الفِرق الإسلاميةفي عصر الإمام الصادق(عليه السلام)
تمهيد
لعلّ خير ما يعكس لنا أهمية الدور الذي لعبته مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام)والنشاط العلمي الذي قامت به في ذلك العصر، واتّساع نفوذها وكثرة روّادها هو ما نجده في انتماء رجال من أهل العلم إليها، وحضورهم عنده لانتهال العلم، وأخذ الأحكام، فقد كانت مدرسته (عليه السلام) جامعة اسلامية، يؤمّها المسلمون من مختلف الطوائف، وشتّى الفرق، فهي مدار الحركة الفكرية، والمحور الذي تدور عليه آمال الموجهين وحملة الدعوة الإسلامية، وقد أثرت تعاليمه(عليه السلام)في كثير من أولئك الرجال فاعتدلوا في آرائهم.
والإمام أبو حنيفة الذي عرف بكثرة القياس وطرح أكثر الأحاديث يكشف لنا أهميّة هذه المدرسة وعظيم أثرها إذ يقول: "لولا السنتان لهلك النعمان" والسنتان هما اللتان حضر بهما عند الإمام الصادق (عليه السلام) وكان الإمام الصادق (عليه السلام)يشتدّ عليه، في كثرة القياس ويناظره في ذلك، وبهذا يتّضح أنّ أبا حنيفة في أخذه اقوال الإمام الصادق (عليه السلام)، واتّباع أمره يعدّ نفسه في نجاة من الهلكة، وربّما يكون ذلك في تركه القياس، وأخذه بالأحاديث الصحيحة.
ومهما يكن من أمر فقد حدّثنا التاريخ عن أولئك الرجال الذين ينتمون لفرق مختلفة قد حضروا عند الإمام الصادق (عليه السلام) وناظرهم، وفنّد كثيراً من آرائهم، وقد كان(عليه السلام) يتحرّى من برز منهم مخافة اشتداد خطره واستفحال أمره، فإن لم يأته كبقيّة أصحاب الفِرق والمعتقدات والأفكار الذين يقصدونه للكلام والمناظرة، وجّه أصحابه وأوصاهم بطريقة الوعظ وبمنهج الكلام الذي يختصّ بهذا الجانب فيمضي الأصحاب في حلقاتهم ودروسهم على تلك الطريقة وذلك المنهج، ومن قصده من أصحاب الفِرق والأقوال بعد سماعه ما تتحدّث به الركبان وتلهج به الألسن من علم الإمام الصادق، يَلْقَ من الإمام حججاً ساطعة وبراهين واضحة لا يملك معها الإنسان إلاّ أن يثوب الى رشده أو يكابر أو يعاند، ومن الضروري التعرّف على أهمّ تلك الفرق الإسلامية، التي نشأت في عصره أو سبقته بدون إحاطة أو إسهاب في البيان.
الخوارج
نشأت هذه الفرقة بصفّين، عندما طلب معاوية التحكيم من علي (عليه السلام)، وهي خدعة حربية استعملها معاوية ودلّه عليها ابن العاص عندما أحسّ بالهزيمة ولمس الضعف في جيشه، وعرف تفوق علي بحقّه، وإنّ الحقّ مع علي(عليه السلام)وقد انضمّ لجيشه رجال مخلصون قد رسخ الإيمان في قلوبهم.
أراد معاوية أن يوقع الشك، ويحدث الفرقة في صفوف جيش علي (عليه السلام)وقد وقع ما أراد معاوية فقد نفرت طائفة لم يتركز الإيمان في قلوبهم ومرقوا من الدين، ولم يقبلوا تحكيم أحد في كتاب الله ورأوا أنّ التحكيم خطأ، لأنّ حكمالله في الأمر واضح جليّ، والتحكيم يتضمّن شكّ كلّ فريق من المحاربين أيّهما المحقّ؟ وليس يصحّ هذا الشكّ، لأنّهم وقتلاهم إنّما حاربوا وهم مؤمنون.
هذه المعاني المختلجة في نفوسهم صاغها أحدهم في الجملة الآتية:"لا حكم إلاّ لله" فَسَرت هذه الجملة سير البرق إلى من يعتنق هذا الرأي، وتجاوبتها الأنحاء فأصبحت شعار هذه الطائفة - الخوارج - :
وعلى أيّ حال، فقد تكوّنت هذه الفرقة من عناصر مختلفة، وظهرت منهم مخالفة علي (عليه السلام) وتجرّأوا على مقامه. ونسبوا إليه ما لا يليق بشأنه.
وقد نظّموا اُمورهم، وقاموا بأمر لم يكن وليد وقته وإنّما هو أمر مدبّر من ذي قبل، فكانت حرب النهروان وقضى الإمام علي (عليه السلام) على زعمائهم.
واستمروا على اعتقادهم وحماسهم، وكانوا يظنّون أنّهم أشدّ فرق المسلمين دفاعاً عنه، وأظهروا غضبهم على كثير من الخلفاء، واستعملوا ألفاظاً معسولة في الدعوة إلى مبادئهم، وتظاهروا بالهدف الى العدل والمساواة، ولكنّهم تلبسوا بالظلم الى أبعد حدّ، وأباحوا دماء جميع المسلمين، وخضبوا البلاد الإسلامية بالدماء. وكانوا يتهوّرون في دعوتهم، ويتشدّدون في عقيدتهم، ويرون إباحة دماء المسلمين الذين يخالفون عقيدتهم، فالمسلم المخالف لهم لا عصمة لدمه.
