الإمام الصادق(عليه السلام)
ملوك عصره واُمراء بلده
تمهيد
لقد رفضت الدولة الاُمويّة الأخذ بنظام الإسلام في حريّة الرأي والاجماع الصحيح من أهل الحل والعقد، ودعت الى محاربته وارتبطت أشدّ الارتباط بفوضى الجاهلية، وجمعت شتات ذلك الجمع الذي فرّقه المصلح الأعظم بدعوته.
فالإسلام يأمر بوحدة وهم فرّقوا الكلمة، وينهى أن تراق الدماء وقد ولغوا فيها، ويأمر بالاحسان والعدل وقد جاروا في الحكم وأساءوا السيرة في الاُمة، فإذا رجعنا الى ماضي الجاهلية والتاريخ الذي سجل تلك العصور الوحشية أدركنا أنّه تمثل في عصرهم بأوضح صورة، وقد دفعوا الناس الى التخطّي عن حدود الدين الإسلامي الذي جاء بتعاليم تحسبها النفوس الشريرة سجناً ضيّقاً تتمنى الخروج منه، والتمرّد على أوامره ونُظمه التي سنّها الشرع المقدس لحفظ النظام وسعادة البشر; فهو يعاب على ترك الصلاة، وشرب الخمر، وقتل النفس وأكل الأموال بالباطل، وحدّد حدوداً، ونظّم قوانين يُعاقب بها المجرم بمخالفته حسب جريمته، ولم يفرق في تطبيقها بين أفراد الاُمة جمعاء، فهي بعمومها تشمل الشريف والوضيع، والحرّ والعبد، والذكر والاُنثى، ولم تكن هناك رخصة لأحد فيها، و لا ميزة تطبّق من أجلها على طبقة دون اُخرى. فالكلّ يخضعون لذلك النظام على حدّ سواء، وليس هناك طبقة فوق القانون الذي شرّعه الإسلام، وما ذلك إلاّ لقلع جذور الشقاء، وغرس السعادة، ورعاية المصلحة العامة، ليجتني الناس ثمر ذلك الغرس الذي غذّاه محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)بتعاليمه، واجهد نفسه أي جهد في تفهيم الناس منافعه ومصالحه.
ولا ريب أنّ هذه التعاليم التي تكفّلت للاُمة السعادة في اتباعها تحتاج الى تنفيذ وتطبيق، ولا يقوم بهذه المهمة إلاّ الإنسان الكامل الذي لا تهمّه مصلحة نفسه، بل إنّ أهمّ شيء عنده المصلحة العامة، وهو الذي يغذّي الاُمة بعلمه لتنال السعادة على ضوء تعاليمه، وتحيى الحياة المطلوبة في صعيد إرشاداته.
وما الإسلام إلاّ مجموعة نظم وقوانين سماوية هبطت إلى الأرض بواسطة النبيّ الأعظم، فهو الذي يتولّى تطبيقها في حياته، ومن يختاره لذلك بعد وفاته بأمر من المشرّع الأعلى: (وربّك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة)(272).
قال الإمام كاشف الغطاء(رحمه الله) : فالإمامة منصب إلهيّ كالنبوّة، فكما أنّ الله سبحانه يختار من يشاء من عباده للنبوة والرسالة، فكذلك يختار للإمامة من يشاء، ويأمر نبيّه بالنص عليه، وأن ينصبه إماماً للناس من بعده للقيام بالوظائف التي كان على النبيّ أن يقوم بها، سوى أنّ الإمام لا يوحى إليه كالنبيّ، وإنّما يتلقى الأحكام منه مع تسديد إلهي، فالنبيّ مبلّغ عن الله والإمام مبلّغ عن النبيّ، والإمامة متسلسلة في اثني عشر، كلّ سابق ينص على اللاحق وهو معصوم ـ كالنبيّ ـ عن الخطأ والخطيئة، وإلاّ لزالت الثقة: (إنّي جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين)(273) ، لأنّ الغرض هو تكميل البشر وتزكية النفوس بالعلم والعمل الصالح: (هو الذي بعث في الاُمّيين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة)(274). والناقص لا يكون مكمّلاً لغيره، والفاقد لا يكون معطياً. انتهى(275).
ولأنّ شريعة الإسلام قائمة الى قيام الساعة، فلابدّ من استمرار الدعوة وبقاء مقتضيات الإرشاد ووسائل التوجيه، ومن اللازم أن يكون الدوام والبقاء في الدين على يد مؤهّل يحمل صفات صاحب الرسالة الأصلي ويتحلى بخصائص مميّزة تمكّنه من الاضطلاع بمهمات النيابة عن صاحب الرسالة وتمثيل أحكام الشريعة وأداء أعباء قيادة الناس وتصدّرهم بحيث لو انقاد الناس في أمر ديني وشرعي الى غيره لبان جليّاً الفرق في مباشرة الأمر من قبل مؤهل بطريق الاختيار والحكمة الإلهية عنه من قِبَل مرشح آخر تتداخل في إظهار أمره عوامل كثيرة لا حاجة للدخول فيها. أمّا لو اتفق الناس في الانقياد الى حاكم زمني فإنّ أمر الدين سيكون أوضح وأكثر جلاءً كما حدث على مرّ العصور، فإنّ الإمام من أهل البيت الأطهار كان في ورعه وتقاه وعلمه لا يزيده إجرام الحكّام وتعسفهم إلاّ تمسكاً بموقعه ومسؤولياته في ولايته الدينية، فيزداد سلطانهم في النفوس ويتّسع اتجاه الناس إليهم بعوامل الإيمان والتمسك بأهداف الدين في مقابل الإذعان والخنوع لقوّة السلطة وحراب المتحكّمين.
والإمام الصادق(عليه السلام) هو سادس الأئمة الاثني عشر، وهو صاحب هذه الولاية وولي أمر المسلمين، وهو الإنسان الكامل الذي اختاره الله لتطبيق ذلك النظام المقدّس في عصره، وحسبك دليلاً على نزاهته وعظمته أنّ خصومه ـ على كثرة عددهم واختلاف عقائدهم ـ لم يستطيعوا أن يثبتوا عليه زلة أو منقصة اجتماعية، أو نكسة علميّة حتى ساعة وفاته.
وظلّت الأنظار متّجهة إليه فهو المبرّز من أهل البيت وسيّدهم في عصره، وقد طلب من قوّاد الثورة أن يبايعوه، لأهليّته للخلافة ولثقة المجتمع به، ولكنّه امتنع عن ذلك لما يراه من وراء سير الحوادث كما سنبيّنه إن شاء الله.
ولسنا في موقف الراغب هنا في البحث عن الإمامة والولاية العامة، فلها محل آخر.
ولكنّنا في معرض بيان موجز، عن أعمال الولاة في عصر الإمام الصادق(عليه السلام)الذين يفترض أن يتولوا رعاية الاُمة وليس لهم قدرة على إصلاح أنفسهم فكيف تصلح بهم الاُمة؟! وقد شاهد(عليه السلام) صنيعهم السيّئ وسيرتهم الملتوية في منهجهم السياسي الفاتك من اضطراب حبل الأمن، وانصرافهم الى أعمال تسيء الى الدين وترهق المسلمين لا يهمّهم شيء إلاّ الرياسة والسيطرة على الرعية وإشباع رغباتهم، من أيّ طريق كان، الى ما هنالك من جرائم هي سلسلة عذاب ونقمة أضعفت الاُمة، خالفوا الكتاب والسنّة، ووقفوا حاجزاً دون المجتمع ودون سعادته التي جعلها الله لهم باتباع أوامر الدين، والخضوع لنظامه.
وسنعرض بعض الحوادث التي جرت في ذلك العصر لنعرف مقدار ما تحمّله الإمام الصادق(عليه السلام) من عظيم المسؤولية وصعوبة ما أحاط به من أوضاع مؤلمة قاسية انتهج فيها الإصلاح الروحي، وهو وسط ظروف سياسية يتوقع فيها الأذى كلّ حين، فكان(عليه السلام) يتّجه الى المسلمين فيشاركهم أحوالهم ويعمل على إبقاء نظام الدين في الحياة كما هو في نفوسهم، كما كان عليه في ذات الوقت أن يتحاشى نقمة الحكام الذين تعدّدت وسائل مراقبتهم له، وعيون رصدهم ومضايقاتهم.
موقف الإمام الصادق من الظالمين
فكان موقفه(عليه السلام) في تلك المدة موقف الرجل المصلح الذي يصول بيد جذّاء لقلّة أعوانه، فهو يراقب الحوادث عن كثب، ويتألّم لتلك الفظائع ويشارك المسلمين في مآسيهم.
ولم يكن (عليه السلام) ليترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإرشاد الناس مع شدّة الرقابة ونصب حبائلهم له ليلحقوه بشهداء آل محمد، ولكنّ الله دفع شرّهم عنه.
فكان(عليه السلام) يبثّ تعاليمه في معارضتهم، ويحذّر الاُمة من مخالطة أئمّة الجور، كما اشتهر ذلك عنه فكان(عليه السلام) يقول: «إيّاكم أن يخاصم بعضكم بعضاً الى أهل الجور»(276).
وقال(عليه السلام): «أيّما مؤمن قدم مؤمناً في خصومة الى قاض أو سلطان جائر، فقضى عليه بغير حكم الله فقد شركه في الإثم»(277).
وقال(عليه السلام): «أيّما رجل كان بينه وبين أخ له مماراة في حقّ فدعاه الى رجل من إخوانكم ليحكم بينه وبينه فأبى إلاّ أن يرافعه الى هؤلاء، كان بمنزلة الذين قال الله عزّ وجلّ فيهم: (ألم ترَ الى الذين يزعُمون أنّهم آمنوا بما اُنزلَ إليكَ وما اُنزل من قبلك يُريدونَ أن يتحاكموا الى الطاغوت وقد اُمروا أن يكفروا به...)»(278).
وقال(عليه السلام): «اتّقوا الحكومة فإنّ الحكومة للإمام العالم بالقضاء، العادل في المسلمين، كنبيّ
أو وصيّ نبي»(279).
وسأله رجل عن قاض بين فرقتين يأخذ من السلطان على القضاء الرزق؟ فأجابه(عليه السلام): «إنّ ذلك سحت»(280). وقال: «العالم بالظلم، والمعين له، والراضي به كلّهم شركاء ثلاثتهم»(281)، الى كثير من ذلك، وسنذكر بعضها فيما بعد.
وكان يحثّ الناس ويدعوهم الى مقاطعتهم وعدم الركون إليهم، ويدعو الاُمة الى الاتحاد ضدّ اُولئك الظلمة امتثالاً لقوله تعالى: (ولا تَركنوا الى الذين ظَلموا فتمسّكم النار)(282). فهو يبثّ نصيحته بين طبقات ذلك المجتمع بصفته إمام زمانه ويواصل جهاده في سبيل الدعوة الإصلاحية، ليفك أسر الاُمة من يد من أفسدوا ذلك المجتمع الصالح، وقد عاش(عليه السلام) مدة من الزمن وعاشر كثيراً من ملوك عصره فما ركن لهم، وما استطاعوا أن يستميلوه وقد حاول المنصور أن يستميله(عليه السلام) ليوهم الناس أنّ ولايته على حقّ، فأرسل إليه: لِمَ لا تغشانا كما يغشانا سائر الناس؟
وكان المنصور يظنّ أنْ ينال من الإمام جواباً يحقّق هذا الطلب، إذ المنصور سلطان العصر ومهاب الجانب.
فكان جواب الإمام(عليه السلام): «ما عندنا من الدنيا ما نخافك عليه ولا عندك من الآخرة مانرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنيك عليها، ولا تعدّها نقمة فنعزيك عليها، فَلِم نغشاك»(283)؟
وعظم هذا الجواب على المنصور، ولكنّه يعرف منزلة الصادق(عليه السلام) وصدقه في ذلك، وحاول أن يسلك طريقاً لضمّ الإمام الى جانبه كما ضمّ غيره، إذ يصعب عليه انعزاله وترفعه عن مخالطته، فأرسل إليه: إنّك تصحبنا لتنصحنا. ولم يخفَ مراده على الإمام فأجابه: «من أراد الدنيا فلا ينصحك ومن أراد الآخرة فلا يصحبك».
وقد استخدم المنصور وجهي سياسته من الفضاضة الدنيئة والليونة المصطنعة ليجعل الإمام كالآخرين الذين يتحاشونه ثم ينفذون ما يريده منهم، والحقيقة أنّ موقف الإمام الصادق من المنصور كان يمثّل مشكلة سياسية ودينية احتلت أهميّة كبيرة في سياسة المنصور، وما دام الإمام يقطن في المدينة فقد كانت الشكوك تأكل قلب الدوانيقي فيهب الى الموسم أو العمرة، وغرضه أن يرى بنفسه ما يفعل الإمام جعفر الصادق، وقد احتلّ تلك المكانة السامية في نفوس العلماء والعامة، ويقوم المنصور بإحضاره إذا ما جاء المدينة أو وهو في حاضرة ملكه فنرى في أحاديثه وأقواله مع الإمام محاولاته المختلفة حتى أعياه، فهو يقصد رجلاً يفيض علماً وإيماناً ومن صفوة استتر المنصور وأهله بشعارهم حتى تمكنوا من الحكم، ومنزلة آل البيت تزداد قوّة، فكلّ ما يصدر عن المنصور بحقّ الإمام يسري سريعاً بين الناس، فإنّ من شيعته من هم في قصره، لأنّ الأوضاع لم تصل بعد إلى درجة التفريق بين من يأبى سياسة العباسيين وهم يستأثرون بالحكم وبين من بقي بانتظار تحقيق ما قامت عليه الثورة.
وقد حاول المنصور أكثر من مرة الانتقاص من الإمام إذ اعترض الإمام قائلاً: لا تتفقه عليَّ، فأجابه الإمام: أين يذهب مني الفقه؟ فانزجر المنصور، كما أنّه صرّح مرات بعزمه على قتل الإمام، ولكنّ الله أحبط عمله ومسعاه، وحفظ لهذه الاُمة إمامها.
(272) القصص 68 .
(273) البقرة 124 .
(274) الجمعة 2 .
(275) أصل الشيعة واُصولها ص102 .
(276) وسائل الشيعة ج27 ص13، أبواب صفات القاضي، ب1، ح 5 .
(277) وسائل الشيعة ج 27 ص11، أبواب صفات القاضي، ب 1، ح 1.
(278) النساء 60 .
(279) الكافي للكليني ج 7 ص406 ح1 باب «إن الحكومة إنما هي للإمام»، ومن لا يحضره الفقيه ج3 ص5 ح3222.
(280) وسائل الشيعة ج27 ص 221، باب1 من أبواب تحريم الرشوة ح1.
(281) الكافي ج2 ص 250، وعنه وسائل الشيعة ج17 ص 178 .
(282) هود 113 .
(283) كشف الغمة للإربلي ج2 ص427 باختلاف يسير، الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) لعبدالحليم الجنديص86 .
