أدب الشيعة
إذا أردنا أن نتحدّث عن أدب الشيعة فإنّ أهم سماته وأبرز ملامحه هي شدّة تأثره بآداب الإسلام وثقافته أحسن تأثر، واتصف شعراؤهم بذهنية صقلتها التجارب فكانت أكثر ما تعنى بالأفكار العميقة، والمعاني الدقيقة، وهم يمتازون بالعواطف الثورية الهائجة، لاستنهاض الاُمة من كبوتها، وإيقاظها من غفلتها .
وضمّن شعراء الشيعة قصائدهم تلك الصور الفريدة التي تعبّر عن مآسي الدهر وأفعال أعداء الرسول بأهل بيته الكرام. ولئن كانت فاجعة كربلاء واستشهاد السبط الإمام الحسين في نهضة الإباء ضد ظلم اُمية، مصدر إلهام ثر وعطاء فيّاض رسم صور البطولة وجسّد ألوان التضحية، فإنّ سير الأئمة من أهل البيت كانت هي الاُخرى توحي للشعراء بألوان من الحكمة وضروب من التبصّر ممّا يجعل بناء القصيدة قائماً على الفكرة الهادفة، والعاطفة الهيّاجة والمشاعر النبيلة، وترى الجزالة في النظم والتفوّق في القول، وغاية ما يرجوه الشاعر أن ينشد شعره بين يدي إمامه ومرجعه من أئمة الهدى في وقت يتهافت فيه الشعراء على أعتاب الحكّام بنماذج من المديح الكاذب والتملّق الدنيء والود الزائف فتنهمر الهدايا والجوائز من قِبل الملوك وكلّها من بيت مال المسلمين.
لقد كان شعراء الشيعة يأبون الانحدار الى الكذب، واللجوء الى التزلّف للطغاة والظالمين طمعاً في حطام ورغبة في دنيا.
وقد منحهم ابتعادهم عن الدولة وانتصارهم لآل البيت اُسلوباً صريحاً لا أثر فيه للخداع والتملق، ولا يشوهه الحرص الممقوت على الصلات والجوائز .
وإنّ نظرة خاطفة على مواقف اُولئك الأبطال ـ في مقابلة حكام عصرهم وولاة الاُمور الذين انحرفوا عن طريق الحقّ وساروا بالاُمة كما يريدون لا كما يريد العدل ـ تعطينا صورة صادقة عن موقف البطولات التي يتصف بها العربي المخلص لاُمته، والمسلم المتفاني في عقيدته، وقد اشتهر منهم رجال كانت لهم زعامة الأدب وقد حازوا قصب السبق في جميع الأدوار حتى قيل: وهل ترى أديباً غير شيعي؟ .
وإذا أرادوا أن يبالغوا في رقّة شعر الرجل وحسن إبداعه، ومهارته في التصوير، قالوا: يترفّض في شعره .
ولشعراء الشيعة واُدبائهم في المجتمع العربي الأصيل مكانة هامة، فهم من أعيان تلك المدرسة، وفرسان تلك الحلبة، منهم:
الفرزدق بن همام بن غالب التميمي المتوفى سنة (110 هـ) .
وأبو صخر كثير ـ بالتصغير ـ بن عبدالرحمن المعروف بكثير عزة المتوفى سنة (105 هـ) .
والكميت بن زيد الأسدي صاحب الهاشميات المتوفى سنة (126 هـ) .
وإسماعيل بن محمّد المعروف بالسيد الحميري توفي ببغداد سنة (179هـ).
ودعبل بن علي الخزاعي وقيل اسمه الحسن ولقبه دعبل المتوفى سنة (246 هـ) .
حبيب بن أوس أبو تمام الطائي صاحب ديوان الحماسة المتوفى سنة (231 هـ) .
وأبو الفضل منصور بن سلمة المتوفى في عصر الرشيد.
والسيد الشريف أبو الحسن محمّد بن الحسين الرضي المتوفى سنة (406هـ) .
وأمير الشعراء أبو فراس الحمداني المتوفى سنة (375 هـ). وغيرهم :
كابن التعاويذي المتوفى سنة (428 هـ)، والحسين بن الحجاج المتوفى سنة (391 هـ). ومهيار الديلمي المتوفى سنة (428 هـ) والحسن بن هاني المتوفى سنة (196 هـ). والوزير الصاحب بن عباد المتوفى سنة (326 هـ)، والحسن بن هاني الأندلسي المتوفى سنة (362 هـ). والناشيء الصغير المتوفى سنة (366هـ) وغيرهم من شعراء وكتّاب وخطباء .
* * *
وليس الحديث هنا عن أدب الشيعة وأثره في المجتمع كما يقتضيه العنوان. ويتبادر إلى ذهن القارئ، ولكنّنا تحت هذا العنوان نريد أن نشير إلى كتاب صدر بهذا الاسم وهو: أدب الشيعة إلى نهاية القرن الثاني عشر الهجري طبع في القاهرة سنة (1376 هـ 1956 م).
ومؤلف هذا الكتاب هو الاُستاذ عبد الحسيب طه أحميدة المدرس في كلية الأدب العربي بمصر .
والكتاب لم يكن موضوعه أدب الشيعة فحسب، ولكنّه يتعرّض إلى تاريخ التشيّع وتطوره ونشأته، وعقائد الشيعة وفرقهم، فهو كتاب تاريخ أكثر منه كتاب أدب .
والشيء الذي يسترعي الانتباه هو: أنّ المؤلف قد اعتمد على آراء المستشرقين في أبحاثه، واقتبس عبارات كتّاب رددوها من قديم، فلم يأت بشيء جديد في بداية بحثه، وجزم بأشياء كان الأجدر به إمّا تركها، أو مناقشتها حسب ذوقه الأدبي أو التاريخي .
ولا أقصد هنا أن أنقد الكتاب أو أطريه، فهو لا يخلو من دواعي النقد أو الإطراء في آن واحد، وعسى أن تتاح لنا فرصة نستوفي الكلام حوله .
إنّ قصدي ـ والله من وراء القصد ـ تنبيه الاُستاذ على أشياء تستوجب التنبيه عسى أن يتدارك ذلك فيما بعد، ليؤدي بذلك خدمة للحقّ الذي ينشده كلّ مسلم، وإظهاراً للحقيقة التي هي هدف كلّ باحث منصف، فقد انحجبت أنوارها عن أعين عشّاقها بسحب الدجل والتمويه والافتراء، والقول بالباطل، فإنّنا في عصر كؤود يجب أن نهدف إلى تحقيق مبادئ الإسلام، لنجلو عن الحقيقة تلك الغشاوة التي حجبتها عن بعض الأنظار مدة من الزمن، ونتّبع الحقّ والحقّ أحقّ أن يتّبع .
وكيف كان فإني اُبدي بعض ملاحظاتي على ما ورد في هذا الكتاب، وكلي أمل أن يتّسع صدر الاُستاذ لما اُبديه، ولا يحمل ذلك على تحامل أو حقد، فلست بالناقد الحاقد .
وأهمّ شيء اُحاول تحقيقه في هذا البحث هو: رفع سوء الفهم لقضية ابن سبأ، واتخاذها عند كثير من الكتّاب كأساس تُبنى عليها حقائق، ويستنتج منها نتائج يحسبونها صحيحة تقع في أدلّة الاحتجاج، مع أنّ كبرى ذلك القياس وصغراه غير صحيحتين فالنتيجة باطلة .
وقد آن الأوان لتقرير هذه الحقيقة التي يزداد الانتباه الى وجودها بإدراك بواعثها والإصغاء الى القرائن والأدلة على اختلاق سيف بن عمر الكذاب لقضيّة ابن سبأ، وأنّها لم يكن لها ذرّة من الواقع قبل وضعها من قبله.
وسنتناول هنا قضية ابن سبأ ـ وإن أشرنا إليها من قبل ولكن الاُستاذ الأديب قد اعتمد عليها أكثر من غيره، وجعلها دليلاً يسير عليه ليصل إلى الغاية. وما هي إلاّ كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً.
مقدمة الكتاب
ولنقتطف هنا من مقدمة الكتاب بعض ما جاء فيها ممّا يدلّنا بوضوح على منهجه في بحثه، وخطته التي سار عليها بعنوان أنّه أديب .
يقول: يرجع ألفي إلى هذا النوع من الأدب السياسي إلى السنة الثانية من سني دراستي في كلية اللغة العربية، حينما كنت مكلّفاً في دراسة الأدب الاُموي، والوقوف على قديمه وجديده، فإذا أنا أمام ثروة مشرقة من آدابنا الحزبية، تظاهرت على إنضاجها عقول صقلها الإسلام، وهذّبها كتابه، وأقامتها حياة اجتماعية وسياسية...
ويقول: ثم كانت دعوة كريمة، ناشدت أبناء الأزهر وعلماءه أن يدرسوا الأحزاب الإسلامية، ويقفوا على طريق الجدل والحجاج فيها، وناشدتهم ـ بوجه خاص ـ أن تكون دراستهم لنشدان الحقّ، ووجه العلم بعيدة عن التعصّب والهوى...
أما لماذا اخترت أدب الشيعة موضعاً لرسالتي؛ فلأنه ـ أولاً ـ أدب يمجد آل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وينتصر لحقّهم، ويبكي مصارع قتلاهم ولأنّه ـ ثانياً ـ أدب يصور العاطفة المتأججة، والحبّ الصادق، والأدب إذ تظاهرت على إبرازه: عاطفة وإحساس، وعقيدة... كان في عرف المتأدبين جديراً بالبحث وحقيقاً بالحياة...
وبعد ذلك يبين منهجه في البحث ثم يقول: وخصصت فصلاً ثالثاً للعقائد الشيعية وأثرها في الأدب .
وهنا غلبتني أزهريتي فوقفت قليلاً عند جمهرة من هذه العقائد اُناقشها واستدل لها، وعليها، وهنا كذلك وضحت الفكرة الشيعية واستبانت أطوارها فأوجزتها في كلمات قدمت بها رسالتي .
أمّا قسم الأدب، فله منهج في البحث، وسبيل جديد عمدت إلى أدب الشيعة فنثرته بين يدي متوخياً عصوره، مستقصياً مناهجه واُصوله، فإذا أنا أمام أدب يتدرج في حجاجه ومناحيه، تدرج الفكرة الشيعية في سذاجتها وعمقها، فهو عربيّ صريح أيام أن كانت الفكرة الشيعية عربية صريحة، وهو عنيف، ثائر، في الوقت الذي تغلغلت فيه الفكرة الشيعية، وأبرزتها الفواجع العلوية في صور من العقائد، فاستقل لتبيان ذلك الفصل الرابع... إلخ .
* * *
هذا بعض ما اقتطفناه من مقدمة الكتاب لنستنتج منه بعض ما لا بد من إيضاحه قبل الدخول في صميم الموضوع، وهنا اُمور يدركها القراء:
1 ـ إن الأدب الاُموي تظاهرت على إنضاجه عقول صقلها الإسلام، وهذّبها كتابه.
2 ـ وإلى جانب الأدب الاُموي الأدب الشيعي، أو بعبارة أصح الأدب العلوي فهو في نظر الاُستاذ لم يكتسب تلك الدرجة، ولم تصبغه تلك الصبغة الإسلامية من حيث الصقل والإنضاج ـ كما اتصف الأدب الاُموي ـ فالأدب الشيعي أدب عاطفة متأججة، وحبّ صادق يتدرج تدرّج الفكرة الشيعية في سذاجتها... إلخ .
3 ـ إن الاُستاذ في دراسته هذه ينشد الحقّ لذات الحقّ ووجه العلم، وهذا هو اُمنية كل مسلم، وهدف كلّ منصف، وسنرى فيما بعد هل تحقق عند المؤلف ما كان ينشده؟ أم أنّ ذلك لا يعدو إلا القول دون العمل؟ أو أنّه حبر على ورق؟
تعقيب
لا أدري ما هو قصد الاُستاذ من قوله: إن الأدب الاُموي الذي تظاهرت على إنضاجه عقول صقلها الإسلام وهذبها كتاب الله؟
أكان يقصد أدب الخطباء الذين كانوا ينالون من أهل البيت ويعلنون سبّهم؟ أهذه هي العقول التي صقلها الإسلام، وهذبها كتاب الله؟ أم يقصد أدب الشعراء الذين يتقرّبون للأمويين في هجاء العلويين وأنصارهم؟ أمن العقول التي صقلها الإسلام وهذبها كتاب الله عقل حكيم بن عباس الأعور الكلبي الذي يفتخر بقتل زيد فيقول :
صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة *** ولم نر مهدياً على الجذع يصلب
وقستم بعثمان علياً سفاهة *** وعثمان خير من علي وأطيب
قال ابن عساكر: فلما بلغ شعره إلى أبي عبدالله جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام)رفع يده إلى السماء وهما تنتفضان رعدة فقال(عليه السلام): اللّهم إن كان كاذباً فسلط عليه كلباً من كلابك، فخرج حكيم من الكوفة فأدلج فافترسه الأسد فأكله، وأتى البشير أبا عبدالله وهو في مسجد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فخرّ لله ساجداً، وقال: الحمد لله الذي أصدقنا وعده(495)
أهذا الأدب الذي أنضجته عقول صقلها الإسلام، وهذّبها كتاب الله؟ ويكون شعر الكميت الشاعر الشيعي في رثاء زيد بن علي(عليه السلام) شعراً عاطفياً محضاً فمن قوله:
يعز على أحمد بالذي *** أصاب ابنه أمس من يوسف
ـ يقصد يوسف بن عمر الثقفي عامل هشام ـ ولا نضرب الأمثال، إذ ليس من قصدنا التوسع في المقارنة وضرب الأمثلة في هذا الموضوع فهو واسع لا يحاط بقليل من البيان وما ضمّته كتب الأدب والدواوين يعدّ ثروة أدبية متميزة.
وأصارح الاُستاذ بأنّ ما ذهب إليه في هذا الموضوع خطأ، وإن حصلت عنده قناعة شخصية فهي تزول بقليل من التأمل .
أما قوله إنّ الأدب الشيعي يصور العاطفة المتأججة والحبّ الصادق وإنّه أدب يمجد آل الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) . فهذا هو الواقع فإنّ الشيعة قد أحبّوا أهل البيت حباً صادقاً، واعتقدوا بهم اعتقاداً لم يخرجوا به عن حدود ما رسمه الإسلام .
فهم أهل بيت الرسول الذين أمر الله بمودتهم، والرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أوحى بإكرامهم، وحفظهم، وقد قرنهم بالكتاب العزيز، وهم حبل الله الذي أمر بالاعتصام به، وهم كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تأخر عنها غرق وهوى و.. و...
فحبّهم كان لله ورسوله لا حب دنيا، وفي ذلك يقول الشاعر العبلي الاُموي النسب، والعلوي العقيدة :
شردوا بي عند امتداحي علياً *** ورأوا ذاك فيّ داء دوياً
فوربيّ لا أبرح الدهر حتى *** تختلي مهجتي بحبي علياً
وبنيه لحبّ أحمد أنّي *** كنت أحببتهم لحبّ النبيا
حبّ دين لا حبّ دنيا وشرّ الـ *** ـحبّ حبّ يكون دنياويا(496)
ويقول شاعرهم الكميت :
ما اُبالي إذا حفظت أبا القـ *** ـاسم فيه ملامة اللوام
لا اُبالي ولن اُبالي فيهم *** أبداً رغم ساخطين رغام(497)
وعلى هذا يسير الأدب الشيعي في طريق أهل البيت، وما أكثر الأمثال على ذلك! ولا أخطىء إن قلت إنّه أكثر من أن يحصى. فحبّ الشيعة لأهل البيت إنّما هو حب لله ولرسوله، امتثالاً لأمره(صلى الله عليه وآله وسلم) إذ يقول :أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني بحب الله وأحبوا أهل بيتي بحبي أخرجه الترمذي عن ابن عباس(498).وقوله(صلى الله عليه وآله وسلم): أيّها الناس إني اُوشك أن اُدعى إلى لقاء ربّي فأجيب وإني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإن اللطيف الخبير أخبرني: أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض فانظروا بماذا تخلّفوني فيهما(499)
إلى كثير من وصاياه(صلى الله عليه وآله وسلم) التي أكّد فيها وجوب المحافظة على العترة، والولاء لهم بما يطول المقام بذكر بعضها، وقد أشرنا إلى البعض من وصاياه(صلى الله عليه وآله وسلم) فيما سبق.
والخلاصة أنّ حبّ الشيعة حبٌ صادق لا لغرض من حطام الدنيا، وقد تحمّل الشيعة في سبيل المحافظة على وصايا الرسول ما لا يمكن إنكاره .
وإنّ العاطفة التي يذكرها الاُستاذ إنّما هي شعور بالمسؤولية التي تدعو إلى التضحية وتحمل على الوقوف الى جانب الحقّ، وهذا الشعور هو الذي جعل الشيعة اُمة ثورية مما دعا إلى تجمع القوى المختلفة ضدّها، فكان ما كان من دعاية وتهريج واتهام بالباطل، والرمي بكلّ كريهة... إلخ.
والاُستاذ يدرك هذا وقد أشار إليه في بعض أبحاثه وتعرضنا له من قبل .
وقد نوهنا برقة الشعر الشيعي أو فقل برقة المشاعر الشيعية عامة، لأنّ المآسي والأهوال التي أصابت أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام تثير مشاعر مصحوبة بعواطف مشبوبة وأحزان متدفقة تجعل من الشاعر الشيعي مصوراً للأحداث بقصيدِهِ وناطقاً بالحقّ بعواطفه حيث تتداخل العقيدة وما تبثه النفس فهؤلاء أئمتهم عترة المصطفى وهم أثر وجوده وبقية نسبه تتلاقفهم السيوف وتغصّ بهم السجون وتزدحم برفاتهم ساحات الحروب، ففي كلّ زاوية نصّ من عقيدة يحضّ على ولايتهم وحبّهم، وفي كلّ ناحية من الدنيا ألوان من الفجائع والمآسي التي تثير عواطف ممّن ليسوا على دين الإسلام فكيف بمن ينذر نفسه لصاحب الرسالة وللذبّ عن مبادئ القرآن وحملتها من أهل البيت النبوي الكريم؟ لابدّ أن يكون الشعر الشيعيّ فيّاضاً بالعاطفة مملوءً بالإيمان.
* * *
3 ـ وأمّا النقطة الثالثة فإنّها بادرة حسنة، والأزهر الشريف جدير بأن يقوم بهذا العبء، ونحن نناشد المصلحين من الكتّاب والمؤلفين الذين يدرسون تاريخ الشيعة أن تكون دراستهم لنشدان الحقّ، ووجه العلم بعيدة عن التعصب والتحيز، ولا سيما في هذا العصر الذي اشتد فيه وعي المسلمين ـ بعد طول تجارب ـ بالحاجة إلى الدعوة في الجمع كلمة الاُمة الإسلامية، وقد سعى المصلحون إلى تقاربهم عن طريق التفاهم، والشعور بوجوب ترك ما خلفته العصبية السوداء والطائفية العمياء، ونسيان مآسي الماضي في عصور اشتدّ بها النزاع الحاد بين المسلمين، وما جرى بسببه من دمار وانهيار .
ونسأل الله جلّت قدرته أن يهي للمسلمين من أمرهم رشداً، وأن يجمع بين قلوبهم، وينزع ما في صدورهم من غل ـ على بعضهم البعض ـ فيصبحوا بنعمته إخواناً كما أراد الله لهم ذلك، وجاء به رسوله الأعظم..
ثم يتحول الاُستاذ هذا من اختصاصه بالأدب إلى محدّث ناقد، وراوية مختص فهو يجوز علمياً بحكم تخصصه بالأدب أن يتجاوز ذلك فيتناول موضوع الأحاديث الموضوعة، ويسير على نفس الطريقة التي سار عليها غيره من الكتاب في اتهام الشيعة بوضع الحديث دعماً لما يدعونه، وحجة يقصدون بها تقوية مذهبهم كما يقول في ص14 :
وهذه الدعاوى ـ أي الشيعية ـ لا بدّ لها من حجج تعضدها وتقوّيها، فالتمسوها في القرآن يؤولون آياته، والحديث يفسرون نصوصه، وليس من سبيل إلى اختراع قرآن يتفق مع مذهبهم، ويسدّ حاجة نفوسهم، فعصم الله قرآنه منهم، ولكن السبيل سهل ميسور إلى اختراع الأحاديث، والكذب على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) والتقوّل على أبنائه(عليهم السلام)فوضع الشيعة الأحاديث في فضل علي... إلخ .ونحن نقول :
ولذلك وضعنا كتاب حميدة في جملة من رأينا ضرورة ردهم من بين عشرات أو مئات الكتب التي تقطر حقداً وكذباً، ومثل هذا القول من أوضح آيات العجز ومن أدل الاُمور على القصور عن سلوك طرق العلم واتباع أساليبه، فهذه العبارات أو هذا التعبير لم يكن بالشيء الجديد ولم يكن هو صاحب هذه الفكرة وإنّها وليدة دراسته الأدبية.
