الباب الثالث القسم الاول البراءة الشرعية تحديدها، الفرق بينها وبين الاباحة الواقعية، الخلاف فيها، أدلة المثبتين لها مطلقا: أدلتهم من الكتاب، أدلتهم من السنة: حديث الرفع، رواية السعة، رواية
كل شئ مطلق، استدلالهم بالاجماع، أدلتهم من العقل، أدلة الاخباريين
------------------------------------------------------------------
تحديدها: تطلق البراءة الشرعية ويراد بها الوظيفة الشرعية النافية للحكم الشرعي عند الشك فيه واليأس من تحصيله. الفرق بينها وبين الاباحة الواقعية: وهي بهذا التحديد وإن أدت وظيفة الاباحة
الشرعية، من حيث تخييرها في السلوك بين الفعل والترك، إلا ان الاباحة الشرعية وليدة انعدام المصلحة والمفسدة أو تساويهما في متعلقها، بخلاف البراءة فإنها غير ناظرة إلى الواقع، فقد يكون فيه
مصلحة توجب الالزام بالاتيان به، والشارع جعل الحكم الالزامي له، إلا أنه لم يصل الينا أو ان فيه مفسدة توجب الردع الالزامي عنه كذلك، ولهذا آثرنا تسميتها بالوظيفة الشرعية تفرقة لها عن الاباحة
الواقعية، ومثلها عادة لا تشرع إلا بعد اليأس عن بلوغ الواقع، ومن هنا استفدنا - فيما سبق في مبحث الاستصحاب - تقييد أدلتها هي وبقية الاصول والوظائف بالفحص عن الحكم الواقعي واليأس من العثور
عليه. الخلاف فيها: وقد اختلفوا في حجيتها من حيث السعة والضيق، فالذي عليه الاصوليون من الشيعة هو اعتبارها مطلقا، سواء في ذلك الشبهات الموضوعية أم الحكمية، وسواء كانت الشبهة وجوبية أم
تحريمية، والذي
------------------------------------------------------------------
عليه الاخباريون من الشيعة اختصاصها بالشبهات الوجوبية دون التحريمية. أما السنة فالذي يبدو منهم إرسال حجيتها، إرسال المسلمات لعدم تعرضهم - في حدود ما اطلعت عليه - لمخالف فيها معلوم، وإن لم
يظهر لديهم أدلة من الشرع عليها فنسبتها إلى البراءة العقلية عندهم أولى، ولذا آثرنا التعرض لها هناك. أدلة المثبتين لها مطلقا: وقد استدل المثبتون لها بأدلة كثيرة يصعب استيعابها جميعا، وهي
مستغرقة للادلة الاربعة نذكر أوفاها بالدلالة: أدلتهم من الكتاب: وأظهر ما استدلوا به من الكتاب آيتان كريمتان هما: 1 - قوله تعالى: (ولا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها (1)). وقد قربت دلالتها
بتقريبات لا يخلو اكثرها من مؤاخذة، ولعل اسلمها من المؤاخذات، أن يقال ان المراد من الوصول في (ما آتاها)، هو الحكم، والمراد بالايتاء فيها هو الوصول، فيكون مفاد الآية نفي التكليف بالحكم غير
واصل، أي أن الله لا يكلف نفسا إلا بالحكم الذي يصل إليها. وبالطبع ان معنى نفي التكليف هنا، هو نفي آثاره الاخروية، أي نفي المؤاخذة، وإلا فإن التكليف ثابت في حقوق العالمين والجاهلين على السواء
- كما يأتي عرضه في مبحث التخطئة والتصويب -. 2 - قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (2)). وتقريبها لا يتم إلا إذا جعلنا الرسول هنا كناية عن الحجة الواصلة،
(1) الطلاق / 7. (2) الاسراء / 15. (*)
------------------------------------------------------------------
وهو ما تقتضيه مناسبة الحكم والموضوع إذ لا خصوصية للرسول في هذا الموضع ظاهرا فيكون مؤداها نفي استحقاق العقاب قبل قيام الحجة لدى المكلف وهو مؤدى البراءة. وأشكل على هذه الاستفادة: 1 - ان الآية
لم تنف أكثر من فعلية العقاب وهي أعم من الاستحقاق الذي هو وليد شغل الذمة وعدمه، وليس هناك ما يمنع من ثبوت الاستحقاق وارتفاع العقاب بالعفو أو إذهاب السيئة بالحسنة، والذي يفيد في الدلالة على