مُلوك عَصره
عاصر الإمام الصادق(عليه السلام) عشرة من ملوك بني اُمية وهم : عبد الملك بن مروان، والوليد بن عبد الملك، وسليمان بن عبد الملك، وعمر بن عبد العزيز، ويزيد بن عبد الملك، وهشام بن عبد الملك، والوليد بن يزيد بن عبد الملك، وإبراهيم بن الوليد بن عبد الملك، ومروان بن محمد بن مروان بن الحكم المعروف بالحمار وهو آخر ملوكهم.
وعاصر(عليه السلام) من العباسيين عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس المعروف بالسفاح، وأخاه المنصور الداونيقي.
ولا بد لنا من الوقوف على تراجمهم، وذكر بعض الحوادث التي جرت في أيّامهم.
عبد الملك بن مروان
عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن اُمية، اُمّه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص، فهو اُموي بين اُمويين.
وكان جدّه المغيرة من أشد الناس عداء لرسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) فظفر به(صلى الله عليه وآله وسلم) في خروجه لغزوة حمراء الأسد; فأمر بضرب عنقه(2)، وقال ابن كثير: المغيرة جدّ عبد الملك لاُمه هو الذي جدع أنف حمزة يوم اُحد(3).
تولّى عبد الملك بعهد من أبيه مروان سنة (65هـ ) وبقي في الملك إلى سنة (86 هـ ) وهي سنة وفاته.
وكان قبل ولايته يجالس العلماء، ويحفظ الحديث ويتعبّد في المسجد، وكان متقشّفاً، وقد أنكر على يزيد بن معاوية حربه لعبد اللّه بن الزبير، وقال لبعض من سار في ذلك الجيش:
ثكلتك اُمك أتدري إلى من تسير؟ إلى أوّل مولود ولد في الإسلام، ومن حنّكه رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) وابن حواريه، وابن ذات النطاقين.
أما واللّه إن جئته نهاراً وجدته صائماً، وليلاً وجدته قائماً، فلو أنّ أهل الأرض اطبقوا على قتله لأكبّهم اللّه جميعاً في النار.
قال ذلك الرجل الذي خاطبه عبد الملك بهذا: فلما صارت الخلافة إلى عبد الملك، وجّهنا عبد الملك مع الحجاج حتى قتلناه، أي ابن الزبير(4).
وذلك أنّ عبد الملك بن مروان عندما ولي الخلافة أرسل الحجاج بن يوسف لحرب ابن الزبير في جيش من أهل الشام، وحوصر ابن الزبير ستة أشهر وسبع عشرة ليلة، وكان الحجاج يرمي الكعبة بالمنجنيق من أبي قبيس(5).
روى ابن عساكر: أن الحجاج لما رمى الكعبة بالمنجنيق أخذ قومه يرمون من أبي قبيس ويرتجزون:
خطارة مثل الفنيق المزبد *** أرمي بها أعواد هذا المسجد
فجاءت صاعقة فأحرقتهم، فامتنع الناس من الرمي، وخطب بهم الحجاج فقال: ألم تعلموا أنّ بني إسرائيل كانوا إذا قرّبوا قرباناً فجاءت نار فأكلته، علموا أنه قد تقبل منهم، وإن لم تأكله النار علموا أنّ القربان لم يقبل ولم يزل يخدعهم حتى عادوا فرموا(6).
ودام الحصار والرمي للكعبة حتى قتل عبد اللّه بن الزبير في جمادى الآخرة سنة (83 هـ ) وصلبه الحجاج منكوساً بعد قتله، وبعث رأسه إلى عبد الملك بن مروان فطيف به في البلاد(7).
ولمّا أفضى الأمر إليه كان المصحف بيده فأطبقه، وقال: هذا آخر العهد بك، أو هذا فراق بيني وبينك(8).
قال ابن كثير: حجّ عبد الملك في سنة (75 هـ ) وخطب الناس بخطبة، قال فيها: إنّه كان من قبلي من الخلفاء يأكلون ويؤكلون، وإني واللّه لا اُداوي أدواء هذه الاُمة إلاّ بالسيف، ولست بالخليفة المستضعف ـ يعني عثمان ـ ولا الخليفة المداهن ـ يعني معاوية ـ ولا الخليفة المأبون ـ يعني يزيد بن معاوية ـ أيّها الناس إنّا نحتمل منكم مالم يكن عقد راية أو وثوب على منبر، هذا عمرو بن سعيد حقّه حقّه قرابته وابنه، قال برأسه هكذا، قلنا بسيفنا هكذا، وإنّ الجامعة التي خلعها من عنقه عندي، وقد أعطيت الله عهداً أن لا أضعها في رأس أحد إلاّ اخرجها الصعداء، فليبلغ الشاهد الغائب(9).
وعمرو بن سعيد هو المعروف بالأشدق قتله عبد الملك بيده سنة (69 هـ ); وقال بعد أن فرغ من قتله: كان أبو اُمية أحبّ إليّ من زهر النواظر ولكن والله ما اجتمع فحلان في شول قط إلاّ أخرج أحدهما صاحبه(10) . وكان قتله لعمرو بن سعيد غدراً، لأنّه آمنه وحلف له وجعله وليّ عهد من بعده.
وكان عبد الملك له إقدام على سفك الدماء، ولما قالت له اُمّ الدرداء: بلغني أنّك شربت الطلى بعد العبادة والنسك! ! فقال: أي و اللّه والدماء أيضاً شربتها(11).
وكانت أوّل بادرة صدرت منه وتعتبر منهاجاً لسيرته، أنّه نهى عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقال: لا يأمرني أحد بتقوى اللّه
إلاّ ضربت عنقه(12).
توليته للحجاج
وهو الذي حمل الحجاج بن يوسف على رقاب المسلمين عندما ولاّه على الحجاز والعراق.
والحجاج ذلك الطاغية الذي أذاق الاُمة أنواع العذاب، يغمد سيفه في رقاب الأبرياء، وقد اتخذ ذلك السجن المكشوف الذي يضم بين جدرانه عدداً لا يقلّ عن مائة وعشرين ألفاً بين رجل وامرأة، يلاقون فيه حرارة الشمس وألم الجوع، ويكابدون غصص وضع الرماد على الرؤوس، وهم يموجون من الشدة، ويغلون كالمرجل، تحرقهم حرارة الشمس وتقلّبهم السياط وبعج الرماح وصرخات السجانين، ولقد اتخذ الحجاج في معاملة الناس عند ولايته أقسى ما يتصور من القسوة والشدّة، فهو يضرب بسيفه أنّى شاء وكيف شاء، وله أساليب في إنزال العذاب والعقوبة بمن يظفر بهم، فأصبح إمام سنّة الظلمة، واُستاذ الظلمة من الحكام.
فهذا سجين يشدّ عليه القصب الفارسي المشقوق ويجرّ عليه، ثم ينضح عليه الخلّ، وذاك أسير آخر اُصيب ساقه بنشابة ثبت نصلها في ساقه. وعلم الحجاج أنّ أشدّ عذاب يعامل به أسيره أن يحرّك النصل ليسمع استغاثة السجين وصياحه، فتأخذه نشوة الطرب تجبّراً وطغياناً. قال عمر بن عبد العزيز: لو جاءت كلّ اُمة بخبيثها وجئنا بالحجاج لغلبناهم(13).
وقال عاصم: ما بقيت لله عزّ وجلّ حرمة إلاّ وقد ارتكبها الحجاج(14).
وكان الحجاج قد تطلّع الى إمرة العراق وهو يرى عبدالملك قلقاً على ملكه ممّا يحدث فيه ويخاطب أصحابه: ويلكم! من للعراق؟ وتمّ للحجاج ما رغب فيه واتّجه رضيع الدماء المبير الى العراق حيث الثوار، فكان غاشماً عاتياً في فعله وقوله. ومن جملة أقواله:
يا أهل العراق هل استنبحكم نابح، أو استشلاكم غاو أو استخفّكم ناكث، أو استنصركم عاص إلاّ تابعتموه وبايعتموه وآويتموه وكفيتموه؟ يا أهل العراق هل شغب شاغب أو نعب ناعب أو ربى كاذب إلاّ كنتم أنصاره وأشياعه(15).
ويخاطب أهل الشام:
يا أهل الشام أنتم العدّة والعدد، والجنّة في الحرب، إن نحارب حاربتم أو نجانب جانبتم وما أنتم وأهل العراق إلاّ كما قال نابغة بني جعدة:
وإن تداعيهم حظّهم *** ولم ترزقوه ولم تكذب
كقول اليهود قتلنا المسيح *** ولم يقتلوه ولم يصلب
وأنزل أهل الشام بيوت أهل الكوفة. يقول ابن الأثير: وهو أوّل من أنزل الجند في بيوت غيرهم، وهو الى الآن لا سيّما في بلاد العجم، ومن سنّ سنّة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها الى يوم القيامة.
وقيل اُحصي من قتله الحجاج صبراً، فكانوا مائة ألف وعشرين ألفاً. وروي أنّ الحجاج مرّ بخالد بن يزيد بن معاوية وهو يخطر في مشيته، فقال رجل لخالد: من هذا؟ قال خالد بخ بخ، هذا عمرو بن العاص، فسمعها الحجاج فردّ عليهما بكلام منه: أنا الذي ضربت بسيفي هذا مائة ألف كلّهم يشهد أنّ أباك كان يشرب الخمر ويضمر الكفر(16).
وسئل الحسن البصري عن عبد الملك بن مروان؟ فقال: ما أقول في رجل، الحجاج سيئة من سيئاته(17).
ويقول ابن الأثير وهو يصف خوف عبدالملك من الموت وهو في ساعاته الأخيرة: «ويحقّ لعبدالملك أن يحذر هذا الحذر ويخاف; فإن من يكن الحجاج بعض سيئاته يعلم على أيّ شيء يقدم عليه».
وكان عبد الملك يشجّع الحجاج ويشدّ أزره، ولا يسمع عليه أي شكاية ولا يرقّ لأيّ استغاثة، ولمّا أدركه الموت أوصى ولي عهده الوليد برعاية الحجاج وإكرامه(18)، وكيف لا يوصيه برجل كان من رأيه أنّ عبد الملك أفضل من النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم). ولا عجب من الحجاج بل العجب ممن يطلب له المعاذير ويحاول أن يوفّق بين أعماله القبيحة وبين الدين، ويريد أن يدخله الجنّة رغم الحواجز، وليس ببعيد عن التعصّب والعاطفة حصول هذا وأمثاله.
ونستطيع أن نعرف نفسيّة عبد الملك وما هو فيه من جرأة على سفك الدماء، في ولايته للحجاج وتوليته اُمور المسلمين مع علمه بجوره وتعسفه، وقد كانت تصله أخباره وترفع إليه الشكايات والاستغاثة منه، فلا يرون عنده إلاّ تشجيع الحجاج على عمله.
ولمّا حضرته الوفاة أوصى ولده الوليد، في أخذ البيعة له بالسيف وقال ـ وهو في آخر ساعة من الدنيا ـ : يا وليد، حضر الوداع وذهب الخداع وحلّ القضاء. فبكى الوليد، فقال له عبد الملك: لا تعصر عينيك كما تعصر الأَمة الوكاء، إذا أنا متّ فغسلني وكفني وصلِّ عليّ واسلمني إلى عمر بن عبد العزيز يدليني في حفرتي، واخرج أنت إلى الناس والبس لهم جلد نمر، واقعد على المنبر، وادع الناس إلى بيعتك، فمن مال بوجهه كذا فقل له بالسيف كذا، وتنكّر للصديق والقريب، واسمع للبعيد، وأوصيك بالحجاج خيراً(19).
وبهذا نأخذ صورة عن كيفية أخذ البيعة من الناس لخليفة جديد، يتولى ادارة شؤون الاُمة، فهل للاُمة اختيار في الانتخاب أم انّها مرغمة ليس لها أيّ رأي؟ ! ولا يحقّ لها الاعتراض على شيء من ذلك، والمعارض يقتل، فهل تصح مثل هذه البيعة التي سنّ نظامها العهد الاُموي، وهل يصحّ أن يسمى من يفوز بمثل هذا التعيين الاجباري بأمير المؤمنين ويكتب ذلك بحروف بارزة؟ أنا لا أدري ولعلّ هناك من يدري وإلى القارئ النبيه الحكم.
وكان عبد الملك يبتعد عن دماء بني هاشم لا تديّناً ولكنّه رأى عاقبة آل أبي سفيان السيئة من وراء ذلك، كما يشير بكتابه للحجاج بن يوسف في عدم التعرض لهم ومع هذا فقد حمل الإمام زين العابدين(عليه السلام) مقيّداً من المدينة إلى الشام، كما حدّث الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء(20). ولا يسعنا التوسّع في البحث عن عبد الملك وأعماله وسوء سيرة عمّاله في الرعية، وسيأتي بعض منها.
الوليد بن عبد الملك
ولي الأمر بعد أبيه يوم الخميس في النصف من شوال سنة (86 هـ ) وهو اليوم الذي مات فيه عبد الملك. وكان الوليد ولي عهده، وبقي والياً إلى أن مات يوم السبت في النصف من جمادى الأولى سنة خمس وتسعين، وكانت مدة ولايته تسع سنين وسبعة أشهر، وله ست وأربعون سنة.
واُمّه ولادة بنت العباس بن جزء بن الحارث بن زهير بن جذيمة العبسي.
وكان الوليد له سطوة شديدة لا يتوقف إذا غضب، وكان كثير النكاح والطلاق، يقال إنه تزوّج ثلاثاً وستين امرأة(21) غير الاماء. وكان لجوجاً كثير الأكل. وكان يغلب عليه اللحن.
وهو الذي بنى جامع دمشق، والذي عرف بالجامع الاُموي، وأنفق على ذلك أربعمائة صندوق من الذهب، وفي كل صندوق أربعة عشر ألف دينار، وقيل كان في كلّ صندوق ثمانية وعشرون ألف دينار، وقد لامه الناس على ذلك، وأنه انفق مال بيت المسلمين فخطبهم، وقال: إنّما هذا كلّه من مالي، لأنّ الاُمويين يعدون الأموال التي تجيء لهم هي ملكهم يتصرفون بها كيف شاءوا.
كما أنّه زاد في مسجد النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وزخرفه ونمّقه، ورصّعه بالفسيفساء وهي الفص المذهّب، وأدخل فيه حجر أزواج النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وسائر المنازل التي حوله(22)، فقال له خبيب بن عبد اللّه بن الزبير: اُنشدك اللّه أن تهدم آية من كتاب اللّه: (إنّ الذين يُنادُونك من وراء الحُجُرات )(23) فأمر الوليد بضربه حتى مات، وسيأتي بيان السبب الذي من أجله وسّع الوليد مسجد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
وفي أيّامه مات الإمام زين العابدين علي بن الحسين(عليهما السلام) مسموماً، وذلك في الخامس والعشرين من شهر محرم الحرام سنة (95 هـ )، وكان الوليد هو الذي دسّ إليه السمّ ويُقال: إن هشام بن عبد الملك هو الذي دسّ إليه السمّ بأمر من الوليد(24)، وسيأتي بيان ذلك إن شاء اللّه .