إنّها ألفاظ مجّها السمع لكثرة تردادها، وملت الصحائف منها لكثرة سوادها. وإلاّ فإن العلم الذي أهّل أصحاب الشهادات لحمل الألقاب وتبوّء المناصب يقضي بالإنصاف والاطلاع على الآثار والأفكار بتجرد، ومن أبسط مواصفات المثقف طرح التعصب، لأنّه عدو العلم ولا يؤدي بمن سلك طريقه إلاّ البوار.
هذا عين ما نطق به المستشرقون(500) وتبعهم المقلّدون، وكنا قريباً نناقش الاُستاذ الذهبي حول هذه الفكرة والتي لا يخلو منها كتاب جديد وما هو بالشيء الجديد .
وأقول لماذا يتكلّف محبّو علي(عليه السلام) وضع أحاديث في فضله حتى تتحمّل وزره إلى يوم الدين، كما يقول المؤلف؟
كأن الإمام عليّاً(عليه السلام) لم تكن له فضائل واقعية حتى يلجأ محبّوه إلى الفضائل الادعائية، وهل هناك مسلم ينكر ما جاء لعلي من الفضائل؟
إنّ قول المؤلف هذا هو بعيد عن الواقع، ولو أنّه تعمق في الدراسة، ونظر الموضوع بعين الإنصاف لما عبر بقوله في ص15: فما لعلي والمهدي المنتظر، وما لعلي والتحدث عن الدول المستقبلة، وموقعة كربلا، وولاية الحجاج، وما سيكون! ولكن الشيعة تريد أن تدعي لعلي من الفضائل ما لا يتحمله بشر، وتضعه في منزلة تساوي إن لم تفق مقام الرسالة.
إنّها لعمر الله جرأة على الحقّ، إنّه يشير بطرف خفي إلى التشكيك في نهج البلاغة، والذي أحدث هذا التشكيك هو ابن خلكان في القرن السابع الهجري، وأخذه من بعده المغرضون، فوسّعوا دائرته من دون رعاية للحقّ.
ولهذا فقد التزم المنصفون بردّ ابن خلكان، وإثبات ما أورده الشريف الرضي من مصادر قبله بعدّة سنين .
وقد كانت خطب الإمام علي في القرون السالفة هي المعوّل عليها عند الخطباء وعليها تدور خطاباتهم .
وقد حفظ الناس عنه الخطب، فإنّه خطب بأربعمائة خطبة، حفظت عنه وهي تدور بين الناس، ويستعملونها في خطبهم وكلامهم(501).هكذا يقول المؤرخ ابن واضح وهو من أعلام القرن الثالث الهجري، وليس من قصدنا في هذا العرض أن نتعرض لهذه المسألة، ولكن المؤلف طلع علينا بصوره مَن ينشد الحقّ ووجه العلم، ومن الحقّ تنبيهه على خطئه وسوء تعبيره .
وما أبعد قوله هذا عن الحقّ ووجه العلم ورميه الشيعة بادعاء الفضائل لعلي(عليه السلام)... إلخ. لم يكن إلاّ انصياعاً للعاطفة، وخروجاً على الحقّ وابتعاداً عن العلم .
إنّ عليّ بن أبي طالب لم يكن بحاجة إلى الفضائل الادعائية، فهو أجلّ من ذلك .
ولنترك ما جاء من طريق الشيعة ونولّي وجهنا شطر ما ورد في كتب المسلمين من غير الشيعة، فهل بإمكان أحد أن يدّعي ذلك بأنه من الاُمور الادعائية نصرة للمذهب بقول الإمام أحمد بن حنبل: ما ورد لأحد من الصحابة من الفضائل بالأسانيد الصحاح مثلما ورد لعلي(عليه السلام)(502) ؟
وبهذا قال إسماعيل القاضي والنسائي وأبو علي النيسابوري وغيرهم(503).
* * *
وعلى أيّ حال فإنّ علي بن أبي طالب(عليه السلام) قد اختص بمزيد فضل وعلوّ منزلة لا يدانيه فيها أحد؛ فقد ربّاه النبي في حجره ونشأ في ظلّه وتغذّى تعاليمه منه، وأودعه أسراره(504) ولازمه طول حياته، وسبق إلى تصديقه في الرسالة قبل كلّ أحد ولبّى دعوته في مؤازرته يوم نزلت: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَْقْرَبِينَ)وفداه بنفسه يوم أزمع كفار قريش على قتله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأمره الله بالهجرة(505).واختصه النبي بمؤاخاته يوم آخى بين أصحابه فأخذ بيد علي(عليه السلام) وقال: هذا أخي(506) وهو منه(صلى الله عليه وآله وسلم) بمنزلة هارون من موسى(507) وكان أصحاب محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)يعبرون عمّن سبّ علياً بأنّه قد سبّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)(508) كما كانوا يعرفون المنافقين ببغضهم لعلي بن أبي طالب(عليه السلام)، لأنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: يا عليّ، لا يحبّك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق(509)
قال جابر بن عبدالله، ما كنا نعرف المنافقين إلاّ ببغضهم عليّاً، ومثله عن أبي سعيد الخدري(510).وقد شهد النبيّ لعلي في إقدامه وشدّة بلائه في الله وقوة إيمانه ومحبته لله ورسوله ومحبة الله ورسوله له بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم خيبر: لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّه الله ورسوله ويحبّ الله ورسوله يفتح الله على يديه.
أخرجه البخاري في عدّة مواضع من صحيحه ومسلم وأحمد بن حنبل وأبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم.
إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) شهد لعلي(عليه السلام) بهذه الشهادة في أحرج المواقف عندما اعتصم اليهود في حصونهم ولم يستطع أحد من الاقدام فيكون الفتح على يديه فأعلن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّ الفتح لا يكون إلاّ عند رجل هذه صفته وهو علي(عليه السلام)الذي يحبّه الله ورسوله، ويحبّ الله ورسوله .
قال ابن تيمية: إنّ في ذلك شهادة لعليّ(عليه السلام) بإيمانه باطناً وظاهراً وإثباتاً لموالاته لله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ووجوب موالاة المؤمنين له(511).
* * *
ويمكننا أن نقول بإيجاز: لو لم تكن السياسة قد كمنت وراء الواقع ونصبت حبالها لمن ينطق بالحقّ لما تجرّأ أحد على كثير من الحقائق؛ ولما استطاع أحد أن يتجاهل اُموراً هي كالشمس في رائعة النهار أو تحدثه نفسه بالتشكيك أو التطاول، ولولا بقايا تلك الأعمال التي لجأ الطغاة والخوارج في النيل من الإمام علي علامة استفهام وتعجب .
وإنّ الاُستاذ الأديب في إثارته لهذا الموضوع ليثير عندنا كثيراً من الشكوك في تفهمه للقضايا وتعمقه في دراسة الموضوع وحيث كنا بمعزل عن قصد الخوض في مثل هذه الأبحاث فإنّا نترك بسط القول فيه ونكتفي بأن نلفت نظر الاُستاذ إلى التوسع في الدراسة ليقف على اُمور تكشف له حقيقة الواقع .
وإذا أردنا الخوض في هذا الموضوع فباستطاعتنا أن نقدّم له آلاف المناقب المفتعلة لاُناس هم دون علي ولا يجارونه في الفضل وشرف المحتد وعلوّ المنزلة، ونحن نؤثر أن نترك هذا الموضوع فما هو بالشيء الجديد أو البحث الذي لم يدرس، ولا تجنّيه وافتئاته بغريب على واقع العلم والأدب.يقول المؤلف في ص16:
اقرأ ـ إن شئت ـ في أوثق كتبهم وأصحّها عندهم لترى كيف أصبح التشيّع بعد القرن الثاني ـ خاصة ـ عقيدة تشل الفكر وتميت العقل كما أصبحت خطراً على الإسلام والمسلمين وشراً مستطيراً على الدين.. ثم ينقل عن أحمد أمين في ضحى الإسلام 3: 213 حديثاً عن الكافي وإن الكافي هو كالبخاري عند أهل السنة .
أقول :
أورد المؤلف هذا بعد كلام طويل أعرضنا، عنه لأنّ الخوض فيه يدعو إلى الإطالة وفيه أيضاً تعبير عمّا يحمله الاُستاذ من فكرة خاطئة حول الشيعة وتطور نظرية الإمامة، وهو بهذه الأفكار يلتحق بالجماعات الذين شهدناهم على مرّ التاريخ وقد ملؤا الصفحات الطوال للاساءة للشيعة، فرأينا الإعراض عنها أولى من التعرّض لها .
وهنا يحكم الاُستاذ الأديب بأنّ عقيدة الشيعة ـ أو التشيّع ـ تشل الفكر وتميت العقل؛ بمعنى أنها عقيدة جامدة لا مجال فيها للعقل وحكمه ولا حق للتفكير فيها، هكذا يقول .
والاُستاذ لم يحسن التعبير، فإنّ هذا القول المفتعل أو هذه النظرة لم تكن من بنات أفكاره وإنّما هو مقلّد فيها للمستشرقين؛ فهم قد إدّعوا ذلك(512)، ولم يستطع الاُستاذ أن يطلق لفكره العنان في صحة ذلك، ونكتفي بالجواب عمّا أورده هنا برد الاُستاذ عباس محمود العقاد لهذه الشبهة التي أثارها المستشرقون إذ يقول ـ في بحثه حول الاختلاف فيما يتعلق بمواضع النظر وأسباب الفهم والتفكير ـ :
هكذا خطر لبعض المستشرقين وكتّاب الغرب، الذين بحثوا في علاقة اختلاف الشعوب باختلاف مذاهب النظر والاجتهاد، فظن بعضهم أن طوائف الشيعة آمنت بالإمام، لأنّها ورثت تقديس الرؤساء والأحبار، وقيدت من حقّ العقل في البحث والفهم، بمقدار ما أطلقت من سلطان الإمام، ووكّلت إليه من حقّ القيادة وإلارشاد .
وفي هذا الظن من المستشرقين وهم لا شكّ فيه؛ لأنّ هذه المسألة بذاتها ـ مسألة الدراسة العقلية ـ قد كانت في طليعة المسائل التي اشتغل بها الشيعة الإماميون، ومن أفوه الشيعة الإماميين تلقى اساطين الفلسفة الإسلامية كلامهم في العقل والنفس، وفي مذهب الافلاطونية الحديثة، ومذهب افلوطين منها على التخصيص، ويقول الشيخ الرئيس ابن سينا فيما رواه عنه تلميذه الجوزجاني: كان أبي ممن أجاب داعي المصريين ويعدّ من الإسماعيلية، وقد سمعت منهم ذكر النفس والعقل، على الوجه الذي يقولونه، ويعرفونه وكذلك أخي .
والفارابي اُستاذ ابن سينا بالاطلاع والقدوة نشأ فيما وراء النهر، ووعى أقوال الشيعة الإمامية في شروط الإمامة، ومزج بينها وبين شروط افلاطون في كتاب الجمهورية، فجعل الإمام صفوة الخلق في كمال الصفات، واجتماع الفضائل العقلية والنفسية، بل فضائل الجسد التي نزهت عن شوائب الضعف والمرض، وكان إخوان الصفا يدينون بمذهب في الإمامة كهذا المذهب، ويؤلّفون الرسائل مع هذا في المنطق، وفي علوم الرياضة، والفلك وما إليها، من علومهم العقلية .
فالدراسات المنطقية، وسائر الدراسات العقلية ـ كانت من شواغل الشيعة الإماميين، ولم يكن إيمانهم بالإمامة مما يصرف العقل عن التوسع في علم من العلوم، وربما أخذت عليهم طوائف المسلمين إفراطاً في هذا الباب، ولم تأخذ عليهم تفريطاً فيه يتعمدونه أو يساقون إليه على غير عمد(513).* * *
هذا ما اقتطفناه من كلمة الاُستاذ العقاد في ردّه على المستشرقين حول فكرتهم الخاطئة ـ وكم لهم من أخطاء ـ فيما يكتبونه عن الإسلام، وبصورة عامّة، وعن الشيعة بصورة خاصة، للأسباب التي مر ذكرها(514).
ومن المؤسف له أنّ كثيراً من الكتّاب قد تأثروا تأثراً أخرجهم عن حدود ما يجب عليهم أن يتّبعوه في كتاباتهم ومنهم المؤلف .
وإنّ القول بأنّ الشيعة قد قيّدوا العقل أو أنّهم جامدون إلى آخر ما في حقيبتهم من أفكار خاطئة ينطوي على غرض لا يخفى على أي منصف، فقد رأينا أصل مثل هذا الاتهام، وجاء البعض وسمح لنفسه بأن يأخذ أفكاره من المستشرقين وهم من قادة حملة السيطرة الأجنبية وأدوات النهب الاستعماري ومن السهل أن يعتذر الإنسان للأجانب ويتسامح معهم، لأنّ عوائق كثيرة تحول دون استيعابهم للاُمور وتمثلهم للمسائل، ولكن بماذا نعتذر لمن هم من أبناء الإسلام؟
ويبقى الباحث بين ترديد هذه الدعاوى وجريانها على أقلام إخواننا وأبنائنا وبين صفات التخصص والمراكز والألقاب العلمية في حيرة.
فإذا جهل الاُستاذ حميدة أنّ الشيعة كيما يخففوا من آثار سياسة الحاكمين في تقييد العقل وحرية الرأي جعلوا العقل قبل القياس في حركة الرأي ولم يطمئنوا الى القياس خشية أن لا يكون ضابطاً قوياً في استنباط الأحكام فجعلوا العقل محل ذلك، فهل جهل الاُستاذ ما تناوله العلماء والباحثون في الحركة العقلية في الإسلام كحقيقة ثابتة ومساهمات الشيعة الكبرى في كلّ نتاجات العقل الإسلامي؟
يقول الدكتور محمّد ضياء الدين الريس، اُستاذ التاريخ الإسلامي بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة:
إنّ أول من كتبوا في الإمامة كتابة علمية، وأول من تصدّوا إلى إثبات مذهبهم بالأدلة المنطقية، سواء أكانت الأدلة مبنية على أساس ديني ـ ثيولوجي ـ أم عقلي هم: الشيعة، فالشيعة لهم الفضل في خلق هذا النوع من العلم المسمّى بالإمامة، وهم الذين أوجدوه، وأفردوا له مكاناً بين مباحث علم الكلام، وإذا كان من المعروف أنّ علم الكلام فيما يختص بالعقائد الدينية إنّما نشأ كنتيجة للمناقشة والجدل بين الشيعة والمعتزلة وأهل الحديث، فكذلك مباحث الإمامة ـ وهي الجانب السياسي منه ـ إنّما وجدت للنقاش بين الشيعة ومخالفيهم: من خوراج، ومعتزلة، وأهل سُنة.
وهذه الحقيقة ذات دلالة كبيرة؛ إذ أنّه ترتب على أنّ الشيعة هم الذين أوجدوا هذا العلم وأنّهم طبعوه بطابعهم، وصاغوه الصياغة التي ارتضوها .
ومراعاة هذه الفكرة تفسّر لنا أشياء كثيرة: فالشيعة ـ في الغالب ـ هم الذين اختاروا للإمامة مصطلحاتها الفنية، بل هم الذين سمّوها بهذا الاسم، وهم الذين قسّموا العلم وبوّبوا أبوابه وعيّنوا مجاله، ورسموا حدوده، وهذا يشرح: لماذا ظلّ علم الإمامة أو علم النظريات السياسية الإسلامية محصوراً هكذا في نطاق محدود لا يعدوه؟ ولماذا لم يتّسع نطاق البحث فيه حتى يشمل مسائل هامة كان ينبغي لمفكري الإسلام أن يبحثوها؟ فالحقيقة أنّ الشيعة هم الذين وضعوا الأساس، وأنّه كان على غيرهم من أهل الفرق الاُخرى أن يملأوا الفراغ الذي حدّد بها الأساس، وأن يقيموا البناء معتمداً عليه، أو قل ـ بتعبير آخر ـ : إنّ أبحاث الفرق الاُخرى إنّما كانت محصورة في أنّها أجوبة على الأسئلة التي يضعها الشيعة، ولم تكن إلاّ مجموعة من الردود على الدعاوى التي كان الشيعة يبدأون بإثارتها. بهذا شابهت صيغة الجواب صيغة السؤال، وجاء مطابقاً للدعوى التي اُريد منه أن يدفعها(515).ولو أطلق الاُستاذ مؤلّف كتاب أدب الشيعة عقله من عقاله، وجعل لأدبه دوراً في هذا الموضوع؛ لما وقف جامداً على أقوال المستشرقين في اتهامهم للمسلمين بكلّ ما يوافق نعراتهم التعصبيّة والأغراض التي بيّتوها.
وإنّ هذا القول الذي تقبله بدون تمحيص، وجزم بصحته لدليل واضح على عدم خبرته وعدم تعمقه في الدراسة، وإلاّ كيف يعقل أن تكون عقيدة الشيعة في الإمامة (تشل الفكر وتميت العقل) ـ على حدّ تعبير المؤلف ـ؟ وقد كان القرن الثاني عصر جدل ومناظرات حادة، وكانت المجالس تعقد للمناظرة، وتشدّ الرحال للمدارسة والاحتجاج، ولا سيّما في الإمامة.
وقد انبرى للردّ على الشيعة كلّ من الخوارج، والمعتزلة، فكان مناظرات وجدلاً وقد اشتهرت مناظرات هشام بن الحكم المتكلم الشيعي المتوفى سنة (197 هـ) وهو من كبار تلامذة الإمام الصادق (عليه السلام) فقد ناظر علماء المعتزلة كعمر بن عبيد، وأبي الهذيل، وأبي بكر الأصم .
وكان هشام متفوقاً في علم الكلام، وسرعة الجواب، وممن فتق الكلام في الإمامة، وهذّب المذهب والنظر، وكان حاذقاً بصناعة الكلام ووضع كتاباً في الإمامة(516).ولسنا بحاجة إلى التعرّض إلى رجال الشيعة المتكلمين الذين تفوّقوا بوضوح البرهان وقوّة الحجة، كعلي بن إسماعيل التمار مؤلف كتاب الإمامة والاستحقاق، وهشام بن سالم ومحمّد بن النعمان وآل نوبخت الذين اختصوا بعلم الكلام وخاضوا تلك المنازعات الكلامية، وغيرهم كنصير الدين الطوسي الذي كان آية في التحقيق وحلّ المواضع المشكلة، سيّما لطف التحرير الذي لم يلتفت إليه المتقدمون(517)، لأنّ الأمر بات من الحقائق التي لم يملك أعداء الشيعة من قبل إلاّ الاعتراف بها، سواء كان ذلك منهم على كره ومضض أو عن صدق وأمانة، فإنّ الدور السيّء للمستشرقين بعد فضحه يبيّن لنا فيما جرى عليه المحدثون الذين رضوا لأنفسهم الانقياد لأعداء الإسلام والامتثال لأوامرهم وتقليد أفكارهم.
* * *
اُسطورة
ويختم المؤلف هذا الفصل باسطورة ينقلها ابن عبد ربّه، عن الجاحظ، والجاحظ ينقلها عن رجل من التجار: أنّه حدثه عن شيخ كان معهم في السفينة، شرس الأخلاق، يربد وجهه لذكر الشيعة، فلما سئل عن السبب، قال: ما أكره فيهم إلاّ هذه الشين التي في أوّل اسمهم فإنّي لم أجدها قط إلاّ في كلّ شر، وشؤم وو.. إلخ .
قال أبو عثمان ـ أي الجاحظ ـ فما ثبت لشيعيّ بعدها قائمة(518).هذه الاُسطورة أو الدعابة التي ذكرها المؤلف كدليل على قوله: بأنّ التشيّع أصبح بغيضاً إلى النفس، وسبيلاً إلى السخر والتهكم(519).
