61 - قاعدة الإجارة أحد معايش العباد
قاعدة الإجارة أحد معايش العباد ومن جملة القواعد الفقهية قاعدة الإجارة أحد معايش العباد . وفيها جهات من البحث: الجهة الأولى في مشروعيتها وأنها من المعاوضات الثابتة في الدين والشريعة الإسلامية، ويترتب شرعا عليها آثار باستحقاق المستأجر منافع العين المستأجرة، أو عمل الاجير الذي استأجره لذلك العمل إذا وقعت واجدة لشروط صحتها الآتية. والدليل على ثبوتها ومشروعيتها الآيات، والروايات، والإجماع. أما الأول: فمنها: قوله تعالى: (إني أريد أن أنكحك احدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثمان حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك) 1. ومنها: قوله تعالى: (وقالت إحداهم يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الامين) 2.
(هامش)
(1) القصص 28: 27. (2) القصص 28: 26. (*)
ومنها: قوله تعالى: (لو شئت لتخذت عليه أجرا) 1. وغيرها من الآيات التي منها م نقله المرتضى، عن تفسير النعماني بإسناده عن علي عليه السلام في بيان معايش الخلق، قال: وأما وجه الإجارة فقوله عز وجل (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدني ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون) 2. فأخبرنا سبحانه أن الإجارة أحد معايش الخلق، إذا خالف بحكمته بين هممهم وإرادتهم وسائر حالاتهم، وجعل ذلك قواما لمعايش الخلق، وهو الرجل يستأجر الرجل في ضيعته وأعماله وأحكامه وتصرفاته وأملاكه، ولو كان الرجل منا يضطر إلى أن يكون بناء لنفسه، أو نجارا، أو صانعا في شيء من جميع أنواع الصنائع لنفسه، ويتولى جميع ما يحتاج إليه من إصلاح الثياب وما يحتاج إليه من الملك فمن دونه، ما استقامت أحوال العالم بتلك، ولا اتسعوا له ولعجزوا عنه، ولكنه أتقن تدبيره لمخالفته بين هممهم وكلما يطلب مم تنصرف إليه همته مما يقوم به بعضهم لبعض، وليستغني بعضهم ببعض في أبواب المعايش التي بها صلاح أحوالهم 3. وأيضا روى الحسن بن علي بن شعبة في تحف العقول عن الصادق عليه السلام في وجوه معايش العباد إلى أن قال: وأما تفسير الاجارات فإجارة الإنسان نفسه، أو ما يملكه، أو يلي أمره من قرابته أو دابته أو ثوبه 4 إلى آخر الحديث الشريف. والمقصود من نقل الروايتين أن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام استدل لكون الإجارة من وجوه معايش العباد، وأنها مشروعة ثابتة في الدين بالآية الشريفة وأنها لابد منها، وأن أمور الخلق ومعايشهم لا تستقيم بدونه.
(هامش)
(1) الكهف: 18: 77 (2) الزخرف: 43: 32 (3) المرتضى في المحكم والمتشابه ص 59، وسائل الشيعة ج 13 ص 244، كتاب الإجارة، باب 2 ح 3. (4) تحف العقول ص 333، وسائل الشيعة ج 13 ص 242، كتاب الإجارة، باب 1 ح 1. (*)
وأما الثاني: فأخبار كثيرة دالة على مشروعية الإجارة، نذكرها إن شاء الله تعالى في الفروع الآتية. وأما الثالث: فالقولي منه هو اتفاق جميع الفقهاء على مشروعية الإجارة، والعملي منه هو اتفاق جميع المتدينين من جميع الفرق الإسلامية على أخذ الاجير لحوائجهم وإيجار أملاكهم، بل لا يبعد الادعاء بأن ثبوتها ولزوم ترتيب الاثر عليها من الضروريات. الجهة الثانية في بيان حقيقتها وشرح ماهيتها والمراد منه أقول: الظاهر أن لفظة الإجارة مصدر فعل الثلاثي المجرد، أجر يأجر إجارة، ككتاب مصدر كتب، وهي في الأصل بمعنى الاكراء كما ذكره أهل اللغة، وهو المتفاهم العرفي من هذه الكلمة. وعند الفقهاء: فالمشهور منهم قائلون بأنها عبارة عن تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم، وقيل إن حقيقتها التسليط على عين للانتفاع بها بعوض معلوم. والأول أمتن وأشمل، لعدم شمول الثاني إجارة الحر نفسه، لان الحر لا يقع تحت سلطنة أحد ولا يمكن أن يكون لاحد يد عليه. نعم تمليك منافعه لا مانع منه. وقد أشكل على التعريف الأول بأن المنافع تدريجية الوجود، ما لم ينعدم الجزء الأول لا يتحقق الجزء التالي، فل قرار وثبات لها كي تصير متعلقة للملكية ويرد عليها التمليك. وفيه: أن الأمور التدريجية الوجود أيضا لها وجود، ولوجودها آثار، فمثل الليل والنهار وليلة الجمعة وشهر رمضان لها وجود، وذلك لان المتصل التدريجي مساوق للوحدة الشخصية، فالقول بأن المنافع حيث أنها تدريجية الوجود فليس له
قرار وثبات فلا يرد عليها التمليك، ليس كما ينبغي. وأما الإشكال عليه: بأن الإجارة ليست تمليكا للمنفعة، لأنها متعلقة بالعين، فلو كان معنى الإجارة هو التمليك فلابد وأن يكون تمليكا للعين لا المنفعة، لعدم تعلقها بالمنفعة، فلا تكون موجبا لنقله إلى المستأجر. ففيه: أنه ليس معنى آجرت الشيء الفلاني ملكته كي يقال بأنها لم تتعلق بالمنفعة، بل معنى آجرتك هذه الدار أو هذه الدابة مثلا، أو أي مال آخر له منفعة محللة مقصودة للعقلاء هو أكريتك هذه الأشياء. ومعنى الاكراء عند المتفاهم العرفي تمليك منافع ذلك الشيء له بإزاء عوض معلوم. فمعنى إجارة عين من الأعيان التي لها منفعة تمليك منافعها، فإذا تعلقت الإجارة أو الاكراء بعين يفهم العرف منه أن منافع تلك العين صارت ملكا للمستأجر والمكتري. وبعبارة أخرى: لفظت الإجارة و الاكراء مفيدتان لتمليك منافع ما تعلقا به فلو تعلقا بالمنفعة أفادا تمليك منافع تلك المنفعة، فلو قال: آجرتك أو أكريتك منافع هذا البستان كان معناه ملكتك منافع هذا البستان، فلابد وأن تتعلق الإجارة بنفس العين كي تفيد تمليك منافعها الذي هو حقيقة الإجارة فلا مجال للاشكال المتقدم، لما ذكرنا في معنى الإجارة من أن المعاوضة فيها في الحقيقة تقع بين منافع العين المستأجرة والعوض المذكور في عقد الإجارة، وذكر العين باعتبار قيام المنافع بها ولتعيين المنافع التي يملكها المؤجر للمستأجر بإزاء ما يأخذ من العوض. هذا في إجارة الأعيان المملوكة. وفي إجارة الاحرار للاعمال أيضا يكون الأمر كذلك. وفي الحقيقة معنى إجارة الاجير نفسه، أو من يلي أمره لعمل تلميك ذلك العمل وذكر الاجير لقيام العمل به فلا يتعين إلا به، وإل هو بنفسه أجنبي عن مورد المعاملة والمعاوضة.
هذا إذا لم يكن لفظ الإجارة متضمنا لتمليك منافع متعلقه، سواء كان متعلقه من الأعيان التي لها منفعة، أو كان حرا آجر نفسه، فمعنى إجارة نفسه تمليك منافع نفسه للمستأجر. فالإجارة وإن كانت تتعلق بنفسه ولكن قلنا إن معنى تعلق الإجارة بشيء هو تمليك منافع متعلقه للمستأجر، فإذا قال آجرتك هذه الدار معناه تمليك منافع تلك الدار للمستأجر، فلا يبقى إشكال في البين، ولا حاجة إلى القول بأن ذكر العين من باب قيام المنفعة بها ومن جهة تعيين المنفعة التي تقع طرفا للعوض. ثم إن العلامة قدس سره ذكر في جملة من كتبه أن الإجارة عبارة عن العقد 1. وثمرته تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم مع بقاء الملك على أصله. وأشكل عليه في جامع المقاصد 2 بأنه لو كان معنى الإجارة هو العقد، فلازمه أن يكون قول المؤجر آجرتك إنشاء وإيجادا لعقد الإجارة، فيكون معنى آجرتك الدار الفلانية مثلا: أنشأت عقد إجارتها. وهو غريب. والصحيح هو أن الإجارة بالمعني الذي ذكرنا لها - تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم - مسببة عن العقد، أي عن الإيجاب والقبول، بمعنى أن الإيجاب والقبول عند الشارع موضوع لوجود الإجارة في عالم الاعتبار التشريعي. فقولنا: إنها مسببة عن العقد - أي الإيجاب والقبول - ليس مرادنا أنها من المسببات التكوينية، كالاحتراق الحاصل من النار بل عبارة عن أمر اعتباري اعتبره الشارع أو العرف والعقلاء في موضوع كذا، وهو ملكية المنفعة الكذائية في إجارة الأعيان، أو العمل الكذائي في اجارة الاحرار. فل يرد عليه أن السبب لابد وأن يكون موجودا بتمام أجزائه حال وجود المسبب، وإلا لزم تأثير المعدوم في الموجود، ولايحتاج إلى التمحلات البارة التي
(هامش)
(1) تذكرة الفقهاء ج 2 ص 290 قواعد الأحكام ج 1 ص 224. (2) جامع المقاصد ج 7 ص 80. (*)
ذكروها في هذا المقام. فإن كان مرادهم من قولهم في مقام تعريف الإجارة إنها عقد ثمرتها كذ هو الإيجاب والقبول، فهذا واضح البطلان، وإن كان مرادهم أن العقد موضوع عند الشارع لذلك الأمر الاعتباري، فهذا كلام حق لا إشكال فيه. ولا مانع من كون الأمور التدريجية الوجود، موضوعة لأمر اعتباري و مصححة لاعتباره، كما أن الشارع جعل التذكية - أي فري الاوداج الاربعة بآلة من حديد من مسلم مسميا موجها إلى القبلة - موضوعا لطهارة بدن الحيوان المذكى، وحلية لحمه إن كان مما يحل أكله، وقد اعتبر الشارع الأحكام الخمسة التكليفية من الوجوب، والحرمة، والاستحباب، والكراهة، والحلية في أكثر الأفعال التي هي تدريجية الوجود. ثم إن عقد الإجارة كسائر العقود يقع بالإيجاب والقبول، ولابد أن يكونا بلفظين صريحي الدلالة على المقصود. واللفظ الصريح من طرف الموجب هو آجرت و أكريت ، ومن طرف القابل، قبلت و استأجرت و أكتريت أو استكريت وأمثال ذلك مما هو يدل دلالة صريحة على مطاوعة ما أنشأه الموجب. والمراد من الدلالة الصريحة هو أن يكون اللفظ إما موضوع لذلك المعنى، وإما يستعمل فيه مع القرينة الصارفة والمعينة جميعا بحيث يكون ظاهر في المعنى المراد، وذلك لان العقود تابعة للمقصود، وقد أوضحناه في قاعدة العقود تابعة للقصود من هذا الكتاب. وخلاصة الكلام في هذا المقام أن إنشاء عناوين العقود، كالبيع والإجارة والصلح والرهن، لابد وأن تكون مقصودة للمتعاقدين موجب وقابلا، لأنها عناوين قصدية لاتتحقق بدون القصد، فإذا قصد عنوانا من عناوين العقود، وأنشأه بلفظ صريح في معنى ذلك العنوان إما بالوضع أو بالقرينة المتعارفة الظاهرة فيه حسب
المتفاهم العرفي، وجد ذلك العنوان في عالم الاعتبار التشريعي. وأما إذا لم يكن المستعمل في الإيجاب أو في جانب القبول ظاهرا في المعنى المقصود لا بالوضع ول بالقرينة لم يوجد ذلك المعنى في عالم الاعتبار التشريعي وإن كان مقصودا، لعدم كفاية القصد وحده، بل لابد في وجوده أمرين: القصد وإنشاء ما قصده بلفظ صريح فيه، وإل يلزم أحد الأمرين: إما أن ما قصد لم يقع، أو أن ما وقع لم يقصد. وقد يكون كل الأمرين كما أنه لو قصد إجارة الدار واستعمل لفظ البيع في مقام الإنشاء وقال: بعتك هذه الدار فلا يقع بيعا، لأنه لم يقصد، ولا إجارة، لأنه وإن قصدها ولكن الذي أوقعه هو البيع، فما قصد لم يقع وما وقع لم يقصد. وذلك لان آلة الايقاع في باب الإنشاءات هو اللفظ الظاهر في المعنى الذي يريد انشاءه، إذ الإنشاء بالاستعمال الصحيح، وهو لابد وأن يكون إما باستعمال اللفظ في معناه الحقيقي، وإما باستعماله في غير ما وضع له، ولكن مع القرينة الصارفة والمعينة للذي يريد. ولذلك وقع الخلاف في بعض التعابير، كما إذا قال: بعتك سكنى هذه الدار سنة كاملة بكذ هل تقع الإجارة أم لا؟ من حيث ظهور البيع في نقل الأعيان وظهور المنفعة في الإجارة. نعم لو قال: ملكتك سكنى هذا الدار سنة كاملة بكذ كان ظاهرا في الإجارة، لأنه تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم، وهذا عين الإجارة. ثم إنه لا إشكال في وقوع الإجارة بالعقد، إنما الكلام في وقوعها بالمعاطاة. الظاهر أنه أيضا لاإشكال فيه لوجوه. الأول: تحقق عنوان الإجارة بالمعاطاة فتشمله العمومات، إذ لا شك أن
قوله عليه السلام: الإجارة أحد معايش الخلق 1 في مقام بيان طرق المعيشة التي هي حلال وبها قيام أسواق المسلمين وتلك الطرق ممضاة من قبل الشارع، فحال الإجارة أحد معايش الخلق حال أحل الله البيع و الصلح خير و العارية مردودة وأمثال ذلك من عناوين المعاملات. الثاني: بناء على أن المعاطاة أيضا عقد - كما احتمله بعض وإن كان لا يخلو من مناقشة بل إشكال - تشملها أدلة وجوب الوفاء بكل عقد، وقدم تقدم تفسير ذلك في بيع المعاطاة وقلنا التحقيق إنها ليست بعقد. الثالث: قيام السيرة المستمرة في جميع أنحاء العالم على تحقق الإجارة بالمعاطاة وبناء العقلاء من كافة الامم على ذلك. فإذا تحققت بالمعاطاة تشملها العمومات من الآيات والروايات التي تدل على إمضائها وترتيب الاثر عليها، فلا ينبغي أن يشك في صحة الإجارة المعاطاتية ولزوم ترتيب أثر الإجارة الصحيحة عليها. وأما أنها لازمة كالعقدية أم لا؟. أقول: جميع أدلة اللزوم - خصوصا أصالة اللزوم في الملك - تجري فيها ما عدا (أوفوا بالعقود) 2 بناء على عدم كون المعاطاة عقدا كما اخترناه. فالإجارة مطلقا - تحققت بالعقد أو بالمعاطاة - معاملة لازمة لا تنفسخ إلا بالتقايل أو شرط الخيار كسائر العقود اللازمة. نعم إذا ثبت الإجماع على عدم اللزوم في المعاطاة منها، كما ادعي في البيع، فلابد من الخروج من مقتضى الاطلاقات والأدلةوالقول بجوازها ما لم تلزم بتصرفهما أو تصرف أحدهما فيما انتقل إليه.
(هامش)
(1) تقدم ص 58، هامش رقم 4. (2) المائدة 5: 1. (*)
فلو تصرف المستأجر في المنفعة التي ملكها بالإجارة، أو تصرف المؤجر في عوضها لزمت الإجارة ولا يجوز فسخها، كما هو الحال في البيع أيضا، فالبيع المعاطاتي أيضا جوازه مشروط ببقاء الثمن والمثمن، ففي صورة تلفهما أو تلف أحدهما لا يبقى الجواز، بل يصير البيع لازما، لان القدر المتيقن من مورد الإجماع هو فيما إذا كان العوضان باقيين ولم يقع تلف في أحدهما، كلا أو بعضا، ولاتصرف منهما أو من أحدهما. وبناء على هذ حيث أن الإجارة المعاطاتية غالبا ملازمة مع تلف جزء من المنفعة المملوكة للمستأجر أو العمل الذي صار مملوكا له، فلا يبقى مورد للجواز. ولعله لهذا ادعوا الإجماع على لزومها مطلقا. فرع: لا تبطل الإجارة ببيع العين المستأجرة، غاية الأمر تنتقل إلى المشتري مسلوبة المنفعة مدة تلك الإجارة اللازمة. ولا مانع من ذلك بعد الفراغ عن اجتماع شرائط صحة البيع ونفوذه فيه وشمول إطلاقات البيع له، وعدم الخلاف في صحة البيع إن كان المشتري غير المستأجر، بل وإن كان هو المستأجر لوقوع الشراء بعد أن صار الملك مسلوب المنفعة بالإجارة، فلم تبق منفعة كي تكون ملكا للمشتري تبعا للعين، من غير فرق في ذلك بين أن يكون المشتري هو المستأجر أو يكون غيره، لأنه فيما إذ كان المشتري هو المستأجر في الرتبة السابقة على البيع صارت المنفعة ملكا له، فمحال أن تصير ملكا له بواسطة الشراء المتأخر. اللهم الا أن يقال بسقوط الملكية الحاصلة بالإجارة بالانفساخ، وحصول ملكية جديدة بتبع ملكية العين بالبيع. ولكن هذا قول بل دليل، وتكلف بلا مبرر. إلا أن يقال: إن العقلاء لا يرون في حال كون العين ملكا له أن تكون ملكية
منفعتها مستندة إلى سبب آخر غير التبعية. ولكن هذا أيضا صرف ادعاء لا شاهد عليه. فالأقوى عدم بطلان الإجارة ببيع العين المستأجرة، سواء كان المشتري هو المستأجر أو كان غيره، وقد عقد في الوسائل بابا لذلك 1. نعم لو كان المشتري جاهلا بأن البائع آجر المبيع قبل البيع، كان له الخيار، لان اللزوم ضرري، وربما يكون ضرره أكثر من مورد الغبن الذي يوجب الخيار، خصوصا إذا كانت الإجارة لمدة طويلة. بل في بعض الصور تكون المعاملة لغوا وغير عقلائي، كما إذا آجر داره - مثلا - لمدة مائة سنة فباعها، فالمشتري الجاهل يشتري لأجل أن يسكن فيها، فلو كانت هذه المعاملة لازمة لزم أن يكون المشتري طول عمره محروما من سكنى داره، ولا يمكن للفقيه الالتزام بصحة أمثال هذه المعاملات ولزومها. وأما ذكره العلامة قدس سره في الإرشاد 2 من بطلان الإجارة وانفساخها إذا كان المشتري هو المستأجر، فقد ذكروا لتوجيه كلامه وجوها. منها: م أفاده المحقق المقدس الاردبيلي قدس سره في شرحه على الإرشاد 3، من أنه لو قلنا بعدم الانفساخ وبقاء الإجارة لزم توارد العلتين والسببين المستقلين على مسبب واحد، لان المستأجر يملك المنفعة أيضا تبعا للعين بالبيع، وقد كان مالكا لها بالإجارة، فبعد أن اشترى العين لو لم تنفسخ الإجارة وبقيت، يكون ملكه للمنفعة مستندا إلى سببين: الإجارة والتبعية، كل واحد منهما سبب مستقل لا أنه جزء سبب، ويكون من قبيل تحصيل الحاصل المحال لو قلنا بحصول ملكيتها ثانيا بالتبعية، فلابد من القول ببطلان الإجارة وانفساخه.
