضله؛ وهو مؤلف كتاب السرائر في فقه الإمامية ومختصر تبيان الشيخ الطوسي فظن صاحب كشف الظنون أن المقصود بمحمد بن إدريس هو الشافعي(39).
والإمامية إذ يستشهدون بأقوال محمد بن أحمد بن إدريس الحلي المتوفى سنة (598 ه) فإنهم يطلقون عليه ابن إدريس ويقصدون به شيخ فقهاء الحلة في عصره محمد بن أحمد بن إدريس صاحب كتاب السرائر.
وبهذا الإطلاق اشتبه الأمر على صاحب كشف الظنون وليس ذلك بغريب إذ الامور لم تكن مبنية على دراسة واستنطاق للحوادث وتتبع يوصل إلى النتيجة فحكم الحاج خليفة بهذا الحكم بدون تحقيق علمي وضبط تاريخي ظلما للعدالة وتمردا على الموازين.
مع إنا لم نجد أحدا استشهد بقول الشافعي فأطلق عليه ابن إدريس وإنما يقولون: قال الشافعي.
ولكن المؤلف اعتمد على أوهن الظنون وخيل له أن إطلاق لفظ ابن إدريس إنما المقصود به الشافعي وهذا اصطلاح لا يعرفه أحد بل هو من وحي الخيال.
2 قوله إن الشيخ الطوسي كان ينتمي إلى مذهب الشافعي وإن له تفسيرا سماه مجمع البيان لعلوم القرآن.
وهذا خطأ من جهتين:
1 إن الشيخ أبا جعفر محمد بن الحسن الطوسي شيخ الطائفة وصاحب كتابي التهذيب والاستبصار اللذين هما من أهم المصادر عند الإمامية للحديث وكونه شافعيا خطأ يتفرع إما عن اشتباهه الأول أو لأنه وجد ترجمته في طبقات الشافعية للسبكي(40).
وهذا لا حجة فيه؛ لأن الشافعية قد ترجموا لكثير من العلماء وليسوا من أتباع مذهب الشافعي بل منهم من هو رئيس مذهب برأسه كأحمد بن حنبل إمام الحنابلة وإسحاق بن راهويه المروزي وعلي بن إسماعيل أبي الحسن الأشعري وغيرهم(41).
إذن فليس من الصحيح أن يعد منهم كل من ترجم له في طبقات المذهب. فإنا نجد جميع كتاب الطبقات يعدون رجالا ليسوا من اتباع ذلك كما أن الحنابلة ترجموا للشافعي وغيره وهكذا.
ومن جهة ثانية إن الشيخ الطوسي كان غزير العلم واسع الاطلاع وله احاطة بفقه جميع المذاهب. ويدل على ذلك كتابه القيم في الفقه الإسلامي أسماه الخلاف ذكر فيه فقه الشيعة مقارنة مع فقه جميع المذاهب وكان الشيخ الطوسي له كرسي أيام المقتدر يلقي عليه الدروس ويحضره جمع من علماء الشافعية وغيرهم وله ببغداد مكتبة عامرة ولكنها احرقت عندما اشتد المتعصبون عليه وهاجر إلى النجف.
2 قوله أن له تفسيرا سماه(42) مجمع البيان لعلوم القرآن وهذا خطأ فإن مؤلف مجمع البيان: هو الشيخ أبو علي الفضل بن الحسن بن الفضل المعروف بالطبرسي المتوفى سنة (548 ه) أحد علماء الإسلام وفقهاء الإمامية له عدة مؤلفات.
وقبل أن نتحول من هذا الموضوع الذي أوجزنا فيه القول لا بد لنا من أن ننبه القراء الكرام بأن نسبة كثيرة من الامور إلى الشيعة تقع على هذا النمط وبهذه الصورة لأن الدراسة حول ما يتعلق بهم هي دراسة سطحية تفتقر الى الدقة والتحقيق فينبغي لكل باحث أن يعطي الموضوع حقه لأن التساهل في الامور يوقع في الخطأ.
ولهذا فإن خطأ صاحب كشف الظنون كان منشأه عدم إحاطته بالموضوع وتساهله في النقل وقد أخطأ هو وأوقع غيره في الخطأ من كتاب عصرنا الحاضر ومنهم: المحامي صبحي محمصاني فاستقى معلوماته من هذا الينبوع.