وكان الأجدر بالمؤلف وهو يدرس هذا الموضوع بروحه الأدبية كما يقول: نسير في التاريخ السياسي للشيعة بروح الأديب لا بروح المؤرخ، أن يترك الخوض في مثل هذه الأكاذيب التي اخترعوها للدعاية والمجون للحط من خصومهم، والسيطرة على عقول السذّج، لأنّها أساليب تنافي العلم وتكشف عن العجز، ولكن الاُستاذ حميدة مادام قد ارتضى لنفسه منهج الاتباع الذي يلغي العقل والعلم، فلا غرابة أن تكون مادته من ذلك، ولا مانع من أن نحاربه.
وأقول للمؤلف الأديب، لو أنّ السنة كانت موجودة في عصر الجاحظ وكان هذا الاسم معروفاً في ذلك الوقت لوضع الجاحظ إلى جنب هذه الاسطورة اسطورة اُخرى، واخترع من بنات أفكاره وجود شيخ يكره السنة ويبغضهم، لأنّ السين في أوّل اسمهم لا يجدها إلاّ في كلّ سوء، وسقم، وسهاد، وسقر، وسل و. و .
ولكن اشتهار السنة كان في عصر متأخر من عصر الجاحظ؛ لأنّ هذا الاسم لم يظهر إلاّ بعد الثلاثمائة من الهجرة، وإنّما ظهر هذا الاسم في القرن الرابع الهجري .
عندما قام أبو الحسن الأشعري في أول القرن الرابع الهجري في الرد على المعتزلة، بعد أن كان منهم، فأظهر دعوته إلى السنة، ومذاهب السلف(520)فانتشر مذهبه، وأظهر فيه مذهب السنة، وعرف اتباع عقيدته بهذا الاسم.
وقد انتشر مذهب الأشعري أيام وزارة نظام الملك، الذي كان أشعري العقيدة، وكان صاحب الكلمة النافذة أيام السلجوقيين، وأصبحت عقيدة الأشعري شبه عقيدة رسمية تتمتع بحماية البلاط.
وزاد في انتشارها وقوتها مدرسة بغداد النظامية التي كانت أكبر جامعة في العالم الإسلامي، كان الانتساب إليها شرفاً وفخراً للطالب والمتخرج ؛ وكانت وظيفة التدريس فيها مجداً للعالم، وشهادة علمية، فكان طبيعياً أن ينتشر المذهب الأشعري ويسود في العالم الإسلامي(521).والغرض أنّ أمثال هذه الاُمور ليس من العسير اختراعها في عصور اشتد فيها الخصام حتى اختل فيها توازن النقد والتهجم.
ومن الغريب إيراد أمثال هذه الأساطير في معرض الاستدلال والأبحاث الأدبية، ولا أدري ما معنى قوله: فما ثبتت لشيعي بعدها قائمة؟ هل أنّ أثر هذه الاُسطورة قضى على دعوة التشيع فاستراح خصومهم، وهدأ جوّ المنازعات، إذ انتهى الدور الذي كان يدعو لذلك بمجرد أن تكلّم ذلك الشيخ المجهول؟
أكانت هذه الكلمات أقوى من سيف معاوية بن أبي سفيان وادهى من سياسة زياد تجاه الشيعة؟ تلك السياسة التي يصفها المؤلف نفسه في ص31: بأنّها قامت على العسف والتنكيل، بكلّ من يحس فيه روح التشيع، وقد كان زياد من شيعة علي(عليه السلام)فكان بالشيعة أعرف، فأخذ يتتبعهم في كلّ سبيل، حتى أباد الألوف من شيعة الكوفة والبصرة، ومثل بهم اشنع تمثيل، فقطع الأيدي، والأرجل، وسمل العيون، وصلبهم في جذوع النخل .
وناهيك بما فعلته غارات معاوية وحملاته على بلدان الشيعة الآمنة من قتل ونهب، وتخريب، وأعظمها غارة بسر بن أرطأة في اليمن وغيرها.
واستمرت الحالة بعد معاوية حتى جاء عهد الحجاج ذلك العهد الأسود فحكّم السيف في رقاب الشيعة، فكان أحبّ إلى الرجل أن يقال له: زنديق وكافر، من أن يقال له: شيعي. وقد وصفه المؤلف بقوله:
ولكن الحجاج وإن غلت يده عن الهاشميين فقد انطلقت في شيعتهم يقتلهم، ويسفك دماءهم، حتى أن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحبّ إليه من أن يقال له شيعة علي، وحتى خشي الناس من أن يتّسموا بأسماء علوية.
وقف رجل في طريق الحجاج فقال: أيّها الأمير، إنّ أهلي عقّوني فسمّوني علياً، وإنّي فقير بائس، وأنا إلى صلة الأمير محتاج، فتضاحك الحجاج وقال: بلطف ما توسلت به قد وليتك موضع كذا(522).كلّ ذلك لم يخمد جذوة التشيع ولم يقعد بعزائمهم عن المضي في مناصرة أهل البيت، والمناوأة لخصومهم، وكانت دماء شهدائهم تسقي بذور شجرة العقيدة ـ حتى استطاعوا أن يهدموا صرح الدولة الاُموية قبل أن تهدم صرح التشيّع .
وهكذا تمرّ الأيام ولهم في كلّ دور مواقف مشهودة وواجهوا من النكبات وعسف الولاة ما لم تواجهه طائفة اُخرى، وليس بالإمكان عرض تلك الحوادث بهذه العجالة، وقد احتفظ التاريخ بها.
كلّ هذا وهم لم يخضعوا لسلطان جائر، ولم ينقضوا العهد الذي عاهدوا الله عليه، في سبيل المحافظة على وصايا رسوله الأعظم في آله الكرام .
ولم يترك خصوم الشيعة وسيلة في القضاء عليهم إلاّ استعملوها، حتى اتهموهم بالزندقة، والخروج عن الدين، على خلاف المعقول والواقع؛ كل ذلك تشويهاً للدعوة التي قام بها الشيعة، بإلقاء الشبهات عليهم من الوجهة الدينية، وصدرت الفتاوى بحقّهم في الإبادة، فقد قتل الآلاف منهم بسبب ذلك، ممّا يطول بيانه ـ وليس بالشيء الجديد ذكره ـ فلم يقعد بالشيعة عن مواصلة الجهاد شيء من ذلك.
وأخيراً نأمل من المؤلّف وغيره من إخواننا الكتّاب ـ الذين يسوقون في معرض حديثهم عن الشيعة أمثال هذه الأساطير، فالأمر أرفع من ذلك ـ أن يخوضوا هذه الابحاث أحراراً غير مقيدين في حدود ضيقة لا توصلهم إلى الحقّ والعدل، وأن لا يقبلوا كلّ شيء وقفوا عليه إلاّ بعد التمحيص فما أكثر الاُمور الملفّقة، التي كانت من وراء الدوافع النفسية، والعوامل السياسية! وقد تحمّل تبعتها قوم خضعوا لذلك، ونقلها آخرون؛ وهكذا ضاعت الحقيقة وراء حجب الأغراض والله حسبنا ونعم الوكيل.
التاريخ السياسي للشيعة
يقول المؤلف في بداية الحديث تحت هذا العنوان :
نسير في التاريخ السياسي للشيعة بروح الأديب لا بروح المؤرخ. نسجّل أثره الأدبي، وفواعله النفسية، فذلك بموضوعنا أليق:
منذ وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وشيعة علي تتطلب الخلافة له ولنسله ـ لاُمور تجلّت قبل، لذلك ظلّت حياتهم بين وثبة واستعداد للوثبة، وغداً تاريخهم صفحة دامية، تذيب القلب وتستنزف الدمع .
ثم يستمر الاُستاذ في الحديث فيتعرض لخلافة علي(عليه السلام) ونكث طلحة والزبير للبيعة، ويمضي للحديث عن صفين وبيان التحكيم... وكلّ هذا لا نريد أن نتحدث عنه، ولا نناقش الاُستاذ في شيء منه، لا لأنّ كلّ ما ذكره هو وجه الصواب ففيه ما يستوجب النقاش ولفت النظر، ولكن ضيق المجال يدعو لأن نقتصر على اُمور نشير إليها بإيجاز؛ لأنّ استيعاب ذلك أمر ليس من الممكن حصوله الآن، لأننا في معرض التنبيه عن اُمور خاصة فلا نتعرض لأخطائه في سياسة الإمام علي(عليه السلام) كما في ص35 ولنترك حديثه حول الصلح كما أننا نسدل الستار بيننا وبين حديثه حول واقعة كربلاء واستشهاده على صفة قتل الحسين(عليه السلام) بقول زجر بن قيس إذ يصف ذلك عند يزيد، كما في ص37 ذلك الوصف الذي يمثل الحسين(عليه السلام) وأصحابه في معرض الهزيمة والاندحار، ولكن الأديب المؤلف قد دله ذوقه الأدبي أن يستشهد بأحد قواد المعركة وهو رجل بمنتهى الاجرام، وقد مثل دور الوثنية، وعهود الجاهلية فيها.
ألا كان من المناسب ـ أو حسن الأدب ـ أن يستعرض واقعة كربلاء بدراسة واقعية، بعيدة كل البعد عن اتباع ذوي الآراء الشاذة، ممّن انغمسوا في أتون العصبية، فافترضوا بتحاملهم البغيض فروضاً بعيدة عن الحقّ لا تتفق مع مقام الحسين(عليه السلام)ومكانته؟
نعم لو درس دراسة واقعية لأعطى البحث حقّه، ولوقف على حقيقة الأمر، وظهر له أنّ من النقص أن يستشهد بقول رجل مجرم ـ كزجر بن قيس الذي اشترك في قتل ابن بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وسبى عياله، وحمل رأسه، إلى يزيد طاغية زمانه، وعدوّ الإسلام اللدود، لنترك مناقشة المؤلف هنا ونعرض عن هذا الحديث ـ فهو حديث ذو شجون ـ كما أنّنا نفضل الاختصار في الرد والإيجاز في النقد، ونمضي بسرعة ونترك المؤلف حائراً يجيل وجهات النظر في المعاذير لمعاوية بن أبي سفيان في اعلانه سبّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) على المنابر ويحلو له أن تعجّ تلك المنابر بسبّ علي وآله .
ويقف المؤلف هنا حائراً وهو يخاطب نفسه فيقول في ص30: لن نستطيع أن نجمع بين أمرين: دين معاوية وحلمه، ودهائه يحسبه الجاهل خوراً، حلماً يتسع به صدره إلى أن يسمع الاقذاع من الناس، والنقد لسياسته، فيقابل إساءتهم بالصفح، واقذاعهم بالعطاء ثم هو مع ذلك يحلو له أن تعج منابره بسبّ علي وآله.
وبهذا كان يفكر الاُستاذ ويجيل النظر حتى اهتدى إلى حل هذه المشكلة بقوله:
ولعلّ معاوية ـ كساسة اليوم ـ قد علم أنّ الدعاية من أشد أسلحة الحرب مضاء، وابلغها نفاذاً، فاستعمل هذا السلاح ليصرف الناس عن آل البيت، ويحول قلوبهم عنهم، وفي هذا دوام ملكه، فاستحل سياسياً ما حرّمه الدين، ووضع لمن بعده شرعة السباب لهذا البيت الكريم، فاستعملها خلفاء بني اُمية حتى غدت سخرية الناس وتندرهم إلى أن ابطلها إمام عادل... الخ .
وبهذا انحلّت تلك المشكلة التي تقف أمام الاُستاذ في دراسته، فمعاوية استساغ سبّ علي لأجل الدعاية، وذلك لا ينافي الدين كما يظن الاُستاذ، وهكذا يبدو المؤلف بهذا الموضوع بتفكيره الجديد في حلّ هذه المشكلة رغم عظيم وقعها .
ونحن كما قلنا لا نريد أن نقف هنا طويلاً، من الخير أن نشير إلى انكار الصحابة؛ منهم: اُم المؤمنين اُم سلمة رضي الله عنها فقد انكرت على معاوية فيما ارتكبه، فإنها أرسلت إلى معاوية تقول له:
إنّكم تلعنون الله ورسوله، إذ تلعنون علي بن أبي طالب ومن يحبّه وأشهد أنّ الله ورسوله يحبانه(523).
* * *
ومرّ ابن عباس بقوم يسبّون علياً(عليه السلام) فقال لقائده: أما سمعت هؤلاء ما يقولون؟
قال: سبّوا علياً. قال: فردني إليهم. فرده فقال :
أيّكم الساب لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)؟
قالوا: سبحان الله! من سبّ رسول الله فقد كفر.
فقال: أيّكم الساب لعلي؟
قالوا: أما هذا فقد كان. قال ابن عباس: فأنا أشهد بالله لسمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يقول: من سبّ علياً فقد سبّني، ومن سبّني فقد سبّ الله ومن سبّ الله عزَّ وجلَّ أكبّه الله على منخريه في النار(524)
ولدينا أمثلة اُخرى من انكار الصحابة على معاوية فيما ارتكبه من سبّ علي(عليه السلام)، وأصبح ذلك أمراً عاماً في جميع أطراف المملكة، ولكنّ المسلمين كانوا يقابلون ذلك بالإنكار، لأنّ صوت رسول الله يقرع أسماعهم في اعلانه بأنّ عليّاً نفسه، وهو منه كما أخرجه البخاري أنّ النبي قال لعلي: أنت مني وأنا منك(525)وأخرج ابن النجار عن ابن عمر والنضيري عن عائشة أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)قال: علي نفسي(526)
ولسنا بحاجة إلى إيراد كلّ ما صرح به (صلى الله عليه وآله وسلم) من بيان منزلة علي(عليه السلام) وأنّه نفسه وأنّه منه بمنزلة رأسه من بدنه(527).وقد شهد أصحابه(صلى الله عليه وآله وسلم) بشتّى المناسبات بأنّه كان يشرك عليّاً في عمله؛ وينزله منزلة نفسه.
قال غرفة بن الحرث الكندي: شهدت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) واُتي بالبُدن فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): أدعوا لي أبا حسن. فدعي له. فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): خذ بأسفل الحربة؛ وأخذ(صلى الله عليه وآله وسلم)بأعلاها، ثم طعنا بها البدن يوم النحر، فلما فرغ(صلى الله عليه وآله وسلم) ركب وأردف علياً(528).قال الحافظ: اشترك(صلى الله عليه وآله وسلم) هو وعلي في نحر ثلاث وثلاثين بُدنة. فهو(صلى الله عليه وآله وسلم)كان ينزل علياً منزلة نفسه كما خصّه الله تعالى في ذلك بقوله عز وجلّ، قال: (فقل تعالوا ندع ابناءنا وابناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم)(529).
ويحدّثنا البيهقي: أنّ رجلاً قام في مجلس ابن أبي عائشة فقال: يا أبا عبدالرحمن، من أفضل أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فقال: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير.
فقال الرجل: فأين علي بن أبي طالب؟ فقال ابن أبي عائشة: تستفتيني عن اصحابه أم عن نفسه(صلى الله عليه وآله وسلم)؟
فقال الرجل: عن أصحابه. فقال ابن أبي عائشة: إن الله تبارك وتعالى يقول: (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم... الآية)(530) فكيف يكون أصحابه (صلى الله عليه وآله وسلم) مثل نفسه؟(531)
* * *
إذاً فكيف يجتمع الدين مع اعلان السب لله ورسوله؟ وهل يكون الإنسان معذوراً إذا وجد طريقاً سياسياً لمخالفة الدين؟ هذا من جهة، ومن جهة اُخرى فإنّ ذلك السبّ منبعث عن البغض لعلي(عليه السلام) وبغض علي علامة النفاق. أخرج الترمذي عن عدي بن ثابت عن زرّ بن حبيش عن الإمام علي، قال: لقد عهد إليّ النبيّ الاُمي(صلى الله عليه وآله) أنه: لا يحبّك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق. قال عدي بن ثابت: أنا من القرن الذي دعا لهم النبي(صلى الله عليه وآله)(532). وإنّ المنافقين في الدرك الأسفل من النار.
* * *
وكذلك نترك الاُستاذ المؤلف يماشي الشيخ الخضري ويذهب مذهبه في توجيه اللائمة على الحسين(عليه السلام) في خروجه على يزيد بن معاوية،(533) لأننا نفضّل ترك الخوض في هذا الموضوع؛ لأنّه يخرجنا عن الصدد في استعراض أخطاء الشيخ الخضري، وتهجّمه على مقام الحسين(عليه السلام) ممّا يدل على نزعته، وانحرافه عن طريق الصواب .
والمؤلّف فيما يظهر يؤيّد ما ذهب إليه عن قناعة غير ناشئة عن تفهّم الموضوع تفهماً واقعياً، لكنّه استعذب القول فنقله بدون تريث، كما هو شأنه في كثير من آرائه التي لا يعترف بها العقل ولا يقرّها المنطق .
وعلى أيّ حال فليس من قصدنا أن نستوعب جميع ما في الكتاب من أشياء تستوجب النقد والرد.
ولنتحول الآن إلى أهم ما قصدناه في هذا العرض وأردنا إيضاحه وهو قضية ابن سبأ فلنجعلها بعنوان مستقل، ونبحثها على ضوء الواقع لنقف على الحقيقة التي هي أسمى هدف للمنصفين .
ابن سبأ مرة اُخرى
تمهيد
قلّما يصدر كتاب يتناول البحث عن تاريخ الإسلام إلاّ وعبدالله بن سبأ يحتلّ مكاناً في البحث ويشغل صحائف من الكتاب .
إنّ هذا الرجل الموهوم قد صوروه بألوان من الصور وأبرزوه بمختلف الأشكال .
وقد وصفوه بأنّه بطل يخوض غمار الأهوال، ويتحمّل متاعب الانتقال، ومشقّة الأسفار، فمن المدينة لمكة، ومنها إلى البصرة، ثم الكوفة فالشام، ثم يجوب البراري ويقطع القفار. فلا يخلو منه مكان: هو موج ساحر أو برق يسير بسرعة الصوت.
إنّه داعية إلحاد وشرك، يضلّل الناس بآرائه، ويسمم العقول بقوله. يدعو إلى المبادئ اليهودية، والعقائد الزرادشتية، له سيطرة على العقول، وهيمنة على الأفكار، يقول فيصدق ويأمر فيطاع، يسوق العرب بعصاه، حتى انصاع له جمع من الصحابة ـ والعياذ بالله ـ واعتنقوا مبادئه كما يقولون وما أعظم ما يقولون! وأصبح أبو ذر خريج مدرسة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) ومن شهد له الرسول بالصدق وعمار بن ياسر، المعذب ـ هو وأبوه واُمه ـ، في الله من أنصار دعوته، وحملة عقيدته، والمتأثرين بأفكاره .
فثورة أبي ذر على ذوي الأثرة الذين جعلوا مال الله دولاً وعباده خولاً كانت من آثار ابن سبأ ـ كما يفترون ـ والثورة على عثمان من دسائسه، وحرب الجمل من تصلّبه، ووقعة صفين عن أمره، ومبادئ التشيّع من تفكيره وآرائه و. و. و.
في المهزلة العقل واسفاف الآراء، وخفّة الأحلام! ويا لضياع الحقّ وظهور الباطل!
إنّ اعظم شيء أن يحال بين العقل وبين الحقيقة ويزج به في متاهات من الاختلافات والتزييف والتضليل. ليكون من نتائجه التصديق بأكذوبة ابن سبأ وظهور نتاجات وكتابات كالتي نحن بصدد تفنديها.
لقد حان الوقت لأن نلتفت إلى الوراء لنكشف حقيقة نشأة هذه الأسطورة، ونقف على عوامل تلك الأباطيل التي طالما ظلّت أيد سوداء ممتدّة فوقها في سكون وصمت .
إنّ تلك الأيدي العابثة بمقدّسات الدين، والتي تثير الغبار في طريق وحدة المسلمين، تتحرك اليوم بارتجاف واهتزاز، لأنّ الوقت قد حان لرفع الستار الذي تكمن وراءه، وافتضاح اُولئك المحركين لها، لأنّ الوعي بوجوب تدارك خطر الفرقة أصبح ينذر اُولئك الدساسين بالخطر.
ويخطئ من يقول: بأن بحث قضية ابن سبأ من الاُمور التي لا مندوحة في بحثها الآن وإثارتها في هذا العصر، فالزمن قد تغير، وهذه من دفائن الماضي، وليس من الصحيح نبش تلك الدفائن ونشر صحائف مطوية، أكل الدهر عليها وشرب .