ومن طريف أخبارهم: أنّهم أصابوا مسلماً ونصرانياً فقتلوا المسلم وأوصوا بالنصراني، وقالوا: احفظوا ذمة نبيّكم فيه. وقتلوا عبد الله بن خباب وفي عنقه مصحف، وقالوا: إنّ الذي في عنقك يأمرنا أن نقتلك، فقرّبوه إلى شاطئ النهر فذبحوه وبقروا بطن زوجته.
وساوموا نصرانياً نخلة له، فقال: هي لكم، فقالوا: والله ما كنّا لنأخذها إلاّ بثمن، فقال لهم النصراني: ما أعجب هذا ؟
أتقتلون مثل عبد الله بن خباب ولا تقبلوا منّا ثمن نخلة؟!. (73)
آراء الخوارج وفرقهم
اتّفق جمهور الخوارج على نظريتين :
1 - نظرية الخلافة: وهي أنّ الخليفة لا يكون إلا بانتخاب حرّ صحيح من المسلمين، ويستمر الخليفة ما قام بالعدل مبتعداً عن الزيغ والخطأ، فإن حاد وجب عزله أو قتله.
2 - إنّ العمل جزء من الإيمان، وليس الإيمان الاعتقاد وحده، فمن لم يعمل بفروض الدين وارتكب الكبائر فهو عندهم كافر. ولم يفرّقوا بين ذنب يرتكب عن قصد وسوء نيّة وخطأ في الرأي والاجتهاد يؤدي إلى مخالفة الصواب، وبهذا كفّروا جميع فرق المسلمين وأباحوا دماءهم.
والخوارج لا يرون أن يختصّ الخليفة ببيت من العرب، فليست الخلافة في قريش عندهم، وليست لعربي دون أعجمي، والجميع فيها سواء، بل يفضّلون أن يكون الخليفة من غير قريش ليسهل عزله أو قتله.
وبهذا استمالوا العناصر غير العربية، وجلبوا الموالي إليهم، لأنّ آراء الخوارج من شأنها أن تجعل للموالي الحقّ في أن يكونوا خلفاء، لذلك التحق بهم عدد كثير من الموالي، ولولا تعصّب بعض الخوارج عليهم لازداد عددهم، لأنّ هذه الآراء تفسح المجال لتدخّل الدخلاء في الإسلام، ومع ذلك فقد تكوّنت فرقة منهم انضمّت لفرقة الخوارج، وهم اليزيدية أتباع يزيد بن أنيسة الخارجي، وادّعوا أنّ الله سبحانه و تعالى يبعث رسولاً من العجم ينزل عليه كتاباً ينسخ الشريعة المحمدية. وكذلك تكونت فرقة الميمونية، أتباع ميمون العجردي، وأظهروا عقائد المجوس، فكانوا يبيحون نكاح بنات الأولاد وبنات أولاد الاُخوة، وبنات أولاد الأخوات.
فرق الخوارج
ذُكر للخوارج فرق كثيرة قاربت العشرين فرقة على حسب اختلافهم في الآراء، وأهمّ فرقهم المشهورة :
الأزارقة
وهم أتباع نافع بن الأزرق، وكان من أكبر فقهائهم. وقد كفّر جميع المسلمين. وقال: إنّه لا يحلّ لأحد من أصحابه أن يجيبوا أحداً من غيرهم إذا دعاهم إلى الصلاة، ولا أن يأكلوا من ذبائحهم، ولا أن يتزوّجوا منهم، ولا يتوارث الخارجي وغيره، وهم مثل كفّار العرب وعبدة الأوثان، لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف. ودارهم دار حرب، ويحلّ قتل أطفالهم ونسائهم، ولا تحلّ التقية، واستحلّ الغدر بمن خالفه.
وأسقطوا الرجم عن الزاني إذ ليس له في القرآن ذكر، كما أسقطوا حدّ القذف عمّن قذف المحصنين من الرجال، مع وجوب الحدّ على قاذف المحصنات من النساء. وقالوا: يجوز أن يبعث الله نبيّاً يعلم أنّه يكفر بعد نبوّته، أو كان كافراً قبل البعثة.
وكان أصحاب نافع من أقوى فرق الخوارج وأكثرهم عدداً، خرجوا من البصرة معه، فتغلّبوا على الأهواز وما وراءها من بلدان فارس وكرمان، وقتلوا عمال تلك النواحي واشتدّت شوكتهم ووقعت حروب بينهم وبين الدولة الاُموية بما لا يسع المجال لذكرها .(74)
النجدات
وهم أتباع نجدة بن عامر الحنفي. وهم الذين خالفوا نافعاً وانفردوا بتعاليم منها: إنّ المخطئ بعد ان يجتهد معذور، وإنّ الدين أمران: معرفة الله، ومعرفة رسوله، وما عدا ذلك فالناس معذورون بجهله إلى أن تقوم عليهم الحجة، ومن أدّاه اجتهاده إلى استحلال حرام أو تحريم حلال فهو معذور. وأنّ من كذب كذبة صغيرة أو كبيرة أو نظر نظرة وأصرّ عليهما فهو مشرك. ومن شرب الخمر أو زنا أو سرق غير مصرّ على ذلك، فهو مسلم. ويوجبون قتل من خالفهم من المسلمين.(75)
الأباظيـة
وهم أتباع عبد الله بن أباض التميمي، الذي خرج أيام مروان الحمار. آخر ملوك بني اُمية، ولا يزال أتباعه إلى اليوم في المغرب، ولعلّهم هم البقية من جميع فرق الخوارج الكثيرة. فقد انقرضت تلك الفرق ولم تبق منهم باقية إلاّ الأباضية، وهم على عقيدتهم في تكفير جميع المسلمين، ويعتذرون عنهم بأنّهم يذهبون إلى تكفيرهم لا على سبيل الشرك، بل يرون أنهم كفار نعمة.
