ومنها: ما رواه في الكافي عن محمد بن إسحاق بن عمار قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام: إن سلسبيل طلبت مني مائة ألف درهم على أن تربحني عشرة آلاف، فأقرضتها تسعين ألفا وأبيعها ثوبا وشيا 1 يقوم علي بألف درهم بعشرة آلاف درهم. قال: لا بأس . قال في الكافي وفي رواية أخرى: لا بأس به أعطها مائة ألف وبعها الثوب بعشرة آلاف واكتب عليها كتابين 2. ولاشك في دلالة هذه الأخبار على جواز أخذ الزيادة عم أقرضه، ولكن في ضمن معاملة أخرى كي لا يكون ولا يتحقق الربا التي حرمتها من ضروريات الدين وبنص الكتاب اليمين. وبعبارة أخرى: حيلة شرعية للفرار عن الربا، واشتهر العمل بها بين المتدينين. وقال المحدث المجلسي في كتاب مرآة العقول في شرح كتاب الكافي بعد ذكر هذه الأخبار المروية عن الأئمة الأطهار: هذه الأخبار تدل على جواز الفرار من الربا بأمثال تلك الحيل، والأولى الاقتصار عليها، بل تركها مطلقا تحرزا من الزلل 3. وقد يقال بمعارضة خبر يونس الشيباني لهذه الروايات، وهو ما رواه في الوسائل عنه قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الرجل يبيع البيع والبائع يعلم أنه لا يسوى، والمشتري يعلم أنه لا يسوى إلا أنه يعلم أنه سيرجع فيه فيشتريه منه. قال: فقال: يا يونس إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لجابر بن عبد الله: كيف أنت إذا ظهر الجور وأورثهم الذل؟ قال: فقال له جابر: لا بقيت إلى ذلك الزمان، ومتى يكون ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال: إذا ظهر الربا يا يونس، وهذا الربا فإن لم تشتره رده عليك قال:
(هامش)
(1) الوشي من الثياب معروف، والوشي نقش الثوب ويلون من كل لون. (2) الكافي ج 5 ص 205 كتاب المعيشة باب العينة ح 9، وسائل الشيعة ج 12 ص 379 كتاب التجارة أبواب أحكام العقود باب 9 ح 1 و 2. (3) مرآة العقول ج 19 ص 228 باب العينة. (*)
قلت: نعم. قال: فلا تقربنه، فلا تقربنه 1. ولكن أنت خبير بأن هذه الرواية قاصرة عن المعارضة مع تلك الروايات الكثيرة التي ذكرناها، لوجوه: منها: أن مقتضى الجمع العرفي حمل النهي فيها - أي قوله عليه السلام فلا تقربنه مكررا - على الكراهة. منها: حملها على التقية، لأنهم لا يجوزون المعاملة في مثل هذه الصورة ويطعنون على من يجوز ويقولون إنها حيلة للفرار عن الربا المحرم بالضرورة. والجواب عن طعنهم أنه حيلة ولكن نعمت الحيلة، أي الحيلة التي يكون بها الفرار عن المعصية كما هو مصرح به في بعض الأخبار. ومنها: حملها على صورة عدم قصد الطرفين للمعاملة حقيقة، وإنما هي صرف إجراء صورة بيع مثلا لأخذ الزيادة، ومعلوم أن هذه المعاملة باطلة. وبنظري هذ الحمل هو الصحيح، والآن في نظر عامة الناس المشتغلون بمثل هذه المعاملات مرميون بأنهم آكلة الربا، وهذا البيع والمعاملة إجراء صوري لأجل إخفاء أكلهم الرب. والإنصاف: أن صرف النظر عن تلك الأخبار الكثيرة والقول بحرمة أمثال هذه المعاملات جرأة ويكون من عدم الاعتناء بالأخبار الصادرة عن الأئمة الأطهر، مع أنها مخالفة للتقية، فالأولى حمل هذه الرواية على أحد الوجوه المذكور، بل المتعين هو ذلك. هذ كله في تأخير الدين الحال بالزيادة في متن عقد القرض أو بالشرط في ضمن عقد آخر، وأما تعجيله بإسقاط بعضه فلا إشكال فيه، وجوازه اتفاقي،
(هامش)
(1) تهذيب الأحكام ج 7 ص 19 ح 82 في فضل التجارة وآدابها وغير ذلك...، ح 82، وسائل الشيعة ج 12 ص 371 كتاب التجارة أبواب أحكام العقود، باب 5 ح 5. (*)
والأخبار به مستفيضة: منها: ما رواه في الوسائل عن الصدوق بإسناده عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام في الرجل يكون عليه دين إلى أجل مسمى فيأتيه غريمه فيقول: أنقدني من الذي لي كذا وكذا وأضع لك بقيته، أو يقول: أنقدني بعضا وأمد لك في الأجل فيما بقي؟ فقال: لا أرى به بأسا ما لم يزد على رأس ماله شيئا، يقول الله عز وجل: (فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون) 1. ومنها: عن أبان، عمن حدثه، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن الرجل يكون له على الرجل الدين فيقول له قبل أن يحل الأجل: عجل لي النصف من حقي على أن أضع عنك النصف، أيحل ذلك لواحد منهما؟ قال: نعم 2. هذا، مضافا إلى أن المالك لما في الذمة له بمقتضى القواعد الأولية حق إسقاط بعض ما يملك أو جميعه، ولا محذور فيه أصلا، وكذلك في الدين المؤجل له أن يزيد في أجله وأن يمده ولا يحتاج إلى وجود دليل. فهذا الحكم - أي التمديد في الأجل أو إسقاط بعض ماله في ذمة الغير - من آثار كونه مالكا لما في ذمة المديون. والناس مسلطون على أموالهم، له أن يسقط تمامه أو بعضه، وله أن يؤخر مطالبته، فإذا التزم بأحد هذه الأمور في ضمن عقد لازم يجب عليه تنفيذ ما التزم، كما أنه لو أسقط فعل ماله في ذمة الغير، تمامه أو بعضه، يسقط، فقياس تعجيل الدين المؤجل بإسقاط بعضه، وجوازه وزيادته بزيادة أجله لا وجه، لان الثاني ربا محض إلا بما ذكرنا من كونها في معاملة أخرى، وأما الأول فهو مقتضى سلطنته على ماله ولا
(هامش)
(1) الفقيه ج 3 ص 33 ح 3270 باب الصلح ح 4، تهذيب الأحكام ج 6 ص 207 ح 475 باب الصلح بين الناس ح 6، وسائل الشيعة ج 13 ص 168 كتاب الصلح في حكام الصلح باب 7 ح 1. والآية في البقرة 2: 279. (2) الكافي ج 5 ص 258 كتاب المعيشة باب الصلح ح 3، تهذيب الأحكام ج 6 ص 206 ح 474 باب الصلح بين الناس ح 5، وسائل الشيعة ج 13 ص 168 كتاب الصلح في أحكام الصلح باب 7 ح 2. (*)
محذور فيه أصلا. ومما ذكرنا ظهر أن ما ذكره بعض الأساطين من أن هذا القسم - أي تعجيل الدين المؤجل بوضع بعض الدين عن المديون أيضا - ينجر إلى الربا إن قلنا بدخول الربا في جميع المعوضات حتى الصلح وعدم اختصاصها بالبيع، لان هذا في الحقيقة مرجعه إلى مصالحة مجموع الدين ببعضه، ولاشك في أن هذا هو الربا. وقد عرفت أن هذا من قبيل لزوم ما لم يلتزم، فإنه ليس من الصلح في شيء ولا حاجة إليه، بل أخذ بعض وإبراء بعض أو تأخير المطالبة في صورة أخرى، وأي ربط لهما بالصلح كي يكون من الربا المحرم بالضرورة. فرع: لو أقرض دراهما ثم أسقطها السلطان وجاء بدراهم جديدة وشاعت المعاملة بها، فهل على المقترض الدراهم الأولى، أو الجديدة، أو ما هو الشائع في المعاملة به في الأسواق وينفق في المعاوضات والمبادلات؟ والتحقيق في المقام هو أن الدراهم الأولى التي أسقطها السلطان تارة لا يبقى لها مالية أصلا كالأوراق المالية التي أسقطها عن الاعتبار، فإنها تسقط ماليتها بالمرة ولا يتعامل بها أصلا، فالظاهر فيه هو وجوب أداء قيمتها لأنها بعد إسقاط ماليتها تكون بمنزلة التلف. والظاهر أن القيمة الواجبة أداؤها هو قيمة يوم الإسقاط، فهو بمنزلة يوم التلف، وتحويل القرض إلى القيمة يوم تعذر المثل، والمفروض أن تعذر المثل حصل يوم الإسقاط الذي هو بمنزلة تلف هذا النوع، فذلك اليوم يتحول المثل إلى القيمة، فلابد من مراعاة قيمة ذلك اليوم. هذا إذا لم يبق لها قيمة أصلا، وأما إذا بقي لها قيمة، خصوصا إذا كانت قيمته بمقدار لا يضر بماليتها كثيرا، مثل مسكوكات الذهب والفضة الخالصتين عن الغش، فيجب أداء تلك الأولى التي مثل العين المقروضة، وذلك من جهة أن اشتغال ذمة
المديون في المثليات من أول الأمر بالمثل، والمفروض أن له المثل الذي له مالية فلم يحدث شيء يخرجه عن الضمان بالمثل الذي هو الأصل في باب المثليات في القرض، والنظر في باب القرض غالبا إلى حفظ مالية العين المقروضة، والمفروض أنها محفوظة. نعم التنزل والترقي السوقي لا يخرج المثل عن كون العين المقروضة محفوظة بماليتها، لان مقدار مالية الشيء ليس شيئا ثابتا لا يتغير، بل يتبدل باختلاف الأزمنة والأمكنة، وعلى هذا يدور في الاغلب مدار المعاملات والتجارات. نعم لو سقط من المالية بالمرة، أو كان في نظر العرف كالسقوط بالمرة يتحول الضمان من المثل إلى القيمة. ومثلوا لذلك بأنه لو اقترض قربة من الماء في البادية التي لها قيمة يعتني بها، فوصل المقرض والمقترض إلى الشط، ومعلوم أن قربة الماء عند الشط لا قيمة لها ولا يعتني أحد بها، ففي مثل هذا المورد ينتقل الضمان من المثل إلى القيمة. فيبقى الكلام في أن الضمان بقيمة أي يوم. ثم إن تلف مالية الشيء قد يكون دفعيا وقد يكون تدريجيا، ففي الأول ينتقل الضمان من المثل إلى القيمة حال التلف، وذلك كالأوراق المالية التي تعلن الدولة بعدم اعتبارها، كورقة مائة دينار إن أسقطها الدولة عن الاعتبار فلا يشتريه أحد بفلس واحد. وأخرى يكون تدريجيا، وذلك كالقربة من الماء في البادية، فإنها تقل قيمتها كلما يقرب من الشط إلى أن يصل إلى الشط، فيسقط بالمرة وكالثلج يقترضه في الصيف وكلما يقرب إلى الشتاء تقل قيمته إلى أن يصل إلى الشتاء في البلاد الباردة فيسقط عن القيمة بالمرة. ففي القسم الأول الانتقال إلى القيمة في نفس ذلك اليوم الذي يحصل التلف، وأما في القسم الثاني حيث أن التلف فيه تدريجي، لا تخلو المسألة من إشكال، لأنه
لا يمكن القول بأنه إذا شرع في نقص القيمة ولو كان بمقدار قليل، فينتقل الضمان من كونه مثليا إلى القيمة، إذ لا وجه لهذا الانتقال، إذ المثل موجود وله قيمة يعتني بها، فالانتقال لابد وأن يكون بدليل معتبر، وإلا فلا وجه له. وأما القول بأن الانتقال حال وصول النقص إلى أقصاه وسقوطه عن القيمة، فهذا خلاف المقصود والمفروض، إذ المقصود من الانتقال إلى القيمة حفظ مالية المال المفروض، فالانتقال إلى القيمة بعد سقوط القيمة خلاف الفرض. ولا يبعد أن يقال: إن المقترض يضمن يوم السقوط عرف وإن كان لم يسقط بالمرة، بل له قيمة عرفية يعتني بها، ويجوز أن يقال عليه قيمة يوم مطالبة المقرض، ولكن لابد وأن يقيد بما إذا لم يكن الأداء يوم سقوط القيمة بالمرة، وإلا يكون خلاف الفرض وخلاف المقصود. ثم إنه ورد في هذه المسألة - أي مسألة الاقتراض دراهما ينفق ويتعامل بها يسقطها السلطان ويأتي بدراهم جديدة - روايات ل بأس بذكرها تبركا وتيمنا: منها: رواية يونس قال: كتبت إلى الرضا عليه السلام: إن لي على رجل ثلاثة آلاف درهم، وكانت تلك الدراهم تنفق بين الناس تلك الأيام وليست تنفق اليوم، فلي عليه تلك الدراهم بأعيانها أو ما ينفق اليوم بين الناس؟ قال: فكتب إلي: لك أن تأخذ منه ما ينفق بين الناس كما أعطيته ما ينفق بين الناس 1. ومنها: أيض ما عن يونس قال: كتبت إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام إنه كان لي على رجل عشرة دراهم، وإن السلطان أسقط تلك الدراهم، وجاءت بدراهم أعلى من تلك الدراهم الأولى ولها اليوم وضيعة، فأي شيء لي عليه، الأولى التي أسقطها
(هامش)
(1) الكافي ج 5 ص 252 باب آخر من كتاب المعيشة ح 1، تهذيب الأحكام ج 7 ص 116 ح 505 في بيع الواحد بالاثنين وأكثر من ذلك...، ح 111، الاستبصار ج 3 ص 100 ح 345 باب الرجل يكون له على غيره الدراهم فتسقط...، ح 3، وسائل الشيعة ج 12 ص 487 كتاب التجارة أبواب الصرف باب 20 ح 1. (*)
السلطان، أو الدراهم التي أجازها السلطان؟ فكتب: لك الدراهم الأولى 1. ومنه: ما عن العباس بن صفوان قال: سأله معاوية بن سعيد عن رجل استقرض دراهم عن رجل وسقطت تلك الدراهم أو تغيرت ولا يباع بها شيء، الصاحب الدراهم الدراهم الأولى، أو الجائزة التي تجوز بين الناس؟ فقال: لصاحب الدراهم الدراهم الأولى 2. ولابد من تقييد هذه الروايات التي مفادها هو الأخذ بالدراهم الأولى التي أسقط السلطان اعتبارها بم إذا لم تسقط ماليتها بالمرة، كما هو الغالب وإن كانت تفاوتت بالوضيعة. فرع: لو قال المقرض للمقترض: إذ مت فأنت في حل كان وصية، وإن قال: إن مت في حل كان إبراء وباطلا، لتعليقه على الشرط. هذا ما ذكره العلامة في التذكرة 3، ومرجع هذ الكلام إلى بحث لفظي، وهو أن إذ ظرف زمان، فقوله إذا مت أي الزمان والوقت الذي مت يكون هذا المال الذي اقترضته لك، فهذا تمليك للمقترض بعد موته، فيكون وصية ينفذ في الثلث، وإذا كان زائدا على الثلث نفوذه موقوف على إجازة الورثة. وأم إن في قوله إن مت حرف شرط، فيكون إسقاطا لما في الذمة معلقا
(هامش)
(1) تهذيب الأحكام ج 7 ص 117 ح 507 في بيع الواحد بالاثنين وأكثر من ذلك...، ح 113 الاستبصار ج 3 ص 99 ح 343 باب الرجل يكون له على غيره الدراهم فتسقط...، ح 1 وسائل الشيعة ج 12 ص 488 كتاب التجارة أبواب الصرف باب 20 ح 2. (2) تهذيب الأحكام ج 7 ص 117 ح 508 في بيع الواحد بالاثنين وأكثر من ذلك...، ح 114 الاستبصار ج 3 ص 99 ح 344 باب الرجل يكون له على غيره الدراهم فتسقط...، ح 2، وسائل الشيعة ج 12 ص 488 كتاب التجارة أبواب الصرف باب 20 ح 4. (3) تذكرة الفقهاء ج 2 ص 7. (*)
ومشروطا بالموت، ولاشك أن الإسقاط لما في ذمة شخص هو الإبراء فيكون تعليقا في الإبراء وهو باطل إجماعا، سواء كان تعليق المنشأ في العقود أو في الإيقاعات كما في ما نحن فيه. لكن فيه أن إذ يستعمل ظرفا وشرطا، فالمايز هو القصد، لأنه في مقام الاستعمال صالح للمعنيين، ويكون الفرق بينهما هو الفرق بين الواجب المعلق والمشروط فتأمل جدا. فرع: حكي عن أبي الصلاح تحريم ومنع الاقتراض على من ليس عنده مقابل ولو بالقوة يؤدي به دينه 1، والمقصود منه لعله أن يكون له غلة ملك، أو كان له قوة عمل يقدر على تحصيل ما يؤدي به دينه، فلا يأكل مال الناس مع اليأس عن التمكن من أدائه، وأما لو كان يرجو ويحتمل احتمالا عقلائيا التمكن من أدائه فلا إشكال في جوازه، وإن كان سبب رجاء تمكنه احتمال وصول الحقوق الشرعية كسهم الإمام عليه السلام، أو سهم السادات إن كان المقترض سيدا، أو وصول الكفارات إليه أو النذورات وأمثال ذلك. والحاصل: أنه لامانع من الاقتراض إن كان يحتمل احتمالا عقلائيا التمكن من أدائه بوجه حلال شرعي، وإن كان من جهة رجائه أن أقرباءه الأقربين أو غيرهم من المؤمنين يؤدون دينه. وأما فيما عدا ذلك فالاقتراض خيانة بالمقرض، والمؤمن لا يخون كما هو في الرواية التي رواها أبو ثمامة قال: قلت لأبي جعفر الثاني عليه السلام: إني أريد أن ألازم مكة والمدينة وعلي دين. فقال: ارجع إلى مؤدى دينك وانظر أن تلقى الله عز وجل وليس عليك دين، فإن المؤمن لا يخون 2.
(هامش)
(1) الكافي في الفقه ص 330. (2) تقدم ص 184، هامش 2. (*)
ولهذه الرواية طرق عديدة كما هو مذكور في الوسائل. وقال في الجواهر 1 في وجه منع أبي الصلاح عن الاستدانة إن لم يكن له مقابل يؤدي به دينه: ولعله لموثق سماعة قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الرجل منا يكون عنده الشيء يتبلغ به وعليه دين أيطعمه عياله حتى يأتيه الله بميسرة فيقضي دينه، أو يستقرض على نفسه في خبث الزمان وشدة المكاسب، أو يقبل الصدقة؟ قال عليه السلام: يقضي مما عنده دينه، ولا يأكل أموال الناس إلا وعنده ما يؤدي إليهم حقوقهم، إن الله تبارك وتعالى يقول: (ول تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) 2، ولا يستقرض على ظهره إلا وعنده وفاء، ولو طاف على أبواب الناس فردوه باللقمة واللقمتين والتمرة وتمرتين، إلا أن يكون له ولي يقضي دينه من بعده، ليس منا من ميت يموت إلا جعل الله له وليا يقوم في عدته، فيقضي عدته ودينه 3. وقوله عليه السلام ولا يستقرض على ظهره إلا وعنده وفاء، ولو طاف على أبواب الناس إلى آخر الحديث، صريح في أن الاقتراض والاستدانة لا يجوز ولو بلغ أمره إلى السؤال على أبواب الناس، إلا أن يكون له ولي من بعده يقضي دينه. وما قال صاحب الجواهر 4 من شهادة ذيل الرواية بخلاف قول أبي الصلاح عجيب، لأنه لا يقول بالمنع حتى ولو كان عنده ولي من أب أو ابن يقضي دينه. فالصحيح في الجواب أن يقال: مضافا إلى فتوى المشهور بالجواز فتكون الرواية معرضا عنها عندهم، ومضافا إلى الاطلاقات الكثيرة الدالة على جواز
(هامش)
(1) جواهر الكلام ج 25 ص 67. (2) النساء 4: 29. (3) الكافي ج 5 ص 95 كتاب المعيشة باب قضاء الدين ح 2، وسائل الشيعة ج 13 ص 83 و 80 كتاب التجارة أبواب الدين والقرض باب 4 ح 3، وذيل الحديث في باب 2 ح 5. (4) جواهر الكلام ج 25 ص 68. (*)
الاقتراض لمن له حاجة إلى الدين، ما رواه في الوسائل عن موسى بن بكر قال: ما أحصي كم سمعت أبا الحسن موسى عليه السلام ينشد: فإن يك يا أميم علي دين * فعمران بن موسى يستدين 1 وأيضا فيه عن موسى بن بكر، عن أبي الحسن الأول عليه السلام قال: من طلب الرزق من حله فغلب فليستقرض على الله عز وجل وعلى رسوله صلى الله عليه وآله 2. وأيضا ما رواه عن موسى بن بكر قال: قال لي أبو الحسن عليه السلام: من طلب الرزق من حله ليعود به على نفسه وعياله كان كالمجاهد في سبيل الله، فإن غلب عليه فليستدن على الله عز وجل وعلى رسوله ما يقوت به عياله، فإن مات ولم يقضه كان على الإمام قضاؤه الحديث 3. وأيضا ما رواه عن أيوب بن عطية الحذا قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، وإن ترك مالا فللوارث ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي وعلي 4. وهاهن أخبار كثيرة بأمثال هذه المضامين تركنا ذكرها لعدم الاحتياج إليها وكفاية ما ذكرن.
(هامش)
(1) الكافي ج 5 ص 94 كتاب المعيشة باب الدين ح 10، وسائل الشيعة ج 13 ص 81، كتاب التجارة أبواب الدين والقرض باب 2 ح 6. (2) الفقيه ج 3 ص 182 ح 3684 باب الدين والقرض ح 6، وسائل الشيعة ج 3 ص 81 كتاب التجارة أبواب الدين والقرض باب 2 ح 7. (3) الكافي ج 5 ص 93 باب الدين ح 3، تهذيب الأحكام ج 6 ص 184 ح 381، في الديون وأحكامه ح 6، وسائل الشيعة ج 13 ص 91 كتاب التجارة أبواب الدين والقرض باب 9 ح 2، وكذلك: ج 13، ص 80 أبواب الدين والقرض باب 2 ح 2. (4) الكافي ج 1 ص 335 باب ما يجب ومن حق الإمام على الرعية وحق الرعية على الإمام عليه السلام ح 6، عوالي اللئالي ج 1 ص 42 ح 50 وفيه لم يذكر الشطر الأول من الحديث، مستدرك الوسائل ج 13 ص 398 و 399 كتاب التجارة أبواب الدين والقرض باب 9 ح 3 باختلاف السند في الكافي والمستدرك و في العوالي مرفوع. (*)
ومقتضى الجمع الدلالي العرفي بين هذه الأخبار الكثيرة التي مفاد بعضها جواز الاستدانة للحج، ومفاد بعضها جوازها لأجل التزويج، ومفاد بعضها جوازها لأجل قوت نفسه وعياله بين، ورواية سماعة هو حمل الأخير على الكراهة أو على ما إذا كان في نيته عدم الأداء وأكل مال الناس بالباطل، كما صرح به في بعض هذه الأخبار. فرع: اختلفوا في جواز الاشتراط في ضمن عقد القرض على المقترض أن يعامل مع المقرض معاملة محاباتية، كبيع محاباتي، أو إجارة، أو صلح كذلك فضلا عن الهبة وسائر العطايا التي تكون بلا عوض أصلا. والبيع المحاباتي وكذلك سائر المعاملات المحاباتية هو أن يسامح ويساهل البائع ويبيع أو يواجر بأقل من ثمن المثل أو أجرة المثل، وكذلك في سائر المعاملات المحاباتية. وعمدة الكلام والبحث والإشكال في مثل هذا القرض هو أن مرجع مثل هذا إلى الربا، لان الربا في القرض هو أن يكون مفاد عقد القرض استحقاق المقرض أزيد مما أعطاه عوضا عما أعطاه. وقد سبق ما رواه الجمهور عن رسول الله صلى الله عليه وآله إن كل قرض يجر المنفعة فهو حرام 1. وعلى كل تقدير ادعى الإجماع على حرمة مثل هذا القرض المشروط بمثل هذا الشرط استاد الكل الآغا محمد باقر البهبهاني 2، وتلميذه الجليل الشيخ جعفر النجفي كاشف الغطاء، ونسب دعوى ثبوت الإجماع على التحريم إلى جمع آخر في مفتاح الكرامة، ونسب أيضا إلى استاده الجليل السيد محمد مهدي المعروف ببحر العلوم قدس سره مخالفته لذينك العلمين وأنه قال بصحة هذا الشرط وجوازه ونفوذه 3.