(هامش)
(1) وسائل الشيعة ج 13 ص 266 كتاب الإجارة، باب 24. (2) إرشاد الاذهان ج 1 ص 426. (3) مجمع الفائدة والبرهان ج 10 ص 91. (*)
ولكن قد عرفت أن الأقوى عدم بطلان الإجارة، وإن كان المشتري هو المستأجر، لأنه في الرتبة السابقة على الشراء ملك منافع العين بالإجارة، ومالك العين حيث أنه آجر ملكه ونقل منفعة ذلك الملك إلى المستأجر فقد استوفى منفعة العين بالإجارة وأخذ بدلها، فلم يبق لذلك الملك منفعة في عالم الاعتبار التشريعي، بمعنى أن الباقي في يد المالك بعد الإجارة نفس العين بدون المنفعة. فإذا باع العين فلا ينتقل إلى المستأجر بذلك البيع إلا العين مجردة عن المنافع، لعدم كونه مالكا للمنافع كي ينقلها إلى المشتري، وفاقد الشيء لا يمكن أن يكون معطيا له، فيحصل للمستري ملك بلا منفعة. وفي مثل هذ المورد لا تبعية في البين. ولا ملازمة بين ملكية العين وملكية منافعها، وإلا يلزم إما بطلان جميع الاجارات، أو القول بأن منافع العين المستأجرة ملك للموجر بتمامها، وأيضا ملك للمستأجر بتمامها، ولا يصح التفوه بهذه الاباطيل. ومنها: ما أفاده في الايضاح في شرح قول والده قدس سره: ولو كان هو المستأجر فالاقرب هو الجواز . قال: ويحتمل انفساخ الإجارة، لأنه إذا ملك الرقبة حدثت المنافع على ملكه تابعة للرقبة، وإذا كانت المنافع مملوكة له لم يبق عقد الإجارة عليها 1. وفيه: أن ملك العين يستدعي ملك المنافع تبعا إذا لم يسبق ملكها بسبب آخر، وإلا يلزم تحصيل الحاصل كما تقدم بيانه، وصرف حدوث المنافع على ملكه لا يوجب كونها ملكا له مطلقا، بل يوجب إذا لم يكن له سبب آخر قبلا، وإلا يلزم المحذور المتقدم - تحصيل الحاصل -. ومنه: ما قاله في جامع المقاصد: أن لازم بقاء الإجارة وعدم انفساخها أن يجتمع على المشتري المستأجر الثمن والأجرة جميعا، فيجب عليه أن يعطى من
(هامش)
(1) إيضاح الفوائد ج 2 ص 244، قواعد الأحكام ج 1 ص 224. (*)
ماله أجرة ماله 1. وفيه أن هذا يلزم لو كان حصول ملكية منافع العين المستأجرة بالتبعية، وإلا لو كان ذلك جهة الإجارة ففي الرتبة السابقة على الإجارة ليست المنافع مالا له، وإنما تحصل المالية بالإجارة وإعطاء الأجرة، فهو يعطي من ماله أجرة ما صار ملكا له بالإجارة. وهذا لا إشكال فيه، بل يكون كل إجارة هكذا. وبعد أن صارت المنافع ملكا له بالإجارة وإعطاء العوض والبدل، فوقوع البيع بعد ذلك لا يؤثر في ملكيتها تبعا، لأنه إذا كان لشيء سببان، فالسبب الأول إذا وجد يوجد المسبب ول يبقى محل ومجال لتأثير السبب الثاني. فما قاله العلامة قدس سره في القواعد: لو كان هو المستأجر فالاقرب هو الجواز 2 هو الصحيح، لا ما أفاده في الإرشاد 3. وإن كان تعبيره بالجواز لا يخلو من مناقشة، إذ المراد منه بقاء الإجارة وعدم انفساخه. ولا ينبغي أن يعبر عن هذا المعنى بالجواز، لعدم الكلام في جواز البيع وجواز الإجارة وعدم جوازها، إنما الكلام في انفساخ الإجارة وعدم انفساخها. فرع: لو تقارن البيع والإجارة - كما إذا باع داره مثلا، وفي نفس ذلك الزمان آجرها وكيله - فهل كلاهم يقعان صحيحين، أو باطلين، أو التفصيل بين البيع فيقع صحيحا، وبين الإجارة فتقع باطلة؟ وجوه. ربما يتوهم في وجه الأول أن تمليك العين لشخص وتمليك منفعتها لشخص
(هامش)
(1) جامع المقاصد ج 7 ص 90. (2) قواعد الأحكام ج 1 ص 224. (3) إرشاد الاذهان ج 1 ص 426. (*)
آخر لا تنافي بينهما، لأنهما ملكان لمالك واحد، وله أن ينقل أحدهما إلى شخص، والآخر إلى شخص آخر. وفيه: أن هذا صحيح لو كانت الإجارة متقدمة على البيع زمانا، لأنه بعد نقل المنفعة إلى الغير بالإجارة يبقى الملك بلامنفعة في مدة الإجارة، فللمالك أن يبيع العين المسلوبة المنفعة لنفس ذلك المستأجر أو لغيره، ولاتنافي بينهما. وأما لو كانا في زمان واحد - كما هو مفروض المسألة - فحيث أن نقل العين بالبيع يستتبع نقل المنفعة أيضا، فإذا كان زمان البيع والإجارة واحدا لزم نقل المنفعة إلى شخصين في زمان واحد، فيكون النقلان متنافيين، ولا ترجيح لاحدهما، فيتساقطان، نعم لو كان المشتري والمستأجر واحدا فلا يأتي الإشكال ولاتنافي، بل يكون بمنزلة تكرار نقل المنفعة إليه. وربما يجاب عن الايراد المذكور بأن النقلين ليسا في رتبة واحدة، بل يكون نقل المنفعة بالإجارة في رتبة علة نقل المنفعة بالبيع، أي نقل العين، فيكون نقل المنفعة بالإجارة حاصلا بدون معارض، ولا يبقى محل لنقلها ثانيا بالبيع، فتكون الإجارة صحيحة والبيع أيضا صحيحا، غاية الأمر يكون نقل العين بالبيع حال كونه مسلوبة المنفعة، ويكون للمشتري الخيار مع الجهل. وفيه: أولا أن تقدم العلة ليس زمانيا، بل لابد وأن يكونا - العلة والمعلول - في زمان واحد، وإلا لزم التفكيك بين العلة والمعلول، فلو كان هناك ألف علة ومعلول في سلسلة مترتبة، فزمان العلة الأولى مع زمان المعلول الأخير في تلك السلسلة واحدة، فزمان تمليك المنفعة في الإجارة مع زمان تمليكها في البيع في المفروض واحد، وإن كان الأول في رتبة العلة الثاني. وثانيا قد تقرر في محله أن ما مع العلة في الرتبة لا يلزم أن يكون مقدما على معلولها مثل نفس العلة، وذلك لان التقدم لابد وأن يكون له ملاك، والتقدم بالعلية
ملاكه الوجوب، وهذا المعنى في نفس العلة موجود، ولكن ليس موجودا فيما مع العلة زمانا، لأنه ليس بعلة، فعلى فرض كون تمليك المنفعة في الإجارة في رتبة علة تمليكه في البيع ليس مقدما عليه كتقدم علته عليه، لعدم وجود ملاك التقدم - وهو الوجوب - فيه. هذا، مظافا إلى أن ملاك التنافي هو وحدة زمانيهما، ولا أثر لاتحاد الرتبة وعدمه في المقام. نعم يمكن أن يقال: إن عقد الإجارة مقتض لنقل منفعة العين المستأجرة منجزا ولا تعليق فيه، وأما عقد البيع مقتض لنقل منفعة العين إلى المشتري معلقا على عدم كونها مسلوبة المنفعة، فهنا مقتضيان أحدهما تعليقي والآخر تنجيزي، والأول لا يعارض الثاني لذهاب موضوعه به، ففي نفس الزمان الذي يقتضي التعليقي نقل المنفعة معلقا على عدم كونها مسلوبة المنفعة، يؤثر المقتضي التنجيزي أثره ويجعله مسلوبة المنفعة، ولا يبقى محل لتأثير مقتضى التعليقي، فلا فرق بين تقدم الإجارة زمانا على البيع، وبين اتحادهما زمانا كما في المقام. فظهر مما ذكرنا صحة الوجه الأول وبطلان الوجهين الآخرين. فرع: هل تبطل الإجارة بموت المؤجر، أو المستأجر أو لا تبطل بموت أي واحد منهما، وقيل: تبطل بموت المستأجر دون المؤجر؟ الظاهر عدم البطلان بموت كل واحد منهما. بيان ذلك: أنه لاشك في حصول النقل والانتقال في أبواب المعاوضات العقدية والمعاملات المالية بوقوع العقد صحيحا تام الأجزاء والشرائط من حيث شرائط العقد، والمتعاقدين، والعوضين في العقود اللازمة، وتشملها اطلاقات وعمومات الأدلةالواردة في وجوب الوفاء بالعقود، ولزوم العمل بالشروط، والبقاء عند العهود.
فبناء على هذا مقتضى القواعد الأولية هو دخول منافع العين المستأجرة في ملك المستأجر في المدة المضروبة وخروجها عن ملك المؤجر، وكذلك الأمر في الأجرة التي هي عوض تلك المنافع مقتضى صحة العقد ونفوذه ووجوب الوفاء به وضعا وتكليفا دخولها في ملك المؤجر وخروجها عن ملك المستأجر. وقد فرغنا عن إثبات أن الإجارة عقد لازم ل تنفسخ إلا بالتقايل أو أحد الاسباب المقتضية للفسخ، فخروج كل واحد من العوضين عن ملك مالكه بعد وقوع العقد الصحيح ورجوعه إلى مالكه الأول يحتاج إلى دليل مفقود في المقام. استدل القائلون بالانفساخ وفساد الإجارة بموت أحدهما بالإجماع. ففيه: أنه لا إجماع في البين مع مخالفة جمع من قدماء الأصحاب القائلين بعدم الانفساخ بالموت كالاسكافي 1 والمرتضى 2 وأبي الصلاح 3 - قدس الله اسرارهم - بل على ما في الجواهر نسب في السرائر عدم الفساد والبطلان إلى أكثر المحصلين 4، وفي المختلف: أن أكثر الأصحاب لم يفتوا بالبطلان 5. نعم لا يبعد أن يكون القول بالبطلان هو المشهور بين القدماء كما صرح بذلك في الشرائع 6، وفي الغنية 7 الإجماع على ذلك. كما أن المشهور بين المتأخرين عدم البطلان، فلا مجال للخروج عن مقتضى القواعد بأمثال هذه الإجماعات التي ليست مبتنية على أساس صحيح.
(هامش)
(1) حكاه عن الاسكافي في مختلف الشيعة ج 6 ص 107، الإجارة وتوابعها، مسألة: 6. (2) المرتضى في المسائل الناصرية ضمن الجوامع الفقهية ص 260، المسألة: 200. (3) الكافي في الفقه ص 348. (4) جواهر الكلام ج 27 ص 207، موارد بطلان الإجارة، السرائر ج 2 ص 449، في ما لو مات المستأجر أو المؤجر. (5) مختلف الشيعة ج 6 ص 108، الإجارة وتوابعها، مسألة: 6 (6) شرائع الإسلام ج 2 ص 179. (7) الغنية ضمن الجوامع الفقهية ص 539. (*)
فالعمدة في دليلهم على البطلان بموت أحدهما وجهان: [ الوجه ] الأول: الدليل العقلي، وهو تبعية المنفعة للعين. ولا شبهة في أن العين بعد الموت يخرج عن ملك الميت وينتقل إلى غيره، فالمنفعة أيضا تكون بتبع العين ملكا لمن انتقل إليه العين، فتمليك المؤجر المنفعة للمستأجر بالنسبة إلى منافع العين المستأجرة بعد موته يكون تمليكا لما ل يملك، وهو معلوم البطلان. هذا بالنسبة إلى موت المؤجر، وأما بالنسبة إلى موت المستأجر، فلان المنفعة تدريجية الوجود، فقبل موته لا منفعة في البين، أي المنافع التي توجد بعد موته كي يملكها، وبعد موته غير قابل لان يتملك، فيبطل بموت كل واحد منهما. وفيه: أن ملكية المؤجر للعين ليست موقتة بمدة حياته، بل ملكية مرسلة. نعم بالموت ينتقل إلى الورثة، فالموت سبب ناقل كسائر النواقل، فإذا كان ملكه للعين مطلق مرسلة غير مقيدة بالحياة، فملكه لمنافعها أيضا مطلق مرسل، فله تمليكها أزيد من مدة حياته، لأنه سلطان على ماله. بل له تمليكها لشخص في خصوص زمان بعد موته، وذلك كم إذا أوصى بمنافع عين من أعيان أملاكه لشخص مدة طويلة أو قصيرة، ولا شك في أنه لو لم يكن ملكه للعين أو منافعها مطلقة كان تمليكه لكل واحد منهما بعد الموت تمليكا لمال الغير، وهو باطل بالضرورة. وإن شئت قلت: ليس من قبيل تمليك أحد بطون الموقوف عليهم لعين الموقوفة لغيره، أو إجارته أزيد من مدة حياته، لان ملكية البطن ليست مطلقة مرسلة، بل كل بطن لا يملك العين وكذلك منافعها أزيد من مدة حياته. ولذلك لو آجر العين الموقوفة مدة أزيد من مدة حياته تكون موقوفة على إجارة البطن اللاحق، إلا أن يكون له ولاية عليه، أو كان له الولاية على مثل ذلك من قبل الواقف بأن كان متولي من قبله في ذلك. وأما الإشكال عليه بأن وجود المنفعة تدريجية، فلا يملكها المستأجر إلا في
حال وجوده، لأنه في حال موته ليس قابلا لان يتملك. فقد أجبنا عنه بأنه وإن كانت المنفعة تدريجية الوجود، ولكن العرف والعقلاء يرونها موجودة باعتبار تبعيتها للعين الموجودة. وأما ادعاء أن مضي مدة الإجارة جزء أو شرط لحصول ملكية المنفعة للمستأجر فغريب إثباتا وثبوتا. أما في مقام الإثبات: فلعدم الدليل على ذلك، بل لوجود الدليل على العدم، وهو أن المستأجر له أن يوجر العين المستأجرة إن لم يشترط عليه المباشرة في الاستيفاء، وهذا دليل على أنه يملك بمحض تمامية العقد واجدا لشرائطه، وليس متوقفا على مضي المدة. وأما في مقام ثبوت: فلان مضي مدة الإجارة مساوق لانعدام المنافع، ومرجع ذلك إلى أن يكون ملكية الشيء مشروطة بانعدامه. وهذا غريب، فليس في البين إشكال عقلي في بقاء الإجارة وعدم بطلانها لا بموت المؤجر ولا بموت المستأجر. الوجه الثاني: ورود روايات دالة على بطلانها بموت المؤجر، كرواية إبراهيم بن الهمداني قال: كتبت إلى الحسن عليه السلام وسألته عن امرأة آجرت ضيعتها عشر سنين على أن تعطي الإجارة (الأجرة خ ل) في كل سنة عند انقضائها لا يقدم لها شيء من الإجارة (الأجرة خ ل) ما لم يمض الوقت، فماتت قبل ثلاث سنين أو بعدها هل يجب على ورثتها إنفاذ الإجارة إلى الوقت، أم تكون الإجارة منقضية بموت المرأة؟ فكتب عليه السلام: إن كان لها وقت مسمى لم يبلغ فماتت فلورثتها تلك الإجارة، فإن لم تبلغ ذلك الوقت وبلغت ثلثه أو نصفه أو شيئا منه، فتعطي ورثتها بقدر ما بلغت من ذلك الوقت إن شاء الله 1.
(هامش)
(1) الكافي ج 5 ص 270، باب من يؤاجر أرضا ثم يبيها...، ح 2، تهذيب الأحكام ج 7 ص 207، ح 912، باب المزارعة، ح 58، وسائل الشيعة ج 13 ص 268، كتاب الإجارة، باب 25 ح 1. (*)
تقريب الاستدلال بهذه المكاتبة على بطلان الإجارة بموت المؤجر هو أن يكون المراد بقوله عليه السلام فلورثتها تلك الإجارة أي أمرها بيد الورثة، ولهم إمضاءه بالنسبة إلى المدة الباقية من عشر سنين التي كانت المدة المضروبة لاصل الإجارة التي أوقعتها تلك المرأة ولهم فسخها وحلها بالنسبة إلى تلك المدة الباقية. أو يكون المراد أن الإجارة إنفسخت بالنسبة إلى ما بعد موت المرأة، وأمر المدة الباقية من عشر سنين بيد الورثة، فلهم أن يوجروا بإجارة جديدة بمثل إجارة المرأة وعلى تلك الكيفية ولهم أن لا يعطوه. ويكون المراد بقوله عليه السلام فإن لم تبلغ ذلك الوقت أي الوقت المضروب للنجوم وأقساط إعطاء الأجرة، فالواجب على المستأجر إعطاء الأجرة للورثة بقدر ما مضى من تلك المدة التي استوفى منفعة الضيعة فيها، لان الإجارة ل تبطل بالنسبة إلى ما مضى في زمان حياة المرأة، فتستحق المرأة وبعد موتها تكون للورثة. وأنت خبير بأن هذا خلاف ظاهر الرواية، وظاهرها في مقام جواب السائل هو أن الإجارة لا تنقضي بموت المرأة ولا تنفسخ، بل تنتقل كما كانت إلى الورثة. وبعبارة أخرى: تكون الورثة قائمة مقام مورثهم في جميع شؤون تلك الإجارة، ولذلك يستحقون بالارث عوض المنفعة التي استوفاها المستأجر، وأما فيما بعد موت المرأة فأيض يستحقون الأجرة، ولكن باعتبار أنها عوض ملكهم لا باعتبار الارث من المرأة. وبناء على هذا المعنى تكون المكاتبة دليلا على عدم البطلان كما صرح به المقدس الاردبيلي قدس سره على ما حكي عنه 1، وحكي عن العلامة الطباطبائي قدس سره ظهورها في الصحة 2. والإنصاف أن المكاتبة لو لم تكن ظاهرة في الصحة غير دالة
(هامش)
(1) مجمع الفائدة والبرهان ج 10 ص 64. (2) حكاه عنه في جواهر الكلام ج 27 ص 209. (*)
على البطلان، بك تكون مجملة لا ظهور لها، فلابد من القول بعدم البطلان بموت المؤجر. وأما ما يقال من أن المراد بالشرطية الثانية - أعني قوله عليه السلام وإن لم يبلغ ذلك الوقت وبلغت ثلثه - أنها ماتت في أثناء الأجل المضروب وقبل أخذ الأجرة، فتستحق الورثة باعتبار الارث ذلك المقدار الذي استحقت المرأة، فيعطى لهم. فتدل على بطلان الإجارة بموتها، وإلا تقوم الورثة مقامها وتستحق تمام أجرة النجم بعد تمام السنة مثل نفس المرأة. ففيه: ما ذكرنا من أن الورثة من ناحية الارث يستحقون المقدار الذي استحقت المرأة بالنسبة إلى ما مضى من الوقت المضروب، وهذا لا ينافي استحقاقهم لباقي الأجرة باعتبار كونه إجارة ملكهم الذي ورثوه من المرأة وإن تكون الإجارة باقية صحيحة. وإن شئت قلت: إن بعض ما يستحقه الورثة على المستأجر باعتبار إرثهم مم استحقته المرأة، والبعض الآخر باعتبار كونه إجارة ملكهم. وأما عدم البطلان بموت المستأجر فأوضح، من جهة أن المستأجر بمحض وقوع العقد الصحيح ملك منفعة جميع المدة، وبعد موته ينتقل ملكه إلى وارثه، وليس هاهنا ما يمنع عن ملكية الورثة إلا اشتراط المالك على المستأجر المباشرة في الانتفاع، وفي مثل ذلك نلتزم بالبطلان لتعذر الانتفاع. فرع: يجوز إجارة المشاع كالمقسوم كما يجوز بيعه وصلحه وهبته، وذلك لان حقيقة الإجارة تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم. وهذا المعنى كما يتحقق في المقسوم غير المشاع يتحقق في المشاع أيضا، فتشمله إطلاقات الإجارة. فعدم يحتاج إلى دليل ينفي الصحة من إجماع أو رواية أو غيرهما، وليس في
البين ما ينفي الصحة، بل السيرة عند العقلاء والمتدينين قائمة على صحة الإجارة في الأملاك المشتركة، وكثيرا ما تكون الضيعة وكذلك القرية والخان مشتركة بين عدة ويوجر وكيلهم المجموع، فيأخذ كل واحد من الأجرة بمقدار حصته من العين المستأجرة، أو كل واحد من الشركاء يؤاجر حصته منفردا. وهذا الأمر دائر بين الناس في معاملاتهم. نعم في الصورة الأخيرة ليس له تسليم تمام العين المستأجرة إلى المستأجر بدون إذن شريكه، لأنه تصرف في مال الغير. وبعبارة أخرى: شرائط صحة الإجارة من شرائط المتعاقدين، كالبلوغ والعقل والاختيار وعدم الحجر وغير ذلك، وشرائط العوضين من كونهما معلومين كي لا يلزم غررا في البين، وكونهما مقدوري التسليم، وكونهما مملوكين، وكون العين المستأجرة مما يمكن الانتفاع بها مع بقائها، وكون المنفعة والانتفاع بها مباحا، وجود كلها يمكن مع كون العين المستأجرة مشاعا غير مقسوم. فرع: لاشك في أن العين المستأجرة أمانة مالكية في يد المستأجر فيما إذا كان الانتفاع بكونها في يد المستأجر، وأما إذا كان الانتفاع غير متوقف على كونها في يد المستأجر كالسيارة التي يستأجرها لركوبه مع كون العين في يد صاحبها، فهو خارج عن محل الكلام موضوعا، وليس داخلا في باب الامانات قطعا. والمقصود من هذا البحث هو أنه إذا وقع تلف على العين المستأجرة من غير تعد أو تفريط وكانت في يد المستأجر هل يضمن أم لا؟ وحيث أن ضمان اليد لا يأتي إلا فيما إذا كانت اليد غير مأذونة من قبل الله أو من قبل المالك، أو من هو بمنزلته. فالأول كاللقطة، فإن اللاقط مأذون من قبل الله في حفظ ذلك المال وإيصاله
إلى المالك، وفي كونه في يده مدة التعريف به، والحاكم الشرعي مأذون في حفظ أموال الغيب والقصر من المجانين والسفهاء وغير البالغين إلى زمان زوال الحجر عنهم. وهذ القسم من الأمانة تسمى بالأمانة الشرعية. وأما الثاني فهو في كل مورد كان المال في يد غير صاحبه إما بإذن صاحبه ومالكه، أو من هو بمنزلة المالك كوليه أو وكيله، أو كان متوليا على ذلك المال من قبل مالكه، أو من كان بمنزلة المالك كمتولي الوقف والناظر فيه، ففي جميع هؤلاء الامناء التلف بدون تعد ولا تفرط لا ضمان فيه، لان قاعدة وعلى اليد إنما هي في اليد غير المأذونة، واليد المؤذونة خارجة عن مفاده إما تخصيصا أو تخصصا. وحيث أن يد المستأجر مأذونة فلا ضمان إلا بالتعدي والتفريط، لخروجها بهما عن كونها أمانيا. نعم الأمانة المالكية على قسمين: قسم منها عقدية كالوديعة، فإن الطرفين يتعهدان على أن يكون المال أمانة عنده، وهذا هو الأمانة بالمعنى الاخص. وهذا القسم هو الذي يقال بعدم جواز شرط الضمان فيه، لأنه خلاف مقتضى العقد، بل وخلاف الكتاب، لقوله تعالى (وما على المحسنين من سبيل) 1. ولا شك في أن الودعي محسن، وأي سبيل أعظم من الضمان بدون تعد وتفريط. مضافا إلى ما ورد من عدم ضمان صاحب الوديعة بدون التفريط: منها: ما في الكافي، صحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: صاحب الوديعة والبضاعة مؤتمنان 2. ومنها: ما في الكافي والتهذيب، صحيحة زرارة، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
(هامش)
(1) التوبة 9: 91. (2) الكافي ج 5 ص 238 باب ضمان العارية والوديعة، ح 1، وسائل الشيعة ج 13 ص 227 كتاب الوديعة، باب 4 ح 1. (*)
وديعة الذهب والفضة؟ قال: فقال عليه السلام: كل ما كان من وديعة ولم تكن مضمونة لا تلزم 1. وغيرهما من الروايات المعتبرة. والقسم الآخر - هو أن يعطي المالك ماله بيد الغير لأجل مصلحة له كما في باب الإجارة، أو لأجل مصلحة ذلك الغير كباب العارية. ففي هذا القسم أيضا إن قلنا بأن الامانية لا توجب الضمان بقوله عليه السلام وما على الامين إلا اليمين 2 ولخروج اليد الامانية عن عموم مفاد وعلى اليد ما أخذت حتى تؤديه 3 تخصيصا أو تخصصا فلا موجب للضمان. وأما إذا شرط الضمان فنفس الشرط موجب له، وليست الامانية تقتضي عدم الضمان كي يقال بأن الشرط خلاف مقتضى العقد، فلا يؤثر، بل يوجب بطلان العقد، بناءا على أن الشرط الفاسد مفسد للعقد. وهذ القسم هو الأمانة بالمعنى الاعم، كباب العارية والإجارة والمضاربة وغيرها مما هو من هذا القبيل. فظهر مما ذكرنا أن الإجارة لا تقتضي الضمان في حد نفسها، ولكن لا تقتضي عدم الضمان مثل الوديعة، فشرط الضمان فيها يكون نافذا ولا يكون على خلاف مقتضى العقد، فبدون الشرط لا ضمان في تلف العين المستأجرة أو في نقصها إلا مع التعدي والتفريط، ومع الشرط لا مانع من ضمانها. فرع: لو آجر داره مثلا في هذا الشهر الحاضر باعتبار منفعة شهر أو شهرين أو أزيد متأخرا عن هذا الشهر، فالإجارة صحيحة لا مانع منها. وبعبارة أخرى: لا
(هامش)