ومن جملة آرائهم: أنّ دماء مخالفيهم حرام في السر لا في العلانية، ودارهم دار توحيد. وإنّهم ليسوا مشركين ولا مؤمنين، ويسمّونهم كفاراً، ولا يحلّ من غنائمهم في الحرب إلا الخيل والسلاح.
ولا يزال الأباضيون يؤلفون جماعات عديدة في أفريقية الشمالية، ويوجد فريق آخر بزنجبار بأفريقية الشرقية. أمّا الوطن الأصلي للأباضيين الذين يهاجرون إلى افريقية الشرقية فهو بلاد عمان العربية.
وقد حاولوا في السنوات الأخيرة أن يستنهضوا همّتهم ونشاطهم وأن يستعيدوا الشعور بكيانهم. وتقسم الأباضية ذاتها الى ثلاث شعب هي الحفصية، والحارثية، واليزيدية .(76)
الصُفرية
وهم أتباع زياد بن الأصفر، وقولهم في الجملة كقول الأزارقة في أنّ أصحاب الذنوب مشركون، لكنّهم أقلّ تطرفاً منهم، وأشدّ من غيرهم، فلا يرون قتل أطفال مخالفيهم ونسائهم، والأزارقة يرون ذلك. واختلفوا في مرتكب الكبائر فلم يتفقوا على إشراكه، فمنهم من يرى أنّ ما كان من الأعمال عليه حد واقع لا يسمى صاحبه إلاّ بالاسم الموضوع له، وسمّاه الله به كالسارق والزاني، وما ليس فيه حدّ فمرتكبه كافر.
ومن زعماء الصفرية: أبو هلال مرداس، الذي خرج أيام يزيد بن معاوية بناحية البصرة، على عبيد الله بن زياد.
ومنهم: عمران بن حطان، وقد انتخبه الخوارج إماماً لهم، وهو القائل يمدح عبد الرحمن بن ملجم المرادي :
يا ضربة من منيب ما أراد بها *** إلاّ ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إنّي لأذكره يوماً فأحسبه *** أوفى البريّة عند الله ميزانا
وأجابه جماعة، منهم عبد القادر البغدادي المتوفّى (429 هـ) :
يا ضربة من كفور ما استفاد بها *** إلاّ الجزاء بما يصليه نيرانا
إنّي لألعنه ديناً وألعن من *** يرجو له أبداً عفواً وغفرانا
ذاك الشقيّ لأشقى الناس كلهم *** أخفّهم عند رب الناس ميزانا
وعمران بن حطان قد خرّج حديثه البخاري ووثّقه(77)، وهذا من مزايا صحيحه وامتيازه .
العجاردة
وهم أتباع عبد الكريم بن عجرد، وكانت العجاردة مفترقة عشرة فِرق، ثم افترقوا فرقاً كثيرة، منها ما يتعلّق بالقدر وقدرة العبد، ومنها ما يتعلّق بأطفال المخالفين. وقد فارقوا الأزارقة في عدم استحلال أموال مخالفيهم.
هذا جملة القول في أهم الخوارج. وقد بلغت فرقهم عشرين في العدد، وكل فرقة تخالف الاُخرى في تعاليمها وآرائها، إلا أنّهم اتفقوا على النظريتين السابقتين. كما أجمعوا على تكفير علي، وعثمان، وأصحاب الجمل، والحكمين ومن رضي بالتحكيم، وصوّب الحكمين أو أحدهما، واعترفوا بصحة خلافة الشيخين، وبهذا قد اكتسبوا الرضا من أكثر من كتب عن الفرق، فإنّك تجد اللهجة خفيفة في التعبير عنهم، وربّما وصفوا زعماءهم بالزهد والصلاح.
فالخوارج - مع عظيم إجرامهم - لا يوصفون بما وصف به الشيعة، فهم يكفّرون علياً، ولكن لا يعدّ هذا جرماً في نظر المتطرّفين، فلم يعبّروا عنهم كما يعبّرون عن الشيعة بتلك العبارات القبيحة، والألفاظ المستهجنة وهم يوالون عليّاً ويذهبون لأحقيّته بالخلافة.
وبدون شكّ أنّ حركة الخوراج كانت من أكبر العوامل التي هدّدت المسلمين بأخطار شتّى، وقد اتخذوا تكفير جميع فرق المسلمين وسيلة لنشاط دعوتهم، لأنّ ارتكاب الجرائم - بمبرر - يميل إليه أهل الشغب والأهواء .
ولو لم يكن من مبدئهم وجوب الخروج على أئمّة الجور لاستخدمتهم سياسة تلك العصور، ولعزّزت جانبهم للفتك بمن يريدون الفتك به.