(هامش)
(1) تقدم ص 241، هامش 1. (2) حاشية مجمع الفائد والبرهان للبهبهاني ص 309. (3) حكى قول كاشف الغطاء وبحر العلوم صاحب مفتاح الكرامة ج 5 ص 38. (*)
والتحقيق في هذه المسألة أن فيها صورتين: الأولى: هو الذي ذكرناه، وهو أن يشترط المقرض على المقترض في ضمن عقد القرض أن يبيع المقترض منه الشيء الفلاني، أو يشتري منه بالمعاملة المحاباتية بأن يبيع منه بأقل من ثمن مثله، أو يشتري منه بأكثر من ثمن المثل، أو يواجر أو يستأجر كذلك محاباتيا، وكذلك الأمر في سائر المعاملات المحاباتية ما عدا هذه الصورة. الثانية: أن يعامل معاملة محاباتية مع شخص، ويشترط على ذلك الشخص أن يقرضه كذا مقدار، وحكي عن العلامة أنه قال: المتنازع فيه هو إباحة البيع المحاباتي مع اشتراط القرض في ضمنه أو حرمته 1. وكأنه يستظهر من هذه العبارة أنه إذا كان الاشتراط في ضمن عقد القرض فلا إشكال في عدم جوازه، بل الأدلة والإجماعات صريحة في بطلانه. وقد حكى في كشف الرموز عن الشيخ الإجماع على صحة الصورة الثانية 2، وأن اشتراط الإقراض في ضمن المعاملة المحاباتية لامانع منه ول محذور فيه أصلا. والظاهر أن هذا التفصيل بين هاتين الصورتين بالقول بالتحريم وعدم الجواز في الصورة الأولى، لان الاشتراط في ضمن القرض بالمعاملة المحاباتية صريح في جر النفع بالقرض، أي أخذ الزيادة على ما يعطى للمقترض وهو حرام في الشريعة الإسلامية. وأما ما يقال من أن الحديث الشريف الذي مضمونه حرمة القرض الذي يجر النفع عامي، فسنده ضعيف ليس مشمولا لأدلة الحجية.
(هامش)
(1) مختلف الشيعة ج 5 ص 330، المتاجر، في الشروط، آخر المسألة 297. (2) الخلاف ج 3 ص 173، كراهة البيع والسلف في عقد واحد، مسألة: 283. وحكى قول كشف الرموز صاحب جواهر الكلام ج 25 ص 62. (*)
ففيه: أنه بعد عمل الكل به واتفاق الفتاوى على مضمونه مستندا إليه لا يبقى محل ومجال لهذا الكلام، مضافا إلى ورود هذا المعنى أيضا في الأحاديث المروية عنه صلى الله عليه وآله عن طرق أهل البيت عليهم السلام في رواية يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد الله عليه السلام: إذا كان قرضا يجر شيئا فلا يصلح 1. وما في رواية محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: من أقرض رجلا ورقا فلا يشترط الا مثلها، فإن جوزي أجود منها فليقبل، ولا يأخذ أحد منكم ركوب دابة أو عارية متاع يشترط من أجل قرض ورقة 2. وأما ما يقال من أنه وردت مستفيضة عن الأئمة الأطهار عليهم السلام أن خير القرض ما جر منفعة محمول على ما إذا لم يشترط في القرض، ففي رواية إسحاق بن عمار عن أبي الحسن عليه السلام قال: لا بأس بذلك - أي أخذ الزيادة - ما لم يكن شرط 3. وفي رواية صفوان قال عليه السلام: لا بأس - أي أخذ الزيادة - إذا لم يكن يشترط 4. وغيرهما من الروايات الكثيرة التي هي بهذا المضمون. وظهر مما ذكرنا وجه التفصيل، وهو البطلان في الصورة الأولى، وذلك لان مرجع اشتراط المعاملة المحاباتية في ضمن عقد القرض هو جر الزيادة في القرض بالاشتراط، خصوصا مع قوله عليه السلام في بعض الأخبار جاء الربا من قبل الشروط إنما يفسده الشروط 5. وأما عدم البطلان في الصورة الثانية، لأنه لم يشترط في القرض الزيادة وإنما الاشتراط في المعاملة المحاباتية ولا محذور فيه أصل.
(هامش)
(1) تقدم ص 247، هامش 4. (2) تهذيب الأحكام ج 6 ص 203 ح 457 في القرض وأحكامه ح 11، وسائل الشيعة ج 13 ص 106، كتاب التجارة أبواب الدين والقرض باب 19 ح 11. (3) تقدم ص 246، هامش 2. (4) تقدم ص 242، هامش 3. (5) تقدم ص 242، هامش 2. (*)
وخلاصة الكلام: أن ظاهر الأخبار أن فساد المعاملة ليس بصرف أخذ الزيادة عما أعطى المقرض، بل الفساد يأتي من ناحية شرط الزيادة، فالقرض بشرط أن يعامل المقترض معه معاملة محاباتية من بيع أو إجارة أو غيرهما حيث أنه موجب لحصول الزيادة بالشرط يكون باطلا وفاسدا، وأما المعاملة الأخرى غير القرض بشرط القرض حيث ليس قرضا مشروط لاوجه لبطلانه وفساده. فرع: قال في القواعد: لو رد العين في المثلي وجب القبول وإن رخصت، وكذا غير المثلي على إشكال منشأه إيجاب قرضه القيمة 1. أما وجوب القبول في رد نفس العين المقروضة فمن جهة أن المقرض يستحق على المقترض الطبيعة الكلية التي أحد أفرادها هي نفس العين المقروضة، لما ذكرنا مرارا في هذا الكتاب وفي غيره أن المراد من الضمان بالمثل في باب ضمان الأعيان التالفة هو أن نفس التالف بوجوده الاعتباري يأتي ويثبت في الذمة، ويجب بحكم العقل والشرع تفريغ الذمة والعهدة عما ثبت واستقر عليها، فلو فرضنا محالا وجود ذلك التالف، ففي مقام أداء ما عليها وتفريغها لكان يجب رد نفس العين التالفة، وإن لم يكن موجود كما هو المفروض يكون أداء ذلك الأمر الاعتباري بأداء فرد آخر من تلك الطبيعة. وهذا هو المراد بالمثلي. فليس للمقرض عدم القبول ويجب القبول، لأنه ليس له حق إشغال ذمة الغير وإبقاء ما له فيها، فكما أنه لو كان له متاع في مخزن الغير ليس له حق الإبقاء رغما على أنف صاحب المخزن، فكذلك في هذا الأمر الاعتباري. هذا في المثلي واضح، وأما في القيمي حيث أن ما يثبت في الذمة ويستقر عليها من أول وجود القرض وساعته هي القيمة، فذمته مشغولة بالقيمة، فإذا رد العين لابد
(هامش)
(1) قواعد الأحكام ج 1 ص 157 كتاب الدين، المطلب الثاني: في القرض. (*)
وأن يكون بعنوان البدلية، فيكون من قبيل المعاملة الجديدة بين العين المقروضة وبين ما ثبت في ذمته وهي القيمة، فيحتاج إلى رضا الطرفين، فليس للمقترض إلزامه بأخذ العين المقروضة من دون رضاه. وظهر مما ذكرنا عدم تمامية قوله: وكذا غير المثلي على إشكال بل ليس غير المثلي مثله بلا إشكال في البين أصلا، لوجوب القبول من مساواة المدفوع للمأخوذ. لا محصل، لان صرف مساواتهما للأثر له ما لم يقع التبادل بينهما عن رضا الطرفين، وكذلك قولهم إنما اعتبرت القيمة لتعذر المثل، وما دام المثل موجودا لا تصل النوبة إلى القيمة. وهذا المناط والملاك موجود في العين بطريق أولى، فما دام العين موجودة لا تصل النوبة إلى القيمة بطريق أشد أولوية من صورة وجود المثل، كما هو واضح. وفيه: أن حكم العقل والنقل هو وجوب الأخذ وعدم جواز الرد فيم إذا أعطى حقه وماله وليست العين لاحقه ولا ماله، وإنما خرجت عن ملكه بصرف عقد القرض أو بالقبض. وعلى كل لو كان أخذ العين المقروضة واجب كان مرجعه إلى وجوب أخذ مال الغير عوضا وبدلا عن ماله، وهذا يحتاج إلى دليل مفقود في المقام. فرع: لو وقع النزاع بينهما فقال المعطي كان قرضا وتمليكا بعوضه الواقعي، وقال الأخذ كان هبة وتمليكا بلا عوض، ولم يكن البين قرينة دالة على أحدهما، فالظاهر أن القول قول المعطي، لان هذا يرجع إلى نية المعطي وقصده، لان الإعطاء بعد الفراغ عن كونه تمليك إما من جهة قوله ملكتك هذ بدون ذكر العوض أو ذكر مجانا، فلا شك في أنه ظاهر في التمليك، فهذا إنشاء عقد التمليك، والعقود تابعة للقصود، فإن قصد بعوضه الواقعي فيكون قرضا، وإن قصد التمليك مجانا فهي هبة،
وحيث لا يعلم إلا من قبله فأخباره عما في ضميره نافذ. اللهم إلا أن يقال: إن لفظ ملكتك بدون ذكر العوض ظاهر في الهبة، واستعماله في القرض مجاز لا يصار إليه إل بالقرينة، فإنكاره لكونه هبة من قبيل الإنكار بعد الإقرار، فيكون إنكارا لكونه هبة بعد إقراره، فلا يسمع، فيرجع أن يكون قوله ملكتك بدون ذكر العوض بمنزلة قوله وهبتك . ولكن الإنصاف أن لفظ ملكتك ظاهر في القدر المشترك بين الهبة والقرض، والخصوصية لابد وأن يكون بدال آخر، وحيث أن المفروض أنه ليس دال آخر في البين فيكون تعيين أحدهما بقصده، فلابد وأن يرجع إليه في معرفة ما قصد. واستصحاب عدم قصده العوض معارض باستصحاب عدم قصده المجانية، والتمسك بقاعدة الاحترام مال المسلم تمسك بالعموم في الشبهات المصداقية، واستصحاب بقاء الملك لا وجه له بعد القبض لأنه خرج عن ملكه على كل تقدير إما بالقرض أو بالهبة. وأما قوله عليه السلام وعلى اليد م أخذت حتى تؤديه 1 فالاستدلال على كونه قرضا به فعجيب لان اليد فيما نحن فيه ليست يد عادية أو غير مأذونة، بل هي يد المالك على ماله، ولا يشمل الحديث مثل ذلك، وذلك لان الرجوع إلى مثل هذه الأمور فيما إذا لم يكن سبب ناقل في البين، وأما فيما نحن فيه فالسبب الناقل شرعا موجود وهو إما القرض المملك للعين المقروضة وإما الهبة، فل يبقى محل ومجال لهذه المذكورات. فرع: للمقرض مطالبة المقترض - أي في وقت الحالي - حالا بجميع ما أقرضه وإن أقرضه تفاريق، مثلا لو أقرضه في كل شهر كذا مقدار، فله في آخر
(هامش)
(1) تقدم ص 78، هامش 3. (*)
السنة مطالبة جميع ما أقرضه في الأشهر الاثنى عشر دفعة واحدة. ووجهه واضح، لان ذمته اشتغلت بالجميع وليس مؤجلا على ما هو المفروض، فله استيفاء حقه في أي وقت أراد، أيضا له حق استيفاء الجميع أو البعض وترك البعض الآخر لوقت آخر. هذا فيما إذا أقرضه تفاريق أي دفعات، وأما إذا أقرضه دفعة واحدة، فله الخيار أيضا في مطالبة الجميع دفعة واحدة بطريق أولى، وفي مطالبته تفاريق بأن يطلب البعض ويترك البعض الآخر لوقت آخر. نعم ليس له إلزامه بالتفاريق، فلو أراد المقترض أداء الجميع في جميع صور المسألة ليس للمقرض عدم القبول. وأما هل للمقترض إلزام المقرض بالقبول لو أداه تفاريق، أم له الرد وعدم القبول إن لم يؤد الجميع وله الامتناع من الأخذ إلى أن يسلم الجميع؟ واختار في التذكرة والدروس وجامع المقاصد الأول 1 - أي وجوب القبول على المقرض ولو أداه تفاريق - بأن يأخذ ما يؤدي ويطالب بالباقي، خصوصا إذا كان المقترض معسرا بالنسبة إلى الباقي. واستدل في جامع المقاصد على وجوب القبول لو دفع المقترض البعض بأنه ليس من باب الدين مثل باب البيع أن يكون الجميع صفقة واحدة، كي تكون وجوب الوفاء بالعقد مقتضيا لوجوب التسليم والتسلم لكل واحد من الطرفين البائع والمشتري تسليم ما التزم بنقله إلى طرفه من غير تبعيض وتسلم ما نقل إليه طرفه، بل له حق على الغير، فإذا أراد الغير تفريغ ذمته ليس له الامتناع، وذلك لان اشتغال ذمته بالدين ثقل على المديون ويكون كحمل عليه، فله تخليص نفسه من هذا الثقل والحمل، وليس لصاحب الحق - أي المقرض - إبقاء هذا الثقل على عهدته وإبقاء
(هامش)
(1) تذكرة الفقهاء ج 2 ص 7، الدروس ج 3 ص 320، جامع المقاصد ج 5 ص 30. (*)
اشتغال ذمته. هذا غاية ما يمكن أن يوجه به كلامهم. ولكن أنت خبير بأن لزوم أخذه بالبعض وإن كان حقه وله ذلك، إلا أن ذلك ربما يكون موجبا للضرر والخسارة على المقرض، بأن يكون ما يأخذه تدريجا معرضا للتلف، وأما لو كان دفعة واحدة يؤدي الجميع لا يتلف بل يصرفه في مصارفه، مثلا لو كان عليه ثمن مبيع اشترى فلو أدى الجميع دفعة واحدة يسد به دينه ويعطي ثمن ذلك المبيع ولا يبقى للبائع خيار تأخير الثمن، وأما لو لم يحصل دفعة واحدة فيبقى مجال لذلك الخيار. وهناك إضرار أخر ربما تترتب على وجوب أخذ ما يعطي المقترض بالتفريق غير مخفية على الفقيه المتتبع. فرع: المشهور عدم جواز المضاربة بالدين قبل قبضه، وتعين كونه ملكا للمقترض مضاربة، فلو أقرضه مائة دينار فلا يصح جعلها مضاربة عند المقرض قبل أن يقبضها المقترض، وقال في الجواهر: بلا خلاف أجده، 1 وادعى بعضهم الإجماع على عدم الجواز. ووجه عدم الجواز هو أنه يشترط في صحة المضاربة بمال أمور: منها: أن يكون رأس المال عينا معينا، فلا يصح المضاربة على المنفعة، ولا على العين المرددة، ولا على الكلي قبل تعيينه وتطبيقه على الخارج، فل يصح على الدين الذي في الذمة قبل قبضه، لان الدين الذي في الذمة كلي لا يتعين إل بالقبض و تطبيقه على الخارج، ولها شروط أخر لا ربط لها بما نحن فيه. فالكلي في الذمة وإن
(هامش)
(1) جواهر الكلام ج 25 ص 48 كتاب التجارة، هل يصح المضاربة بالدين قبل قبضه؟ (*)
كان ملكا للمالك في ذمة الغير لكن صرف هذا لا يكفي في صحة المضاربة كما هو مقرر في محله. فالمضاربة حيث أنها تحتاج إلى تعيين رأس المال لا تقع بالدين، لأنه كلي ل تعين فيه، بل قابل للانطباق على كثيرين. وأما فرض التعيين فيه مثل أن يشتري من الدائن بهذه المائة دينار شخصي فخروج عن الفرض لعدم كونه دينا وكليا في الذمة، يل يكون عينا خارجيا أمانة عند ذاك. هذا مضافا إلى ورود رواية عن أبي عبد الله عليه السلام رواها السكوني أنه قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام في رجل له على رجل مال فيتقاضاه، ولا يكون عنده ما يقضيه فيقول: هو عندك مضاربة، قال عليه السلام: لا يصلح حتى يقبضه منه 1. فهذه الرواية صريحة في عدم جواز جعل الدين الذي هو أحد قسمي القرض بالمعنى الأعم مضاربة، لا لعدم كونه ملكا، بل لعدم تعيينه، وعلى فرض كون الرواية ضعيفة من حيث السند منجبر ضعفها بعمل الأصحاب، بل ادعى بعضهم كما في الجواهر عن التذكرة ظهور الإجماع على ذلك، 2 قال في التذكرة: فإذا ثبت هذا فلو فعل فالربح بأجمعه للمديون إن كان هو العامل، وإلا فللمالك وعليه الأجرة 3. والظاهر أن مراده من هذه العبارة أنه بعد ما ثبت بطلان تلك المضاربة، إما لأجل عدم تعيين رأس المال لان الدين كلي في الذمة، وإما لأجل الرواية المتقدمة التي عمل بها الأصحاب، فحينئذ إن عمل المديون واتجر بذلك الدين بنفسه ومباشرته ربح في عمله، فجميع الربح مثل رأس المال الذي هو عبارة عن الدين
(هامش)
(1) الكافي ج 5 ص 240 باب ضمان المضاربة وماله من الربح وما عليه من الوضعية، ح 4، تهذيب الأحكام ج 6 ص 195 ح 428، في الديون وأحكامها ح 53، وسائل الشيعة ج 13 ص 187 كتاب المضاربة في أحكام المضاربة باب 155 ح 1. (2) جواهر الكلام ج 25 ص 48 هلل يصح المضاربة بالدين قبل القبض، تذكرة الفقهاء ج 2 ص 3، كتاب الدين. (3) تذكرة الفقهاء ج 2 ص 3 كتاب الدين. (*)
الذي في ذمته يكون للمديون، وذلك لان مقدار الدين عمل به المديون باق على ملكه ولم يصر ملكا للدائن لعدم قبضه، فالمديون عمل في ملكه وربح، فالأصل والفرع - أي رأس المال وربحه - كله له. وأما لو عين عاملا هو أو الدائن ضارب مع شخص آخر غير المديون، فحيث أن ذلك الشخص يكون وكيلا عن قبل الدائن في قبض الدين والعمل به، ولكن لما كان المفروض بطلان مضاربته لعدم التعيين أو للرواية، فيكون جميع الربح للمالك الدائن ويكون عليه أجرة المثل لعمل العامل، لان المضاربة وإن كانت فاسدة ولكن عمل المسلم محترم وقد عمل بإذنه، فعليه أجرة مثله. هذا ما يستظهر من عبارة التذكرة في المقام، ولكن التحقيق أن يقال: إن قلنا بأنه للمديون تطبيق الدين الكلي على عين خارجي، فيصير تلك العين الخارجية ملكا للدائن، فبعد أن طبق المديون يصير ذلك الخارج ملكا للدائن، فيكون عمل المديون في ملك الدائن. ولا ينافي ذلك بطلان المضاربة، لعدم التعيين أو للنص، لان المضاربة أنشأت قبل التعيين فتكون باطلة، ولكن العمل حيث أنه بعد التعيين فيكون جميع الربح للمالك - أي الدائن - وعليه أجرة مثل عمل العامل إن كان بإذنه كما هو المفروض في المقام. اللهم إلا إن يقال: إن إذن المالك الدائن كان بعنوان المضاربة، والمفروض أنه لم تقع، فلا إذن في البين، فلا يستحق المديون العامل لا حصة من الربح لبطلان المضاربة، ولا أجرة مثل عمله لعدم كونه مأذونا في العمل. ولكن يمكن أن يقال: باستحقاقه للأجر بقاعدة كل يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، ولاشك في أن العامل يستحق الأجر في المضاربة الصحيحة، غاية الأمر عينا أجرة برضائهما بحصة من الربح، وفي المضاربة الفاسدة أيضا بناء على تمامية هذه القاعدة يستحق الأجر، ولما لم يكن في الفاسدة مسمى في البين لبطلانها فلابد
وأن يكون له الأجر الواقعي، أي أجرة المثل. هذا إذا كان العامل هو نفس المديون، وأما إذا كان غيره، فإذا كان بتعيين المديون - وحيث أن المضاربة باطلة لو كان المديون ضارب معه - فلا يستحق شيئا على الدائن الذي هو المالك، لعدم صدور إذن من قبله في حق هذا العامل. نعم يكون مغرورا من قبل المديون لو كان جاهلا، فيرجع إلى المديون ويأخذ أجرة عمله. وأما إذا كان بتعيين الدائن للعمل أو المضاربة معه، فهذ يرجع إلى جعله وكيلا في قبضه، وأن يتجر في ماله، فيستحق الحصة التي عينت له بعنوان المضاربة، وتكون مضاربته صحيحة بناء على عدم شمول الرواية لمثل هذه الصورة وانصرافها عنها. تذنيب ذكر الفقهاء في كتاب الدين مسألة دين العبد، وتعرضوا لصوره وفروعه الكثيرة. وقد ذكر في التذكرة له فروعا كثيرة، وجعل مسألة مداينة العبد وباقي معاملاته وتجاراته ثلاثة أقسام، وقال: العبد إما أن يأذن له مولاه في الاستدانة أولا، والثاني إما مأذون في التجارة أم لا، فجعل الأقسام ثلاثة: الأول: غير المأذون في الاستدانة ولا في التجارة. الثاني: المأذون في الاستدانة فقط. الثالث: المأذون في التجارة فقط 1. وهاهنا قسم رابع، وهو أن يكون في كليهما مأذونا، وهو أهمله ولم يذكره. ثم
(هامش)
(1) تذكرة الفقهاء ج 2 ص 7. (*)
ذكر لكل واحد من الأقسام الثلاثة فروعا كثيرة. أقول: قد وقع الخلاف بين الأصحاب في أن العبد يملك أو لا، ونذكر ما هو الصواب عندنا أنه يملك أو لا يملك، وليس هاهن محل البحث عنه والنقض والإبرام في أدلة الطرفين، ويأتي في بعض الفروع الآتية ما هو الحق وينبغي الذهاب إليه والاعتراف به إن شاء الله تعالى، ونذكر أدلة الطرفين. ولكن على كل حال هو لا يقدر على شيء من التصرفات - وإن قلنا بأنه يملك - حتى في بدنه في غير الضروريات وما لابد منه في تعيشه بدون إذن سيده ومولاه، لأنه محجور عليه بنص الكتاب المبين، وصريح الروايات الواردة عن الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين. ففي رواية أبي خديجة في الكتب الثلاثة: الكافي، والتهذيب، والفقيه قال: سأله ذريح عن المملوك يأخذ اللقطة؟ قال عليه السلام: وما للمملوك واللقطة، والمملوك لا يملك من نفسه شيئ 1. والروايات بهذا المضمون كثيرة، فإن لم يكن مأذونا من قبل سيده في الاستدانة ويدري الدائن بذلك، فهو الذي أقدم في إتلاف ماله وليس لماله احترام، كما أنه يكون الحال كذلك بالنسبة إلى سائر معاملاته لو كان يدري الطرف بأنه غير مأذونة في التجارة. ولا بأس بأن يقال في مثل هذه الموارد: ذمة العبد مشغولة لأدلة الضمان، فإن أعتق وصار ذا مال يؤخذ منه، وإلا يستسعى. وعلى كل حال يتبع به. وأما القول باستسعائه حال الرق يرجع إلى خسارة المولى بلا وجه وجيه،
(هامش)
(1) الكافي ج 5 ص 309 باب النوادر من كتاب المعيشة ح 23، الفقيه ج 3 ص 249 ح 4054، باب اللقطة والضالة ح 8، تهذيب الأحكام ج 6 ص 1197، في اللقطة والضالة ح 37، وسائل الشيعة ج 17 ص 370 أبواب اللقطة باب 20 ح 1. (*)
مضافا إلى دلالة رواية أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام على عدم شيء على المولى إن لم يأذن له في الاستدانة، قال: قلت له: رجل يأذن لمملوكه في التجارة فيصير دين عليه قال عليه السلام: إن كان أذن له أن يستدين فالدين على مولاه، وإن لم يكن أذن له أن يستدين فلا شيء على المولى ولا يستسعى العبد في الدين 1. إن قلت: إن هذه الجملة - أي ويستسعى العبد في الدين - تدل على وجوب السعي. قلنا: إنه لابد من حمل الجملة الأخيرة ويستسعى العبد في الدين بقرينة قوله عليه السلام ولا شيء على المولى إما على ما أعتق، وكان مأذونا في السعي لنفسه، أو غير ذلك مما لا ينافي مع قوله عليه السلام لا شيء على المولى . فلا يمكن أن يقال: إن هذه الرواية تدل على وجوب سعي العبد في أداء دينه في حال كونه رقا، لأنه مناقض لقوله عليه السلام فل شيء عليه فلابد من التوجيه. هذا فيما إذا لم يأذن له لا في الاستدانة ولا في التجارة، وأما لو أذن له في كليهما - أي في الاستدانة والتجارة - فلا إشكال في لزوم أداء الدين على مولاه، لما رواه أبو بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: الرجل يأذن لمملوكه في التجارة فيصير عليه دين، قال عليه السلام: إن كان أذن له أن يستدين فالدين على مولاه، وإن لم يكن أذن له أن يستدين فلا شيء على المولى ويستسعى العبد في الدين . فظهر مما ذكرنا أنه لو لم يأذن السيد لا في التجارة ول في الاستدانة فليس عليه شيء أصلا، وإن أذن في كليهما فعليه أداء الدين، وإن أذن في التجارة دون الاستدانة فيستسعى المملوك لأداء الدين.