(1) الكافي ج 5 ص 239، باب ضمان العارية والوديعة، ح 7، تهذيب الأحكام ج 7 ص 179 ح 789، باب الوديعة، ح 2، وسائل الشيعة ج 13 ص 228، كتاب الوديعة، باب 4 ح 4. (2 ) راجع ج 2 ص 9، قاعدة عدم ضمان الامين . (3) عوالي اللئالي ج 2 ص 345، باب القضاء، ح 10، مستدرك الوسائل ج 17، ص 88، أبواب الغصب، باب 1، ح 4، سنن أبي داود ج 3، ص 296، ح 3561، باب في تضمين العارية، سنن ابن ماجة ج 2، ص 802 ح 2400، أبواب الصدقات، باب العارية. (*)
يعتبر اتصال مدة الإجارة بالعقد، ولا فرق بين أن تكون العين المستأجرة - في الزمان الفاصل بين مدة الإجارة والعقد - في إجارة الغير أو لا. وذلك من جهة أن المالك المؤجر يملك منافع العين المستأجرة في جميع قطعات الزمان، فله أن يملك أي قطعة شاء من أي شخص، سواء كان متصلا أو كان منفصلا، وسواء كان في الزمان الفاصل آجره لشخص آخر أو لم يوجره. فرع: لو آجر داره أو دكانه سنة أو شهرا ولم يعين، ربما انصرف إلى السنة أو الشهر المتصلان بزمان العقد، وإلا فالإجارة باطلة، لعدم تعيين زمان الانتفاع والمنفعة، مع أن حقيقة الإجارة تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم. فرع: بناء على بطلان شرط الضمان في الإجارة - وإن تقدم منا صحته وجوازه ونفوذه - لو قال المؤجر للمستأجر: آجرتك هذه الدار مثلا بكذا بشرط أن تعطي مقدار كذا من مالك لو تلفت أو حصل فيها نقص، فهل هذا أيضا يرجع إلى شرط الضمان ويكون باطلا، أم لا إذ ليس هذا شرط خارجي وقع في ضمن عقد الإجارة وليس خلاف مقتضى عقد الإجارة، ولا خلاف الكتاب والسنة، فيكون صحيحا ونافذا؟ الظاهر هو الثاني، إذ على فرض تصديق أن عقد الإجارة يقتضي عدم ضمان العين المستأجر لا يقتضي عدم التزام المستأجر بشيء من ماله إن وقع التلف أو حصل نقص في العين المستأجرة، فتشمله عمومات وجوب الوفاء بالشرط إذ كان واجدا لشروط صحة الشروط، كما هو كذلك في المقام. فرع: هل الحكم في الإجارة الفاسدة مثل الإجارة الصحيحة - أي لا ضمان
بتلف العين فيها - أم لا، بل يضمن لعدم كون اليد فيها مأذونة، فإن اليد في المقبوض بالعقد الفاسد تجري مجرى الغصب عند المحصلين، كما قال به ابن إدريس قدس سره 1 فتخرج عن عموم الامين مؤتمن 2 ويشملها عموم وعلى اليد ما أخذت ، لان الخارج هي اليد المأذونة وليس هاهنا إذن واقعا، لان إعطاء المالك العين المستأجرة للمستأجر باعتقاد أنه مستحق لان يعطى له لأنه مالك لمنافعها، وإلا لو علم بأنه غير مستحق لعدم كونه مالكا لمنافعها فلا يعطيه العين ولا يرضى بأن تكون في يده، ففي الواقع ل رضاء له بأن يكون المال في يده، فيكون إذنه ورضاه بكونه في يده في حكم العدم، بل معدوم واقعا، فتكون يد المستأجر كاليد الغاصبة، بل هو غاصبا لو كان عالما بفساد الإجارة. كما أن المالك لو كان عالما بفساد الإجارة ومع ذلك أعطى العين المستأجرة للمستأجر فلا ضمان، لقاعدة الاقدام، لأنه أقدم على ذلك فيكون أمانة مالكية واليد يد مأذونة فلا موجب للضمان. وهذا لا إشكال ولا كلام فيه. إنما الكلام في صورة جهله بالفساد. والتحقيق في هذا المقام هو الذي ذكرناه مرارا في مقام الفرق بين القضية الحقيقية والقضية الخارجية أن الأولى يتعلق الحكم والإرادة بوصف عنواني ينطبق على مصاديقه، والثانية ما تعلق الحكم بنفس الاشخاص الخارجية بتوسط الصورة الذهنية. وفي الصورة الأولى إذا أخطأ واعتقد وجود ذلك الوصف العنواني في شخص وخاطبه بعنوان ذلك الوصف وقال مثلا: يا صديقي أدخل داري، فليس لذلك
(هامش)
(1) السرائر ج 2 ص 285. (2) الفقيه ج 3، ص 304، ح 4087 و 4088، باب الوديعة، ح 1 و 2، تهذيب الأحكام ج 7، ص 183 و 184، ح 805 و 811، في العارية ح 8 و 14، وسائل الشيعة ج 13 ص 227 كتاب الوديعة في أحكام الوديعة، باب 4 ح 1 و 2. (*)
المخاطب الذي ليس صديقه دخول الدار، لان إرادة المتكلم وإذنه لم يتعلقا بهذا الشخص الخارجي بل تعلقا بعنوان لا ينطبق عليه، فليس مأذونا بالدخول. وأما إذا كان بطور القضية الخارجية وقال: يا زيد مثلا أدخل داري، وإن كان إذنه هذا باعتقاد أنه صديقه، يجوز له الدخول وإن لم يكن صديقه. والسر في ذلك: تعلق الإرادة والإذن في هذه الصورة بشخص المخاطب وإن كان منشأها اعتقاد أنه صديقه وكان مخطئا في اعتقاده، وأما في الصورة الأولى تعلقت بعنوان لا ينطبق على المخاطب، فلا يكون المخاطب مأذون بالدخول، لا بشخصه ولا بعنوان منطبق عليه. وفيما نحن فيه إن أعطى العين المستأجرة وسلمها إلى المستأجر بعنوان المستحق للأخذ والملك لمنفعتها فلا يكون المستأجر مأذونا، وليست يده يد أمانة، لتعلق الإذن بعنوان غير منطبق عليه. وان سلم إليه العين بعنوان شخصه باعتقاده أنه مالك منفعتها كان مأذونا، وكانت يده يد أمانة، وإن كان مخطئا في اعتقاده. فلابد وأن ينظر ويلاحظ في أن تسليم المؤجر العين للمستأجرة بأي واحد من القسمين، فإن كان بعنوان المستحق للأخذ وأنه مالك لمنفعتها فليست يده يد أمانة، وإن كان من القسم الثاني كانت يده يد أمانة ولايكون ضامنا. هذا في مقام الثبوت. وأما في مقام الإثبات فظاهر الحال أنه سلم إليه العين بعنوان أنه مالك لمنفعتها، وأخذه مقدمة لاستيفاء المنفعة في باب الإجارة، وفي باب البيع الفاسد البائع يسلم المبيع للمشتري بعنوان أنه مالك له، ففي كلا البابين تكون يدهما يد ضمان، لا يد أمانة. نعم تبقى مسألة قاعدة مالا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده ، فإنها تدل على عدم الضمان في الإجارة الفاسدة بناء على عدم الضمان في صحيحها بالتلف
كما تقدم. والقاعدة ثابتة بالإجماع، ونحن تكلمنا في هذه القاعدة أصلا وعكسا في الجزء الأول من هذا الكتاب، فلا نعيد. فرع: هل الأجراء يضمنون العين - التي يأخذونها لأجل عمل فيها - لو تلفت أو حصل فيها عيب ونقص، كالخياط الذي يأخذ الثوب لأجل أن يخيطه، أو القصار الذي يأخذه لأجل أن يغسله، وهكذا في جميع الأجراء بالنسبة إلى العين التي تقع تحت أيديهم لأجل عمل فيها أم لا؟ الظاهر عدم ضمانهم، لما تقدم من أن يدهم يد أمانة مالكية، فهي خارجة عن عموم وعلى اليد ما أخذت حتى تؤديه تخصيصا أو تخصصا. ولا موجب آخر للضمان، بل الأخبار التي تنفي الضمان عن الامين إذ لم يصدر عنه تعد ولا تفريط من أدلة عدم الضمان في المقام، وكذلك سيرة المتدينين، وادعى المرتضى قدس سره الإجماع على عدم الضمان 1. نعم الظاهر نفوذ اشتراط الضمان فيها لعموم المؤمنون عند شروطهم 2 بعد كونه واجدا لشروط صحة الشروط، وليس عدم الضمان من مقتضيات هذا العقد كي يكون شرط الضمان على خلاف مقتضاه، فيكون فاسد وباطلا، بل يكون مفسدا للعقد على قول. هذا، مضافا إلى رواية موسى بن بكير، عن العبد الصالح عليه السلام قال: سألته عن رجل استأجر ملاحا وحمله طعاما في سفينته، واشترط عليه إن نقص فعليه. قال: إن نقص فعليه قلت: فربما زاد قال عليه السلام: يدعى هو أنه زاد فيه؟ قلت: لا. قال:
(هامش)
(1) الانتصار ص 226. (2) تقدم ص 18، هامش 4. (*)
فهو لك 1. وهذه الرواية ظاهرة في أن شرط الضمان بالنسبة إلى نقص العين التي في يد الاجير نافذ، فلا يبقى وجه للقول ببطلان هذا الشرط وعدم نفوذه. فرع: هل يأتي الخيار في عقد الإجارة أم لا؟ الحق في المقام هو أن الشارع إذا لم يمنع عن دخول الخيار في معاملة - كما أنه منع عن دخوله في عقد النكاح - مقتضى القاعدة إمكان دخول الخيار فيها وإن كان بتوسيط الشرط. وبعبارة أخرى: يحتاج إلى وجود دليل عليه، والأدلةالواردة في باب الخيارات والتي يمكن أن يستشهد بها مختلفة، فبعضها مختص بمعاملة خاصة فلا يثبت في غيره، كقوله عليه السلام في باب البيع: البيعان بالخيار ما لم يفترقا فإذا افترقا وجب البيع 2. فهذا الخيار المسمى بخيار المجلس لا يجري في غير البيع، سواء الإجارة وغيرها من المعاملات. وبعضها يشمل جميع المعاملات ول اختصاص له بمعاملة دون أخرى، كقاعدة لا ضرر بناء على دلالتها على ثبوت الخيار في المعاملة الضررية. وخلاصة الكلام هو: أن أبواب المعاملات هي في الحقيقة تعهدات والتزامات بين المتعاقدين على أمر من الأمور، وهذا المعنى يمكن أن يكون فيه أحد الالتزامين مقيدا بالتزام آخر، أو كل منهما مقيدا بالآخر، إلا أن يمنع الشارع عن ذلك، وإلا ففي حد نفسه لا مانع عقلي في البين في مقام الثبوت. نعم في مقام الإثبات يحتاج إما إلى دليل منع ونفي يمنع شمول الاطلاقات
(هامش)
(1) مستطرفات السرائر ص 19 ح 13 من كتاب موسى بن بكر الواسطي، وسائل الشيعة ج 13، ص 270 كتاب الإجارة باب 27 ح 1. (2) الكافي ج 5 ص 170 باب الشرط والخيار في البيع، ح 7، وسائل الشيعة ج 12 ص 346، أبواب الخيار، باب 1 ح 4. (*)
التي تدل على لزوم الوفاء بالشروط، كما ورد في باب النكاح وكما إذا كان الشرط غير واجد لشرائط صحة الشروط، أو كان ذلك الدليل مخصصا لعموم (أوفوا بالعقود) 1 كأدلة حرمة الربا بالنسبة إلى المعاملة الربوية، وإلا ففي حد نفسه شرط الخيار مثل سائر الشروط الصحيحة تشمله إطلاقات أدلة لزوم الوفاء بالشرط، ولا فرق عند العقل والعرف بين شرط الخيار في البيع وفي الإجارة. نعم إذا ورد دليل خاص بثبوت خيار خاص في معاملة مخصوصة، كما ورد في باب البيع: صاحب الحيوان بالخيار ثلاثة أيام 2 سواء كان المبيع أو الثمن أو كلاهما حيوانا فلصاحب الحيوان - وهو الذي انتقل إليه الحيوان كان هو المشتري أو البائع - الخيار ثلاثة أيام، يقتصر على مورده لعدم العموم لدليله يشمل جميع المعاملات، بل لا يشمل جميع أفراد البيع لفقدان موضوع خيار الحيوان في أكثر البيوع لعدم كون المثمن أو الثمن فيها الحيوان، وكذلك المجلس إن كان دليله منحصرا بقوله عليه السلام: البيعان بالخيار ما لم يفترقا فإذا افترق وجب البيع ، 3 لعدم شموله ما عدا البيع. وأما دليل نفي الضرر فيشمل جميع المعاملات إذا كان اللزوم ووجوب الوفاء ضرريا، فيرتفع الوجوب، فيكون مخيرا بين أن يبقى على التزامه وأن يرفع اليد عنه ولا يعتني بما التزم. وهذا هو الخيار بين حلة وإبرامه. وعلى هذا لو كان مدرك الخيار قاعدة لا ضرر، فيشمل جميع المعاملات التي لزومها ووجوب الوفاء بها يكون ضرريا على أحد المتعاقدين، سواء كان البيع أو الإجارة أو الصلح غير المبني على المسامحة، أو غيرها من المعاوضات التي ليس
(هامش)
(1) المائدة 5: 1. (2) تهذيب الأحكام ج 7، ص 67، ح 287، باب ابتياع الحيوان، ح 1، وسائل الشيعة ج 12 ص 249 ، أبواب الخيار، باب 3، ح 2. (3) تقدم ص 83، هامش (2). (*)
بناء المتعاملين فيها على المسامحة من حيث الخسارة والضرر المالي. ولكن ربما يستشكل على الاستدلال بقاعدة لا ضرر لثبوت الخيار في أبواب المعاملات حتى في خيار الغبن، بأن قاعدة نفي الضرر بناء على حكومتها على الأدلةالأولية التي مفادها الأحكام الواقعية بعناوينها الأولية في جانب المحمول. مثلا حكم العقود بعناوينها الأولية هو اللزوم ووجوب الوفاء بمضمونها، فإذا كان وجوب الوفاء ضرريا فالقاعدة ترفعه، فل يكون الوفاء واجبا، ويرتفع في عالم التشريع واقعا، كما هو شأن الحكومة الواقعية في جانب المحمول. ولكن ارتفاع وجوب الوفاء لا يوجب حدوث حق في هذه المعاملة الذي يعبر عنه بالخيار ويكون قابلا للاسقاط شأن كل حق، حتى عرفوه بأن الحق ما هو قابل للاسقاط، وجعلوه الفارق بين الحق والحكم. وإن شئت قلت: إن قاعدة لاضرر شأنه الرفع، لا الوضع وإثبات حق يسمى بالخيار، ولذلك قالوا: إن خيار الغبن ليس من جهة قاعدة نفي الضرر، بل من جهة تخلف الشرط الضمني، وذلك لان البيع عبارة عند العرف والعقلاء عن تبديل مال بمال يساويه، لاغراض عندهم. فكل واحد من البائع والمشتري يتعلق غرضه بم يأخذه عوض ماله، بمعنى أن البائع يتعلق غرضه بالثمن، والمشتري بالمبيع. وهذا ل ينافي بناء كل واحد من المتعاقدين أن ما يأخذه عوض ما يعطي يساويه ولا ينقص عنه، فهذا يكون شرطا ضمنيا من الطرفين، فإذا لم يكن كذلك وكان ما أخذه لا يساوي ما أعطى يقال إنه خدع وغبن، فيتخلف ذلك الشرط الضمني. وقد تحقق في محله أن تخلف الشرط يوجب الخيار. وفيه: أن قاعدة نفي الضرر لاشك في أنها ترفع اللزوم ووجوب الوفاء بالعقد، فيكون حاله حال العقود الجائزة، فيجوز رفع اليد عن المعاملة الضررية، وهذه هي نتيجة الخيار.
نعم هذا المعنى - أي الجواز - حكم شرعي وليس قابلا للاسقاط. ولا يمكن إنكار هذ الفرق، فلو قال في الإجارة الضررية: أسقطت حق فسخي، لا أثر لهذا الكلام، لأنه ليس حق في البين. ولكن يمكن أن يقال: بأن ذلك الشرط الضمني الذي ادعيناه في باب البيع أيضا يمكن ادعاءه هاهنا - أي باب الإجارة - لأنهما من هذه الجهة من واد واحد، فإن المؤجر والمستأجر أيضا في معاوضتهم يبنون على تساوي العوضين، بمعنى أن المؤجر يملك منافع العين بعوض معلوم بانيا على أن ذلك العوض يساوي منافع ماله ، وكذلك المستأجر يقبل التمليك بالعوض بانيا على أن المنافع التي تملك بعقد الإجارة تساوي ما يعطيه من العوض، فإذا كانت المنافع أقل فللمستأجر الخيار، لتخلف الشرط الضمني، كما أنه لو كان العوض أقل من المنافع فللموجر الخيار. نعم لو كان مدرك خيار الغبن هو الإجماع، لا قاعدة نفي الضرر، ولا الشرط الضمني، فإثباته في الإجارة أيضا يحتاج إلى إثبات الإجماع فيها أو دليل آخر. هذا كله في غير شرط الخيار. وأما ثبوت خيار الشرط في الإجارة فيكفي في إثباته فيها عموم قوله صلى الله عليه وآله: المؤمنون عند شروطهم 1. قال في الجواهر: ولا خلاف في ثبوت خيار الشرط فيها، واستظهر من التذكرة الإجماع عليه 2. ثم ذكر ثبوت جملة من الخيارات فيها كخيار الرؤية، والعيب، والغبن، والاشتراط، وتبعض الصفقة، وتعذر التسليم، والفلس، والتدليس والشركة. والضابط هو الذي ذكرنا من أن ثبوت الخيار في معاملة إن كان لدليل خاص لا يشمل غيرها - كخيار المجلس وخيار الحيوان - فلا يجري فيها، لعدم الدليل عليه
(هامش)
(1) تقدم ص 18، هامش 4. (2) جواهر الكلام ج 27 ص 218. (*)
وبطلان القياس، وأما إذا كان الدليل عاما فيجري في جميع ما يشمله، سواء كان إجارة أو غيرها. الجهة الثانية في شرائطها وهي ستة: الأول: كمال المتعاقدين بالبلوغ والعقل والاختيار، وأن لا يكونا محجورين بأحد أسباب الحجر، وهذا الشرط من الأمور الواضحة الغنية عن البيان. الثاني: كون الأجرة معلومة، وقد عرفت الإجارة بأنه تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم لدفع الغرر المنهي في أبواب المعاملات. قال في المسالك في وجه هذا الشرط: لنهي النبي صلى الله عليه وآله عن الغرر مطلقا 1. وقال المحقق قدس سره في الشرائع: الثاني أن تكون الأجرة معلومة بالوزن والكيل فيما يكال أو يوزن، لتحقق انتفاء الغرر، وقيل: يكفي المشاهدة، وهو حسن 2. وجه الحسن عدم ورود الدليل على لزوم معرفة الأجرة فيما يكال أو يوزن، وإنما هو قياس على البيع. والذي ورد هو نهي النبي صلى الله عليه وآله عن الغرر مطلقا، كما يدعيه في المسالك، والمروي عنه صلى الله عليه وآله في التذكرة أنه قال: من استأجر أجيرا فليعلم أجرة 3. وهذان - أي، العلم بالأجرة ورفع الغرر - كما يحصلان فيما يكال أو يوزن
(هامش)
(1) مسالك الإفهام ج 1 ص 255. (2) شرائع الإسلام ج 2 ص 180. (3) مسالك الإفهام ج 5 ص 178 و 179، تذكرة الفقهاء ج 2 ص 291. (*)
بالكيل والوزن، كذلك تحصل مرتبة منهما بالمشاهدة. اللهم إلا أن يقال: إن رفع الغرر عند العرف والعقلاء في المكيل والموزون لا يحصل إلا بهما، فبيعهما أو جعلهما عوض للمنفعة المملوكة بالإجارة بدون الكيل والوزن تكون معاملة غررية، وبناء على بطلان ما هو معاملة غررية تكون تلك المعاملة باطلة، وإذا حصل الشك في صحة إجارة بدونهم فالمرجع هو استصحاب عدم انتقال المنافع إلى المستأجر. ولا تجري إصالة الصحة فيها، لعدم جريانها في الشبهات الحكمية، فإنها أصل موضوعي بعد الفراغ من حكم المعاملة. وبعبارة أخرى: أصالة الصحة تجري فيما إذا كان الشك في أن المأتي به هل هو موافق لم هو المأمور به أم لا، وأما إذا كان الشك في صحة المأتي به لأجل عدم العلم بما هو المأمور به، كما إذا علم بأنه في صلاته لم يأت بجلسة الاستراحة بعد رفع الرأس عن السجدة الثانية، وشك في صحة الصلاة لأجل الشك في جزئيتها. فبأصالة الصحة لا يمكن إثبات عدم جزئيتها وصحة الصلاة بدونها. وكذلك الأمر في المعاملات، فإذا شك في اعتبار أمر في معاملة، كتقدم الإيجاب على القبول مثلا، وأوقع معاملة ولم يقدم فيه الإيجاب على القبول عمدا، فلا يمكن إثبات صحة تلك المعاملة، وعدم اعتبار تقدم الإيجاب على القبول بأصالة الصحة. ومعلوم أن المقام من هذا القبيل، لان المدعي بكفاية المشاهدة في معرفة المكيل والموزون، وعدم اعتبار الكيل والوزن في معرفتهم ليس له مدرك سوى أصالة الصحة في فاقدهما، وهو لا يخلو من الغرابة. ذكر في ضمن هذ الشرط - أي معلومية الأجرة - فروع نحن نذكرها أيضا فرع: لا خلاف عندنا في أن المستأجر يملك تمام المنفعة بنفس العقد،
وذلك من جهة أن المالك أو من يقوم مقامه بعد ما أنشأ تمليك المنفعة المعلومة للمستأجر بعوض معلوم، وصدر القبول عن المستأجر، وتم العقد واجدا لجميع شرائط الصحة لا وجه لعدم حصول الملكية. نعم في بعض العقود والمعاملات شرط الشارع القبض مطلقا، أو في خصوص المجلس لتأثير العقد أو للزومه. وهذا لا ربط له بالمقام، لان مقامنا في أنه بعد أن تم عقد الإجارة إيجابا وقبولا مع وجود جميع شرائط الصحة، فهل يملك المستأجر جميع منافع مدة الإجارة حين تمامية العقد أم لا، بل يملك تدريجا، ففي كل زمان يملك منفعة ذلك الزمان؟ فلو استأجر دارا أو دكانا سنة مثلا لا يملك منفعة تمام السنة حين تمام العقد، بل يملك في كل يوم منفعة ذلك اليوم فقط، بل في كل ساعة منفعة تلك الساعة لا الساعة المتأخرة. لا ينبغي أن يشك في أن الصحيح هو الأول، لان سبب الملكية هو العقد الصادر عن أهله، أي المالك العاقل البالغ، غير المحجور، واجد لجميع الشرائط المعتبرة في صحة هذا العقد، فيلزم من عدم وجود المسبب الخلف. ومنش احتمال الثاني هو أن المنافع حال وقوع عقد الإجارة ليست موجودة كي يكون مالك العين مالكا لها، فلا يملكها إلا بعد وجودها، فقبل وجودها لا يمكن أن يملكها، لان الشيء لا يمكن أن يكون معطيا له. وهذه قضية ضرورية. فلابد وأن نقول: حيث أن ملكية المنافع لمالك العين تدريجية، فتمليكها أيضا تدريجي، فحصول الملكية للمستأجر أيضا تدريجي. وأنت خبير بأن مبنى هذا الكلام هو عدم ملكية المنافع لمالك العين إلا بعد وجودها، وحيث أن وجودها تدريجية فملكيتها أيضا تدريجية. وهذا المبنى فاسد جدا، لان الملكية من الاعتبارت العقلائية والشرعية، والعقلاء يعتبرون منافع كل عين بتبع تلك العين ملكا لمالكها، لأنهم يرون منافع الأعيان من شؤونها، فحيث أن
ملكية نفس العين ليست موقتة بوقت، فكذلك ملكية شؤونها، فكما أن ملكية العين لمالكه ملك طلق ما لم يخرج عن تحت سلطنته بناقل قهري كالموت والارتداد، أو غير قهري كالبيع والصلح والهبة وغيرها، فكذلك منافعها، ولذلك تجوز الوصية بمنافع ملكه سنين لشخص مع أنه لا يملك جديدا بعد موته. وأما حديث أنها قبل أن توجد ليست قابلة لان تتعلق به الملكية، لان المعدوم غير قابل لان يكون معروضا لعرض خارجي أو أمر ذهني. ففيه: أول أنه من الممكن تعلق الغرض الخارجي كالإرادة - التي هي الشوق المؤكد - بالموجودات الخارجية قبل وجودها بتوسط الصورة الذهنية، التي هي مرآة للخارج، فالمرئي بالذات - بمعنى كون الوصف نعتا لنفس الموصوف، لا أنه وصف بحال متعلق الموصوف - وإن كان هي الصورة الذهنية، ولكن متعلق الحكم الشرعي واقعا وفي الحقيقة والمقصد الأصلي هو الخارج الذي هو محكي هذه الصورة الذهنية. لان المصلحة والمفسدة قائمتان به، وإل فالصورة الذهنية لا مصلحة ولا مفسدة لها، فالإرادة والكراهة لا تتعلقان بها إل بالعرض. مثلا الصلاة تكون مطلوبة بوجودها الخارجي قبل أن توجد بتوسيط تلك الصورة الذهنية، وكذلك الأمر في الكراهة، فتكون المحرمات مكروهة منفورة بوجودها الخارجي قبل أن توجد بتوسيط الصورة الذهنية. وحيث أن مركز المصلحة والمفسدة هو الوجود الخارجي، وإلا فالصورة الذهنية لذلك الوجود الخارجي لا مطلوب ولا مبغوض، وعلى هذ بنينا امتناع اجتماع الأمر والنهي إن كان التركيب بين متعلقيهما تركيبا اتحاديا، وأجبنا عمن يقول بأن متعلق الأمر والنهي صورتان ذهنيتان كل واحد منهما غير الآخر، فلا يجتمعان في متعلق واحد كي يلزم منه اجتماع الضدين فيكون محال.