ولكن ذلك الاعتقاد - وهو وجوب الخروج - هو الّذي أوجب أن تقاومهم السلطة، فتدور رحى الحرب معهم مدة من الزمن، وقد سجّل التاريخ عنها حوادث كثيرة.(78)
المعتزلة
يطول بنا الحديث عن المعتزلة إن أردنا بيان فرقها، وأسباب افتراقها وآرائها السياسية والدينية، ونشاطها الفكري، وحياتها العقلية. وقد اختلف في تاريخ نشأتها، وتسميتها بهذا الاسم، فهل كانت على عهد الصحابة أم على عهد الحسن البصري، لاعتزال واصل بن عطاء حلقة درس الحسن؟ الى كثير من الأبحاث حول هذه الفرقة. ونحن نكتفي بإلمامة موجزة لبيان الغرض في ذلك.
الأكثر على أنّ الاعتزال نشأ في البصرة، عندما اعتزل واصل بن عطاء المتوفى سنة (131 هـ). حلقة درس الحسن البصري، لمخالفته إياه في مسألة مرتكب الكبيرة، فقال واصل: أنا أقول إنّ صاحب الكبيرة ليس بمؤمن بإطلاق، بل هو في منزلة بين المنزلتين، أي أنّ مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر، لكنّه فاسق، والفاسق يستحقّ النار بفسقه.
فِرق المعتزلة
قال الخياط في كتاب الانتصار: ليس يستحقّ أحد اسم الاعتزال حتى يجمع القول بالاُصول الخمسة: التوحيد، والعدل، والوعد، والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا كمنت في الإنسان هذه الأصول الخمسة فهو معتزلي.(79)
وافترقت المعتزلة الى فرق كثيرة، منهم:
1 ـ الواصلية وهم أصحاب واصل بن عطاء .
2 - الهذيلية وهم أصحاب أبي الهذيل العلاف.
3 - النظامية وهم أصحاب النظام ابراهيم بن سيار.
4 - الحائطية وهم أصحاب أحمد بن حائط.
5 - البشرية وهم أصحاب بشر بن المعتمر.
6 - المعمرية وهم أصحاب معمر بن عباد السلمي.
7 - المزدارية وهم أصحاب عيسى، المكنى بأبي موسى الملقببالمزدار.
8 - الثمامية وهم أصحاب ثمامة بن أشرف النمري.
9 - الهشامية وهم أصحاب هشام بن عمر الفوطي.
10 - الجاحظية وهم أصحاب عمرو بن بحر الجاحظ.
11 - الخياطية وهم أصحاب أبي الحسين الخياط.
12 - الجبائية وهم أصحاب أبي علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي.
وغيرهم .
كما هو مذكور في كتب أهل المقالات والفرق، وقد ذكروا لهم أقوالاً شاذة وآراء فاسدة. وقد ألّف الأشعري كتاباً في تكفير النظام.
ويتّفق المعتزلة في الاعتقاد بأنّ الله قديم. والقدم أخصّ وصف لذاته ونفوا الصفات القديمة أصلاً فقالوا: هو عالم لذاته، قادر لذاته، حيّ لذاته، لا بعلم وقدرة وحياة، هي صفات قديمة ومعاني قائمة به لأنّه لو شاركته الصفات في القدم - الذي هو أخصّ الوصف - لشاركته في الإلهية.
واتفقوا على أنّ كلامه محدث مخلوق في محل. وهو حرف وصوت كتب أمثاله في المصاحف حكايات عنه، فأينما وجد في المحل عرض فقد فني في الحال.
وأتّفقوا على أنّ الإرادة، والسمع، والبصر، ليست معاني قائمة بذاته.
واتّفقوا على أنّ العبد قادر خالق لأفعاله - خيرها وشرّها - مستحق على ما يفعله ثواباً وعقاباً في الدار الآخرة، والرّب منزّه أن يضاف إليه شرّ وظلم.
واتّفقوا على أنّ الحكيم لا يفعل إلاّ الصلاح والخير، ويجب من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد. وأما الأصلح واللطف ففي وجوبه خلاف عندهم وسمّوا هذا النمط عدلاً.
واتفقوا على أنّ المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعة وتوبة استحق الثواب والعوض والتفضل، ومعنىً آخر وراء الثواب. وإذا خرج من غير توبة عن كبيرة ارتكبها استحق الخلود في النار، ويكون عقابه أخفّ من عقاب الكفار، وسمّوا هذا النمط عدلاً ووعيداً.
واتّفقوا على اُصول المعرفة وشكر النعمة واجبان قبل ورود السمع. والحسن والقبيح يجب معرفتهما بالعقل، واعتناق الحسن واجب، واجتناب القبيح واجب كذلك. وورود التكاليف ألطاف للباري تعالى، أرسلها إلى العباد بتوسط الأنبياء امتحاناً واختباراً.
واختلفوا في الإمامة والقول فيها - نصّاً واختباراً - كما هو بيّن في مقالاتهم وآراء فرقهم.