إذ يقول: أما في فروع الفقه فمذهب الشيعة لا يختلف كثيرا عن مذهب الشافعي حتى أن بعضهم يعتبرونه مذهبا خامسا إلى جانب المذاهب السنية الأربعة. ومن مسائل الخلاف في الفروع: جواز المتعة أو الزواج المؤقت وبعض مسائل الإرث وغيرها(43).
ويقول تحت عنوان الشيعة الإمامية: وأدلة التشريع في هذا المذهب هي القرآن الكريم ثم السنة التي تعود بإسنادها إلى أهل البيت بيت النبي(عليهم السلام) وتسمى بالأخبار ثم الإجماع المشتمل على قول الإمام المعصوم. أما القياس فهو مقبول عند البعض فقط.
وهذا المذهب لا يختلف كثيرا عن المذهب الشافعي في فروع الفقه. وهو يسمى أحيانا بالمذهب الجعفري نسبة إلى الإمام جعفر الصادق وقد تقرر تدريسه مؤخرا في جامعة الأزهر إلى جانب المذاهب(44).
ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى ما جناه كتاب الفرق والمؤلفون في موضوعها من آثار واجترحوه من سيئات فجنوا على الامة فيما اقترفوه وما افتعلوه من احداث عقائد لا يوجد من يعتنقها وأقوال لا يعرف قائلها فألحقوها بطوائف من الامة وسجلوها ضمن سجل الواقع ظلما للحق وتمردا على الحقيقة فنمت مع الأجيال وتطورت مع الزمن وأصبحت كأنها حقيقة ملموسة وهي خيال لا واقع لها.
فلنلق نظرة سريعة على ما كتبوه ونسر معهم قليلا لنقف على حقيقة الأمر.
مع كتاب الفرق
لا اريد أن أتحدث هنا عن الفرق وتعدادها ولا اريد أن أتعرض للحديث الوارد في ذلك من حيث الثبوت أو النفي كلا أو بعضا ولا نريد أن نتسائل عن المراد بالفرقة المشار إليها في حديث الافتراق هل يكون ذلك في العقائد أو في الآراء مع التسليم لصحة الحديث وعدم مناقشته.
وهل استطاع كتاب الفرق أن يحصروا العدد المطلوب وهو ثلاث وسبعون فرقة؟ كما هو منطوق الحديث أم أن هناك زيادة أو نقصانا؟
ولكنا نريد هنا أن نتسائل عن كتاب الفرق الذين دونوا في هذا الموضوع وقد أصبحت كتبهم مصدرا لمن يريد أن يتحدث عن الفرق وعقائدها!!
فهل فسروا مراد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديث الوارد عنه في افتراق امته إلى ثلاث وسبعين فرقة والناجية واحدة فقط؟ وهل حكموا على ما ذهبوا إليه بحجة ظاهرة ليسلموا من المؤاخذة وعظيم الحساب.
ونسأل أيضا هل تجرد اولئك الكتاب عن العصبية الرعناء فكتبوا للواقع من حيث هو بدون تحيز وتحامل لتبدو الحقيقة واضحة كما هي؟
أهم المصادر
ولعل أهم المصادر التي يرجع إليها في تعيين الفرق وتعدادها هي:
1 الفرق بين الفرق: لأبي منصور عبدالقاهر بن طاهر البغدادي الشافعي المتوفى سنة (429 ه) له مؤلفات كثيرة أهمها كتاب الفرق بين الفرق طبع في مصر سنة (1367 ه 1948 م) وترجم "المستشرق هالكن" جزءا منه إلى اللغة الإنجليزية.
2 كتاب الملل والنحل لمحمد بن عبدالكريم الشهرستاني الشافعي المتوفى سنة( 548 ه) طبع عدة مرات آخرها سنة (1368 ه 1948 م) في القاهرة.
3 كتاب التبصير: لأبي المظفر شاهفور بن طاهر بن محمد الاسفرائيني الشافعي المتوفى سنة (471 هـ).
4 الفصل: لأبي محمد علي بن أحمد بن حزم الظاهري المتوفى سنة (456هـ) مطبوع بهامش الملل والنحل في الطبعة الاولى.
* * *
هذه هي أقدم الكتب التي دونت في الفرق وأصبحت مصادر يرجع إليها في البحث عن الفرق وعقائدها والطوائف وآرائها.