وذلك لان ظرف الاتحاد في الغصب والصلاة - مثلا - هو الخارج، والأمر والنهي ل يتعلقان بالخارج، لان الخارج ظرف سقوطهما لا ثبوتهما، بل يتعلقان كل واحد منهم بالصورة الذهنية للصلاة والغصب، وهما مختلفان فلا اجتماع. وخلاصة ما قلناه في مبحث الاجتماع في مقام الرد على هذا الكلام هو: أن تعلق الإرادة والكراهة بالصورة بالذهنية من أجل أنهما من الكيفيات والحالات النفسانية، فلابد وأن يكون عروضهما في الذهن ولكن بما هي مرآة للخارج، فيسريان إلى الخارج بتوسيط الصورة الذهنية. والمراد الأصلي وما فيه المصلحة والمفسدة - اللتان هما ملاك الحكم الشرعي - في الخارج، ولاشك في أن الإرادة والكراهة تتبعان الملاك. ولكن حيث أن تعلقهما ابتداء وبل واسطة في المعروض بالخارج غير ممكن، فبتوسيط الصورة الذهنية تتعلقان به، فالصورة الذهنية مراد بالذات بمعنى أنه بدون واسطة في العروض، ومراد بالعرض بمعنى أن تعلق الإرادة بها لأجل مطلوبية ذي الصورة وكون الملاك والمصلحة فيه. وأما الإشكال بأن الخارج ظرف السقوط لا الثبوت. ففيه: أنه لو قلنا إنهما تتعلقان بنفس الخارج بدون واسطة كان الإشكال متجها، لأنه بعد وجود المتعلق لزم في الاوامر أن يكون من قبيل طلب وجود ما هو حاصل، وفي النواهي اجتماع النقيضين، وكلاهما محال. وأما إذا قلن بأنهما تتعلقان بالصورة الذهنية بما هي مرآة للخارج، فالصورة قبل وجود ذي الصورة مطلوبة، ولكن باعتبار كونها حاكية عن ذي الصورة ومرآة له، فيكون ذي الصورة قبل وجوده في الخارج مطلوبا بتوسيط الصورة الذهنية، فلا يلزم المحذور المذكور. وكذلك الأمر فيما نحن فيه، فالمالك المؤجر يملك المنافع التي توجد فيم
سيأتي والمستقبل بتوسيط صورة تلك المنافع، لا أنه يملك للمستأجر نفس المنافع الموجودة في الخارج كي يلزم المحذور المذكور. وعدم إمكان عروض الإرادة على الخارج بدون توسيط صورته الذهنية غير عدم إمكانه مطلقا. فالأول غير ممكن، والثاني لا مانع منه. فالقول بأن المستأجر يملك منافع العين تدريجا وشيئا فشيئا لا أساس له. بل ل يمكن رفع الإشكال المتوهم به أصلا، إذ الموجود التدريجي من الأمور غير القارة مثل الحركة قابل للقسمة إلى ما لا يتناهى، فأي جزء منه قبل وجوده - بناء على صحة هذ الإشكال - ليس قابلا للتمليك، لأنه معدوم، وبعد وجوده ليس قابلا لان يستفيده المستأجر، فلا تتعلق به الإجارة، إذ المقصود من الإجارة انتفاع المستأجر واستفادته من منافع العين المستأجرة، والأمر التدريجي بعد أن وجد كل جزء منه ينعدم فورا، بل ما لا ينعدم ذلك الجزء لا يوجد الجزء الآخر، وإلا لزم الخلف، أي عدم تدريجية ما فرض تدريجيته، لان معنى تدريجية موجود هو عدم إمكان اجتماع أجزائه في الوجود. لان معنى تدريجية موجود هو عدم إمكان اجتماع أجزائه في الوجود. فرع: إطلاق عقد الإجارة وعدم تقييد كون الأجرة مؤجلة بوقت معين، أو بالنجوم المعينة يقتضي التعجيل، كما أن اشتراط التعجيل مؤكد لما يقتضيه الاطلاق من التعجيل. نعم لو شرط التأجيل مع ضبط الوقت عرفا بحيث لا يكون غررا في البين كان نافذا، لعموم المؤمنون عند شروطهم 1. وما ذكرنا من أن إطلاقه عقد الإجارة يقتضي التعجيل بالنسبة إلى أداء الأجرة، جار في البيع من أن إطلاقه يقتضي تعجيل أداء الثمن.
(هامش)
(1) تقدم ص 18، هامش 4. (*)
والسر في كليهما: هو أنه كما ذكرنا ملكية الأجرة للاجير بنفس العمل، والثمن لمالك العين بنفس العقد، وبعد حصول الملكية يجب على كل من المستأجر والمشتري رد مال الغير - الأجرة والثمن - إلى صاحبه فورا من دون تراخ ومماطلة، لوجوب رد الامانات إلى أهلها، ولا شك أن الثمن والأجرة أمانة مالكية عند المشتري والمستأجر. وأما أن اشتراط التعجيل مؤكد لما يقتضيه العقد، فلان العقد في البيع والإجارة وغيرهما من العقود التمليكية، حيث أنه سبب للملكية، فبوجوده توجد الملكية، فبمقتضى (أوفو بالعقود) 1 يجب ترتيب الاثر على ذلك العقد الذي تم، وأن يسلم المشتري الثمن إلى البائع، والمستأجر الأجرة إلى مالك العين المستأجرة، فإذا شرط التعجيل في الأداء فأيضا يجب الوفاء والتعجيل في الأداء، فعموم المؤمنون عند شروطهم يؤكد عموم (أوفوا بالعقود). وأما شرط التأجيل فيقيد إطلاق العقد، وحيث أنه لا يحلل حراما ول يحرم حلالا فجائز ونافذ لقوله صلى الله عليه وآله: كل شرط جائز بين المسلمين إل ما أحل حراما أو حرام حلال 2. فرع: لو وقف المؤجر على عيب سابق على القبض في الأجرة - وإن كان حدوث ذلك بعد العقد، لعدم الفرق بين حدوثه قبل العقد أو بعده بعد ما كان قبل القبض ، إذ المناط هاهنا أن الأجرة وصلت إلى يد المؤجر معيبة لفوات جزء أو وصف منها - فهل موجب للخيار، أو الارش، أو للخيار وحده، أو للارش وحده، أو موجب للانفساخ، أو لا يوجب شيئا من ذلك بل يكون له فقط حق طلب الابدال بالفرد الصحيح من طبيعة الأجرة إذا كانت كليا في الذمة؟ وجوه.
(هامش)
(1) المائدة 5: 1. (2) تهذيب الأحكام ج 7 ص 467، الزيادة في فقه النكاح، ج 80 وسائل الشيعة ج 15 ص 50 أبواب المهور، باب 40 ح 4. (*)
أقول: الأجرة إما طبيعة كلية قابلة للانطباق على أفراد متعددة، وإما شخص خارجي ممتنع الصدق على كثرين فإن كان من القسم الأول فليس للمستأجر تطبيقها على الفرد المعيب، لان الكلي إذا جعل عوضا في العقود المعاوضية ينصرف إلى الطبيعة السالمة عن العيب والنقص، ففي مقام الأداء يجب أن يؤدي الفرد السالم، فإن خالف وأدى الفرد المعيب فللموجر مطالبة إبداله بالفرد الصحيح، لأنه مصداق ما هو حقه. وأما إذا كانت الأجرة شخصا خارجيا وحدث فيها عيب قبل القبض، فإن قلنا بعدم اختصاص قاعدة كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بايعه بالبيع بل تجري في جميع المعاوضات، فالعيب الحادث إما بتلف جزء وإما بزوال وصف الصحة، فإن كان الجزء التالف مما يقسط عليه الثمن ويكون مقابله مقدار من الطرف الآخر فبالنسبة إلى ذلك الجزء ومقابله تنفسخ المعاملة. مثلا: لو آجر دارا سنة كاملة بمقدار طن من الحنطة، فوقع التلف على جزء من الحنطة التي هي أجرة الدار، فبمقدار ذلك الجزء تنفسخ الإجارة، فلنفرض أن مقابل التالف هو الشهر من مدة الإجارة فبمقدار الشهر تنفسخ الإجارة، لان التالف يكون من مال المستأجر بحكم القاعدة على الفرض، ولايكون إلا بانفساخ العقد بتمامه، ولا أقل بمقدار ما يقابل التالف بعد التقسيط. ثم إن قلنا بانفساخ تمام العقد فيرجع تمام الأجرة إلى المستأجر والعين المستأجرة إلى المؤجر ولا إشكال في البين، وإن قلن بانفساخ مقدار المقابل للجزء التالف من الأجرة فيرجع ذلك المقدار إلى المؤجر والباقي للمستأجر، ولكن يأتي خيار تبعض الصفقة، فلكل واحد منهما - المؤجر والمستأجر - خيار تبعض الصفقة. اللهم إلا أن يقال: لو تعمد المؤجر بإتلاف بعض الأجرة يكون إتلافه بمنزلة قبضه وإن لم يكن قبضا عرفا. هذا بالنسبة إلى الجزء.
وأما لو كان التالف هو الوصف وصار سببا لحدوث عيب في الأجرة، فإن قلنا بأن حدوث العيب قبل القبض كحدوثه قبل العقد، فيختار بين الرد وبين أخذ الارش مع الامساك على إشكال، وذلك لان أخذ الارش مع الامساك على خلاف القاعدة، وإنما ثبت في البيع لدليل تعبدي. وقد حققنا المسألة في خيار العيب. نعم ادعي الإجماع على جواز أخذ الارش إن أمسك ولم يرد، فإن تم الإجماع فهو، وإلا فلا يخلو من إشكال. بقي الكلام في أن قاعدة كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه هل هي مختصة بالبييع، أم تجري في جميع المعاوضات؟ ونحن وإن حققنا هذه المسألة في الجزء الثاني من هذا الكتاب في مقام شرح القاعدة، ولكن نشير إليها هاهنا أيضا إشارة. أقول: لو كان مدرك هذه القاعدة الروايتين الشريفتين - أي الحديث الشريف النبوي المروي في عوالي اللئالي: كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بايعه 1 ورواية عقبة بن خالد عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل اشترى متاعا من آخر وأوجبة، غير أنه ترك المتاع عنده ولم يقبضه، وقال: آتيك غدا إن شاء الله، فسرق المتاع من مال من يكون؟ قال عليه السلام: من مال صاحب المتاع الذي هو في بيته حتى يقبض المتاع ويخرجه من بيته، فإذا أخرجه من بيته فالمبتاع ضامن لحقه حتى يرد ماله إليه 2. فالظاهر اختصاصها بالبيع وعدم شمولها لسائر المعاوضات، فالتعدي إلى سائر
(هامش)
(1) عوالي اللئالي ج 3 ص 212، باب التجارة ح 59، مستدرك الوسائل ج 13 ص 303، أبواب الخيار، باب 9 ح 1. (2) الكافي ج 5 ص 171، باب الشرط والخيار في البيع ح 12، تهذيب الأحكام ج 7 ص 21 ح 89، في عقود البيع ح 6، وكذلك ج 7 ص 230 ح 1003، باب في الزيارات، ح 23، وسائل الشيعة ج 12، ص 358، أبواب الخيار، باب 10، ح 1. (*)
المعاملات المعاوضية - كالإجارة والصلح بعوض - يحتاج إلى دليل، أو تنقيح مناط قطعي، وإذ ليس شيء في البين، فلا يمكن التعدي من البيع إلى غيره. ولو كان مدركها الإجماع كما قيل - وحكى الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره 1 عن التذكرة عموم الحكم لجميع المعاوضات على وجه يظهر كونه من المسلمات عندهم - فأيضا التعدي لا يخلو عن إشكال: أولا لعدم تحققه بادعاء البعض، خصوصا إذا كان بالاستظهار من كلام ذلك البعض من دون تصريحه بذلك. وثانيا عدم حجية مثل هذا الإجماع على فرض تحققه، كما حققناه في الاصول. أما لو كان مدركها - ما ذكرناه في شرح هذه القاعدة في الجزء الثاني من هذ الكتاب - هو بناء العقلاء والعرف والعادة على أن إنشاء العقود المعاوضية مبني على الأخذ والاعطاء الخارجي، بمعنى أن المبادلة في عالم الإنشاء والتشريع مقدمة للأخذ والاعطاء الخارجي، بحيث لو لم يكن العوضان قابلين للأخذ والاعطاء الخارجي مأخوذة في حقيقة العقد حدوثا وبقاء، ولابد من بقاء القابلية إلى ما بعد القبض، وبزوالها قبل القبض ينفسخ العقد. وأنت خبير: بأن مثل هذا المعنى ليس مختصا بالبيع، بل يجري في جميع المعاوضات، لوحدة المناط بنظر العرف والعقلاء. وهذا هو المختار في مدرك القاعدة، والروايات تؤيد هذا المعنى المرتكز في أذهان العرف والعقلاء. فرع: قال في الشرائع: ولو فلس المستأجر كان للموجر فسخ الإجارة، ولا يجب عليه إمضاؤها، ولو بذل الغرماء الأجرة 2. ذكر الفقهاء في كتاب المفلس اختصاص الغريم بعين ماله ولا يشاركه الغرماء،
(هامش)
(1) المكاسب ص 314. (2) شرائع الإسلام ج 2 ص 92. (*)
للإجماع وأخبار وردت في المقام: منها: النبوي المروي في الكتب الفقهية للاصحاب: إذا أفلس الرجل ووجد سلعته فهو أحق به 1. ومنها: صحيح عمربن يزيد، عن أبي الحسن عليه السلام، سألته عن الرجل تركبه الديون فيوجد متاع رجل آخر عنده بعينه. قال عليه السلام: لايحاصه الغرماء 2 وغير ذلك من الأخبار. وعلى كل تقدير فمشهور الفقهاء على اختصاص الغريم بعين ماله ولو لم يكن للمفلس مال سواها، وهذا هو الذي يسمى بخيار التفليس. إذا ظهر هذا فنقول في تفسير ما أفاده في الشرائع 3: إنه لو آجر داره مثل لشخص، فقبل إعطاء الأجرة أفلس المستأجر ولم يستوف شيئا من منافع الدار، أو بقي شيء منها ولم يستوفه، فللموجر أن يفسخ الإجارة كي ترجع المنافع التي لم يستوفه المستأجر إليه. والحكم المذكور - أي إلحاق المنافع بالأعيان بمعنى أنه كما لو كانت عين ماله وسلعته موجودة كان هو أحق بها من سائر الغرماء كذلك هو أحق بالمنافع الموجودة التي لم يستوفها المستأجر - ادعي عليه الإجماع. ولكن حيث أن أخبار الباب في خصوص الأعيان، فلا تشمل مورد الإجارة
(هامش)
(1) مستدرك الوسائل ج 13 ص 430، أبواب الكتاب الحجر، باب 4 ح 1، دعائم الإسلام ج 2 ص 67، ح 187، فصل 17 ذكر الحجر والتفليس، السنن الكبرى للبيهقي ج 6 ص 45، باب المشتري يفلس بالثمن، سنن أبي داود ج 3 ص 286، ح 3519 باب في الرجل يفلس فيجد الرجل متاعه بعينه عنده، نحوه. (2) تهذيب الأحكام ج 6 ص 193 ح 420، في الديون وأحكامها، ح 45، الاستبصار ج 3 ص 8 ح 19، كتاب الديون، باب من يركبه الدين...، ح 1، وسائل الشيعة ج 13 ص 145، كتاب الحجر، باب 5 ح 1 . (3) شرائع الإسلام ج 2 ص 92. (*)
والمنافع، فبعد بطلان القياس لابد من القول بأن حكمهم باختصاص المؤجر دون سائر الغرماء بمنافع ماله من باب تنقيح المناط، وأنه لا خصوصية لكون ماله الموجود عينا، بل المراد أن المديون بعد أن أفلس وحجر عليه فمن كان من الغرماء ماله موجودا عنده - سواء كان ذلك المال عينا أو منفعة - فهو أحق به، ومرجع ذلك إلى إلغاء خصوصية عينية المال، ولا بعد فيه. فرع: قال في الشرائع: لا يجوز أن يوجر المسكن ولا الخان ول الاجير بأكثر مما استأجره، إلا أن يوجر بغير جنس الأجرة، أو يحدث ما يقابل التفاوت 1. وفي بعض الروايات ذكر أن فضل الحانوت حرام 2، والظاهر أن الخان الذي ذكره في الشرائع مع الحانوت واحد، وإلا فلفظ الخان ليس في أخبار منع الفضل، أي الإجارة بأكثر مما استأجره، بل الموجود فيه الرحى و الحانوت و الدار و الاجير والسفينة و الأرض . وعلى كل تقدير مقتضى القواعد الأولية أن كل ما يملكه وله منفعة محللة يجوز نقله إلى الغير وصحت إعارته وإجارته، لان الناس مسلطون على أموالهم، وليس حد لأخذ العوض على نقل منافع ماله، بل له أخذ أي مقدار مع علم الطرف بسعر المنافع المنقولة ما لم تصل الأجرة إلى حد يقال إنها معاملة سفهية عند العرف والعقلاء. فلو استأجر عينا أو أجيرا، وبالإجارة تملك منافع تلك العين، وعمل ذلك الاجير، فله تمليك تلك المنافع والأعمال لغيره بأي أجرة أراد، ما لم يصل إلى حد
(هامش)
(1) شرائع الإسلام ج 2 ص 181. (2) الكافي ج 5 ص 272، باب الرجل يستأجر الأرض أو الدار فيؤاجرها بأكثر مما استأجرها، ح 3، وسائل الشيعة ج 13 ص 260، كتاب الإجارة، باب 20 ح 4. (*)
السفاهة، فالمنع يحتاج إلى دليل. وقد ذكروا منع الفضل عما استأجره به في موارد، منها: هذه الثلاثة المذكورة في الشرائع: المسكن وقد عبر عنه في بعض الأخبار بالدار والبيت 1، و الخان وقد عبر عنه في بعض الأخبار بالحانوت، و الاجير 2. وفي بعض الأخبار ألحق بالاجير الرحى 3 ولكن لم يذكره في الشرائع، ولعله لان الرواية الواردة فيها عبر بالكراهة لا الحرمة، بخلاف الثلاثة المذكورة. وهي رواية سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله عليه السلام قال عليه السلام: إني لاكره أن استأجر الرحى وحدها ثم أو اجرها بأكثر مما استأجرها، إلا أن أحدث فيها حدث، أو أغرم فيها غرم 4. ومفهوم رواية إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه عليه السلام: أن أباه كان يقول: لا بأس أن يستأجر الرجل الدار أو الأرض أو السفينة ثم يواجرها بأكثر مما استأجرها به إذا أصلح فيها شيئ 5. فالرواية بمفهومها دالة على أن المذكورات إذا لم يصلح فيها شيئا ففي إجارتها بأس بأكثر مما استأجرها به. ولكن كون البأس في إجارة هذه الأمور لا تدل على الحرمة، بل أعم منها ومن
(هامش)
(1) الكافي ج 5 ص 271 باب الرجل يستأجر الأرض أو الدار...، ح 1 تهذيب الأحكام ج 7 ص 203، ح 894 باب المزارعة، ح 40 الاستبصار ج 3 ص 129 ح 463، باب من استأجر أرضا بشيء معلوم...، ح 2 وسائل الشيعة ج 13 ص 259 كتاب الإجارة باب 20 ح 2 و 3. (2) الكافي ج 5 ص 272 باب الرجل يستأجر الأرض أو الدار فيؤاجرها بأكثر مما استأجرها، ح 3، وسائل الشيعة ج 13 ص 260 كتاب الإجارة باب 20 ح 4. (3) الفقيه ج 3 ص 235 ح 3864، بيع الكلاء والزرع والاشجار، ح 4، وسائل الشيعة ج 13 ص 259 ، كتاب الإجارة باب 20 ح 1. (4) تقدم تخريجه في هذه الصفحة هامش 3. (5) تهذيب الأحكام ج 7 ص 223 ح 979، في الاجارات ح 61، وسائل الشيعة ج 13 ص 263 كتاب الإجارة، باب 22 ح 2. (*)
الكراهة، فلا مانع من أن يكون في الدار حراما، كما صرح في الشرائع بذلك بعنوان المسكن، وفي الأرض والسفينة يكون مكروها. وخلاصة الكلام: أنه لا إشكال في عدم جواز إجارة المسكن - أي الدار - والخان الذي هو بمعنى الحانوت، ولا إجارة الاجير بأكثر مما استأجره به إلا أن يحدث ما يقابل التفاوت، أو يوجر بغير جنس الأجرة التي استأجرها به، كما صرح بذلك في الشرائع. والدليل على ذلك أما بالنسبة إلى البيت والاجير فما رواه أبو الربيع الشامي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن الرجل يتقبل الأرض من الدهاقين، ثم يواجرها بأكثر مما تقبلها به ويقوم فيها بخط السلطان؟ فقال: لا بأس به، إن الأرض ليست مثل الاجير ولا مثل البيت، إن فضل الاجير والبيت حرام 1. وهذه الرواية تدل على أمرين: الأول: عدم البأس بإجارة الأرض بأكثر مما استأجرها به. فالجمع العرفي بينها وبين مفهوم رواية إسحاق بن عمار بحمل المفهوم في الثاني على الكراهة فيرتفع التعارض. الثاني: التصريح بحرمة الفضل في الاجير والبيت الذي هو مرادف للدار والمسكن. وأما بالنسبة إلى الحانوت الذي هو مرادف للخان والدكان، ما رواه ابن أبي عمير، عن أبي المغرا، عن أبي عبد الله عليه السلام في الرجل يواجر الأرض، ثم يواجرها بأكثر مما استأجرها، قال: لا بأس، إن هذا ليس كالحانوت ولا الاجير، إن فضل الحانوت والاجير حرام 2. والرواية صريحة في حرمة الفضل في الحانوت، وأيضا صريحة في جواز
(هامش)
(1) تقدم ص 99، هامش 1. (2) تقدم ص 99، هامش 2. (*)
الفضل في إجارة الأرض، فلابد من حمل المفهوم في رواية إسحاق بن عمار على الكراهة بالنسبة إلى الأرض، فبحكم وحدة السياق لابد وأن تحمل السفينة أيضا كذلك. وهذا ل ينافي ثبوت حرمة الفضل في الدار بدليل آخر. نعم لو لم يكن دليل آخر في الدار على الحرمة لكنا نقول فيها أيضا بالكراهة بحكم وحدة السياق، لكن مر عليك وجوده. وأم بالنسبة إلى الرحى فنفس دليله لسانه لسان الكراهة كما عرفت. فتلخص من مجموع ك ذكرناه أن الحق ما أفتى به المحقق قدس سره في الشرائع من حرمة الفضل في خصوص الثلاثة التي ذكرها: المسكن، الخان، الاجير دون غيرها، أي الأرض، والسفينة، والرحى 1. وأما الجواز في الجميع لو أحدث فيها حدثا، أو كانت الأجرة التي يأخذها من المستأجر من غير جنس الأجرة التي هو أعطاها، فلوجود الاستثناءات في الروايات المانعة المتقدمة بالنسبة إلى ما إذا أحدث فيها حدثا. وأما استثناء ما إذا كان الفضل في غير المتجانسين، مثل أن يستأجر الدار بمائة كيلو من الحنطة مثلا، ثم يوجرها بمائتي كيلو من الشعير أو الارز أو غير ذلك من الأجناس، فليس في أخبار الباب منه لاأثر ولا عين، وإنما هو في كلام الفقهاء. واعترف بذلك جمع من الأصحاب، فمدرك هذا الاستثناء إما دعوى الإجماع، وهو لاصغري له، لمخالفة جمع، ولا كبرى له، لعدم الدليل على حجية مثل هذا الإجماع، لما ذكروه وتمسكوا بها من الوجوه الباطلة، مثل أن حرمة الفضل من جهة لزوم الربا في المتجانسين وإذا كانا متخالفين فلا يلزم الرب. وأنت خبير بضعف هذا التوجيه الذي لا ينبغي صدوره عن الفقيه بل يوهنه، فالحق في المقام عدم الاعتناء بهذا الاستثناء والقول بحرمة الفضل في الثلاثة
(هامش)
(1) شرائع الإسلام ج 2 ص 181. (*)
المذكورة في الشرائع، سواء كان الفضل في المتجانسين أو كان في المتخالفين. فرع: لو استأجر ليحمل متاعا إلى موضع معين بأجرة معينة في وقت معين، ويشترط عليه أنه لو لم يوصل في ذلك الوقت المعين ينقص عن تلك الأجرة التي عينها كذا مقدار، بحيث لا تبقى الإجارة عند عدم الوفاء بالشرط بلا أجرة، أو يشترط عليه عند عدم الوفاء بالشرط سقوط الأجرة بالمرة وأن تبقى الإجارة بلا أجرة. أما الأول فجائز ولا إشكال فيه، لشمول إطلاقات أدلة وجوب الوفاء بالشرط له، إذ ليس الشرط مخالفا لمقتضى العقد ولا الكتاب ولا السنة. ولما رواه الحلبي قال: كنت قاعدا عند قاض وعنده أبو جعفر عليه السلام جالس، فجاءه رجلان فقال أحدهما: إني تكاريت إبل هذا الرجل ليحمل لي متاعا إلى بعض المعادن، فاشترطت عليه أن يدخلني المعدن يوم كذا وكذا لأنها سوق أخاف أن يفوتني فإن احتبست عن ذلك حططت من الكراء لكل يوم احتبسه كذا وكذا، وإنه حبسني عن ذلك اليوم كذا وكذا يوما. فقال القاضي: هذا شرط فاسد وفه كراه. فلما قام الرجل أقبل إلي أبو جعفر عليه السلام فقال: شرطه هذا جائز ما لم يحط بجميع كراه 1. فهذه الرواية صريحة في صحة الشرط وجوازه في القسم الأول، وبالمفهوم تدل على عدم الصحة وعدم الجواز في القسم الثاني، لان مفهوم قوله عليه السلام ما لم يحط بجميع كراه هو أنه لو أحاط بجميع كره فالشرط باطل. هذا، مضافا إلى أن شرط سقوط الأجرة مناف ومناقض لحقيقة الإجارة، وذلك لان حقيقتها عبارة عن تمليك المنفعة المعلومة بعوض معلوم، فإذا لم يكن عوض
(هامش)
(1) الكافي ج 5 ص 290 باب الرجل يكترى الداية فيجاوز بها الحد...، ح 5، وسائل الشيعة ج 13، ص 253، كتاب الإجارة، باب 13 ح 2. (*)
وفي البين فلا إجارة، بل هذا الحكم جار في جميع المعاوضات، إذ معنى المعاوضة هو أن يجعل أحدهما في عالم الإنشاء عوضا عن الآخر، فحقيقة المعاوضة متقومة بكون كل واحد منهما عوضا وبدلا عن الآخر، فشرط سقوط العوض مرجعه عدم كونه معاوضة، وهذا معلوم الفساد. فشرط عدم الأجرة في الإجارة فاسد ومفسد للعقد، سواء قلنا بأن الشرط الفاسد مفسد أو لم نقل، لمناقضة هذا الشرط مع العقد، فتكون الإجارة فاسدة ويستحق المكاري أجرة المثل، لاحترام عمله، وعدم إقدامه على هتكه. هذا هو المشهور بين الأصحاب كم في المتون الفقهية. ولكن استشكل عليه في جامع المقاصد 1 والمسالك 2 بأن هذا يرجع إلى الترديد في الأجرة على تقديرين، كما لو قال للاجير: إن خطته روميا فلك درهمان، وإن خطته فارسيا فلك درهم واحد، كان الترديد في العمل والأجرة، مع أنه لازم في إجارة الاجير تعيين عمله ومقدار أجرته، وكلاهما في المقام مفقودان. وفيه: أن ما هو مورد الإجارة معين، وهو الايصال في وقت، والأجرة أيضا معينة، فكأنه قال: آجرتك دابتي لان أوصلك إلى مكان كذا في زمان كذا بأجرة كذا، غاية الأمر اشترط عليه المستأجر أنه لو لم يف بما التزم ينقص عن أجرته مقدار كذا. وأي ربط لهذا بالترديد في متعلق الإجارة. فالحق جواز شرط التنقيص على تقدير عدم الوفاء بما التزمه الاجير في متن العقد، لان الشرط خارج عن مورد العقد وليس مخالفا لمقتضى العقد ولا الكتاب ولا السنة. نعم شرط سقوط الأجرة بالمرة بحيث تبقى الإجارة بلا أجرة مناقض لحقيقة عقد الإجارة، ولذلك يكون باطلا، كما تقدم.