(هامش)
(1) الكافي ج 5 ص 303 باب المملوك يتجر فيقع عليه الدين ح 3، تهذيب الأحكام ج 6 ص 200، ح 445، في القرض وأحكامه ح 70، الاستبصار ج 3 ص 11 ح 31 باب المملوك يقع عليه الدين ح 3، وسائل الشيعة ج 13 ص 118 كتاب التجارة أبواب الدين والقرض باب 31 ح 1. (*)
ووجوب السعي في أداء دينه وإن كان خسارة على مالك العبد، ولكن ذلك من لوازم إذنه له في التجارة لان التجارة كما أنه قد تربح كذلك قد تخسر، ولاشك في أن إتلاف مال الغير يوجب الضمان فإنه له في التجارة ملازم مع الإذن في صيرورته ضامنا، وخلاص عهدته عن الضمان لا طريق له إلا بأحد أمرين: إما أداؤه من كيسه، أو يسعى العبد نفسه للأداء، ولاشك في أنه لا ملزم للأول. هذا، مضافا إلى صراحة رواية أبي بصير المتقدمة في ذلك. ثم إنه ذكر في الشرائع هاهنا فرعان [ الفرع ] الأول: إذا اقترض أو اشترى بغير إذن كان موقوفا على إذن المولى، فإن أذن، وإلا كان باطلا وتستعاد العين، وإن تلف يتبع بها إذا أعتق فأيسر 1. ووجهه واضح، لان العبد في المفروض يكون مثل الفضولي أجنبي ليس له هذا التصرف، لأنه ليس مالكا لنفسه ولا لأفعاله من عقوده وتجاراته، وهو تصرف في ملك الغير، فيحتاج إلى إذن ذلك الغير الذي هو عبارة عن سيده، فإن أجاز فيكون كسائر المعاملات التي تقع فضولة صحيحا إن أجاز، وإلا فباطل. وأما العين التي اقترضها أو اشتراها تبقى على ملك مالكها الأول فتستعاد إلى صاحبها، وإن وقع عليه التلف يكون العبد ضامنا، إما لقاعدة وعلى اليد وإما لقاعدة الإتلاف لو كان تلفها بإتلافه فقهرا يتبع بها إذا أعتق فأيسر، لأنه لا يجوز مطالبته إلا بعد أن صار حرا ذا يسر. الفرع الثاني: إذا اقترض مالا فأخذه المولى فتلف في يده، كان المقرض بالخيار بين مطالبة المولى، وبين إتباع المملوك إذا أعتق وأيسر.
(هامش)
(1) شرائع الإسلام ج 2 ص 71. (*)
والوجه واضح، لأنه من فروع تعاقب الأيدي على مال الغير، لأنه من قبيل المقبوض بالعقد الفاسد، لان المولى إن لم يجز القرض يكون فاسدا، فكل واحدة من اليدين يد ضمان، فللمقرض المالك الرجوع بأي واحد منهما. فرع: لو ضمن العبد بدون إذن سيده فهل يصح أولا؟ فيه كلام، وهو أنه تصرف في نفسه، فيكون تصرفا في ملك الغير بدون إذنه، وهذا لا يجوز قطعا، فلا يقع الضمان ولا يصح. وربما يقال بأنه تصرف في الذمة وليس تصرفا في العين، وما هو ملك الغير هي العين الموجودة في الخارج كملكية سائر الحيوانات غير الإنسان، فلم يتصرف في ما هو ملك الغير، بل التصرف وقع في أمر اعتباري وهو ذمته، وليس هو ملكا لمولاه، بل اعتبار عقلائي أمضاه الشارع، فلا محذور في ضمانه، ولا يوجب ضيقا على المالك، لأنه مع علم المضمون له بالعبودية يجب عليه الصبر إلى أن يعتق وأيسر، فيأخذ بما هو من لوازم ضمانه، ويرتب على ضمانه آثاره وأحكامه. هذا ما توهم، ولكن الظاهر بل المتعين هو أن يقال: إن عقد الضمان أيض كسائر المعاملات صحته ممنوعة من العبد بدون إذن سيده، وإن جميع عقوده وإيقاعاته تصرف في ملك المولى، وصحته موقوفة على إذن سيده أو إجازته. إلا في خصوص الطلاق فإنه يصح منه وإن كره المولى، بل وإن نهى عنه، لان ظاهر قوله عليه السلام الطلاق بيد من أخذ بالساق هو استقلال الزوج بذلك وعدم مدخلية غيره فيه، فلا يحتاج إلى إذن المولى، كما أنه ليس له إجبار عبده على طلاق امرأته لنفس تلك الرواية. هذا، مضاف إلى أن قوله تعالى عبدا مملوكا لا يقدر على شيء 1 يشمل
(هامش)
(1) النحل 16: 75. (*)
الضمان قطعا، فالإنصاف أن صحة ضمانه بدون إذن سيده في غاية الإشكال. فرع: لاشك في جواز قبول الهبات بإذن سيده وصحتها، وإنما الكلام في جوازها صحتها بدون إذنه وإجازته. قيل: بعدم جوازها بناء على أن كل ما يملكه العبد يكون ملكا لسيده، فيرجع إلى صيرورة السيد مالكا بغير رضاه ورغما عليه، وهذا مما لا يمكن قبوله. وفيه: أن الملك القهري لا مانع من حصوله بدون رضاه. نعم إذا كانت الملكية حصولها موقوف على قصد التملك، كحيازة المباحات، فما لم يقصد لا تحصل الملكية لان قصد التملك برضائه وطيب نفسه من أسباب حصول الملك، وأما فيما نحن فيه، فقصد الملكية تحصل من العبد بقبوله العطايا والهبات، فيصير ملكا للعبد أولا وبالذات، ثم يصير ملكا للمولى، لورود الدليل على أن العبد وما يملكه ملك لمولاه، ولذلك لو خالع زوجته على مال من مهر أو غيره بدون رضاء سيده لما تقدم أنه مستقل في طلاق زوجته، فيصير ما خالع عليه من مهر أو غيره ملكا له، فيصير ملكا لمولاه قهرا ومن دون اختياره ورضائه بذلك الخلع. وخلاصة الكلام: أن ملكية ما ملكه العبد لمولاه حكم شرعي مثل ملكية الوارث ل يملكه مورثه تحصل قهرا بدون توقفه على رضاء الورثة أو السيد، لأنها ليست من الأمور التي تحصل لهما بأسبابها الاختيارية، بل لو كانا غافلين عن وجود مورث وعبد، أو جاهلين بوجودهما تحصل لهما هذه الملكية. اللهم إلا إن يقال: إن العبد ليس له قابلية أن يملك، فلا تحصل له ملكية كي يكون ثانيا وبالعرض ملكا لمولاه، كما لو كان كافر حربيا بناء على عدم قابلية الكافر الحربي والمرتد الفطري لان يتملك ملكا جديدا بعد أن يكون كذلك. ولكن التحقيق: أن كلا الأمرين - أي عدم قابلية العبد للتملك، وعدم قابلية
المرتد الفطري لان يتملك ملكا جديدا - لا أساس لهما. فرع: قال في التذكرة: المشهور بين علمائنا أن العبد لا يملك شيئا، سواء ملكه مولاه شيئا أو لا 1. واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: (عبدا مملوكا لا يقدر على شيء) 2. ولا يصح سلب القدرة عنه بقول مطلق إلا فيما إذا لا يملك، وإلا له القدرة على ماله بأن يهبه، أو يقفه، أو يصرفه في الخيرات، أو غير ذلك. وفيه: أنه لا تنافي بين سلب القدرة وبين كونه مالكا، لإمكان أن يكون محجورا مع كونه مالكا، ولذلك ذكر الفقهاء أن أحد أسباب حجر المالك عن التصرف في ماله هو الرقية. وأيضا استدلوا على أنه لا يملك بقوله تعالى: (هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء) 3. وجه الاستدلال: أن الله تعالى نفى مشاركة مخلوقاته معه في الفاعلية، بأن ضرب مثلا، وهو أنه كما أن العبد للموالي العرفية لاشراكة لهم مع مواليهم فيما يعطون أو يمنعون، كذلك العبيد الحقيقية، أي عباد الله جل وعلا لا شراكة لهم فيما يعطي الله أو يمنع، إذ ليس لهم شيء ولا يقدرون على شيء. وهذا يدل دلالة واضحة على كونهم لا يملكون شيء، وإلا لم يكن سلب القدرة عنهم صحيحة. وبعبارة أخرى: نفى الله سبحانه تساوي عباده معه، وشبه نفيه لذلك بنفي تساوي عبيد عباده مع مواليهم العرفية. وهذا لا يستقيم مع كونهم مالكين. وفيه: ما تقدم إن المنفي هو تسلطهم على التصرفات وأنهم مثل الصبيان
(هامش)
(1) تذكرة الفقهاء ج 2 ص 8. (2) النحل 16: 75. (3) الروم 30: 28. (*)
والمجانين محجور عليهم، وهذا المقدار من التساوي يكفي في التشبيه والتمثيل. وحاصل ما قلنا: أن الظاهر هو نفي الشريك له تعالى في الفاعلية، فكما أن العبيد العرفية ليسوا شركاء لمواليهم، وأنتم لا ترضون بكونهم شركاء لكم في تصرفاتكم وشؤونكم، فكذلك يجب عليكم أن لا ترضون بكون هذه المخلوقات التي أنتم تنحتونها وتعبدونها شركاء لله الواحد القهار. وهذا المعنى أجنبي عن عدم كون العبيد قابلين لان يملكوا ولو بكسبهم مع إذن المولى بذلك، أو أرش الجنايات، أو فاضل الضريبة، أو عوض طلاق الخلع. وخلاصة الكلام: أن مدلول الآية الشريفة أجنبي عما يدعون من عدم كون العبد قابلا للامتلاك. وأما دعوى الإجماع على أنه لا يملك لا عينا ولا منفعة، لا مستقرا ولا متزلزلا مطلق سواء ملكه المولى أو غيره، وأيضا لافرق بين أن يكون المملوك فاضل الضريبة، أو عوض الخلع، أو أرش الجناية أو غيرها. ففيه: أن هذه الدعوى مع ذهاب الأكثر إلى خلافه وأنه يملك، خصوصا في بعض المذكورات كفاضل الضريبة، وعوض طلاق الخلع، وفيما ملكه مولاه، وقال في المسالك: القول بالملك في الجملة للأكثر 1، فهذا الإجماع المدعى في المقام لا يخلو من وهن. مضافا إلى أن الطرفين يستدلون بأدلة أخرى في المقام، فليس من الإجماع المصطلح الذي قلنا في الاصول بحجيته 2. وأما ما قالوا بأن مالكيته لغيره فرع مالكيته لنفسه، فإذا لم يكن سلطانا على نفسه كيف يكون سلطانا على غيره. فكلام شعري، لان جميع الناس ليسوا مالكين
(هامش)
(1) مسالك الإفهام ج 1 ص 178. (2) منتهى الاصول ج 2 ص 88 في حجية الإجماع المنقول. (*)
لذبح أنفسهم، ولكن كل من كان مالكا لحيوان مأكول اللحم مالك لذبحه وأكله. وما قيل: إن كسبه وانتفاعاته التي تحصل من كسبه من منافع ملك المولى، فتكون للمولى، لان منافع الملك للمالك وتابعة للعين. ففيه: أن الملكية من الاعتبارات العقلانية التي أمضاها الشارع في بعض الأشياء وفي بعض المقامات، والعقلاء يعتبرون ملكية المنافع لمالك العين فيما إذا لم يكن العين قابلا لان يتملك، كما إذا كانت من الجمادات أو النباتات أو الحيوانات العديمة الشعور، وأما إذا كانت إنسانا عاقلا شاعرا فيرون منافعه لنفس ذلك الإنسان، بل يرون من ينتزع عنه فوائد أعماله وأفعاله الاختيارية التي أتعب نفسه في تحصيلها ظالما له وغاصبا، إلا أن يأتي الدليل على تشريع إلهي على أنه يجب عليه أن يعطى فوائد عمله لشخص آخر، أو يأتي الدليل على أن فوائد عمله يصير ملكا لشخص آخر لوجود مصلحة في هذا الجعل، أو في هذا المجعول وإن كانت خفية علين. وأما ما رواه محمد بن إسماعيل، في الصحيح، عن الرضا عليه السلام سألته عن رجل يأخذ من أم ولده شيئا وهبه لها بغير طيب نفسها من خدم، أو متاع، أيجوز ذلك؟ قال: نعم إذا كانت أم ولده 1. وفيه: أن جواز أخذ المولى منها لا ينافي كونها مالكة لها، لان للمولى منع عبده أو أمته من التصرف في مالها وحجره عنه، فأخذ المولى قهرا عنه لا يدل على عدم مالكيته. وما عن المختلف 2 من أنه لو ملك لما جاز أخذ المولى منه قهرا مع أنه يجوز
(هامش)
(1) تهذيب الأحكام ج 8 ص 206 ح 729، في السراري وملك الإيمان، ح 25، وسائل الشيعة ج 13، ص 342 كتاب الهبات، في أحكام الهبات باب 10 ح 2. (2) مختلف الشيعة ج 8 ص 44، العتق وتوابعه، المقام الثاني. (*)
إجماعا محصلا ومنقولا، لا أساس له، لان الصبي أو السفيه مالك لأمواله يقينا، ويجوز أخذ الولي منهما قهرا أيضا يقينا، فجواز الأخذ قهرا لا يلازم عدم كونه مالكا، وهذ واضح. هذا، مضافا إلى أن الهبة إلى غير ذي الرحم جائزة يجوز أخذها من الموهوب له م دامت العين باقية كما في المقام. هذا، مضافا إلى أن الخدم في البيت مع أمتعة البيت لا يكون ملكا لربة البيت وإن كانت زوجة حرة دائمة، فضلا عن أن تكون أمة، غاية الأمر أنها صارت أم ولد من صاحب البيت، وليس قول الراوي وهبه له هبة اصطلاحية بمعنى تمليكه لها مجانا وبلا عوض، بل المراد أنه جعل تحت يدها الخدم وأمتعة البيت، وكأن المالك هاج به فرحه من صيرورتها ذات ولد، فجعل تحت اختيارها الخدم والامتعة، وبعد مدة سكن هياج ذلك الفرح فأخذها منها، لأنه لم يخرج عن ملكه. وأيضا استدلوا لعدم كون العبد مالكا لما في يده وأنه لم يملك بما رواه الجمهور عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع 1. فيدل الحديث على أن العبد لا يملك، لأنه لو ملك لما كان وجه لكونه للبائع. وفيه: أول عدم ثبوت مثل هذا الحديث، وثانيا: أنه معارض بما رووه أيضا صلى الله عليه وآله قال: من باع عبدا وله مال فما له للعبد إلا أن يستثني السيد 2. فظهر مما ذكرنا أن إطلاقات أدلة العطايا والهبات وسائر المعاملات وأرش
(هامش)
(1) أمالي الطوسي ج 1 ص 397، وسائل الشيعة ج 13 ص 33، كتاب التجارة أبواب بيع الحيوان، باب 7 ح 5. (2) مجمع الزوائد ج 4 ص 106، باب فيمن باع عبدا وله مال أو نحلا مؤبرة، والحديث فيه: من باع عبدا وله مال فله ماله وعليه دينه إلا أن يشترط المبتاع. (*)
الجنايات لا يصح تخصيصها بمثل هذه المذكورات، فمقتضى الأدلةالعامة المملكة عدم الفرق بين الحر والعبد في صيرورة المال ملكا له، غاية الأمر للمولى منع العبد عن التصرف في أمواله، وأن العبودية أحد أسباب الحجر، وأن المراد من قوله تعالى (ل يقدر على شيء) عدم استقلاله في شيء من تصرفاته، وأنها لا تنفذ بدون إذن سيده، وإن ادعى بعضهم من بعض موارد استدلال الإمام عليه السلام بهذه الآية نفي ملكية العبد، كصحيح محمد بن مسلم، سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل ينكح أمته من رجل، أيفرق بينهما إذا شاء؟ فقال: إن كان مملوكه فليفرق بينهما إذا شاء، إن الله تعالى يقول: (عبدا مملوكا لا يقدر على شيء) 1. فليس للعبد شيء من الأمر 2. فهذا يدل بعمومه على نفي الملكية أيضا، فقوله عليه السلام ليس للعبد شيء من الأمر لا يلائم مع ثبوت الملكية له، لان الملكية لو ثبتت له لكان له شيء، فإن الملكية شيء وأي شيء، والإمام عليه السلام يستدل على كون شيء له بهذه الجملة، أي جملة (لا يقدر على شيء). ولكن أنت خبير بأنه لو كان كلامه تعالى ليس له شيء كان لهذا الكلام مجال، لان المال والملك شيء يقينا، ولكنه تعالى قال (لا يقدر على شيء)، ومن الواضح الجلي أن عدم التسلط على التصرف في الشيء غير عدم نفس الشيء، ومفاد الآية هو الأول والمدعى هو الثاني. وأما كلامه عليه السلام أيضا ليس نفي الشيء كي يشمل بعمومه الملكية، بل يقول عليه السلام ليس للعبد شيء من الأمر ، وهذه العبارة ظاهرة في نفي التصرف، لا نفي أصل الشيء.
(هامش)
(1) النحل 16: 75. (2) تهذيب الأحكام ج 7 ص 340 ح 1392، في العقود على الإماء وم يحل من النكاح بملك اليمين، ح 23، الاستبصار ج 3 ص 207 ح 749، في أن المملوك إذ كان متزوجا بحره كان الطلاق بيده، ح 10، وسائل الشيعة ج 14 ص 575 كتاب النكاح أبواب نكاح العبيد والإماء باب 64 ح 8. (*)
هذا كله كان في بيان الأدلة على نفي ملكية العبد، وقد عرفت أنها ليست بحيث يمكن أن تخصص بها العمومات والاطلاقات. وأما الأدلة على ثبوت الملكية لهم فعمدتها العمومات والاطلاقات التي لأدلة المعاملات والهبات والعطايا والوصايا، حيث أنها تشمل العبيد كالأحرار، مع عدم وجود مخصص لها يعتد به. وأيضا الأخبار الخاصة الواردة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام الظاهرة في ثبوت الملكية لهم. منها: ما رواه في الكافي، بإسناده عن عمر بن يزيد قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل أراد أن يعتق مملوكا له، وقد كان مولاه يأخذ منه ضريبة فرضها عليه في كل سنة، فرضي بذلك فأصاب المملوك في تجارته مالا سوى ما كان يعطي مولاه من الضريبة؟ قال: فقال عليه السلام إذا أدى إلى سيده ما كان فرض عليه، فما اكتسب بعد الفريضة فهو للمملوك . ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: أليس قد فرض الله على العباد فرائض، فإذا أدوها إليه لم يسألهم عما سواه . قلت: فللمملوك أن يتصدق مما اكتسب ويعتق بعد الفريضة التي كان يؤديها إلى سيده؟ قال: نعم وأجر ذلك له . قلت: فإن اعتق مملوكا مما كان اكتسب سوى الفريضة لمن يكون ولاء المعتق؟ فقال: يذهب فيتولى إلى من أحب، فإذا ضمن جريرته وعقله كان مولاه وورثه . قلت له: أليس قال رسول الله صلى الله عليه وآله الولاء لمن أعتق ؟ فقال: هذا سائبة لا يكون ولاؤه لعبد مثله . قلت: فإن ضمن العبد الذي أعتقه جريرته وحدثه يلزمه ذلك ويكون مولاه ويرثه؟ فقال: لا يجوز ذلك لا يرث عبد حر 1. ومنها: ما رواه الصدوق عليه الرحمة، بإسناده عن إسحاق بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما تقول في رجل يهب لعبده ألف درهم، أو أقل، أو أكثر فيقول حللني من ضربي إياك ومن كل ما كان مني إليك وما أخفتك وأرهبتك، فيحلله
(هامش)
(1) الكافي ج 6 ص 190 باب المملوك يعتق وله مال، ح 1، وسائل الشيعة ج 13 ص 34، كتاب التجارة أبواب بيع الحيوان باب 9 ح 1. (*)
ويجعله في حل رغبة فيما أعطاه، ثم إن المولى بعد أصاب الدراهم التي أعطاه في موضع قد وضعها فيه العبد فأخذها المولى أحلال هي؟ فقال: لا . فقلت له: أليس العبد وماله لمولاه؟ فقال: ليس هذا ذاك . ثم قال عليه السلام: قل له فليردها عليه، فإنه لا يحل له، فإنه افتدى به نفسه من العبد مخافة العقوبة والقصاص يوم القيامة الحديث 1. وهاتان الروايتان صريحتان في أن العبد يملك، فالأحسن ما قاله المحقق في الشرائع في باب بيع الحيوان: ولو قيل يملك مطلقا لكنه محجور عليه بالرق حتى يأذن له المولى كان حسنا 2. والمراد بقوله مطلق هو مقابل التفصيلات التي ذكروها في المسألة، مثل حصول الملكية له لكن في خصوص ما يعطيه المولى، أو في خصوص أرش الجنايات، أو في خصوص فاضل الضريبة، أو في خصوص عوض الخلع، أو غير ذلك. ثم إن ثمرة القولين - أي القول بأن العبد يملك والقول بأنه لا يملك والقول بأنه لا يملك مع أنه بناء على القول الأول أيضا ليس له التصرف بدون إذن مولاه، لأنه محجور وإن كان مالك - أمور: الأول: أنه بناء على القول بملكية العبد فذلك المال ليس له زكاة، وإن كان من الأجناس الزكوية، أي من الأنعام الثلاثة، أو الغلات الأربعة، أو من النقدين أي الذهب والفضة المسكوكين، أما على العبد فلأنه ممنوع عن التصرف، لأنه محجور مثل المالك غير البالغ، فلا زكاة عليه لفقد الشرط، وهو كون المالك يجوز له التصرفات وكان الملك تام الملكية، أي يكون المالك متمكنا من التصرف، والعبد
(هامش)
(1) الفقيه ج 3 ص 232 ح 3800 باب المضاربة ح 14، وسائل الشيعة ج 13 ص 35 كتاب التجارة أبواب بيع الحيوان باب 9 ح 3. (2) شرائع الإسلام ج 2 ص 58. (*)
ليس كذلك فليس في ملكه زكاة، وأما المولى فليس عليه زكاة، لأنه ليس بمالك على الفرض. الثاني: أنه لو كان ما استفاده من كسبه المأذون فيه جارية، فعلى القول بأنه يملك يجوز له وطيها، وعلى القول بالعدم لا يجوز، لأنه لا وطي إلا في الملك على فرض عدم تزويج من قبل المولى، وأيضا عدم تحليل أو عدم تأثيره وإن كان. الثالث: في مورد وجوب الكفارة، أو ذبح الهدي للمالك الواجد، وإن كان فقيرا لا يتمكن فعليه الصوم كذ أيام، فإن قلنا بأنه يملك فعليه الكفارة التي عينت من قبل الشارع من الأموال، وإن قلنا إنه لا يملك ولم يتبرع المولى فعليه الصوم الذي جعله الشارع بدلا عنها. وموارد أخرى كثيرة غير خفية على الفقيه المتتبع، والضابط أن كل تكليف مالي كان متوجها إلى من له المال، إن قلنا بأنه يملك يتوجه إليه مع وجود سائر الشرائط، وعلى القول بأنه لا يملك فلا يتوجه إليه تكليف أصلا، أو ينتقل إلى بدله إن كان له بدل. فرع: قال في الشرائع بعد ذكره مسألة أن العبد يملك أولا: من اشترى عبدا له مال كان ماله لمولاه إلا أن يشترطه المشتري 1. والظاهر أن المراد بالاستثناء هو أن المشتري اشترط على بائع العبد انتقال أمواله إليه أيضا، وهذا الشرط صحيح ونافذ إذا كان انتقال أموال العبد ونقلها بيد مولاه كي يكون الشرط مقدورا لمولاه البائع، لان من شرائط صحة الشروط أن يكون الشرط مقدورا للمشروط عليه، وإلا يكون الالتزام به لغوا لا أثر له. وكونه مقدورا للمولى في المفروض بأحد أمرين:
(هامش)
(1) شرائع الإسلام ج 2 ص 58. (*)
إما بأن يكون مال العبد لمولاه حقيقة ولا يكون ملكا للعبد، والإضافة إليه لأجل حصوله للمولى بواسطته. ويكفي في الإضافة أدنى ملابسة فضلا من أن يكون حصوله بسببه، فالشرط حينئذ مقدور للبائع، لأنه له أن يعطي مال العبد الذي هو ماله حقيقة للمشتري، سواء جعله في مقام البيع جزءا للمبيع، أو التزم في ضمن المعاملة بإعطائه له. وإم أن يكون للمولى شرعا السلطنة على مال العبد بالنقل والانتقال، سواء رضي العبد بذلك أو لم يرض. ومن الواضح الجلي أنه عند فقد كلا الأمرين لا أثر لهذا الاشتراط، بل يكون مال العبد باقيا على ملكه بعد أن باعه مولاه. نعم لو كان الحكم الشرعي هو أن ملكية مال العبد تابعة لملكية نفسه، فيكون للمشتري قهرا، ويكون هذا الاشتراط لغو. هذا بحسب القواعد الأولية، ولكن في المسألة وردت روايات: منها: ما رواه محمد بن مسلم، عن أحدهما قال: سألته عن رجل باع مملوكا فوجد له مالا. قال: فقال: المال للبائع، إنما باع نفسه، إلا أن يكون شرط عليه أن ما كان له مال أو متاع فهو له 1. وهذه الرواية لها ظهور ما في أن مال العبد لمولاه، فله أن ينقل إلى آخر جزءا للمبيع أو شرطا، ولكن ليس قابلا للمعارضة مع الأدلة الدالة على أنه يملك، لاحتمال أن يكون نفوذ شرطه من جهة أن الشارع جعل المولى سلطانا على جميع التصرفات في مال عبده من دون أن يكون ماله ماله، فلا يمكن إن تكون مخصصة للمطلقات الكثيرة التي تدل على أنه يملك.