مقتل سعيد بن جبير
وفي أيّامه قتل سعيد بن جبير، قتله الحجاج بن يوسف في شعبان سنة (95 هـ )، وكان سعيد قد هرب من الحجاج إلى اذربيجان، ومنها توجّه إلى مكّة مستجيراً باللّه، ولا ئذاً في حرمه.
وكتب الحجاج إلى الوليد: إن جماعة من التابعين قد التجأوا إلى مكّة فكتب الوليد إلى عامل مكّة خالد القسري: يأمره بحملهم إلى الحجاج، وكانوا خمسة، وهم: سعيد بن جبير، وعطاء، ومجاهد، وطلق بن حبيب، وعمر بن دينار.
ولمّا دخل سعيد على الحجاج دارت بينهما محاورة، وأسمعه الحجاج كلاماً شائناً، ثم سأله عن عبد الملك، فقال سعيد تسألني عن امرىً أنت واحد من ذنوبه.
وأمر الحجاج بقتله، فقال سعيد: اشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، استحفظكها يا حجاج حتى ألقاك يوم القيامة، ولمّا قتل هلّل رأسه ثلاثاً افصح فيها بمرّة، والتبس عقل الحجاج يومئذ، وجعل يقول: قيودنا قيودنا، فظنّوها قيود سعيد التي في رجليه، فأخذوها من رجليه بعد أن قطعوا رجليه من ساقيه، وكان الحجاج إذا نام ينتبه مرعوباً ويقول: مالي ولسعيد بن جبير(25)؟
ولم يبق الحجاج بعد ذلك إلاّ أياماً، فإنّه قتل سعيداً في شعبان ومات هو في شهر رمضان من السنة المذكورة.
وكذلك الوليد فإنّه مات في السنة الثانية (96 هـ ) في النصف من جمادى الآخرة. أو الأولى.
قال بعض من هرب من جور الحجاج: مررت بقرية، فوجدت كلباً نائماً في ظلّ حب، فقلت في نفسي ليتني كنت مثل هذا الكلب، وكنت مستريحاً من خوف الحجاج.
قال ثم عدت بعد ساعة فوجدت الكلب مقتولاً فسألت عنه، فقيل: جاء أمر الحجاج بقتل الكلاب(26).
لقد تركت سلطة الاُمويين الحجاج يفعل ما يشاء ويتصرف مع أعدائهم بسيفه دون أن تحرّك ضمائرهم مناظر القتل والتشريد وانتهاك الأعراض، فهو «جلدة ما بين العينين» في أعزّ موقع من وجه السلطة الدموي. كما تركوه يتمادى في الكفر ويأتي بما يشاء من الكفر والخروج عن الإسلام.
فكان يدّعي نزول الوحي عليه، وأنّه لا يعمل إلاّ بوحي من الله تعالى(27)، وبلغت به الجرأة القول: إن خليفة الله في أرضه أكرم عليه من رسوله.(28) وبهذا ينطبق عليه الحديث الشريف: «إن في ثقيف مبير وكذاب».
وقد حقّقنا ذلك في غير هذا المكان.
سليمان بن عبد الملك
ولي الأمر بعد أخيه الوليد يوم السبت في النصف من جمادى الآخرة سنة (96 هـ ) بعهد من أبيه عبد الملك، وبقي والياً إلى أن مات يوم الجمعة لعشر خلون من صفر سنة (99 هـ ) وكانت ولايته عامين وتسعة أشهر وأيّاماً، وهو شقيق الوليد.
وأراد الوليد أن يعزل سليمان عن ولاية العهد، ويبايع لولده عبد العزيز فأبى سليمان، فكتب الوليد إلى عمّاله، ودعا الناس إلى ذلك، فلم يجبه إلاّ الحجاج، وقتيبة بن مسلم(29).
ولهذا غضب سليمان على آل الحجاج ونكبهم، وقتل قتيبة بن مسلم سنة (96 هـ ) وعزل عمّال الحجاج، وعذّب أهله، وأطلق في يوم واحد من المسجونين في سجن الحجاج أحد وثمانين ألفاً من الاُسراء، وأمرهم أن يلحقوا بأهاليهم، ووجد في سجن الحجاج ثلاثين ألفاً ممّن لا ذنب لهم، وثلاثين ألف امرأة(30).
وسجن يزيد بن مسلم كاتب الحجاج، واُدخل عليه وهو مكبل في الحديد فلما رآه سليمان إزدراه فقال: ما رأيت كاليوم قط، لعن اللّه رجلاً أجّرك رسنه وحكمك في أمره.
فقال له يزيد: لا تفعل يا أمير المؤمنين فإنّك رأيتني والأمر عني مدبر وعليك مقبل.
ثم قال سليمان: عزمت عليك لتخبرني عن الحجاج ما ظنّك به، أتراه يهوي بعد في جهنّم أم قد استقر؟ قال: لا تقل هذا في الحجاج، فقد بذل لكم نصحه، وأحقن دونكم دمه، وأمن وليّكم، وأخاف عدوّكم، وأنّه يوم القيامة لعن يمين أبيك عبد الملك، ويسار أخيك الوليد، فاجعله حيث شئت، فقال سليمان: اخرج عني إلى لعنة اللّه(31).
وكان سليمان يأخذ برأي عمر بن عبد العزيز في بعض اُموره يستشيره فيها، وقال له: أنّه قد ولينا ما ترى وليس لنا علم بتدبيره، فما رأيت من مصلحة العامة فمرّ به فليكتب. فكان رد الصلاة إلى ميقاتها، بعد أن كانوا يؤخّرونها إلى آخر وقتها(32).
وسمع سليمان ليلة صوت غناء في عسكره فلم يزل يفحص حتى أتى بهم، فقال سليمان: إنّ الفرس ليصهل فتستودق له الرمكة، وإنّ الجمل يهدر فتضع له الناقة، وإنّ التيس لينبُ فتستخذي له العنز، وإنّ الرجل ليغني فتشتاق له المرأة، ثمّ أمر بهم فقال: أخصوهم . فيقال إن عمر بن عبد العزيز قال: يا أمير المؤمنين، إنّها مثلة، ولكن أنفهم . فنفاهم(33).
وقد أجمع المؤرخون على شدّة نهم سليمان، وأنّه يأكل كثيراً يجوز المقدار. وقال بعضهم : كان يأكل مائة رطل، وغير ذلك ممّا ذكره.
وكان يلبس الثياب الرقاق، وثياب الوشي، ولبس الناس جميعاً الوشي جباباً وأردية وسراويل، وعمائم وقلانس ، وألبس جميع أهله وحاشيته الوشي; حتى الطباخين وأمر أن يكفن فيه(34).
وكان مجحفاً في جباية الأموال، فمن ذلك أنه كتب إلى عامله على خراج مصر ـ وهو اُسامة بن زيد التنوخي ـ أحلب الدر حتى ينقطع ، وأحلب الدم حتى ينصرم.
قال الكندي: فذلك أول شدّة دخلت على أهل مصر. وقد أعجب سليمان بفعل اُسامة، وقال: هذا اُسامة لا يرتشي ديناراً ولا درهماً، فقال له عمر بن عبد العزيز: أنا أدلّك على من هو شر من اُسامة ولا يرتشي ديناراً ولا درهماً.
فقال سليمان: ومن هو؟ قال: هو عدو اللّه ابليس. فغضب سليمان وقام من مجلسه(35).
وقدم اُسامة على سليمان بما اجتمع عنده من الخراج وقال: يا أمير المؤمنين إنّي ما جئتك حتى نهكت الرعية وجهدت، فإن رأيت أن ترفق بها وترفه عليها، وتخفف من خراجها ما تقوى به على عمارة بلادها فافعل، فإنّه يستدرك ذلك في العام المقبل. فقال له سيلمان: هبلتك اُمّك، أحلب الدر فإذا انقطع فاحلب الدم(36).
وغضب سليمان على أعظم قائد فتح الفتوحات العظيمة في بلاد المغرب وهو موسى بن نصير، وكان من رجالات الكوفة العسكريين، وزهّادها المؤمنين! ممّن عرف بولائه لأهل البيت واستقامته، ولعلّ من هذا كان سخط سليمان عليه بعد تلك الأعمال الجليلة والفتوحات العظيمة، كما هو مشهور.
وقد أهمل كثير من المؤرخين عظيم بلائه وجهاده في نشر الإسلام ، واتساع رقعته، وأشادوا بذكر مولاه طارق بن زياد الذي كان تحت امرته ويسير على مخططاته العسكرية.
كانت لموسى هذا مواقف مشهورة، ففتح بلاد المغرب، وغنم أموالاً طائلة وكان يوجه ولده عبد العزيز، ومولاه طارق بن زياد لافتتاح المدن، ولكن سليمان وجد على موسى، فقتل ولده عبد العزيز الذي افتتح في امارته مدائن كثيرة، وكان عبد العزيز متصفاً بالزهد والصلاح، ولكنّ بعض المؤرخين حاكوا حوله تهمة لا تتفق مع مايتصف به من الاستقامة وحسن السيرة، وكان قتله سنة (98 هـ ) . قال ابن الأثير: ويعدون ذلك من زلاّت سليمان(37) .
وكان والده موسى قد سخط عليه سليمان وعذبه أنواع العذاب، وضمنه أربعة آلاف دينار وثلاثين ألف درهم.
ولمّا قتل ولده عرض رأسه عليه فتجلّد للمصيبة وقال: هنيئاً له بالشهادة، وقد قتلتموه، واللّه صواماً قواماً.
وكان موسى ممّن عرف هو وأبوه نصير بولائه لآل محمد، ولقد غضب معاوية عليه إذ لم يخرج معه لصفين .
عمر بن عبد العزيز
أبو حفص عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم، واُمّه اُم عاصم ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب .
ولي بعهد من سليمان بن عبد الملك، يوم الجمعة لعشر خلون من صفر سنة (99 هـ )، وبقي والياً إلى أن مات يوم الجمعة لخمس بقين من رجب سنة (101 هـ ). ومدة خلافته سنتان وخمسة أشهر وخمسة أيام .
وكان أبوه عبد العزيز المتوفى سنة (86 هـ ) ولي عهد مروان بعد أخيه عبدالملك، ولكنه مات قبله.
وقد وجد الناس في عهد عمر بن عبد العزيز عدلاً فقدوه زماناً، واستراحوا في أيّامه القليلة ممّا كانوا يتحمّلونه من ظلم وتعسف، وجور في الحكم، واستبداد في الأمر من حكام سبقوه، وهم لا يتقيدون بقانون سماوي أو وضعي، ولا ينظرون إلا لأنفسهم وأنصارهم، فيستأثرون بما يجبونه من الأموال، وينفقونه في مصالحهم الخاصة.
وكان الخراج في عهده من أسوأ المشاكل التي تواجهها الاُمة لسوء تصرف العمال، وجشع الولاة، وكانت جبايته غير محدودة ولا مقررة، بل يعود أمرها إلى العمال أنفسهم، فظلموا العباد وخرّبوا البلاد.
ولما ولي عمر بن عبد العزيز عالج هذه المشكلة، ويعطينا كتابه لعامله في العراق صورة واضحة عن سوء الحالة وتردي الأوضاع.
سيرته في الخراج
كتب عمر بن عبد العزيز إلى عامل الكوفة: أما بعد فإنّ أهل الكوفة قد أصابهم بلاء وشدة في أحكام اللّه، وسنة خبيثة سنّها عليهم عمال السوء، وإنّ قوام الدين العدل والاحسان، فلا يكن شيء أهمّ إليك من نفسك، فلا تحملها قليلاً من الإثم، ولا تحمل خراباً على عامر، وخذ منه ما أطاق وأصلحه حتى يعمر، ولا يؤخذن من الغامر إلاّ وظيفة الخراج في رفق وتسكين لأهل الأرض، ولا تأخذن اُجور الضرّابين، ولا هدية النوروز والمهرجان، ولا ثمن المصحف. ولا اُجور الفتوح، ولا اُجور البيوت ولا درهم النكاح، ولا خراج على من أسلم من أهل الأرض، فاتبع في ذلك أمري فإني قد وليتك ما ولاني الله، ولا تعجل دوني بقطع ولا حلب حتى تراجعني فيه، وانظر من أراد من الذرّية أن يحجّ فعجّل له مائة ليحج بها والسلام(38).
وقد عامل العلويين معاملة حسنة وفرّق فيهم أموالاً، وكتب إلى عامله بالمدينة: أن أقسم في ولد عليّ بن أبي طالب عشرة آلاف دينار. فكتب إليه العامل: إن علياً قد ولد له في عدة قبائل من قريش ففي أيّ ولده؟ فكتب إليه عمر: إذا أتاك كتابي هذا فاقسم في ولد علي من فاطمة ـ رضوان اللّه عليهم ـ عشرة آلاف دينار فطالما تخطّتهم حقوقهم والسلام(39).
ودخلت عليه فاطمة بنت علي(عليه السلام)، فقال لها: يا بنت علي، واللّه ما على ظهر الأرض أهل بيت أحبّ إليّ منكم، ولأنتم أحبّ إليّ من أهل بيتي(40).
وقال ابن الأثير : وكان سبب محبّته علياً أنّه قال: كنت بالمدينة أتعلّم العلم، وكنت ألزم عبيد الله بن عبدالله عتبة بن مسعود، فبلغه عنّي شيء من ذلك، فأتيته يوماً وهو يصلّي، فقال لي: متى علمت أنّ الله غضب على أهل بدر وبيعة الرضوان بعد أن رضي عنهم؟ قلت: لم أسمع ذلك.
قال: ما الذي بلغني عنك في علي(عليه السلام)؟ قلت: معذرة إلى اللّه وإليك وتركت ما كنت عليه.
وكان أبي إذا خطب فنال من عليّ رضي اللّه عنه تلجلج، فقلت: يا أبتِ إنّك تمضي في خطبتك، فإذا أتيت على ذكر عليّ عرفت منك تقصيراً .
قال: أو فطنت لذلك؟ قلت: نعم . فقال: يا بنيّ، إنّ الذين حولنا لو يعلمون من عليّ ما نعلم تفرّقوا عنّا إلى أولاده.
فلمّا ولي الخلافة لم يكن عنده من الدنيا هم، مثل ما يرتكب هذا الأمر العظيم لأجله، فترك ذلك وكتب بتركه وقرأ عوضه: (إنّ اللّهَ يأمرُ بالعدل والإحسان )(41) الآية، فحلّ هذا الفعل عند الناس محلاً حسناً وأكثروا مدحه بسببه(42).
وصعب على الاُمويين ترك هذه البدعة، وحاولوا إعادتها بعد عمر بن عبدالعزيز.