(هامش)
(1) جامع المقاصد ج 7 ص 107. (2) مسالك الإفهام ج 1 ص 255. (*)
وإشكال الشهيد والمحقق الثانيان في المسالك وجامع المقاصد غير وارد كما أوضحناه. وما ذكراه من التنظير قياس مع الفارق، لان الترديد في محل الكلام في مورد الشرط الذي هو خارج عن مورد الإجارة، وفيما ذكراه من التنظير في الترديد مورد الإجارة ومتعلقها، لان متعلق الإجارة في مورد التنظير نفس الخياطة، وهي مرددة بين كونه رومية أو فارسية، كذلك عوض العمل أيضا غير معلوم، لأنه مردد بين أن يكون درهما على تقدير، ودرهمين على تقدير آخر. وهذا ينافي لما هو المأخوذ في حقيقة الإجارة، لأنه عبارة عن تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم، والترديد ينافي المعلومية كما هو واضح. تنبيه اعلم: أن الأحكام الشرعية وإن كانت من الأمور الاعتبارية التي ليس لها وجود خارجي يكون محمولا على موضوعه بالضميمة، مثل الإعراض الخارجية المحمولات على موضوعاتها بالضمائم. ولكن مع ذلك كله تطرأ عليها أحكام الإعراض الخارجية من التضاد والتماثل، والاشدية والاضعفية باعتبار منشأ اعتبارها، وبهذا الاعتبار يقال: الشيء الفلاني أشد حرمة أو كراهة أو نجاسة، وهكذا يكون فيها التشكيك بهذا الاعتبار. ويمكن الجمع بين الروايات الواردة في بعض هذه العناوين التي ظاهرها التعارض على اختلاف المراتب، مثلا الروايات الواردة في إجارة الأراضي بأكثر مما استأجرها به ظاهرها وإن كانت متعارضة باعتبار الحكم في بعضها بالجواز مطلقا، وفي بعضها الآخر بالمنع مطلقا، وفي ثالثة التفصيل بين ما إذا كان بنحو المزارعة والتقبل بالكسور من حاصل الزرع أو بنحو الإجارة، فيمكن أن يحمل على مراتب الكراهة التي لا تنافي الجواز، فيقال: لو كان بنحو الإجارة بالدرهم
والدينار فلا يجوز، أي فيه كراهة شديدة، ولو كان بنحو المزارعة فيجوز، أي كراهته قليلة، إلا أن يعمل فيها عملا فلا كراهة في الفضل أصلا، كما هو مفاد رواية إسماعيل بن فضل الهاشمي 1. فرع: لو قال المؤجر: آجرتك كل شهر بهذا، أو قال المستأجر: إن خطته بدرز فلك درهم وإن خطته بدرزين فلك درهمان، أو قال: إن عملت العمل الفلاني في هذا اليوم فلك درهمان، وإن عملت في الغد فلك درهم واحد. ففي هذا السمائل الثلاث المنفعة التي يملكها المستأجر غير معلومة لعدم تعيينها في عقد الإجارة، وفي اثنتين منها العوض أيضا ليس معلوما، بل مردد بين درهم واحد وبين درهمين على تقديرين، فالكلام يرجع إلى أنه هل تعيين المنفعة التي يملكها المؤجر للمستأجر لازم بحيث يكون الترديد مضرا أم لا، وكذلك الأمر في عوضها؟ ربما يقال: تمليك المبهم - أي ما يكون كليا لم يؤخذ فيه خصوصية من الخصوصيات - لا مانع عنه، بل المعاملات كثيرا ما تقع على الكليات عوضا ومعوضا، سواء كان كليا على سعته أو كان كليا في المعين، من قبيل الصاع من الصبرة الموجودة في الخارج، فلا مانع من تمليك منفعة هذه العين شهرا كلي ينطبق على كل شهر من شهور تلك السنة، غاية الأمر في مقام التطبيق تعيين ذلك الكلي بيد المالك المؤجر، كما أنه في باب البيع تعيين المبيع الكلي بيد البائع، لان الخصوصيات باقية على ملكه. وفيه أن هذا الكلام صحيح لو كانت الإجارة واقعة على الشهر الكلي، مثل أن
(هامش)
(1) الكافي ج 5 ص 272، باب الرجل يستأجر الأرض أو الدار...، ح 2، وسائل الشيعة ج 13 ص 261، كتاب الإجارة باب 21 ح 3. (*)
يقول المالك: آجرتك الدار شهرا من شهور هذه السنة، حيث يكون التمليك واقعا على منفعة الشهر الكلي في المعينة، ويكون التطبيق بيد المالك. ولكن المقام ليس من هذ القبيل، بل المفروض أنه يقول: كل شهر كذا، فإن كان مراده أن كل ما يصدق عليه الشهر مطلقا من أي سنة طول الدهر، فما وقع عليه الإجارة جميع الشهور في تمام الدهر إلى قيام يوم القيامة، فهذا قطعا ليس بمراد، كما أنه أراد كل واحد من شهور هذه السنة، والمستأجر قبل، فيكون جميع شهور هذه السنة واقعا تحت الإجارة، فهذا ممكن ولكن خلاف الفرض. لان الفرض أن المقدار الذي يريده المستأجر يقع تحت الإجارة، وأي مقدار ل يريده خارج عن تحت الإجارة، مع أن الإجارة عقد لازم. فإن فرضنا وقوع تمام الشهور مطلقا، أو شهور هذه السنة دفعة تحت الإجارة فليس للمستأجر رفع اليد إلا بالتقايل، ولذلك قال بعضهم يقع شهرا واحدا تحت الإجارة. وفيه: أولا: أنه مع شمول الإنشاء لجميع الشهور على نسق واحد لا وجه للحكم على أن الإنشاء على شهر واحد فقط. وثاني: ذلك الشهر غير معين ومجهول إن كان من قبيل النكرة، أي الفرد غير المعين، بمعنى أن الإجارة واقعة على الطبيعة المقترنة بإحدى الخصوصيات، وأما إن كان واقعا على الطبيعة المبهمة المجردة عن الخصوصيات اللابشرط، فهذا أمر معقول ولكن لابد وأن يكون التعيين بيد المالك، لان الخصوصيات له ولم تخرج عن ملكه. ومثل هذا ظاهرا ليس مقصود للمتعاقدين مع أن العقود تابعة للقصود، وخلاف ظاهر لفظ كل شهر كذ ، ومعلوم أن ظاهر الألفاظ حجة كاشفة عن مراد المتكلم في مقام الإثبات. وأما ما يقال: من أنه ينصرف إلى الشهر الأول المتصل بزمان العقد، فله وجه فيما إذا قال: آجرتك شهر لا في المفروض وهو آجرتك شهر كذ .
نعم يحتمل أن تكون هذه العبارة في قوة إجارات وعقود متعددة، خصوصا إذا كانت في سنة معينة، فيكون منحلا إلى قوله: آجرتك الشهر الأول من هذه السنة بعشرة دنانير مثلا، والثاني والثالث والرابع كذلك إلى آخر السنة. فلو قبل المستأجر شهرا معينا من تلك السنة تمت الإجارة بالنسبة إليه، وأما فيما لا يقبل فلا، وذلك مثل أن يقول: بعتك كل غنم في هذه الدار، وقلنا بانحلال هذه العبارة إلى بيوع متعددة، فقبل المشتري بيع غنم معين دون الباقي، صح البيع في خصوص ما قبل، وذلك لعدم القبول في الباقي. ولكن كل ذلك خلاف الفرض، وخلاف ظاهر اللفظ كما تقدم. وأما بالنسبة إلى الفرعين الآخرين - أي قوله: إن خطته فارسيا أي بدرز واحد فلك درهم، وإن خطته روميا أي بدرزين فلك درهمان - فالظاهر بطلانها إجارة، وكذلك قوله: إن عملت العمل الفلاني في هذا اليوم فلك درهمان، وإن عملته في غد فلك درهم واحد، فباطل إجارة، لان العمل المستأجر عليه في كلا الفرضين مردد وغير معلوم، ومن شرائط صحة الإجارة في باب الأعمال أن يكون العمل المستأجر عليه معلوما. وربما يستدل على صحة ذلك بالآية الشريفة في قصة تزويج شعيب ابنته لموسى ، وهي قوله تعالى: (إني أريد أن أنكحك احدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك) 1 وبصحيحة أبي حمزة، عن الباقر عليه السلام قال: سألته عن الرجل يكتري الدابة فيقول اكتريتها منك إلى مكان كذا وكذا، فإن جاوزته فلك كذا وكذا زيادة ويسمى ذلك، قال: لا بأس به كله 2، وصحيحة
(هامش)
(1) القصص 28: 27. (2) الكافي ج 5 ص 289، باب الرجل يكتري الدابة...، ح 2، تهذيب الأحكام ج 7 ص 214، ح 938، في الاجارات، ح 20، وسائل الشيعة ج 13 ص 249، أبواب أحكام الإجارة، باب 8 ح 1. (*)
الحلبي التي تقدمت 1 في فرع تنقيص الأجرة على تقدير عدم إيصال المكاري حمله أو نفسه في الوقت المعين. ولكن الأدلةالثلاثة - الآية والصحيحتين - لا تفي بالمقصود: أم الآية، فلأنها جعلت المهر رعي ثمانية سنين، وإتمام العشر ليس جزء للمهر بل إحسان من موسى عليه السلام بشهادة قوله تعالى حكاية عن قول شعيب: (فإن أتممت عشرا فمن عندك) أي إحسان من عندك، فليس المهر مرددا بين ثمانية وبين عشرة كما توهم. وأما الصحيحتان فأجنبيتان عن المقام، لان مفادها أنه بعد تعيين متعلق الإجارة شرط على نفسه أنه إن تجاوز عن مقدار متعلق الإجارة يعطى له كذا وكذا، وإن لم يف بعقد الإجارة ولم يوصله في الوقت الذي عين ينقص عن الأجرة كذا و كذا، وأي ربط لهذين بالتردد في متعلق الإجارة والجهل به. نعم لا مانع من أن يكون الفرعان من قبيل الجعالة، بناء على جواز هذا المقدار من الجهل والابهام والتردد في الجعالة، وإلا لو قلنا بأن الابهام في الجعل أيضا لا يجوز، فكونهما من قبيل الجعالة أيضا مشكل. ولكن الصحيح أن الجهالة التي لا تمنع عن الرد والتسليم لا يقدح في صحة الجعالة، بل مبنى الجعالة على هذ المقدار من الجهل. ويدل عليه قوله تعالى في قصة صواع يوسف عليه السلام: (قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم) 2 فتأمل. فالحق في المقام أنهم جعالة إن قصداها، لان العقود تابعة للقصود.
(هامش)
(1) تقدم ص 102، هامش 1. (2) يوسف 12: 72. (*)
فرع: هل يستحق الاجير الأجرة بنفس العمل، أم بتسليمه إلى المستأجر، أم يفصل بين يكون العمل الصادر عن الاجير في ملكه كالخياط الذي يخيط ثوب شخص في دكانه أو داره فلا يستحق إلا بتسليمه إلى المستأجر، وبين أن يكون في ملك المستأجر فيستحق بنفس العمل؟ ونسب في الجواهر 1 هذا التفصيل إلى الشيخ قدس سره. وهناك تفصيل آخر، وهو أن العمل الصادر عن الاجير تارة يكون أثرا في ملك المستأجر بحيث يصير ملك المستأجر بعد صدور العمل عن الاجير متصفا بصفة لم يكن مسبوقا بتلك الصفة، وأخرى ليس من هذ القبيل، بل العمل الصادر إما موجود غير قار ينعدم بعد وجوده، كالاجير لقراءة القرآن للميت، أو لقضاء صلواته، أو للحج، أو لقراءة مصائب أهل البيت عليهم السلام، وإم موجود قار يقوم بنفسه ولا ينعدم بعد وجوده. أما القسم الأول، فبعد وجود الاثر في ملك المستأجر فيده على ملكه تكون يده على صفته، فإذا وجد قهرا يكون تحت يد مالك العين، فوجوده مساوق مع تسليمه. اللهم إلا أن لا تكون العين حال إيجاد العمل تحت يد مالكها، بل كانت تحت يد الاجير، فحال العمل حال نفس العين في وجوب تسليمه إلى مالكها. وأما القسم الثاني، أي ما يكون موجودا غير قار فلا وجه لان يقال: إن استحقاق الأجرة مشروط بتسليم العمل إلى المستأجر، لأنه غير ممكن، إذ المفروض أن العمل موجود غير قار، لا يوجد الجزء اللاحق إلا بعد انعدام الجزء السابق ، فبمحض أن تم العمل صحيحا يستحق الأجرة. وأما القسم الثالث، أي ما يكون موجودا قارا يقوم بنفسه، فبعد أن وجد وصدر عن الاجير لاشك في أنه يستحق الأجرة، غاية الأمر إن كان تحت يده وجب عليه
(هامش)
(1) جواهر الكلام ج 27 ص 237. (*)
إيصاله إلى مالكه أي المستأجر، إما مع المطالبة أو مطلقا، لوجوب رد الامانات إلى أهلها. وأما إذا لم يكن تحت يده، بل كان تحت يد المستأجر فالتسليم من قبيل تحصيل الحاصل. وأما إذا لم يكن تحت يد أحدهما، لا الاجير ولا المستأجر، كما إذا استأجر بناء لبناء منارة في مسجد، فإذا تم بناؤه فقد وفي بالعقد ويستحق الأجرة، ولا معنى لكون استحقاق الأجرة منوطا بتسليم عمله إلى المستأجر. وذلك لان مقتضى عقد الإجارة - كسائر العقود المعاوضة - سببية العقد لحصول المعاوضة والمبادلة في عالم التشريع والمبادلة الخارجية وفاء لتلك المبادلة التي وقعت في عالم التشريع، فلا يمكن أن يكون الاستحقاق مشروطا بالتسليم، إلا أن يكون من مقومات العقد، كالقبض في الصرف والسلم في المجلس. ولكن هذا يحتاج إلى ورود دليل من قبل الشارع، وعقد الإجارة ليس من هذا القبيل، فوجوب تسليم العمل إلى المستأجر ليس من باب أنه متمم لاستحقاق الاجير، بل من جهة أن العمل صار ملكا للمستأجر بعقد الإجارة، فيجب رده إليه. والتفصيلان كلاهما لا وجه له من حيث استحقاق الاجير الأجرة، والفرق هو أن العمل لو كان في ملك المستأجر وعنده، فوجوب التسليم لا موضوع له، وإلا فالعمل بمحض وجوده يكون ملكا للمستأجر. وحيث أنه ليس ملكا مجانا وبلا عوض، فلابد وأن يكون العوض - أي الأجرة - ملكا للاجير، وإلا يكون المعوض ملكا للمستأجر مجانا، وهو خلف. نعم لاشك في أنه لا يستحق المطالبة من المستأجر قبل إتمام العمل، إلا أن يشترط، أو كان المتعارف في بعض الأعمال هو أخذ الأجرة قبل العمل، كالاجير للحج، فإنه غالبا لا يتمكن الاجير من أداء الحج قبل أخذ الأجرة، ففي هذه الموارد ينصرف الاطلاق إلى ما هو نتيجة الشرط. فالعرف والعادة في مثل هذه الأمور تقوم
مقام الاشتراط. وخلاصة الكلام في هذا المقام: أنه بعد ما كان حقيقة المعاوضة والمبادلة إخراج كل واحد من المتعاملين ماله عن ملكه وإدخاله في ملك الآخر عوض م ينتقل من الآخر إليه ويدخل في ملكه، فإذا كان العقد سببا لمثل هذا المعنى ولم يكن مشروطا بشرط، كالقبض في المجلس الذي هو شرط لحصول الملكية في السلف والسلم، فل محالة تحصل ملكية كل واحد من العوضين لمن انتقل إليه بمحض تمامية العقد واجدا لجميع الأجزاء والشرائط، فاقدا لجميع الموانع، وإلا يلزم الخلف، أي ما فرضته سببا أن ل يكون سببا. فإذا حصل لكل واحد من الطرفين ملكية ما نقله الآخر إليه بنفس العقد، فإن كان ما انتقل إليه موجودا خارجيا يكون له السلطنة عليه، ويجوز له أن يتصرف فيه التصرفات التي لم يمنع الشارع منها، وأما إذا كان في العهدة فللمالك مطالبته بإيجاده بحيث يقدر على استيفاء منافعه المملوكة إن كان من قبيل الأعمال. وبعبارة أخرى: إن كان له في عهدة شخص مال فله حق استخراجه منه والانتفاع به. وهذا الحق تارة يثبت له من ناحية حكم الشارع بأن الناس مسلطون على أموالهم، وهذا لامورد له إل فيما إذا وجد ما هو متعلق المال، وتارة من ناحية وجوب الوفاء بالعقد. وأثر ذلك وجوب إعطاء ما ملكه إلى صاحبه، فإن كان ما ملكه عين من الأعيان، كما في البيع، وجب عليه تسليم ذلك إلى صاحبه. نعم له حق الامتناع إن امتنع الطرف عن إعطاء العوض، وإذ تعاسرا يجبرهما الحاكم. وأما إن كان عمل من الأعمال، كالعبادات التي يستأجره لان يأتي بها، كالصلاة والصوم والحج وأمثالها، فله المطالبة بإيجادها، لأنه مالك في ذمته ذلك العمل، ومع قطع النظر عن هذا أيضا يجب عليه إتيان ذلك العمل من باب وجوب الوفاء بعقده، والعمل على طبق التزامه.