وإنّنا نقول: إنّ هذه القضية ليست كما يتوهم المتوهمون بأنها من الصحائف المطوية، والآثار المنسية، بل هي في كلّ وقت غضة جديدة لا تغيرها الأيام مهما طال زمانها، فهي تنشر في كلّ وقت وتجعل من الاُسس التي يستند إليها أكثر كتّاب عصرنا الحاضر كوسيلة للطعن على الشيعة، وفي طليعة اُولئك الكتّاب شيوخ يرجى بهم سدّ ثغرة الخلاف، والسعي في اصلاح ما أفسدته ظروف قاسية، وعصور مظلمة.
وهناك أساتذة يؤمل بهم تنوير عقول الناشئة الإسلامية، بما يعود على الجميع بالنفع .
ولكنهم بمزيد الأسف استسلموا لعوامل كان أليق بهم أن يقفوا أمامهم موقفاً واعياً، يتمشّى مع مسؤوليتهم الملقاة على عواتقهم فى تربية النشىء وخدمة الاُمة الإسلامية فى اتّباع مناهج الإسلام في التثبت فى النقل، والاعتدال في النقد.
إنّهم قد نقلوا أشياء كثيرة بدون تثبت من صحتها، أو رجوع إلى مصادرها الموثوق بها. وأجلى مثال لذلك الاسترسال في تقبل كلّ شيء هو إيراد اسطورة ابن سبأ كدليل قاطع، وبرهان واضح لا يمكن ردّه وليس من المستطاع تكذيبه .
فقد توالت العصور والناس تتداول هذه الاُكذوبة وتردد هذه الاُسطورة، ولابدّ من النظر الى الغد عندما تنجاب هذه الغمامة وتلك الحجب عن العقول والبصائر ويأخذ الجيل الواعي بنقد ما لا يقرّه العقل والمنطق، ونحن نرى اليوم الكثير من الكتّاب والأساتذة الذين حكّموا العقل ونزعوا قيود الاستسلام يبادرون الى رفض قصة عبدالله بن سبأ وكشف زيفها والتباسات قيامها، عند ذاك ماذا ستكون النظرة لمن أسهم في ترويج هذه الاُكذوبة ونشر هذه الاُسطورة.
نحن نرى أن لا مندوحة من التأكيد على الحقائق التي تضمّها وقائع التاريخ منذ مبعث النبي المصطفى(صلى الله عليه وآله)، ولا نرى بحال أنّ ذلك نبشاً للماضي، لأنّ جذور التشيّع نمت في ظل الرسالة وولدت بذرته معها، فحقائق الرسالة والسيرة النبوية وولاية الإمام علي(عليه السلام) ودور الأوصياء في حفظ الدين ورعاية الدعوة هي الوقائع التي تصاحب تطورات الأحداث وتختزن جوهر التاريخ. ولو نظرنا الى حملات العداء والكراهية لآل البيت الأطهار ومن يتولاها على امتداد العصور والأدوار لعلمنا أنّ القصد مصالح كاد يمحقها الإسلام، وأغراضاً سياسية يحاربها الدين. ولقد كانت قصة عبدالله بن سبأ واحدة من محاولات أعداء الحقّ وأهله ومحاربي دعاة العدل بقصد الإساءة الى مبادئ أهل البيت وتلطيخ تاريخهم الناصع الوضّاء.
ومن المؤسف أن نرى اليوم من يستسلم لمثل هذه الاُسطورة ويتخلّى عن الأخذ بمقاييس العلم وأحكام العقل مستسلماً للنقل رغم وضوح جوانب الوضع وتهافت هذه القصة الاُكذوبة.
وللمثال نذكر ما كتبه بعض اُولئك الرجال حول قضية ابن سبأ واستنتاجهم منها اُموراً تركز بحثهم عليها فمنهم :
أبو زهو
الشيخ محمّد أبو زهو ـ من علماء الأزهر الشريف وأستاذ كلية اُصول الفقه في الوقت الحاضر ـ قال تحت عنوان التشيّع ستار لأعداء الإسلام:
ويقيني أنّ التشيّع كان ستاراً احتجب وراءه كثير من أعداء الإسلام، من الفرس واليهود، والروم، وغيرهم ليكيدوا لهذا الدين ويقلبوا نظام هذه الدولة الإسلامية...
إلى أن يقول: أخذوا ـ أي أعداء الإسلام ـ يتحسسون أبواب الضعف فلم يجدوا باباً أنجح لهم من الحيلة والخداع، فأظهر جماعة منهم الإسلام، وانضمّوا إلى أهل التشيّع مظهرين محبّة أهل البيت، وسخطهم على من ظلم عليّاً (رضي الله عنه)، ثم أخذوا يسلكون به مفاوز الفتن والمهالك، حتى أبعدوا كثيراً منهم عن التدين الصحيح، بما بثّوه فيه من العقائد الزائفة، التي يدور معظمها على هدم قواعد الدين، والتحلل من تعاليم الإسلام وأحكامه، وأصل هذه الفتنة على ما ذكره المؤرخون: رجل يهودي يُدعى عبدالله بن سبأ، غلا في حبّ علي حتى زعم أن الله تعالى حلّ فيه، وأخذ يؤلب الناس على عثمان... إلخ .
هذا ما يقرّه أخونا الشيخ المعاصر محمّد أبو زهو ويرسله إرسال المسلّمات، فيلقيه على طلاّبه ليؤدي رسالة الأجيال التي تحمل في طياتها انتصار اليهود على المسلمين، وأنّ رجلاً واحداً منهم استطاع بمكره وخداعه، أن يسوق أصحاب محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) ويستدرجهم لأغراضه، ويفتنهم بدعوته فيستسلموا له بدون تدبّر وتفكير، ويقوموا بأمر لا باعث له إلاّ دعاية رجل يهودي فاستجابوا لدعوته، وخضعوا لإرادته وحاشاهم من ذلك، وهم أجلّ وأسمى، من أن ينزلوا إلى هذا الحضيض. ولكن الشيخ ـ سلمه الله ـ اقتنع بدون ما يوجب ذلك فنسأل الله لنا وله الهداية .
محمّد أبو زهرة
الشيخ محمّد أبو زهرة اُستاذ الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق، جامعة القاهرة، يقول ـ(534) بعد ذكر الأسباب التي أدّت إلى الفتن في عهد عثمان ـ : ولقد كان من نتائج هذا تولية عثمان ولاة من أقاربه، أن حرّك عوامل الاتهام بالمحاباة، وبعض هؤلاء لم يكونوا من ذوي السبق في الإسلام، وبعضهم كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أباح دمه إذ ارتد بعد إيمان كعبدالله بن سعد بن أبي سرح وقد ولاّه عثمان بعد عمرو بن العاص وقد أخذ هذا ـ أي ابن العاص ـ يؤلب الناس على عثمان بسبب ذلك حتى كان يقول: والله إن كنت لألقى الراعي فاحرضه عليه ـ أي على عثمان ـ وانتشرت بتولية عبدالله قالة السوء عنه: إذ أخذ الناس يتحدّثون عنه، وهو الرجل الذي آمن ثم كفر ثم كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم...
إلى أن يقول: ومن الأسباب وهو أعظمها وجود طوائف من الناقمين على الإسلام الذين يكيدون لأهله، ويعيشون في ظلّه، وكان اُولئك يلبسون لباس الإسلام، وقد دخلوا في الإسلام ظاهراً، وأضمروا الكفر باطناً، فأخذوا يشيعون السوء عن ذي النورين عثمان ويذكرون علي بن ابي طالب (رضي الله عنه) بالخير وينشرون روح النقمة في البلاد، ويتخذون مما يفعله بعض الولاة ذريعة لدعايتهم، وكان الطاغوت الأكبر لهؤلاء: عبدالله بن سبأ وقد قال فيه ابن جرير الطبري:
كان عبدالله بن سبأ يهودياً من أهل صنعاء اُمه سوداء فأسلم زمان عثمان ثم تنقل في بلدان المسلمين يحاول ضلالهم فبدأ ببلاد الحجاز، ثم البصرة ثم الشام فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام فأخرجوه حتى أتى مصر فقال لهم فيما يقول: لعجب ممن يزعم أن عيسى يرجع ويكذب بأن محمّداً يرجع، وقد قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَاد)، ثم محمّد أحق بالرجعة من عيسى...
ثم قال لهم بعد ذلك: إنّه كان ألف نبيّ، ولكلّ نبيّ وصيّ، وكان عليّ وصي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) ثم قال: محمّد خاتم النبيين وعليّ خاتم الأوصياء.
ثم قال بعد ذلك: إنّ عثمان أخذها بغير حق، وهذا وصيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فانهضوا في هذا الأمر فحركوه، وأيدوه بالطعن على اُمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لتستميلوا الناس.. فبثّ دعاته، وكان ممن استفسد في الأمصار وكاتبوه ودعوا في السرّ إلى ما عليه رأيهم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار كتباً، يضعونها في عيوب ولاتهم، ويكاتبهم اخوانهم بمثل ذلك، ووسّعوا الأرض إذاعة، وهم يريدون غير ما يظهرون ويسرون غير ما يبدون .
وهكذا نرى شيخ المؤرخين الطبري بين كيف كانت مؤامرة هؤلاء لإفساد المسلمين واتخذوا من الشكوى من بعض ولاة عثمان ذريعة للدعوة إلى الانتفاض وبث الأفكار المنحرفة، المفرقة إلى أن يقول:
وفي ظلّ هذه الفتن نبت المذهب الشيعي وإن كان الشيعة ومعهم غيرهم يقول: إنّ جذوره تمتدّ إلى وقت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. انظر المذاهب الإسلامية ص46 ـ 47 .
أحمد أمين
وهذا الاُستاذ أحمد أمين يصفه بأنه ممن أوعز إلى أبي ذر ـ صاحب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ بتعاليمه فتأثر بها إذ يقول :
ونلمح وجه الشبه بين رأي أبي ذر الغفاري وبين رأي مزدك في الناحية المالية فقط، فالطبري يحدثنا: أن أبا ذر قام بالشام وجعل يقول: يا معشر الأغنياء، واسوا الفقراء، بشر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاوي من نار تكوى بها جباههم وظهورهم. فما زال حتى ولع الفقراء بمثل ذلك، وأوجبوه على الأغنياء، وحتى شكا الأغنياء ما يلقونه من الناس ثم بعث به معاوية إلى عثمان بن عفان بالمدينة حتى لا يفسد أهل الشام. ولما سأله عثمان: ما لأهل الشام يشكون ذربك؟ قال: لا ينبغي للأغنياء أن يقتنوا مالاً .
يقول أحمد أمين: فنرى من هذا أن رأيه قريب جداً من رأي مزدك في الأموال. ولكن من أين أتاه هذا الرأي؟
وبعد أن يوجّه الاُستاذ أحمد أمين هذا السؤال ويفكر عن وجود هذه الفكرة عند الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري (رحمه الله) وهنا ينقدح له الجواب عن ذلك فيقول :
يحدثنا الطبري أيضاً عن جواب السؤال فيقول: ان ابن السوداء لقي أبا ذر فأوعز إليه بذلك، وان ابن السوداء هذا أتى أبا الدرداء وعبادة بن الصامت، فلم يسمعا لقوله، واخذه عبادة إلى معاوية وقال له: هذا والله الذي بعث عليك أباذر(535).ثم يقول بعد ذلك: ونحن نعلم أن ابن السوداء هذا لقب لقّب به عبدالله بن سبأ، وكان يهودياً من صنعاء، أظهر الإسلام في عهد عثمان، وأنه حاول أن يفسد على المسلمين دينهم، وبثّ في البلاد عقائد كثيرة ضارّة قد نعرض لها فيما بعد، وكان قد طوف في بلاد كثيرة ـ في الحجاز، والبصرة، والكوفة، والشام، ومصر ـ ، فمن المحتمل القريب أن يكون قد تلقى هذه الفكرة من مزدكية العراق أو اليمن، واعتنقها أبو ذر حسن النية في اعتقادها وصبغها بصبغة الزهد التي كانت تجنح إليها نفسه، فقد كان من أتقى الناس، وأورعهم وأزهدهم في الدنيا، وكان من الشخصيات المحبوبة، التي أثّرت في الصوفية(536).
* * *
الخطيب
ونرى أنفسنا مضطرين لأن ننقل ما كتبه الخطيب المعروف بمحبّ الدين؛ ليستبين القارئ ما بلغته الحالة من الاعتماد على الأكاذيب، والأخذ بالأساطير، وجعل ذلك في طريق الحجاج، كما يتجلّى التحدّي لمقام الصحابة الكرام، والطعن عليهم بدون مبرر وإنّما هو جرأة على مخالفة الحقّ والانصياع لداعية الهوى.
وهذا الرجل قد صبّ هذه الاُسطورة بقالب رغباته، وأبرزها في اطار هواه ـ وكم له من اختراع في شتّى المجالات ـ بدون أن يستند إلى دليل، أو يعتمد على مصدر .
يقول: ـ بعد ذكره لابن سبأ ـ إنّ هذا الشيطان هو عبدالله بن سبأ من يهود صنعاء، كان يُسمى ابن السوداء، وكان يبثّ دعوته بخبث وتدرج ودهاء، واستجاب له ناس من مختلف الطبقات.
إلى أن يقول : وعني بالتأثير على أبناء الزعماء من قادة القبائل، وأعيان المدن، الذين اشترك آباؤهم في الجهاد والفتح، فاستجاب له من بلهاء الصالحين، وأهل الغلو من المتنطّعين جماعات ـ كان على رأسهم في الفسطاط: الغافقي بن حرب العكي، وعبدالرحمن بن عديس البلوي التجيبي الشاعر، وكنانة بن بشر، وسودان بن حمران، وعبدالله بن زيد بن ورقاء، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وعروة بن النباع الليثي وقتيرة السكوني...
وكان على رأس من استغواهم ابن سبأ في الكوفة: عمر بن الأصم، وزيد بن صوحان العبدي، والأشتر مالك النخعي، وزياد بن النظر الحارثي وعبدالله بن الأصم .
ومن البصرة: حرقوص بن زهير السعدي، وحكيم بن جبلة العبدي وذريح ابن عباد العبدي، وبشر بن شريح، والحطم ضبيعة القيسي، وابن المحرش بن عبد.
أمّا المدينة فلم يندفع في هذا الأمر من أهلها إلاّ ثلاثة نفر: محمّد بن أبي بكر ومحمّد بن أبي حذيفة، وعمار بن ياسر .
ومن دهاء ابن سبأ ومكره: أنّه كان يبثّ في جماعة الفسطاط الدعوة لعلي، وفي جماعة الكوفة الدعوة لطلحة، وفي جماعة البصرة الدعوة للزبير.. ثم يذكر تزوير الرسائل من قبل ابن سبأ .
ثم يوجّه الخطيب لومه على أهل المدينة بل نقده للصحابة فيقول: وكان ينبغي أن يكون ذلك سبباً ليقظتهم ويقظة علي أيضاً إلاّ أنّ بين المسلمين من يزور عليهم الفساد لخطة مرسومة تنطوي على الشر الدائم والشرر المستطير، وكان ذلك كافياً لإيقاظهم إلاّ أنّ هذه اليد الشريرة هي التي زورت الكتاب على عثمان، بدليل أن حامله كان يتراءى لهم معتمداً ثم يتظاهر بأنه يتكتم عنهم، ليثير ريبتهم فيه، فراح المسلمون إلى يومنا هذا ضحية سلامة قلوبهم في ذلك الحين... إلخ(537).
* * *
وهكذا رسخت هذه الأسطورة في أدمغة كثير من الكتّاب المعاصرين وغيرهم، ولا نودّ الاستمرار بأقوال الآخرين منهم، وبما ذكرنا كفاية لإيضاح الموقف وخطره.
فابن سبأ ـ كما مرّ عليك من الأقوال وكما تقف عليه في غير هذه الكتب ـ هو الذي حرك أبا ذر على معارضة معاوية في تصرفه بالأموال، وأنّ تلك الفكرة لم تكن من روح الإسلام وتعاليمه، وإنّما هي فكرة مزدكية، وكأن الآيات التي استشهد بها أبو ذر كانت من تعاليم ابن سبأ لا من تعاليم الإسلام.
كما أن هؤلاء الذين ذكرهم الخطيب من صحابة وتابعين، أصبحوا يترأسون دعوة ابن سبأـ وهم البلهاء، أو أهل الغلو ـ على حد تعبير الخطيب ـ كعمار بن ياسر الذي ستقف على ترجمته قريباً وعبدالله بن زيد، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وحكيم بن جبلة العبدي، وزيد بن صوحان و و..
وأيّ جناية أعظم من هذه الجناية في هذا التهجم العظيم على رجال الاُمة وعظمائها؟
ولا ندري ما هو دليل هذا الحكم، وسند هذه الأقوال؟ نعم ليس له مصدر إلاّ الطبري كما سيأتي.
وهذا الكاتب بالأخص ـ وهو الخطيب ـ لا يثق بأقوال الطبري إلاّ بشروط ستقف عليها. ولكن قضية ابن سبأ قد وافقت هوى في نفسه، فأصبح فيها
ـ كحاطب ليل ـ خضوعاً لهواه .من أين وإلى أين؟
إنّ قضية ابن سبأ قد لاقت هوى في قلوب كثير من الكتّاب من مستشرقين وغيرهم؛ فأحاطوها بعناية خاصة، ومنحوها مزيداً من البيان فأسبغوا عليها ألفاظاً براقة خلابة دبجتها أقلامهم وصاروا يقررّونها ويرددونها ترديد المؤمن بصحتها الواثق بوقوعها، وكأنّها من الحقائق التي لا تقبل التشكيك، ولا ينالها النقاش من دون التفات إلى ما وراء الأكمة من الخطر .
وبمزيد الأسف أنّهم غفلوا أو تغافلوا عن مصدر هذه القضية من أين ابتدأت وإلى أين انتهت بأثرها العظيم وما كان من ورائها من نتائج سيئة وعواقب وخيمة .
فابن سبأ يقولون عنه ـ كما تقدم ـ هو مثير الخلافات بين المسلمين وهو مؤسس مذهب يربو على مائة مليون(538)، وهو البطل الذي استطاع أن يحقق آماله في مصر ـبعد أن فشل في غيرها من البلدان الإسلامية ـ فجمع الجموع، وتوجه إلى عاصمة المسلمين، وفيها الخليفة عثمان ليقلب نظام الحكم، وقد تم له ما أراد كما ذكره الشيخان: أبو زهو، وأبو زهرة وغيرهما .
وهو الذي سيطر على مشاعر أبي ذر الصحابي الجليل ـ الذي وصفه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بالصدق ـ فأعلن على معاوية انكاره في احتكار الأموال .
وانّ ابن سبأ لقّن أبا ذر فكرة مزدك المجوسي الإباحي ـ نعوذ بالله من خطل الرأي ـ .
وإن ابن سبأ استطاع أن يجعل من كبار الصحابة أعضاء لدعوته، ودعاة لفكرته، إلى آخر ما اُحيطت بهذه القضية من مبالغات، وهي تزداد على ممرّ الأيام، ولا نعلم إلى أين ينتهي ذلك ما دام ضوء البحث والتتبع لم يتوجه إليها وما دامت الأقلام تكتب بدون مراعاة لحقّ العلم .
ويجب على كلّ مفكر أن يتساءل عن مصدر هذه القصة، وما هو المنبع الذي استقى منه المؤرخون، ومن بعدهم الكتّاب من مستشرقين وغيرهم.
وهل تواتر النقل من طرق متعددة حتى يصبح الاعتماد عليها، وتكون ذات قابلية لاعتبارها من الاُمور التاريخية التي تعالج بعناء من حيث الدقة في تعيينها لما فيها من ملابسات، وما تضمنته من اُمور لا يقبلها العقل حتى لووردت بطرق متعددة موثوقة بها؟
ربما يظنّ أنّ لهذه القضية مصدراً موثوقاً به نظراً لشهرتها وانتشارها، في عدة كتب من كتب التاريخ والأدب، ولكن كلّ ذلك لم يكن، وليس لها أي مصدر يمكن الركون إليه كما سنبينه إن شاء الله.