وهنا نتساءل أيضا: هل كان أصحابها ممن يوثق بنقلهم تلك الأقوال وعدهم لتلك الفرق؟
وهل جردوا أنفسهم عن رداء العصبية العمياء؟ ورفعوا عن عيونهم غشاوتها السوداء؟
وهل نقلوا تلك الآراء عن مصدر يوثق به؟ ولعلنا نكتفي بالإجابة عن هذه الأسئلة بما نقدمه هنا من آراء بعض العلماء في ذلك.
1 قال الرازي في مناظرته مع أهل ما وراء النهر في المسألة العاشرة عند ذكره لكتاب "الملل والنحل" للشهرستاني: إنه كتاب حكى فيه مذاهب أهل العالم بزعمه إلا أنه غير معتمد عليه لأنه نقل المذاهب الإسلامية من الكتاب المسمى "بالفرق بين الفرق" من تصانيف الاستاذ أبي منصور البغدادي وهذا الاستاذ كان شديد التعصب على المخالفين ولا يكاد ينقل مذهبهم على الوجه الصحيح. ثم إن الشهرستاني نقل مذاهب الفرق الإسلامية من ذلك الكتاب فلهذا السبب وقع فيه الخلل في نقل هذه المذاهب(45).
هذا ما يتعلق بذكر هذين الكتابين ولا حاجة إلى نقل النصوص على ما فيهما من التعصب فإن نظرة واحدة من منصف يجد صحة ما نقول فإنهما نسبا للشيعة بالأخص أقوالا وابتكرا آراء ليست لها من الواقع نصيب ولا تمت إلى اعتقاداتهم بصلة إذ لم ينقلوا تلك الآراء من مصدر موثوق.
2 ولا أبعد بالقارئ الكريم في أعطاء صورة عن هؤلاء جميعا والتعرف عليهم ولنقدم له ما يقوله العلامة الشيخ محمد شلتوت شيخ الجامع الأزهر في العصر الحاضر فهو يصفهم بقوله:
لقد كان أكثر الكاتبين عن الفرق الإسلامية متأثرين بروح التعصب الممقوت فكانت كتاباتهم مما تورث نيران العداوة والبغضاء بين أبناء الملة الواحدة وكان كل كاتب لا ينظر إلى من خالفه إلا من زاوية واحدة هي تسخيف رأيه وتسفيه عقيدته بأسلوب شره أكثر من نفعه ولهذا كان من أراد الإنصاف لا يكون رأيه عن فرقة من الفرق إلا من مصادرها الخاصة ليكون هذا أقرب إلى الصواب وأبعد عن الخطأ(46).
ويقول: ولكن عصور التعصب المذهبي حملت للمسلمين تراثا بغيضا من التراشق بالتهم والترامي بالفسوق والضلال فتبادل الفقهاء أصحاب الفروع نوعا من التهم وتبادل المتكلمون أصحاب العقائد مثل ذلك وتلقف المخدوعون من الخلف هذه التهم وملأوا بها كتبهم في الاعتداد بها حتى جعلوها ما يقبل من الآراء أو يرفض...(47).
3 ويقول الكوثري في مقدمة "الفرق بين الفرق" بعد مدحه لأبي طاهر البغدادي: والمؤلف شديد الصولة على المخالفين كما هو شأن حراس العقيدة والحراسة غير التاريخ المجرد لكن تعويله في عزو الآراء إلى الفرق على كتب الخصوم يوقع في أخطاء ولو اقتصر في العزو إلى ما وجده في كتب أهل الفرق أنفسهم لكان أحوط وأقوم حجة لأن الخصم قد يعزو إلى خصمه ما لم يفه به من الآراء مما يعد لازم قولهم في حين أنه ليس يلازم قولهم لزوما بينا فلا يصح إلزامهم به ولا سيما عند تصريحهم بالتبري من ذلك اللازم(48).
هذا ما يقوله الكوثري مع تساهله مع المؤلف ومدحه واطرائه له ولست أدري ما معنى قوله: والحراسة غير التاريخ المجرد؟
وقد ظهر لنا أن أكثر كتاب الفرق كانوا يستمدون معلوماتهم من كتاب أبي منصور البغدادي وقد عرفنا مقدار تعصبه وتحامله ونقله الأقوال على غير الوجه الصحيح كما يقول الفخر الرازي(49).
وأما الشهرستاني مؤلف كتاب "الملل والنحل" والذي استمد معلوماته من كتاب أبي منصور فقد طعنوا في اعتقاده ونسبوه إلى الإلحاد وأنه متخبط في اعتقاده يميل إلى أهل الزيغ والإلحاد ويناصر مذاهب الفلاسفة ويذب عنهم ومن كان هذا حاله يجب أن يتريث في قبول قوله وصحة نقله(50).