حجّ هشام بن عبد الملك سنة (106 هـ ) فقال له سعيد بن الوليد بن عثمان: يا أمير المؤمنين إنّ الله لم يزل ينعم على أهل بيت أمير المؤمنين، وينصر خليفته المظلوم، ولا يزالوا يلعنون في هذه المواطن الصالحة أبا تراب، فأمير المؤمنين ينبغي أن يلعنه في هذه المواطن الصالحة، فشقّ على هشام ذلك وقطع كلامه، وقال: ما قدمنا لشتم أحد(43).
وعلى أيّ حال فإنّ عمر بن عبد العزيز قام باُمور مشكورة، ووجد الكثيرون في عهده ما لم يجدوه في عهد غيره من الاُمويين .
ولقد ثقل على الاُمويين ما قام به عمر بن عبدالعزيز من الأعمال الصالحة، ومعالجة مشاكل المجتمع، ولذا قيل: إنّه مات بالسمّ من بني اُمية، علماً منهم أنّه إن امتدّت أيّامه أخرج الأمر عنهم، وأنّه لا يعهد بعهد إلاّ لمن يصلح للأمر فعاجلوه(44).
أخطاء تاريخية
ذكر بعض المؤرخين: أنّ عمر بن عبد العزيز صعد المنبر ذات يوم بمكّة، فقال: أيّها الناس من كانت له ظلامة فليتقدم. فتقدم علي بن الحسين بن علي(عليه السلام)فقال: إنّ لي ظلامة عندك. فقال: وما ظلامتك؟
فقال علي بن الحسين: مقامك هذا الذي أنت فيه. فقال عمر: إنّي لا أعلم ذلك، ولكن لو علمت أنّ الناس يتركونه لك واللّه لتركته(45).
ونحن لا ننكر اعتراف عمر بن عبد العزيز بأحقيّة أهل البيت للأمر، ولا ننكر مطالبة أهل البيت في حقّهم عند سنوح الفرص، وأنّهم مظلومون، وأيديهم من حقّهم صفرات.
ولكننا ننكر اتّخاذ أمثال هذه الوسائل من إمام عصره، وسيّد أهل البيت زين العابدين، فهو أعرف الناس بالأوضاع السائدة، وأعلمهم بالظروف ومناسباتها.
هذا من جهة، ومن جهة اُخرى أن التاريخ لا يقرّ ذلك، فإنّ وفاة الإمام زين العابدين(عليه السلام)كانت في سنة (95 هـ ) وولاية عمر بن عبد العزيز في سنة (99 هـ ) فكيف يصحّ ذلك؟
ومثل هذه ما ذكره بعضهم: أن علي بن الحسين(عليه السلام) اقترض من مروان بن الحكم أربعة آلاف دينار، فلم يتعرض له أحد من بني مروان حتى استخلف هشام، فقال لعلي بن الحسين: مافعل حقّنا قبلك ؟ فقال(عليه السلام); موفور ومشكور. فقال هشام: هو لك.
وهذا لا يصحّ من جهات أهمّها التاريخ، فإنّ خلافة هشام كانت سنة (105هـ ) كما سيأتي، ووفاة علي بن الحسين كانت سنة (95 هـ ) أي قبل أن يلي الأمر هشام بعشر سنوات(46).
يزيد بن عبد الملك
يزيد بن عبد الملك بن مروان اُمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية، تولّى الحكم بعد عمر بن عبد العزيز سنة (101 هـ ) وبقي إلى أن مات ليلة الجمعة لأربع بقين من شعبان سنة (105 هـ ) فكانت ولايته أربعة أعوام وشهراً واحداً ويومين.
أراد عندما ولي الخلافة أن يسير بسيرة عمر بن عبدالعزيز، فشقّ ذلك على قرناء السوء، وأعوان الظلم ودعاة الباطل، فأتوا إليه بأربعين شيخاً، فشهدوا له أنّه ما على الخلفاء من حساب ولا عذاب(47).
فخدعوه بذلك فانخدع بهم، وكان كلامهم موافقاً لهواه، فانهمك في اللذات واللهو والطرب، ولم يراقب اللّه ولم يخشه(48).
فعادت الاُمور إلى وضعها قبل عمر بن عبد العزيز، وعادت مشكلة الخراج وعزل جميع عمّال عمر، وكتب إلى عمّاله: أما بعد فإنّ عمر بن عبد العزيز كان مغروراً، فدعوا ما كنتم تعرفون من عهده، وأعيدوا الناس إلى طبقتهم الأولى، أخصبوا أم أجدبوا، أحبوّا أم كرهوا، حيوّا أم ماتوا(49).
وقال ابن الأثير: وعمد يزيد بن الوليد إلى كلّ ما صنعه عمر بن عبدالعزيز ممّا لم يوافق هواه فردّه، ولم يخف شناعة عاجلة، ولا إثماً عاجلاً، فمن ذلك: أنّ محمد بن يوسف أخا الحجاج كان على اليمن، فجعل عليهم خراجاً مجدّداً، فلمّا ولي عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله بالاقتصار على العشر، وترك ما جدّده محمد بن يوسف، وقال: لأن يأتيني من اليمن حصة ذرة أحبّ إلي من تقرير هذه الوضعية، فلمّا ولي يزيد بعد عمر أمر بردّها، وقال لعامله: خذها منهم، ولو صاروا حرضاً، والسلام(50).
وكان يزيد صاحب لهو ولذّة، وهو صاحب حبابة وسلامة وهما جاريتان وكان مشغوفاً بهما، وماتت حبابة فمات بعدها بيسير أسفاً عليها، وكان قد تركها أيّاماً لم يدفنها، لعدم استطاعته فراقها، فعوتب على ذلك، فدفنها، ويقال إنّه نبشها بعد الدفن حتى شاهدها(51).
هشام بن عبد الملك
هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم ولي الأمر بعهد من أخيه يزيد بن عبد الملك سنة (105هـ ) لخمس بقين من شعبان، وبقي إلى سنة (125 هـ ) وهي سنة وفاته، وكانت مدّة ملكه تسع عشرة سنة وسبعة أشهر غير أيام، واُمّه بنت هشام بن إسماعيل المخزومي.
كان هشام يعدّ من دهاة بني اُمية، وقرنوه بمعاوية، وعبد الملك، وقد عرف بالغلظة، وخشونة الطبع، وشدّة البخل، وسوء المجالسة، وكان أحول، وهو الرابع من أولاد عبد الملك الذين تولوا الحكم .
وكان شديد البغض للعلويين، حاول الانتقام منهم، وانتقاصهم كلّما أمكنته الفرصة.
حجّ هشام قبل أن يلي الخلافة فطاف في البيت ولم يتمكّن من استلام الحجر من شدّة الزّحام، فنصب له منبر وجلس عليه، وأهل الشام حوله.
وبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن الحسين زين العابدين(عليه السلام) فانفرج الناس له وصاروا سماطين، اجلالاً وهيبة واحتراماً، فعظم على هشام وغاضه ذلك. وقال: من هذا؟ استنقاصاً له. وكان الفرزدق حاضراً فقال: أنا أعرفه.
فقال هشام: من هو؟ فأنشأ الفرزدق قصيدته المشهورة التي يقول في مطلعها:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته *** والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد اللّه كلّهم *** هذا التقيّ النقيّ الطاهر العلم
إلى آخر القصيدة ، فغضب هشام، وأمر بسجن الفرزدق(52).
وحجّ هشام بن عبد الملك في أيام خلافته سنة (106 هـ ) وكان الإمام محمد الباقر(عليه السلام)في المسجد، وقد أحاط به طلاب العلم، وهو في تلك الحلقة يلقي عليهم تعاليم الدين الإسلامي، ويعلّمهم الاحكام والفرائض، فصعب ذلك على هشام، فقال لرجل من جماعته: اذهب إليه واسأله وقل له يقول لك أمير المؤمنين: ما الّذي يأكله الناس ويشربونه في المحشر إلى أن يفصل بينهم يوم القيامة؟ فلما سأله الرجل قال(عليه السلام): قل له، يحشر الناس على مثل قرص النقى،(53) فيها أشجار وأنهار يأكلون ويشربون منهاحتى يفرغوا من الحساب.
وكان هشام يقصد من وراء هذا السؤال أن يظفر بشيء يستطيع به أن يضع من منزلة الإمام في ذلك المجتمع ولو من باب المغالطة، لأنّه حانق عليه، فلما رجع الرسول إليه بما أجابه الإمام ظن هشام أن ظفر بما أراد ونجح بما دبر.
فقال: اللّه أكبر، إذهب إليه فقل له يقول لك: ما أشغلهم عن الأكل والشرب يومئذ؟
فقال أبو جعفر الباقر(عليه السلام): هم في النار أشغل، ولم يشغلوا عن أن قالوا: أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم اللّه. فسكت هشام وعرف فضله.
وهو الذي سيّر الإمام الباقر(عليه السلام)وولده الصادق(عليه السلام) من المدينة إلى الشام، يقصد بذلك اهانتهما والتشفي منهما لما رآه وسمعه عندما حجّ في تلك السنة، وحجّ فيها الإمام محمد الباقر وولده الصادق(عليهما السلام) ، فقال الإمام الصادق في ذلك الملأ: الحمد للّه الذي بعث محمداً بالحقّ نبياً وأكرمنا به، فنحن صفوة الله من خلقه، وخيرته من عباده وخلفائه، فالسعيد من تبعنا، والشقي من عادانا.
فبلغ هشام ذلك، وعظم عليه فلم يتعرّض لهما بشيء، حتى انصرف إلى دمشق، وأمر بإشخاص الإمام وولده الصادق(عليهما السلام) إلى دمشق. قال الإمام الصادق(عليه السلام) فلما وردنا دمشق حجبنا ثلاثاً، ثم أذن لنا في اليوم الرابع إلى آخر ما هو معروف من هذه القصة(54).
هشام وزيد بن علي
ودخل عليه زيد بن علي(عليه السلام) فسلّم عليه بالإمرة، فلم يرد السلام اهانة له، وأغلظ في الكلام ولم يفسح له في المجلس.
فقال زيد: السلام عليك يا أحول، فأنك ترى نفسك أهلاً لهذا الاسم. فغضب هشام، وجرت بينهما محاورة كان نصيب هشام فيها الفشل، وخرج زيد وهو يقول: ما كره قوم حرّ السيوف إلاّ ذلّوا.
وأمر هشام بردّه وقال له : اذكر حوائجك. فقال زيد: أما وأنت ناظر على اُمور المسلمين فلا. وخرج من عنده، وقال: من أحبّ الحياة ذلّ(55).
ومضى زيد إلى الكوفة وبها استشهد في الثالث من صفر سنة (121 هـ ) بعد ثورة آزرته فيها مختلف الطاقات، وجرت حوادث لايتسع المجال لذكرها.
وبعد شهادته ـ (رضي الله عنه) ـ صلب جسده عرياناً منكوساً بأمر من هشام، وبقي الجسد مصلوباً أربع سنين، ونسجت العنكبوت على عورته(56)، وأرسل يوسف بن عمر أمير الكوفة رأس زيد إلى هشام، فصلبه على باب دمشق، ثم أرسله إلى المدينة، فنصب عند قبر الرسول يوماً وليلة، ثم نصب في مؤخر المسجد على رمح، وأمر الوالي باجتماع الناس، فقام خطباء الاُمويين بشتم أهل البيت، وهكذا بقي الرأس سبعة أيام(57).
ثم أمر هشام بإرسال الرأس إلى حنظلة بن صفوان عامله على مصر سنة (122 هـ ) فأمر حنظلة بتعليقه، وأن يطاف به(58).
أمّا الجسد الشريف فقد بقي مصلوباً إلى أيّام الوليد بن يزيد، وقد أقام عليه يوسف بن عمر حرّاساً خوفاً من أن ينزل الجسد فيغسل ويكفن ، وكان الموكل بحراسة الجسد زهير بن معاوية، أحد رجال الصحاح وحملة الحديث.
وكان زهير يحدّث الناس: بأنّه رأى رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) في النوم، وقد وقف على الخشبة وقال: هكذا تصنعون بولدي من بعدي ؟ !! يا بني يا زيد قتلوك، قتلهم اللّه، صلبوك صلبهم اللّه(59).
مقتل زيد بن علي وملابساته
ونودّ أن نوضّح هنا ـ بايجاز ـ نقطة ذات أهمية في الموضوع وهي: إنّ المشهور بأنّ الشيعة اجتمعوا إلى زيد، فسألوه عن أبي بكر وعمر، وما هو رأيه فيهما؟ أو أنّهم سألوه البراءة منهما، فأجابهم بخلاف ما أرادوه من الطعن في الشيخين. فتفرقوا عنه فسمّاهم الرافضة.
وعلى هذا فقد وسم الشيعة باسم الرافضة وأنّهم الذين رفضوا الشيخين أو رفضوا زيداً، إلى غير ذلك مما هو مشهور في هذه القضية.
وعندما نرجع إلى الواقع وندرس الحوادث على ضوء العلم وعدم التحيّز ونتثبّت ـ قدر الامكان ـ من صحة القول، فبدون شكٍّ يبدو لنا عدم صحّته، وربّ مشهور لا أصل له .
وحقيقة الأمر أنّ الشيعة لم يسألوا زيداً عن الشيخين ورأيه فيهما بذلك الموقف الحرج، وإنّما كان ذلك من قبل المندسين في صفوف جيشه، وأنّها كانت حيلة من قبل الوالي يوسف بن عمر ليوقع الفرقة، ويثير غبار الخلاف لأنّ جيش زيد كان يتألّف من عناصر مختلفة الآراء والعقائد، ففيهم الخوارج وفيهم الناقمون على الاُمويين، وفيهم الجواسيس وغير هؤلاء.
قال ابن عساكر: فخرج زيد في أربعة آلاف بالكوفة، فاحتال عليه بعض من كان يهوى هشاماً، فدخلوا عليه وقالوا: ما تقول في أبي بكر وعمر؟
فقال زيد: رحم اللّه أبا بكر وعمر صاحبي رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) ثم قال: أين كنتم قبل اليوم؟!!(60)
وكان الغرض من القاء هذا السؤال في ذلك الموقف الحرج في ساعة حرب وتجمّع، وهياج وتحزّب، هو أحد أمرين وفي كليهما نجاح تلك الخدعة، وتحقيق هدف تلك المؤامرة ، فإمّا أن يتبرأ زيد من الشيخين ويسيء القول فيهما، فيكون حينئذ أقوى سبب لقتل زيد، لأنّه يسيء القول في الشيخين، وتلك وسيلة اتخذها الاُمويون ومن بعدهم للقضاء على خصومهم، وإمّا أن لا يتبرأ فيقولوا كيف لا يتبرأ ممّن ظلمهم حقّهم ؟ وبالفعل قالوا ونجحت هذه المؤامرة، وتفرق أهل الغدر وذوو الاطماع، وكانت هذه الحيلة من الوالي يوسف بن عمر أقوى سلاح لجأ إليه.
يقول الاُستاذ الخربوطلي: ولجأ يوسف بن عمر إلى الحيلة فدسّ لزيد بين أنصاره من يسأله عن رأيه في أبي بكر وعمر.. الخ(61).