(هامش)
(1) الكافي ج 5 ص 213 باب المملوك يباع وله مال، ح 2، تهذيب الأحكام ج 7 ص 71 ح 306، في ابتياع الحيوان، ح 20، وسائل الشيعة ج 13 ص 32 كتاب التجارة أبواب بيع الحيوان باب 7 ح 1. (*)
ومنها: ما عن جميل بن دراج، عن زرارة قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الرجل يشتري المملوك وله مال لمن ماله؟ فقال عليه السلام: إن كان علم البائع أن له مال فهو للمشتري، وإن لم يكن علم فهو للبائع 1. وهذه الرواية التي فرق الإمام عليه السلام بين علم البائع وعدمه ظاهرة في أن في صورة علم البائع يكون نقل مال العبد إلى المشتري من قبيل الشرط الضمني، وأما في صورة عدم علمه فلا شرط في البين، فيبقى مال العبد ملكا للبائع بناء على أن العبد لا يملك، وتحت سلطانه بناء على الاحتمال الآخر الذي بيناه. ومنها: ما عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع 2. ومضمون الحديث وتوجيهه كما تقدم في الروايات المتقدمة. نعم يبقى كلام، وهو أن صرف علم البائع بأن للعبد مال يكون بمنزلة الاشتراط الضمني، بمعنى أن البائع التزم في ضمن عقد البيع بأن يكون مال العبد أيضا منتقلا إلى المشتري مع عدم قصد ذلك وعدم إنشاء مثل هذا المعنى، بل من الممكن أن يكون في عالم اللب أيضا غير قاصد لانتقال مال العبد إلى المشتري، وليس دال في البين يكون حجة في كشف مراد البائع وأنه في ضمن وقوع المعاملة قصد انتقال مال العبد أيضا كنفسه إلى المشتري، بل الاصول العملية في مثل المقام تجري وتفيد بقاء ملكية العبد على تقدير أن يملك وبقاء ملكية المولى أو سلطنته على تقدير عدم الملك. فالانتقال إلى المشتري لا وجه له على كل حال. هذا مع أن صرف كونه مقصودا ومرادا واقعيا لا أثر له في أبواب المعاملات،
(هامش)
(1) الكافي ج 5 ص 213، باب المملوك يباع وله مال ح 1، الفقيه ج 3 ص 220 ح 3816، شراء الرقيق و أحكامه ح 45، وسائل الشيعة ج 13 ص 32 كتاب التجارة أبواب بيع الحيوان باب 7 ح 2، تهذيب الأحكام ج 7 ص 71 ح 307، في ابتياع الحيوان ح 21. (2) تقدم ص 303، هامش 1. (*)
بل لابد وأن تبرز تحت الإنشاء كي يصدق النقل والانتقال في عالم الاعتبار التشريعي. وأما مسألة العقود تابعة للقصود فمعناه أن الإنشاء بلا قصد لا أثر له، لان التمليك بعوض وكذلك التملك بعوض من الأفعال الاختيارية لابد فيها من القصد والاختيار، فيحتاج النقل والانتقال إلى أمرين، وبفقد كل واحد منهما لا يتم النقل، وهما الإنشاء والقصد. وفي المفروض على فرض أن يكون القصد حاصلا حيث أن الإنشاء كم هو المفروض لم يحصل، فلا ينتقل المال إلى المشتري، سواء علم أو لم يعلم، فلابد من حمل الرواية المفصلة بين علم البائع وبين عدمه بحمل صورة العلم على الاشتراط، إم صريحا وإما ضمنا بالدلالة الضمنية، لا صرف القصد بدون مبرز وإنشاء أصلا. فرع: لو باع العبد وماله بحيث كان المبيع مركبا من الاثنين - أي نفسه وماله جميعا - مثل أن يقول: بعتك هذا العبد مع ماله الذي هو ألف درهم بكذا مقدار من الدراهم، أو بكذ مقدار من الدنانير، أو بمال آخر من جنس آخر فإن كان الثمن من غير جنس مال العبد فلا إشكال، لان المعاوضة تقع بين جنسين، ولا يكون ربا في البين، وأما إن كان الثمن من جنس مال العبد وكان مما يدخل فيه الربا - أي كان مكيلا أو موزونا، ولم يكن البائع والمشتري ممن يجوز الربا في حقهم - فلابد وأن يكون الثمن أزيد من مال العبد بمقدار يصح أن يكون مقابل نفس العبد وإن كان قليلا لئلا يصير ربا فتبطل المعاملة. مثلا لو كان مال العبد ألف درهم فباعه مع ذلك المال بألف درهم أو أقل منه، لا يصح مثل هذا البيع، للزوم الربا. وأما لو كان الثمن في المعاملة المفروضة أكثر من ألف درهم، ولو كانت الزيادة على الألف مقدارا قليلا، ولكن المقدار الزائد كان قابل
لوقوعه ثمنا لنفس العبد، ولا يكون بيعه بذلك المقدار سفهيا، فتصح المعاملة ول إشكال فيها. وروى زرارة في الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الرجل يشتري المملوك وماله، قال: لا بأس . قلت: فيكون مال المملوك أكثر مما اشتراه به، قال عليه السلام: لا بأس به 1. ولابد من حمل هذه الرواية إما على أن مال العبد من غير جنس الثمن، أو المبيع نفس العبد وحده، وماله يدخل في ملك المشتري بالاشتراط الخارج عن دخوله في المعاملة، أو يقال ببقاء مال العبد في ملكه وعدم دخوله في ملك المشتري، فيكون الحكم مبنيا على أن العبد يملك كل ذلك للتخلص عن الربا. والمحكي عن الدعائم، عن جعفر بن محمد عليهم السلام: فإن باعه بماله وكان المال عروضا - أي متاعا - وباعه بعين - أي بنقد - فالبيع جائز كان المال ما كان، وكذلك إن كان المال عينا وباعه بعروض، وإن كان المال عينا وباعه بعين مثله لم يجز إلا أن يكون الثمن أكثر من المال، فيكون رقبة العبد بالفاضل، إلا أن يكون المال ورقا والبيع بتبر أو البيع بورق فلا بأس بالتفاضل، لأنه من نوعين 2. والله العالم. فرع: في ما يستحب على الدائن والمديون: أما الأول: فيستحب على الدائن الإرفاق بالمديون، ويكره المبالغة في
(هامش)
(1) الكافي ج 5 ص 213 باب المملوك يباع وله مال ح 3، الفقيه ج 3 ص 220 ح 3817، شراء الرقيق و أحكامه، ح 46، تهذيب الأحكام ج 7 ص 71 ح 305، في ابتياع الحيوان ح 19، وسائل الشيعة ج 13، ص 34 كتاب التجارة أبواب بيع الحيوان باب 8 ح 1. (2) جواهر الكلام ج 24 ص 192 حكى عن الدعائم، دعائم الإسلام ج 2 ص 54 ح 146، ذكر الشروط في البيوع. (*)
الاستقضاء والدقة في الحساب. ويدل عليه ما رواه في الكافي في الفروع، والشيخ في التهذيب، عن حماد بن عثمان قال: دخل رجل على أبي عبد الله عليه السلام فشكى إليه رجل من أصحابه فلم يلبث أن جاء المشكو، فقال أبو عبد الله عليه السلام: ما لفلان يشكوك . فقال: يشكوني، إني استقضيت منه حقي. قال فجلس أبو عبد الله عليه السلام مغضبا ثم قال: كأنك إذا استقضيت حقك لم تسئ، أرأيتك ما حكى الله عز وجل فقال: (ويخافون سوء الحساب) أترى أنهم خافوا الله أن يجوز عليهم، لا والله ما خافوا إل الاستقضاء، فسماه الله عز وجل سوء الحساب، فمن استقضى فقد أساء 1. وقد روي الصدوق هذه الرواية أيضا في معاني الأخبار 2 باختلاف يسير في اللفظ لا يختلف معه المعنى. وأما الثاني: فيستحب على المديون حسن القضاء وإرضاء الغريم المطالب بالأداء والإعطاء أو الملاطفة مع التعذر، ويدل على ذلك ما رواه الصدوق في الفقيه مرسلا قال: قال النبي صلى الله عليه وآله: ليس من غريم ينطلق من عند غريمه راضيا إلا صلت عليه دواب الأرض ونون البحر، وليس من غريم ينطلق صاحبه غضبان وهو ملي إلا كتب الله عز وجل بكل يوم يحسبه وليلة ظلم 3. وأيضا عن الصدوق في الفقيه بإسناده عن جعفر بن محمد، عن آبائه عليهم السلام عن النبي صلى الله عليه وآله في حديث المناهي أنه قال: ومن مطل على ذي حق حقه وهو يقدر على أداء حقه، فعليه كل يوم خطيئة عشار 4.
(هامش)
(1) تقدم ص 214 هامش 2. (2) معاني الأخبار ص 246 ح 1، باب معنى سوء الحساب. وسائل الشيعة ج 13 ص 101 كتاب التجارة أبواب الدين والقرض باب 16 ح 3. (3) الفقيه ج 3 ص 185 ح 3694، الدين والقرض ح 16: وسائل الشيعة ج 13 ص 101 كتاب التجارة أبواب الدين والقرض باب 17 ح 1. (4) الفقيه ج 4 ص 16 ح 4968، المناهي ح 1، وسائل الشيعة ج 13 ص 89 كتاب التجارة أبواب الدين والقرض باب 8 ح 2. (*)
وأيضا قال في الفقيه: ومن ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وآله: مطل الغني ظلم 1. وأيضا روى الحسن بن محمد الطوسي في مجالسه بإسناده عن الصادق وعن الرضا عليهم السلام عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لي الواجد بالدين يحل عقوبته وعرضه ما لم يكن دينه فيما يكره الله عز وجل 2. وأيضا روى الشيخ في التهذيب بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال النبي صلى الله عليه وآله: ألف درهم أقرضها مرتين أحب إلي من أن أتصدق به مرة، وكما لا يحل لغريمك أن يمطلك وهو موسر وكذلك لا يحل لك أن تعسره إذا علمت أنه معسر 3. والروايات الواردة في عدم جواز مطل المدين الموسر وعدم جواز إعسار الدائن المدين المعسر كثيرة في كتب الحديث. ومن جملة ما يستحب على المدين الاقتصاد في المعيشة، وهو الحد الوسط بين الإسراف والتقتير، فالإسراف لا يجوز، لأنه مضافا إلى أنه في حد نفسه منهي عنه ومذموم في الآيات والأخبار، صدوره عن المدين يوجب ضياع حق الدائن، والتقتير لا يجب لما رواه الشيخ في التهذيب بإسناده عن علي بن إسماعيل، عن رجل من أهل الشام أنه سأل أبا الحسن الرضا عليه السلام عن رجل عليه دين قد فدحه وهو يخالط الناس وهو يؤتمن يسعه شراء الفضول من الطعام والشراب فهل يحل له أم لا؟ وهل يحل أن يتطلع من الطعام أم لا يحل له إلا قدر ما يمسك به نفسه ويبلغه؟
(هامش)
(1) الفقيه ج 4 ص 380 ح 5819 باب النوادر، ألفاظ موجزه للنبي صلى الله عليه وآله ح 57، وسائل الشيعة ج 13 ص 90 كتاب التجارة أبواب الدين والقرض باب 8 ح 3. (2) أمالي الطوسي ج 2 ص 134، وسائل الشيعة ج 13 ص 90 كتاب التجارة أبواب الدين والقرض، باب 8 ح 4. (3) تهذيب الأحكام ج 6 ص 192 ح 418، في الديون وأحكامها ح 43، وسائل الشيعة ج 13 ص 90، كتاب التجارة أبواب الدين والقرض باب 8 ح 5. (*)
قال: لا بأس بما أكل 1. وقال في الدروس: ويجب على المديون الاقتصاد في النفقة، ويحرم الإسراف، ولا يجب التقتير وهل يستحب؟ الأقرب ذلك إذا رضي عياله 2. وقوله يجب الاقتصاد في النفقة وجهه ما ذكرنا من أن عدمه يوجب ضياع حق الدائن، أو لما هو ظاهر موثق سماعة قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الرجل منا يكون عنده الشيء يبلغ به وعليه دين أيطعمه عياله يأتي الله عز وجل بميسرة فيقضي دينه، أو يستقرض على ظهره في خبث الزمان وشدة المكاسب، أو يقبل الصدقة؟ قال: يقضي بما عنده دينه، ول يأكل أموال الناس إلا وعنده ما يؤدي إليهم حقوقهم، إن الله عز وجل يقول: (ول تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) 3، ولا يستقرض على ظهره إلا وعنده وفاء، ولو طاف على أبواب الناس فردوه بالتمرة والتمرتين، إلا أن يكون له ولي يقضي دينه من بعده الحديث 4. وذكرنا تفاصيل لهذه المسألة في هذ المقام مع وضوح الأمر من جهة كثرة الابتلاء وعدم الاعتناء، فالأغلب مبتلون بالدين ومع ذلك يسرفون في معيشتهم ويعيشون عيشة الأمراء والمثرين. وقد عبر عن هذه الطائفة في الأخبار تارة باللصوص، وأخرى بالسراق. ومن جملة ما يستحب على الدائن هو الإشهاد على دينه لئلا يضيع بالإنكار، أو بموت المديون وجهل ورثته، وأمثال ذلك مما يوجب ذهاب ماله وضياعه، ولما
(هامش)
(1) تهذيب الأحكام ج 6 ص 194 ح 424، في الديون وأحكامها ح 49، وسائل الشيعة ج 13 ص 115، كتاب التجارة أبواب الدين والقرض باب 27 ح 1. (2) الدروس ج 3 ص 310. (3) النساء 4: 29. (4) تقدم ص 282، هامش 3. (*)
روى في الكافي بإسناده عن عمران بن أبي عاصم قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: أربعة لا تستجاب لهم دعوة: أحدهم رجل كان له مال فأدانه بغير بينة، يقول الله عز وجل ألم آمرك بالشهادة 1. وأيضا روى في فروع الكافي بإسناده عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من ذهب حقه على غير بينة لم يوجر 2. وأيض روى في الكافي عن جعفر بن إبراهيم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أربعة ل تستجاب لهم دعوة: الرجل جالس في بيته يقول اللهم ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالطلب، ورجل كانت له امرأة فدعا عليها فيقال: ألم أجعل أمرها إليك، ورجل كان له مال فأفسده فيقول اللهم ارزقني فيقال له: ألم آمرك بالاقتصاد، ألم آمرك بالإصلاح، ثم قال: (والذين إذا أنفقوا ولم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) 3، ورجل كان له مال فأدانه بغير بينة فيقال له: ألم آمرك بالشهادة 4. فرع: المديون إذا كان معسرا لا يجوز مطالبته ولا حبسه، لقوله تعالى (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) 5، فيجب على الدائن الصبر وانتظار الميسرة، ولا يتعرض له قبل ذلك.
(هامش)
(1) الكافي ج 5 ص 298 باب من أدان ماله بغير بينة ح 1، وسائل الشيعة ج 13 ص 93 كتاب التجارة أبواب الدين والقرض باب 10 ح 1. (2) الكافي ج 5 ص 298 باب من أدان ماله بغير بينة ح 3، وسائل الشيعة ج 13 ص 93 كتاب التجارة، أبواب الدين والقرض باب 10 ح 2. (3) الفرقان 25: 67. (4) الكافي ج 2 ص 370 باب من لا تستجاب دعوته ح 2، وسائل الشيعة ج 4 ص 1159، كتاب الصلاة أبواب الدعاء باب 50 ح 2. والمراد بالأمر بالشهادة ما جاء في قوله تعالى في سورة البقرة 2: 282: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم). (5) البقرة 2: 280. (*)
ولا شك في أن قوله تعالى (فنظره إلى ميسرة) وإن كان جملة اسمية لكنه آكد في الوجوب من الجملة الإنشائية التي مفادها طلب شيء، فالانتظار واجب، والتعرض بالمطالبة أو الحبس أو ملازمته وعدم الانفكاك عنه ضد الانتظار، ويكون موجبا لترك الواجب فل يجوز. ووردت أيضا روايات كثيرة في وجوب أنظار المعسر وعدم جواز إعساره، وقد عقد في الوسائل في كتاب الدين بابا بهذا العنوان 1 وروى روايات متعددة: منها: ما رواه عن الكافي بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام في وصية طويلة كتبها إلى أصحابه قال: وإياكم وإعسار أحد من إخوانكم المسلمين أن تعسروه بشيء يكون لكم قبله وهو معسر، فإن أبانا رسول الله صلى الله عليه وآله كان يقول: ليس لمسلم أن يعسر مسلما، ومن أنظر معسرا أظله الله يوم القيامة بظله يوم لا ظل إلا ظله 2. وظاهر قوله صلى الله عليه وآله ليس لمسلم أن يعسر مسلم . هو حرمة الإعسار ونفي الجواز. فرع: لو ضايق الدائن المعسر وأراد أن يحسبه بأن يرفع أمره إلى الحاكم، ولا يمكن للمديون ولا طريق له لإثبات أنه معسر، خصوصا فيما إذا كان سابقا موسرا واستصحاب اليسار موجود فينجر أمره إلى الحبس، فهل يجوز لدفع الضرر عن نفسه إنكار الدين مع علمه بأنه مديون، وهل يجوز له أن يحلف على عدم كونه مديونا مع أنه يدري بأنه مديون، أم لا؟ وعلى تقدير جواز الحلف هل يجب عليه التورية، أو يجوز الحلف كاذبا بدون التورية؟
(هامش)
(1) وسائل الشيعة ج 13 ص 113 كتاب التجارة أبواب الدين والقرض باب 25. (2) الكافي ج 8 ص 9 رسالة أبي عبد الله عليه السلام إلى جماعة الشيعة ح 1، وسائل الشيعة ج 13 ص 113، كتاب التجارة أبواب الدين والقرض باب 25 ح 1. (*)
الظاهر جوازه مع التورية. أما جواز الحلف كاذبا فلان الحلف كاذبا لمصلحة خصوصا إذ كان لدفع الضرر عن نفسه، أو عن عرضه، أو عن نفس غيره، أو عرض ذلك الغير جائز ول بأس به، بل ربما يكون واجبا، خصوصا فيما إذا كان حفظ نفس محترمة متوقفا عليه. روى زرارة عن أبي جعفر الباقر عليه السلام: إنا نمر بالمال على العشارين فيطلبون منا أن نحلف لهم ويخلفون سبيلنا ولا يرضون منا إلا بذلك، فقال عليه السلام: احلف لهم فهو أحلى من التمر والزبد 1. وعن الفقيه قال: وقال الصادق عليه السلام: اليمين على وجهين - إلى أن قال - فأما الذي يؤجر عليها الرجل إذا حلف كاذبا ولم تلزمه الكفارة فهو أن يحلف الرجل في خلاص امرئ مسلم، أو خلاص ماله من متعد يتعدى عليه من لص أو غيره - الحديث 2. والروايات بذلك مستفيضة بل متواترة. وأما لزوم فمن جهة أن الضرورات تتقدر بقدرها، إذ لاشبهة في أن تجويز الحلف كاذبا ليس بعنوانه الأولى، إذ الحلف بالله بعنوانه الأولى صادقة لا يخلو عن كراهة فضلا عن كذبه، قال الله تعالى: (ولا تجعلوا الله عرضة لإيمانكم) 3 فجوزه الشارع لأجل دفع الضرر، أو وجود مصلحة أخرى، فإن كان من الممكن دفع ذلك الضرر أو تحصيل تلك المنفعة والمصلحة بدون ارتكاب الكذب يتعين، وحيث أن التورية مما يتخلص بها عن الكذب فتجب لفقدان علة جوازه مع إمكان التورية، وكذلك الأمر في غير مورد الحلف من موارد جواز الكذب المحرم
(هامش)
(1) الفقيه ج 3 ص 363 ح 4286، الإيمان والنذور، ح 14، وسائل الشيعة ج 16 ص 163 كتاب الإيمان، أبواب الإيمان، باب 12 ح 6. (2) الفقيه ج 3 ص 366 ح 4297، الإيمان والتذور ح 25، وسائل الشيعة ج 16 ص 163 كتاب الإيمان، أبواب الإيمان باب 12 ح 9. (3) البقرة 2: 224. (*)
الذي جوز لأجل دفع الضرر، أو لجلب المنفعة، أو لأجل كونه ذا مصلحة كالكذب مع الزوجة بناء على جوازه لأجل إدارة البيت. فرع: إذا اقترض حيوانا فنفقة ذلك الحيوان قبل أن يقبضه المقترض على المقرض، وذلك لان نفقته نفقة الملك، وقد تقدم أن الملك يحصل بالقبض، فقبله لا ملك فلا نفقة. ولو قيل بأن الملك يحصل بالتصرف لا بصرف القبض من دون تصرف، فلو أقبض الحيوان ولكن لم يتصرف المقترض بعد، فنفقته على المقرض، لعين م ذكرنا في القبض، فلو كان الحيوان الذي اقترضه بعيدا عن مكان المقترض وبعد إجراء صيغة القرض ووقوعه أمر المقرض خادمه باقباض الفرس مثلا للمقترض ولا يمكن له قبضه قبل مضي أيام لبعد المكان مثلا أو لجهة أخرى، ففي تلك الأيام نفقته على المالك المقرض لعدم زوال ملكه بعد، وعدم حصول الملكية للمقترض، وكذلك الأمر بعينه لو قلن بحصول الملكية بالتصرف. فرع: قال في التذكرة: إذا اقترض نصف دينار مكسورا فأعطاه المقترض دينارا صحيحا عن قرضه نصف دينار والباقي يكون وديعة عنده وتراضيا جاز 1. أقول: لاشك في صحة أداء الدين والوديعة كلاهما مع التراضي، أما الأداء فلأنه وإن كان للمقرض الامتناع من الأخذ، لان الشركة عيب، فله أن لا يقبل ويقول أريد مالي مفروزا، وله يرضى بكونه شريكا مع صاحب النصف، فإذا رضي بذلك يرتفع الإشكال.
(هامش)
(1) تذكرة الفقهاء ج 2 ص 6 و 7. (*)
وأما صحة كون النصف الآخر وديعة أيضا يحتاج إلى رضا الودعي، لأنه لابد وأن يلتزم بالحفظ وتحمل المشقة في ذلك، ولا وجه للزومه عليه بدون رضائه والتزامه بذلك. وهذ كان كثير الوقوع بالنسبة إلى قرض الدنانير في الزمان القديم والأزمنة السالفة، وإن كان في هذا الزمان لا مصداق له من جنس الدينار، ولكن في نفس هذا الزمان له مصاديق أخر كثيرة من غير الدنانير. مثلا لو اقترض كم ذراعا من فاسونة مقصوصة معينة لونها، وسائر خصوصياتها من حيث الجودة والرداءة، ففي مقام الأداء أعطى من ذلك الجنس الواجد لجميع صفاتها وخصوصياتها طاقة كبيرة بقصد أن يكون مقدار دينه وفاء له والباقي أمانة عنده. ونظير هذا كثير في الأجناس التي هي من صنع المكائن في هذه الأزمنة، كما إذ اقترض أقراصا بقدر معين من كنين مثلا، فأعطى للمقرض قوطية من تلك الإقراض ليكون مقدار دينه وفاء وأداء له والباقي أمانة عنده، وهكذا خسائر الأجناس، ففي جميع ذلك يكون الأداء والأمانة كلاهما صحيحين مع تراضيهما، لما بينا مفصلا فلا نعيد. فرع: لو باع العبد المأذون في التجارة متاعا وقبض الثمن، فظهر المتاع مستحقا للغير وقد تلف الثمن في يد العبد، فهل المشتري يرجع إلى السيد أو إلى العبد؟ قيل برجوعه إلى السيد، لأنه في الحقيقة طرف المعاملة، فكما لو كان هو بنفسه البائع كان للمشتري الرجوع إليه، لان المعاملة لم تقع صحيحة، فلابد من إرجاع الثمن إلى المشتري، ويد القابض كانت يد ضمان، لأنه من المقبوض بالعقد الفاسد الذي هو في حكم الغصب، فإذ كان البائع في الحقيقة هو السيد فالثمن
المقبوض حيث لو كانت المعاملة صحيحة كانت ملكا له وواصلا إليه وكان قبض العبد قبضه، ولذلك لو لم يكن المتاع مستحقا للغير، وكانت المعاملة صحيحة والثمن قد تلف في يد العبد، لم يكن للسيد مطالبة المشتري بالثمن، فإن الثمن وصل إليه بوصوله إلى العبد، فيكون عند بطلان المعاملة هو الضامن. نعم لو قيل بأن العبد يملك ما أعطاه السيد للتجارة به، غاية الأمر بشرط أن يكون الأصل والفرع من الربح بعد ختم التجارة لمولاه، يكون الضامن للمشتري هو العبد. ولكن هذا خلاف الواقع وخلاف الفرض. فالحق في المقام هو الذي تقدم، وهو طرف المعاملة حقيقة هو السيد، لان المعاوضة تقع بينه وبين المشتري، وقبض العبد للثمن هو قبض السيد. فرع: لو اقترض ذمي من مثله خمرا ثم أسلم أحدهما سقط القرض. هكذا ذكر في التذكرة 1، وعلل ذلك بأن الخمر من المثليات يأتي بعد تحقق القرض مثله في ذمة المقترض، ولابد مما يأتي في الذمة أن يكون مالا كي يصح اعتباره في الذمة، فإذا أسلم أحدهما - سواء كان هو المقرض أو المقترض - فذلك المسلم لا يرى شيئا في ذمته إن كان هو المقترض حسب دينه ومذهبه، فكأنه كان وانعدم ولا يرى شيئا في ذمة طرفه إن كان هو المقرض، وبقاء القرض موقوف على بقاء ذلك الأمر الاعتباري عند الطرفين، فبإسلام كل واحد منهما - المقرض والمقترض - يسقط القرض. أم لو كان العين المقروضة قيميا فلا يسقط القرض بإسلام أحدهما. والسر في ذلك هو أن في القيمي ما يأتي في الذمة هو قيمة العين المقروضة يوم القرض، وهذه القيمة قابلة للبقاء في ذمة المسلم والكافر، فلا وجه لسقوطه.