وأما كتاب التبصير: فهو وكتاب "الفرق بين الفرق" توأمان بل هما شيء واحد إلا الاختلاف في التسمية وبعض الزوائد والتقولات لأن صاحب كتاب التبصير هو تلميذ أبي منصور وصهره.
وأما ابن حزم فهو فارس الحلبة وبطل المعركة فقد تقول وافتعل وتهجم على جميع المسلمين ونسب لكثير منهم أقوالا مكذوبة وآراء مفتعلة وكان يتحامل على الشيعة بصورة خاصة وينسب إليهم أقوالا لا قائل لها ويلحق بهم فرقا لا وجود لها كل ذلك تعصبا منه لأنه كان اموي النزعة ومعروفا بموالاته لبني امية.
قال ابن حيان: وكان ابن حزم مما يزيد في سبابه تشيعه لامراء بني امية ماضيهم وباقيهم واعتقاده بصحة إمامتهم حتى نسب إلى النصب. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: وزعم ابن حزم إنه إمام الأئمة يضع ويرفع ويحكم ويشرع ينسب إلى دين الله ما ليس فيه ويقول عن العلماء ما لم يقولوا تنفيرا للقلوب عنهم(51).
وقال أبو العباس بن العريف: كان لسان ابن حزم وسيف الحجاج شقيقين(52).
وقال ابن العماد: وكان ابن حزم كثير الوقوع في العلماء المتقدمين لا يكاد يسلم أحد من لسانه فنفرت منه القلوب(53).
وقال السبكي في الطبقات عند ذكره لكتاب الملل والنحل للشهرستاني: ومصنف ابن حزم أبسط منه إلا أنه مبدد ليس له نظام ثم فيه من الحط على أئمة السنة ونسبة الأشاعرة إلى ما هم بريئون منه ثم ابن حزم نفسه لا يدري علم الكلام حق الدراية على طريق أهله(54).
من هذا يظهر أن الخطة التي سار عليها كتاب الفرق لم تكن خطة تحقيق واستناد إلى مصادر موثوق بها بل هي تخمين وظنون وأساليب خداعة.
وقد انخدع الكثيرون بتلك الأساليب فجعلوها ميزانا للنقد ومقياسا للشخصيات ودليلا يوصل إلى معرفة أجيال مضت وقرون خلت وربطوا بين الحاضر والماضي وقاسوا الامة بالفرد تقليدا ومحاكاة لأولئك المتعصبين من دون إعطاء العقل حرية النظر في تمييز الامور وهذا هو من أسباب الخلاف.
يقول الشيخ محمد أبو زهرة:ومن أسباب الخلاف تقليد السابقين ومحاكاتهم من غير أن ينظر المقلد نظرة عقلية مجردة وأن نزعة التقليد متغلغلة في نفوس الناس. توجههم وهم لا يشعرون وأن سلطان الأفكار التي اكتسبت قداسة بمرور الأجيال تسيطر على القلوب فتدفع العقول إلى وضع براهين لبيان حسنها وقبح غيرها ومن الطبيعي أن يدفع ذلك إلى الاختلاف والمجادلة غير المنتجة لأن كل شخص يناقش وهو مصفد بقيود الأسلاف من حيث لا يشعرون.
وإنه ينشأ عن التقليد التعصب فإن قدسية الآراء التي يقلدها الشخص تدفعه إلى التعصب لها وحيث كان التعصب الشديد كان الاختلاف الشديد(55).
وإن قليلا من التأمل فيما كتبه هؤلاء المؤلفون وغيرهم حول الفرق وفرق الشيعة بالأخص يلقي أضواء على خلطهم وافتعالهم حتى بلغ بأحدهم الجهل فقال: إن فرق الشيعة تبلغ ثلاثمائة فرقة. وهو قول بلا دليل وخبط يدل على الجهل المخيم على تلك العقول التي سيطر عليها الهوى فحجبها عن النظر إلى الواقع.
وكيف كان فإن موضوع الفرق وتعددها ومصدر ذلك وصحته هو موضوع مضطرب وشائك ولا يستطيع الكاتب أن يجزم بصحة ما نقله كتاب الفرق عن أهل المقالات والآراء؛ لأن اولئك الكتاب قد تطرفوا إلى أبعد حد وتقبلوا كل نسبة بدون تثبت وتأمل.