البراءة هو نفي الاستحقاق عنه، الكاشف عن عدم انشغال ذمة المكلف لا نفي فعلية العقاب، لان نفي فعليته قد يكون - حتى مع ثبوت التكليف واقعا - بالعفو وغيره. وأجيب بأن لسان الآية يأبى مثل هذا
الحمل، أعني الحمل على نفي الفعلية، لان التعبير بقوله: (وما كنا معذبين) وما يشبهه من التعبيرات الواردة في القرآن الكريم أمثال (وما كان الله ليضل قوما (1)) (وما كان الله ليذر المؤمنين (2))،
كلها تدل على ان هذه الامور مما لا تليق نسبتها إليه سبحانه. وأظن ان الجو التعبيري الذي يرسمه هذا النوع من الاداء يقرب هذا المعنى. وإذا صح هذا المعنى فمع وفرض استحقاق العبد للعذاب، فأي مانع
من نسبة صدوره إلى الله، ولماذا لا تليق نسبته إليه تعالى ؟ فالحق - كما استفيد - ان أمثال هذه التعبيرات واردة لنفي الاستحقاق وحاشا لله ان يعذب من لا يستحق. وأشكل أيضا ان الآية واردة في مقام
نفي العذاب الدنيوي كما يقتضيه
(1) التوبة / 115. (2) آل عمران / 179. (*)
------------------------------------------------------------------
سياقها، وليست واردة في مقام نفي العذاب الاخروي، والذي يفيد في إثبات دلالتها على البراءة هو نفي العذاب الاخروي، ومن الواضح ان نفي أحدهما لا يستلزم نفي الآخر. والجواب على هذه الشبهة يتضح مما
ذكرنا في الجواب عن الشبهة السابقة، فإن لفظة (ما كنا) تستدعي نفي الاستحقاق، وهو أعم منهما بالاضافة إلى إمكان استفادة نفي العذب الاخروي قبل قيام الحجة بقياس الاولوية، لان الله سبحانه إذا تنزه
عن تعذيب عبيده في دار الدنيا، وهو عذاب يخف تحمله بالنسبة إلى العذاب الاخروي، فتنزهه عن إيقاع العذاب الاشد من باب الاولى. والحق ان الآية من أقوى ما يستدل به على البراءة. أدلتهم من السنة: وهي
كثيرة جدا نجتزئ بذكر بعضها: 1 - حديث الرفع: وقد روي بسند جامع لشرائط الصحة (عن حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): رفع عن أمتي تسعة: الخطأ، والنسيان،
وما أكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة (1)). وقد قربت دلالته بأن أحكام الشارع على اختلافها، من وضعية
وتكليفية، لما كان أمر رفعها ووضعها بيده، وان بوسعه ان يضع الحكم
(1) الدراسات، ج 3 ص 142. (*)
------------------------------------------------------------------
الالزامي في حالتي العلم والجهل، أي ان يضع الحكم الواقعي والظاهري على المكلفين كما ان بوسعه ان يرفعهما عنه، فإن هذا الحديث جاء للتعبير عن رفع الشارع الحكم الالزامي في حال الشك، وليست هناك
أية منافاة بين رفع الحكم عند الجهل به وبقائه واقعا كما هو مقتضى ما دل على ثبوت الاحكام في حق العالمين والجاهلين على السواء، ويكون مفاد الرفع في هذا الحديث هو رفع العقاب أو المؤاخذة، وقيل ان
الرفع مسلط هنا على خصوص الحكم الظاهري الالزامي الذي لا يعلم، ويكون معنى رفعه عدم جعله ابتداء (ولازمه ثبوت الترخيص في اقتحام الشبهة وعدم وجوب الاحتياط، فإن الاحكام متضادة في مرحلة الظاهر
كتضادها في مرحلة الواقع، فكما ان عدم الالزام في الواقع يستلزم الترخيص واقعا كذلك عدم الالزام في الظاهر يستلزم الترخيص ظاهرا، وإذا ثبت الاذن في الاقتحام لا يبقى مجال لاستحقاق العقاب، فيكون
حال الشبهة الحكمية حال الشبهة الموضوعية التي ثبت فيها الاذن بالدلالة المطابقية بقوله (عليه السلام): (كل شئ فيه حلال وحرام فهو لك حلال) ونحو ذلك، فيثبت بحديث الرفع أصالة الحل وجواز ارتكاب
محتمل الحرمة وترك محتمل الوجوب (1)). وقد أورد على هذه الاستفادة باشكالات لعل أهمها هو قولهم: إن هذا الدليل - لو تم - فهو أضيق من المدعى لتعلقه بخصوص الشبهات الموضوعية وذلك: أ - لان الرفع