(هامش)
(1) تذكرة الفقهاء ج 2 ص 7. (*)
فالفرق واضح بين أن تكون العين المقروضة مثليا أو قيميا، ففي الأول بإسلام أحدهم يسقط القرض، وفي الثاني لا وجه لسقوطه. هذا ما ذكر في التذكرة من التفصيل بين أن يكون مثليا وبين أن يكون قيميا. ولكن يمكن أن يقال: إن القيمة أيضا قيمة تلك العين المقروضة، فلابد وأن يكون وقت أخذ القيمة أيضا من يأخذ القيمة معتقدا بأن ما أقرضه كان له قيمة، وأما إذا كان حال الأخذ لا يعتقد هذا الاعتقاد، بل بالعكس يعتقد أن م أقرضه ليس مال شرعا وله قيمة فكيف يأخذ مال الناس بإزاء ما ليس عنده بمال لأنه بعد إسلام المقرض يعلم بأن ما أقرضه ليس بمال، فلا يكون له عوض كي يأخذ عوضه. اللهم إل أن يقال: إن ما أقرضه كان حين الإقراض مالا واقعا بجعل الشارع، فحين كان ذميا كان خمره الذي أقرضه أو خنزيره مالا واقعا ولم يسقط الشارع ذلك الوقت ماليته، فيأخذ القيمة باعتبار مالية ذلك الوقت التي تعلقت بذمته وثبتت في عهدته في نفس ذلك الوقت، لأنه قيمي، والقيمي في نفس حال القرض تتعلق قيمته بعهدة المقترض وتثبت في ذمته. ولكن القول بأنه كان الخنزير مالا واقعا حال كفره بعيد عن مذاق الشرع، بل الظاهر أن الشارع حكم بإجراء أحكام المال عليه ظاهرا، حفظا للنظام. وهذا حكم ظاهري، فلو باع خمرا أو خنزيرا وقت كفره ثم أسلم فيجب عليه رد الثمن، لانكشاف الخلاف عنده، فل يبقى الحكم الظاهري بعد انكشاف الخلاف. فافهم 1. فرع: لو أسقط المديون أجل الدين الذي عليه هل يسقط الأجل ويصير
(هامش)
(1) إشارة إلى أن القول بكون المذكورات ملكا للذمي حال كفره ظاهرا لا واقعا، خلاف ما تسالم عليه الأصحاب، فبناء عليه ما ذكره العلامة قدس سره في التذكرة من التفصيل بين قرض ما هو المثلي وبين ما هو القيمي في محله. منه قدس سره. (*)
حالا بحيث يكون الأداء واجبا على المديون لو طالبه الدائن قبل حصول ذلك الأجل، أم لا يسقط ويبقى مؤجلا فليس لصاحب الدين المطالبة؟ قال في القواعد لا يسقط قبله 1. وقال في جامع المقاصد ليس له المطالبة في الحال. لان ذلك - أي الأجل - قد ثبت بالعقد اللازم كما هو المفروض، فلا يسقط بمجرد الإسقاط، ولان في الأجل حقا لصاحب الدين، ولذلك لا يجب عليه القبول قبل الأجل 2. ولعل مراده من هذا الكلام أن في الدين المؤجل حقين، أحدهما لصاحب الدين، والآخر للمديون، وبإسقاط أحدهما حقه ل يسقط حق الآخر. نعم لو تقايلا يسقط، لان مرجع الإقالة إلى إسقاط الاثنين، فلا يبقى حق في البين. وأما تعليل عدم سقوطه بكون ثبوته بالعقد اللازم، فمبني على كون المنش بالعقد معنى مقيدا بذلك الأجل، لا جعل حق لأحد الطرفين أو لهما. والأظهر هو أن عقد الدين المؤجل بنحو التقييد لا في مقام جعل حق لأحدهما أولاهما، فبالإسقاط لا يسقط. والحمد لله أولا وأخرا، وظاهرا وباطن.
(هامش)
(1) قواعد الأحكام ج 1 ص 158 كتاب الدين. (2) جامع المقاصد ج 5 ص 41. (*)
63 - رسالة في التوبة
رسالة في التوبة * الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين محمد وآله الطيبين الطاهرين المعصومين. وبعد: فهذه نبذه من الكلام في تحقيق معنى التوبة، وشرح مفهومها، وبيان حقيقتها، والدليل على وجوبها على جميع المكلفين غير المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين، بل وعلى بعض هؤلاء ممن صدر منهم ترك الأولى، كبعض الأنبياء السالفين كما هو صريح القرآن المبين، ولا يخلو عادة م عداهم أي مؤمن ومسلم عن ارتكاب بعض ما حرمه الله على عباده وإن كان من الصغائر. وأيضا بيان آثارها بعد وجودها مما يحصل للتائب من الصعود من حضيض الناسوت إلى أوج الملكوت، وأنه يصير مشمولا لقوله عليه السلام: التائب عن الذنب كمن لا ذنب له 1. فأقول: أما الأول: أي حقيقة التوبة عبارة عن الرجوع من الغي والضلال إلى الرشد وما يوجب الهداية والكمال، أو الرجوع إلى الله تعالى بعد الإعراض عنه، أو الرجوع
(هامش)
*. قد بحث عن التوبة في الكتب الأخلاقية، لا الفقهية نحو: المحجة البيضاء ج 7 ص 1 - 104، جامع السعادات ج 2 ص 49 - 88، التوبة والتائبون مهدى، مكتبة الإمام الحسن عليه السلام، قم، ثلاث رسائل العدالة، التوبة، قاعدة لا ضرر، سيد تقي طباطبائي قمي، محلاتي، قم (1) الكافي ج 2 ص 316 باب التوبة ح 10، وسائل الشيعة ج 11 ص 358 أبواب جهاد النفس، باب 86 ح 8. (*)
إلى الطريق المستقيم بعد الانحراف عنه. ومرجع الكلي إلى أمر واحد، وهو الرجوع من عصيان المولى عز وجل ومخالفته والطغيان عليه إلى طاعته وامتثال أوامره ونواهيه. وإن شئت قلت: إنها عبارة عن الندم مما ارتكب فيما مضى من المعاصي والعزم على تركها في الآتي، أو تقول: إنها عبارة عن تنزيه القلب عن الرذائل وما يوجب البعد عن المولى عز وجل، والرجوع إلى ما يوجب القرب وتدارك ما فات منه من الكمال. وذلك من جهة أن ارتكاب الذنوب والاقتراف فيها ينشأ من الصفتين الرذيلتين، وهما الشهوة والغضب، وبسببهما يخرج الإنسان عن الاستقامة والاعتدال، وربما يصير أنزل من السباع الضارية والأفاعي السامة، والشهوات من أوان الطفولة إلى أن يصير شيخا كبيرا أنواع وأقسام، وكلها من المهلكات إن لم تصرف فيما خلقها الله لأجله. وأما القوة الغضبية التي هي مبدأ أغلب الشرور والبلايا تتولد منها المعاصي الكبيرة، والمفاسد، والجرائم، وقتل النفوس، وهتك الإعراض، ونهب الأموال، وهدم الدور إلى غير ذلك من الجرائم الكبيرة التي ربما تكون بمثابة لا يقدر الإنسان على سماعها وتقشعر من ذكرها الأبدان. وبالتوبة والرجوع إلى الله يزيل التائب عن قلبه هذه الرذائل ويطهرها من الأرجاس والأدناس، فيصير القلب سليما عن تلك الأمراض والآفات، ويكون الإنسان داخلا في المستثنى في الآية الشريفة (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم) 1. وأما الدليل على وجوبها: (1) الشعراء 26: 88 و 89. (*)
فمن الآيات وهي كثيرة لا تحصى بصورة الأمر، أو بذكر الآثار والفوائد العظيمة التي لها. فمن الأول قوله تعالى: (توبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنين) 1. وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا) 2 وقوله تعالى: (إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم) 3 وقوله تعالى: (وإن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا) 4. ومن الثاني قوله تعالى: (فإن تابا وأصلحا فأعرضو عنهما إن الله كان توابا رحيما) 5 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في نتائج التوبة وفوائدها. وكذلك وردت آيات في الإنابة، كقوله تعالى: (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له) 6 وقوله تعالى: (وما يتذكر إلا من ينيب) 7 وقوله تعالى: (وجاء بقلب منيب) 8. وزعم بعضهم أن الإنابة غير التوبة، وهي الرجوع حتى من المباحات إليه تعالى، لا فقط من الذنب كما في التوبة، ولكن الصحيح أنها المرتبة الكاملة من التوبة، وهي الابتهال والتضرع إليه تعالى بعد الندم عن الذنوب، وغير هذا قول بلا دليل. وأما من الأخبار فهي كثيرة بالغة حد التواتر، وقد عقد في الوسائل بابا بل أبوابا لذلك وذكر أحاديث كثيرة:
(هامش)
(1) النور 24: 31. (2) التحريم 66: 8. (3) البقرة 2: 54. (4) هود 11: 3. (5) النساء 4: 16. (6) الزمر 39: 54. (7) غافر 40: 13. (8) ق 50: 33. (*)
منها: رواية معاوية بن وهب قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إذا تاب العبد توبة نصوحا أجله الله تعالى فستر عليه في الدنيا والآخرة . قلت: وكيف يستر عليه؟ قال: ينسي ملكية ما كتبا عليه من الذنوب، ويوحي إلى جوارحه اكتمي عليه ذنوبه، ويوحي إلى بقاع الأرض اكتمي ما كان يعمل عليك من الذنوب، فيلقى الله حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب 1. ومنها: رواية محمد بن مسلم، عن أحدهما عليهم السلام في قول الله عز وجل: (من جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف) 2 قال: الموعظة التوبة 3. ومنها: رواية أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: (يا أيها الذين امنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا) قال: هو الذنب الذي ل يعود فيه أبد . قلت: واينا لم يعد؟ فقال: يا أبا محمد إن الله يحب من عباده المفتن التواب 4. ومنها: رواية أبي الصباح الكناني قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل (يا أيها الذين امنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا) قال: يتوب العبد من الذنب ثم لا يعود فيه . قال محمد بن فضيل: سألت عنها أبا الحسن عليه السلام فقال: يتوب من الذنب ثم لا يعود فيه، وأحب العباد إلى الله المفتنون التوابون 5. ومنها: مرفوعة علي بن إبراهيم قال: إن الله أعطى التائبين ثلاث خصال لو أعطي خصلة منها جميع أهل السماوات والأرض لنجوا بها، قوله عز وجل: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) 6 فمن احبه الله لم يعذبه، وقوله: (فاغفر للذين
(هامش)
(1) الكافي ج 2 ص 314 باب التوبة ح 1، وسائل الشيعة ج 11 ص 356 و 357 أبواب جهاد النفس، باب 86 ح 1. (2) البقرة 2: 275. (3) الكافي ج 2 ص 314 باب التوبة ح 2، وسائل الشيعة ج 11 ص 357، أبواب جهاد النفس باب 86 ح 2. (4) الكافي ج ص 314 باب التوبة ح 2، وسائل الشيعة ج 11 ص 257، أبواب جهاد النفس باب 286 ح 3. (5) الكافي ج 2 ص 314 باب التوبة ح 3، وسائل الشيعة ج 11 ص 357 أبواب جهاد النفس باب 86 ح 4. (6) البقرة 2: 222. (*)
تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم) 1 وذكر الآيات، وقوله: (إلا من تاب وامن وعمل صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات) 2. 3 ومنها: رواية أبي عبيدة قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: إن الله تبارك وتعالى أشد فرحا بتوبة عبده من رجل أضل راحته وزاده في ليلة ظلماء فوجدها، فالله أشد بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حين وجده 4. ومنها: رواية يوسف أبي يعقوب بياع الارز، عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام قال: سمعته يقول: التائب من الذنب كمن لاذنب له، والمقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزئ 5. ومنها: رواية أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: أوحى الله عز وجل إلى داود النبي عليه السلام: يا داود إن عبدي المؤمن إذا أذنب ذنبا ثم رجع وتاب من ذلك الذنب واستحى مني عند ذكره، غفرت له وأنسيته الحفظة وأبدلته الحسنة ولا أبالي، وأنا أرحم الراحمين 6. ومنها: رواية يحيى بن بشير، عن المسعودي قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: من تاب تاب الله عليه، وأمرت جوارحه أن تستر عليه، وبقاع الأرض أن تكتم عليه، ونسيت الحفظة ما كانت كتبت عليه 7.
(هامش)
(1) غافر 40: 7. (2) الفرقان 25: 70. (3) الكافي ج 2 ص 315 باب التوبة ح 5، وسائل الشيعة ج 11 ص 357 أبواب جهاد النفس باب 86 ح 5. (4) الكافي ج 2 ص 316 باب التوبة ح 8، وسائل الشيعة ج 11 ص 358 أبواب جهاد النفس باب 86 ح 6. (5) تقدم ص 325، هامش 1. (6) ثواب الأعمال ص 158 ح 1، باب من أذنب ذنبا ثم رجع وتاب...، وسائل الشيعة ج 11 ص 359، أبواب جهاد النفس باب 86 ح 9. (7) ثواب الأعمال ج 213 ح 1، ثواب التوبة، وسائل الشيعة ج 11 ص 359 أبواب جهاد النفس، باب 86 ح 10. (*)
ومنها: رواية السكوني عن جعفر بن محمد سلام الله عليهما، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن لله فضولا من رزقه ينحاه من شاء من خلقه، والله باسط يده عند كل فجر لمذنب الليل هل يتوب فيغفر له، ويبسط يده عند مغيب الشمس لمذنب النهار هل يتوب فيغفر له 1. ومنها: رواية علي بن عقبة، عن أبيه، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل (ثم تاب عليهم) 2 قال: هي الإقالة 3. وفي عيون الأخبار عن الرضا عليه السلام، عن آبائه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: مثل المؤمن عند الله تعالى كمثل ملك مقرب، وإن المؤمن عند الله لأعظم من ذلك، وليس شيء أحب عند الله تعالى من مؤمن تائب ومؤمنة تائبة 4. ومنها: ما عن دارم بن قبيصة، عن الرضا، عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: التائب من الذنب كمن لا ذنب له 5. ومنها: ما عن حفص بن غياث قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: لاخير في الدنيا إلا لرجلين: رجل يزداد في كل يوم إحسانا، ورجل يتدارك ذنبه بالتوبة، وأنى له بالتوبة، والله لو سجد حتى ينقطع عنقه ما قبل الله منه إلا بولايتنا أهل البيت 6.
(هامش)
(1) ثواب الأعمال ص 214 ح 3، ثواب التوبة، وسائل الشيعة ج 11 ص 359، أبواب جهاد النفس، باب 86 ح 11. (2) التوبة 9: 117. (3) معاني الأخبار ص 215 ح 1 باب توبة الله عز وجل على الخلق، وسائل الشيعة ج 11 ص 359، ح 21020، أبواب جهاد النفس، باب 26 ح 12. (4) عيون الأخبار الرضا ج 2 ص 29 ح 33، وسائل الشيعة ج 11 ص 359 أبواب جهاد النفس، باب 26 ح 13. (5) عيون أخبار الرضا ج 2 ص 74 ح 347، وسائل الشيعة ج 11 ص 360 أبواب جهاد النفس، باب 26 ح 14. (6) الخصال ص 41 ح 29، لا خير في الدنيا إلا لأحد رجلين، وسائل الشيعة ج 11 ص 360، أبواب جهاد النفس باب 86 ح 15. (*)
ومنها: ما عن علي بن موسى بن طاووس في مهج الدعوات، عن الرضا، عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: اعترفوا بنعم الله ربكم، وتوبو إلى الله من جميع ذنوبكم فإن الله يحب الشاكرين من عباده 1. ومنها: ما عن محمد بن أحمد بن هلال قال: سألت أبا الحسن الأخير عليه السلام عن التوبة النصوح ما هي؟ فكتب عليه السلام أن يكون الباطن كالظاهر وأفضل من ذلك 2. ومنها: ما رواه عبد الله بن سنان وغيره جميعا عن أبي عبد الله عليه السلام قال: التوبة النصوح هو أن يتوب الرجل من ذنب، وينوي أن لا يعود إليه أبد 3. وعن نهج البلاغة قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام لمن قال بحضرته استغفر الله: ثكلتك أمك، أتدري ما الاستغفار درجة العليين، وهو اسم واقع على ستة معان: أولها: الندم على ما مضى، والثاني: العزم على ترك العود إليه أبدا، والثالث: أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله عز وجل أملس ليس عليك تبعة، والرابع: أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقها، والخامس: أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتى يلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد، والسادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول: استغفر الله 4. وما رواه جميل بن دراج عن بكير، عن أبي عبد الله أو عن أبي جعفر عليه السلام في حديث: إن الله عز وجل قال لأدم عليه السلام: جعلت لك أن من عمل من ذريتك سيئة ثم استغفر غفرت له. قال: يا رب زدني. قال: جعلت لهم التوبة - أو بسطت لهم التوبة -
(هامش)
(1) مهج الدعوات ص 275، وسائل الشيعة ج 11 ص 360، أبواب جهاد النفس باب 86 ح 16. (2) معاني الأخبار ص 174 ح 1، باب معنى التوبة النصوح، وسائل الشيعة ج 11 ص 361، أبواب جهاد النفس باب 87 ح 1. (3) نهج البلاغة حكم أمير المؤمنين عليه السلام رقم 417. (4) نهج البلاغة حكم أمير المؤمنين رقم 417. (*)
حتى تبلغ النفس هذه. قال: يا رب حسبي 1. وما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: إذا بلغت النفس هذه - وأهوى بيده إلى حلقه - لم يكن للعالم توبة وكانت للجاهل توبة 2. وعن ابن فضال، عمن ذكره، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من تاب قبل موته بسنة قبل الله توبته، ثم قال: إن السنة لكثير، من تاب قبل موته بشهر قبل الله توبته، ثم قال: إن الشهر لكثير، ثم قال: من تاب قبل موته بجمعة قبل الله توبته، ثم قال: وإن الجمعة لكثير، من تاب قبل موته بيوم قبل الله توبته. ثم قال: إن يوما لكثير، من تاب قبل أن يعاين قبل الله توبته 3. عن معاوية بن وهب في حديث: إن رجلا شيخا كان من المخالفين، عرض عليه ابن أخيه الولاية عند موته، فأقربها وشهق ومات، قال: فدخلنا على أبي عبد الله عليه السلام فعرض علي بن السري هذا الكلام على أبي عبد الله، فقال: هو رجل من أهل الجنة . قال له علي بن السري: إنه لم يعرف شيئا من هذا غير ساعته تلك، قال: فتريدون منه ما ذا قد والله دخل الجنة 4. عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عدة من أصحابنا رفعوه قالوا: قال: لكل شيء دواء، ودواء الذنوب الاستغفار 5.
(هامش)
(1) الكافي ج 2 ص 319، باب فيما أعطى الله عز وجل آدم عليه السلام وقت التوبة ح 1، وسائل الشيعة ج 11، ص 369 أبواب جهاد النفس باب 93 ح 1. (2) الكافي ج 2 ص 319 باب فيما أعطى الله عز وجل آدم عليه السلام وقت التوبة ح 3، وسائل الشيعة ج 11 ص 369 أبواب جهاد النفس باب 93 ح 2. (3) الكافي ج 2 ص 319 باب فيما أعطى الله عز وجل آدم عليه السلام وقت التوبة ح 2، وسائل الشيعة ج 11 ص 370 أبواب جهاد النفس باب 93 ح 3. (4) الكافي ج 2 ص 319. 320 باب فيما أعطى الله عز وجل آدم عليه السلام التوبة ح 4، وسائل الشيعة ج 11 ص 370 أبواب جهاد النفس باب 93 ح 4. (5) الكافي ج 2 ص 318 باب الاستغفار من الذنب ح 8، وسائل الشيعة ج 11 ص 352 و 367، أبواب جهاد النفس باب 85 ح 3، وباب 92 ح 2. (*)
وهذه الروايات وإن كان أكثرها يمكن المناقشة في دلالتها على وجوب التوبة ولكن يستفاد من المجموع أن الله تبارك وتعالى لا يرضى بتركها، وهذا ملازم مع الوجوب. هذا، مع أن بعضها - كرواية علي بن موسى بن طاووس في مهج الدعوات - ظاهرة في الوجوب، لمكان قوله صلى الله عليه وآله فيه وتوبوا إلى الله من جميع ذنوبكم ، والأمر ظاهر في الوجوب، خصوصا مع تأييد هذا الظهور بالآيات الظاهرة في الوجوب، والإجماعات المدعاة في المقام، والأدلة العقلية التي سنذكرها إن شاء الله تعالى. وأم الاستدلال على وجوبها بالإجماع: فقد حكي عن كثير، وحكى الشيخ الأعظم الأنصاري 1 عن شارح أصول الكافي ادعاء إجماع الأمة عليه. ونحن لم نجد مخالفا في أصل الوجوب. نعم هنا وقع خلاف في أن وجوبها هل هو إرشادي أو مولوي، وسنتكلم فيه إن شاء الله تعالى. ولكن الكلام في حجية مثل هذا الإجماع الذي يمكن كون اتكاء المجمعين على الآيات والروايات الكثيرة، أو الأدلة العقلية التي سنذكرها إن شاء الله تعالى. هذا، مضاف إلى الإشكال العقلي سنذكره في كون وجوبها شرعيا مولويا، فلا يبقى مجال للتمسك بالإجماع أصلا. وأما الأدلة العقلية: على وجوبها، فهي من وجوه: الأول: لزوم دفع الضرر المحتمل بحكم العقل، ولاشك في أن في ترك التوبة احتمال ضرر عظيم، وهو عذاب الله الشديد الأليم الذي تطول مدته ويدوم بقاؤه ولا تطيقه السماوات والأرضون، لأنه من غضب الله وانتقامه.
(هامش)
(1) مصنفات الشيخ الأنصاري مجموعة 23، ص 58. (*)
هذا، مع أن الاحتمال في وقوعه لأجل احتمال الشفاعة، وإلا فاستحقاقه معلوم، لا أنه محتمل، مع ورود روايات كثيرة في أن أهل الكبائر لا يشفعون خصوصا بعض الكبائر. وأيض صرح في بعض الأخبار بأن الله تبارك وتعالى لا يعفو عن حقوق الناس إلا أن يعفو صاحبه، فلا ينبغي التأمل في أن العقل يحكم حكما قطعيا بلزوم دفع مثل هذا الضرر المحتمل، ولذلك لما استدل الأخباريون للزوم الاحتياط في الشبهات البدوية التحريمية بهذه القاعدة. وأجاب الأصوليون: بأن المراد من الضرر المحتمل إن كان ضررا دنيوي فمقطوعة لا يجب دفعه إذا كان يسيرا، فضلا عما هو محتمل. نعم لابد أن يكون ارتكابه لغرض ديني أو دنيوي كي لا يكون ارتكابه سفهيا، بل العقلاء يتحملون أضرارا لأجل أغراضهم ولو كانت تلك الأغراض شهوية. وأما إن كان المراد من الضرر المحتمل الضرر الأخروي والعذاب الإلهي يقبلون لزوم دفعه بحكم العقل الصريح ولا ينكرون، بل يقولون بوجوب دفع الموهوم منه، بأن يكون احتمال وجوده أضعف من احتمال عدمه، وذلك لشدته وطول مدته، فلذلك يحتاج إلى وجود المؤمن لدفع هذا الاحتمال. فيجيبون عن استدلالهم هذا بوجود المؤمن العقلي، أي قبح العقاب بلا بيان من قبل المولى، والمؤمن الشرعي، أي أدلة البراءة الشرعية من الآيات والروايات والإجماع. وخلاصة الكلام: أن لزوم دفع الضرر المحتمل إذا كان المراد منه العذاب الأخروي بحكم العقل مما لا كلام ولا إشكال فيه. الثاني: شكر المنعم، والعقل يستقل بلزوم شكر المنعم، ومنه لزوم النظر في المعجزة، وإلا يلزم إفحام الأنبياء عليهم السلام.