وقد رأينا كيف كان تعصبهم على من يخالف آراءهم فينقلون عنه على غير الوجه الصحيح.
ومن المقرر: أنه لا يصح قول مخالف ما لم يؤيد ثبوته من غير طريقه.
وليس باستطاعة اولئك الكتاب أن يثبتوا شيئا من الآراء التي نسبوها إلى الشيعة؛ فكونوا منها فرقا تجاوزت الحد المعقول من الحصر.
وقد بلغ الأمر إلى استعمال الخيال بما يغذي العاطفة فاخترعوا فرقا وابتكروا آراء تزيدوا فيها من الأوهام وصقلوها بالأسلوب اللطيف حتى أخرجوا ذلك وكأنه حقيقة لا نقاش فيها !!
ويتضح لنا بعد التأمل بأن الدوافع التي أدت بهؤلاء الكتاب وغيرهم إلى أن يعملوا ضمن المخطط الذي ارتأوه لأنفسهم في تعداد الفرق والتزيد فيها مع الخلط والخبط إنما هي العصبية العمياء أو الجهل بالواقع.
ومن الوهن أن نقف أمام نقلهم موقف التسليم والتصديق؛ لأن ذلك يؤدي إلى العجز عن الوصول إلى الحقيقة التي يتطلبها كل منصف وليس من الإنصاف أن يتضح لنا شيء خلاف واقعه فنقره.
خذ مثلا بأن بعضهم قد نسب إلى الشيعة بأنهم يجيزون الشهادة زورا على من خالفهم في المذهب أو العقيدة مع إنا لم نجد أثرا لهذا الزعم ولا قائل به من الشيعة ونحن في امور الفقه نفترض في المخالف الصدق فنعمل على التحري حتى نجد أدلة رده.
وبعد التتبع والبحث وجدنا أن هذا ناشئ من الجهل أو التعصب. وبيان ذلك:
إنهم وجدوا بأن الخطابية يجيزون الشهادة على من خالفهم فاستنتج هؤلاء بأن الخطابية فرقة أدخلوها في قائمة فرق الشيعة وهذا القول لهم فهو إذن لجميع الشيعة.
هذا بالإعراض عن مناقشتهم حول الأسباب التي دعت إلى إلحاق هذه الفرقة بفرق الشيعة مع أنهم يعلمون ويعلم كل أحد وبإجماع المؤرخين أن هذه الفرقة نشأت في مدة قصيرة في أيام الإمام الصادق(عليه السلام) فأعلن براءته منها وأمر شيعته في محاربتها وقد قضى عليها بذلك فمحيت من صفحة الوجود.
إذن فمن هم الخطابية الذين ينسب إليهم هذا القول؟
والجواب: بأن الخطابية الذين يذهبون لهذا الرأي هم فرقة من المجسمة والذين ينتمون إلى الحنابلة ولنترك تعريفهم وبيان ذلك إلى أحد علماء السنة المبرزين؛ وهو أبو نصر عبدالوهاب بن تقي الدين السبكي(56) قال:
وقد بلغ الحال بالخطابية وهم المجسمة في زماننا هذا فصاروا يرون الكذب على مخالفيهم في العقيدة لا سيما القائم عليهم بكل ما يسوؤه في نفسه وما له وبلغني أن كبيرهم استفتي في شافعي أيشهد عليه بالكذب؟
فقال: ألست تعتقد أن دمه حلال ؟!.
قال: نعم.
قال فما دون ذلك دون دمه فاشهد وادفع فساده عن المسلمين.
قال السبكي: فهذه عقيدتهم يرون أنهم المسلمون وأنهم أهل السنة ولو عدوا عددا لما بلغ علماؤهم ولا عالم فيهم على الحقيقة مبلغا يعتبر ويكفرون غالبا علماء الامة ثم يعزون إلى الإمام أحمد بن حنبل وهو منهم بريء .
وبهذا يتضح أن الفرقة الخطابية الاولى التي نشأت لأغراض سياسية وعقائدية ضد الإسلام عامة وضد أهل البيت بصورة خاصة قد اتفقت بالتسمية مع المجمسة من الحنابلة فإطلاق هذا الاسم يشمل الطرفين ولكن من أين لنا الحصول على من يقف موقف المنصف المتثبت فيعطي الموضوع حقه ولا تأخذه في الحق لومة لائم فيميز بين الصحيح والفاسد والحق والباطل.