وبغض النظر عن مصدر القصة، والبحث عن سندها، ومعرفة رجالها فإنّ العقل يحكم بسقوطها عن الاعتبار، لما فيها من مخالفة للعقل وبعد عن الحقّ وعدم ارتباطها بالواقع .
ولهذا فإنّ اللائق بمقام الأديب الباحث، أو المؤرّخ المنصف، أو الاُستاذ المثقف، أن يقف موقف المتثبت كما يقتضيه الحقّ ويفرضه الواجب العلمي، إذ المسألة ذات أهمية كبرى، لأنّها تضمّنت الحطّ من مقام المسلمين وسلبتهم ميزة التفكر، والنظر في الاُمور عندما اطاعوا رجلاً لم يعرفوه، وساروا وراء خداعه سير الأغنام .
وفيها طعن على كبار الصحابة، وتوهين لرجال الإسلام، ووصفهم بالبلاهة ـ على حدّ تعبير بعضهم ـ وانصياعهم لأقوال وافد غريب، وداعية شرك وإلحاد، هذا من جهة.
ومن جهة ثانية أنّ فكرته لم تلق نجاحاً إلاّ في مصر، فإنّهم انخدعوا فيه بسرعة، ومالوا إليه بأقصر وقت، وهو داعية مجهول، ورائد غريب، كيف يقوم فيهم بكلّ صراحة، ومن دون حذر، يدعوهم ويؤلّبهم على الانتفاضة ضد سلطان قائم، ويحثّهم على العصيان بدون سبب ولا سابقة؟
فأين أهل الرأي وذوو الحزم وذوو التفكير، أكانوا كُلّهم بلهاء(539) لا يعقلون؟!
إنّ هذا ليس من العقل ولا من المنطق أن تخضع مصر بهذه السرعة وهي الاُمة المسلمة، وفيها أصحاب محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) من ذوي العقول الراجحة والفكر الثاقب، وذوي الخبرة والتجارب .
* * *
ولنترك الحديث للدكتور طه حسين حول اُسطورة ابن سبأ وما فيها من مخالفات للواقع ـ باختصار ـ .
يقول الدكتور في كتابه الفتنة الكبرى عثمان الفصل 14 :
وهناك قصة أكبر الرواة المتأخرون من شأنها، وأسرفوا فيها حتى جعلها كثير من القدماء مصدراً لما كان من الاختلاف على عثمان، ولما أورث هذا الاختلاف من فرقة بين المسلمين لم تمح آثاره، وهي قصة عبدالله بن سبأ الذي يعرف بابن السوداء.
قال الرواة: كان عبدالله بن سبأ يهودياً من أهل صنعاء حبشي الاُم، فأسلم في أيام عثمان، ثم جعل يتنقل في الأمصار يكيد للخليفة ويغري به، ويحرّض عليه، ويذيع في الناس آراء محدثة أفسدت عليهم رأيهم في الدين والسياسة جميعاً...
وإلى ابن السوداء يضيف كثير من الناس كل ما ظهر من الفساد والاختلاف في البلاد الإسلامية، أيام عثمان، ويذهب بعضهم إلى أنّه أحكم كيده إحكاماً، فنظم في الأمصار جماعات خفية تتستر بالكيد؛ وتتداعى بينها إلى الفتنة، حتى إذا تهيّأت لها الاُمور وثبت على الخليفة؛ فكان ما كان من الخروج والحصار وقتل الإمام .
ويخيّل إليّ أن الذين يكبرون من أمر ابن سبأ إلى هذا الحدّ يسرفون على أنفسهم وعلى التاريخ اسرافاً شديداً، وأول ما نلاحظه أنا لا نجد لابن سبأ ذكراً في المصادر المهمة التي قصت أمر الخلاف على عثمان، فلم يذكره ابن سعد حين قص ما كان من خلافة عثمان، وانتقاض الناس عليه، ولم يذكره البلاذري في أنساب الأشراف، وهو فيما أرى أهم المصادر لهذه القصة وأكثر تفصيلاً. وذكره الطبري عن سيف بن عمر، وعنه أخذ المؤرخون الذين جاءوا بعده فيما يظهر .
ولست أدري أكان لابن سبأ خطر أيام عثمان أم لم يكن؟ ولكن أقطع بأنّ خطره ـإن كان له خطر ـ ليس ذا شأن، وما كان المسلمون في عصر عثمان ليعبث بعقولهم وآرائهم وسلطانهم طارئ من أهل الكتاب أسلم أيام عثمان...
ومن أغرب ما يروى من أمر عبدالله بن سبأ هذا أنّه هو الذي لقن أبا ذر نقد معاوية فيما يقولون من أنّ المال هو مال الله، وعلمه أن الصواب أن يقول: إنه مال المسلمين. ومن هذا التلقين إلى أن يقال إنّه هو الذي لقّن أبا ذر مذهبه كلّه في نقد الأمراء والأغنياء...
فالذين يزعمون أنّ ابن سبأ قد اتصل بأبي ذر فألقى إليه بعض مقاله يظلمون أنفسهم، ويظلمون أباذر ويرقون بابن السوداء هذا إلى مكانة ما كان يطمع في أن يرقى إليها.
والرواة يقولون: إنّ أبا ذر قال ذات يوم لعثمان بعد رجوعه من الشام إلى المدينة:لا ينبغي لمن أدى زكاة ماله أن يكتفي بذلك حتى يعطي السائل، ويطعم الجائع، وينفق في سبيل الله، وكان كعب الأحبار حاضراً هذا الحديث. فقال: من أدى الفريضة فحسبه. فغضب أبو ذر وقال لكعب: ياابن اليهودية! ما أنت وهذا ! أتعلمنا ديننا؟ ثم وجأه بمحجنه. فأبو ذر ينكر على كعب الأحبار أن يعلمه دينه، بل أن يدخل في اُمور المسلمين حتى بإبداء الرأي، مع أنّ كعب الأحبار مسلم، أبعد عهداً بالإسلام من ابن سبأ وكان مجاوراً في المدينة...
وأكبر الظن أنّ عبدالله بن سبأ هذا إن كان كلّ ما يروى عنه صحيحاً إنّما قال ما قال ودعا إليه بعد أن كانت الفتنة، وعظم الخلاف، فهو قد استغل الفتنة ولم يثرها، وأكبر الظن كذلك أن خصوم الشيعة أيام الاُمويين والعباسيين قد بالغوا في أمر عبدالله بن سبأ هذا ليشككوا في بعض ما نسب من الأحداث إلى عثمان وولاته من ناحية، وليشنعوا على علي وشيعته من ناحية اُخرى، فيردوا بعض اُمور الشيعة إلى يهودي أسلم كيداً للمسلمين.. إلى أن يقول :
هذه كلّها اُمور لا تستقيم للعقل ولا تثبت للنقد، ولا ينبغي أن تقام عليها اُمور التاريخ.
ثم يأخذ الدكتور في بيان أسباب الثورة على عثمان. تركنا التعرض لها(540) .
المدينة المنورة
ثم نعود لعاصمة المسلمين المدينة المنورة وفيها المهاجرون والأنصار الذين خاضوا غمار الحرب في سبيل إعلاء كلمة الإسلام، وفي طليعتهم الإمام علي بن أبي طالب .
كيف يصحّ أن يقال بأنّهم استسلموا ولم يقفوا موقف الحزم أمام جيش قاده ابن سبأ، وقطع به تلك المسافة البعيدة من مصر إلى المدينة، فيحتلها، ويقلب نظام الحكم، ويقتل الخليفة، ولم يقف المسلمون موقف الدفاع، لإنقاذ الموقف ودفع هذه الكارثة.
ولكن الواقع هو غير هذا؛ فإنّ الثورة لم تكن من مصر فقط، ولم يكن القائد لها ابن سبأ إذ لا وجود له، وإنّما كانت من المدينة للاستياء العام الذي انتشر في بلاد الإسلام من سوء تصرف الاُمويين، وأعمال مروان خاصة، ممّا دعا إلى تداول الرأي بين الصحابة لاصلاح الوضع الراهن، كما ذكر ذلك أكثر المؤرخين .
ولنترك الحديث للأستاذ أحمد أمين: في آخر مؤلف ظهر له وهو يوم الإسلام، يقول أحمد أمين: وقد سار عثمان في السنين الست الاُولى سيرة عادلة رحيمة، ولكنه في الست الأخيرة كانت قد كبرت سنه، وخضع لأقاربه من الاُمويين، فترك تصرف الاُمور لرئيسهم مروان بن الحكم الاُموي... فأغضب ذلك كثيراً من الصحابة، وخصوصاً علياً والزبير وطلحة وغيرهم، فأرادوا أوّل الأمر أن يحرروا الخلافة من هذه السلطة، فنصحوا عثمان بالاعتزال فأبى، ولم تمض إلاّ فترة قصيرة حتى كان عثمان في المدينة، وليس معه إلاّ نفر قليل من الأصدقاء، وكان من أكبر الشخصيات في محاربته وتأليب الناس عليه ـ عائشة بنت أبي بكر، واستطاع خصومه جميعاً أن يثيروا الأمصار عليه، واجتمع أهل المدينة حول بيته، ورفضوا أن يتزحزحوا عنه، وثار المصريون أيضاً لما علموا أنّ كتاباً كتب باسم عثمان إلى عامله عبدالله بن أبي سرح يأمره فيه بالفتك بالزعماء عند عودتهم..(541)
ويقول: وكان من أهم ما نقم الناس على عثمان أن طلب منه عبدالله بن خالد بن اُسيد الاُموي صلة فأعطاه أربعمائة ألف درهم، وأعاد الحكم بن أبي العاص بعد أن نفاه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأعطاه مائة ألف درهم، وتصدق رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)بموضع سوق المدينة على المسلمين فأقطعه عثمان الحارث بن الحكم، وأقطع مروان فدك، وقد كانت فاطمة طلبتها بعد وفاة أبيها،، تارة بالميراث، وتارةً بالنحلة، فدفعت عنها وحمي المرعى حول المدينة كلّها، من مواشي المسلمين كلها إلاّ عن بني اُمية، وأعطى عبدالله بن أبي سرح جميع ما أفاء الله عليه من فتح أفريقيا بالغرب، وهي من طرابلس إلى طنجة من غير أن يشركه أحد من المسلمين.
وأعطى أبا سفيان مائتي ألف من بيت المال في اليوم الذي أمر فيه لمروانبن الحكم بمائة ألف وقد كان زوج ابنته اُم أبان. فجاء زيد بن أرقم صاحب المال بالمفاتيح فوضعها بين يدي عثمان وبكى.
فقال عثمان: أتبكي أن وصلت رحمي؟ قال: لا ولكن أبكي لأني أظنّك أخذت هذا المال عوضاً عما كنت انفقته في سبيل الله في حياة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، والله لو أعطيت مروان مائة درهم لكان كثيراً. فقال عثمان: إلق المفاتيح فإنا سنجد غيرك.
وأتاه أبو موسى الأشعري بأموال كثيرة من العراق فقسّمها كلّها في بني اُمية.
وزوج الحارث بن الحكم فأعطاه مائة ألف من بيت المال، ونفى أبا ذر(رحمه الله)إلى الربذة لمناهضته لمعاوية في الشام في كنز الذهب والفضة.
وضرب عبدالله بن مسعود حتى كسر أضلاعه، وعدل عن طريق عمر في إقامة الحدود، وردّ المظالم، وكفّ الأيدي العابثة، والانتصاب لسياسة الرعية...إلخ(542).
* * *
وكيف كان فإنّ الثورة ابتدأت من المدينة، وقام جلّ الصحابة في المعارضة لاصلاح الوضع مما إرتكبه الاُمويون عندما استغلوا تلك الفرصة. وقد كاتب الصحابة أهل الأمصار: إن أردتم الجهاد فهلمّوا فإنّ دين محمّد قد أفسده خليفتكم(543).
المصدر
نرى أنفسنا ملزمين بأن نستعرض مصدر هذه القصة، ونقف على المنبع الذي استقى منه الكتّاب معلوماتهم عنها، لأنّا قد وجدنا بعض الكتّاب ممن يميل إلى التشكيك في صحتها؛ ولكنهم لا يستطيعون أن يقولوا ذلك بصراحة لأنّهم يظنّون أنّها متعددة الروايات متواترة عن الثقات من المؤرخين، الأمر الذي يدعو إلى عدم طرحها ولكنّه ينفي المبالغات التي فيها.
ويذهب بعضهم إلى الجزم بصحتها لأنّها وردت عن راو خرّج حديثه الترمذي(544)، ومن هذا وذاك اختلط الأمر على كثير منهم.
يقول الدكتور ضياء الدين الريس: وقد أخذ بعض المؤلّفين يميل إلى الشك في شخصية هذا الرجل ـ وهو عبدالله بن سبأ ـ ولكن تعدد الروايات عنه، وتواتر أنباء الثقات من المؤرخين تؤيد القول بوجوده، وإن كان محل المبالغة أنّهم ينسبون إليه كلّ ما حدث في عهد عثمان ويحمّلونه تبعته... إلخ(545).فالدكتور الريس هو واحد من اُولئك الذين اشتبه عليهم الأمر فظن تعدّد طرق الروايات لقضية ابن سبأ إذ وجدها مذكورة في عدة كتب، ولكنه لا يرى صحة ما أحاط بهذه الشخصية من حكايات، فهو يذهب إلى وجود شخصيته مجرّدة من المبالغات، وكلّ اعتماده في هذا القول هو أنّ الروايات متعددة، والأنباء عن ابن سبأ متواترة، قد نقلها الثقات من المؤرخين .
ونحن هنا نستشعر إدراكه للحقيقة وميله الى الشك بوجود شخصية في التاريخ اسمها عبدالله بن سبأ، غير أنّه لا يقوى على الإفلات من تأثير الأساليب القديمة وقواعدها والتي أخذت من طبيعة العمل بالرواية واتصالها بالحديث الشريف، فكان ما يرويه الثقات قطعياً وإن كان الأمر يتعلق بحوادث أو أفكار أو أشخاص لكلّ الناس الحقّ في النظر إليها نظرة واقعية، ونرى أنّ واجبنا العلمي يقضي بتوجيه أشعة البحث العلمي لنرى على ضوئه ما كمن في ظلمات الجهالة من حقائق يلزم إبرازها، وإزالة كل ما يعتريها من خفاء .
ولا شك أنّ مسألة كهذه يجب على كلّ باحث حرّ أن يعطيها مزيداً من الوقت؛ لأنّها ذات نتائج وخيمة أدّت بالمجتمع إلى أضرار ووقوع فوادح يذوب لها قلب كلّ مسلم، فلننظر على ضوء البحث ما هو مصدرها؟
إنّه المصدر الأوّل لهذه القضية التي لم يسبقه أحد إلى ذكرها هو:
أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري المتوفى سنة (310 هـ) صاحب التفسير الكبير، ومؤلف تاريخ الاُمم والملوك المعروف بتاريخ الطبري. وهو المصدر الوحيد لهذه القصة وجميع ما يتعلّق بأخبار عبدالله بن سبأ .
وأخذ عن ابن جرير كلّ من ابن الأثير المتوفى سنة (630 هـ) وابن كثير المتوفى سنة (774 هـ) وابن خلدون المتوفى سنة (808 هـ) وغيرهم .
وكل ما أورده ابن جرير حول أخبار ابن سبأ وحوادث عهد عثمان وأخبار الردّة إنّما كان مصدره سيف بن عمر المتوفى في عهد الرشيد أو بعده .
وليس لنا أن نتكلّم حول ابن جرير ونقله لأمثال هذه الأسطورة، فإنّه نقل أقوالاً وذكر ما بلغه وسمى قائليها، وترك للباحث الحكم لها أو عليها وقد خرج الطبري عن عهدة المؤاخذات بما ذكره في مقدمة كتابه بقوله:
فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين ممّا يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنّه لم يعرف له وجهاً في الصحة، ولا معنى في الحقيقة فليعلم أنّه لم يؤت في ذلك من قِبَلِنا، وإنّما من قِبَلِ بعض ناقليه إلينا، وإنّا إنّما أدّينا ذلك على نحو ما اُدّي إلين(546).
* * *
وبهذا فهو لم يقرّر صحة كل ما نقل إليه، وقد ترك باب النقاش مفتوحاً للباحث، كما أنّه يأتي في كتابه بالأخبار المتعارضة التي يستحيل أن تصح معاً، ولا يتعرض لها بالموازنة والترجيح إلاّ إذا دعت الحاجة لذلك.
والطبري، لاشك مؤرخ جليل وفقيه عالم، نذر نفسه للعلم والمعرفة ومن وجوه علمه أن يجعل في المقدمة تنبيهاً على طريقة كتابته لتاريخ الاُمم والملوك وبيان أنه أخذ أخبار الماضين كما نقلت إليه وبذلك فهو ينأى بنفسه عن مؤاخذات عدم الصحة والاختلاق والوضع، ولم يجعل نفسه وراء نقوله والأخبار التي أثبتها، ولم يطالبنا بتصديق كلّ ما ورد في كتابه والاعتراف منا بصحة ما ضمّه تاريخه.
أخبار الطبري
ونرى من الأنفع هنا أن ننقل للقارئ الكريم ما كتبه الخطيب ـ المعروف بمحب الدين ـ حول تاريخ الطبري. يقول الخطيب:
إنّما ينتفع بأخبار الطبري من يرجع إلى تراجم رواته في كتب الجرح والتعديل، فتراجم شيوخه مباشرة وشيوخهم توجد في مثل تذكرة الحفّاظ للذهبي، وتراجم الرواة الذين كانوا إلى أواخر المائة الثانية توجد في خلاصة تذهيب الكمال للصفي الخزرجي، وتهذيب التهذيب للحافظ بن حجر، والذين تناولهم الجرح من الضعفاء يترجم لهم الحافظ الذهبي في ميزان الاعتدال، وفي طبقات ابن سعد، وتاريخ بغداد للخطيب، وتاريخ دمشق لابن عساكر، وتاريخ الإسلام للذهبي، والبداية والنهاية لابن كثير، وإن كتب مصطلح الحديث تبين الصفات اللازمة للراوي، ومتى يجوز الأخذ برواية المخالف، ولا نعرف أمة عني مؤرّخوها بتمحيص الأخبار وبيان درجاتها، وشروط الانتفاع بها كما عنى بذلك علماء المسلمين، وأنّ العلم بذلك من لوازم الاشتغال بالتاريخ الإسلامي .
أما الذين يحتطبون الأخبار بأهوائهم، ولا يتعرّفون إلى رواتها ويكتفون بأن يشيروا في ذيل الخبر إلى الطبري رواه في صفحة كذا من جزئه الفلاني، ويظنّون أنّ مهمتهم قد انتهت بذلك فهؤلاء من أبعد الناس عن الانتفاع بما حفلت به كتب التاريخ الإسلامي من اُلوف الأخبار .
ولو أنّهم تمكّنوا من علم مصطلح الحديث وأنسوا بكتب الجرح والتعديل واهتموا برواة كلّ خبر كاهتمامهم بذلك الخبر، لاستطاعوا أن يعيشوا في جو التاريخ الإسلامي، ولتمكّنوا من التمييز بين غثّ الأخبار وسمينها، ولعرفوا للأخبار أقدارها، بوقوفهم على أقدار أصحابها(547).
* * *
هذا ما يقرره الكاتب الخطيب. وقبل أن ندخل في موضوع البحث عن سند الروايات في قضية ابن سبأ نودّ أن نسائل هذا الكاتب :
هل التزم هو بما قرره هنا فبحث عن رجال السند لما ينقله عن الطبري وغيره؟
وهل تمكن من علم مصطلح الحديث؟ وأنس بكتب الجرح والتعديل فوقف عن قبول رواية من جرحوه؟ وتقبل رواية من عدلوه؟
فإن أجاب بنعم. فالواقع يكذبه، لأنّه أورد في كتاباته أشياء لا تستند إلى مصدر موثوق به، فقرر قبولها طاعة لهواه .
وأجلى مثال لذلك هو ما ذكرناه هنا عن قضية ابن سبأ التي انفرد بها الطبري، ولم يكن في سند الرواية من يتصف بصفة القبول فكيف اعتمد عليها؟
ولا أدري أنّ ما ذكره هنا لماذا لا يطبقه على نفسه بل يريد ذلك للغير؟ وما هو إلاّ من الآمرين بالمعروف التاركين له الناهين عن المنكر الفاعلين له.
وإلى القراء بيان سند الرواية ليتّضح لهم أنّ ما كتبه الخطيب لا يعدو حبراً على الورق .