فهذه الكبرى - أي شكر المنعم - لزومه بحكم العقل مما لاريب فيه، وإلى هذا يشير قوله تعالى: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) 1 أي هل جزاء من أحسن إليكم بهذه النعم المذكورة في سورة الرحمن إلا أن تحسنوا في شكره وعبادته. فالكبرى فطري، وأما الصغرى - أي كون التوبة من شكر المنعم - فلأنه لاشك في أنه تعالى أنعم بجميع النعم من ابتداء خلقة الإنسان وكونه علقة في الرحم، إلى أن صار إنسانا سويا كاملا عاقل بالغا ذا رشد عليه من إعطائه نعمة الوجود أولا، ثم إعطاء الجوارح اللازمة لرفع احتياجاته من اليد والرجل والعين والإذن وغيرها، بحيث يكون فقد أي واحد منها عنه يكون بلاء عظيما له، ثم بعد ذلك إعطاء الحواس الخمسة الظاهرية من اللمس والأبصار والشم والذوق والسمع، بحيث يكون فقدان كل واحد منها يوجب نقصا لا يتدارك، وهكذ الأمر في القوى الباطنة. ثم أعظم وأكبر من ذلك أعطاه العقل المجرد الذي به يجلب كل خير ويدفع كل شر. وقال بعض العارفين: إلهي إن أعطيته العقل فمن أي شيء أحرمته، وإن أحرمته من العقل فأي شيء أعطيته. أي: كل شيء لا يفيده لأنه بالعقل يوجد الله ويعبد ويكتسب به الجنان، وليس في العالم شيء أحسن من هذا وأنفع وأشرف، وبه يخرج عن حضيض الحيوانية إلى أوج الملكوتية، ثم أعطاه النعم الظاهرة التي يحتاج الجسم إليها في حياته وبقائه من المساكن والملابس والمآكل والمشارب والمراكب والمناكح وغير ذلك. ولاشك في أن عصيان المولى المنعم ومخالفته في أوامره ونواهيه تمرد وبغي وطغيان عليه وابتعاد عنه، ورجوعه عن مخالفته وطغيانه وبغيه وابتعاده عنه إلى المولى والتزامه بترك مخالفته شكر له، فيجب ذلك عليه بحكم العقل الصريح الفطري، فالكبرى والصغرى كلاهما في هذا القياس ثابتة ومعلومة بغير إشكال.
(هامش)
(1) الرحمن 55: 60. (*)
الثالث: حكم العقل بلزوم درك المصالح الملزمة وعدم جواز تفويتها ولزوم حفظ النفس عن الوقوع في المفاسد. بيان ذلك: هو أن الحق عندنا الإمامية أن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد التي نسميها بملاكات الأحكام، فالعاصي إما يترك واجبا فيفوت عنه مصلحة ذلك الواجب، وإما يرتكب حراما فيقع في مفسدة ذلك الحرام، والتوبة - أي الرجوع إلى طاعة المولى وترك مخالفته - مرجعها إلى عدم ترك الواجب، فلا يفوت عنه مصلحة ملزمة، أو إلى ترك الحرام، فلا يقع في مفسدة، وكلاهما - أي عدم فوت المصلحة الملزمة، وعدم الوقوع في المفسدة - مما يحكم العقل بلزومهما، فينتج أن التوبة لازمة بحكم العقل. الرابع: في أنه لاشبهة في حكم العقل بلزوم الاستكمال والترقي في مراتب الحقيقة إن كان ذلك ممكنا وميسورا. ولاشك في أن الإنسان بواسطة ارتكاب المعاصي، سواء كان بترك الواجبات، أو بفعل المحرمات ينزل، بل ربما يكون أنزل من الحيوان، وإلى هذا يشير قوله تعالى: (بل هم أضل سبيلا) 1، ولكن لما تاب ورجع إلى الله وصار كمن لا ذنب له، فينقلب نفسه من الخسة والرذالة والدناءة والخباثة والشقاوة إلى الشرافة والنزاهة والعلو والطيبة والسعادة. فلو فرضنا أن فردا من أفراد حقيقة من الحقائق المشككة ذات مراتب متفاوتة بالكمال والنقص له إمكان أن يرقى نفسه من النقص إلى الكمال، لأنه فاعل مختار، له أن يكمل نفسه ويصعد من الحضيض الناسوتية إلى أوج القدس والكمال والملكوتية، ويزيل عن نفسه الرذائل، ويتحلى بالفضائل، فهل لعاقل أن ينكر وجوب ذلك عليه ويقول لا مانع له من إبقاء نفسه على النقص وإن كان أنزل من السباع الضارة والأفاعي السامة؟ ما أظن أن عاقلا يجوز مثل هذا المعنى، مع أن الله
(هامش)
(1) الفرقان 25: 44. (*)
تعالى ذمهم على ذلك، وقال في كتابه العزيز (إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) 1. وقد عبر علماء الأخلاق عن تلك الرذائل مثل الجبن والبخل والحسد والكبر والرياء والحرص والطمع تارة بالأمراض النفسانية، وأخرى بالمهلكات، فالقلب السالم عندهم هو الخالي عن هذه الأمراض والمهلكات، ولذلك قالوا في مقام علاج النفس المريضة بلزوم التخلية عن هذه الرذائل وتحليتها بالفضائل، ولعل إلى هذا يشير قوله تعالى في وصف يوم القيامة (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم) 2 أي يكون سالم عن هذه الأمراض النفسانية. فتحصيل هذه المرتبة من كمال النفس والقلب، وتخليته من الأمراض والمهلكات أولى بكثير من تخلية البدن من الأمراض الجسمية. وبعبارة أخرى: الإنسان مركب من البدن والنفس الناطقة القدسية التي بها يتميز تميزا جوهريا ذاتي عن سائر الحيوانات، المعبر عنها في الكتاب العزيز تارة بالقلب، وأخرى بالروح، وثالثة بالنفس أيضا. ولاشك في أن هذا الجزء من الإنسان - أي النفس - أشرف من الجزء الآخر أي البدن، لأنه ثبت تجرده في محله، والبدن مادي، لأنه جسم، ولان إنسانية الإنسان بالنفس لا بالبدن، إذ النفس صورة للإنسان، والبدن مادة له، وشيئية الشيء بصورته لا بمادته. ففساد البدن وأمراضه لا يضر بإنسانية الإنسان بقدر ما يضر فساد القلب، ولذلك علم الأخلاق الذي وضع لعلاج أمراض النفس أشرف بكثير من علم الطب الذي وضع لعلاج أمراض البدن، فكما أن العقل يحكم بلزوم علاج أمراض البدن وحفظه عن الهلاك، فكذلك يحكم بلزوم علاج أمراض النفس - أي القلب -
(هامش)
(1) الفرقان 25: 44. (2) الشعراء 26 و 88: و 89. (*)
وحفظ سلامته بطريق أولى. وليس علاج ودواء لأمراض النفس أحسن وأنفع وأفيد من التوبة، إذ بها يطهر القلب عن الرذائل ويحفظ سلامته، وبها يخرج عن الحيوانية والبهيمية. وربما يحصل له مرتبة شامخة من الولاية التكوينية بحيث يكون له بعض التصرفات في الكون. كما اتفق لبعض الكملين من العلماء الأخيار. نعم الولاية المطلقة مخصوصة بنبينا صلى الله عليه وآله والأئمة المعصومين عليهم السلام، فيتصرفون في جميع الأشياء بإذن الله حتى في الحيوانات والنباتات كلها بإذن الله. وهذه الولاية المطلقة لهم عليهم السلام لا ربط لها بالتوبة، حاشاهم عن العصيان والاحتياج إلى التوبة، بل موهبة إلهية لاستعدادهم الذاتي ونفاسة جوهرهم وكونه من عليين، فوصلو إلى أعلى مراتب الكمال وإلى أقرب مدارج القرب إلى ذي الجلال، بحيث يكونون سمعه الذي يسمعون به، وبصره الذي يبصرون به، ويده التي يبطشون بها. وهذه الولاية هي التي يبر بها الأكمه والأبرص بإذن الله، ويحيى الموتى بها بإذنه تعالى، وكذلك في سائر التصرفات المنقولة عنهم عليهم السلام المروية في الكتب المعتبرة التي اعتمد عليه العلماء الأبرار في هذا الموضوع، ككتاب مدينة المعاجز 1 للسيد البحراني قدس سره وغيره مما هو مثله. وبعد ما ثبت وجوب التوبة بالآيات، والروايات والإجماع والأدلة العقلية يجب ذكر أمور لابد منها لتتميم البحث عن التوبة: [ الأمر ] الأول: في أن الوجوب المذكور هل هو إرشادي عقلي، أو شرعي
(هامش)
(1) مدينة المعاجز ص 5، نحوه. (*)
مولوي؟ قد يقال: إنه إرشادي عقلي، ولا يمكن أن يكون شرعيا مولويا، لوقوعه في سلسلة معاليل الأحكام، فيكون حاله حال وجوب الإطاعة، فلو كان شرعيا يلزم من وجوده تكرره، وكل ما كان كذلك يلزم منه التسلسل المحال، فهو باطل ومحال. وبعبارة أخرى: لو كان أمر تب شرعيا، يلزم من ذلك تعلق أمر آخر مثل الأمر الأول به، فيكون الأمر الأول المتعلق بمادة التوبة موضوعا للأمر الثاني متعلقا بتلك المادة، وهكذا الأمر الثاني يكون موضوعا للأمر الثالث بتلك المادة، وهكذا وهلم جرا، فيلزم من وجوده تكرره، فيكون محالا كما عرفت. ولكن هذا القياس ليس في محله وباطل، وذلك لان أمر أطع موضوعه كل أمر شرعي مولوي صدر من الشارع، لان الإطاعة عبارة عن امتثال كل أمر مولوي صدر عن الشارع، فلو كان أمر أطع شرعيا مولويا فكل فرد من أفراد أمر أطع يكون موضوعا لأمر آخر مثله، فقهرا لا ينتهي مثل هذا إلى حد، لان كل واحد من أفراد أطع يولد مثله فيلزم من وجوده تكرره، ومثل هذا يلزم منه التسلسل المحال. وأما أمر تب فليس وجوده موضوعا لأمر آخر مثله كي يلزم من وجوده تكرره، بل ينقطع بامتثال كل واحد ما بعده، إذ موضوع المتأخر عصيان المتقدم لا وجوده، فلا يدخل تحت قاعدة كل ما يلزم من وجوده تكرره فهو محال كما كان في باب الإطاعة كذلك، فقياس أمر التوبة بأمر الإطاعة باطل. وليس معنى التوبة لا تعص كي يكون مثل باب الإطاعة، بل معناه هو أنه إذا عصيت ارجع عن غيك وضلالك إلى الله، أو إلى الطريق المستقيم، ومآل كليهما واحد ثم إنه بعد ما عرفت أن كون أمرها أمرا شرعيا مولويا ممكن، ففي مقام
الإثبات يكفي لإثباته هذه الآيات الكثيرة، والروايات المتواترة، وتلك الأدلة العقلية. ثم إنه من آثار كونه أمرا شرعيا مولويا هو أنه لو عصى معصية واحدة وإن كان ما ارتكبه من الصغائر ولم يتب يصير فاسقا، لإصراره على المعصية بترك التوبة، خصوص إذا تأخرت توبته مدة، فيصدر منه تروك كل واحد منها معصية، وإن قلنا بأن ترك التوبة معصية صغيرة لتحقق الإصرار الذي هو معصية كبيرة، فيصير فاسقا بذلك. وأما لو لم نقل بأن أمر التوبة أمر مولوي، بل إرشادي محض، فليس هاهنا إلا تلك المعصية الصغيرة التي ارتكبها، فلا يخرج عن العدالة وإن كان بانيا عازما على الرجوع إلى تلك المعصية، كالنظر إلى الأجنبية بناء على أن البناء والعزم على المعصية ليس بمعصية، كما أن الظاهر أنه هو كذلك. وهذا أثر مهم. الأمر الثاني: هل يعتبر في تحقق التوبة العزم على عدم العود إلى إيجاد مثل ما تاب عن إيجاده، أم لا؟ والظاهر هو أن العزم على عدم العود إليه وإرادة عدم إيجاده مرة أخرى من لوازم التوبة، بمعنى الندم عما فعل بحيث لا ينفك عنه. نعم لا ينافي الندم عن فعل شيء والعزم على تركه طول عمره مع احتمال صدوره عنه لوجود غريزة، أو طرو حالة تمنعه عن الاستمرار على الترك، وإن كان في الحال الحاضر عازما على الاستمرار على الترك، كما في المتعودين بشرب الافيون أو سائر المخدرات لما يتوجه إلى مضاره ومفاسده يبني ويعزم على ترك شربه، ولكن العادات قاهرات، فربما يطرأ عليه حالة تمنعه على الجري على طبق عزمه، فطرو مثل هذه الحالات بالنسبة إلى التائب لا ينافي مع تحقق التوبة منه في السابق، ولا ينافي العزم على العدم قبل طرو هذه الحالة. وعلى كل حال العزم على عدم العود إليه معتبر فيها، بمعنى أنه من لوازمها ول
ينفك عنها وإن كان خارجا من حقيقتها، إذ لازم الشيء غير نفس الشيء، بل وغير ذاتياته الايساغوجي وإن أدخلوه في تعريفها، فهو من باب أنه قد يعرفون الشيء بلوازمه وآثاره وأعراضه، فيكون رسما لا حدا حسب اصطلاح المنطقيين. الأمر الثالث: هل يعتبر في تحقق التوبة الاستغفار، أم لا؟ الحق في هذا المقام أن حقيقة التوبة في مقام اللب هو الندم عما صدر عنه من المعاصي، كما ورد أن الندم توبة 1، وأنه كفى بالندم توبة 2، وقوله عليه السلام في الصحيفة في دعاء التوبة: اللهم إن يكن الندم توبة إليك فأنا أندم النادمين 3 ولكن وصول هذه الحقيقة إلى مرحلة الإثبات يحتاج إلى الاعتراف باللسان والإنشاء بهذه الكلمة المركبة من جملتي استغفر الله ربي وجملة أتوب إليه ، وكمالها بالجري عملا على طبقها. وذلك كما أن حقيقة الإسلام هو الاعتقاد بالشهادتين وأنه لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله ، ولكن وصوله إلى مرتبة الإثبات بالإقرار والاعتراف بالجملتين باللسان، ولا تترتب عليه الآثار إلا بإظهار الجملتين، وكماله بالعمل بالاركان وأن يعمل بأحكام الإسلام بإتيان الواجبات، وفعل ما يقدر ويسهل عليه من المستحبات، وتركه جميع المحرمات، وما يسهل عليه تركه من المكروهات، فكذلك في المقام وإن كان حقيقة التوبة هي الندم والعزم على ترك العود إليه كما ذكرنا، وهذا أمر قلبي، ولكن بلوغها بمرتبة الإثبات وترتيب الآثار عليها بذكر الجملتين، أي
(هامش)
(1) عوالي اللئالي ج 1 ص 292 ح 168، الفصل العاشر، وسائل الشيعة ج 11 ص 349، أبواب جهاد النفس باب 83 ح 5 وفيه: الندامة توبة. (2) الخصال ص 16 ح 57 كفى بالندم توبة، وسائل الشيعة ج 11 ص 349 أبواب جهاد النفس، باب 83 ح 6. (3) الصحيفة السجادية ص 164 و 165، دعاء 31. (*)
أستغفر الله ربي ، وجملة أتوب إليه . فحينئذ يجمع بين الروايات الواردة في هذا المقام بحمل ما يكون مفادها أن التوبة هي الاستغفار على مرتبة البلوغ إلى مقام الإثبات، وما يكون مفادها أن التوبة عبارة عن الندم والعزم على عدم العود إليه على بيان حقيقة التوبة في مقام الثبوت، وما يكون مفادها أداء الحقوق وقضاء الفرائض التي ضيعها، وإذابة اللحم الذي نبت على السحت بالاحزان، وإذاقة الجسم ألم الطاعة وأمثال المذكورات على بيان مرتبة كمالها بالعمل على طبقها، والجري على وفقها. وعند العرف أيضا إذا أساء شخص إلى آخر وندم من إساءته، يأتي إليه ويطلب العفو والمغفرة، ويظهر ندامته بهذا أو ينشيء ندامته بهذه الجملة، فالاستغفار وإنشاء التوبة بقوله أستغفر الله ربي وأتوب إليه متأخر عن واقع التوبة التي هي عبارة عن نفس الندم والعزم على عدم العود إليه. وخلاصة الكلام: أن التوبة - أي رجوع النفس عن الغي والضلال إلى طريق الرشد والهداية والكمال - لها عرض عريض، ومراتب كثيرة متفاوتة بالشدة والضعف، والنقص والكمال، وبعض الآيات والأخبار ربما يعبر عن بعض المراتب النازلة أو الكاملة، والآية أو الرواية الآخرى تعبر عن بعض آخر بعكس الطائفة الأولى، فيتوهم المتوهم التعارض بينها، أو أن للتوبة معان متعددة وهي لفظ مشترك بينها. ولكن لا هذ ولا ذاك، بل هذه الاستعمالات لأجل أنه أريد من كل واحد منها مرتبة منها غير ما أريد من الآخر، فيخيل إلى الناظر أنها معان متعددة. الأمر الرابع: في أنه هل يمكن التبعيض في التوبة، بمعنى أنه يتوب عن بعض المعاصي دون البعض الآخر، أم لا؟ ربم يقال بعدم إمكان ذلك، لان حقيقة التوبة هي الرجوع عن مخالفة الله
والطغيان عليه إلى طاعته والتسليم لأمره، فيندم لأجل أنه مما يوجب سخط الله وغضبه أو البعد عنه، وهذه الجهة والعلة مشتركة بين المعاصي، فالعزم على ترك البعض دون البعض الآخر. وكذلك الندم عن ارتكاب البعض دون البعض الآخر غير ممكن، مع اشتراك الجميع في علة الندم من الفعل، والعزم على الترك. وإن شئت قلت: ليس الندم والعزم على الترك إلا لتقديم رضا الله على رضا نفسه بنيل الشهوات والخروج عن الطغيان والغي والضلال، والرجوع إلى الطاعة والعمل بوظيفة العبودية، ومقتضى هذا المعنى هو العزم على ترك جميع المعاصي صغيرها وكبيرها، كانت من حقوق الله أو من حقوق الناس، والتخصيص ببعض دون بعض لا وجه له. وفيه: أن المعاصي تختلف من حيث سخط المولى تعالى بصدورها عن العبد، ولاشك في شدة العذاب الاليم بالنسبة إلى البعض دون البعض، وكذلك سخطه أشد بالنسبة إلى البعض، فما كان السخط فيه أشد والعذاب أغلظ، علة العزم على الترك فيه أقوى، فيؤثر في نفس العبد أزيد ويعزم على الترك. وإذا رأى أن العذاب فيه أغلظ أو مدته أطول كما أنه في قتل العمد مؤمنا نص الكتاب العزيز بالخلود في النار، وقال تعالى: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها) 1 فيكون الداعي على الترك أقوى، فقهرا يحصل الندم على مثل هذا الفعل العظيم. ومما يكون موجبا للفرق في وجود الندم والعزم على الترك بين المعاصي اختلاف الشهوات بالنسبة إلى أفرادها، وهذ أمر محسوس بالنسبة إلى المخدرات، فإذا تعود الشخص بشربها وصار كالطبيعة الثانية له وحضر وقت عادته، فلا يتمكن عادة من تركه، ولا يحصل له الندم على فعله الماضي، بل يشتاقه غاية الاشتياق مع كراهته لسائر المعاصي، وكذلك الشاب الشبق إذا احتاج وخلى من الاجنبية
(هامش)
(1) النساء 4: 93. (*)
الجميلة، ولم يكن مانع في البين من فعل المحرم، فلا يمكنه عادة العزم على ترك الفعل خصوصا إذا كان عاشقا لها. وخلاصة الكلام: أن اختلاف المعاصي من حيث الكبر والصغر، ومن حيث كونها موجبة لاستحقاق العذاب الأشد والأخف، ومن حيث الاختلاف في كون بعضه أقرب إلى تطرق العفو من البعض الآخر، ومن حيث كون بعضها مما يقطع الرجاء دون البعض الآخر، ومن حيث كون بعضها مما يمنع قبول الدعاء دون الآخر، ومن حيث اختلاف الرغبات والشهوات والعادات موجب لصحة التبعيض في التوبة، فيتوب عن بعض دون البعض الآخر، فليست العلة مشتركة في الجميع كي لا يكون التفكيك والتبعيض ممكنا كما توهمه المتوهم. ومن جملة ما يوجب التبعيض شدة العداوة لشخص، فلا يتوب عن إيذائه والافتراء عليه وغيبته وإشاعة عيوبه والازدراء به، وقد رأينا أشخاصا مجتنبين عن أكثر المعاصي الكبيرة غاية الاجتناب، ومع ذلك لا يجتنبون عن تفريط الاوقاف أو سهم الإمام عليه السلام، ويفرون من شرب الخمر أو السرقة أو قتل النفس فرار الحمر المستنفرة من قسورة، ولكن لايتورعون بالنسبة إلى الاوقاف وسهم الإمام عليه السلام أبدا. والحاصل، أن القول بعدم إمكان التبعيض في التوبة لما ذكروه في غاية الضعف، بل أمر ممكن، بل يقع كثيرا. ومنشأ الامكان والصحة تلك الاختلافات التي ذكرناها. الأمر الخامس: هل يجب التوبة عن الصغائر مع اجتنابه عن الكبائر أم لا، لان التوبة عنها مع الاجتناب عن الكبائر لا أثر لها، بل يكون لغوا، لان الله تبارك وتعالى وعد العفو عن الصغائر إن اجتنب عن الكبائر، وقال في كتابه العزيز: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما) 1.
(هامش)
(1) النساء 4: 31. (*)
ولكن أنت خبير بأنه ليس فائدة التوبة عن الصغائر منحصرة بالخلاص عن عقابها، بل كل معصية توجب نقصا في النفس، وموجبة لهبوطها عن الكمال والصعود إلى الدرجات العالية، وتوجد نقطة سوداء في النفس، كما في بعض الأخبار الصادرة عن أهل بيت العصمة، فبعد أن وفقه الله للتوبة يبدل الله تلك النقطة السوداء بالبيضاء، وإلا تكبر وتحيط على تمام القلب، فلا يبالي بارتكاب أي معصية كبيرة أو صغيرة، فطهارة القلب وتذكيته عن دنس المعصية لا يمكن إلا بالتوبة والرجوع إلى الله وإلى الطريق المستقيم. وهذا أثر للتوبة لاربط له بمسألة العفو عن العقاب، ولا يحصل هذا الاثر إلا بالتوبة، ولعله إلى هذا يشير قوله صلى الله عليه وآله التائب من الذنب كمن لا ذنب له 1 أي ل يبقى بعد التوبة أي أثر لذنبه لا أنها ترفع العقاب فقط. هذا، مضافا إلى أنه من أين يقطع أو يطمئن بعدم صدور الكبيرة، والله تعالى علق تكفير الصغائر ورفع العقاب على الاجتناب عن جميع الكبائر، وأنى له بذلك مع كثرة المغريات، وازدياد أسباب الشهوات، وخروج الخلق عن بساطة المعيشة مع وفور أسباب اللذائذ وسعة العيش والملهيات المهلكات وقلة المنجيات، وأما التوبة فتريحه من جميع ذلك، وتجعل قلبه كالمرآة الصافية زائد عنه كل نقيصة كيوم ولدته أمه. ولذلك الأنبياء والأئمة المعصومين عليهم السلام مع أنهم قطعا بالأدلةالقطعية لا يرتكبون الكبائر، ومع ذلك لا نجوز في حقهم ارتكاب الصغائر، لأنه نقص لا يليق بمنصب النبوة والإمامة والزعامة الحقة الكبرى، والولاية المطلقة التي ادعيناها وأثبتناها في حق النبي صلى الله عليه وآله والأئمة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين.