وقد قلت سابقا: إن اتهام الشيعة بكثير من الأشياء لما لم تكن مبنية على أساس وثيق أو قاعدة بينة كثر الخلط والخبط والكذب والافتعال فأخذ السليم بالسقيم والبريء بالمتهم وعلى سبيل المثال ذكرت هناك الاشتباه الحاصل من التسمية فمثلا: إن اسم الجعفرية أصبح علما لأتباع الإمام جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام). ولكن توجد هناك فرقتان للمعتزلة بهذا الاسم(57) ولهما أقوال وآراء فخلطوا أقوال الجميع ونسبوا ذلك إلى الشيعة لأنهم يعرفون بالجعفرية.
وكذلك قولهم في المقنعية أتباع المقنع الخراساني المقتول سنة (163 ه) بأنها فرقة من الشيعة مع عدم الصلة بين الشيعة وبين المقنع ولكن الاشتباه نشأ من التسمية وذلك أن اسم المقنع هو هشام بن الحكم ومن المعروف أن هشام بن الحكم هو اسم رجل من كبار تلامذة الإمام الصادق(عليه السلام) ومن العلماء والمتكلمين فاتفق اسم المقنع مع اسم هشام فنسبت آراء المقنع إلى هشامبن الحكم بدون تمييز وتمحيص.
وكذلك نسبوا إلى هشام فرقة تعرف بالهشامية وهم أصحاب هشام بن عمر الفوطي وهو من المعتزلة وكان معاصرا إلى هشام وكانت له آراء وأقوال فخلطوا بين الاسمين عن عمد أو غير عمد.
ولا يسعنا بهذه العجالة أن نلم بأطراف هذا الموضوع من حيث أهميته فإنه موضوع مهم وقد تلاعبت به رجال استمالهم الهوى فحادوا عن طريق الواقع وخلطوا بين الآراء وخبطوا خبط عشواء إذ لم يقفوا موقف المؤرخ الواقعي الذي يستنطق الحوادث ويقابل ويقارن ويقارب ويوازن ويدرس الدوافع التي أدت إلى إيجاد كثير من تلك الامور التي سجلت على ما فيها من نقض ومخالفات للحقيقة.
والناظر فيما سجله كتاب الفرق حول الآراء والمعتقدات وبالأخص ما نسب إلى الشيعة يقطع بأن سيرة هؤلاء الكتاب هي واحدة في النقل بل هي أقرب إلى التقليد والتلقين إذ لم نجد منهم من يعالج الموضوع معالجة علمية ليخرج في نتيجة مرضية.
وهكذا بقي موضوع الفرق بدون أن يحظى بإنصاف المؤرخين وعناية المحققين الذين يهمهم اظهار الحقيقة حتى جاء دور المستشرقين فزادوا في الطين بلة وأضافوا الموضوع تعقيدا بأخطائهم وان أخطاء المستشرقين قد أوقعت كثيرا من الكتاب بأفظع الاخطاء لما كانت تندى به اقلامهم من تعابير أو تصوير كلها لا تلتئم مع الحقيقة.
إذ من الواضح أن الاستشراق يرجع كله في نشأته الاولى إلى التبشير بالدين النصراني وأن معظم المستشرقين كانوا من الرهبان لأن المؤسسات التي اسست للتبشير في النصرانية هي المصدر لهؤلاء المستشرقين وهم آلة للحصول على السيطرة والقضاء على الإسلام. فهم يحرفون النصوص ويغيرون الصور.
ومن المؤسف له أن أكثر كتابنا اليوم يطلون على التاريخ الإسلامي أو تاريخ الفرق بالأخص من الزاوية التي فتحها الغرب بواسطة المستشرقين وناهيك بما وراء ذلك من صور وألوان مخالفة للحقيقة.
وبهذا أصبح الإطار العام للأحداث هو غير الإطار الذي يجب أن توضع فيه.
وحيث كان موضوع البحث عن الفرق يحتاج إلى دقة وتأمل في سير الحوادث والتطور وهو إلى الآن لم ينل بمزيد الأسف دراسة عادلة وخوضا دقيقا وتمحيصا. فنحن نأمل أن ينال هذا الموضوع دراسة دقيقة لإخراج الزوائد وإيضاح ما ابهم وبيان ما اشتبه بعضه ببعض في توجيه أشعة التاريخ الصحيح على تلك النسب وتدقيق لتلك الأقوال من حيث صحة أصلها ودقة روايتها وكونها في ذاتها قابلة للتصديق وكذلك من حيث المستوى العقلي والخلقي والعقائدي لكتابها مع البحث عن الدوافع التي تحوط بها.