السند
رأينا فيما سبق كيف أخذت اسطورة ابن سبأ مأخذها في التاريخ الإسلامي، وشقّت طريقها إلى الهدف الذي وضعت من أجله، وهو الطعن في عقائد المسلمين، وإبرازهم في إطار الجهالة والانخداع، ممن يتظاهر لهم باُمور ينسبها إلى الدين، وقد عبّر كثير من الكتّاب عن اُولئك الرجال العظام الذين يدّعي بعض الكتّاب أنهم استجابوا لابن سبأ: بأنهم تقبلوا ذلك عن حسن نية. وبعضهم يصفهم بالبلاهة، وبعضهم بالغلو إلى آخر ما عندهم من سوء التعبير .
وقد رأينا أيضاً أنّ ابن سبأ أصبح ذا قوة وسلطان ينشر عقائده، ويبثّ مفاسده في المجتمع الإسلامي بدون خوف من سلطان، أو حذر من مؤاخذة الرأي العام، حتى استطاع أن ينحرف بأكثر المسلمين عن جادّة الحقّ بدون أن تمسّه عقوبة، أو يناله ضرر من ولاة الأمصار الذين عرفوا منه السعي بما يضرّ بالدولة، في دعوة الناس إلى ثورة ضد الخليفة عثمان.
وقد ذكروا أنّ والي البصرة أكتفى بإخراجه من البلد، وأنّ معاوية عندما علم بأمره لم يعمل معه أي شيء، وابن أبي سرح في مصر لم يؤاخذه بشيء، وهو يرى تحشد جموعه، وتأهبهم لغزو المدينة، لحدوث انقلاب إلى آخر ما ذكره من تهويل أمره ورفع شأنه.
يقول الدكتور طه حسين ـ بعد ذكره لقضية ابن سبأ واستبعاده صحتها ـ :
فلنقف من هذا كلّه موقف التحفظ، والتحرج والاحتياط، ولنكبر المسلمين في صدر الإسلام عن أن يعبث بدينهم، وسياستهم، وعقولهم رجل أقبل من صنعاء، وكان أبوه يهودياً، وكانت اُمه سوداء وكان هو يهودياً ثم أسلم ـ لا رغباً ولا رهباً ـ ولكن مكراً وكيداً وخداعاً، ثم اُتيح له من النجح ما كان ينبغي، فحرّض المسلمين على خليفتهم حتى قتلوه وفرّقهم بعد ذلك أو قبل ذلك شيعاً وأحزاباً .
هذه كلّها اُمور لا تستقيم للعقل، ولا تثبت للنقد، ولا ينبغي أن تقام عليها اُمور التأريخ(548).نعم إنّ هذه الاُمور التي أحاطت بهذه القصة وما تضمّنته من أشياء لا يمكن تصديقها ـ وهي كافية في طرحها، وعدم الاعتماد عليها، ولا حاجة بعد هذا إلى البحث عن السند ومعرفة حالة الرواة، لأنّ ذلك ـ كما هو الواقع ـ شيء زائد لا يحتاج إليه .
ولكن نظراً لما لهذه القصة من أهمية، وأنّ بعضهم يظنّ أنّ رواتها ثقات فقد دعت الحاجة إلى معرفة حالة رجال السند، والاستماع لأقوال علماء الرجال ليتّضح الأمر، وتظهر الحقيقة، ويكون الحكم للعقل لا للعاطفة وللعلم لا للجهل، وللحق لا للباطل .
وأنّ مستند هذه القصة هو واحد لا غير وهو سيف بن عمر، وقد انفرد الطبري بذلك وعنه أخذ بقية المؤرخين كما سبق. والآن نضع رجال السند أمام القراء ولهم الحكم .
رجال السند
الطبري ـ في حوادث سنة (30 هـ) ـ يقول: وفي هذه السنة كان ما ذكر من أمر أبي ذر، وإشخاص معاوية إيّاه من الشام إلى المدينة، وقد ذكر في سبب إشخاصه إياه منها (من الشام) إليها (إلىالمدينة) اُمور كثيرة كرهت ذكر أكثرها، فأمّا العاذرون معاوية في ذلك فإنّهم ذكرو في ذلك قصة كتب بها الى السري يذكر أن شعيباً حدثه عن سيف، عن عطية عن يزيد الفقعسي قال: لما ورد ابن السوداء الشام لقي أبا ذر فقال: يا أبا ذر ألا تعجب إلى معاوية يقول: المال مال الله... إلخ(549)كما ذكره أحمد أمين في استدلاله على أنّ ابن السوداء لقن أبا ذر مبادئ مزدك المجوسي إذ يقول أحمد أمين: ونلمح وجه الشبه بين رأي أبي ذر وبين رأي مزدك في الناحية المالية فقط فالطبري يحدثنا:
إنّ أبا ذر قام بالشام وجعل يقول: يا معشر الأغنياء، واسوا الفقراء. بشر الذين يكنزون الذهب والفضة... إلخ كما تقدم .
ثم يقول أحمد: ولكن من أين أتاه هذا الرأي؟ ـ أي أبا ذر ـ يحدثنا الطبري أنّ ابن السوداء لقي أبا ذر فأوعز إليه بذلك...(550).وهو ما أشرنا إليه الآن، فحديث الطبري كان عن مكاتبة من السري أنّ شعيباً حدثه عن سيف عن عطية عن يزيد الفقعسي.
فهؤلاء هم رجال سند هذه القصة ومستند حكم أحمد أمين على أبي ذر بأنّه يرى رأي مزدك، وأنّه أخذه عن ابن السوداء.
فمن هم هؤلاء الرجال؟ وما هي منزلتهم؟ وما محلهم من الصدق؟ ستأتي الإجابة عن ذلك قريباً إن شاء الله .
ولا يفوتنا هنا أن نلفت نظر القارئ إلى أنّ الطبري يجعل هذه القصة من قبل العاذرين لمعاوية، وهم المتعصبون له وناهيك ما للتعصب من أثر في الافتعال .
* * *
أمّا ما يتعلّق بقضية ابن السوداء وتجواله في الأمصار الإسلامية وفشل محاولاته، وأخيراً يحطّ رحله في مصر وإظهار قوله بها في الرجعة والوصاية، وأنه بثّ دعاته ـ كما يروي الطبري ـ وكاتب من كان استفسد في الأمصار وكاتبوه ودعوا في السر إلى ما عليه أمرهم إلى آخر ما رواه الطبري(551) وذكره الشيخ أبو زهرة وغيره من الكتّاب .
وإذا رجعنا لمصدر القصة فحديث الطبري هكذا يقول: فيما كتبه إلى السري: عن شعيب، عن سيف، عن عطية، عن يزيد الفقعسي قال كان عبد الله بن سبأ يهودياً من أهل صنعاء، اُمّه سوداء فأسلم زمان عثمان، ثم تنقل في بلدان المسلمين يحاول ضلالهم فبدأ بالحجاز، ثم البصرة ثم الكوفة إلى آخر ما ذكر في ج5 ص98 ـ 99 ط1 .
فالحديث يدور حول الطبري، والسري، وشعيب وسيف وعطية ويزيد الفقعسي. هؤلاء رجال سند الرواية وهؤلاء مستند من ذكروا ابن سبأ في كتبهم وعظموا أمره في كتاباتهم وخلقوا منه شخصية قوية ذات أثر في تاريخ المسلمين بل غيّر مجرى التاريخ .
وأصبحت الرواية متواترة ومشهورة وقد لعبت طريقة الاتباع دورها في تجميد العقل وترك التحقيق على ما فيها من مخالفة لقواعد التطور وقوانين الحياة التي تقضي باستخدام مقاييس العقل فيما يروى ويصدر عن الناس فأيّ مقنع في أن تكون أقوى دعامة لعدم الرد على صحة قضية ابن سبأ تواترها، أو صدورها من ثقات كالطبري وهو راوية ولم يفصح عن تقرير كلّ ما حواه تاريخه؟ ولم يقل بصحة ما ضمّه.
كما أنّ أي رواية في قيمتها تتأثر بسندها. وقد انحصرت قصة ابن سبأ في دائرة الطبري وبدأ عرضها على لسان سيف ولم يشارك الطبري أحد من المؤرخين الثقات الآخرين، كما أنّ الفجوة الزمنية تبقى قائمة لا تغلقها أو تملأها ذيول من الأكاذيب.
فأين كان ذكر ابن سبأ قبل روايه سيف؟
ونتنزل لمقتضيات الأمانة ومستلزمات التحقيق ونسلط أشعة التحقيق على رجال قصة ابن سبأ.
والواجب يقضي علينا عدم التصديق بأمثال هذه المفتريات، ولكن لزيادة الإيضاح والتنازل للحصول على ما هو الواقع نجعل هؤلاء الرجال تحت أشعة التحقيق العلمي.
التحقيق
الطبري: أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري المتوفى سنة (310 هـ) صاحب التأريخ الكبير المعروف بتأريخ الطبري، ولا يتعلّق لنا غرض بالبحث عن شخصيته فهو شخصية معلومة ومن رؤساء المذاهب البائدة، وقد تبرأ من عهدة النقل بقوله الآنف الذكر: فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنّه لم يعرف له وجهاً في الصحة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنّه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنّما أتى من قبل بعض ناقليه إلينا، وإنّما أدينا ذلك على نحو ما اُدّي إلينا(552).وعلى هذا أصبحت المسؤولية على عاتق الرواة الذين روى عنهم، وهنا نجري التحقيق العلمي عن رجال سند هذه القصة الذين روى عنهم الطبري وهم :
السري، وشعيب، وسيف بن عمر، وعطية، ويزيد الفقعسي، فمن هم هؤلاء وما مقدار تحملهم للرواية؟ وماذا يقول عنهم علماء الرجال؟
1 ـ السري
هذا هو أوّل سلسلة الرواية، والطبري عندما يروي عنه يقول: كتب إليّ السري، أو فيما كتب إليّ به السري. من دون أن ينسبه إلى أبيه أو عشيرته .
ولكنه روى عنه مرة مشافهة فقال: حدثني السري بن يحيى(553).فظهر أنّ الذي يحدث عنه الطبري هو السري بن يحيى، وهو مع ذلك مجهول لا يعرف ويتردد هذا الاسم بين جماعة هم :
السري بن يحيى بن أياس وهذا لم يعاصر الطبري، لأنّ وفاة السريبن يحيى سنة (167 هـ) أي قبل ولادة الطبري بسبع وخمسين سنة إذ ولادة الطبري سنة (224 هـ) ووفاته سنة (310 هـ) فهذا لا يمكن أن يكون هو .
السري بن يحيى بن السري ابن أخي هناد بن السري، ذكره ابن أبي حاتم المتوفى سنة (327 هـ) وهذا كان في عصر الطبري لأنّه عاصر ابن أبي حاتم، ولكن، لم تذكر له رواية، أو يشير أحد إلى من روى عنه ولم يصفه أحد بأنه محدث أو حدّث عن أحد أو حدثوا عنه وبهذا فهو مجهول .
وعلى أيّ حال لا يوجد بهذه النسبة من عرف بالحديث أو اشتهر بالرواية .
وبعضهم يرى أنّ السري الذي يروي عنه الطبري هو السري بن إسماعيل الهمداني الكوفي ابن عم الشعبي وكاتبه، وهذا أيضاً لا يصح لأنّ وفاة الشعبي سنة (103 هـ) وولادة الطبري سنة (224 هـ) ولا يمكن أن يمتد عمر السري هذا إلى زمن الطبري فيحدثه، ومع هذا فقد اتصف بصفات توجب ردّ ما يرويه فهو ضعيف ومتروك الحديث كما يقول ابن المبارك وأبوداود، والنسائي وهو ليس بثقة وأحاديثه التي يرويها لا يتابعه عليها أحد كما يقول ابن عدي. وقال ابن حبان: كان يقلّب الأسانيد، ويرفع المراسيل إلى آخر ما وصفوه به(554).ويرى بعضهم أنّ السري الذي يروي عنه الطبري هو: السري بن عاصم ابن سهل أبو عاصم الهمداني مؤدب المعتز بالله، وقد ينسب إلى جدّه، وهذا معاصر للطبري لأنّ وفاته سنة (258 هـ) في بغداد وكان عمر الطبري عند وفاة السري هذا ثلاثين سنة فيمكن أن يكون هو .
ومع هذا فقد كذّبه ابن خراش ووهّاه ابن عدي، وقال: يسرق الحديث وقال النقاش: إنّه وضّاع، وذكر الذهبي حديثين من وضعه(555).وكيف كان فإنّ الجهالة تحيط بهذا الراوي الذي يروي عنه الطبري، ولو فرضنا أنّه معروف وأنّه ثقة، ولكن يلزمنا أن نحقق عن شيخه الذي يروي عنه وهو شعيب.
2 ـ من هو شعيب ؟
شعيب بن إبراهيم وهو مجهول، قال الذهبي: شعيب بن إبراهيم راوية كتب سيف عنه: فيه جهالة؛ وذكره ابن عدي وقال ليس بالمعروف، وهذا لا يحتاج إلى إطالة بحث، لأنّ الجهالة قد أرخت عليه سدولها ولا يعرف إلاّ أنّه راوية سيف بن عمر .
3 ـ من هو سيف ؟
سيف بن عمر الضبي الأسدي ويقال التميمي البرجمي ويقال السعدي الكوفي المتوفى بعد سنة (170 هـ) وهو راوية أحاديث السقيفة والردة، وحوادث عهد عثمان، وهو نقطة إنطلاق اُسطورة ابن سبأ، وعليه تدور أخبار السبئية، ونشأتهم وأثرهم في المجتمع الإسلامي، وما أحدثوه من بدع، وما أوجدوه من خلاف .
إنّه هو المبدع لهذه الأساطير، والموجد لتلك الحوادث، والمنفرد بتصوير شخصية ابن سبأ، والباني لكيانه .
وقد وصفوه بأنّه وضّاع كذّاب، زنديق يروي الموضوعات عن الأثبات(556)، ولننظر أوّلاً إلى من يروي عنهم سيف أو بعبارة أوضح من يضع عنهم الروايات، ثم نعود إلى الحديث عن سيف .من هو عطية؟
لا يدرى من هو عطية الذي يروي عنه سيف فهل هو عطية العوفي المتوفى سنة (110 هـ) أم عطية بن قيس الكلابي المتوفى سنة (121 هـ) أم غيرهما؟ فإن كان المراد به العوفي فذلك شيء بعيد جداً لأنّ عطية العوفي كان من التابعين وتوفي سنة (110 هـ) فسيف بن عمر لم يدركه لأنّه متأخّر عنه بل كان في بطون الأرحام وليس من الصعب على سيف أن يدعي الرواية عنه وهو لم يدركه. أما عطية بن قيس الكلابي فهو شامي ولم يتصل به سيف، ونحن لا ندري من هو؟ ولئن حصلت لنا دراية فماذا تنفع وسيف ثبت أنّه وضّاع؟
ومن جهة ثانية أنّ يزيد الفقعسي وهو نهاية السلسلة وبداية الاُسطورة لم يعرف من هو، ولا يوجد في الرجال من يسمى بهذا الاسم ويلقب بالفقعسي، وهنا تنقطع السلسلة، ولا يبعد أنّه شخصية وهمية كشخصية عبدالله بن سبأ، فسيف بن عمر قادر على أن يخلق ألف شخصية وشخصية، ويخترع آلاف الأساطير. فهو وضّاع بارع ويوجد مِن لا شيء أشياء كثيرة وإليك بعض ما وصف به .
سيف بن عمر في الميزان
وبعد أن كشف التحقيق عن رواة هذه القصة، أي قصة ابن سبأ نودّ أن نضع بطل هذه الاُسطورة سيف بن عمر في الميزان، لنعرف قيمة روايته ممّا بيّنه علماء الرجال من حاله .
قال ابن حجر: سيف بن عمر التميمي البرجمي ويقال السعدي، ويقال الضبعي، ويقال الأسدي الكوفي صاحب كتاب الردة والفتوح روى عن عبدالله ابن عمر العمري وأبي الزبير...
قال ابن معين: ضعيف الحديث وقال مرة: فليس خير منه ـ أي لا يأتي منه خير ـ وقال أبو حاتم: متروك الحديث يشبه حديثه حديث الواقدي وقال أبوداود: ليس بشيء. وقال النسائي والدارقطني: ضعيف، وقال ابن عدي: بعض أحاديثه مشهورة، وعامتها منكرة لم يتابع عليها، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات. وقال ابن حبان أيضاً: وقالوا عنه إنّه كان يضع الحديث، واُتّهم بالزندقة، وقال البرقاني عن الدارقطني: متروك. وقال الحاكم: اُتّهم بالزندقة(557).وقال الذهبي: سيف بن عمر الضبي الأسدي التميمي البرجمي ويقال السعدي الكوفي مصنف الفتوح والردة .
ثم يذكر أقوال علماء الرجال كما ذكر ابن حجر، ونقل عن جعفر بن أبان إنّه سمع ابن نمير يقول: كان سيف يضع الحديث، وقد اتّهم بالزندقة(558).وقال ابن أبي حاتم: سيف بن عمر الضبي: عن يحيى بن معين أنّه قال: سيف بن عمر الضبي الذي يحدث عنه المحاربي ضعيف الحديث. وقال سئل أبي عن سيف بن عمر الضبي فقال متروك الحديث يشبه حديثه حديث الواقدي(559).وفي ترجمة القعقاع عند ابن أبي حاتم أورد له حديثاً رواه سيف بن عمر، عن عمر بن تمام، عن أبيه عن القعقاع، وقال ابن أبي حاتم: وسيف متروك الحديث فبطل الحديث. وإنّما كتبنا ذلك للمعرفة(560).والحديث هو ما رواه سيف عن القعقاع بن عمر قال: شهدت وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فلما صليت الظهر جاء رجل حتى قام في المسجد فأخبر بعضهم أنّ الأنصار قد اجمعوا أن يولوا سعداً ـ يعني ابن عبادة ـ ويتركوا عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)فاستوحش المهاجرون(561).قال ابن السكن: سيف بن عمر ضعيف. وذكر ابن حجر قول ابن أبي حاتم: سيف بن عمر متروك الحديث، وكذلك ذكره ابن عبدالبر في الاستيعاب ج3، ص263 بهامش الإصابة .
وقال السيوطي: سيف وضّاع. وذكر حديثاً من طريق السري بن يحيى عن شعيب بن إبراهيم عن سيف فقال السيوطي: موضوع فيه ضعفاء أشدهم سيف.
* * *
ولعلّنا فيما أوردناه من أقوال علماء الرجال هو كاف لمعرفة سلسلة هذه الاُسطورة، وبالاخص بطلها الأوّل سيف بن عمر، فقد استبان وزنه، وعرفت حالته، ولم يرد عن أحد منهم فيه كلمة ثناء كما وقفت عليه.
وربما يقال: إنّ سيف بن عمر خرّج له الترمذي وروى له في صحيحه فيظنّ أنّ له أحاديث في الأحكام وغيرها، أو أنّ الترمذي صحّح حديثه؛ وبهذا يتثبت من يريد أن يخلق لسيف بن عمر شخصية يوثق بها.
ولكن الترمذي لم يرو له إلاّ حديثاً واحداً وقال ـ بعد أن ذكره: وهذا منكر .
والحديث الذي رواه الترمذي هو عن أبي بكر بن نافع عن سيف بن عمر السعدي، عن عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): إذا رأيتم الذين يسبون أصحابي فالعنوه.
قال الترمذي: وهذا الحديث منكر. وبهذا فهو ساقط عن الاعتبار(562).
* * *
ولسنا بحاجة إلى أكثر من هذا البيان لمعرفة حالة سيف بن عمر، ومقدار تحمله للرواية ؛ فهو كما رأيت: وضّاع كذّاب، زنديق متروك الحديث، أحاديثه منكرة و. و. إلخ .
ونحن إذ نتكلف البحث عن سند هذه الاُسطورة وغيرها من أحاديث سيف التي هي أبعد ما تكون عن الواقع، فكل قصدنا التنبيه على ما يظنّ أو يتبادر إلى ذهن البعض بأن تلك الأساطير قد اشتهرت، وذكرها كثير من المؤرخين فلا بد أنّهم وثقوا من الناقلين فأثبتوها، فنالت هذه الشهرة .