(هامش)
(1) تقدم ص 325، هامش 1. (*)
الأمر السادس: في أنه إذا تاب العبد عن ذنوبه التي ارتكبها، وندم من المعاصي التي فعلها، وعزم على عدم العود إليها مرة أخرى، ورجع إليه تعالى بعد ما كان منحرفا عن الطريق المستقيم معرضا عن الله - العياذ بالله - وكان غارقا في الشهوات والملاهي والملذات، ولكن بعد أن كان مدة من الزمن تائبا راجعا إلى الحق غلبه الهوى والشهوات ثانيا، والنفس الامارة بالسوء جرته ثانيا إلى ارتكاب المعاصي والمناهي، فهل له التخلص عن عواقبه ومفاسده بالتوبة أم لا، بل يسقط عن قابلية التوبة؟ والصحيح هو أنه لو ألف مرة خالف مرة خالف عهده مع الله بالتوبة في المرة بعد الألف أيضا مثل سوابقه تقبل التوبة، ولا وجه لعدمه، لان التائب يخرج من البغي والضلال إلى الطاعة والهداية، فكان شيئا وصار شيئا آخر. وهذا بناء على كون ملكات النفس وحالاتها عين النفس واضح لاخفاء فيه، إذ بناء على هذا النفس بالتوبة تصعد إلى الكمال، كما أنه بالعصيان - العياذ بالله - تهبط إلى النقصان، وربما ينزل إلى أضل من الحيوان، فكم أن في الاجسام نمو وذبول، كذلك في النفس بالحركة الجوهرية استكمال في جوهر ذاته وانتقاص في ذاته كذلك. والأول في النفس مثل النمو في الجسم الذي هو عبارة عن الزيادة في الأجزاء في الجسم على النهج الطبيعي، كذلك الاستكمال زيادة في أصل جوهر النفس، أي يترقى من الجمادية إلى النباتية، ومنها إلى الحيوانية، ومنها إلى الإنسانية، ومنها إلى الملكوتية. والثاني - أي الانتقاص - مثل الذبول، فكما أن الذبول نقص في الأجزاء الأصلية للجسم، كذلك الانتقاص في النفس نقص في حقيقته وجوهرها، وربما يصير أنقص من الحيوان في جوهر ذاته كما في الآية الشريفة، فلا معنى لعدم قبول
التوبة، لأنها - أي النفس - وصلت وحصل لها العلو والترقي، ولذا قلنا إن توبة المرتد الفطري تقبل، ولا معنى لعدم قبول توبته. نعم قد يكون للمعصية أو الارتداد عن فطرة أحكام اجتماعية لا ترفع بالتوبة، كما أن قاتل العمد - أي من قتل مؤمنا عمدا - يستحق القتل، سواء تاب أو لم يتب والغاصب ومتلف مال الغير ضامن لذلك المال، تاب أو لم يتب، كذلك المرتد الفطري له أحكام اجتماعية حفظا لحدود الإسلام، سواء تاب أو لم يتب، وهو قتله، وإبانة زوجته، ووجوب اعتدادها من أول زمان ارتداده، وتقسيم تركته بين الورثة، فهذه الأحكام الاربعة لا ترتفع بالتوبة، لا أنها أحكام اجتماعية غير مربوطة بعدم قبول توبته، وإن اشتهر في الالسنة عدم قبول توبة المرتد الفطري. وأم عدم قبول توبة فرعون حين قال لما أدركه الغرق (قال أمنت أنه لا إله الا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين. الان وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) 1 فمن المحتمل أنه يكون من جهة أنه كان يكذب، وكان يرتد التخلص من الغرق بهذه الكذبة. وهذا لا ينافي ما رواه في العيون عن الرضا عليه السلام أنه سئل: لاي علة غرق الله تعالى فرعون وقد آمن به وأقر بتوحيده؟ قال عليه السلام: لأنه آمن عند رؤية البأس 2. والإيمان عند رؤية البأس غير مقبول، لأنه من الممكن أن يكون إيمانه عند رؤية البأس كذبا ويريد التخلص بهذه الكذبة كما قلنا، أو كان جزاء كفره السابق إن قلن بأنه آمن حقيقة وواقعا ولكن الواقع خلافه، فإنه لم يؤمن قط وقد كذب لأجل التخلص.
(هامش)
(1) يونس 10: 90 و 91. (2) عيون الرضا ج 2 ص 77 باب 32 في ذكر ما جاء عن الرضا عليه السلام من العلل، ح 7، وسائل الشيعة ج 11 ص 372 أبواب جهاد النفس باب 93 ح 9. (*)
ولكن ظاهر بعض الروايات والآيات أنه إذا رأوا بأسنا فلا ينفعهم إيمانهم 1. واستثنى الله من هذه الكلية قوم يونس فقط 2. وعلى كل حال ورد في هذه المسألة - أي مسألة نقض التوبة وإعادتها هل تقبل أم لا - روايات أنها تقبل، كما في رواية محمد بن مسلم عن الإمام الباقر عليه السلام قال: يا محمد بن مسلم ذنوب المسلم إذا تاب منها مغفورة فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة والمغفرة، أما والله إنها ليست إلا لأهل الإيمان قلت: فإن عاد بعد التوبة والاستغفار في الذنوب وعاد في التوبة؟ فقال: يا محمد ابن مسلم أترى العبد المؤمن يندم على ذنبه ويستغفر الله تعالى منه ثم ل يقبل الله تعالى توبته . قلت: فإن فعل ذلك مرارا يذنب ويتوب ويستغفر؟ فقال عليه السلام: كلما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة عاد الله تعالى عليه بالمغفرة، وإن الله تعالى غفور رحيم يقبل التوبة ويعفو عن السيئات. قال: وإياك أن تقنط المؤمنين من رحمة الله تعالى 3. ورواية أبي بصير المروية في الكافي قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا) 4؟ قال عليه السلام: هو الذنب الذي لا يعود إليه أبد . قلت: وأينا لم يتب ويعد. فقال: يا أبا محمد إن الله تعالى يحب من عباده المفتن التواب 5. وأيضا في الكافي عن الصادق عليه السلام قال: أن الله يحب العبد المفتن التواب، ومن لا يكون ذلك منه كان أفضل 6. وأيضا في الكافي عن الإمام الباقر عليه السلام قال: إن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام
(هامش)
(1) غافر 40: 85 فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا.. (2) يونس 10: 98. (3) الكافي ج 2 ص 315 باب التوبة ح 6، وسائل الشيعة ج 11 ص 363 أبواب جهاد النفس باب 89 ح 1. (4) التحريم 66: 8. (5) الكافي ج 2 ص 314 باب التوبة ح 4، وسائل الشيعة ج 11 ص 357 أبواب جهاد النفس باب 86 ح 3. (6) الكافي ج 2 ص 316 باب التوبة ح 9، وسائل الشيعة ج 11 ص 363 أبواب جهاد النفس باب 89 ح 2. (*)
أن ائت عبدي دانيال فقل له: إنك عصيتني فغفرت لك، وعصيتني فغفرت لك، وعصيتني فغفرت لك، فإن عصيتني الرابعة لم أغفر لك. فقال دانيال: قد بلغت يا نبي الله، فلما كان في السحر قال دانيال وناجى ربه فقال: يا رب إن داود نبيك أخبرني عنك أني قد عصيتك فغفرت لي، وعصيتك فغفرت لي، وعصيتك فغفرت لي، و أخبرني عنك أني إن عصيتك الرابعة لم تغفر لي، فوعزتك وجلالك لئن لم تعصمني فإني لاعصينك، ثم لاعصينك، ثم لاعصينك 1. وهذه الرواية صريحة في أن نقض التوبة وإعادة المعصية ثم بعدها التوبة ثانيا وثالث لايمنع عن قبولها كالروايات السابقة، ولكن فيها شيء آخر، وهو أن ظاهر الأخبار أن دانيال من الأنبياء، والأنبياء معصومون لا يعصون الله، ولا يرتكبون كبيرة ول صغيرة، فهي بناء على كون دانيال نبيا مؤولة أو مطروحة، وتأويلها كسائر الآيات التي ظاهرها إسناد العصيان إلى الأنبياء كقوله تعالى (وعصى آدم ربه فغوى) 2 فأول العصيان بترك الأولى، فهاهنا يكون المراد من عصيان دانيال أنه ثلاث مرات ترك ما هو الأولى والارجح. الديلمي في الإرشاد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله يستغفر الله في كل يوم سبعين مرة يقول استغفر الله ربي وأتوب إليه وكذلك أهل بيته وصالح أصحابه، يقول الله تعالى (واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه) 3. قال رجل: يا رسول الله إني أذنب فما أقول إذا تبت؟ قال صلى الله عليه وآله: استغفر الله . فقال: إني أتوب ثم أعود. فقال: كلما أذنبت استغفر الله فقال: إذن تكثر ذنوبي، فقال: عفو الله أكثر، فلا تزال تتوب حتى يكون الشيطان هو المدحور 4.
(هامش)
(1) الكافي ج 2 ص 316 باب التوبة ح 11. (2) طه 20: 121. (3) هود 11: 90. (4) إرشاد القلوب ص 45، وسائل الشيعة ج 11 ص 364، أبواب جهاد النفس باب 89 ح 5 (*)
وهذه الرواية أدل روايات هذا الباب على المقصود، أي صحة العفو مع نقض التوبة وتكرارها. وقال الفاضل النراقي في جامع السعادات: وورد في الإسرائيليات أن شابا عبد الله عشرين سنة ثم عصاه عشرين سنة، ثم نظر في المرآة فرأى الشيب في لحيته فساءه ذلك فقال: إلهي أطعتك عشرين سنة ثم عصيتك عشرين سنة فإن رجعت إليك تقبلني. فسمع قائل يقول: أحببتنا فأحببناك، فتركتنا فتركناك، وعصيتنا فأمهلناك، فإن رجعت إلينا قبلناك 1. فظهر لك توافر الأدلة العقلية والنقلية من الكتاب والسنة على أن الله تبارك وتعالى يقبل التوبة عن عباده وإن نقضها ألف مرة، فإنه غفور رحيم. الأمر السابع: في أن وجوب التوبة بناء على أنه إرشادي عقلي فوري، إذا العقل لا يجوز التأخير، أول لأنه من الممكن أن يموت قبل أن يتوب، فيبتلى بعقاب ما صدر عنه من المعاصي، والمؤمن من هذا الاحتمال ليس إلا أن يتوب فورا ويخلص نفسه عن تبعة ما صدر منه. وأيضا على فرض أنه لم يمت لاشك في أن المعصية توجب البعد عن الله ودناءة النفس وخستها وهبوطه وقصورها عن الوصول إلى مقام القرب ودرجات الكمال، فالعقل يحكم حكما بتيا بالخروج عن هذه النقيصة وفورية التوبة. وأما لو كان على الوجوب شرعيا، فالأوامر الشرعية وإن كانت لا تدل لا على الفور ولا على التراخي كما حقق في الاصول، ولكن هو فيما إذا كان لو عجل به الموت لا يبتلى بعقاب ترك الواجب ما لم يخرج عما هو وظيفة العبودية من المسامحة في امتثال أوامر المولى. وبعبارة أخرى: لا يعد تاركا للامتثال وعاصيا إل بعد مضي زمان يصدق عليه
(هامش)
(1) جامع السعادات ج 3 ص 68 و 69، المقام الرابع: قبول التوبة. (*)
أنه مسامح في الامتثال وغير معتن بتكاليفه، فالتأخير ليس في حد نفسه معصية، فلو مات قبل الامتثال ليس عليه شيء بخلاف المقام، فإن العصيان سجل عليه وصار مستحقا، وهو بواسطة التوبة يريد تحصيل العفو، فإن مات ولم يتب يبقى عليه الاستحقاق ولا مخلص منه إلا بالشفاعة، وهي له غير معلومة الحصول، فعقله يحكم عليه بفورية الامتثال. ولو كان وجوب أصل التوبة شرعيا فعلى كلا القولين - أي سواء كان وجوبها شرعيا أم عقليا - يجب عليه المبادرة في الامتثال عقلا ولا يبقى الاستحقاق في عهدته ولا مخلص له إل الشفاعة. الأمر الثامن: بعد الفراغ عن أن التوبة توجب العفو عن المؤاخذة على الذنب والمعصية التي تاب عنها وأنه لا يعاقب التائب، ويكون التائب كمن لا ذنب له، فهل هذ تفضل منه تعالى، وعدم العقاب ليس لأجل عدم الاستحقاق وارتفاعه بالتوبة كي يكون العقاب بعد التوبة ظلما وصدوره عن الله قبيحا ومحالا، أولا وعدم العقاب ليس لأجل قبحه ومحاليته على الله شأن كل قبيح. نعم حيث وعد تفضلا، ووعده حق وصدق، وخلف الوعد محال في حقه تعالى حيث قال (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما) 1 فمن هذه الجهة لا عقاب لا من جهة ارتفاع الاستحقاق بالتوبة. وإل فلا يرد إشكال على كون العقاب للعصيان المتقدم، ويكون أثر التوبة هو طهارة القلب والقرب إلى الله، ولذلك العصاة كانوا يأتون إلى النبي ويقولون: طهرني يا رسول الله بالنسبة إلى الحدود، وحال عذاب الآخرة أيضا كذلك، ولاتنافي بين قبول التوبة وبقاء الاستحقاق لولا وعده بالعفو تفضل.
(هامش)
(1) النساء 4: 110. (*)
هذا، مضافا إلى قوله صلى الله عليه وآله لام سعد بن معاذ بعد ما خاطبت سعد بعد دفنه: هنيئا لك الجنة يا أماه، قال صلى الله عليه وآله له: يا أم سعد لاتحتمن على ربك أمر ، ثم بين لها ما أصاب سعد من ضغط القبر. والإنسان إذا راجع الآيات والأخبار - بل العقل - يرى ويعلم أن كل ما يصل إليه من الرحمة والخير من قبل الله تعالى تفضل منه تعالى وإحسان، لا أنه بالاستحقاق كي يكون عدمه ظلما. الأمر التاسع: هل يجب تجديد التوبة بعد أن تاب عن معصية ومضى زمن وغفل عنها حينما ذكرها فيما بعد والتفت إليها، أو تلك التوبة السابقة كافية في ارتفاع أثر المعصية السابقة ولايحتاج إلى تجديدها؟ ربما يقال بلزوم تجديد العزم على الترك والندم على ما فعل وارتكب من المعصية في الزمان الماضي، لان معنى التوبة هو الرجوع إلى الله، والعدول إلى الطريق المستقيم من الانحراف، والإعراض عن الله تعالى والندم على ما فعل، فإن زال هذ المعنى عنه ولم يبق ندامته ولا العزم على الترك فلا يكون تائبا وراجعا بقاء، خصوص إذا كان بعد أن التفت إلى عصيانه وأنه ارتكب المحرم الفلاني اشتاقت نفسه إليه. ولو لم يرتكب لمانع آخر، لاللندم عن فعله السابق، وللعزم على الترك، بل إما لعدم إمكانه الارتكاب أو لمانع آخر، فهو في هذه الحالة ليس بتائب ولا بنادم عما فعل. ولكن أنت خبير بأن حقيقة التوبة هو الندم عن فعل المحرم والعزم على تركه، وهذا المعنى حصل، وأما عدم الاشتياق في الأزمنة المتأخرة إليه طول عمره فليس داخلا في حقيقة التوبة، ولا هو من لوازمه.
وبعبارة أخرى: حصلت التوبة وعفى الله عما سلف، حتى لو ارتكب ذلك المحرم ثانيا بعد أن تاب وعزم على تركه فتكون هذه معصية جديدة، ولا يضر بالعفو السابق، ولا يعاقب على فعله السابق، بل استحقاق العقاب على فعله الثاني فقط إن لم يتب عنه، وإلا إن تاب عنه ثانيا أيضا كما تاب عن فعله الأول فلا عقاب لا على الأول لحصول العفو له بالتوبة الأولى، ولا على الثانية للتوبة الثانية. وهكذا الحال في تكرار الفعل وتكرار التوبة، كما أنه ينفق كثيرا وكان في مضامين الأخبار السابقة. مضافا إلى أنه مشمول حكم العقل أيضا بحصول التوبة وقبولها كما تقدم بيانه. فظهر أن تجديد العزم على الترك والندم على ما فعل سابقا بعد الغفلة عما فعل من المعاصي بعد التوبة عنه سابقا وإن كان حسنا ومن كمال الإيمان وسلامة القلب وطهارته من أدناس المعاصي، ولكن لا يحتاج إليه في بقاء العفو السابق، لان العفو إذا حصل فهو باق، بل هو من قبيل إسقاط ما في الذمة فلا يعود إلا بسبب جديد، فالعفو إذا حصل لا يبقى محل للمؤأخذة والعقاب إلا بسبب جديد. وفيما نحن فيه ليس السبب الجديد إلا بالمعصية الجديدة، والمفروض أنه ليس في البين معصية جديدة. إن قلت: لا نسلم أن العفو حصل بصرف حصول الندم والعزم على الترك آناما، بل حصول العفو مشروط بالشرط المتأخر على بقاء الندم والعزم على الترك طول عمر التائب. فجوابه: أن هذا مخالف لما هو الظاهر من معنى التوبة والمفهوم العرفي منها، وأيضا مخالف لحكم العقل وللأخبار المتقدمة كما بين. الأمر العاشر: إن الإنسان إذا أراد أن يتوب وهو ارتكب معاصي كثيرة صغيرة وكبيرة، وذلك كما أن شخصا مدة مديدة من عمره كان منحرفا عن الطريق المستقيم،
وكان لا يبالي بما يفعل أو يقول أو يسمع، ثم هداه الله وأراد أن يتوب عن جميع المعاصي التي ارتكبها، فهل يحتاج إلى تذكرها تفصيلا ثم يندم على فعله وصدوره منه ويعزم على ترك كل واحد واحد تفصيلا، أو يكفي الندامة على الجميع بنحو الإجمال والعزم على ترك الجميع كذلك؟ لاشبهة في صدق التوبة بالنسبة إلى جميع المعاصي لو ندم عن جميع ما فعل وارتكب وعزم على ترك جميع المحرمات، سواء أحضر صورها التفصيلية في ذهنه أم لا. وذلك من جهة أن التنفر من فعل شيء والعزم على تركه وأن لا يوجده يتحقق بعدم إرادة فعله، فلا مانع من أن يتعلق إرادته وقصده بعدم إرادة إيجاد ما هو من مصاديق الحرام، أو مما لا يرضى الله بفعله وإيجاده. نعم إيجاد مصاديق هذا العنوان العام - أي مالا يرضى الله بفعله مثلا - لا يمكن إلا بالإرادة التفصيلية لنفس المصاديق، وأما الترك حيث أن تحققه بعدم وجود علته - أي عدم إرادة الوجود وعدم إرادة الإيجاد - يكفي فيه قصد ترك جميع مصاديق ذلك العنوان العام، فتحقق التوبة بقصد ترك ذلك العنوان الإجمالي. وفرق واضح بين إيجاد مصاديق العام وبين تركها، ففي طرف الإيجاد لا يمكن إلا بإرادات مفصلة لجميع مصاديق ذلك العنوان العام، وأما في طرف الترك يكفي قصد ترك الجميع، بأن يتعلق القصد والإرادة الواحدة بترك ذلك العنوان الإجمالي العام. والسر في ذلك: أنه في طرف الإيجاد لكل مصداق يحتاج إلى وجود إرادة متعلقة به، لأنها من مبادئ وجوده، فبدونه لو تحقق يلزم أن يكون وجود المعلول بدون وجود علته، وهذا محال. وأما في طرف الترك يكفي عدم إرادة ذلك المصداق، وهذا المعنى يحصل بإرادة ترك ذلك العنوان الإجمالي، ولا يحتاج إلى إرادة عدم كل واحد تفصيل.
إن قلت: إن التوبة لو كانت صرف عدم العصيان لكان ما ذكرت حقا وصحيحا، ولكن الأمر ليس التوبة صرف الترك وعدم العصيان، بل هي عبارة عن الترك، بمعنى ردع النفس ومنعه عن ارتكاب الشهوات والمحرمات للوصول إلى مراتب القدس والكمال، والاتصال المعنوي إلى حضرة ذي الجلال، وهذا المعنى لا يحصل إلا بالترك بمعنى كف النفس عن ارتكاب الملاذ المحرمة ومتابعة الشهوات، مثل الصوم الذي هو من أكبر العبادات وأفضل القربات، فإنه صرف انتراك المفطرات، بل عبارة عن إمساك النفس عن ارتكابها، ولذلك يجب فيه القصد والعزم على تركها. والجواب: أن تلك الإرادة والقصد المتعلق بالعنوان الإجمالي يكفي في استناد الترك إلى التائب، كما أن الأمر في الصوم أيضا كذلك، فلو نوى الامساك عن المفطرات التي جعلها الشارع مفطرا يكفي في تحقق الصوم وإن لم يعرفها تفصيلا، بل في نيته هذه المفطرات التي هي مكتوبة في هذه الرسالة أمسك عنها إذا سئل عن العارف بالأحكام، فكل ما عين وقال أنه مفطر أمسك عنه، فقصد ذلك العنوان الإجمالي موجب لصحة استناد هذه التروك إلى التائب، بل ذلك القصد يصير سببا لكف النفس عن ارتكاب مصاديق ذلك العنوان. وإذا سئل عنه لماذا لا تفعل كذا وكذا، يجب بأني تبت وبنيت على عدم ارتكاب هذه الأمور. [ الأمر ] الحادي عشر: في بيان طرق التوبة عن المعاصي. قد عرفت أن التوبة عبارة عن الندم عن فعل ما هو محرم، أو عن ترك ما هو واجب، وهو أيضا يرجع إلى ما هو المحرم، لان ترك الواجب حرام. والمحرمات على أقسام: منها: ترك الواجبات العبادية، كالصلاة والصوم والزكاة والحج والخمس والكفارات والمنذورات، وطريق التوبة فيها بعد الندم على تركها فيما مضى، والعزم
على عدم تركها يأتي، هو قضاء ما فات منها إن كان له قضاء ما لم يبلغ إلى العسر والحرج المسقطين للتكاليف. ومنها: المحرمات التي هي حقوق الله، كشرب الخمر واللواط والزنا بغير ذات البعل مع رضا الولد والمرأة، وكأقسام الملاهي، وأقسام القمار كالنرد والشطرنج وغيرهما من أصناف القمار، والكذب الذي غير ضار بغيره بناء على حرمته. وطريق التوبة فيها هو الندم على ما صدر منها منه، والعزم على عدم العود إلى مثلها. ومنها: ما يسمى بحقوق الناس، وهذا القسم طريقها أصعب من القسمين الأولين، لأنه يحتاج إلى إرضاء من له الحق أيضا، مضافا إلى الندم والعزم على العدم. وهذ القسم إما في أموال الناس، بمعنى أنه لهم حق مالي عليه، لخيانته في أموالهم بسرقة، أو إتلاف بحيث أخفى الأمر على صاحبه، أو غش في معاملاته معهم أو غرهم على ذهاب ماله، وكل مورد اشتغلت ذمته بمال للغير بأحد أسباب الضمان وأخفى على المضمون له فرارا عن الأداء، فيجب عليه أولا الندم على ما فعل إن كان صدر عنه عمدا وأغفل هو صاحب المال لأجل أن لا يفهم فيطالبه، ثم يعزم على أن لا يعود لمثل هذه الخيانات في أموال الناس، ثم بعد ذلك يفرغ ذمته بإعطاء الحق لصاحبه ويعتذر منه من الضرر المالي الذي أوقعه فيه بعد تدارك الضرر عينا ومنفعة. فلو أخذ مثلا شاة حلوبا منه بدراهم مغشوشة غير رائجة معيوبة مع علمه بأنها مغشوشة فعليه أولا أن يندم مما فعل، والعزم على عدم العود على ذلك، ثم يرد عين الشاة وقيمة حليبها الذي استفاد منها وصوفه الذي قصه وسائر منافعه إن كانت لها، وحكم الغاشين في جميع معاملاتهم هكذا، أي التوبة مع تدارك الضرر الذي أوردوها على الطرف. وكذلك الحكم في جميع أبواب الضمانات التي منشاؤها إتلاف مال الغير عمدا وعصيانا، ففي الجميع يجب التوبة والتدارك.
وإما في أنفسهم من جناية أو قتل، عمديين أو خطأ، فإن كان من الأول يجب عليه بعد التوبة بما ذكرنا تسليم نفسه وتمكينه من الاقتصاص منه، أو يعفوا الولي أو الأولياء عنه، أو يبدلون القصاص برضائهم إلى أخذ الدية. وأما لو كان خطأ فيجب عليه أن يؤدى الدية للمجني عليه إن كان حيا بعد أن يتوب، وإلا فللورثة، وإن كان عاجزا عن أداء الدية فعليه أن يستحل منهم بالتضرع والالحاح، وإن لم يحلوه مع كثرة إلحاحه وتضرعه إليهم فعليه الابتهال إلى الله، وأن يكثر من الاستغفار للمجني عليه لعل الله يعفو عنه ويرضى المجني عليه كي لا يكون في القيامة عليه تبعة، فإن الله على كل شيء قدير، فيعطى للمجني عليه ما يرضى به عنه، إذ حساب الآخرة غير حساب الدنيا، فهناك يعلم أن ما فات منه بواسطة جناية هذا الجاني في غاية، لان نعم الآخرة أبدية، وهذا الذي فات منه شيء فان داثر وإن كان الفائت حياته، لكن حياته في الدنيا لما كانت قصيرة في مقابل تلك النعم التي يعطيها الله تبارك وتعالى ليس شيء يذكرو لا يحسب بحساب، ولذلك يرضى بهذه المعاوضة والمعاملة. وإما في أعراض الناس، أي هتك عرض مسلم، بأن قذفه وقال: فلان زان، أو فلانة زانية، أو نسب اللواط إلى الفاعل أو المفعول، أو قال: إنه سارق، أو قال: إن فلانا فاسق، أو قال: إن فلانا لا دين له، أو نسبه إلى أحد الاديان الباطلة، أو قال: إن فلانا من أهل الغيبة ويغتاب الناس، وأمثال ذلك من المخازي والمعائب، فطريق توبته بعد الندم والعزم على ترك أمثال هذه التهم، أو ولو كان في حاق الواقع صادقا لكن ليس له طريق إثبات، هو أن يكذب نفسه عند ما قال له ذلك أو يقول مثلا: أنا اشتبهت الذي أنا سمعت كان غير هذا الشخص وأنا غلطت في الاسم، وأمثال هذه الاعتذارات لرفع التهمة أو المخازي عنه، أو يستحل منه ويتضرع كي يسقط حقه، أو يسلم نفسه ويمكن ذي الحق من إجراء حد القذف عليه، أو يعطيه شيئا كي يسقط حقه.