كما أنّه أعطى لبعض جواسيسه الأموال ليتعرف على أصحاب زيد(62).
وأنّ الأمر لا يحتاج إلى مزيد من إقامة الشواهد على اهتمام الاُمويين في اتخاذ الوسائل لإفشال ثورة زيد، وأنّ نفسيّات الاكثرية التي انضمّت إليه قد طبعت على الغدر ونقض العهود.
وإنّ قول زيد لمن سأله: أين كنتم قبل هذه؟ ليدلّ بصراحة على ما في الأمر من هدف معيّن وأمر مبيّت.
إنّ الشيعة هم محور تلك الثورة، وليس من الصحيح أن ينسب إليهم اثارة موضوع هم في غنى عنه، وهم لا يجهلون رأي أهل البيت في ذلك الأمر، فما معنى هذا السؤال في ذلك الموقف الحرج؟ كما أنّهم يعرفون الجيش واختلاطه من عناصر مختلفة، فكيف يهبط بهم الشذوذ في التفكير إلى هذا المستوى الذي لايتفق مع عقائدهم ولا يسير مع خططهم الثورية؟ والواقع أنّ الشيعة لم يثيروا هذا الموضوع، لأنّهم لا يجهلون خطره في ذلك الموقف الحرج، وإنما كانت اثارته من الخدع السياسية ، والحيل الاُموية.
ولقد نجحت تلك المؤامرة وتسربت الفرقة بين صفوف الجيش، وتفرّق عن زيد من لم يأت لنصرته عن عقيدة ثابتة، ولم يبق معه إلاّ الخلّص من الشيعة، فدافعوا عنه دفاع الابطال، وثبتوا معه إلى أن قتل ـ رحمة الله عليه ـ ، وقد قتل بين يديه جماعة منهم، وآخرون صحبوا ولده يحيى وقاتلوا معه، ولم ترفض الشيعة زيداً، بل إنّما رفض المعاونة معه انصار الاُمويين وأعوان الظلمة.
وليس باستطاعتنا التفصيل لهذه القضية الآن والاحاطة بها من جميع الوجوه، ليتّضح الأمر كما يرام، وسيأتي ان شاء اللّه مزيد بيان في دراسة هذا الموضوع، والوقوف على الحوادث التي ادّت إلى فشل ثورة زيد بن علي(عليه السلام).
الوليد بن يزيد
هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان، واُمه اُمّ الحجاج بنت محمدبن يوسف أخي الحجاج الثقفي.
ولي الأمر بعد هشام بعهد من يزيد بن عبد الملك، وتربع على دست الحكم يوم الأربعاء لست خلون من شهر ربيع الأول سنة (125 هـ ) . وقيل لعشر خلون من ربيع.
بقي في الحكم إلى أن قتل يوم الخميس لليلتين بقيتا من شهر جمادى الآخرة سنة (126 هـ ) . فكانت ولايته سنة واحدة وشهرين.
قال ابن حزم: وكان الوليد فاسقاً خليعاً ماجناً(63).
وقال ابن فضل اللّه في المسالك: الوليد بن يزيد فرعون ذلك العصر الذاهب، يأتي يوم القيامة فيورد قومه النار، ويرديهم العار، وبئس الورد المورود، رشق المصحف بالسهام، ولم يخش الآثام.
وقال القلقشندي: وكان مصروف الهمة إلى اللهو، والأكل ، والشرب وسماع الغناء...(64)
وقال ابن كثير: كان هذا الرجل مجاهراً بالفواحش، مصرّاً عليها، منتهكاً محارم اللّه ـ عزّ وجلّ ـ لا يتحاشى من معصية، وربّما اتّهمه بعضهم بالزندقة والإنحلال .
ولما ولي هشام أكرم ابن أخيه الوليد، حتى ظهر عليه أمر الشراب، وخلطاء السوء، ومجالس اللهو...
وقال هشام للوليد: ويحك! واللّه ما أدري أعلى دين الإسلام أنت أم لا؟ فإنّك لم تدع شيئاً من المنكرات إلا أثبته، غير متحاش ولا متستر. فكتب إليه الوليد:
يا أيّها السائل عن ديننا *** ديني على دين أبي شاكر
فشربها صرفاً وممزوجةً *** بالسخن أحياناً وبالفاتر(65)
وأبو شاكر هو مسلمة بن هشام بن عبد الملك.
وعلى أيّ حال فإنّ للوليد أعمالاً منكرة، وجرائم لا توصف، وقبائح تشمئز لها النفس، ويقف القلم عند بيانها خجلاً.
وكانت له جرأة عظيمة على انتهاك حرمة الإسلام، فمن ذلك أنّه كان يستهدف بالمصحف ويقول :
تهدّد كلّ جبار عنيد *** فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربّك يوم حشر *** فقل ياربّ خرقني الوليد(66)
وهو الذي كتب إلى عامله على الكوفة يوسف بن عمر: خذ عجل أهل العراق فأنزله جذعة (يعني زيد بن علي(عليه السلام)) وأحرقه بالنار ثم انسفه باليمّ. فأمر يوسف به فأحرقه ثم رضه وحمله في سفينة ، ثمّ ذراه في الفرات(67).
وقد وردت في الوليد أحاديث بأنّه فرعون هذه الاُمة منها: ما أخرجه الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب أنّه ولد لأخي اُم سلمة غلام فسمّوه الوليد، فقال النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم): «سميتوه باسم فراعينكم، ليكونن في هذه الاُمة رجل يقال له الوليد، لهو أشدّ فساداً لهذه الاُمة من فرعون لقومه»(68) وفي لفظ لهو أضرّ على اُمتي(69).
وأخرج البيهقي عن زينب بنت اُمّ سلمة عن اُمّها قالت: دخل النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)وعندي غلام من آل المغيرة اسمه الوليد، فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): من هذا يا اُم سلمة؟ قالت: هذا الوليد. فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «قد اتخذتم الوليد حناناً; غيّروا اسمه; فإنّه سيكون في هذه الاُمة فرعون يقال له الوليد»(70).
وعندما ولي كان يكتب إلى الناس:
ضمنت لكم إن لم تعقني منيتي *** بأنّ سماء الضرّ عنكم ستقلع(71)
ولما عمّ ظلمه وجوره وفسقه واستهتاره، قال فيه الشاعر العربي حمزة بن بيض:
وصلت سماء الضر بالضر بعدما *** زعمت سماء الضر عنا ستقلع
فليت هشاماً كان حيّاً يسومنا *** وكنّا كما كنّا نرجي ونطمع
وقال أيضاً:
يا وليد الخنا تركت الطريقا *** واضحاً وارتكبت فجّاً عميقاً
وتماديت واعتديت وأسرفـ *** ـت وأغويت وانبعثت فسوقاً
أنت سكران ما تفيق فماتر *** تق فتقاً وقد فتقت الفتوقا(72)
وكتب إليه عامله على خراسان: بتردّي الأوضاع، وحدوث ثورات فأجابه: إنّي مشغول بالعريض ومعبد وابن أبي عائشة. وهم المغنون الذين أحضرهم عنده(73).
واشتدّت النقمة على الوليد، وثار الناس عليه بقيادة ابن عمّه يزيد بن الوليد، وقال له يزيد بن عنبسة: ماننقم عليك في أنفسنا، لكن ننقم عليك انتهاك حرم اللّه، وشرب الخمر، ونكاح اُمهات أولاد أبيك، واستخفافك بأمر اللّه(74).
وقتل يوم الخميس لليلتين من جمادى الآخرة سنة (126 هـ ) وحمل رأسه إلى يزيد بن الوليد، فأمر أن يطاف به في البلد.
مقتل يحيى بن زيد
وفي أيّامه قتل يحيى بن زيد بن علي بن الحسين(عليه السلام) ، وذلك أنّه خرج من الكوفة بعد مقتل أبيه زيد وتوجّه إلى خراسان، فسار إلى الري، ومنها أتى سرخس، ثم خرج ونزل في بلخ على الحريش بن عبد الرحمن الشيباني، ولم يزل عنده حتى هلك هشام وولي الوليد(75).
وكتب يوسف بن عمرو إلى نصر بن سيار يخبره بأمر يحيى، وأنّه في منزل الحريش ، فطالبه نصر بيحيى، فقال له الحريش: لا علم لي به، فأمر به فضرب ستمائة سوط.
فقال الحريش: واللّه لو أنّه تحت قدمي مارفعتهما عنه(76)، ثم وقعت بعد ذلك حوادث يطول ذكرها، وقامت الحرب بين يحيى وبين نصر، وأرسل نصر ليحيى جيشاً عدده عشرة آلاف فارس، وكان يحيى في سبعين رجل فهزمهم يحيى وقتل قائد الجيش عمر بن زرارة.
فارسل نصر جيشاً آخر في طلب يحيى، فادركوه بالجوزجان، ووقع القتال بينهم وبين يحيى، وأصاب يحيى سهم في جبهته فقتل وقتل أصحابه عن آخرهم، وأخذوا رأس يحيى وسلبوه قميصه(77).
كانت شهادة يحيى يوم الجمعة وقت العصر سنة (125 هـ ) وبعث رأسه إلى الوليد بن يزيد، فبعثه إلى المدينة; وجيء به إلى اُمّه ريطة بنت أبي هاشم بن محمد بن الحنفية فقالت: شردتموه عني طويلاً، وأهديتموه إليّ قتيلاً، صلوات اللّه عليه، وعلى آبائه بكرة وأصيلا(78).
أمّا جسده الشريف فصلب بالجوزجان، ولم يزل مصلوباً حتى ظهر أبو مسلم الخراساني، واستولى على خراسان، فانزله وصلى عليه ودفنه، وأمر بالنياحة عليه(79).
يزيد الناقص
يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان واُمه شاهفريد بنت فيروز بن يزدجرد ملك الفرس.
ولي الأمر بعد قتل الوليد سنة (126هـ ) ، وبقي إلى أن مات يوم الأحد في ذي الحجة من السنة المذكورة، ومدة حكمه خمسة أشهر وليلتين.
وإنّما سمّي بالناقص، لأنّه نقص الزيادة التي كان الوليد زادها في عطيات الناس وهي عشرة عشرة، وردّ العطاء إلى ما كان أيام هشام.
وفي أيامه اضطرب حبل الدولة أشدّ مما كان عليه من قبل، ووقع خلاف بين ولاة الامصار، وثار أهل حمص، ووثب أهل فلسطين، ووقع الحرب بين أهل اليمامة وعاملهم، إلى غير ذلك من الاُمور، ومات يزيد ولم يعهد لأحد من بعده.
وكان مولاه قطن وهو الموكّل بخاتم الخلافة قد افتعل عهداً على لسان يزيد ابن الوليد لإبراهيم بن الوليد، ودعا اُناساً فشهدوا عليه زوراً(80).
إبراهيم بن الوليد
هو إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن مروان، واُمه اُمّ ولد اسمها نعمة، ولي الأمر بعد أخيه يزيد بعهد منه زوره الموكل بالخاتم وهو مولاهم قطن كما تقدم. وذلك في ذي الحجة سنة (126 هـ ) ولم يتمّ له الأمر لكثرة الثورات واختلاف الكلمة، وسقوط هيبة الدولة، وكان اتباعه يسلمون عليه تارة بالخلافة وتارة بالامارة، وكانت مدة ولايته ثلاثة أشهر، وقيل شهرين وأيّاماً. وقد خلع نفسه وسلم الأمر لمروان الآتي ذكره، وذلك في صفر سنة (127 هـ). وقيل إنّ مروان قتله بعد أن ظفر به وصلبه وقتل جميع أصحابه، وقيل غرق في الزاب، أو أنه قتل فيه(81).
مروان بن محمد
مروان بن محمد بن مروان بن الحكم، واُمه اُم ولد من الاكراد اسمها لبابة، ولي الحكم في صفر سنة (127 هـ ) إلى ان قتل ببوصير من أرض مصر لثلاث عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر سنة (132 هـ ) . وبه انتهى الحكم الاُموي وانتقل الأمر إلى بني العباس .
وتفرّق الاُمويون في البلاد، وكانوا طعمة للسيف وزالت دولتهم بعد أن حكمت البلاد احدى وتسعين سنة، وتسعة أشهر.
وقامت على انقاضها الدولة العباسية، بعد حروب طاحنة دامت مدة من الزمن، وكانت دعوة بني العباس إلى أهل البيت(عليهم السلام).
وأوّل من ولي الحكم منهم هو: أبو العباس السفاح عبد اللّه بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس، بويع في ربيع الآخر سنة (132 هـ ) ومات في ذي الحجة سنة (136هـ ).
وقام من بعده أخوه أبو جعفر المنصور واسمه عبد اللّه بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس .
بويع إذ مات أخوه السفاح، وبقي والياً إلى أن مات سنة (158 هـ ) في ذي الحجة، وفي عهده استشهد الإمام الصادق(عليه السلام) بالسمّ دسّه إليه المنصور سنة (148 هـ ) في الخامس والعشرين من شهر شوال، ودفن بالبقيع مع أبيه وجدّه والحسن السبط صلوات اللّه عليهم أجمعين .
وقد تجرّع من المنصور كؤوس الأذى والمحن، وتحمّل في سبيل أداء رسالته أنواع الآلام كما تقدم.
ولاة المدينة في العهد الاُموي
أما ولاة المدينة المنورة فنحن نتعرّض لمن وليها في العهدين: الاُموي والعباسي في حياة الإمام الصادق(عليه السلام) بإيجاز، لتقف على بعض الحوادث التي شاهدها الإمام الصادق(عليه السلام)، وتجرّع مرارة ذلك الظلم الذي لقيته الاُمة وتحمّله رجالها الأبرار.
وقد تعاقب على المدينة ولاة جاروا في الحكم، واستهانوا بحرمة هذا البلد، ومنهم الحجاج بن يوسف فقد ولي المدينة بعد قتل ابن الزبير سنة (74 هـ ) وأقام فيها ثلاثة أشهر وتغيّب عنه أهلها، وقد استهان بصحابة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)وختم أيديهم وأعناقهم بالرصاص ليذلّهم ، ثم عزله عبد الملك سنة (75 هـ ) وولاّه العراق وأمر على المدينة أبان بن عثمان بن عفان، ثم عزله عبد الملك سنة (82 هـ ) وولى هشام بن إسماعيل المخزومي.
ونحن لا نريد أن نتعرّض بالحديث عن الولاة الذين سبقوا عهد الإمام الصادق(عليه السلام)وأيام حياته، بل يختصّ بحثنا بمن ولي المدينة في أيامه عليه السلام وهم:
هشام بن إسماعيل
هشام بن إسماعيل بن الوليد المخزومي المتوفى سنة (88 هـ ) ولاّه عبد الملك بن مروان إمرة المدينة المنورة سنة (82 هـ )، وكان ظالماً في حكمه مبغضاً لآل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان يؤذي علي بن الحسين(عليه السلام) وأهل بيته، ويخطب على المنبر وينال من علي بن أبي طالب(عليه السلام).