مسلط في الكثير من فقرات الرواية على نفس الفعل لوضوح أن المراد من قوله: (ما اضطروا إليه وما اكرهوا) هو نفس الفعل المضطر إليه لا الحكم المضطر إليه وهكذا... إذ لا معنى للاضطرار إلى الحكم، كما
لا معنى للاكراه عليه، فإذا ثبت إرادة الفعل
(1) الدراسات، ج 3 ص 143. (*)
------------------------------------------------------------------
من بعض أسماء الموصول فيها، فقد ثبت ذلك في الجميع أخذا بوحدة السياق. وحينئذ يكون المراد مما لا يعلمون الفعل الذي لا يعلمون حكمه، وتختص الرواية بالشبهات الموضوعية. والجواب على ذلك أن الموصول
في هذه الجمل كلها مستعمل في مفهوم واحد، وهو مفهوم الشئ، وهذا المفهوم يتسع للحكم والموضوع معا، والاختلاف إنما هو في مصاديق هذا الشئ المختلفة باختلاف صلة الموصول، فكأن الشارع قال: رفع الشئ
الذي لا يعلم والشئ الذي اضطروا إليه، وهكذا... ولا يضر في ذلك أن يكون في احدهما فعل وفي الآخر حكم، ما دام كل منهما يصدق عليه انه شئ. ب - إن الذي يقتضيه تسلط الرفع على العدد (تسعة) أن نسبة
الرفع إلى كل من أفراد التسعة التي فصلها الحديث نسبة واحدة، من حيث كونها حقيقية أو مجازية، ولا يعقل أن يكون بعضها حقيقيا والآخر مجازيا لبداهة ان الاسناد الواحد إلى التسعة، وهو العنوان الجامع
لها، لا يتحمل اختلاف النسبة من حيث الحقيقة والمجاز. وبما أن النسبة فيما لا يعلمون، إذا أريد من الموصول، الحكم هي نسبة حقيقية لان نسبة الرفع إلى الحكم من قبل الشارع لا تجوز فيها ونسبته إلى
ما اكرهوا عليه، نسبة مجازية لبداهة أن الشارع - كمشرع - لا يمكن أن يتسلط على الامور التكوينية فيرفعها، فلا بد أن يكون المراد من تسلط الرفع عليها، هو رفع أحكامها المترتبة عليها، وهي التي بيد
الشارع رفعها ووضعها، ومع تنوع النسبة في الامور التسعة، لا بد أن ينتهي الامر إلى أن تكون النسبة الواحدة في إسناد الرفع إلى لفظ التسعة الجامع بينها متنوعة تبعا لتنوع أفرادها، والنسبة في
الاسناد الواحد إلى الشئ الواحد يستحيل تنوعها، فتتعين النسبة المجازية في الجميع
------------------------------------------------------------------
ويكون المراد منها جميعا هو الفعل. والجواب أن النسبة هنا في إسناد الرفع إلى التسعة نسبة واحدة وهي مجازية، لان الاسناد إلى الجامع بين الحقيقي والمجازي، يكون اسنادا مجازيا بطبيعة الحال، وهي
أشبه بما يقولونه في المنطق من أن النتيجة تتبع أخس المقدمتين، فالاختلاف في المتعلق لا يلزم التعدد في النسبة الواحدة، على أنه يمكن أن يقال ان نسبة الرفع إلى الفعل، هي نفسها نسبة حقيقية من دون
حاجة إلى التقدير لان معنى رفع الشارع الموضوع تشريعا هو عدم جعله موردا لاعتباره موضوعا لاحكامه، وهو - بهذا المعنى - مما يتسلط عليه الرفع حقيقة، وهذا نظير قول الشارع: (لا ربا بين الوالد
والولد، ولا صيام في السفر) أي ان هذه المواضيع ليست موردا لاعتباره من حيث الالزام بها فعلا أو تركا. وعلى هذا، فالنسبة إلى كل من التسعة تكون نسبة حقيقية والى مجموعها كذلك، فلا تعدد اذن في
النسبة الواحدة على جميع الفروض. ج - إن المستفاد من لفظة الرفع، أن ما تتعلق به فيه ثقل على النفس، ومن الواضح أنه لا معنى لكون الحكم بالوجوب أو الحرمة فيه ثقل، لان نفس الحكم لا ثقل فيه، وإنما
الثقل بالفعل الذي يراد الاتيان به أو يراد تركه، فلا بد من نسبة الرفع إلى الفعل لا إلى الحكم. وأجيب أن الاتيان بالفعل وعدمه هو موضع الثقل لما كان مسببا عن الحكم فإن نسبة الرفع إلى سببه
كنسبته إليه، لا تجوز فيها ولا مسامحة عرفا، على ان شعور الانسان بكونه ملزما لمولاه بعمل ما فيه ثقل - وأي ثقل - فالقول بأن الحكم الملزم لا ثقل فيه، لا يعرف له وجه.