كل ذلك فيما إذا لم يترتب مفسدة على الاظهار وطلب إسقاط حقه، وأما إذا كان الاستحلال المتوقف على إظهار ما قال موجبا لفتنة، أو فساد، أو ضرر مالي غير قابل للتحمل، أو وإن كان قابلا للتحمل، فحينئذ الأحسن أن يستغفر له ويدعو له ويبتهل إلى الله أن يرضيه عنه في القيامة كي يخلص عن تبعة ما قال، والله على كل شيء قدير. ومم ذكرنا ظهر أن الحق لو كان من جهة الخيانة مع زوجته أو أخته أو بنته أو سائر محارمه بحيث يكون الاظهار للاستحلال وإسقاط حقه موجبا لفساد عظيم بل ربما ينجر إلى القتل والقتال، فحينئذ لا يجوز الاظهار الا بالاعتراف عند الحاكم الشرعي لأجل إجراء الحد، ففي مثل هذه الحال إن أمكن تحصيل إسقاط حقه بدون وقوع مفسدة، بأن طلب إسقاط جميع ماله عليه من الحق، أي حق كان - سواء كان متعلقا بالأموال أو بالنفوس أو الإعراض بهذه العناوين العامة كي لا تقع مفسدة في البين - فيجب، وإلا فالأحسن الاستغفار له، والإحسان إليه، وإيكال أمره إلى الله والتضرع والالحاح عند الله بأن يرضيه عنه يوم تبلى السرائر وينكشف الحال، والله على كل شيء قدير. والذي استفدت من الأخبار والأحاديث أنه إذا اتفق أمثال هذه الأمور مما يتولد من إظهاره فساد عظيم، الأحسن والأولى بل الأحوط - إن لم يكن أقوى - هو دفنها في هذا الدنيا وعدم إظهارها أبد. نعم بينه وبين الله يتوب توبة نصوحا. وكلما في قوته وقدرته من الطاعات والعبادات يأتي بها لصاحب الحق عوض هتك عرضه والخيانة التي صدرت منه بالنسبة إلى حرمه أو محارمه، ويبتهل إلى الله ويتضرع عنده بمقدار ما يمكنه، ويجهد ما يستطيع في أن الله يرضيه في الآخرة عنه بإسقاط حقه، وما ذلك بعزيز على الله القدير على كل شيء. وقد بينا أن حساب الآخرة فرب شيء في الدنيا في نظره له أهمية عظيمة،
ولكن في الآخرة يعرف أنه ليس له أهمية أصلا، بل في هذه الدنيا قبيل موته حين م يعاينه - أي الموت - يعرف أن لهذا الذي كان في نظره أهمية كبيرة لا أهمية له أصلا، هو والتراب سواء، وهاهنا علماء الأخلاق ذكروا لهذا الموضوع قصص وحكايات كثيرة، وإن شئت فراجع كتبهم، وأبسط ما رأيناه كتاب إحياء العلوم للغزالي 1، ولكن الأحسن والأجود ما في كتب الأخبار الصادرة عن أهل بيت العصمة كقضية يوزاسف وبلوهر التي ذكرها المجلسي عليه الرحمة والرضوان في كتابه عين الحياة. واسأل الله أن يهدين سواء السبيل. [ الأمر ] الثاني عشر: في بيان مراتب التوبة: الأولى: أن يندم على صدور جميع المعاصي التي صدرت منه، ويعزم على الاحتراز والاجتناب عن جميع المعاصي وما حرمه الله، كبيرة كانت أو صغيرة، ويستديم على هذا العزم وهذه النية طول عمره وينزه قلبه ويطهره عن جميع الرذائل والصافات السيئة، ويحليها بالأخلاق والملكات الحسنة الحميدة كي يكون قلبه سليما عن كل عيب ونقص، ويرد على الله تبارك وتعالى بعد موته بقلب سليم الذي لا ينفع في ذلك اليوم غيره شيء، لا مال ولا بنون. فهذه هي التوبة الكاملة وأعلى مراتبها، ومعلوم أن هذه المرتبة لا تحصل إلا بإعطاء كل ذي حق عليه حقه، سواء كان الحق متعلقا بأموال الناس، أو بأنفسهم، أو بأعراضهم حتى لا يكون عليه تبعة ويلقى الله أملس، لا يكون عليه تبعة من أحد المخلوقين، كما هو مذكور فيم قاله أمير المؤمنين عليه السلام لمن قال بحضرته أستغفر الله ، والحديث تقدم ذكره 2.
(هامش)
(1) إحياء علوم الدين ج 4 ص 34 - 43، كتاب التوبة الركن الثالث: في تمام التوبة وشروطها ودوامها إلى آخر العمر. (2) تقدم ص 331، هامش 4. (*)
الثانية: أن يتوب كما ذكرنا في المرتبة الأولى ويندم على جميع ما صدر منه من المعاصي، ولكن مع ذلك قد تصدر عنه ذنوب في مجاري حالاته، كما هو الحال في أغلب التائبين، فإنهم وإن تابوا وعزموا على الترك ولكن ربما يتسامحون ويتساهلون في حفظ أنفسهم، أو يغلب عليهم شهواتهم فيخرجون عن الجادة المستقيمة، ويرتكبون بعض المعاصي الصغيرة، بل وفي بعض الأحيان الكبيرة أيضا، ولكن هم بعد الصدور يلومون أنفسهم على ما صدر منهم، ويندمون على ما ارتكبوا وعلى خروجهم عن الجادة المستقيمة. الثالثة: أنه بعد ما تاب وندم عما فعل وصدر منه نفسه تشتاق إلى ما تاب عنه وتأمره بالعود، ولكن لا يعود إلا في فروض نادرة، فالأول هي النفس المطمئنة التي ترجع إلى ربه راضية مرضية، الثاني هي النفس اللوامة، الثالث هي النفس الامارة بالسوء. والتائب إن أطاع النفس الامارة بالسوء ربما ينتهي أمره - العياذ بالله - إلى سوء الخاتمة، وصيرورة الفسوق ملكة له فلا يمكن زوالها، بل ربما ينجر إلى الكفر، وقد قال الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز: (ثم كان عاقبة الذين أساؤا السوأى أن كذبوا بآيات الله) 1. نستجير بالله من سوء العاقبة والخاتمة. [ الأمر ] الثالث عشر: في مراتب التائبين. وهم على أقسام: الأول: من نسي الذنب الذي تاب منه، ولا يتفكر فيه أصلا، فكأنه لم يصدر منه شيء كشارب الخمر الذي ترك شرب الخمر وصار شرب الخمر عنده نسي منسيا ولا يتفكر فيه أصلا، لأنه خرج من ذلك العالم بالمرة ولا يختلط مع شاربي الخمور
(هامش)
(1) الروم 30: 10. (*)
وليس في عالمهم، وهكذا الأمر في سائر الفسوق. الثاني: من جعل فسقه نصب عينيه، ودائما يتفكر ويتأسف على ما فعل ويظهر الندامة والأسف، ويحترق قلبه على تلك الخطيئة ويبكى ويتضرع إلى الله ويرجو عفو ربه الغفور ورحمته الواسعة، وأن يطهر قلبه من رجس تلك المعصية، وأن يوفقه في المستقبل للغرم وترك المعصية وبقائه واستمراره على ذلك، وأن يحفظه من شر آثارها الوضعية. ولاشك في أن القسم الأول إذا كان طريق الكمال والترقي - بمعنى الترقي من عالم المعاشرة مع الأراذل وأصحاب الملاهي وشرب الخمر ولعب القمار ودخوله في الأخيار والزاهدين والعرفاء الشامخين - أفضل وأحسن من القسم الثاني، لأنه انعزل من ذلك العالم إلى عالم أعلى ومرتبة أكمل، كما ادعوا في بعض الكتب التي في تاريخ العرفاء الشامخين أنهم كانوا في أول الأمر من الفسقة المشهورين، كما قيل في حق بشر الحافي وغيره 1. وقالوا في ذكر حالات الشيخ أحمد جام الشيعي الاثني عشري أنه عشرين سنة كان خمارا، وبشر الحافي كان غارقا في الفسوق والملاهي، حتى مر على باب داره الإمام الكاظم عليه السلام، وببركة نصحه وإرشاده تاب بشر وبلغ ما بلغ. وعلى تقدير صحة هذه الرواية وصدقها فصار بشر عالما آخر، مضاد لذلك العالم متباينان. هذه الحكايات غالبا ذكروها في حالات العرفاء، وأما فقهاؤن - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين - كانوا من أول أمرهم بل من صغرهم أبرارا أخيارا، إذا ينظر الإنسان في تاريخ حالاتهم لا يرى إلا الصلاح والتقوى والسداد، اللهم اجعلنا من تابعيهم في العلم والعمل. ورأيت في عبارة بعض الأعاظم من العلماء حين م يعبر عن أستاذه يقول: قال
(هامش)
(1) روضات الجنات ج 2 ص 129 و 130، بشر الحافي. (*)
فلان تال العصمة علما وعملا. والقسم الثالث من التائبين هو الذي وإن كان تاب يخلط الصلاح بالفساد، فهو وإن كان يواظب على العبادات وإتيانها في أوقاتها من الصلاة والصوم وأداء الزكاة وغيرها، ولكن مع ذلك كله قد يغلب عليه الشهوات، خصوصا حب الجاه، فيرتكب بعض المعاصي الصغيرة الكبيرة أيضا. فهذا القسم هو الغالب في التائبين، وهم تحت رحمة الله تعالى ولطفه العميم، فإما أن يعذبهم نستجير بالله الغفور الرحيم، وإما أن يغفر لهم، خصوصا الأمور الراجعة لمولانا أبي عبد الله الحسين عليه السلام من الزيارات والعزاءات لمستحبات وواجبات عملوها مع الإخلاص والنية الصادقة مخلصين لله تبارك وتعالى، كما هو المرجو لشيعة مولانا أمير المؤمنين ومحبي الأئمة الطاهرين المعصومين عليهم السلام، وقد قال الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم) 1. [ الأمر ] الرابع عشر: أن المعاصي على قسمين: صغيرة وكبيرة، على ما يظهر من الأخبار والأقوال. واختلفوا في المراد من الصغيرة والكبيرة، لأنه حسب المعنى اللغوي لاشك في أنهما إضافيان، فكل صغيرة بالنسبة إلى الأصغر منه كبير، خصوصا إذا كانا من نوع واحد، وكذلك كل كبير بالنسبة إلى ما هو أكبر منه صغير، فالشيء الواحد يمكن أن يكون صغيرا وكبيرا معا، ولكن بالنسبة إلى شيئين. مثلا الزن مع امرأة خلية معصية كبيرة بالنسبة إلى النظر إلى ما لا يجوز النظر منها، ولكن صغيرة بالنسبة إلى الزنا مع ذات البعل.
(هامش)
(1) التوبة 9: 102. (*)
وهذا واضح، وإنما كلام في أنه اصطلاح الشارع أو الفقهاء على تسمية المعاصي المعينة بالكبيرة، وكذلك هل عينوا المعاصي المعينة بكونها صغيرة أو اصطلحوا على تسمية م عدى البيرة عندهم بالصغيرة. كلمات الفقهاء في هذا الأمر والأخبار أيضا مختلفة، والمشهور أن الكبيرة إما ما ذكر في الكتاب العزيز، لان ذكرها في الكتاب علامة أهميتها في نظر الشارع الأقدس وعظم جرم مرتكبها عند الله، ولذلك سميت بالكبيرة، وإما ما أوعد الشارع على ارتكابه بالنار ولو لم يكن ذكر منها في الكتاب، ولكن ورد النص المعتبر من النبي صلى الله عليه وآله على أنها مما أوجب الله عليه النار وإم ما صرح في النص المعتبر بكونها كبيرة. هذا ما ذكرناه، ولكن الشيخ الأعظم الأنصاري رضوان الله تعالى عليه ذكر في رسالته التي كتبها في العدالة الأمور التي تثبت به كون المعصية كبيرة، وهي أمور خمسة: الأول: وجود النص المعتبر على أنها كبيرة، وهي في المروي عن الرضا عليه السلام نيف وثلاثون. الثاني: النص المعتبر على أنها مم وجب الله عليها النار. الثالث: النص في الكتاب الكريم على ثبوت العقاب عليه بالخصوص، أي بعنوانه الخاص لا بالعناوين العامة، مثل قوله: (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم) 1. الرابع: دلالة العقل والنقل على أشدية معصية مما ثبت أنه كبيرة أو مساواتها لها، كقوله تعالى في حق الفتنة: (والفتنة أشد من القتل) 2 مع ثبوت أن القتل من
(هامش)
(1) الجن 72: 23. (2) البقرة 2: 191. (*)
أعظم المعاصي. الخامس: أن يرد النص على عدم قبول شهادته 1. هذا ما ذكره شيخن الأعظم الأنصاري، ولكن الأخير - أي الخامس - لا يخلو من تأمل وإن كان لا يخلو من صحة أيضا. وعلى كل حال معرفة الكبائر لها آثار، وأهمها أن الله وعد في الكتاب العزيز بالعفو عن الصغائر إن اجتنب عن الكبائر، قال تعالى (إن تجتنبوا كبائر م تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) 2. ولكن الواجب عقلا أن لا يغتر المؤمن السالك بهذا، لأنه في الرواية التي تعد الكبائر عد من جملتها الإصرار على الصغيرة، فإن لم يهتم بالصغيرة فقهرا يقع في الإصرار، لان الظاهر عبارة عن بقائه على حالة فعل المعصية من دون ندم ولا أسف على ما صدر منه، وحينئذ في أغلب الناس تنقلب الصغيرة كبيرة، فتنعدم فائدة الاجتناب عن الكبائر من هذه الجهة، إذ لا تبقي الصغيرة صغيرة. قال الإمام الصادق عليه السلام: لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار 3. وأم صيرورة الصغيرة كبيرة مع الإصرار فمن جهة أن الإصرار وعدم الأسف والندم على ما فعل كاشف عن رذالة النفس ورداءتها وبعدها عن الله تعالى، وهذه الأمور لا تنفك عن كون م صدر منه من الكبائر. هذا، مضافا إلى ما ذكروه في كتب الأخلاق أن من موجبات صيرورة الصغائر كبيرة هو الإصرار على الصغيرة لان بالإصرار - بمعنى التكرار كما هو أحد معاني الإصرار - يتأثر القلب تدريجا بتلك الأرجاس وأنجاس المعاصي ولو كانت صغيرة
(هامش)
(1) المكاسب ص 333 و 334. (2) النساء 4: 31. (3) الكافي ج 2 ص 219 باب الإصرار على الذنب ح 1. (*)
حتى تحيط عليه ظلمة المعصية، وهذه نتيجة كون المعصية كبيرة. ومضافا إلى وجوه أخر ذكروها لصيرورة الصغيرة كبيرة. منها: استصغار الذنب الصغير عند رب كبير، وآه آه من استصغار الذنب وأنه رأس كل بلية، وذلك أن المعصية مطلقا - صغيرة كانت أو كبيرة - ترجع إلى عدم إطاعة الله والبغي والطغيان عليه، فاستصغار الذنب يرجع إلى استصغار من أمر بالاجتناب عنه ونهى عن ارتكابه، وعده - أي العصيان - شيئا لا أهمية له، والتمرد عليه تعالى لا يحسبه بحساب. وهذا من أكبر المعاصي، إذ معناه عدم الاعتناء بمخالفته في هذا الأمر الذي هو حقير ولا أهمية له. ولعله لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله: اتقوا المحقرات من الذنوب فإنها لا تغفر 1. وقال أمير المؤمنين عليه السلام: لا تصغر ما ينفع يوم القيامة، ولا تصغر ما يضر يوم القيامة، فكونوا فيم أخبركم الله كمن عاين 2. وخلاصة الكلام أن من يعرف عظمة الله ويقر ويذعن بها ل يستصغر مخالفته وترك إطاعته في أي موضوع كان، صغيرا وحقيرا أم لا. ومنها: اغتراره بستر الله عليه، وأن الله تعالى يمهله ولا يعجل عليه، ولا يدري ولا يتوجه إلى أن الموت قد يأتي بغتة والقبر صندوق العمل. وفي كون هذا الوجه من موجبات صيرورة الصغير كبيرة تأمل. ومنها: السرور بالصغيرة، كمن نظر إلى أجنبية ويفرح من تمكنه من ذلك ويظهر البشاشة من فعله وأنه اختص به دون غيره، أو لم يعتن بمؤمن.
(هامش)
(1) الكافي ج 2 ص 218 باب استصغار الذنب ح 1، وفيه: عن الصادق عليه السلام وفي الكافي ج 2 ص 218 باب استصغار الذنب ح 3، عن الرسول صلى الله عليه وآله نحوه، جامع السعادات ج 3 ص 75، فصل الصغائر قد تكون كبائر. (2) جامع السعادات ج 3 ص 76، فصل: الصغائر قد تكون كبائر. (*)
وخلاصة الكلام: أنه ارتكب صغيرة وأظهر الفرح والسرور من ارتكابه عوض أن يندم ويأسف من التورط فيه، فنفس الفرح والسرور من مخالفة أوامر الله ونواهيه يوجب صيرورة الصغيرة كبيرة. وهذا يرجع إلى هتك حرمة الله والجرأة عليه تبارك وتعالى. ومنها: عدم الستر على معصيته وإظهاره والتجاهر به، فمثل أن يأتي بالأجنبية مكشوفة كي ترقص في مجلس أنس أو عرس أو ختان أو غير ذلك، فهذا من حيث أنه تجر على الله تكون كبيرة، وكذلك حلق اللحية حيث أنه معصية ظاهرة غير مستورة تكون كبيرة وإن كان في حد نفسه صغيرة لو أخفاه ولم يتجاهر به. ومنها: أن يكون مرتكب الصغيرة عالما كبيرا يقتدي به الناس، فارتكابه للصغيرة يصير سببا لإشاعة المنكر، حيث أن الناس يتبعونه ويقتدون به، فيصير هذا المنكر الصغير في نظرهم معروفا، فلو لبس قباء من الابريسم الخالص، أو لبس الخاتم من ذهب خالص، أو غير ذلك من المحرمات فالناس والعوام، يستشهدون بفعله ويصنعون كما صنع. وهذا معناه صيرورة المنكر معروفا، والله هو الموفق للصواب. [ الأمر ] الخامس عشر: هل يعتبر في تحقق التوبة أن يكون قادرا على فعل ما تاب عن فعله؟ مثلا في التوبة عن الزنا هل يعتبر أن يكون قادرا على فعله أم لا؟ فلو زن وبعد ذلك صار عنينا لا يقدر على هذا الفعل، هل بحصول الندم على فعله السابق تتحقق التوبة، إذ العزم على الترك لا يمكن في حقه لأنه بنفسه منترك، والعزم على الترك فيما إذا كان الترك اختياريا، وهاهنا الترك قهري. وليس الطرفان - أي الفعل والترك - بالنسبة إليه متساويين كي يرجح أحدهما على الآخر بالإرادة واختياره، إذ طرف الترك بالسنبة إليه ضروري الجود، وطرف
الفعل ضروري العدم، وما هذا شأنه لا تتعلق به الإرادة، ولا يتصور الاختيار في حقه في كل واحد من طرفي الفعل والترك، كحركة يده المرتعشة، فلا يقدر اختيار الحركة ول عدم الحركة. نعم لو كانت التوبة عبارة عن صرف الندم - كما يظهر عن بعض الأخبار وتقدم نقله عن الصحيفة السجادية سلام الله عليه من قوله عليه السلام إن كانت التوبة ندما فأنا أندم النادمين 1 - لامانع من تحقق التوبة عن فعل فعل وفعلا في حال التوبة عاجز عن العود إليه، كما يتفق لكثير من الشيبة العاجزين من ارتكاب الحرام الذي ارتكبه أيام شبابه، لكن نادم على فعله غاية الندم، ويبكى صدوره منه بكاء المضطر الحزين، ويتأسف منتهى الأسف ويتضرع ويبتهل إلى الله نهاية الابتهال. فهل لمثل هذا يمكن أن يقال ليس بتائب لأنه عاجز عن العود وليس راجعا إلى الله من غيه وضلاله وهو بعيد عن مقام القرب إليه تعالى؟! نعم لو كان في نيته العود إن قدر فليس بتائب قطعا، ولكنه في قلبه أنه على تقدير إن مكنه الله من ذلك الفعل وأقدره الله تعالى يكون تاركا، فيصدق في حقه العزم المعلق، فالظاهر عدم الإشكال في صدق التوبة، والقدرة الفعلية ليس بشرط فيها. وخلاصة الكلام: أن ضرورة الفعل والترك لمرجح أو لمصلحة في أحدهما لا يضر بالاختيار، وأما الضرورة لعدم القدرة على ضده ينافي الاختيار. ولكن الكلام في أنها تحتاج إلى العزم الفعلي على الترك، أو يكفي العزم المعلق على القدرة، أو لا يحتاج حتى على المعلق منه بل يكفي في تحققها صرف الند؟ والتحقيق في هذا المقام هو التفصيل بين ما إذا كان الفعل مقدورا له، فالتوبة وإن كان حقيقتها الرجوع إلى الله والندم مما فعل وارتكب من المعاصي، ولكن هذا
(هامش)
(1) تقدم ص 341، هامش 3. (*)
يلازم العزم على عدم العود بحيث لا يمكن انفكاكه عن الندم. وأما لو كان غير مقدور فلا ملازمة بينهما، بل يمكن أن يكون نادما على ما فعل ولا يتحقق منه العزم على الترك لعدم كونه فعلا اختياريا له كي يعزم لعدم القدرة على ضده، فيكون الترك ضروري فلا يتعلق بها الإرادة والاختيار. وقياسه على ما إذا كان الفعل ضروريا لأجل وجود المرجح والمصلحة الملزمة فيه. في غير محله. والله ولي التوفيق. وظهر لك مما ذكرن أن ما أفاده بعضهم في هذا المقام أن العاجز عن العود إلى مثل المعصية التي صدرت منه تتحقق توبته بالعزم على ترك ما يماثل المعصية الصادرة منه منزلة ودرجة كالقذف والسرقة وأمثالها مما هي في درجة الزنا العاجز عنه لكبر سنه أو لعارض آخر، بتخيل أن التوبة لاتتحقق إلا بالعزم والالتزام على الترك فإذا كان الفعل غير مقدور كما هو المفروض فلا تتحقق التوبة إلا بالعزم على ترك ما هو في درجته ومنزلته. أن هذ الكلام شعر بلا ضرورة، لان التوبة تتحقق بنفس الندم على الفعل الذي صدر منه مع أنه منهي من قبل الله تعالى، بل حقيقة التوبة هي الندامة، وأما العزم على الترك من لوازمها فيما يمكن الترك اختيارا وبإرادته، وأما إذا كان لعدم القدرة على ضده - أي الفعل - فليس من لوازمه. وأما حصول الندم فللاضرار التي تولدت من ناحية الفعل، ومثل ذلك أنه لو زنا بعاهرة فابتلي بالزهري، وبعد ذلك عجز عن الزنا، فهو وإن لم يقدر على الزنا فلا يمكنه العزم على تركه لما ذكرنا، ولكن نادم من ذلك الفعل أشد الندامة لتلك الاضرار الآتية من قبل فعله، أي ذلك المرض الخبيث الذي ربما يوجب العمي أو الجنون أو غير ذلك. وحيث أن صدور العصيان منه يوجب البعد عن الله وعن رحمته الواسعة
ويوجب استحقاق العقاب الأليم، فلذلك يندم أشد الندامة أنه بواسطة لذة مؤقتة التي تزول بسرعة أوجب على نفسه العذاب والآلام لمدة طويلة، فمثل هذه الندامة العظيمة الكبيرة لماذا لا يكون توبة ورجوعا إلى الله، مع أنه دائم البكاء ومستمر الأحزان والأسف على ما فعل، ومن سوء اختياره جر على نفسه البلايا والمحن. أعاذنا الله من شرور النفس الامارة بالسوء، قال الله تبارك وتعالى حاكيا عن لسان النسوة اللاتي كدن لنبي الله يوسف (وما أبرئ نفسي إن النفس لامارة بالسوء إلا ما رحم ربي) 1. هذا بناء على أن يكون هذا الكلام من تتمة كلام امرأة العزيز. والله أعلم بالصواب وهو ولي التوفيق.
(هامش)
(1) يوسف 12: 53. (*)