نعم يجب على الآخر أيضا إعطاء الأجرة في ظرف إيجاده تمام العمل لوجوب الوفاء بالعقد. نعم لكل منهما الامتناع عند امتناع الآخر إلا أن يشترطا تعجيل أحدهما أو تأخيره أو يكون الاطلاق منصرفا إلى أحدهما بواسطة العرف والعادة، كما تقدم ذكره وقلنا إن العرف والعادة يقومان مقام الشرط. وما قلنا إن لكل واحد من المؤجر والمستأجر الامتناع من الاعطاء عن امتناع الآخر، هو أن بناء المعاوضات عند العرف والعقلاء على الأخذ والعطاء بأن يعطي كل واحد منهما ماله بعنوان أن يكون عوضا وبدل عما يأخذه، فإذا لم يكن أخذ في البين لامتناع طرفه من الاعطاء، فهذا خلاف م التزاما به، وإمضاء العقود المعاوضية من طرف الشارع تعلق بما التزاما به. ولذلك قلنا في بعض الأجزاء المتقدمة من هذا الكتاب في شرح قاعدة كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بايعه 1 أنه لو لم يكن النبوي المشهور وهو قوله صلى الله عليه وآله: كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بايعه 2 لكان مقتضى القاعدة أيضا ذلك، لان المعاوضات عند العرف والعقلاء على الأخذ والعطاء خارجا، فإذا لم يكن ذلك بواسطة التلف فقهرا تنفسخ المعاملة، وهذه القاعدة لا تختص بباب البيع، بل تجري في جميع المعاوضات. وفي المفروض حيث أن الأخذ والعطاء ممكن إذ لا تلف في البين، فلا وجه للانفساخ، بل يجبره الحاكم الذي هو ولي الممتنع على الوفاء إن كان الممتنع أحدهما، ويجبرهما معا لو امتنعا. فتحصل مما ذكرنا أن ملكية كل واحد من العوضين تحصل بنفس العقد التام بعد وجوده جامعا للشرائط والأجزاء وفاقدا للموانع، وأما وجوب الاعطاء - لكل
(هامش)
(1) راجع ج 2 ص 77. (2) تقدم ص 95، هامش 1. (*)
واحد منهما ما التزاما به - لاحد أمرين: إما لوجوب الوفاء بالعقد، وإما لكون المالك سلطانا على ماله الذي حصل بالعقد. وعند الامتناع من أحدهما يجبره الحاكم، ولو كان من الطرفين يجبرهما لو لم يكن الامتناع منهما إقالة. فرع: في كل مورد كانت الإجارة فاسدة واستوفى المستأجر المنفعة كان عليه أجرة المثل، وذلك لامور: الأول: القاعدة المعروفة كل ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده أو كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده والأول أشمل لشموله العقود والإيقاعات. ومعنى الضمان كون الشيء بوجوده الاعتباري في العهدة والذمة، لأنه بوجوده الواقعي التكويني موجود في الخارج كسائر الجواهر والإعراض الخارجية، وليس من الموجودات في عالم الاعتبار التشريعي. ولا فرق في هذ المعنى بين كون الضمان المسمى أو كونه ضمانا واقعيا. غاية الأمر في الضمان المسمى يعينون مالية الشيء في مقدار معين، وفي الضمان الواقعي الذي في العهدة هو واقع ماليته إن كان قيميا، ومثله إن كان مثليا. فالضمان في الصحيح والفاسد بمعنى واحد، غاية الأمر في المعاملات الصحيحة حيث أنهم يعينون مالية العوض نقدا أو جنسا فيسمى بضمان المسمى، وأما في الفاسدة حيث لاتعيين في البين فيعبرون عنه بالضمان بدون قيد، فبناء على صحة هذه القاعدة كما شرحنا وأثبتنا صحتها في الجزء الثاني من هذا الكتاب، فحيث أن الإجارة الصحيحة فيها الضمان ففي الفاسد منها أيضا يكون الضمان، غاية الأمر في الصحيحة الضمان المسمى، وفي الفاسدة الضمان الواقعي، المثل في المثليات، والقيمة في القيميات. والعمدة في مدرك هذا القاعدة هو قوله صلى الله عليه وآله: وعلى اليد ما أخذت حتى
تؤديه 1 وحيث أن يد القابض بالعقد الفاسد ليست يد أمانة لا من قبل المالك كي تكون أمانة مالكية، ولا من قبل الله كي تكون أمانة شرعية، تكون غير مأذونة، وهي إما غصب موضوعا أو حكما. فما ذكره ابن إدريس قدس سره من أن المقبوض بالعقد الفاسد يجري مجرى الغصب عند المحصلين 2. لا يخلو من وجه. وقد فصلنا الكلام في شرح هاتين القاعدتين - قاعدة كل ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده 3 وقاعدة وعلى اليد ما أخذت 4 في الأجزاء السابقة من هذا الكتاب. وإجماله فيما نحن فيه: أنه لاشك في أن المستأجر بعد ما قبض العين المستأجرة واستوفى منفعتها - كما إذا سكن الدار مثلا بالإجارة الفاسدة - فليست يده على الدار يد أمانة مالكية ولاشرعية، بل يد ضمان. لا يقال: إذا كان المؤجر جاهلا بفساد الإجارة، فيعطي ماله للمستأجر باعتبار أن له الحق أن ينتفع بمنافع تلك العين المستأجرة، فيعطيها بأن تكون أمانة عنده إلى أن يستوفى من تلك العين جميع المنافع التي ملكها بالإجارة، فيد المستأجر ليست يدا عادية حتى يكون فيها الضمان، بل ولاغير مأذونة، لان المالك أعطاه وأذن بأن يكون في يده، غاية الأمر أن العقد فاسد لجهة من الجهات من فقد شرط أو جزء، أو وجود مانع في العقد أو في المتعاقدين أو في العوضين. هذا بالنسبة إلى نفس العين. فإنه يقال: إن المؤجر وإن كان أعطاه بهذا الاعتقاد وأذن في الانتفاع به، ولكن أذنه للمستحق للأخذ والانتفاع، فمن هو مأذون وهو المالك لم يعط، ومن أعطى ليس بمأذون، فتكون يده يد ضمان. وبعبارة أخرى: ما تعلق به الإذن هو العين التي
(هامش)
(1) تقدم ص 78، هامش 3. (2) السرائر ج 2 ص 285. (3) راجع ج 2 من هذا الكتاب. (4) راجع ج 4، من هذا الكتاب. (*)
منافعها ملكه لا هذه العين الخارجية، سواء كانت منافعها ملكا له أو لم تكن، والذي بيده ليس كذلك فلم يتعلق به الإذن. وأما ما ربما يقال: بأن الإذن المتعلق بالمقيد ينحل إلى إذنين، إذن بنفس الذات وإذن بقيده. والقيد وإن كان غير موجود، ولكن فقده ليس سببا لعدم تعلق الإذن بنفس الذات المجردة عن القيد، فنفس العين المستأجرة وإن لم تكن منافعها ملكا للمستأجر مأذون في كونها في يده، فإذا قال مثلا: هذه الرقبة المؤمنة تكون عندك أمانة، وفرض أنها لم تكن مؤمنة، فلاشك في أن نفس الرقبة وذاته مجردة عن الإيمان مأذون في أن تكون عنده. كذلك الكلام بالنسبة إلى المنفعة، فإذ أذن أن تكون المنفعة التي ملك المستأجر تحت يده، والمفروض أن الإجارة فاسدة وليست المنافع ملكا له، ولكن بالبيان المتقدم تعلق إذنه بنفس ذات المنافع أيضا، ولو كان قيد كونها ملكا له مفقود في المقام، فاليد على المنافع يد مأذونة لا ضمان فيه. ففيه: أن الخاص، أي الوجود المقيد بقيد مباين لما هو فاقد القيد، فإذا فقد قيده فهذا وجود آخر يباين معه، فإذا أذن في عتق الرقبة المؤمنة فغير المؤمنة غير مأذون، لأنه ليس لذات المقيد وجود ولقيده وجود آخر كي يكون التركيب بينهما انضماميا، بل القيد وذات المقيد موجودان بوجود واحد، والتركيب بين العرض والمعروض اتحادي بالنظر العرفي. بل قال بعضهم إن الإعراض من شؤون معروضاتها ليس لها وجود آخر. والقول بأنه محمولات بالضمائم وإن كان صحيحا بالدقة العقلية، ولكن في نظر العرف وجود واحد وموجود واحد. ولذلك قالوا بعدم جواز بيع الجارية المغنية وأنه ليس من باب تبعض الصفقة، لان وصف كونها مغنية مع شخصها وذاتها موجودان واحد. ولاشك في أن في تشخيص موضوعات الأحكام الشرعية يلاحظ النظر
العرفي لاالدقي العقلي، وبالنظر العرفي للعرض ومعروضه وجود واحد، وتكون الإعراض مع موضوعاتها مثل الأجناس والفصول موجودات بوجود واحد. فإذا تعلق الإذن بوجود خاص ولم تكن له تلك الخصوصية، مثل أن يقول لشخص باعتقاد أنه زيد: يا زيد أدخل داري، وفي الواقع لم يكن زيدا، فلا يجوز له الدخول. ولا يصح أن يقال بأن خصوصية الزيدية ليست مأذونة، وأما الجهة المشتركة بينه وبين غيره من أفراد النوع مأذونة بالدخول، ففي المورد الذي تعلق الإذن بذات مقيد بقيد لا يصح أن يقال بأن الذات مأذون مع فقد قيده، إلا أن يكون متعلق الإذن هو الذات بنظرهم ويرون القيد وصفا زائدا أو مطلوب آخر. وإلى هذا يرجع قولهم بتعدد المطلوب في المستحبات في بعض الخصوصيات. وأيضا إلى هذا يرجع قولهم بخيار تخلف الوصف مع قولهم بصحة المعاملة بتحليل بيع هذا العبد الكاتب - مثلا - بالتزامين: التزام بالمبادلة بين هذا الذات وهذا الثمن، والتزام آخر بكونه كاتبا. فتخلف أحد الالتزامين لا يضر بوقوع البيع صحيحا، غاية الأمر يوجب خيار تخلف الوصف. والحاصل: أنه ضامن للمنافع التي استوفاها أو لم يستوفها، لان المناط في هذا الضمان كونها تحت اليد غير المأذونة، ولذلك يسمى بضمان اليد. وأم كونها تحت اليد فباعتبار تبعيتها للعين، لان اليد على العين يد على منافعها، ولذلك قلنا أنه لا فرق بين المستوفاة وغير المستوفاة. الثاني: قاعدة الاحترام، وهي عبارة عن احترام مال المسلم وأنه لا يذهب هدرا، لقوله صلى الله عليه وآله: حرمة مال المسلم كحرمة دمه 1 فإذا استوفى منافع ماله يكون
(هامش)
(1) عوالي اللئالي ج 3 ص 473، باب الغصب، ح 4، سنن الدار قطني ج 3 ص 26، ح 94، كتاب البيوع، و فيه: المؤمن بدل المسلم. (*)
ضامنا ولا يذهب هدرا. والفرق بين هذا الدليل والدليل الأول هو أن الأول يشمل المنافع المستوفاة وغير المستوفاة، وهذا الدليل لا يشمل غير المستوفاة. اللهم ال أن يكون سببا لاتلافه، وفي تلك الصورة لا تصل النوبة إلى قاعدة الاحترام، بل يكون مشمولا لقاعدة الاتلاف الثابتة بالأدلةوالإجماع أن من أتلف مال الغير فهو له ضامن . وأما معنى الاتلاف، وأنه ما المراد منه، وأنه هل يصدق على منافع غير المستوفاة التي حبس المالك عن استيفائها بواسطة أخذه العين المستأجرة عن مالكها بعنوان استحقاقه لأخذها لتعلق الإجارة بها، فهي أمور بيناها مفصلا في مقام شرح هذه القاعدة في الجزء الثاني من هذا الكتاب. الثالث: قاعدة الاقدام، وهي عبارة عن كون إقدام الإنسان على التصرف في مال الغير أو أخذه - بالضمان، سواء كانت هي التصرفات المتلفة أو غير المتلفة، أو كان بإتلاف منافعها بالاستيفاء، أو بمنع المالك عن استيفائه وحبسها عنه موجبا للضمان. فمثل هذا الاقدام مع رضاء المالك بمقدار معين من الضمان أو الضمان الواقعي يوجب ضمان المقدم ضمانا واقعيا، لا المقدار الذي عيناه بعد حكم الشارع بالفساد، لان تعيين مقدار معين لا يوجب تعين ذلك المقدار إلا بوقوعه تحت عنوان أحد العقود المملكة التي أمضاها الشارع، وإلا فبصرف تعيين الطرفين لادليل على تعينه، بل إذا حكم الشارع بفساد تلك المعاملة ولم يمضها فقهرا ذلك المقدار المعين المسمى بضمان المسمى يسقط عن الاعتبار. نعم حيث أن المالك لم يرض بتصرفاته وانتفاعاته منها إلا بعوض، والمستأجر أقدم على إعطاء العوض المعين، والمفروض أن الشارع لم يمض مثل هذه
المعاوضة، فلا تقع صحيحة فتبطل المسمى، وأما أصل الضمان فثابت بمقتضى إقدامهما، فينصرف إلى الضمان الواقعي. وفيه: أنه لا دليل على ثبوت أصل الضمان - بعد نفي الشارع المسمى - كي يقال بانصرافه إلى الضمان الواقعي وصرف دخولهما في المعاملة على أن يكون تصرف المستأجر بالضمان لا يكون دليلا على إثبات أصل الضمان بعد بطلان المسمى، بل كما أن إثبات ضمان المسمى يحتاج إلى دليل، كذلك إثبات أصل الضمان أيض يحتاج إلى الدليل الذي يدل عليه. نعم يمكن أن يقال: إن إقدام المالك على عدم الضمان وتلف منافعه مجانا وبلا عوض يوجب عدم الضمان، وكذلك لو أقدم على عمل مجانا وبلا عوض يوجب عدم الضمان، لأنه بنفسه هتك احترام ماله، فقاعدة الاقدام حاكمة على قاعدة الاحترام إذا كان الاقدام على العمل والإذن في استيفاء المنافع مجانا وبلا عوض. وأما كون صرف الدخول بالضمان في معاملة على كون عمله أو التصرف في منافع ملكه موجب للضمان، فهذا يحتاج إلى الدليل، من مثل احترام مال المسلم وقاعدة وعلى اليد ما أخذت حتى تؤديه وقاعدة الاتلاف وأنه من أتلف مال الغير فهو له ضامن وأمثال ذلك من أدلة الضمان، أو يكون عمله أو الإذن في استيفاء منافع ماله داخلا تحت أحد عناوين المعاملات التي فيها ضمان المسمى مع إمضاء الشارع لها. وإلا فصرف كون الدخول في عمل مع تراضيهما بالضمان مع عدم المذكورات موجبا للضمان الواقعي من المثل أو القيمة مشكل جدا. وأما كون الضمان في المعاملات الفاسدة من قبيل الشروط الضمنية التي بناء المتعاملين على أخذ عوض ما يفعل أو يعطي للطرف، فلا صغرى له ولا كبرى. أما لاصغري له، فلان بناء المتعاملين وإن كان على أخذ العوض، ولكن بناءهم على أخذ عوض خاص الذي هو المسمى، لا العوض الواقعي من المثل أو القيمة.
وأما لا كبرى له، فمن جهة أنه على فرض وجود مثل هذا الشرط الضمني لا دليل على وجوب الوفاء به، لان القدر المتيقن مما هو واجب الوفاء هي الشروط التي تكون في ضمن العقود الصحيحة اللازمة، وأما الشروط الابتدائية أو الواقعة في ضمن العقود الجائزة أو الفاسدة فلا دليل على وجوب الوفاء بها. وقد حققنا هذه المسألة في قاعدة المؤمنون عند شروطهم 1. الرابع: الإجماع على الضمان الواقعي في الإجارة الفاسدة. وفيه: أنه قد بينا عدم حجية أمثال هذه الإجماعات مما لها مدارك متعددة مذكورة كرار ومرارا. فرع: لو قال آجرتك بلا أجرة، فهذا مثل قوله: بعتك بلا ثمن، وكلاهما مثل قوله: آجرتك بلا أن تكون إجارة وبعتك بلا أن يكون بيعا، فهو كلام متناقض بعضها مع بعض ولغو لا يترتب أثر عليه. والتأويلات الباردة في توجيهه وصحته لا ينبغي أن تذكر. فهذا ليس من الإجارة الفاسدة كي يقال بالضمان الواقعي بدل أجرة المسمى في الاجارة الصحيحة، فلا تجري فيه قاعدة ما يضمن بصحيحه ولا قاعدة ما لا يضمن بصحيحه ل يضمن بفاسده ، بل كلام لغو خارج عن طريق المحاورة والافادة والاستفادة. فرع: يكره استعمال الاجير قبل أن يقاطعه على الأجرة، لقول الصادق عليه السلام في ما رواه مسعدة عنه: من يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يستعمل أجيرا حتى يعلمه
(هامش)
(1) راجع ج 3، من هذا الكتاب. (*)
ما أجره 1. ولما رواه سليمان بن جعفر الجعفري من أن مولانا الرضا عليه السلام قد ضرب غلمانه وغضب غضبا شديدا حيث استعانوا برجل في عمل وما عينوا له أجرته. فقلت له: جعلت فداك لم تدخل على نفسك؟ فقال عليه السلام: إني نهيتهم عن مثل هذا غير مرة، واعلم أنه ما من أحد يعمل لك شيئا من غير مقاطعة ثم زدته لذلك الشيء ثلاثة أضعاف على أجرته إلا ظن أنك قد نقصت أجرته، فإذا قاطعته ثم أعطيته أجرته حمدك على الوفاء، فإن زدته حبة عرف ذلك ورأى أنك قد زدته 2. ودلالة الخبرين على ما ذكرنا في العنوان واضحة. فرع : يكره تضمين الاجير إلا مع التهمة. هذه العبارة ذكروها في المتون الفقهية، واختلف في المراد منها، وقد ذكر في الجواهر 3 في بيان المراد منه وجوها سبعة ولكن ظاهر العبارة لا خفاء فيه، ولا وجه للحمل على خلاف ظاهرها بقرينة الواردة في هذه المسألة. وظاهر العبارة أنه بعد ما وجد أسباب التضمين وكان له أن يغرمه ويضمنه بأي سبب كان وأي دليل من الأدلةلكن مع بقاء الشك وجدانا في تفريطه كره مع الاعتراف بأمانته أن يغرمه ويضمنه. نعم لو اتهمه - أي يكون ظانا بأنه فرط أو خان وهو ليس بمأمون عنده - فلا كراهة في تضمينه.
(هامش)
(1) تهذيب الأحكام ج 7 ص 211 ح 931، في الاجارات ح 13، الكافي ج 5 ص 289، باب كراهة استعمال الاجير...، ح 4، وسائل الشيعة ج 13 ص 245 أبواب أحكام الإجارة، باب 3 ح 2. (2) الكافي ج 5 ص 288 باب كراهة استعمال الاجير...، ح 1، تهذيب الأحكام ج 7 ص 212 ح 932، في الاجارات ح 14، وسائل الشيعة ج 13 ص 245 أبواب أحكام الاجارات، باب 3 ح 1. (3) جواهر الكلام ج 27 ص 255. (*)
وأما استحباب عدم تضمينه فلا دليل يدل عليه إلا ما توهم أن ترك المكروه مستحب، وهذ التوهم واضح البطلان كما حقق في محله. والأخبار الواردة في هذا الفرع كثيرة: منه: خبر خالد بن الحجاج قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الملاح أحمله الطعام ثم أقبضه فينقص. قال عليه السلام: إن كان مأمونا فلا تضمنه 1. ومنها: خبر جعفر بن عثمان قال: حمل أبي متاعا إلى الشام مع جمال فذكر أن حملا منه ضاع، فذكرت ذلك لأبي عبد الله عليه السلام فقال: أتتهمه؟ . قلت: لا، قال: فلا تضمنه 2. ومنه: خبر أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام في الجمال يكسر الذي يحمل أو يهريقه. قال عليه السلام: إن كان مأمونا فليس عليه شيء وإن كان غير مأمون فهو ضامن 3. منها: خبر حذيفة بن منصور قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يحمل المتاع بالأجر فيضيع المتاع فتطيب نفسه أن يغرمه لأهله أيأخذونه. قال: فقال لي: أمين هو؟ قلت: نعم. قال عليه السلام: فلا يأخذون منه شيئ 4.