ولسنا هنا بصدد الاشتغال بتفصيل أقوالهم وآرائهم. وإنّ أهمّ غرض هو معرفتهم بموجز من القول، لأنّ المعتزلة كوّنوا جوّاً فكريّاً، وبرعوا في علم الكلام، وكانت الخصومة شديدة بينهم وبين رجال الشيعة، الذين اشتهروا في هذا العلم، كما أنّ النزاع بينهم وبين الأشاعرة والمجسّمة بلغ إلى درجة الخروج عن حدود المقبول، وتعدّى إلى التهريج والاعتداء، كما هو المذكور في تاريخ عصورهم.(80)
المرجئة وفرقهم
وهم الذين يبالغون في إثبات الوعد، وهم عكس المعتزلة المبالغين في إثبات الوعيد، فهم يرجون المغفرة والثواب لأهل المعاصي، ويرجئون حكم أثبات الكبائر إلى الآخرة، فلا يحكمون عليهم بكفر ولا فسق ويقولون: إنّ الإيمان إنّما هو التصديق بالقلب واللسان فحسب، وإنّه لا يضرّ مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، فالإيمان عندهم منفصل عن العمل. ومنهم من زعم أنّ الإيمان اعتقاد بالقلب، وإن أعلن الكفر بلسانه، وعبد الأوثان أو لزم اليهودية والنصرانية، وعبد الصليب، وأعلن التثليث في دار الإسلام، ومات على ذلك، فهو مؤمن كامل الإيمان عند الله، وهو وليّ الله، ومن أهل الجنة، ذكر ذلك ابن حزم .(81)
وكلمة الإرجاء على معنيين :أحدهما: التأخير مثل قوله تعالى: (قَالُوا أرجِه وأخَاهُ)(82) أي أمهله وأخّره.ثانيهما: إعطاء الرجاء، أمّا إطلاق اسم - المرجئة - على الجماعة بالمعنى الأول فصحيح، لأنّهم كانوا يؤخرون العمل على النيّة والعقد، وأمّا بالمعنى الثاني فظاهر، لأنّهم كانوا يقولون : لا يضرّ مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، ولقد اضطربت الأقوال حول نشأة هذه الفرقة وبدء تكوينها، ولم نستطع بهذه العجالة تحديد ذلك على وجه التحقيق.
ويرى النوبختي: ولما قتل عليّ(عليه السلام) بسيف ابن ملجم المرادي واتفقت بقيّة الناكثين والقاسطين وتبعة الدنيا على معاوية فسمّوا المرجئة، وزعموا أنّ أهل القبلة كلّهم مؤمنون بإقرارهم الظاهر بالإيمان، ويرجون لهم جميعاً المغفرة(83).
وفي الواقع أنّ هذه الفرقة سياسية، ولكنّها أخذت تخلط بالسياسة اُصول الدين، فهم أعوان الاُمراء والمنضوون تحت لوائهم، يؤيّدون دولتهم مع ارتكابهم المحارم، وانغماسهم بالجرائم.
وقد فسح هذا المبدأ للمفسدين والمستهترين طريق الوصول إلى غاياتهم بما يرضي نهمهم، وقد اتخذّوه ذريعة لمآثمهم، ومبرراً لأعمالهم القبيحة، وساتراً لأغراضهم الفاسدة.
وقد أيّدوا - برأيهم هذا - خلفاء الدولة الاُموية، تأييداً عمليّاً، فهم في الواقع قد فتحوا باب الجرأة على ارتكاب المحارم، وأيّدوا المجرمين، ووازروا الظلمة، وهوّنوا الخطب في العقاب والمؤاخذة.
وافترقت المرجئة الى خمس فرق - كلّ فرقة تضلّل أختها - وهم :
(1) اليونسية - أصحاب يونس النميري.
(2) العبيدية - أصحاب عبيد بن مهران الكوفي.
(3) الغسانية - أصحاب غسان الكوفي، وهو غير غسان بن أبان المحدث، كما توهّم بعضهم، فإنّ غسان بن أبان يمانيّ وهذا كوفيّ .(84)
(4) الثوبانية - أصحاب أبي ثوبان المرجئ.
(5) التومنية - أصحاب أبي معاذ التومني.
ولكلّ فرقة أقوال وآراء، ذكرها المؤلّفون في الفرق، ولا يتّسع المجال بهذا العرض للتعرّض لذكرها بأكثر من هذا.(85)
الجبرية
الجبر: هو نفي الفعل عن العبد حقيقة، وإضافته الى الربّ حقيقة، وزعمت هذه الفرقة: أنّ الإنسان لا يخلق أفعاله، وليس له ممّا ينسب إليه من الأفعال شيء، فقوام هذا المذهب نفي الفعل عن العبد وإضافته إلى الربّ تعالى.