ولما أراد عبد الملك أن يبايع لولده الوليد، ثم من بعده لسليمان بن عبد الملك امتنع سعيد بن المسيب أن يبايع، فأمر به هشام فضربه ستين سوطاً وألبسه ثياباً من شعر، وأركبه جملاً وطاف به في المدينة، وذلك في سنة (85 هـ ).
ولمّا بلغ عبد الملك ذلك لام هشاماً وكتب له: أنا لنعلم أنّ سعيداً ليس عنده شقاق. وقال: ما ينبغي له إلاّ أن يبايع، وان لم يبايع ضربت عنقه أو خليت سبيله(82).
وكانت ولاية هشام على المدينة أربع سنوات وقد أساء فيها لأهل المدينة وجار في حكمه.
وفي سنة (87 هـ ) عزله الوليد بن عبد الملك وولى مكانه عمر بن عبد العزيز وأمره بأن يوقف هشام بن إسماعيل للناس عند دار مروان، لأنّه أساء إلى أهل المدينة مدة ولايته(83).
ولمّا أوقفوه للناس قال: ما أخاف إلاّ من عليّ بن الحسين، لأنّه أساء معه أكثر من غيره، ولكنّ الإمام علي بن الحسين(عليه السلام) أمر مواليه وخاصّته بأن لايتعرّضوا له بكلمة واحدة، ولمّا مرّ به عليّ بن الحسين(عليه السلام) ناداه هشام: اللّه أعلم حيث يجعل رسالته(84).
عمر بن عبد العزيز
تقدّمت ترجمته وطرف من سيرته، وكان محباً لأهل البيت، وهو الذي ردّ عليهم فدكاً ومنع سبّ علي(عليه السلام)بعد أن اتّخذته الدولة الاُموية شعاراً لها، وقد تقدّم بيان ذلك.
وكان الإمام الباقر(عليه السلام) يوصي عمر بن عبد العزيز بالعدل، فمن وصيّته له: «أوصيك أن تتّخذ صغير المسلمين ولداً، وأوسطهم أخاً، وأكبرهم أباً، فارحم ولدك وصل أخاك، وبر والدك، فإذا صنعت معروفاً فربه» . بمعنى
أدمه ولا تقطعه(85).
وقد روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)، إنّه قال: كان العبد الصالح أبو حفص يأتي إلينا الدراهم والدنانير في رقاق من العسل خوفاً من أهل بيته.
ولي إمرة المدينة في سنة (87 هـ ) وبقي والياً إلى سنة (93 هـ ) وفيها عزله الوليد عن المدينة، لأنّ عمر بن عبد العزيز كتب إلى الوليد بعسف الحجاج وظلمه، واستبداده وجوره في حكمه، واعتدائه على الناس بغير حقّ ولا جناية.
فبلغ الحجاج ذلك وكتب إلى الوليد: إنّ من قبلي من مراق العراق وأهل الشقاق لجأوا إلى المدينة ومكّة وإنّ ذلك وهن.
فاستشاره الوليد عمّن يوليه المدينة فاشار الحجاج عليه بعثمان بن حيان وخالد بن عبد اللّه القسرى، فولى خالداً مكّة وعثمان المدينة، وعزل عمر بن عبد العزيز.
وفي سنة (88 هـ ) شرع عمر بن عبد العزيز ببناء مسجد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وتوسعته بأمر الوليد.
سبب عمارته لمسجد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)
وكان السبب الذي من أجله قام الوليد بعمارة المساجد، وتوسعة مسجد الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)هو: أنّه خرج حاجّاً فمر بمسجد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فدخله ، فرأى بيتاً ظاعناً في المسجد، شارعاً بابه، فقال: ما بال هذ البيت؟ فقيل: هذا بيت عليّ ابن أبي طالب(عليه السلام)، اقره رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، وردم سائر أبواب أصحابه.
فقال الوليد: إنّ رجلاً نلعنه على منابرنا في كلّ جمعة، ثم نقرّ بابه ظاعناً في مسجد رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، اهدم ياغلام.
فقيل له: لا تفعل يا أمير المؤمنين، حتى تقدم الشام، ثم تخرج امرك بتوسيع مساجد الامصار، مثل مكّة والمدينة وبيت المقدس، وتبني بدمشق مسجداً فيدخل بيت علي(عليه السلام)فيما يوسع من مسجد المدينة، فقبل ذلك(86).
ولم يهدم الوليد دار عثمان بن عفان ،فلمّا تولى بنو العباس أراد الحسن بن زيد أن يوسّع المسجد ليهدم دار عثمان، كما هدم الوليد دار علي(عليه السلام)، فكتب إلى أبي جعفر المنصور: يصف له ناحية موضع الجنائز. ويقول: إنّ زيداً في المسجد من الناحية الشرقية توسّط قبر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في المسجد.
فكتب إليه أبو جعفر: إنّي قد عرفت الذي أردت، فاكفف عن ذكر دار الشيخ عثمان بن عفان(87).
وكان اهتمام الوليد في توسعة المسجد شديداً، وأمر عامله عمر بن عبد العزيز بشراء ماحوله من الدور، ومن أبى هدمت عليه داره(88).
وشقّ على أهل المدينة ذلك، وأرادوا ترك حجر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على حالها لينظر إليها الحجاج والزوار، والمسافرون، ويكون ذلك ادعى لهم إلى الزهد في الدنيا، فلا يعمرون فيها إلاّ بقدر الحاجة، ويعرفون أنّ هذا البنيان العالي إنّما هو من أفعال الفراعنة والاكاسرة. فكتب عمر بن عبد العزيز إلى الوليد بما أجمع عليه الفقهاء العشرة من عدم الرضا بالهدم. فارسل إليه الوليد يأمره بالخراب وبناء المسجد، ولما شرعوا في الهدم صاح الأشراف ووجوه الناس من بني هاشم وغيرهم، وبكوا مثل يوم مات فيه النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)(89).
ويظهر أنّه لم يجسر أحد من عمال المدينة على الهدم، ولذلك اضطرّ الوليد إلى جلب عمّال من بلاد الروم، وكانوا أربعين من الروم وأربعين من القبط(90).
عثمان بن حيان
عثمان بن حيان المري مولى اُمّ الدرداء أو مولى عتبة بن أبي سفيان.
كان ظالماً متعسفاً، وأوّل عمل أجراه في المدينة أنه أرسل على جماعة من العلماء كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، منهم محمد بن المنكدر أحد العلماء الثقات، ومن تلامذة الإمام الباقر(عليه السلام) فضربهم، ونكّل بهم لما كان من كلامهم ، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر. كما حدّث بذلك مالك بن أنس(91).
ونفى العراقيين من المدينة، وحذّر كلّ من آواهم، لأنّهم كانوا يستجيرون بالحرم النبويّ من الحجاج وجوره، فكان يتتبعهم ويرجعهم إلى الحجاج مقيدين بالحديد، ولم يترك أحداً لا تاجراً ولا غير تاجر.
وخطب على المنبر فقال: أيّها الناس إنّا وجدناكم أهل غشّ لأمير المؤمنين في قديم الدهر وحديثه.
ثم ذكر العراقيين ووصفهم بالشقاق والغدر. ثم قال: واللّه ماجرّبت عراقياً قط إلاّ وجدت أفضلهم عند نفسه الذي يقول في آل أبي طالب ما يقول وما هم لهم بشيعة... واللّه أنّي لا أوتى بأحد آوى أحداً منهم أو أكراه منزلاً، إلاّ هدمت منزله وأنزلت به ماهو أهله(92).
أبو بكر بن محمد
أبو بكر بن محمد بن عمر بن حزم المتوفى سنة (121هـ ) كان من العلماء ومن رجال الصحاح، وتولّى قضاء المدينة، ثم ولي إمرتها بعد عثمان بن حيان المري.
وكان عثمان قد عزم على التنكيل بأبي بكر وأن يحلق رأسه ولحيته، ولكن عاجله أمر سليمان بتولية أبي بكر وعزله، وتقييده بالحديد، وذلك في سنة (96 هـ ).
أقام أبو بكر بولاية المدينة من سنة (96 هـ ) إلى سنة (101 هـ ) فعزله يزيد وولى مكانة عبد الرحمن بن الضحاك الفهري، واشتدّ على أبي بكر وعذّبه بما يطول ذكره(93).
عبد الرحمن بن الضحاك
عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري. تولى إمرة المدينة سنة (101 هـ ) ولاّه يزيد بن عبد الملك بعد أبي بكر بن حزم، ثم عزله سنة (104 هـ ) وولّى مكانه عبد الواحد بن عبد اللّه بن بشر النضري، وأمره أن يعذّب عبد الرحمن، وأن يضربه بالسياط، وأن يغرمه ألف دينار، ففعل به عبد الواحد ما أمره يزيد، وسلب ماله حتى أصبح لا يملك إلاّ جبّة صوف ، وهو يسأل الناس، لسوء حاله وشدّة حاجته.
وكان عبد الرحمن هذا سيء السيرة، عامل الناس بالظلم والتعسف وعادى الأنصار، وضرب أبا بكر بن حزم ظلماً وعدواناً، فكرهه الناس وهجاه الشعراء(94).
عبد الواحد النضري
عبد الواحد بن عبد اللّه بن بسر النضري، نسبة لجدّه النضر بن معاوية. ولى إمرة المدينة ومكّة والطائف في سنة (104 هـ ) من قبل يزيد بن عبدالملك إلى أن عزله هشام بن عبد الملك سنة (106 هـ ) وولى مكانه إبراهيم المخزومي، وكان مرضي السيرة عند أهل المدينة، ولا يفعل أمراً إلا بعد استشارة القاسم بن محمد بن أبي بكر(95).
إبراهيم بن هشام
إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي هو خال هشام بن عبد الملك. ولي المدينة سنة (106 هـ ) وضمّ إليه الطائف ومكّة، وبقي والياً إلى سنة (114 هـ ) .
وحجّ بالناس سنة (100 هـ ) وخطب بمنى يوم النحر بعد الظهر،
فقال: سلوني أنا ابن الوحيد، لا تسألون أحداً أعلم مني، فقام إليه
رجل من أهل العراق، فسأله عن الاضحية أواجبة هي أم لا؟ فما درى
أيّ شيء يقول(96).
خالد بن عبد الملك
خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص. ولي إمرة المدينة سنة (114هـ ) بعد عزل إبراهيم بن هشام، وبقي والياً عليها إلى سنة (118 هـ ) وولي مكانه محمد بن هشام بن إسماعيل أخو إبراهيم الوالي السابق.
وكان خالد يحمل على علي(عليه السلام) ويتكلّم على منبر رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)بانتقاصه، فقام إليه داود بن قيس فبرك على ركبتيه، وقال له: كذبت كذبت حتى خفضه الناس(97).
محمد بن هشام
محمد بن هشام بن إسماعيل المخزومي، خال هشام بن الحكم. ولي سنة (118هـ ) وبقي والياً عليها إلى سنة (125 هـ ) وعزله الوليد الفاسق، وولّى مكانه يوسف بن محمد بن يوسف الثقفي، وهو خال الوليد. وأضاف إليه مكّة والطائف.
وغضب الوليد على إبراهيم ومحمد ابني إسماعيل المخزومي، وهما من اُمراء المدينة السالفين، فسجنهما ودفعهما إلى يوسف بن محمد موثّقين في عباءتين، فقدم بهما المدينة في شهر شعبان (125هـ ) وأقامهما للناس ثم بعث بهما إلى يوسف بن عمر عامل العراق، فعذّبهما عذاباً شديداً حتى ماتا تحت العذاب(98).
يوسف الثقفي
يوسف بن محمد بن يوسف الثقفي ابن أخي الحجاج وخال الوليد. ولي المدينة سنة (125 هـ ) ولاّه ابن اُخته الوليد الفاسق، وضمّ إليه جميع الحجاز، وأقرّه يزيد بن الوليد، وبقي والياً إلى سنة (126 هـ ) وعزله وولى مكانه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وبقي والياً إلى سنة (129 هـ ) ثم عزله مروان الحمار، وولّى مكانه عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك بن مروان، وهو آخر ولاة الاُمويين على المدينة والحجاز.
وفي عهده دخل المدينة أبو حمزة الخارجي في صفر سنة (130 هـ ) بعد وقعة قديد، وقد قتل فيها من أهل المدينة خلق كثير. وقامت النياحة في بيوت أهل المدينة.
ودخل أبو حمزة الخارجي مدينة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وهرب عبد الواحد بن سليمان إلى الشام وأقام أبو حمزة الخارجي في المدينة ثلاثة أشهر، ثم خرج لقتال مروان الحمار، فلقيهم عبد الملك بن محمد بن عطية السعدي في جيش فأوقعوا بأصحاب أبي حمزة، وانهزم جيشه، وعادوا إلى المدينة منهزمين، فلقيهم أهل المدينة فقتلوهم ودخل المدينة عبد الملك بن محمد بن عطية منتصراً وأقام شهراً، ثم مضى إلى مكّة واستخلف على المدينة ابن أخيه الوليد بن عروة بن محمد بن عطية(99).
ولاة المدينة في العهد العباسي
أمّا اُمراء المدينة في العهد العباسي، فعندما ولي أبو العباس السفاح عزل عن المدينة يوسف بن محمد بن يوسف الثقفي أمير المدينة من قبل الاُمويين، وولّى عمّه داود بن علي بن عبد اللّه بن العباس، وذلك في سنة (132 هـ ) وضمّ إليه مكّة، واليمن، واليمامة.
ولمّا دخل المدينة هدّد الناس وتوعّدهم، وقال في خطبته: أيّها الناس أغرّكم الامهال حتى حسبتموه الإهمال، هيهات منكم وكيف بكم، والسوط كفى، والسيف مشهر.
حتى يبيد قبيلة فقبيلة *** ويعضّ كلّ مثقّف بالهام
ويقمن ربّات الخدور حواسراً *** يمسحن عرض ذوائب الأيتام
ولكنّ اللّه لم يمهله وعجّل عليه، فلم تطل أيامه ومات في شهر ربيع الأوّل سنة (133 هـ ) وكانت مدة ولايته أقلّ من ثلاثة أشهر.
ولما دنت وفاته استخلف ولده موسى، وولّى السفاح مكانه زياد بن عبيد اللّه بن عبد المدان الحارثي، وهو خال السفاح، وبقي إلى أيام المنصور، وعزله في سنة (141هـ ) وغضب عليه وحمله إلى الكوفة مكبّلاً بالحديد.
وولّى مكانه محمد بن خالد بن عبد اللّه القسري ثمّ عزله في سنة (144هـ )، وولّى مكانه رياح بن عثمان بن حيان المري، وبقي إلى سنة (145هـ ) وفي عهده ثار محمد بن عبد اللّه بن الحسن في المدينة، وقبض على رياح وأخيه إبراهيم وأودعهما السجن، ودخل رجل من ولد مصعب بن الزبير عليهما في السجن عندما اشتد القتال بين محمد بن عبد اللّه وبين جيش المنصور فذبحهما، ورجع إلى محمد وقاتل معه حتى قتل.