والواقع أنّ هذه الشهرة لم تكن للتواتر، ولا لصحة ما يروى عن سيف وإنّما المصدر الوحيد هو الطبري كما قدمنا، وقد أخذ عنه كل من ابن الأثير، وابن كثير، وابن خلدون، وأبي الفداء وغيرهم .
فأما ابن الأثير فقد صرح في مقدمة تاريخه بأنّه أخذ ما في كتاب الطبري وزاد عليه... إلخ(563).وأما ابن كثير فقد ذكر في تاريخه عن سيف بن عمر ـ فقط ـ أنّ سبب تألب الأحزاب على عثمان: أنّ رجلاً يقال له عبدالله بن سبأ، كان يهودياً فأظهر الإسلام، وصار إلى مصر، فأوحى إلى طائفة من الناس كلاماً اخترعه من نفسه، مضمونه أنه يقول للرجل... إلخ(564) ثم ينقل القصة وبعد ذلك ينقل عن سيف وحده بعض الحوادث كما في ص169، ثم يمضي في ذكر الحوادث، حتى يأتي إلى صفحة 246 فيقول: هذا ملخص ما ذكره أبو جعفر محمّد بن جرير(رحمه الله).
وأما ابن خلدون فإنّه ذكر السبئية في حادثة الدار والجمل وقال: هذا أمر الجمل ملخصاً من كتاب أبي جعفر الطبري(565).وقال في ص457 منه: هذا آخر الكلام في الخلافة الإسلامية وما كان فيها من الردة، والفتوحات ثم الاتفاق والجماعة، أوردتها ملخصة من كتاب محمّد ابن جرير الطبري، وهو تأريخه الكبير... إلخ.
أمّا ابن عساكر في تاريخه مدينة دمشق وهو مرجع لكثير من الكتّاب: إمّا إليه نفسه أو إلى تهذيبه لابن بدران، وقد يرجعون إليهما معاً.
فإنّ ابن عساكر في حديثه عن السبئية ينقل عن الطبري بل ينقل نفس العبارة كما في تهذيبه(566) لابن بدران ولكنه يترك السند وفي ج7 ص429 يقول: وروى سيف بن عمر عن أبي حارثة وأبي عثمان. ثم يذكر قصة ورود ابن سبأ إلى مصر .
ويروي ابن عساكر في تاريخه عن أبي القاسم السمرقندي، عن أبي الحسين النقور عن أبي طاهر المخلص، عن أبي بكر سيف، عن السري بن يحيى، عن شعيب بن إبراهيم، عن سيف بن عمر .
فهذا هو سند ابن عساكر لجميع ما ينقله حول ابن سبأ، وأنت تراه يلتقي مع الطبري في السند الذي أورد فيه تلك الحوادث .
وصفوة القول أنّ الجميع عيال على الطبري في إيراد حوادث ابن سبأ، والطبري كما تقدّم لم يضمن أصلاً صحة ما أورده في تاريخه، بل هو ناقل وترك لقرائه البحث والتنقيب لأنه تبرأ من عهدة رواياته في التاريخ، وحملها على أكتاف رواتها له، وقد تقدم، وأنّ الراوي هو سيف بن عمر ولا طريق غيره.
* * *
هذا ونرى أنفسنا في غنى عن التوسع في البحث حول هذه القضية إن كان الأمر يدور حول الواقع، ومعرفة الحقيقة، وأنّ الحكم للعلم من دون مغالطة وتعصّب.
وقد أثبت التحقيق العلمي مقدار ما لهذه الاُسطورة من الواقع، فهي بعيدة كلّ البعد عنه .
وما أوردته هنا من الموهنات لهذه الاُسطورة وما ورد في نقد سلسلة رجالها ليس كل ما ورد فيها، بل هناك أشياء كثيرة لم نذكرها اختصاراً.
ومن الحقّ والإنصاف أن نشير إلى ما كتبه العلاّمة السيد المرتضى العسكري حول أحاديث سيف بن عمر واُسطورة ابن سبأ، في كتاب عبداللهبن سبأ(567) بصورة واسعة مستقصياً أحاديثه في الحوادث التاريخية، وماله من افتعالات وأحداث .
وقد تعرّض إلى أسماء الصحابة الذين افتعل سيف بن عمر أسماءهم؛ ولم توجد إلاّ من طريقه بل إبتكاره .
وقد سبق أنّ العلامة الأميني في الجزء الثامن من كتابه الغدير قد تعرّض لأحاديث سيف بن عمر الموضوعة وأحصاها وهي 701 وقال: تحت عنوان: نظرة في تاريخ الطبري:
شوّه الطبري تاريخه بمكاتبات السري الكذّاب الوضّاع عن شعيب المجهول الذي لا يعرف، عن سيف الوضاع المتروك، الساقط المتّهم بالزندقة؛ وقد جاءت في صفحاته بهذا الإسناد المشوه 701 رواية وضعت للتمويه على الحقائق الراهنة في الحوادث الواقعة من سنة (11 هـ) إلى (37 هـ) عهد الخلفاء الثلاثة، ولا يوجد شيء من هذا الطريق الوعر في أجزاء الكتاب كلها غير حديث واحد ذكره في السنة العاشرة.
وانّما بدأ برواية تلكم الموضوعات من عام وفاة النبي الأقدس(صلى الله عليه وآله وسلم) وبثّها في الجزء الثالث، والرابع، والخامس، وانتهت بانتهاء خامس الأجزاء:
ذكر في الجزء الثالث من ص210 في حوادث سنة (11 هـ)، 67 حديثاً .
أخرج في الجزء الرابع في حوادث سنة (12 هـ)، 427 حديثاً .
أورد في الجزء الخامس في حوادث السنة الـ (23 هــ 37 هـ ) 207 أحاديث فيكون المجموع 701 حديث(568).
* * *
وعلى أيّ حال فإنّ هذه الاُسطورة التي أخذت مفعولها في المجتمع وأثّرت أثرها السيء، هي نتيجة للتعصب الأعمى الذي ينحرف بأصحابه عن جادة الصواب ويطلق الأوهام والخرافات من عقالها، وقد مرت قرون وهي تحتلّ مكاناً من الكتب التاريخية، بدون أن ينالها التحقيق أو تسأل عن كفاءتها لاحتلال ذلك المكان .
وقد تصرّف فيها كثير من الكتّاب، وفقاً لأهوائهم، وطبقاً لرغباتهم ولم يهتدوا بهدي عبقرياتهم، ومواهبهم العلمية .
وإنّا لا ننكر أنّ هناك من أنكر وجود هذه الاُسطورة في صفحات الكتب واستنكر وجودها، وأنّها لا تستحق أن تحتلّ ذلك المحل من التاريخ الإسلامي؛ فأخذ يحارب وجودها، ويطالب بإبعادها، وبعض يشك في أمرها، ويتوقف عن نفيها أو إثباتها.
ومن الغريب أن نجد من يتعصب لابن سبأ ويثبت وجوده وسعيه المنكر في إثارة الفتنة بين الصحابة، ويتحامل على من ينكر ذلك، ويصل به تعصبه من ابن سبأ الى حدّ القول بأنّ إنكاره كمن ينكر وجود عيسى بن مريم، أو ينكر الشمس، وهذا قول بدون دليل، بل هو من المتناقضات كما سنبيّنه، فمن هو هذا المنكر؟ هو محمّد زاهد كوثري وإليك نصّ قوله:يقول الكوثري(569)
عبدالله بن سبأ المعروف بابن السوداء اليماني، كان يتعثّر في أذياله في سبيل الركض وراء إثارة فتن بين الصحابة رضي الله عنهم، متنقلاً بين اليمن، والحجاز، والبصرة والكوفة، ومصر والشام، للدس وتعكير الصفاء بين المسلمين في عهد عثمان وعلي رضي الله عنهما، أيام كان المسلمون ما خبروا أساليب الماكرين، وطرق فتن الفاتنين، من قوم بهت، أهل غدر وكذب وفجور، على ما في صحيح البخاري وغيره، ونتائج تلك الفتن ماثلة أمام كلّ باحث، مدونة في كتب ثقات المؤرخين من علماء هذه الاُمة، من أمثال ابن أبي خيثمة، وابن جرير، وابن عساكر، وابن كثير، وابن السمعاني وغيرهم رغم محاولة بعض المسفسطين من أبناء اليوم إنكار وجود شخص يقال له عبدالله بن سبأ، فضلاً عن أن يكون أحدث تلك الأحداث، ضارباً أقوال هؤلاء السادة عرض الحائط، فيما يمسّ بني العمومة ـ والعرق دساس ـ وشأن هذا الصنف من الكتّاب شأن من ينفي صلة إسماعيل(عليه السلام) بمكة، وشأن من ينكر وجود شخص يقال له عيسى بن مريم، في محاولة إنكار الشمس في رائعة النهار...
إلى أن يقول: فاستبعاد سعي ابن سبأ في الفتنة في عهد عثمان بعد اعتراف جولد تسهير اليهودي بذلك تحزّباً لليهود فوق اليهود أنفسهم وسيف بن عمر من رجال جامع الترمذي فلا يستغني عن أنبائه... إلخ(570).
* * *
هذا هو حكم الشيخ الكوثري على قضية ابن سبأ، وأنّها كالشمس في رائعة النهار، وأنّ من أنكرها من الكتّاب يكون من أبناء عمومة سيف بمعنى أنّه يهودي إذ العرق دساس ـ على حدّ تعبيره ـ وأنّ سيف بن عمر لا يستغني عن أنبائه وهو من رجال جامع الترمذي، والراوي وهو الطبري وهو ثقة وأن جولد تسهير ذكرها .
وهذه أدلة يسوقها الكوثري لإثبات قضية ابن سبأ بطل الفتنة، وقائد جيش الانقلاب على الخليفة عثمان .
ولعلّ هناك ممن يطلع على هذا القول فيظنّ أنّ الكوثري حكم بهذا نتيجة لتتبعه وقناعته في الموضوع، وكلّ ذلك لم يكن .
وإنّما كان هذا الحكم نتيجة لتعصّبه وتعمّده لإخفاء الحقائق والتمويه والجدل، ونحن من فمه ندينه في نقض هذا الحكم .من فمك أدينك..
بين أيدينا مقال للشيخ الكوثري عنوانه: كلمة عن خالد بن الوليد وقتل مالك بن نويرة .
يتحدّث الشيخ في هذه الكلمة حول حادثة مالك بن نويرة، وقتل خالد له ودخوله على زوجة مالك في ليلة قتله، كما ذكرها المؤرخون .
يقف للدفاع عن خالد ويندد في كتب الغربيين الذين نقلوا هذه الحادثة ويقول: وكانت طريقة كتّاب الغرب في النيل من الإسلام طريقة الإقذاع المجرّد...
ثم يطعن في كتب السير أمثال محمّد بن إسحاق فيكذّبه، ويكذّب رواته .
وكتاب الواقدي وأنّه غير متثبت بل يروي عن كلّ من هب ودب ويروي الأخبار الكاذبة.
إلى أن يأتي إلى الطبري وهو أحد رواة تلك الحادثة فيقول: وابن جرير الطبري عمدة أمثال ابن الأثير، وأبي الفداء، وابن كثير، وابن الوردي، وأنّ الطبري لم يضمن صحة ما أورده في تاريخه وأنّه تبرأ من عهدة رواياته في التاريخ وحملها على أكتاف رواتها له .
وهكذا يقف الشيخ في الدفاع عن خالد ويطعن في كتب التاريخ ويكذب الرواة .
وليس هذا محل القصد من ذلك بل نريد أن نستمع في دفاعه حول سيف ابن عمر وشيوخه، ومن روى عن سيف، وقد تقدّم قوله مما يشعر بأنه من رجال جامع الترمذي ويؤخذ بأحاديثه .
فلنترك الشيخ يتحدّث عن سيف في مقام دفاعه عن خالد فيقول: سيف بن عمر التميمي صاحب كتاب الردة والفتوح، يقول عنه أبو حاتم: متروك الحديث يشبه حديثه حديث الواقدي. وقال الحاكم: اُتّهم بالزندقة وهو في الرواية ساقط. وقال ابن حبان: إنّه كان يضع الحديث، يروي الموضوعات عن الإثبات، اُتّهم بالزندقة وضعّفه غير واحد.
وراويته شعيب بن إبراهيم يقول عنه الذهبي: فيه جهالة .
ويقول ابن عدي: ليس بالمعروف وله أحاديث وأخبار فيها ما فيه تحامل على السلف .
والراوي عنه السري بن يحيى غير موثق، وهو شيخ ابن جرير في رواياته عن سيف، وأما من فوق سيف من الرجال مجاهيل في الغالب(571).
* * *
هذا ما جاء في دفاع الكوثري عن خالد بن الوليد، وقد ظهر لنا أنّه يطعن في مرويات سيف ويكذبه، وهذا السند هو نفسه الذي خرّج الطبري فيه أحاديث وحوادث السبئية .
فما معنى جزمه بصحة ما جاء في هذا السند عن حوادث السبئية وأنّها كالشمس في رائعة النهار؟ وفي قضية خالد بن الوليد وقتله لمالك ونزوه على امرأته يحكم بكذبه، ويجزم بتوهينه كما مرّ، على أنّ قضية خالد وزنائه بزوجة مالك بن نويرة قد خرّجه الطبري من طريق آخر وهو: عن عبد الحميد بسند عن عبدالرحمن بن أبي بكر ـ وفيه قول عمر بن الخطاب لأبي بكر في ذمّ خالد بن الوليد: عدو الله عدا على امرئ مسلم فقتله ثم نزى على امرأته. وأقبل خالد بن الوليد قافلاً، فلما أن دخل المسجد قام إليه عمر وقال: إرثأ قتلت امرأً مسلماً ثم نزوت على امرأته والله لأرجمنّك بأحجارك... إلخ(572).
* * *
ولسنا بصدد إيراده هذه القصة والبحث عن ورودها ولكننا نريد أن نبيّن مدى ما بلغت إليه الحالة من التنكر للحقائق، والابتعاد عن الواقع، نتيجة للتعصب الأعمى، وانقياداً للهوى المردي.
ولعلّ الشيخ الكوثري يعتذر بأمر واجب وهو: أنّ رواية قتل مالك بعد ثبوت إسلامه وقد شهد له جماعة عند خالد ونزوه على امرأته وبذلك طعن على خالد وهو صحابي، ولا يصح الطعن، وحنيئذ يجب تأويل كلّ رواية تتضمن ذلك، وقد تقدم قول النووي، قال العلماء: الأحاديث الواردة في ظاهرها حمل على صحابي يجب تأويلها(573).
والشيخ الكوثري قام بواجبه في الدفاع عن خالد في إرتكابه بتلك الفعلة الشنيعة. ولأنّ سيفاً في بعض طرق الطبري لرواية خالد إنهال عليه الكوثري ببراهين الحقّ، ولكنّ التعصّب أو العناد يحول سيفاً الى راوية ثقة ولا يستغنى عن أنبائه لأنه مصدر قصة ابن سبأ، فهل هذا من العلم والأمانة في شيء؟!
وعلى أيّ حال، فإنّ قضية ابن سبأ تتضمن الطعن على أغلبية الصحابة، ووصفهم في اتّباع رجل يهودي يضلّهم عن دينهم، ويدعوهم إلى ما نهى الإسلام عنه، وفيها: أنّ أبا ذر تلقن مبادئ الزرادشتية والتعاليم اليهودية من ابن سبأ، وعمار بن ياسر من استهواه ابن سبأ، فأصبح على رأس الدعاة لابن سبأ ومبادئه.
وبهذا تكذيب لأقوال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ووصفه لأبي ذر بالصدق ولعمار: بإنّه مع الحقّ والحقّ معه وإنه ما خير بين أمرين إلاّ اختار أشدهما وأنّ عماراً هو ميزان لمعرفة الفئة المحقة ولا تقتله إلاّ الفئة الباغية.
ونرى من اللازم هنا ختاماً لهذا الموضوع أن نشير لبعض الأحاديث الواردة من صاحب الرسالة الأعظم نبينا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) في أبي ذر وعمار بن ياسر .
أبو ذر الغفاري
أبو ذر: جندب بن جنادة بن سكن المتوفى سنة (31هـ) ـ (32 هـ) بالربذة هو رابع الإسلام، والمعذب في سبيل نشر الدعوة الإسلامية، وهو الزاهد المشهور الصادق اللهجة، الذي قال فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء، أصدق لهجة من أبي ذر(574).وأخرج الترمذي بلفظ: ما أظلت الخضراء ولا اقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر شبيه عيسى بن مريم .
وهذا الحديث مشهور رواه جماعة وخرّجه الحافظ كالترمذي، وابن ماجة، والحاكم، وأبو نعيم، وغيرهم(575).وكان أبو ذر هو رابع الإسلام، وأوّل من جهر في الدعوة، وأعلن الإسلام بين قومه، وفي مكة حتى ناله العذاب، وهو ممن أمر الله تعالى نبيه(صلى الله عليه وآله وسلم) بحبّه كما عن بريدة: عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: إن الله عزَّ وجلَّ أمرني بحبّ أربعة، وأخبرني أنّه يحبهم: علي، وأبو ذر، والمقداد، وسلمان. أخرجه الترمذي في صحيحه(576) وابن حجر في الإصابة(577)، وأبو نعيم في الحلية(578)، وأبو عمر في الاستيعاب(579)وغيرهم .
وقال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): أبو ذر في اُمتي على زهد عيسى بن مريم(580). وقال علي(عليه السلام): أبوذر وعاء ملئ علماً ثم أوكئ عليه(581).وروى ابن عبدالبر عن الأعمش بسند عن عبدالرحمن بن غنم قال: كنت عند أبي الدرداء إذ دخل رجل من أهل المدينة فسأله أبو الدرداء فقال: أين تركت أبا ذر؟ فقال: بالربذة .
فقال أبو الدرداء: إنا لله وإنا إليه راجعون، لو أنّ أبا ذر قطع مني عضواً ما هجته لما سمعت رسول الله يقول فيه(582).وأخرج الطبراني من طريق ابن مسعود مرفوعاً: من سره أن ينظر إلى شبه عيسى خلقاً فلينظر إلى أبي ذر(583).
* * *
والأحاديث في فضله وزهده وعلمه كثيرة، ومواقفه في الذب عن الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشهورة لا تحصى بهذه العجالة .
وبمزيد الأسف أنّ ذلك الرجل المجاهد قد وصفوه بما لا يليق به، وأصبح ممن تستهويه الدعايات الكاذبة فيكون ممن لقنه ابن سبأ واستهواه وصار ينطق بلسانه ويعبّر عن فكره كما هو منطوق اُسطورة ابن سبأ .
فأين حمل الأخبار أو الأحاديث التي فيها حمل على الصحابة، على غير الوجه التي تدل عليه؟ وكأنّ أبا ذر لا يشمله ذلك، مع أنّهم صدقوا في حقّه من لا يصدق كيف يكون أبو ذر يحمل فكرة ابن سبأ ويدعو لها وهو الصادق اللهجة؟ وفي ذلك نصر لليهود، بأن يميل إليهم رجل وصفه رسول الله بالصدق والأمانة والزهد .
عمار بن ياسر
أبو اليقظان عمار بن ياسر المقتول في صفين سنة (36 هـ) .
وكان عمار بن ياسر قد عذب هو وأبوه في أوّل الدعوة الإسلامية وتمسكوا بإسلامهم، رغم ما واجهوا من المحن والبلاء.
وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار وبأبيه واُمه ـ وكانوا أهل بيت إسلام ـ إذا حميت الظهيرة يعذّبونهم برمضاء مكة، فيمرّ بهم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فيقول: صبراً آل ياسر موعدكم الجنة، صبراً آل ياسر موعدكم الجنة(584).وقد وردت عن صاحب الرسالة الأعظم كلمات الثناء على عمّار مما يدلّ على عظيم منزلته، وجلالة قدره كقوله(صلى الله عليه وآله وسلم) : ملئ عمار إيماناً إلى أخمص قدميه. وفي حديث عائشة تقول: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): يقول: عمار ملئ إيماناً إلى مشاشه.
وأخرجه ابن ماجة وأبو نعيم من طريق هاني بن هابي قال: كنّا عند علي(عليه السلام)فدخل عليه عمار فقال مرحباً بالطيب المطيب، سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: عمار ملئ إيماناً إلى مشاشه(585).وعن خالد بن الوليد قال: كان بيني وبين عمار كلام فأغلظت فشكاني إلى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فلما جئت رفع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) رأسه، فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): من عادى عماراً عاداه الله، ومن أبغض عماراً أبغضه الله(586) .قال خالد فما زلت اُحبّه يومئذ.