وقد اختلفت الأقوال في نشأة هذه الفرقة، ومن هو القائل بها أولاً، فقيل: إنّ أوّل من قال بهذه النحلة رجل يهودي، وقيل الجعد بن درهم، أخذها عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان عن طالوت بن أعصم اليهودي. فهي على هذا فكرة يهودية، وقد ضلّ بها خلق كثير.(86)
وبهذا المذهب لا يكون للإنسان كسب ولا إرادة ولا اختيار ولا تصرف، فيما وهبه الله من نعمة العقل على حسبه، فكيف يكون له مطمع في ثواب أو خوف أو عقاب؟
وقد انتشر هذا المبدأ ومبدأ المفوّضة: وهم الذين يقولون بتفويض الأفعال إلى المخلوقين، ورفعوا عنها قدرة الله وقضاءه، عكس المجبّرة الذين أسندوا الأفعال إليه تعالى، وأنّه أجبر الناس على فعل المعاصي، وأجبرهم على فعل الطاعات، وأنّ أفعالهم في الحقيقة أفعاله، فكان أثر هاتين الفكرتين سيّئاً في المجتمع الإسلامي، تصدّى الإمام الصادق (عليه السلام) للردّ على هؤلاء، وأعلن العقيدة الصحيحة والرأي السديد في التوسّط بين الأمرين فقال (عليه السلام): "لا جبر ولا تفويض ولكن أمرٌ بين أمرين" (87) وخلاصته: أنّ أفعالنا من جهة، هي أفعالنا وتحت قدرتنا واختيارنا، ومن جهة اُخرى، هي مقدورة لله تعالى، وداخلة في سلطانه، فلم يجبرنا على أفعالنا حتى يكون قد ظلمنا في عقابنا على المعاصي، لأنّ لنا القدرة على الاختيار فيما نفعل، ولم يفوّض إلينا خلق أفعالنا حتى يكون قد أخرجها عن سلطانه، بل له الخلق والأمر وهو قادر على كلّ شيء ومحيط بالعباد.
واعتقاد الشيعة في ذلك وسط بين المذهبين، كما بيّنه أئمّة الهدى، ودلّت عليه كلمة الإمام الصادق المشهورة.
وبالجملة، فإنّ عصر الإمام الصادق (عليه السلام) كان عصر مجادلات ونظر، واتسعت فيه دائرة الخلاف، وقد رأينا موقفه في مقابلتهم، وردع أهل الآراء الفاسدة والعقائد المخالفة للإسلام. وقام خلّص أصحابه وأعيانهم بقسط وافر من ذلك النضال دفاعاً عن تعاليم الإسلام الصحيحة. وقد مرّت بعض مناظراتهم كما احتفظ التاريخ بقليل منها.
وقبل أن نتخطّى موضوع البحث عن الفرق، يلزمنا ذكر ما يتّصل بالبحث، وتوضيح بعض الاُمور التي لها صلة بالموضوع.
نسبة أبي حنيفة إِلى المرجئة
ذكر أصحاب المقالات: أنّ أبا حنيفة كان من المرجئة، وحكى عنه غسان الكوفي الذي تنسب إليه الفرقة الغسانية: أنّه كان على مذهبه، ويعدّه من المرجئة، لأن أبا حنيفة كان يذهب إلى أنّ الإيمان هو الإقرار باللسان، وأنّ الإيمان لا يزيد ولا ينقص.
قال وكيع: سمعت الثوري يقول: نحن المؤمنون، وأهل القبلة عندنا مؤمنون في المناكحات، والمواريث، والصلاة، والإقرار. ولنا ذنوب ولا ندري ما حالنا عند الله؟. قال وكيع، وقال أبو حنيفة: من قال بقول سفيان هذا فهو عندنا شاك، نحن المؤمنون هنا وعند الله حقّاً. قال وكيع: ونحن نقول بقول سفيان. وقول أبي حنيفة عندنا جرأة .(88)
وعلى هذا فإنّ أبا حنيفة كان يذهب إلى أنّ العمل ليس جزءاً من الإيمان. وخالفه كثير من الفقهاء والمحدثين، الذين يرون أنّ العمل يدخل في تكوين الإيمان، من حيث تأثيره فيه بالزيادة والنقصان، وأبو حنيفة يرى أنّ الإيمان لا يزيد ولا ينقص وهو يعتبر أنّ إيمان أهل السماء وأهل الأرض واحد، كما تنصّ على ذلك الرواية عنه أنّه قال: "إيمان أهل الأرض وأهل السماوات واحد، وإيمان الأولين والآخرين والأنبياء واحد، لأنّا كلّنا آمنا بالله وحده، وصدّقناه، والفرائض كثيرة مختلفة، وكذا الكفر واحد، وصفات الكفار كثيرة وكلّنا آمنا بما آمن به الرسل...الخ" (89).
ويُروى عنه غير هذا، كما حدّث أبو إسحاق الفزاري أنّه سمع أبا حنيفة يقول: إيمان أبي بكر الصديق وإيمان إبليس واحد، قال إبليس: يارب. وقال أبو بكر الصديق: يا ربّ.
قال أبو إسحاق: ومن كان من المرجئة ثم لم يقل هذا انكسر عليه قوله .(90)وكذلك يُحكى عنه فى مساواة إيمان آدم وإيمان إبليس.
ويقول محمد بن عمرو: سمعت أبا مسهر يقول: كان أبو حنيفة رأسالمرجئة.
وقال عمر بن سعيد بن سالم: سمعت جدّي يقول. قلت لأبي يوسف: أكان أبو حنيفة مرجئاً؟ قال: نعم .
قلت: أكان جهمياً؟ قال: نعم.
قلت: فأين أنت منه ؟
قال: إنّما كان أبو حنيفة مدرّساً. فما كان من قوله حسناً قبلناه وما كان قبيحاً تركناه. ومثله عن محمد بن سعيد عن أبيه .(91)
وكانت هذه التهمة وسيلة للتشنيع على أبي حنيفة، وناله كثير من العلماء بالطعن وخالفوه في مسألة الإيمان. وقد جاء عن أبي حنيفة(92) ما يبيّن الفرق بين مذهبه ومذهب المرجئة الذين أهملوا ناحية العمل بالطاعة، وعدم ادخالها بالحساب.