ثم ولي إمرة المدينة ـ بعد قتل محمد ـ عبد اللّه بن الربيع الحارثي وذلك في سنة (145هـ ) وبقي والياً إلى سنة (147هـ )، ثم عزله المنصور(100).
وولي جعفر بن سليمان بن علي بن عبد اللّه بن العباس وبقي والياً من قبل المنصور إلى سنة (149 هـ ) .
وفي أيامه مات أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام) وذلك في سنة (148 هـ ) مسموماً.
هذا موجز من البيان عن ولاة إمرة المدينة في العهد العباسي، وقد شهدت المدينة المنورة في عهد رياح بن عثمان المري ـ الذي ولاّه المنصور إمرة المدينة ـ اُولئك الجند القساة يهجمون على منازل آل الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، ويخرجون الرجال منها فيزجّ بهم في السجون، ويعذبون فيها بدون رحمة، ولا خشية من عقاب.
ولعلّ من أعظم تلك المشاهد وقعاً، وأشدّها ألماً، مرور موكب آل الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) من شيوخ وشبان في شوارع المدينة، وهم مكبّلون في الحديد، وقد غيّر ألم العذاب نضارة تلك الوجوه يحوط بهم جند المنصور، وهم يسيرون إلى الكوفة حتى اودعوا في سجنه المظلم فكان به خاتمة مطافهم، وهو بيت ضيّق لا يتمكن أحدهم من مقعده، يبول بعضهم على بعض ويتغوط، لا يدخل عليهم روح الهواء ولا يخرج عنهم رائحة القذر حتى ماتو عن آخرهم(101).
وفي خضم هذه الأحداث كان الإمام الصادق يعيش معتركاً حاداً تختلط فيه المشاعر بالمسؤوليات الجسام، وليس أشقّ على نفسه الكريمة الطاهرة من ذاك المنظر وهو يرى برباطة جأش ماذا سينجم عن هذه الجولة التي كان وقوعها أمراً مقدراً لم يدخل في دائرة الاحتمالات على المدى الذي كان يلوح في الاُفق . يروي الحسين بن زيد: اني لواقف بين القبر والمنبر، إذ رأيت بني الحسن يخرج بهم من دار مروان مع أبي الأزهر يراد بهم الربذة، فأرسل إليّ جعفر بن محمد فقال: ما وراءك؟ قلت: رأيت بني الحسن يخرج بهم في محافل، فقال: اجلس، فجلست، قال: فدعا غلاماً له، ثم دعا ربّه كثيراً، ثم قال لغلامه: اذهب، فإذا حُملوا فأتِ فأخبرني. قال: فأتاه الرسول، فقال: قد أقبل بهم. فقام جعفر، فوقف وراء ستر شعر أبيض من ورائه. فطلع بعبدالله بن الحسن وإبراهيم بن الحسن وجميع أهلهم، كلّ واحد منهم معادله مسوّد، فلما نظر إليهم جعفر بن محمد هملت عيناه حتى جرت دموعه على لحيته، ثم أقبل عليّ فقال: يا أبا عبدالله، والله لا تحفظ لله حرمة بعد هذا، والله ما وفت الأنصار ولا أبناء الأنصار لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بما أعطوه من البيعة على العقبة(102).
وبعد أن عرفنا أهمّ الحوادث التي جرت في عهد الإمام الصادق(عليه السلام)، سواء أكانت في عهد جدّه زين العابدين(عليه السلام)، أم في عهد أبيه الإمام الباقر(صلى الله عليه وآله وسلم)، أو في عهده بالذات; فإنّه يتّضح لنا مدى تحمّله للمتاعب ومواجهته للآلام التي ماجت بها تلك العهود.
كما تتّضح لنا الظروف التي أحاطت به والمشاكل التي كان يواجهها، وقد شاهد تلك الأحداث التي واجهها العالم الإسلامي وتخطى معه تلك المراحل العصيبة يوم أصبح الحقّ لايعمل به، والباطل لا يتناهى عنه.
وكانت الأهواء هي الحاكمة، والاحقاد هي المسيطرة، وقد رضخ المسلمون لحكم اُناس ابتعدوا عن القرآن، وتركوا العمل بسنة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، فأصبحت الاُمة الإسلامية يثقل كاهلها اطماع اُولئك الحكام ويرهقها جورهم.
وفي عهد الإمام الصادق(عليه السلام) كانت البلاد الإسلامية مشحونة بالخلافات والمشاحنات، وحدثت ثورات دموية وحروب طاحنة، أدّت إلى استغلال الوضع من قبل اُناس لا يهمّهم إراقة الدماء في تحقيق مآربهم الشخصية.
وقد تولى الإمام الصادق(عليه السلام) أعباء الإمامة ومسؤولية أداء رسالة الإسلام وهداية الاُمة بعد أبيه الباقر(عليه السلام)، وقد لمعت شخصيته، وظهرت قابلياته، فتوالت عليه الطلبات لقيادة تلك الثورات التي قامت بوجه الطغيان، واتجهت إليه الأنظار، للاحتجاج على ذلك الحكم الظالم، وكانت الدعوة باسم أهل البيت(عليهم السلام)، لأنّهم زعماء هذه الاُمةوأملها المنشود.
وكان الإمام الصادق(عليه السلام) قد اختطّ لنفسه طريق الدعوة الصامتة والثورة الإصلاحية، بعد أن عرف بثاقب بصره وخبرته ـ وهو ينظر إلى تلك الحوادث ـ أنّ هذه الثورات لا تؤدي إلى الغاية التي ينشدها، ولا تحقق الهدف، بل في ذلك مزيد من التضحيات التي لا يتورّع بنو اُمية في مقابلتها عن سفك الدماء، وكفى اُمة محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) ما اُريق من دماء، وكفى أهل البيت وشيعتهم ما اُزهق من أرواح.
وكان يعلم عواقب تلك الخلافات، ويتحسس حاجة المجتمع الإسلامي الى التوجيه الصحيح، والدعوة إلى الالتزام بمبادئ الإسلام وتعاليمه، ليحقّق بذلك التكافل الاجتماعي، والتآزر العام. فقد بذر الحكام بين الصفوف بذور الفرقة وجعلوا جسم المجتمع مغرساً للأهواء والأباطيل، وللسلطة مفعولها لشدّ النفوس إليها، وأحاطت أهل البيت بستار من الريبة والخوف ليمنعوهم من التأثير في الاُمة.
فقام(عليه السلام) بمهمّة التوجيه، ليخلق الوعي بين الصفوف، وليحقّق التكاتف والتآخي، وليقضي على بقايا رواسب جاهلية عملت على احيائها طغمة حاكمة، لتحقق لنفسها مغانم تسند بها سلطانها الجائر، وحكمها الظالم، وقد شهد طغيان المؤثرات القبلية والسياسية وغيرها.
إنّ الدعوة التي قام بها الإمام الصادق(عليه السلام)، إنّما هي ثورة إصلاحية وحملة توجيه عامة، ليوجد من تلك الجموع الثائرة اُمة ذات وعي تحسب للظروف حسابها، وتنظر الوقت المناسب لقيام الثورة المتكفّلة لتحقيق غايتها وتحقيق هدفها في إعادة الخلافة الإسلامية، وتطبيق نظام الإسلام الذي يكفل للبشر سعادتهم.
والإمام الصادق(عليه السلام) وسط ذلك المعترك هو الموجه القائد الذي اجتمعت في شخصيّته جميع مؤهلات القيادة العامة، وقد واجه تلك الحوادث بحزم وثبات.
وقد ردّ(عليه السلام) طلب من الحّ عليه في تزعم الحركة الثورية التي نشبت في أيّامه بين انصار العلويين وبين الاُمويين، وكانت الدعوة باسم أهل البيت(عليهم السلام) ، وهو زعيمهم وسيّدهم في عصره.
ولكنّه كان يرى أنّ اصلاح الوضع بالتوجيه الصحيح وتفهيم الناس ضرورة الوقوف تجاه الخصوم موقف تحسس بما تؤول إليه الحالة من التسرع في إثارة الحرب، وأنّ ذلك لايجدي نفعاً لوجود ذوي الأطماع الذين لا يقلّ ضررهم على الاُمة الإسلامية من ضرر الاُمويين، وبهذا يكون حلّ المشكلة بمشكلة أعظم منها.
واتخاذ مثل هذا الموقف الذي اتخذه الإمام لنفسه، ومن ورائه ذوو البصيرة من أعيان الاُمّة ليدلّ على عمق التفكير وحصافة الرأي من ناحية عملية، ومن الناحية العقيدية، فهو صاحب ولاية وعهد تضمنتهما الإمامة التي آلت إليه بعد وفاة أبيه الإمام الباقر(عليه السلام) ، وهي في سياق الدعوة متصلة بمصادر الرسالة متعلقة بمصير الدين. فإنّ الاُمة شهدت على يد الملوك الذين تلبّسوا بالدين انحرافاً في مسيرة السياسة وارتداداً في الغايات والأهداف، ولا يحظى تطبيق نظام الإسلام في ظلّ خلافة الملوك بمعشار ما تحظى به مصالح الحكام ومآربهم الشخصية وهم لا يتورعون بحال عن استثارة ما منع من الإسلام، أو إحياء ما عمل على هدمه النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) .
وقد أصبح لسلاطين الزمان قوة وصولة حتى انعدمت حالات التكافؤ، ومع ما هم عليه من الشوكة والنفوذ لم يتمكنوا من إخماد صوت الحق، أو منع المؤمنين من العمل بالعقيدة الحقّة، وقد تصدّى أهل البيت للحفاظ على روح التحدّي في نفوس المؤمنين بشجاعة وبطولة، إذ نذروا أنفسهم لدعوة الحقّ وقيادة تيّار الالتزام والاتجاه الديني.
فعمل الإمام الصادق بعد وفاة أبيه على جمع شيعته ومريديه على قواعد المنهج والسلوك المعروفين منذ عهد جدّه الإمام زين العابدين(عليه السلام) .
لقد وقف الإمام الصادق(عليه السلام) موقف المصلح الذي يحاول أن يعيد للاُمة مجدها في تعميق مبادئ الإسلام الصحيحة، ونشر الوعي الإسلامي بما يجب على كلّ مسلم أن يقوم به في إصلاح الوضع، في عصر انتشر به الفساد ومني المجتمع فيه بضروب المحن والابتلاء، وهو(عليه السلام) بدون شكّ يحمل من الأذى أضعاف ماتتحمله أفراد الاُمة، لأنّه المصلح الذي يريد للمجتمع السعادة المفقودة في عهد ولاة لا تحترم حقوق الاُمة المشروعة، وتتحدى نظامها المقدس، إذ استبدوا بالأمر وظلموا الاُمة، واستأثروا بالمغانم، وخالفوا الكتاب والسُنّة في سبيل غاياتهم، وخلقوا مشكلات الخلاف والتعصّب ليفرّقوا الكلمة، ويشتتوا الشمل ويشغلوا الافكار، ممّا أثر على سير المسلمين وتقدّمهم من الجهة الروحية التي هي قوام دينهم، وذلك خلاف ماقرره الإسلام، لأنّه يدعو إلى كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة.
والإمام يرى أنّ واجبه يحتّم عليه نشر دعوة الاصلاح، وتوجيه المجتمع وبثّ تعاليم الدين، وأن يعلن غضبه على ذلك النظام الجائر بصفته إمام زمانه، ولكنّه ماذا يصنع وهو الرجل المغلوب على أمره، والمغضوب منه حقّه؟ ومع ذلك فإنّه لم يألُ جهداً في معارضتهم، ونهى الناس عن مخالطتهم والتولّي لأعمالهم، وقد أوجب على الأفراد عدم التعاون مع ولاة الأمر، وحرم عليه العمل لهم، وحذر وأوعد من عاونهم بالعذاب، لأنّه كبيرة من الكبائر، إذ الوالي الجائر يشتدّ عزمه وتتّسع دائرة استبداده عندما يكثر مناصروه.
كان الإمام(عليه السلام) يرى أنّ انفصال الاُمة عن الظالمين وعدم الركون إليهم يضيّق دائرة الاستبداد ويرغم الولاة على العدل، ويأمل من وراء ذلك لهم السعادة، والغرض أنّ ولاة ذلك العصر أو خلفاء الدولة المروانية قد انهمكوا في الدنيا وسفكوا الدماء، وانتهكوا المحرّمات وتجاهروا في عداء آل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وتتبعوا من عرف بحبّهم، والميل إليهم، وتقريب من عرف ببغضهم، وهم يحاولون بذلك تحويل أنظار الاُمة عن أهل البيت(عليهم السلام)أهل العلم والورع والعبادة، والناس وإن تمكّن من نفوسهم حبّ الدنيا والطموح إلى المال، فهم يخضعون لسيطرة العلم والدين بدافع العقيدة، وحبّ الناس لآل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) لا للدنيا، ولكنه للدين وحده، فحبّهم من الدين، لذلك كان يثقل على بني اُمية ذكر أهل البيت(عليهم السلام)بخير، لأنّ سياستهم ترتكز على بغضهم ونصب العداء لهم، واقصاء من عرف بحبّهم، وقتل من اتضح منه ذلك. تارة بـاسم الزندقة واُخرى باسم الخروج على طاعة السلطان.
ويعطينا الشاعر العبلي(103) صورة عن تلك السياسية بقوله :
شردوا بي عند امتداحي علياً *** ورأوا ذاك فيَّ داءً دويا
فوربيّ ما أبرح الدهر حتى *** تختلي مهجتي بحبّي عليّا
وبنيه لحبّ أحمد أنّي *** كنت احببتهم بحبّي النبيّا
حبّ دين لا حبّ دنيا وشر الـ *** ــحبّ حبّ يكون لي دنيويا
صاغني اللّه في الذوابة منهم *** لا ذميماً ولا سنيداً دعيّا
وكان هذا الشاعر في عداد الاُمويين، فهو من عبد العزى بن عبد شمس وكان يكره ما يجري عليه بنو اُمية من ذكر عليّ(عليه السلام) وسبّه على المنابر، ويظهر الانكار، فنهوه عن ذلك ونفوه من مكة إلى المدينة، وعاش مجفواً من الاُمويين مع مدحه لهم وشعره فيهم(104).
ثم خلفتها الدولة العباسية فزادت على أعمال الدولة الاُموية، حتى قال أحد مخضرمي الدولتين:
ياليت جور بني مروان دام لنا *** وليت عدل بني العباس في النار
لأنّهم تتبعوا الذراري العلوية فقتلوهم تحت كل حجر ومدر، وخرّبوا ديارهم وهدموا آثارهم، حتى قال الشعراء في عصر المتوكل:
تاللّه إن كانت اُمية قد أتت *** قتل ابن بنت نبيّها مظلوما
فلقد اتته بنو أبيه بمثله *** هذا لعمرك قبره مهدوما
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا *** في قتله فتتبعوه رميما(105)
وكابد أهل البيت(عليهم السلام) من المحن مالا يمكن حصره، فقد امتلأت منهم السجون واهتزت بأجسامهم المشانق، وسالت بدمائهم الأرض.