------------------------------------------------------------------
والظاهر ان المشكل توهم ان الرفع لا يصدق إلا على ما كان فيه ثقل مادي لذلك خصه بالفعل، مع أن الثقل المعنوي أشد وطأة على النفوس من أي ثقل آخر. وقد ذكروا إشكالات اخرى لا نرى ضرورة لعرضها
والاجابة عليها لوضوح بطلانها، ولان الجواب على بعضها يتضح مما عرضناه. والنتيجة ان الحديث وافي الدلالة في شموله لمختلف الشبهات موضوعية أو حكمية. وإذا صحت استفادة رفع الحكم منه فتعميمه إلى
مختلف ما فيه ثقل من أنواع الحكم سواء كان وضعيا أم تكليفيا لا يحتاج إلى كلام. كما أن شموله لجميع مناشئ عدم العلم بالحكم من فقدان النص، أو تعارض النصين، أو الجهل بالموضوع، أو غيرها واضح جدا.
2 - رواية السعة: ولسان الرواية: (الناس في سعة ما لا يعلمون (1)). وقد قرئ هذا الحديث بتنوين كلمة سعة كما قرئ بالاضافة وعدم التنوين. ولازم القراءة الاولى ان تكون (ما) مصدرية زمانية، ويكون
مفاد الرواية على تقديرها الناس في سعة مدة عدم علمهم بالتكليف، أي ما داموا لم يعلموا بوجوده فذمتهم غير مشغولة به، لان الشارع جعلهم في سعة من أمره. ولازم القراءة الثانية ان تكون (ما) موصولية،
ويكون مفادها الناس في سعة الحكم الذي لا يعلمونه ويكون مؤداه مؤدى حديث الرفع.
(1) الدراسات، ج 3 ص 158. (*)
------------------------------------------------------------------
والفارق بين القراءتين أن الحديث على القراءة الاولى يكون مؤكدا في مضمونه للقاعدة العقلية الآتية (قبح العقاب بلا بيان) لان لسانه لسان جعل السعة ما دام البيان غير واصل الينا، أي ما دمنا لا
نعلم بالتكليف، فإذا تمت أدلة الاحتياط الشرعي الآتية كانت حاكمة عليه، لان لسانها لسان بيان للحكم فهي رافعة للجهل الذي أنيطت السعة به في هذه الرواية. وعلى القراءة الثانية يكون مفاد الرواية
مفاد حديث الرفع وهو معارض لادلة الاحتياط كما يأتي. والظاهر - الذي استفاده بعض أساتذتنا - (من الحديث هو: الاحتمال الثاني، فإن كلمة (ما) الزمانية حسب استقراء موارد استعمالها لا تدخل على فعل
المضارع، وإنما تدخل على الماضي، فلو كان المضارع في الخبر مدخول كلمة (لم) لكان للاحتمال الاول وجه، ثم لو سلم دخولها على فعل المضارع أحيانا فلا ريب في ندرته فلا يصار إليه في غير الضرورة).
(وعليه، فالصحيح دلالة الحديث على البراءة الشرعية، وبإطلاقه يشمل الشبهات الموضوعية والحكمية). (ومن ذلك يظهر أن ما أفاده المحقق النائني من ترجيح الاحتمال الاول وعدم صحة الاستدلال بهذا الحديث
على البراءة الشرعية خلاف التحقيق (1)). 3 - رواية كل شئ مطلق: ولسان هذه الرواية (كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهي (2)).