وبعد هذا يمكن الحكم على كثير من تلك الامور بأنها حقيقة أو أنها أكاذيب لا واقع لها بل هي أحاديث سمر وأقوال مجون.
وهناك يظهر زيف تلك الأخطاء الشائعة والأساطير المشهورة التي احتلت مكانا من التاريخ وهي ظالمة له فترغم حينذاك على التخلي عن ذلك الإطار الذي برزت فيه مدة من الزمن.
فيكون ذلك انتصارا للعلم وخدمة للحق وكبتا للنفوس المريضة التي تضرب على وتر العصبية العمياء وتترنح لنغمات الطائفية الرعناء.
قاتل الله الطائفية التي طالت لياليها السود وامتد ظلها الحالك فجنت على الإسلام جناية لا تغفر ونحن نتطلع إلى اليوم الذي يتقلص فيه نفوذ سلطان الطائفية ويزول ظلها المخيف فتحرر العقول من أوهام موروثة وخرافات ممقوتة وما أحوجنا إلى التفاهم في الوقت الذي يقف الإسلام فيه موقف الصراع مع اولئك الذين يحاولون أن يتغلبوا على عقول أبنائه ليجردوهم من عقائدهم ويسخروهم لأغراض سياسية أو غير سياسية!
إن الواجب يقضي علينا أن نتنبه لهذا الخطر وأن نسدل اليوم دون حوادث الماضي حجابا كثيفا ونسعى قلبا وقالبا ليتناسى المسلمون ما شعب وحدتهم في الدهر الغابر فالخلاف مهما كان وكانت الدواعي إليه قد انقضى عصره وأن أهل بيت واحد يرون الخطر يتهددهم من كل مكان لأحرياء بأن يتناسوا ما بينهم من اختلافات طفيفة ويهبوا يدا واحدة للقضاء على من يريد بهم السوء ويستغل ما شجر بينهم ليذلهم ويجعلهم مطية لمطامعه وأغراضه.
وإن تلك العوامل المتداخلة في تفرق المسلمين شيعا وأحزابا وكان من وراء ذلك حوادث مؤلمة قد ملأت صفحات من الكتب فغيرت مجرى التاريخ وأوقعت كثيرا من النكبات والكوارث كان أهمها وأشدها أثرا هو التعصب للمذاهب والخلاف في الرأي ويصحب ذلك وجود الفرصة المناسبة لخصوم الإسلام الذين نظروا إليه نظرة معادية فنظموا له حملات الانتقام في ظل ذلك الصراع الفكري والعقائدي لتفرقة الصف وقطع عرى الاخوة.
ونحن المسلمون بحاجة ماسة إلى أن نبني علاقاتنا على اسس الإيمان بالله وما جاء به النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأن نزيح عن طريقنا تلك العقبات التي أوجدتها الطائفية الرعناء فإن الإسلام يمر اليوم بمرحلة هي من أعظم المراحل التي يجتازها في تاريخه.
(1)
(2) تاريخ بغداد ج13 ص412.
(3) همم ذوي الأبصار ص51.
(4) الغيث المسجم في شرح لامية العجم ج1 ص165.
(5) المنتظم ج10 ص239.
(6) مرآة الزمان ج8 ص44.
(7) تاريخ دول الإسلام للذهبي ج2 ص24.
(8) مرآة الجنان لليافعي ج2 ص242.
(9) ذيل تذكرة الحافظ ص316.
(10) تذكرة الحافظ ج3 ص375.
(11) مناقب أبي حنيفة للمكي ج1 ص174.
(12) حجة الله البالغة للدهلوي ج1 ص123.
(13) الحضارة العربية ج2 ص88.
(14) حضارة الإسلام للمؤرخ الهندي خدا بخش من ص45 إلى ص60 تجد هناك بعض تلك الاتهامات ذكرها هذا المؤرخ من مصادرها وناقشها.
(15) فجر الإسلام ج3 ص30 ـ 36.