وقد حثّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على اتباع عمار عند نزول الفتن وأنّ عماراً لا يكون إلاّ مع الحقّ.
روى البيهقي عن الحاكم وغيره بسند عن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يقول لعمار: إذا اختلف الناس كان ابن سميّة مع الحقّ(587).وجاء رجل إلى عبدالله بن مسعود فقال: إنّ الله قد آمننا أن يظلمنا، ولم يؤمنا أن يفتنا، أرأيت إذا نزلت فتنة كيف أصنع؟ قال ابن مسعود: عليك بكتاب الله. فقال الرجل: أرأيت أن جاء قوم كلهم يدعون إلى كتاب الله؟
فقال ابن مسعود: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحقّ(588).ولمّا احتضر حذيفة بن اليمان وقد ذكر الفتنة قالوا له: إذا اختلف الناس بمن تأمرنا؟ قال: عليكم بابن سمية فإنّه لن يفارق الحقّ حتى يموت أو قال: فإنّه يدور مع الحقّ حيث دار(589).وأخرج ابن سعد في الطبقات عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنّ عماراً مع الحقّ والحقّ معه، يدور مع الحقّ أينما دار وقاتل عمار في النار(590).وقد اشتهر قول النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): بأنّ عماراً تقتله الفئة الباغية. وقد ورد هذا الحديث من طرق متعددة رواه جماعة من الصحابة منهم: عثمان بن عفان، وعائشة اُم المؤمنين، وأنس بن مالك، وأبو هريرة، وجابر بن سمرة، وعبدالله ابن مسعود وغيرهم .
ومنهم معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وأبو الغادية قاتل عمار.
وكان الناس يعرفون ذلك، ولكن معاوية موه على الناس بتأويل هذا الحديث تأويلاً باطلاً ليتستر بذلك عن المؤاخذة عندما قتل عماراً وارتبك جيش الشام، وعلموا أنّهم الفئة الباغية على لسان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) .
فلجأ معاوية إلى حيلة تؤثر على البسطاء السذج فقال: نحن لم نقتل عمّاراً وإنّما قتله من جاء به حتى أوقعه بين رماحنا.
وهذا من حيل ابن العاص ودهائه، وقد أثّرت هذه المغالطة أثرها على ضعفاء النفوس .
يقول ابن القيم الجوزية تلميذ ابن تيمية: ومن التأويل الباطل تأويل أهل الشام قول النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لعمار: تقتلك الفئة الباغية. فقالوا نحن لم نقتله إنّما قتله من جاء به حتى أوقعه بين رماحنا. وهذا التأويل مخالف لحقيقة اللفظ وظاهره، فإنّ الذي قتله هو الذي باشر قتله، لا من استنصر به، ولهذا ردّ عليهم من هو أولى بالحقّ والحقيقة منهم، فقال: أفيكون رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه هم الذين قتلوا حمزة والشهداء معه حتى أوقعوهم تحت سيوف المشركين؟(591).
* * *
وإنّ الاستمرار في مناقب عمار وذكر مواقفه وما ورد فيه من أحاديث وما نزل فيه من آيات لا يتسع المقام لاستطرادها، وليس من غرضنا أن نترجم لههنا.
إنّ الشيء الذي نودّ أن نقوله: إن من أعظم الجرأة على الله وعلى رسوله أن ينسب لهذا الرجل الذي بدأ حياته في الجهاد وملاقاة العذاب وختمها في الشهادة، دفاعاً عن الإسلام، واتّباعاً لحقّ وإحقاقه، مثل هذه الإساءات، أو يوصف بأنه ممن استهواه ابن سبأ فسار في ركابه وكان من دعاته؛ حتى يسلم خصومه من المؤاخذت ويتبرأوا مما إرتكبوه من مخالفات؟
وليت إنهم استدلوا بما يوجب الشبهة في ذلك فضلاً عن الجزم بالحكم فيما وصفوه فيه، فرحم الله عماراً، فلقد لزم الحقّ وحارب الباطل ومات شهيداً بسيوف الفئة الباغية كما أخبر الرسول المعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) .
إنّ الذين وصفو عمّاراً بما وصفوه من اتّباع ابن سبأ قد إرتكبوا إثماً لا يغتفر، وقد ردّوا على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أقواله في عمار.
وكذلك جنايتهم بحق الصحابي الجليل زيد بن صوحان فجعلوه على رأس الدعاة لأبن سبأ؛ ومن الخير أن نشير إلى زيد بن صوحان بموجز من البيان إيضاحاً لما قد يتوهّم صحة ما قاله اُولئك المفترون في حقّه.
زيد بن صوحان
زيد بن صوحان بن حجر بن الحارث أبو سلمان العبدي المقتول سنة (36هـ) وقد سمّاه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بزيد الخير.
وكان زيد ممن يصوم النهار ويقوم الليل، وإذا كانت ليلة الجمعة أحياها.
وأخرج ابن حجر وابن سكن، وابن أبي شيبة وغيرهم أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أخبر عن زيد بن صوحان بأنه يسبق عضو من أعضائه الجنة. وقد قطعت يده في حرب المشركين وقيل في نهاوند(592).وقال ابن عبر البر: روي عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من وجوه: أنّه كان في مسير له فهوّم فجعل يقول: زيد وما زيد زيد جندب وما جندب فسئل عن ذلك؟
فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): رجلان من اُمتي أما أحدهما فتسبقه يده أو قال: بعض جسده إلى الجنة، وأما الآخر فيضرب ضربة يفرق فيها بين الحقّ والباطل.
قال أبو عمر: أصيبت يد زيد يوم جلولاء ثم قتل يوم الجمل مع علي(عليه السلام)، وجندب بن كعب قاتل الساحر... إلخ(593) وقد شهد كعب حرب الجمل مع علي(عليه السلام).
وكان زيد وجيهاً مقداماً، وقد وفد على عمر بن الخطاب فأكرمه، وجعل يرحل لزيد بيده، ويطأ على ذراع راحلته ويقول: يا أهل الكوفة، هكذا فاصنعوا بزيد.
ولمّا أراد زيد أن يركب دابته أمسك عمر بركابه، ثم قال لمن حضره: هكذا فاصنعوا بزيد وإخوته وأصحابه(594).وكان سلمان يقدّمه للصلاة والخطابة وهو أمير، وأخرج الحافظ وابن عدي عن علي(عليه السلام) قال، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): من سرّه أن ينظر إلى من يسبقه بعض أعضائه إلى الجنة فلينظر إلى زيد بن صوحان.
قال ابن عساكر: ورواه الخطيب البغدادي، وأبو يعلى، وقال: قطعت يده في جهاد المشركين، وعاش بعد ذلك دهراً حتى قتل يوم الجمل(595).ولمّا قتل زيد أوصى بأن يدفن في ثيابه، وقال قبل أن يقتل: إني رأيت يداً خرجت من السماء تشير إليّ أن تعال، وأنا لاحق بها يا أمير المؤمنين(596).
* * *
ومهما يكن من أمر فإنّا نأسف الأسف الشديد لغفلة كثير من الكتّاب الذين تناولوا البحث عن التاريخ الإسلامي، ولم يقفوا أمام هذه الاُسطورة موقف الباحث المتثبت، وتساهلوا في نقلها والتعليق عليها بما يزيد جذورها تشبثاً في المجتمع ويضاعف شرّها على الاُمة وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً.
ولو رجعوا إلى الواقع لوجدوا أنفسهم أمام صورة جامدة منحوتة بيد الأغراض السياسية لتحقيق أهدافهم في تضليل الناس بأوهام باطلة تنشر هنا وهناك، وتملأ أوهام الصغار والكبار بمشاعر لا أصل لها.
ونحن نأمل أن تدرس هذه القصة وغيرها من الخرافات التي اختفى من ورائها النزاع السياسي والصراع العقائدي دراسة واقعية على ضوء التحقيق العلمي المجرد من التعصب والتحيز؛ ليظهر الحقّ والحقّ أحقّ أن يتّبع. وإنّ تلك الأباطيل لا تقف أمام الواقع بل هي أشباح خيالية لا بدّ لها من الزوال .
وإنّا لواثقون بأنّها لن تدوم؛ فهي سحب تنجلي، وعقبات تندك، وحجب ترفع، ما دام للعلم كلمته، وللعدل حكمه .
إنّنا نكتب للعلم وللعدل، وليس أجمل بالمرء من أن يتكلّم على موازين العلم، ولا أبهى من العدل في الحكم بعد أن يعرفها العلم، فالحكم على الشيء قبل معرفته خطأ لا يغتفر .خلاصة البحث
هذه دراسة قدّمناها باختصار عن أثر المستشرقين في ثقافتنا الإسلامية وتاريخنا الذي نستمد منه معلومات أسلافنا الماضين .
وقد رأينا بهذه العجالة كيف كانت دراسة اُولئك الكتّاب، وأنّها لم تكن دراسة تتركز على اُسس علمية، وقواعد منطقية، واُمور واقعية، بل كانت دراسة محدودة لا تتجاوز التعصب أو التساهل في النقل، بل دراسة تقليد لا تعتمد على تحقيق، وملاحظة للاُمور الواقعية.
إنّهم ينظرون إلى الحوادث بمنظار غيرهم من الذين يحوّرون الحقائق، ويبدلونها لتلبس تلك القوالب التي يفرضونها فرضاً وهي قوالب أفكار لا تمت إلى الواقع بشيء، بل تخيلات وهمية ترسم لنا صورة الاندفاع وراء مضلّلات العاطفة، ومرديات التعصّب الأعمى.
وقد أشرت سابقاً إلى ضرورة الإلتفات إلى الخطر الذي يحدق بنا من أثر ما يبثّه اُولئك المستشرقون من سموم الفرقة، بضروب مختلفة، في تحطيم بناء وحدة المسلمين، والحيلولة بينهم وبين تمسكهم بتعاليم دينهم، ليقيموا على أنقاضها معاقل تضمن لهم تنفيذ ما يطلبه خصوم الإسلام، وتحقيق ما يرجونه .
ولا أحيد عن الواقع إن قلت: إنّ الاستشراق أصبح طريقاً ينفذ منه المستعمرون لأغراضهم، ووسيلة من وسائل سيطرتهم على الشعوب المسلمة؛ وقد رأينا كيف كانوا يتوارون من وراء البحث عن الإسلام لينفثوا سمومهم، ويحققوا أهدافهم .
كما إتّضح لنا إعجاب كثير من الكتّاب بأساليبهم الخداعة، وألفاظهم البراقة، فنقولها كما هي بدون تمحيص، بل اجتروا آراءهم وسكبوها في أبحاثهم، ولم يجعلوا للبحث عن الواقع محلاً، ولم يحفلوا بما يتصف به أولئك من التعصب على الإسلام .
وإنّا لنرجو أن يتنبّه الكتّاب لخطر تلك الآراء، وأضرار تلك الأبحاث التي يشوبها الخلط والخبط والتشويه والتمويه .
وقد تعرضت هنا ـ وفي الأجزاء السابقة ـ لمناقشة بعض الكتّاب الذين تناولوا الشيعة بما لا يتفق مع الواقع، وتهجموا عليهم دونما انصاف وتدبّر .
ولم أكن في مناقشتي قد جنيت على نفسي بإهمالها أو أفسح لها المجال في ميدان العاطفة والتأثر، ممّا وقفت عليه من عبارات الغمز والطعن والقول بالباطل، ولم اتخل عن المنهج الذي نهجته وهو الاستقامة في النقد والاتزان في الرد .
وقد خفّ وزن البعض فانحدروا إلى مستوى المهاترات والجدل العقيم، ويريدون أن يحشروا ألفاظاً فارغة في تلفيق التّهم ؛ وقد اعرضنا عن أقوالهم وألقيناها في سلة المهملات .
وفي الختام نقول: لقد ذهب الزمن بما فيه ومرّت الحوادث بما فيها من آلام، ومضى زمن تلاعب ذوي الأغراض بمقدرات الاُمة، وتكالبهم على السيادة بوسائل التفرقة بين صفوف الاُمة .
ولقد فتك داء الفرقة بجسم الاُمة ولم تنل من ذلك إلاّ الخسارة والدمار؛ ومن الله نسأل أن يوحّد كلمتهم ويجمع شملهم، وأن تنمو بينهم روح المحبّة والتسامح ويحصل بينهم كلّ ما يوصلهم إلى رضا الله وإلى سعادة الاُمة إنّه سميع مجيب .
(495) تهذيب تاريخ ابن عساكر ج4 ص423 .
(496) الأغاني ج11 ص283 ديوان أشعار التشيّع ص315 .
(497) أدب الشيعة ص259 .
(498) انظر صحيح الترمذي ج13 ص201 في مناقب أهل البيت، وشرح المواهب اللدنية ج7 ص9 .
(499) مصادر هذا الحديث كثيرة وصحيحة وقد رواه مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم كما ذكره المفسرون وقد أشرنا له في الجزء الأول ص131 والخامس ص187 من هذا الكتاب وذكرنا بعض مصادره فلا حاجة إلى التكرار .
(500) انظر حضارة الإسلام ص250 .
(501) انظر مشاكلة الناس لزمانهم ص15 .
(502) مناقب أحمد لابن الجوزي ص163 .
(503) مناقب الإمام علي للعيني ص12 .
(504) انظر مناقب الإمام علي(عليه السلام) ص12 .
(505) انظر سيرة ابن هشام ج2 ص95 .
(506) الرياض النضرة ج2 ص124، وكنز العمال ج5 ص291 ح12914 و ج11 ص609، ح32947 الإصابة لابن حجر ج4 ص464 ، رقم 5704 وغيرها.
(507) أخرجه البخاري في تاريخه الكبير ج1 ص115، ومسلم في صحيحه ج7 ص120 ـ 121 وخرّجه الحفاظ بطرق متعددة .
(508) الرياض النضرة ج2 ص219 وخصائص النسائي ص24 .
(509) أخرجه مسلم ج2 ص64 شرح النووي وخصائص النسائي ص24 .
(510) صحيح الترمذي ج2 ص298 .
(511) انظر فتح المجيد لعبدالرحمن حفيد محمّد بن عبدالوهاب ص90 .
(512) الإسلام للمستشرق هنري ماسية ص195 .
(513) انظر التفكير فريضة اسلامية للاُستاذ عباس محمود العقاد ص60 ـ 61 .
(514) انظر الجزء الخامس ص 31 ـ 37، وانظر ص126 ـ 134 من هذا الكتاب.
(515) النظريات السياسية في الإسلام، للدكتور محمّد ضياء الدين الريس 81 ـ 82 .
(516) فهرست ابن النديم ص249 .
(517) مفتاح السعادة ج1 ص261 .
(518) انظر العقد الفريد ج1 ص360 .
(519) انظر أدب الشيعة ص20 .
(520) مفتاح السعادة: ج2، ص37 .
(521) رجال الفكر والدعوة في الإسلام للنووي ـ 138 .
(522) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج4 ص58 .
(523) العقد الفريد ج4 ص366.
(524) النسائي في الخصائص ص24 والرياض النظرة ج2 ص219 .
(525) صحيح البخاري ج3 ص168 وج4 ص207، وج5 ص85 .
(526) انظر الخصائص للنسائي ص104/ 71 .
(527) الخطيب ج7 ص41 .
(528) شرح المواهب ج8 ص194 .
(529) تحفة الآحوذي ج8 ص278 .
(530) آل عمران: 61 .
(531) المحاسن والمساوئ للبيهقي ص42.
(532) صحيح الترمذي ج13 ص 177.
(533) محاضرات الشيخ محمّد الخضري ج1 ص129.
(534) انظر المذاهب الإسلامية ح46 ص47 .
(535) فجر الإسلام 110 ط2 .
(536) فجر الإسلام 111 ط2 .
(537) حملة رسالة الإسلام ص23 ـ 24 .
(538) الشيعة في الميزان ص445 .
(539) هكذا يعبّر الخطيب المعروف (بمحب الدين) .
(540) راجع الفتنة الكبرى ص134 .
(541) انظر يوم الإسلام لأحمد أمين ص57 .
(542) يوم الإسلام لأحمد أمين ص58 ـ 59 .
(543) انظر البلاذري ج5 ص60، والكامل في التاريخ لابن الأثير ج3 ص168، وتاريخ الطبري ج2 ص644 وغيرهم .
(544) صحيح الترمذي ج5 ص697، ح3866 .
(545) النظريات السياسية الإسلامية ص41 .
(546) تاريخ الطبري ج1 ص5 .
(547) مجلة الأزهر العدد 24 ص210، سنة 1372 هـ.
(548) الفتنة الكبرى ص134 .
(549) الطبري ج5 ص66 ط 1 .
(550) انظر فجر الإسلام ص110 .
(551) الطبري ج5 ص98 ط1 .
(552) الطبري ج1 ص5 .
(553) تاريخ الطبري ج3 ص 213 .
(554) انظر تهذيب التهذيب ج3 ص459 ـ 460، وميزان الاعتدال ج1 ص270 .
(555) ميزان الاعتدال ج1 ص270، ولسان الميزان ج3 ص12 .
(556) تهذيب الكمال ج12 ص324 / 2676 .
(557) تهذيب التهذيب ج4 ص291 .
(558) ميزان الاعتدال ج1 ص438 .
(559) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ج2 قسم 1 ص278 .
(560) الجرح والتعديل ج3 ص136 قسم 2 .
(561) انظر الإصابة لابن حجر ج3 ص239 ط1 .
(562) صحيح الترمذي ج5 ص697 ح3866 .
(563) انظر الكامل لابن الأثير ج1 ص3 الطبعة الاولى سنة (1301 هـ ).
(564) تاريخ أبن كثير ج7 ص167 .
(565) تاريخ ابن خلدون ج2 ص425 .
(566) انظر تهذيب تاريخ ابن عساكر ج7 ص428 .
(567) طبع منه الجزء الأول الطبعة الاُولى في النجف الأشرف والطبعة الثانية في القاهرة.
(568) الغدير ج1 ص335 ـ 336 .
(569) الشيخ محمّد زاهد بن حسن الكوثري أصله من القوقاز ولد في الأستانة المتولد سنة 1296 هـ والمتوفى سنة 1371 هـ وكيل المشيخة الإسلامية في الخلافة العثمانية وصاحب المؤلفات الكثيرة في المذهب الحنفي وغيره. وله تعليقات على بعض الكتب ينتصر بها للحنفية وهو شديد التحامل على من خالف مذهبه. وله رد على الخطيب البغدادي حول ما ذكره في ترجمة أبي حنيفة.
(570) انظر تقديم كتاب المقدمات الخمس والعشرين ص3 ـ 5 .
(571) انظر مقالات زاهد كوثري ص455 ـ 462 .
(572) الطبري ج3 ص243 .
(573) شرح صحيح مسلم للنووي ج15 ص177 .
(574) الإصابة لابن حجر ج4 ص64 .
(575) انظر صحيح الترمذي ج2 ص221، ومستدرك الحاكم ج3 ص342 .
(576) صحيح الترمذي ج5 ص636 ح3718 .
(577) الاصابة ج7 ص105 ح9877 .
(578) حلية الأولياء ج1 ص190 .
(579) الاستيعاب: ج2، ص423 .
(580) انظر اُسد الغابة ج5 ص187 .
(581) الإصابة ج4 ص24، واُسد الغابة ج5 ص187 .
(582) الاستيعاب ج1 ص217 .
(583) الاستيعاب ج1 ص216 .
(584) انظر سيرة ابن هشام ج1 ص342، وحلية الأولياء ج1 ص141 .
(585) انظر الإصابة ج2 ص512 .
(586) الاصابة ج2 ص512. والاستيعاب بهامش الإصابة .
(587) تاريخ ابن كثير ج7 ص270 .
(588) المصدر السابق .
(589) الاستيعاب ج2 ص480 .
(590) طبقات ابن سعد ج3 ص187 ط ليدن .
(591) الصواعق المرسلة لابن قيم الجوزية ص10 .
(592) انظر تهذيب ابن عساكر ج3 ص410، والإصابة ج1 ص250 في ترجمة جندب بن كعب.
(593) الاستيعاب ج1 ص560 .
(594) ابن عساكر ج6 ص11 .
(595) تاريخ ابن عساكر ج6 ص11 .
(596) ذكرنا ترجمة زيد مفصلة في كتابنا تاريخ الكوفة.