تقوّلات حول فرق الشيعة
إنّ موضوع البحث عن الفرق وتعددها موضوع مضطرب شائك، ولا يستطيع الكاتب أن يجزم بكلّ ما نقله أهل المقالات، لأنّهم قد أفرطوا إلى أبعد حدّ، وتقبّلوا كلّ نسبة على حسب مفهومها السطحي بدون تثبّت وتأمّل. وقد تعصّب أكثرهم على من يخالف رأيه، فينقل عنهم آراءً على غير وجهها ولا يصح قول مخالف ما لم يؤيد بثبوته من غير طريقه. وإن هناك آراءً فردية نسبوها لجماعة لا وجود لها، وقد تعصّب أكثر الكتاب في الموضوع، فنقلوا المذاهب على خلاف الواقع، وأكثرهم قد افتعل فرقاً خيالية كقولهم في عدّ فرق الشيعة إنّ منهم الهشامية وهم فرقتان: فرقة تنسب إلى هشام بن الحكم والاُخرى تنسب الى هشام بن سالم الجواليقي، ونسبوا إليهما آراءً خاطئة، وأقوالاً كاذبة.
وكذلك جعلوا من فرق الشيعة فرق الزرارية، نسبة إلى زرارة بن أعين والشيطانية نسبة الى شيطان الطاق، وهو محمد بن النعمان المعروف عند الشيعة بمؤمن الطاق. وكلّ هذا من الاُمور المرتجلة التي لا حقيقة لها، وإنما هي افتعال وتقوّل بالباطل، إذ الشيعة تستمدّ من مصدر واحد، وتستقي من ينبوع أهل البيت(عليهم السلام) .
وقد شقّ على مرضى النفوس أن يبلغ رجال الشيعة درجات رفيعة في العلم بلغت حدّ التميز الذي يجتذب النفوس ويستميل العقول حتى كان لكثير منهم جماعة يعرفون باسم من يتصدرهم كجماعة زرارة، وهم في مطارحاتهم ومناظراتهم يشبعون المسائل بحثاً واستقصاءً وتدور ما بين جماعة فلان من أصحاب الإمام الصادق وجماعة فلان من أصحاب الإمام أيضاً مناقشات هي على نمط ما يجري بين حلقات العلماء اليوم فاختلقوا من المتعلمين على زرارة والمتصلين به فرقة. فزرارة ـ كما مرّ ـ من مشاهير رجال الشيعة وهو من أصحاب الإمام الباقر والإمام الصادق وهو شيخ الأصحاب في زمانه ومتقدمهم قارئاً فقيهاً متكلّماً، ومؤمن الطاق من أحبّ الناس الى الإمام الصادق كما قال(عليه السلام)أحياءً وأمواتاً. ومؤمن الطاق المتميز بقوة التفكير وعمق النظرة ووضوح الحجة وسعة العلم، كان له دوره البارز في التوجيه والإرشاد وعقد المناظرات وخوض المجادلات، فكان حاضر الجواب حاذقاً في فنّ الكلام، شدّ إليه الأنظار; فنسبوا إليه فرقة (الشيطانية)، والتسمية تكشف عن القصد والغرض من وراء اختراع هذه الفِرق واختلاقها فاطلق لقب (شيطان الطاق) من قبل أعداء الشيعة وخصوم مؤمن الطاق ـ كما مرّ بنا ـ .
وأوضح شيء من هذا الشذوذ هو إجماعهم على وجود فرقة السبائية المنسوبة لعبد الله بن سبأ، تلك الشخصية الموهومة، وما قضيته إلاّ اُسطورة سياسية.
والشيء الذي يلزمنا التنبيه عليه هو متابعة بعض المؤلفين لبعض، فإنّ الشهرستاني قد كتب في الفرق، معتمداً على عبد القاهر البغدادي(93)، والاسفرائيني (94) كان تلميذ عبد القاهر وصهره، وعبارتهما في التعبير واحدة. أمّا ابن حزم فذاك فارس ميدان التعصّب والتقول على الشيعة.
قال الرازي في مناظرته مع أهل ما وراء النهر، في المسألة العاشرة عند ذكره لكتاب الملل والنحل: إنّه كتاب حكى فيه مذاهب أهل العالم بزعمه، إلاّ أنّه غير معتمد عليه، لأنّه نقل المذاهب الإسلامية من الكتاب المسمّى بالفَرق بين الفِرق، من تصانيف الاُستاذ أبي منصور البغدادي، وهذا الاُستاذ كان شديد التعصّب على المخالفين، ولا يكاد ينقل مذهبهم على الصحيح. ثم إنّ الشهرستاني نقل مذاهب الفرق الإسلامية من ذلك الكتاب، فلهذا السبب وقع الخلل فيه.