(1 - 2) الدراسات، ج 3 ص 159. (*)
------------------------------------------------------------------
وقد اختلفوا في المراد من لفظة (يرد) في الرواية فقيل ان معناها الصدور، ويكون معنى هذه الرواية إذ ذاك كل شئ مطلق اي مباح حتى يصدر من الشارع في حقه النهي، وتكون بهذا المعنى أجنبية عن موضع
احتياجنا لبداهة ان حاجاتنا إليها إنما هي بعد البعثة وصدور الاحكام عن الشارع واختفائها عنا. وقيل: ان المراد من الورود فيها هو الوصول، فيكون معناها كل شئ مطلق - أي مباح ظاهرا - حتى يصل إلى
المكلف فيه نهي. والظاهر ان مدلول الرواية لا يلتئم مع طبيعة صدورها من الإمام إلا على القول الثاني. لان قول الشارع: كل شئ مطلق حتى يرد، إما ان يراد بالاطلاق الاباحة الواقعية أو الظاهرية
والورود وإما ان يراد به الوصول أو الصدور، فصور المسألة أربع: 1 - ان يكون الاطلاق بمعنى الاباحة الواقعية، والورود بمعنى الصدور، فيكون مفاد الرواية كل شئ مباح واقعا حتى يصدر من الشارع نهي
عنه، وهذا النوع من الكلام لا معنى له لاستلزامه الاخبار عن أن أحد الضدين رافع للآخر وهو أشبه بالقول: كل انسان حي ما لم يمت، أو كل انسان نائم ما لم يستيقظ، وأي معنى لمثل هذا الكلام لو صدر عن
إنسان عادي فضلا عن صدوره من مشرع ؟ ! وأية ثمرة تشريعية تترتب على مثله ؟ 2 - ان يكون الاطلاق بمعنى الاباحة الواقعية، والورود بمعنى الوصول، فيكون معنى الرواية ان كل شئ محكوم بالاباحة الواقعية
حتى يصل فيه نهي. ولازم هذا ان وصول حكم على خلاف الحكم الواقعي يقتضي ان يكون
------------------------------------------------------------------
مغيرا للواقع عما هو عليه من حكم فيلزم التصويب، وسيأتي بطلانه وهو اليوم مجمع عليه بين المسلمين ظاهرا. 3 - أن يراد من الاطلاق الاباحة الظاهرية، ومن الورود صدور الحكم من الشارع، ومثل هذا
الكلام لا معنى له لبداهة أن صدور الحكم من الشارع بمجرده لا يرفع الاباحة الظاهرية وإنما الذي يرفعها وصول الحكم من قبله. 4 - أن يراد من الاطلاق الاباحة الظاهرية ومن الورود الوصول، فيكون
مفادها ان كل شئ محكوم بالاباحة الظاهرية حتى يصل، نهي على خلافها وهو معنى البراءة. وبهذا يتضح السر في ادعائنا أن مدلول هذه الرواية لا يلتئم مع طبيعة صدورها من الامام إلا على القول الثاني -
وهو مؤدى المعنى الرابع - لان بقية المعاني مما يستحيل صدورها منه عادة. استدلالهم بالاجماع: وقد صوروه بعدة صور: منها: دعوى اتفاق المسلمين على قاعدة قبح العقاب بلا بيان، ويرد عليها أنها وإن
كانت ثابتة في واقعها، إلا ان ثبوتها لا يكشف عن حكم الشارع بها لكونها قاعدة عقلية محضة كما يأتي الحديث فيها، وبالاضافة إلى انها لا تثبت الترخيص في الشبهات التحريمية - موضع النزاع مع
الاخباريين - لادعائهم وجود البيان فيها فهي خارجة عن موضوع هذا الحكم العقلي بالورود. ومنها: دعوى الاتفاق على ان الحكم الظاهري المجعول عند الشك هو الترخيص، وهذه الدعوى لا أعرف لها مأخذا يمكن
الركون إليه مع
------------------------------------------------------------------
خلاف الاخباريين في إطلاقها لذهابهم إلى الاحتياط في الشبهات التحريمية. أدلتهم من العقل: وعمدة ما استدلوا به هي قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وما أدري كيف اقحمت في هذا المجال ؟ فهي وإن كانت
وافية الدلالة على البراءة إلا أنها لا تفي بإثبات البراءة الشرعية لعدم كشفها عن رأي الشارع - كمشرع - إذ المفروض فيما اخذ فيها، هو عدم البيان الشرعي بجميع مراتبه، ومع كشفها عن رأي الشارع تكون
هي بيانا فيلزم من قيامها هدم موضوعها وارتفاعها تبعا لذلك، أي يلزم من وجودها عدمها، ولهذا السبب اعتبر العلماء ورود ما دل على البراءة الشرعية على هذه القاعدة لازالته لموضوعها وجدانا بواسطة
التعبد الشرعي، ومن هنا آثرنا تأجيل الحديث عن هذه القاعدة إلى مبحث البراءة العقلية. أدلة الاخباريين على التفصيل: وقد استدل الاخباريون كذلك بالادلة الاربعة، وبما أن أدلتهم لا تخص دعواهم من
الرجوع في الشبهات التحريمية إلى الاحتياط، فقد آثرنا تأجيل الحديث فيها إلى القسم اللاحق.