(هامش)
(1) الكافي ج 5 ص 243، باب الجمال والمكاري وأصحاب السفن، ح 2، تهذيب الأحكام ج 7، ص 217 ح 947 في الإجارة ح 29، وسائل الشيعة ج 13 ص 277، أبواب أحكام الإجارة، باب 30 ح 3. (2) الكافي ج 5 ص 244 باب ضمان الجمال والمكاري وأصحاب السفن ح 5، الفقيه ج 3 ص 256، ح 3924 باب ضمان من حمل شيئا فادعى ذهابه، ح 5، تهذيب الأحكام ج 7 ص 217 ح 946، في الاجارات ح 28، وسائل الشيعة ج 13 ص 278، أبواب أحكام إجارة، باب 30 ح 6. (3) الكافي ج 5 ص 244 باب ضمان الجمال والمكاري وأصحاب السفن ح 6، ويائل الشيعة ج 13 ص 278 أبواب أحكام الإجارة باب 30 ح 7. (4) تهذيب الأحكام ج 7 ص 222 ح 975، في الاجارات ح 57، وسائل الشيعة ج 13 ص 279، أبواب أحكام الإجارة باب 30 ح 12. (*)
ومنها: خبر غياث بن إبراهيم عن أبي عبد الله عليه السلام: أن أمير المؤمنين عليه السلام أتي بصاحب حمام وضعت عنده الثياب فضاعت فلم يضمنه وقال عليه السلام: إنما هو أمين 1. ومنها: خبر الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يضمن القصار والصانع احتياطا للناس، وكان أبي يتطول عليه إذا كان مأمون 2. وهناك أخبار أخر بهذا المضمون تركنا ذكرها لعدم الاحتياج إليها، لان فيما ذكرناه كفاية. وجميع هذه الأخبار متفقة في أن الاجير إذا كان مأمونا غير متهم فتضمينه مرجوح ، وأما إذا كان متهما وغير مأمون فتضمينه غير مرجوح ولا حزازة فيه. فرع: يعتبر في صحة الإجارة أن تكون المنفعة مملوكة للموجر، أو لمن ينوب المؤجر عنه بالوكالة أو الولاية، أو تكون مملوكة لمن يكون المؤجر فضولا عنه. ووجه هذا الشرط واضح، وذلك لان المؤجر هو الذي يملك المنفعة للمستأجر، فلابد وأن يكون إما مالكا أو يكون عن قبل المالك ولو كان فضولا، وذلك لان فاقد الشيء لا يمكن أن يكون معطيا له. ولا فرق بين كونها مملوكة بتبع ملكية العين، أو تكون مملوكة مستقلا من دون تكون العين التي لها المنفعة مملوكة له، كما إذا استأجر عينا ذات منفعة فآجرها، فالمستأجر الذي يؤاجر ما استأجره مالك للمنفعة من دون أن يكون مالكا
(هامش)
(1) الكافي ج 5 ص 242 باب ضمان الصناع ح 8 تهذيب الأحكام ج 7 ص 218 ح 954، في الاجارات ح 36، وسائل الشيعة ج 13 ص 270، أبواب أحكام الإجارة باب 28 ح 1. (2) الكافي ج 5 ص 242 باب ضمان الصناع، ح 3، تهذيب الأحكام ج 7 ص 220 ح 962، في الاجارات ح 44، الاستبصار ج 3 ص 133 ح 478 باب الصانع يعطى شيئ ليصلحه...، ح 9، وسائل الشيعة ج 13 ص 272 أبواب أحكام الاجارات باب 29 ح 4. (*)
للعين التي لها هذه المنفعة. وكذلك فيما إذا آجر الموصى له منفعة عين سنين تلك العين في تمام تلك المدة أو في بعضها، فهو مالك للمنفعة من دون أن يكون مالكا للعين التي لها هذه المنفعة، وذلك لان الواجب في الإجارة - حيث أنها تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم - أن تكون تلك المنفعة ملكا له، لما ذكرنا من أن فاقد الشيء لا يمكن أن يكون معطيا له. وأما ملكية العين التي لها هذه المنفعة لا أثر لها في هذا المقام أصلا، فلا يجوز إجارة المنافع التي هي من المباحات الأصلية لكثير من المنافع الموجودة في الجبال والازوار من الاودية التي تنبت فيها، كورد لسان الثور، والهندباء، وغيرهما والفواكه الموجودة أشجارها في الازوار وغيرها من المنافع التي ليست ملكا لاحد وجميع الناس فيها شرع سواء. ولا فرق في جواز الانتفاع بها بين المؤجر والمستأجر. ولا وجه لانشاء التمليك من أحدهما للآخر، لان نسبتهما إلى تلك المنافع على حد سواء لا ترجيح لاحدهما على الآخر، بل التمليك من أحدهما للآخر غير معقول، كما نبهنا عليه. وبعد ما عرفت أن ملكية المنفعة كان في الإجارة ولا يتوقف على ملكية العين، يتفرع عليه جواز إجارة المستأجر ما استأجره لاخر حتى من نفس المؤجر الذي استأجر منه فضلا عن غيره، لان المفروض أن منفعة هذه العين صارت ملك للمستأجر فيجوز أن ينقلها إلى شخص آخر ولو كان هو نفس المؤجر. كما أنه لو اشترى عينا من شخص وصارت ملكا له فبعد قبضها يجوز أن يبيعها لكل أحد حتى من نفس البائع. نعم لو اشترط المؤجر عليه استيفاء المنفعة بنفسه ومباشرته الاستيفاء فلا يجوز إجارته للغير، لعموم المؤمنون عند شروطهم 1، فمقتضى القاعدة الأولية
(هامش)
(1). تقدم ص 18، هامش (4). (*)
جواز إجارة المستأجر ما استأجره لغيره حتى لنفس المؤجر. وقد ورد أيضا في ذلك روايات: منها: ما عن محمد بن مسلم، عن أحدهما عليهم السلام قال: سألته عن رجل استأجر أرضا بألف درهم، ثم آجر بعضها بمائتي درهم، ثم قال صاحب الأرض الذي آجره: أنا ادخل معك فيها بما استأجرت فنتفق جميعا فما كان فيها من فضل كان بيني وبينك. قال: لا بأس 1. أقول : وقد ورد روايات تدل على جواز إجارة الأرض الذي استأجره بأكثر مما استأجرها به إذا كان بغير جنس الأجرة، أو أحدث ما يقابل التفاوت وإن قل 2. منها: رواية أبي الربيع الشامي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن الرجل يتقبل الأرض من الدهاقين ثم يؤاجرها بأكثر مما تقبلها به ويقوم فيها بخط السلطان؟ فقال: لا بأس به، إن الأرض ليست مثل الاجير ولامثل البيت، إن فضل الاجير والبيت حرام 3. ومنها: رواية أبي المغرا، عن أبي عبد الله عليه السلام في الرجل يؤاجر الأرض، ثم يؤاجرها بأكثر مما استأجرها؟ قال: لا بأس، إن هذا ليس كالحانوت ولا الاجير، إن فضل الحانوت والاجير حرام 4. وغير هاتين الروايتين مما جمعها في الوسائل في الباب العشرين والواحد والعشرين من كتاب الإجارة 5. غاية الأمر يدل بعضها على عدم جواز الإجارة بأكثر
(هامش)
(1) الفقيه ج 3، ص 245 ح 3893، باب المزارعة والإجارة ح 4، وسائل الشيعة ج 13 ص 259 أبواب أحكام الإجارة باب 19 ح 1. (2) وسائل الشيعة ج 13 ص 259، 262 أبواب أحكام الإجارة باب 20 و 21. (3) تقدم ص 99 رقم 1. (4) تقدم ص 99 رقم 2. (5) وسائل الشيعة ج 13 ص 259 و 262 أبواب أحكام الإجارة باب 20 و 21. (*)
مما استأجره به في خصوص البيت والحانوت والاجير، وإلا فأصل جواز الإجارة مفروغ عنه، وعدم الجواز في الثلاثة المذكورة أيضا بأكثر مما استأجرها به إن لم يحدث فيها حدثا، وإلا فلا مانع. فرع: لو شرط مباشرة المستأجر في الانتفاع بالعين المستأجرة، فآجره لغيره وسلمها إليه، ضمنها، لأنها كانت أمانة مالكية عنده، فتسليمها لغيره بدون إذن المالك إلى شخص آخر تعد منه، فتخرج عن كونها أمانة وتصير بمنزلة الغصب، بل عينه، فيكون ضامنا على حسب قواعد باب الضمان، وتجري عليها أحكام العين المغصوبة عند تلفها. فرع: ومن شرائط صحة الإجارة أن تكون المنفعة معلومة، بل هذا الأمر من مقومات حقيقة الإجارة، ولذلك عرفوها بأنها عبارة عن تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم. فإذ كان حقيقة الإجارة عند العرف والعقلاء هو المعنى الذي ذكرناه من اعتبار كون المنفعة التي يملكها المؤجر للمستأجر معلومة، فبدون معلوميتها لاتتحقق حقيقة الإجارة عندهم، فإطلاقات أدلة صحة الإجارة لا تشملها. هذا، مضافا إلى ثبوت الإجماع على هذا الشرط، ولزوم كون المنفعة معلومة في صحة الإجارة. وأيضا الحديث الشريف: نهى النبي عن الغرر 1 بناء على ثبوته وعدم
(هامش)
(1) عيون أخبار الرض ج 2 ص 45 باب فيما جاء عن الرضا عليه السلام من الأخبار المجموعة، ح 168، عوالي اللئالي ج 2 ص 248 باب المتاجر، ح 17، وسائل الشيعة ج 12 ص 330 أبواب آداب التجارة، = (*)
اختصاصه بالنهي عن بيع الغرر. وعلى كل حال لاشبهة في اشتراط هذا الشرط ولا ريب فيه، وقد تقدم بعض الكلام في هذا الشرط، وإنما الكلام هاهنا في المراد من معلومية المنفعة وتعينها في كلا القسمين - أي إجارة الأعيان، وفي باب الأعمال - فنقول: أم في إجارة الأعيان فيختلف التعين باعتبار الأعيان وباعتبار منافعها، ففي مثل الدار والدكان والخان وأمثالها فتعينها بتقدير مدة سكناها بحسب الزمان كما هو المتعارف الان، فيقول المؤجر: آجرتك هذه الدار أو هذا الدكان أو هذا الخان أو غيرها من أمثال ذلك مدة سنة أو شهر مثلا بكذا، وبهذا التقدير يعرف المستأجر أنه مللك سكنى سنة من هذه المذكورات بعوض كذا المعلوم أيضا. وفي مثل السيارة والدابة تحصل المعلومية والتعيين إما بالزمان، كما إذا قال: آجرتك هذه الدابة أو هذه السيارة يوما أو ساعة، أو بالمسافة كما إذا قال: آجرتك هذه الدابة أو هذه السيارة من النجف إلى كربلاء أو إلى بغداد. وفي إجارة الأعمال أيضا يختلف بالنسبة إلى الأجراء وبالنسبة إلى أعمالهم، فلابد من تعيين العمل الذي يستأجره عليه إما من تقديره بحسب الزمان كما هو المتعارف في البنائين والعمال حسب درجاتهم، فتكون أجرته في كل يوم كذا مقدار، وفي نصف اليوم نصفه أو أقل أو أكثر، وفي بعض الأعمال تكون الأجرة بحسب نفس العمل، ففي كل عمل له أجرة خاصة، فالخياط مثلا في كل ثوب يعين أجرته باعتبار نفس العمل حسب المتعارف، ففي القباء مثلا كذا مقدار، وفي العباء كذا مقدار، وكذلك في سائر الالبسة كل بحسبه.
(هامش)
= باب 40 ح 3، صحيح مسلم ج 3 ص 1153، ح 1513، كتاب البيوع، ح 4 باب 2، سنن ابي داود ج 3 ص 254 ح 3376، باب في بيع الغرر، سنن الترمذي ج 3 ص 532، ح 1230، باب ما جاء في كراهية بيع الغرر.
وقد يختلف اختلافا كثيرا باعتبار نوع الخياطة والالبسة بشكل الالبسة القديمة والحديثة أو الشرقية والغربية، وكذلك الحذاؤن باعتبار نوع الحذاء، وربما يكون لبعض أنواع الحذاء أجرة فوق ما يتوهمه المستأجر، فتعيين نوع العمل لازم. وأيضا تعيين أجرة ذلك النوع لازم. وخلاصة الكلام: أن الإجارة مطلقا - سواء كان إجارة الأعيان أو إجارة الأعمال - حيث أن المنافع في الأعيان والأعمال في الأجراء مختلفة، وأجرته أيضا مختلفة باعتبار اختلاف المنافع والأعمال، فلابد من تعيينها كي لا يلزم الغرر عند من يقول بأن دليل اعتبار المعلومية في المنفعة هو لزوم أن لا تكون المعاملة غررية، وكذلك الأمر في جانب الأجرة، فالمناط كل المناط ارتفاع الغرر، وأن تكون المعاملة على النحو المتعارف بين العرف والعقلاء. وكذلك عند من يقول اعتبار العلم هو بناء العرف والعقلاء أن صحة الإجارة منوطة بمعرفة المنفعة والأجرة، فإذا لم يعلما فلا تشملها الأدلةالعامة والاطلاقات الواردة في باب لزوم الوفاء بعقد الإجارة. وهذا هو معنى اشتراط صحة الإجارة بالعلم بالمنفعة، بل العلم بالأجرة أيضا، ولذلك اعتبروا العلم بكليهما في مقام التعريف، وعرفوا الإجارة بأنها تمليك منفعة معلومة. وأما من يعتبر هذا الشرط لأجل الإجماع فلابد وأن يكون العلم بها بحيث ل يكون مخالفا لما اتفقوا عليه. فرع: لو استأجر شيئا معينا فتلف قبل أن يقبض ذلك الشيء بطلت الإجارة. قال في الجواهر: بلا خلاف أجده 1، وادعي في التذكرة أيض الإجماع على
(هامش)
(1) جواهر الكلام ج 27 ص 277. (*)
هذا الحكم 1. مضافا إلى ما تقدم منا في إلحاق الإجارة بالبيع في التلف قبل القبض، وأنها بحكمه في الانفساخ، وذلك لان تلف العين قبل القبض يلزم منه تلف المنفعة أيض قبل القبض، لان المنفعة تابعة للعين تبعية العرض للمعروض، لان سكنى الدار وركوب الدابة موقوفان على بقاء الدار والدابة، وبتلفهما يتلفان قهرا. فالمنفعة في الإجارة بمنزلة المبيع في البيع، فإذا تلف قبل القبض فيشملها قوله صلى الله عليه وآله: كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بايعه 2، وكذلك رواية عقبة بن خالد التي تقدم ذكره 3. وهما وإن كانا في ظاهر اللفظ مختصان بالبيع، ولكن المناط في البيع والإجارة واحد، وهو أن المبادلة بين العوضين في عالم الإنشاء والتشريع مقدمة للأخذ والاعطاء خارجا، وإلا يكون الإنشاء في الاغلب لغوا، فإذا امتنع التعاطي الخارجي فيبقى العقد والعهد لغوا، فينفسخ. ولاشك في أنه بتلف العين يمتنع التعاطي الخارجي في كل البابين، أي في باب البيع والإجارة، فقهرا ينفسخ العقد في كلا البابين. ولعل هذا هو المراد من إلحاق الاجارة بالبيع في شمول النبوي صلى الله عليه وآله ورواية عقبة بن خالد لها. هذا إذا كان تلف العين المستأجرة قبل القبض وقبل أن يستوفى المستأجر شيئ من المنفعة، وأما لو وقع التلف بعد القبض فإن كان بعد استيفاء شيء من المنفعة أو بعد إمكان استيفائه لها ولكنه قصر في الاستيفاء فتكون الأجرة عليه بمقدار تلك المدة، لأنها تقسط باعتبار أزمنة الاستيفاء، إذ لاوجه للقول بالانفساخ من زمان وقوع العقد أو البطلان من أول الأمر في هذه الصورة وإن قال به قائل، فعليه أجرة المثل لما استوفى، أو للمدة التي كان يمكنه استيفائها ولم يستوف.
(هامش)
(1) تذكرة الفقهاء ج 2 ص 322. (2) تقدم ص 95، هامش 1. (3) تقدم ص 95، هامش 2. (*)
وأما لو كان بعد القبض ولكن كان قبل استيفاء شيء منها وعدم إمكان استيفاء شيء منها، فهذه الصورة أيضا في حكم التلف قبل القبض، لوحدة المناط فيهما. والحاصل: أن المناط في بطلان الإجارة وانفساخها هو عدم إمكان استيفاء منفعة العين المستأجرة من غير تقصير وتهاون في ذلك من قبل المستأجر، بل القصور في جانب العين، إما لتلف أو لجهة أخرى. هذا كله فيما إذا تلفت العين، أما إذا أتلفها متلف فإن كان هو نفس المستأجر فربما يقال بأنه هو الذي أتلف المنفعة على نفسه، فيكون الاتلاف بمنزلة الاستيفاء، فعليه ضمان العين من جهة إتلافه لها، وعليه الأجرة لاستيفائه المنفعة بإتلافه الذي هم بمنزلة الاستيفاء. ولكن فيه: أن الإجارة تنفسخ بتلف العين، سواء كان بآفة سماوية أو بتلف المستأجر أو بتلف غيره، فإذا أتلف المستأجر العين المستأجرة فهو ضامن للعين ولا كلام فيه، لقاعدة الاتلاف ومن أتلف مال الغير فهو له ضامن . وأما بالنسبة إلى الأجرة فبالنسبة إلى المقدار الذي استوفى من المنفعة عليه الأجرة، وأما بالنسبة إلى الباقي فليس عليه شيء، لانفساخ الإجارة. ولو أتلف العين المستأجرة قبل أن يستوفى شيئا منها فليس عليه شيء سوى ضمان نفس العين المستأجرة، وكذلك الأمر لو كان الاتلاف بيد غير المستأجر. فرع: لو تجدد فسخ الإجارة بسبب من أسباب الفسخ بعد تمامية عقد الإجارة واجدا لجميع الأجزاء والشرائط، وبعد مضي مقدار من مدة الإجارة صح فيما مضى وبطل فيما بقي، بناء على ما هو المختار من أن الفسخ حل العقد من حين الفسخ، لا من أول انعقاده، فتقسط الأجرة. فلو أعطى الأجرة من أول انعقاد الإجارة - كما هو المتعارف غالبا – فيسترد
بالنسبة إلى مقدار الباقي، لأنه لاإجارة بالنسبة إليه كي يستحق المؤجر أجرة ماله، لانفساخ العقد بالنسبة إليه. ولو لم يعط الأجرة أصلا وشيئا منها فعليه مقدار ما مضى دون ما بقي. فلو كان أجزاء مدة الإجارة متساوية من حيث قيمة المنفعة، فيعطي أو يسترد ما مضى بالنسبة إلى مجموع المدة في الأول، وبمقدار ما بقي بالنسبة إلى مجموع المدة في الثاني. وأما إن لم تكن الأجزاء متساوية في القيمة، فيقوم أجرة مثل مجموع المدة فافرضها مثلا مائة وخمسين دينار، وتقوم أجرة مثل ما مضى من مدة الإجارة وافرضها مثلا مائة دينار، ونسبتها إلى أجرة مثل المجموع نسبة الثلثين، فيعط المستأجر ثلثي المسمى إن لم يعط شيئا منها، وإن أعطى الجميع من حين العقد فيسترد من المؤجر الثلث من المسمى في المفروض، فإذا كان المسمى في المفروض تسعين ولم يعط المستأجر شيئا منها، فيجب عليه أن يعطي للموجر ستين، وإن أعطى المجموع حين انعقاد الإجارة فيسترد ثلاثين للمدة الباقية. وهذا ضابط كلي لموارد اختلاف أجزاء المدة بحسب القيمة، ولاشك في وقوع ذلك كثيرا، فالدور في مكة المكرمة أجرتها أيام الموسم أضعاف أجرة غير الموسم. فرع: لو استأجر دابة للحمل يلزم تعيين ما يحمل عليها إم بالمشاهدة، أو بالكيل والوزن. والمقصود من التعيين هو ارتفاع الغرر، فلو كان م يحمل عليها هو الراكب فلابد من المشاهدة، وذلك لاختلاف الركاب في الطول والقصر والسمن والهزال، فرب راكب تعجز الدابة عن حمله، فلابد من مشاهدته أو وصفه بحيث يرتفع الغرر. وقد تقدم أن حقيقة الإجارة هي تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم، ول تصير المنفعة معلومة فيما ذكر إلا بما ذكرنا من المشاهدة، أو التوصيف التام بحيث لا
يبقى المنفعة أو شأن من شؤونها مجهولة فيما لا يتسامح العقلاء في مثل ذلك. فلو كان الاستيجار لأجل حمل آلات وأدوات للصنعة أو الزرع أو لشغل آخر، فلابد أن يعين جنس الالة وأنها من حديد أو من صفر أو من خشب أو من جنس آخر، وذلك لاختلافها ثقلا وخفة من حيث أجناسها، بل ربما تكون صعوبة في حملها من جهات أخرى غير جهة الثقل والخفة، فلابد من ملاحظة جميع هذه الجهات في مقام إيقاع عقد الإجارة وتعيينها كي يرتفع الغرر والجهالة كما هو ديدن العقلاء وبناؤهم في معاملاتهم. وكذلك يلزم تعيين الدابة التي يستأجرها لأجل غرضه، وليس مرادنا من لزوم تعيينها تعيين شخصها، لأنه لا مانع من استيجار دابة كلية، كما أنه يجوز بيعها كذلك، غاية الأمر يجب توصيف صفاتها التي لها مدخلية في أصل الانتفاع بها، أو يكون لها مدخلية في تكميل الانتفاع بها، فالدابة وكذلك سائر المراكب سواء كانت من سنخ الحيوان أو غير الحيوان كالسيارة والطيارة يجب أن يعين نوعها بل صنفها، لاختلاف منافعها من حيث سرعة السير وبطئه، واستراحة الراكب فيها وعدمها. والضابط الكلي في جميعها رفع الغرر ومعلومية المنفعة التي يملكها المؤجر والمستأجر. وإن شئت قلت: إن بناء العقلاء في معاملاتهم المعاوضية على أن يعرف كل واحد من المتعاملين ما يأتي في ملكه عوض ما يخرج عنه، وعلى هذا يتفرع لزوم العلم بالعوضين، والشارع أمضى هذه الطريقة ونهى عن الغرر. وخلاصة الكلام في المقام: أنه لابد من معلومية العين المستأجرة، سواء كانت إنسان أو حيوانا أو غيرهما. وأيضا لابد من معلومية المنفعة التي يتملكها المستأجر علم عاديا حسب ما هو المتعارف في معاملات أهل العرف. وقد طولوا بذكر الامثلة والموارد لاختلاف المنافع فيها، ولكن جميع الموارد ل
تخرج عن هذا الضابط الكلي، فذكر الأرض للزرع، أو الدار للسكنى، أو الخان والدكان للكسب، أو الدابة والسيارة للركوب والتفصيل فيها ببيان كيفية معلومية منافعه وكيفية الانتفاع بها ليس بلازم، لان الموارد ليست محصورة، بل ربما تختلف بحسب الازمان والعادات، فربما ينقص شيء منها باعتبار تغيير العادات، ويزيد شيء آخر، فلابد من ملاحظة العرف والعادة. ثم إنه ذكروا هنا فرعا: وهو أنه لو استأجر لحفر بئر عشر قامات بعشرة دراهم مثلا، فحفر قامة واحدة وعجز عن إتمامها لجهة من الجهات، فقالوا يقوم حفر الجميع وأيضا يقوم ما حفر ثم ينصب قيمة ما حفر إلى قيمة الجميع، فيرجع الاجير إلى المستأجر بتلك النسبة من الأجرة المسماة في العقد. فلو فرضنا أن قيمة المجموع في المثال المذكور ثلاثون درهما وقيمة ما حفر درهم واحد، فتكون النسبة ثلاث عشر، فيستحق الاجير من المسمى ثلاث عشر، وحيث أن المسمى في المثل المفروض عشرة لمجموع عشرة قامات، فيستحق الاجير ثلاث دراهم. ثم ذكر المحقق في الشرائع 1 قولا آخر مستنده رواية مهجورة غير معمول بها بين الأصحاب، وهي ما رواه أبو شعيب المحاملي عن الرفاعي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل قبل رجلا حفر بئر عشر قامات بعشرة دراهم، فحفر قامة ثم عجز؟ فقال عليه السلام: له جزء من خمسة وخمسين جزء من العشرة دراهم . رواها الصدوق 2 مرسلا، ورواها في الوسائل بطريق آخر مذيلا بهذ الذيل: تقسم عشرة على خمسة وخمسين جزءا فما أصاب واحدا فهو للقامة الأولى، والاثنان للثانية،
(هامش)
(1) شرائع الإسلام ج 2 ص 185. (2) المقنع ص 134. (*)
والثالثة للثالثة وعلى هذا الحساب إلى العشرة 1. والصحيح هو القول الأول، لأنه مقتضى القواعد، والرواية مهجورة لم يعمل بها الأصحاب، فتسقط عن الحجية على فرض سلامة سندها. وقد قيل في توجيه الرواية: أنها لعلها وردت في مورد خاص، له خصوصية من حيث المكان أو الزمان يلائم مع ما ذكره عليه السلام، لا أنه حكم كلي لجميع الموارد كي يكون خلاف مقتضى القواعد. وهو توجيه حسن. فرع: يجوز استئجار المرأة للارضاع مدة معينة بعوض معلوم مع وجود سائر الشرائط التي اعتبروها في باب الإجارة. والغرض من ذكر هذا الفرع هنا دفع الإشكال المشهور الذي أوردوه على إجارة بعض الأعيان باعتبار تمليك منافعها التي هي أيضا أعيان، كإجارة البستان باعتبار تمليك منافعها من الفواكه الموجودة فيها أو التي ستوجد. ولاشك في أن تمليك المنافع التي هي من هذ القبيل ونقلها إلى الغير بإزاء عوض معين معلوم ينطبق عليه تعريف البيع، أي تمليك عين متمول بإزاء عوض مالي. وهذا ينافي حقيقة الإجارة التي عرفناها بأنها تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم. ولكن يمكن أن يجاب عنه: أن أمثال هذه المنافع التي هي أيضا كذويها من الأعيان لها اعتباران وتلاحظ بلحاظين: تارة باعتبار وجوداتها في نفسها وأنها مستقلات في الوجود ومن مقولة الجواهر، فإذا وقع النقل والانتقال عليه بهذا اللحاظ والاعتبار فيكون نقلها بإزاء عوض مالي بيعا، وتارة تلاحظ باعتبار كونه من شؤون ذويها كما يقال: تمر هذه النخلة، أو حليب هذه البقرة، أو حليب هذه
(هامش)
(1) الكافي ج 7 ص 433 كتاب القظاء والأحكام ح 22، وسائل الشيعة ج 13 ص 284، أبواب أحكام الإجارة باب 35 ح 2. (*)
المرضعة، أو عنب هذه الشجرة، أو هذا البستان وأمثال ذلك، فبهذا الاعتبار يشبه عند العرف أن تكون من الإعراض القائمة بالغير، كركوب هذه الدابة، أو سكنى هذه الدار، فإذا وقع النقل والانتقال عليها بهذا الاعتبار يراها العرف نقل المنفعة لا العين، ولذلك يضيف الإجارة إلى نفس العين فيقول: آجرتك هذه الدار أو هذا البستان، أو غير ذلك مما هو من هذا القبيل، لا إلى منافع تلك العين، بل إذا قال: آجرتك سكنى هذه الدار أو حليب هذه البقرة، تكون الإجارة باطلة، لما تحقق أن حقيقة الإجارة هي تمليك منفعة العين المستأجرة مع بقاء نفس العين وعدم إتلاقها. ففي جميع موارد إتلاف نفس العين - سواء كان لها وجود مستقل وليست منفعة وتبعا للغير كالخبز بالنسبة إلى آكله، والحطب لاشعاله واستعماله في الطبخ وغيره، أو كانت من منافع الغير كالاثمار على الاشجار، أو المياه في الابار، أو الالبان في الحيوانات اللبونة، والمرضعات للاطفال، أو إجارة العيون والقنوات للانتفاع بمياها للزرع في الزرع، أو في جهات أخر - لا يصح أن يجعل نفس هذه الأعيان التي يكون المقصود الانتفاع بإتلافها متعلق للاجارة كي تكون هي الأعيان المستأجرة، ولو فعل ذلك تكون الإجارة باطلة. وأما لو جعل متعلق الإجارة الأعيان التي تكون هذه الأعيان عند العرف بل حقيقة تعد من منافعها، لأنه لا يشترط في كون شيء منفعة لشيء أن يكون من أعراض ذلك الشيء، فالإجارة تكون صحيحة لتحقق أركانها، وهي صدق تمليك منفعة معلومة بعوض. ولا يرد عليه إشكال أصلا، ولا يحتاج إلى تكلف القول بأن حقيقة الإجارة هي جعل العين المستأجرة في الكراء وأن ملك المنفعة لازم غالبي لها، مضافا إلى أن جعل الشيء في الكراء عبارة أخرى عن تمليك منفعة ذلك الشيء بعوض معلوم. والواقعيات لا تختلف باختلاف التعابير الغير المختلفة بحسب المعنى المراد منه.