وكانت السلطة الحاكمة تشجّع خصومهم وتدعو الناس للابتعاد عنهم. فيصدر مرسوم من بغداد إلى مصر، بأن لا يقبل علويّ ضيعة، ولا يركب فرساً، ولا يسافر من الفسطاط إلى طرف من أطرافها، وأن يمنعوا من اتخاذ العبيد إلاّ العبد الواحد، وإن كانت بين علوي وبين أحد من سائر الناس خصومة فلا يقبل قول العلوي ويقبل قول خصمه بدون بيّنة(106). وكانوا بين آونة واُخرى، يصدر مرسوم بأن يسفروا من الأطراف إلى عاصمة الملك ليكونوا تحت الرقابة، وينالوا العقاب هناك، وأمر الرشيد عامله على المدينة أن يضمن العلويون بعضهم بعضاً، وكانوا يعرضون على السلطان كلّ يوم فمن غاب عوقب.
أمّا عاصمة ملكهم بغداد، أو مقرّ حكمهم العراق، فأمر العباسيين مع العلويين أشهر من أن يذكر بإشارة، فلو نطقت أجزاء الأرض ما بين البصرة وفخ وكوفان ومقابر قريش وأفصحت عمّا احتوت وما شهدت لضجّ ما بين المشرق والمغرب لهول المشاهد والأحداث من اُناس لولا اسم أهل البيت لكانوا أبعد عن السلطان والحكم، ولكنّهم أخفوا نواياهم واستظلّوا بمكانة أهل البيت، ومحبّة الناس لهم وتفجعهم لما حلّ بهم.
ولم يقف العلويون تجاه هذه المشاكل موقف الذلّة والخضوع، وأبت نفوسهم التسليم لتلك النظم والأحكام القاسية، وقد استطاعوا الافلات من تلك السيطرة، فثاروا في وجه الظلم لرفع راية العدل، فكانت هناك ثورات دموية كان النجاح مع أكثرهم، فأسسوا دولاً وحكومات اقلقت العباسيين ودفعتهم إلى الانتقام من العلويين وتطبيق مادة الفناء والإبادة بحقّ من عرفوه بالميل لهم أو اتهم بذلك، فحاكوا لهم التهم، ولصقوا بهم العيوب، فلقيت شيعة أهل البيت من ذلك أشدّ الأذى، ولكنّهم ذللوا تلك المصاعب بسلاح العقيدة والإيمان الصحيح، ووقف معسكرهم من البداية إلى النهاية مرابطاً على خطّ الدفاع عن حقوق آل محمد والانتصار لهم.
على أنّ الأكثرية الساحقة دعاهم الطمع وحبّ الدفاع عن النفس ـ وهو من الغرائز الملائمة لطبيعة الإنسان ـ للتظاهر مع السلطة على هضم حقوق العترة وبث تلك الدعايات الكاذبة ضد شيعتهم، لأنّهم شاهدوا الأحكام القاسية التي تطبّق على الشيعة، إذ شاهدوا أنّ أقرب الناس من ساحات الأمن وأبعدهم عن الخطر من ألّف كتاباً في ذمّهم أو أبدى رأياً في مؤاخذتهم أو الطعن في معتقداتهم، أو قال شعراً يهجوهم به، أو عرف بالعداء لآل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهم أئمة الشيعة ولا يرون طاعة أحد غيرهم، فتجد الكتاب والعلماء والشعراء يتقرّبون إلى ولاة الأمر بما يحطّ من كرامتهم، لينالوا شهادة الانتساب إلى مؤيدي السلطة ويتنعّموا بالسحت الحرام الذي تدرّه عليهم ألسنتهم الخبيثة وأقلامهم الدنيئة.
هذا بشار بن برد المعروف بالزندقة والإلحاد يقف أمام الخليفة العباسي فينشد:
أنّى يكون وليس ذاك بكائن *** لبني البنات وراثة الأعمام
فيجيزه المهدي بسبعين ألف درهم، فما حال الرعاع وذوي الحاجة والضمائر الرخيصة الذين يبيعون ضمائرهم بأبخس الأثمان عند مشاهدة هذا التشجيع، ويدخل مروان بن حفص على المهدي فينشده قصيدة يتعرض به لآل علي(عليه السلام).
هل تطمعون من السماء نجومها *** بأكفّكم أو تشترون هلالها
أو تدفعون مقالة عن ربّكم *** جبريل بلّغها النبيّ فقالها
شهدت من الانفال آخر آية *** بتراثهم فأردتم ابطالها
يعني بذلك بني علي وبني العباس(107). فترى المهدي يتزاحف من صدر مصلاه حتى صار على البساط اعجاباً بما سمع وتقديراً لموهبة هذا الشاعر..
ثم قال له كم بيتاً هي؟ قال: مائة بيت، فأمر له بمائة ألف درهم(108).
وناهيك بما في هذا العمل والتشجيع من الخليفة وأثره في نفوس العامة، ولا شيء أملك للنفس من عطف الاُمراء وتودّدهم للأفراد بما تميل طباعهم إليه.
ودخل رجل على الرشيد فقال: لقد هجوت الرافضة، قال: هات فأنشد :
رغماً وشمساً وزيتوناً ومظلمة *** من أن تنالوا من الشيخين طغيانا
قال الرشيد: فسّره لي، قال: لا ، ولكن أنت وجيشك أجهد من أن تدري ما أقول، قال: واللّه ما أدري ماهو وأجازه(109).
ويقف مروان بن أبي الجنوب فينشد المتوكل شعراً ينال فيه من آل علي ويذم شيعتهم، فيأمر المتوكل بأن ينثر على رأسه ثلاثة آلاف دينار، ويأمر ولده (سعد) ألاّ يتأنّى بالتقاطها له، ويعقد له على إمارة البحرين واليمامة ويخلع عليه أربع خلع(110).
هذا بعض ما أبدته السلطة في مقاومتهم وتشجيع خصومهم، ولكنّه عمل لم يثمر أيّ شيء، فآل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) لا تستطيع أيّ قوة إخفاء ذكرهم أو محو آثارهم، فهم في كلّ زمن أعلام هدى، ودعاة صلاح وذكرهم يتجدّد كلّما تحرر الفكر وأزدهر العلم. والمنصف إذا نظر إلى انتشار مذهب أهل البيت(عليهم السلام) في الأقطار الإسلامية، كالعراق، والحجاز، ومصر، والشام، والأندلس، والهند، وإيران، والبحرين، والقطيف وغيرها; يرى أنّ ذلك الانتشار إنّما كان بحسب ذاته ولياقته وقيمه الروحية، مع شدّة مقاومة السلطات فكلّها تتّصف بالعداء له ووقفوا دون انتشاره مواقف خانهم النجاح فيها، وسيتّضح كلّ ذلك عند دراساتنا لنشأة المذاهب الإسلامية وعوامل انتشارها، وها نحن ننتقل بالقارئ الكريم إلى البحث عن نشأة المذاهب، واللّه ولي التوفيق.
[1]
(2) السيرة لابن حزم ص175.
(3) تاريخ ابن كثير ج9 ص63.
(4) التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة للسخاوي ج3 ص317.
(5) شفاء الغرام للقاضي تقي الدين المكي ج1 ص169.
(6) تهذيب تاريخ ابن عساكر ج4 ص50 .
(7) شفاء الغرام ج1 ص170.
(8) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص84، وتاريخ ابن كثير ج9 ص63 .
(9) البداية والنهاية لابن كثير ج9 ص64.
(10) تهذيب التهذيب ج7 ص37.
(11) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص84 ، والبداية والنهاية ج9 ص66.
(12) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص219 .
(13) الكامل لابن الأثير ج4 ص236 ـ 282.
(14) تاريخ ابن كثير ج9 ص132.
(15) مروج الذهب ج3 ص140 .
(16) الكامل لابن الأثير ج4 ص282، والعقد الفريد لابن عبد ربّه ج3 ص242 .
(17) تاريخ أبي الفداء ج1 ص209 .
(18) السيوطي ص85 .
(19) الإمامة والسياسة ج2 ص74.
(20) حلية الأولياء ج3 ص135.
(21) الانافة في مآثر الخلافة ج1 ص133.
(22) الانافة في مآثر الخلافة ج1 ص136 .
(23) الحجرات : 4.
(24) ذكر ذلك جماعة من الحفاظ والمؤرخين كالقرماني في تاريخه، وابن حجر في صواعقه، وابن الصباغ المالكي في الفصول، وابن جرير في دلائل الإمامة، وروضة الواعظين للحافظ النيسابوري وغيرهم ممّا
لا يترك مجالاً للشك في ذلك.
(25) تاريخ ابن خلدون ج3 ص65 والطبري ج8 ص95، والكامل لابن الأثير ج4 ص269 .
(26) ابن نباتة في سرح العيون ص96 .
(27) تاريخ ابن عساكر : 4 / 70 .
(28) العقد الفريد لابن عبدرّبه ج 3 ص266 .
(29) سمط النجوم العوالي لعبد الملك العصامي المكي ج3 ص187 .
(30) تاريخ ابن عساكر ج4 ص80.
(31) مروج الذهب ج3 ص187، والعقد الفريد ج3 ص171 .
(32) البداية والنهاية ج9 ص178 .
(33) تاريخ ابن كثير ج9 ص180 .
(34) مروج الذهب ج3 ص185 .
(35) النجوم الزاهرة ج1 ص232.
(36) الوزراء والكتّاب للجهشياري ص32.
(37) الكامل في التاريخ لابن الأثير ج3 ص241 .
(38) الكامل لابن الأثير ج5 ص29، والطبري في تاريخه ج8 ص139 .
(39) مروج الذهب ج3 ص194 .
(40) طبقات ابن سعد ج5 ص333.
(41) النحل: 90 .
(42) تاريخ ابن الأثير ج5 ص20.
(43) تاريخ الطبري ج8 ص86 .
(44) الإنافة في مآثر الخلافة ج1 ص142 .
(45) سمط النجوم العوالي للمكي ج3 ص204.
(46) تاريخ ابن كثير ج9 ص252 .
(47) تاريخ ابن كثير ج9 ص232 .
(48) سمط النجوم العوالي ج3 ص209 .
(49) العقد الفريد ج3 ص180 .
(50) الكامل لابن الأثير ج5 ص22 .
(51) الانافة في مآثر الخلافة ج1 ص146، والبدء والتاريخ ج3 ص48 .
(52) ينابيع المودة ج3 ص107 ـ 108 .
(53) النقى كغنى، قال في النهاية: الحديث: يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء كقرصة النقى يعني الخبز الحواري.
(54) بحار الأنوار ج46 ص306 ـ 307 .
(55) تاريخ الطبري ج8 حوادث سنة 121، وابن عساكر ج6 ص22 ـ 23.
(56) تاريخ الخميس ج2 ص320.
(57) زيد الشهيد للعلامة السيد عبد الرزاق المقرم ص162 ـ 164.
(58) النجوم الزاهرة ج1 ص281.
(59) تهذيب تاريخ ابن عساكر ج6 ص323 .
(60) تهذيب تاريخ ابن عساكر ج6 ص23.
(61) الدولة العربية الإسلامية ص305.
(62) تاريخ الطبري ج8 ص277 .
(63) السيرة لابن حزم ص363.
(64) الانافة في مآثر الخلافة ج1 ص156 .
(65) تاريخ ابن كثير ج10 ص2 ـ 6، الكامل لأبن الأثير ج5 ص124 .
(66) البدء والتاريخ للمقدسي ج3 ص53، وتاريخ الخميس ج2 ص320، وابن الأثير ج5 ص137، والحور العين لابن نشوان ص190 وغيرها.
(67) تاريخ الطبري ج8 ص122 و ابن الأثير ج5 ص127 .
(68) مسند أحمد ج1 ص265 /109.
(69) دلائل النبوة ج6 ص505.
(70) تاريخ ابن كثير ج10 ص6 وتاريخ الإسلام للذهبي ج5 ص173.
(71) البدء والتاريخ ج3 ص51 .
(72) الكامل لابن الأثير ج5 ص133 .
(73) البدء والتاريخ ج3 ص53 .
(74) تاريخ الإسلام للذهبي ج5 ص178 .
(75) زيد الشهيد للسيد عبد الرزاق المقرم ص176.
(76) الكامل لابن الأثير ج5 ص127 .
(77) الكامل لابن الأثير ج5 ص127.
(78) زيد الشهيد للمقرم ص181 .
(79) الكامل لابن الأثير ج5 ص127.
(80) العقد الفريد ص3 ـ 194.
(81) مروج الذهب ج3 ص239، وجوامع السيرة ص364، والإنافة ج1 ص161.
(82) تاريخ الإسلام للذهبي ج3 ص310، وتاريخ ابن كثير ج9 ص60.
(83) تاريخ ابن كثير ج9 ص71.
(84) الطبري ج8 ص61، وتاريخ الإسلام ج3 ص310.
(85) تاريخ دمشق لابن عساكر ج54 ص270.
(86) مختصر تاريخ البلدان لأبي بكر أحمد بن إبراهيم المعروف بابن الفقيه ص107 .
(87) الدرة الثمينة لابن النجا ص85 .
(88) الدرة الثمينة ص81 .
(89) تاريخ ابن كثير ج9 ص74 ـ 76 .
(90) الدرة الثمينة ص81، والطبري ج8 ص65 .
(91) السخاوي في التحفة ج3 ص381 .
(92) تاريخ الطبري ج8 ص92.
(93) تاريخ دمشق لابن عساكر ج66 ص41 /8391.
(94) الكامل في التاريخ لابن الأثير ج5 ص113 ـ 114 .
(95) تهذيب التهذيب ج26 ص381 /4395.
(96) تاريخ دمشق لابن عساكر ج7 ص259 /535.
(97) تاريخ ابن عساكر ج5 ص82.
(98) تاريخ ابن كثير ج10 ص4 ، والطبري ج8 ص299 .
(99) الكامل في التاريخ لابن الأثير ج3 ص475 ـ 476. البداية والنهاية ج10 ص6.
(100) الكامل في التاريخ لابن الأثير ج3 ص554 و579 ـ 580 .
(101) البدء والتاريخ ج6 ص85 .
(102) مقاتل الطالبيين ص219 ـ 220، وتاريخ الطبري ج9 ص194 .
(103) هو عبد اللّه بن عامر بن عبد اللّه بن ربيعة بن عبد العزى.
(104) تاريخ الشعر العربي ج1 ص113 .
(105) سمط النجوم العوالي ج3 ص464.
(106) الولاة والقضاة للكندي ص198.
(107) تاريخ بغداد ج13 ص144.
(108) تاريخ بغداد ج13 ص144 ـ 145.
(109) انظر ضحى الإسلام ج2 ص25 ـ 26، واُنظر ديوان المرزباني.
(110) الكامل لابن الأثير ج7 ص38.