وعلى أيّ حال، فإنّ موضوع الفرق يحتاج الى دقّة في البحث وتأمّل في سير الحوادث والتطور. وهو إلى الآن لم ينل دراسة عادلة. وخوضاً دقيقاً وغربلة وتمحيصاً، فإنّ حصر الفرق الإسلامية بهذا العدد غير وجيه، والحديث الذي يشير إلى تعددها فيه مناقشة من حيث الدلالة والسند لاختلاف ألفاظه وإن كثرت طرقه. وعسى أن ينال هذا الموضوع دراسة دقيقة لإخراج الزوائد، وإيضاح دسائس المغرضين، وبيان خطأ المؤرخين في ذلك.(95)
ومن الغريب أن ينفرد الدكتور أحمد أمين في كتابه "ظهر الإسلام"، يعدّ القرامطة والزنج من فرق الشيعة! بل لا غرابة في تجاوز الدكتور وتحدّيه للشيعة، فقد برهن على تعصّبه الشائن وتجاهله المعيب، إذ هو كما يقول الشاعر:
إن يسمعوا الخير أخفوه وإن علموا *** شرّاً أذاعوا وإن لم يعلموا كذبوا
ويؤلمني أن أقول: إنّ الدكتور يفقد توازنه عندما يتناول الشيعة بالبحث كما يتجرّد عن جميع معلوماته، ويتخلّى عن تفكيره وإدراكه، وكان بوسعه أن يدقّق ويبحث كأديب أو مؤرخ، ولكنه مقلّد للمستشرقين الذين يتقوّلون على المسلمين ويثيرون الفتن ويفتعلون الأقاويل.
كما كان بوسعه أن يثبت وأن يقارن بين عقائد الشيعة وعقائد القرامطة والزنوج، إن وجد مصدراً يذكر ذلك.
وكم كان يسعدنا لو أثبت ما أدّى إليه الحوار معه، ودون ما أقرّه على نفسه من تعصّب وتحامل، وأنجز ما وعد من إعلان العدول عن أقواله.
حول فرق الغلاة
تركنا البحث هنا عن فرق الغلاة، اكتفاءً بما مرّ في الأجزاء السابقة، وسيأتي في الجزء الرابع مزيد بيان. وقد ذكرنا هناك أنّ حركتهم كانت ضد الإسلام بصورة عامة، وضدّ أهل البيت(عليهم السلام)بصورة خاصة، لأنّ انتحالهم حبّ أهل البيت(عليهم السلام)يفتح لخصومهم طريق الوقيعة في أتباعهم، وقد وقع ذلك بدون التفات إلى التباين بين تعاليم أهل البيت(عليهم السلام)وبين ما يذهب إليه الغلاة.
وكما قلت سابقاً: إنّ الكوفة قد عرفت بالتشيّع، وهي تموج بعناصر مختلفة لكثرة المهاجرين إليها، من المدن المجاورة لها والنائية عنها، وذلك عند اتساع نشاط الحركة العلمية، فكانت جماعة المتدخلين في الإسلام يبثّون سمومهم في ذلك المجتمع، ويتناقل الناس مع مساعدة السلطة تلك الأخبار فتنسب للكوفة، والكوفة شيعية.
وقد أعلن الإمام الصادق(عليه السلام)براءته منهم، وجهر بلعنهم، وقد دخل الكوفة عدّة مرات ينشر تعاليم الإسلام الصحيحة، ويظهر للملأ فساد عقائد الغلاة، وواصل كفاحه في مقابلتهم حتى بادت جماعتهم بتلك السرعة، وقبرها في مقرها الأخير، ولم يبق لهم أثر إلا في بطون الكتب.
وأبت نفوس من يضربون على وتر سياسة تلك العصور، ويترنحون بنغمات الهجاء والطعن على شيعة أهل البيت(عليهم السلام)، إلاّ أن يقيموا تلك الرمم البالية، ويخرجوا تلك الجيف النتنة لتكون عاراً على الإسلام، ومنظراً بشعاً، يدلّ عليه من لا يودّ إظهار محاسنه للأجيال انتصاراً لدينهم، وانتقاماً لأسلافهم (أوْلَـئكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ)(96) .
(73) العقد الفريد ج2 ص390.
(74) تاريخ الطبري ج5 ص613، الكامل في التاريخ ج4 ص195.
(75) الفَرق بين الفِرق ص87، الملل والنحل للشهرستاني ج1 ص110 .
(76) الأباضية بين الفِرق الإسلامية ص21 و 22.
(77) الملل والنحل للشهرستاني ج1 ص121 - 122.
(78) اُنظر تاريخ الطبري ج5 ص613 و 564 و 567، اُنظر الكامل للمبرد ج2 ص181.
(79) الانتصار ص120.
(80) اُنظر ضحى الإسلام ج3 ص21 - 207، انظر الملل والنحل للشهرستاني ج1 ص49 - 130، اُنظر الفصل في الملل والنحل ج5 ص57.
(81) الفصل في الملل والنحل لابن حزم ج3 ص227.
(82) الأعراف: 111 .
(83) فرق الشيعة ص6 .
(84) الملل والنحل للشهرستاني ج1 ص126 .
(85) مقالات الإسلاميين للأشعري ص132 - 154.
(86) مقالات الإسلاميين ج1 ص312.
(87) التوحيد للصدوق ص362 ح 8.
(88) تاريخ بغداد ج13 ص367 / 7297.
(89) انظر مناقب أبي حنيفة للكردري ج2 ص141.
(90) تاريخ بغداد : ج 13 ص 273 .
(91) تاريخ بغداد ج13 ص375 / 7297.
(92) الفقه الأكبر ص9.
(93) الفِرق بين الفَرق ص15 - 54.
(94) التبصير في الدين ص24 - 37.
(95) ظهر الإسلام ج4 ص132 و 134.
(96) البقرة: 175 .