(16) هذه القصة يرويها ابن خلكان في الوفيات ج3 ص4 وج1 ص455 طبعة بولاق عن ربيع الأبرار وأنّها كانت في خلافة عمر وهذا بعيد جداً لأن وفاة عمر كانت سنة (23 هـ) وكان يزدجرد في ذلك الوقت حياً قوي الجانب كثير العدة ولم يذكر أحد من المؤرخين سبي بناته في حياته ولم يقتل إلاّ سنة (31 هـ). هذا من جهة ومن جهة اُخرى أن محمّد بن أبي بكر كان صغير السن آن ذاك، لأن ولادته كانت في حجة الوداع. راجع في ذلك سير أعلام النبلاء ج3 ص481 ـ 482 / 104 تهذيب الكمال ج24 ص541 /5097.
(17) راجع: فجر الإسلام ج1 ص277.
(18) تاريخ المذاهب الإسلامية لأبي زهرة ج1 ص41.
(19) انظر مقدمة الانتصار للخياط.
(20) رسالة حملة الإسلام ص23 تأليف محبّ الدين الخطيب وهو رجل معروف بشذوذه الفكري وأسلوبه التهجّمي.
(21) فجر الإسلام ج1 ص277 ـ 278.
(22) تاريخ الإسلام السياسي ج1 ص322.
(23) الحديث والمحدثون ص91 ـ 92.
(24) إسلام بلا مذاهب ص112.
(25) إسلام بلا مذاهب ص112.
(26) العقيدة والشريعة في الإسلام ص232.
(27) العقيدة والشريعة في الإسلام ص209.
(28) أنظر ظهر الإسلام لأحمد أمين ج2 ص58.
(29) انظر معجم الشعراء للمرزباني.
(30) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج4 ص58.
(31) الغدير ج2 ص102.
(32) تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر ج3 ص407.
(33) مناقب أبي حنيفة للموفق ج1 ص 171.
(34) تاريخ التربية الإسلامية ص345.
(35) المبسوط للشيخ الطوسيج1 ص141.
(36) هو الشيخ مصطفى بن عبدالله الحنفي المتوفى سنة (1067 هـ) ولد باصطنبول سنة (1017 هـ) وهو معروف بين العلماء بلقب (كاتب جلبي) وبين زملائه الكتاب بلقب حاج خليفة لقّبوه بذلك بعد أن حجّ وترقّى بين الكتاب ـ في القسم الذي كان موظفاً فيه ـ إلى رتبة النيابة عن رئيس القسم على مصطلح العثمانيين وذلك أنّ صغار الكتاب يسمون الملازمين وفوقهم الخلفاء فلذا سموه حاج خليفة ويسمّيه المستشرقون (حاجي قالفة) على طبق ما يلهج به العوام هناك وقد ألف كتباً كان أشهرها كشف الظنون على أسامي الكتب والفنون.
(37) كشف الظنون ج1 ص452، وج2 ص1281 ـ 1286 .
(38) الذي كان وفاته سنة (598 هـ).
(39) الذي كان وفاته سنة (204 هـ).
(40) طبقات الشافعية للسبكي ج3 ص51 ـ 52.
(41) طبقات الشافعية ج1 ص199 وج1 ص232 وج2 ص245.
(42) نعم ألف شيخ الطائفة الطوسي تفسيراً سمّاه �التبيان� وهو غير �مجمع البيان� الذي ألفه الشيخ الطبرسي. ومن المؤسف أن الحاج خليفة لم يفرق بين الطوسي والطبرسي !!
(43) فلسفة التشريع في الإسلام ص55.
(44) المبادئ الشرعية والقانونية ص31.
(45) المناظرات ص25 طبع حيدرآباد.
(46) مقدمة إسلام بلا مذاهب ص7.
(47) الإسلام عقيدة وشريعة ص68.
(48) مقدمة الفَرق بين الفِرق ص3.
(49) مقدمة الفَرق بين الفِرق ص3.
(50) الشافعية للسبكيج3 ص79.
(51) تذكرة الحفاظ ج3 ص324 ـ 327.
(52) شذرات الذهب ج3 ص200 ولسان الميزان ج4 ص200.
(53) الشذرات ج3 ص200.
(54) طبقات الشافعية ج4 ص78.
(55) المذاهب الإسلامية ج1 ص8.
(56) طبقات الشافعية ج1 ص193.
(57) إحداهما أتباع ابن مبشر الهمداني المتوفى سنة (226 هـ) والثانية أتباع جعفر بن حرب الثقفي المتوفى سنة (224هـ).