ثم إن هاهنا أمورا ينبغي أن تذكر وينبه عليها منها: أنه هل يجوز للمرضعة التي له زوج أن توجر نفسها للارضاع أو الرضاع بدون إذن زوجها، أو لا؟ فيها أقوال، ثالثه عدم الجواز فيما إذا كان مزاحما لحق زوجها. والحق هو هذا التفصيل، لأنه ليس لمن عليه الحق انشاء معاملة وارتكاب أمر يوجب تضييع حق الغير، لان الشارع سلب مثل تلك السلطنة له على أمواله وعلى أفعاله، كما هو كذلك في موارد سائر الحقوق. وأما القول بعدم الجواز مطلقا وإن لم يكن مزاحما لحقه، لكون الزوج مالك اللبن، أو لكونه مالك لجميع منافعها كالجارية التي يملكها. فكلام عجيب، لوضوح أن الزوجة ليست مملوكة لزوجها كي يكون جميع منافعها أو خصوص لبنها له، فليس لمنعه تأثيرا، فضلا عن احتياجه إلى الإذن فيما إذا لم يكن مزاحما لحق استمتاعه منها متى شاء. وظهر مما ذكرنا عدم بطلان الإجارة لو طرأ النكاح على الإجارة، بمعنى أنها حينما كانت خلية آجرت نفسه للارضاع أو للرضاع ثم تزوجت، فليس للزوج منعها عن ذلك بطريق أولى، إلا أن يكون مانعا عن استمتاعاته التي جعلها الله تعالى له. نعم لو كان الزوج من أهل الشرف بحيث كان مثل هذا العمل إهانة له عند العرف لا يبعد أن يكون له منعها، كما أن له ذلك بالنسبة إلى سائر المكاسب المباحة لها إذا كان كذلك، كالخياطة والنساجة، والدلالة وغير ذلك من الأعمال التي لا يرتكبها أهل العزة والشرف.
هذا، مضافا إلى أنه يمكن أن يقال في هذا الأخير - أي فيما إذا كان النكاح بعد الإجارة - بتقديم حق المستأجر على حق الزوج، لتقدمه عليه، فليس له حق الاستمتاع في الزمان الذي يجب عليها الأرضاع بواسطة الإجارة المتقدمة على النكاح الطارئ، خصوص مع علم الزوج بذلك. وقد أفاد أستاذنا المحقق العراقي قدس سره في هذا المقام: أن صحة هذه الإجارة بدون إذن الزوج مبنية على أن سلطنة الزوج على الاستمتاع ليست مطلقة بحيث تكون مستتبعة للسلطنة على حفظ مقدمات استمتاعه، بل تكون مقيدة بقابلية المحل وعدم وجود ما يمنع عن الاستمتاع، فحينئذ في ظرف صدور الإجارة و تحققها لا تبقى السلطنة على الاستمتاع، لوجود المانع وهو حق المستأجر، فلا يبقى شيء يمنع عن صحة الإجارة بدون إذن الزوج 1. وفيه: أنه لاشك في سلطنة الزوج على الاستمتاع متى شاء، فله حق المنع عن إيجاد ما يضيق دائرة سلطنته ويفوت حقه، وهي الإجارة. فالسلطنة إذ كانت في العقود اللازمة كالسلطنة على الاستمتاع في النكاح، فلا محالة يكون لذيها حق المنع عن تفويت متعلقها وتضييق دائرتها. نعم لو كان في العقود الجائزة - مثل سلطنة المستعير على العين المعارة - فللمالك تضييق دائرتها أو تفويت متعلقها بإتلاف أو نقل غير ذلك، فلابد من القول بصحة الإجارة بدون إذن الزوج بشرط عدم المزاحمة مع حق الزوج، كما إذا كان الزوج في سفر طويل يعلم بعدم رجوعه قبل انقضاء مدة الإجارة، أو كان مريضا لا يقدر معه على الاستمتاع يعلم بعدم برئه قبل انقضاء مدة الإجارة، وأمثال ذلك مما لا تكون الإجارة منافية لحق استمتاع الزوج. وأما القول بأن حق المستأجر مع حق الزوج كلاهما من قبيل الكلي في
(هامش)
(1) المحقق العراقي في شرح تبصرة المتعلمين ج 5، ص 455، أحكام الإجارة. (*)
المعين، كبيع صاع من هذه الصبرة لزيد وصاع آخر لعمرو مثلا، ولا تنافي بينهما فيكون لكل واحد من الزوج والمستأجر حقه ولا تمانع بينهما. ففيه: أنه لاشك في أن الزوج وإن لم يكن حقه بنحو الاستغراق لجميع الأزمنة، لكن له حق التطبيق على أي واحد من الأزمنة التي يمكن الاستمتاع فيه، وليس مانع عقلي أو شرعي في البين. وبعبارة أخرى: هو مخير بين تلك الأزمنة التي من جملتها زمان الأرضاع الذي هو حق المستأجر، فيقع التزاحم بين الحقين، ولا يرتفع إلا بتقييد كلا الحقين بزمان، وإلا لا يرفع بتقييد أحدهما مع إطلاق الآخر كما هو واضح. وقياس المقام بباب بيع صاع من الصبرة لشخص وصاع آخر منها لشخص آخر، في غير محله، لان حق التعيين هناك وتطبيق الكلي على المصاديق بيد المالك البائع، لان الخصوصيات باقية على ملكه، وإنما الخارج عن ملكه ببيعه هو كلي الصاع. وفي المقام حق التطبيق للزوج ومطلق بالنسبة إلى خصوصيات الأزمنة، فيقع التزاحم بين الحقين وإن قلنا بعدم إطلاق حق المستأجر وأن تعيينه مقيد بمشية الزوجة أو تعين الوقت في عقد الإجارة، لما تقدم أن التزاحم لا يرتفع إلا بتقييد كل الحقين، فلابد من تقييد الصحة بعدم مزاحمتها لحق الزوج أو بإذنه. ومنها: أنه لو ماتت المرضعة أو الطفل فهل تنفسخ الإجارة، أم لا؟ وخلاصة الكلام في المقام هو: أنه لو كان الميت هي المرضعة، وكان موتها قبل ارتضاع الطفل ولو بشيء يسير، فهذا من التلف قبل القبض، وقد تقدم الكلام فيه وأن الإجارة تنفسخ من أول الأمر ويكون كتلف المبيع قبل أن يقبضه المشتري، وأما لو ماتت بعد أن استوفى الطفل شيئا من المنفعة - أي ارتضع مقدارا ما - فتستحق الأجرة بالنسبة إلى ما مضى، وتنفسخ بالنسبة إلى ما بقي من المدة. وقد تقدم الكلام
في ذلك وأن الإجارة تقسط. وأما لو مات الطفل، فإن كان مفاد عقد الإجارة والمنشأ به إرضاع خصوص هذا الطفل أو ارتضاعه بلبنها، فبعد موت الطفل يتعذر استيفاء تلك المنفعة، ولا فرق في تعذر استيفاء المنفعة المملوكة بعقد الإجارة بين أن يكون من جهة موت المرضعة، أو يكون من جهة موت المرتضع، لان الرضاع قائم بالطرفين: المرضعة والمرتضع، وبانعدام كل واحد منهما ينعدم الرضاع ولا يمكن تحققه، فيكون من قبيل إجارة دابة خاصة لركوب شخص خاص، ولاشك في أنه بهلاك كل واحد من الدابة وذلك الشخص يمتنع استيفاء تلك المنفعة الخاصة، فقهرا تنفسخ الإجارة من رأس إذا كان موت الطفل قبل استيفاء شيء من المنفعة ويقسط العوض على ما مضى من المدة وما بقي على تقدير الاستيفاء المدة التي مضت. وقد تقدم وجه ذلك في بعض الفروع السابقة. وأما لو لم يكن مفاد عقد الإجارة إرضاع خصوص هذا الطفل الذي مات، بل استأجرها لارضاع طفل كلي مقيد بقيد الوحدة، وإن كان نظره إلى أن يكون المستوفى خصوص هذا الطفل، فلا يكون موته سببا لبطلان الإجارة، بل يستحق المستأجر عليها إرضاع طفل، فيأتي بطفل آخر لكي يرتضع من لبنها، وليس لها أن لاتقبل، لأنه حق لازم عليها أن توفي بها بمقتضى عقد الإجارة. ومنها: أنه لو آجرت نفسها بزعم عدم المزاحمة لحق الزوج - كما أنه لو كان الزوج غائبا فحضر، أو كان مريضا وكانت الزوجة قاطعة بعدم برئه مدة الإجارة فمن باب الاتفاق برئ - فهل للزوج فسخ الإجارة بطلب حقه الاستمتاع، أم لا بل بعد ما وقعت الإجارة صحيحة وصار المستأجر ذا حق على هذه المرأة، فيكون حقه مانعا عن جواز تطبيق الزوج حق استمتاعه منها على ذلك الوقت الذي ترضع الولد ، لان الإجارة أخرجت ذلك الوقت عن تحت قدرة الزوجة بأن تمكن زوجها من الاستمتاع بها، لأنها ملزمة بالوفاء بالإجارة والأرضاع في ذلك الوقت، فليس
لها صرف الوقت في أمر آخر. اللهم إلا أن يقال ببطلان الإجارة وانفساخها من جهة أنه بعد ما كان التمكين للزوج فيما إذا أراد الاستمتاع بها واجبا عليها، فهذا ينفي قدرتها على تسليم العمل، أي الأرضاع في المفروض للمستأجر، فتبطل الإجارة، لان من شرائط صحة الإجارة في باب الأعمال قدرة الاجير على تسليم العمل في وقته إلى المستأجر، فإذا لم يقدر - كما هو المفروض في المقام - فتكون الإجارة باطلة. ول يقال: هذا من باب تزاحم الحقين، فمن الممكن أن يكون حق المستأجر مقدما على حق الزوج، فيكون الزوج ممنوعا عن الاستمتاع في وقت الوفاء بالإجارة إلى وقت الأرضاع، لان تقديم حق الزوج اتفاقي. وذلك أن الإجارة في المفروض طارئة ومتأخرة عن الزوجية، فحين وقوع الإجارة كان وقت الاستمتاع خارجا عن تحت قدرة المرأة، ولم يكن لها صرف ذلك الوقت في أمر آخر غير الاستمتاع، فمتعلق الإجارة يقيد قهرا بغير ذلك الوقت، فيخرجان في ذلك الوقت عن كونهما متزاحمين، ويتعين ذلك الوقت للاستمتاع، ولو كانت الإجارة مطلقة بحيث تشمل ذلك الوقت تكون باطلة، لعدم قدرتها على الوفاء بها شرعا، فيرتفع التزاحم من البين. وبعبارة أخرى: ليس من باب تزاحم الحقين، نعم لو كانت الزوجية طارئة على الإجارة يمكن أن يقال إن حق المستأجر ثبت حين ما لم يكن مانع في البين، فلا يكون لحق استمتاع الزوج إطلاق يشمل صورة وجوب الوفاء بالإجارة على الزوجة، بل هي خارجة عن تحت أدلة وجوب التمكين، كما أن الحكم كذلك في موارد سائر الواجبات، كما في موارد الصلاة والصيام وأمثالهما. اللهم إلا أن يقال: أنه ليس للمرأة المزوجة أن توجر نفسها بالإجارة المطلقة على تقدير طلب الزوج منه الاستمتاع، بل لابد وأن يقيد بغير هذه الصورة وإن لم
يكن فعلا طلب في البين، بل لا يمكن أن يكون لاحد الموانع التي ذكرناها أو لغيرها من الموانع الآخر. فرع: قال في الشرائع: ويجوز استيجار الأرض لتعمل مسجدا 1. وقال في الجواهر: بالخلاف أجده 2. وحكي عن كشف الحق نسبتة إلى الإمامية 3. وعلى كل حال الظاهر أن المراد من قولهم إنه يجوز استيجار الأرض لتعمل مسجد ليس المسجد بالمعنى الخاص الذي له أحكام خاصة، من عدم جواز تنجيسه، ووجوب إزالة النجاسة عنه، وعدم جواز مكث الجنب فيه وغير ذلك من أحكامه، لان المسجد بذلك المعنى لابد وأن يكون وقفا مؤبدا ولايكون ملكا لأحد، وفيما نحن فيه للارض مالك غاية الأمر ملك منفعته للمستأجر لمدة معينة، بل المراد أن الإجارة لغرض أن يجعلها محلا لصلاة الناس جميعا، أو لطائفة خاصة مدة الإجارة، كما أنه إذا كان عنده عمال يشتغلون لمدة سنة مثلا، فيستأجر أرضا لصلاتهم في تلك السنة، كما أنه يجوز له أن يستأجر أرضا لسائر حوائجهم بلا إشكال، خصوصا إذا كان من الأعمال الراجحة، مثل أن يكون محلا في تلك المدة لاجتماعهم وتعلمهم الأحكام الشرعية مثلا، أو غير ذلك من العبادات. وذكر هذا الفرع لأجل ما قيل وجها لعدم الجواز، بأن فعل الصلاة لا يجوز استحقاقه بعقد الإجارة بحال، فلا تجوز الإجارة لذلك. وبطلان هذا الكلام وفساده غني عن البيان.
(هامش)
(1) شرائع الإسلام ج 2، ص 185. (2) جواهر الكلام ج 27، ص 301. (3) كشف الحق ونهج الصدق ص 507، في الاجارات وتوابعها، مسألة 4. (*)
فرع: قال في الشرائع: يجوز استيجار الدراهم والدنانير إن تحققت لهما منفعة حكمية مع بقاء عينهما 1. أقول: هذا الشرط لتحقق حقيقة الإجارة، لان حقيقة الإجارة عبارة عن تمليك منفعة عين مع بقاء نفس العين، ولابد أن تكون تلك المنفعة محللة ومقصودة للعقلاء كي لا تكون المعاملة سفهية، فإذا اجتمعت هذه الأمور في أي شيء من الأشياء يجوز إجارته، كما أنه يجوز إعارته. وإنكار كون الدراهم والدنانير ذات منفعة محللة مقصودة للعقلاء مكابرة. وأما الإشكال بأنه لو كان لهما منفعة محللة مقصودة للعقلاء لكان يضمنها الغاصب بقاعدة وعلى اليد ما أخذت حتى تؤديه بناء على جريانها في المنافع الغير المستوفاة، ولا يقول أحد من الفقهاء في غصب الدراهم والدنانير بضمان منافعهما الغير المستوفاة. وأيضا لو جاز إجارتهما، لجاز وقفهما لوحدة المناط فيهما، لكن وقفهما لا يجوز فلا يجوز إجارتهما، وإلا يلزم التفكيك بين المتلازمين. وفيهم: أما الأول: فلصحة القول بالضمان على تقدير القول بضمان المنافع الغير المستوفاة، من باب شمول قاعدة وعلى اليد ما أخذت . وأما الثاني: فلعدم الملازمة بين جواز الإجارة وجواز الوقف، لامكان أن يأتي دليل من إجماع أو غيره على عدم جواز الوقف في مورد مع جواز إجارته، مضافا إلى المنع عن عدم جواز وقفهما للمنافع المحللة المقصودة للعقلاء. فرع: يجوز الاستيجار لحيازة المباحات كالاحتطاب والاحتشاش
(هامش)
(1) شرائع الإسلام ج 2، ص 185. (*)
والاستقاء من الماء المباح كالشط مثلا، فلو جمع الحطب أو الحشيش أو أخذ الماء بقصد تكون هذه المذكورات للمستأجر فيصير ملكا له، فلو أتلفه متلف قبل أن يقبضه المستأجر يكون ضامنا للمستأجر لا الاجير، لأنها بحيازة الاجير بذلك القصد يصير ملكا له. فالاتلاف يقع على مال المستأجر لاالاجير، ومن أتلف مال الغير فهو له ضامن. نعم لو كان حيازته لهذه الأشياء المذكورة أو لغيرها بقصد أن يكون ملكا لنفسه لا للمستأجر، فالظاهر عدم صيرورته ملكا للمستأجر، فلو أتلفها متلف لا يكون ضامنا للمستأجر. بل إن قلنا بأنها تصير ملكا لنفس الاجير فيكون ضامنا له، وإن قلنا بأنها لا تصير ملك لاحد لعدم قصد ملكية في البين، فلاضمان في البين. لكن القول بأنها لا تصير ملك لاحد لاأساس له، بل الظاهر أنها تصير ملكا لنفس الاجير فيما إذا لم يقصد ملكية المستأجر ويكون لنفسه ولو لم يقصد ملكية نفسه، لان كونه له قهري، لقوله صلى الله عليه وآله: من حاز ملك 1. وهذا الكلام عام يشمل كلتا صورتي قصده لتملكه وعدم قصده للتملك أصلا، لا لنفسه ولا لغيره. فتأمل. فالمتلف يكون ضامنا لنفس الاجير والاجير ضامن للمنفعة التي فوتها على المستأجر للمستأجر. وربما يقال: يكفي في كونه للمستأجر قصد نفس المستأجر أن يكون ما حازه الاجير له، سواء قصد الاجير أم لا يقصد، وذلك لان فعل الاجير بعد وقوع الإجارة صحيحة بمنزلة فعل نفس المستأجر، لان الإجارة في مثل هذه المقامات استنابة، فعلى تقدير احتياج تملكه إلى القصد يكفي قصد نفسه، ولا يحتاج إلى قصد الاجير. نعم لو لم يقصد المستأجر ولا الاجير كلاهما التملك بتلك الحيازة، فكونه للمستأجر لا يخلو من تأمل، بل عن إشكال.
(هامش)
(1) جواهر الكلام ج 26، ص 291، ولم نعثر على الحديث بهذا اللفظ لامن طريق الخاصة ولا العامة. (*)
فرع: لا يجوز إجارة نفسه لاتيان ما وجب عليه، سواء كان الواجب تعبديا أو توصليا، عينيا أو كفائيا إذا كان وجوبه بعنوانه الخاص كتغسيل الاموات وتكفينهم ودفنهم. وأم الواجبات النظامية التي وجبت لحفظ النظام وحاجة الانام، كالصناعات التي لا تقوم أسواق المسلمين إلا بها، وكذلك الحرف والمكاسب التي يحتاجون إليها، فلا مانع من أخذ العوض عليها، بل وجوبها من أول الأمر ليس مطلقا، بل يكون مع أخذ العوض. ولقد ذكرن هذه القاعدة أي قاعدة عدم جواز أخذ الأجرة على الواجبات عدا الواجبات النظامية مفصلا ومشروحا في بعض الأجراء المتقدمة، وهو الجزء الثاني من هذا الكتاب فلا يحتاج إلى ذكرها هاهنا ثانيا. فرع: لو استأجر دابة لحمل مقدار معين من صبرة، فحملها أزيد من ذلك المقدار زيادة لا يتسامح فيها، فتارة يكون المستأجر هو الذي اعتبر ذلك المقدار بكيل أو وزن، وأخرى يكون المعتبر والمحمل هو المؤجر، وثالثة يكون غيرهما، ولايكون المعتبر والمحمل ولا المؤجر ولا المستأجر، بل يكون أجنبيا فعل ذلك. فإن كان المعتبر والمحمل كلاهما هو المستأجر، لزمه أجرة المثل عن الزيادة، لأنه في حكم الغاصب وتصرف في مال الغير بدون إذن صاحبه، فيكون ضامنا لما انتفع به، بل يضمن نفس الدابة، لأنه غاصب أو في حكمه، لتصرفه عدوانا في دابة الغير بدون إذن صاحبه في تلك الزيادة، فتكون يده يد ضمان. نعم هاهنا كلام آخر، وهو أنه ربما يقال بأن تلف الدابة لو كان مستندا إلى مجموع الحمل - وهو في بعضه مأذون - فهل يقسط ويكون ضامنا بالنسبة إلى
المقدار الغير المأذون، أو يكون ضامنا للجمع؟ قد حكى في الجواهر عن العلامة في إرشاده القول بتنصيف الضمان، وأن نصفه على المستأجر، وأنه يضمن نصف الدابة، لاستناد التلف إلى فعلين: أحدهما مأذون فيه وهو غير مضمون، والآخر المضمون ليس تمام التلف مستندا إليه بحيث يكون هو السبب وحده 1. وفيه: أن هذا الكلام على تقدير صحته وقطع النظر عن بعض الإشكالات الواردة عليه، يكون فيما إذا كان سبب الضمان هو الاتلاف. وليس الأمر هاهنا كذلك، لما ذكرنا أن هاهنا سبب الضمان هو اليد وصيرورتها بالتعدي يد ضمان، فلو تلف من دون مدخلية تلك الزيادة في تلفها يكون ضامنا لجميع الدابة من باب وعلى اليد ما أخذت حتى تؤديه . وقد ورد في ذلك روايات مضافا إلى قاعدة وعلى اليد ما أخذت حتى تؤديه : منها: صحيحة أبي ولاد الحناط المشهورة الواردة في اكتراء بغل إلى قصر ابن هبير ثم تجاوزه عن ذلك المكان فضمنه عليه السلام قيمة البغل لو عطب، لتعديه عما استأجر 2. والاستدلال بهذه الرواية وأمثالها في المقام مبني على عدم الفرق بين أسباب التعدي. ومنها: رواية الحسن الصيقل قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما تقول في رجل اكترى دابة إلى مكان معلوم فجاوزه؟ قال: يحسب له الأجر بقدر ما جاوزه، وإن عطب الحمار فهو ضامن 3.
(هامش)
(1) جواهر الكلام ج 27، ص 303 إرشاد الاذهان ج 1، ص 423. (2) الكافي ج 5 ص 290 باب الرجل يكتري الدابة فيجاور بها الحد...، ح 6، وسائل الشيعة ج 13 ، ص 255، أبواب أحكام الإجارة، باب 17، ح 1. (3) الكافي ج 5، ص 289، باب الرجل يكتري الدابة فيجاوز بها الحد...، ح 1، وسائل الشيعة ج 13، =
ومنها: رواية عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه عليهم السلام قال: أتاه رجل تكارى دابة فهلكت وأقر أنه جاز بها الوقت فضمنه الثمن ولم يجعل عليه كراء 1. وغير هذه مما ذكرها في الوسائل وغيره من كتب الأخبار والأحاديث 2. وخلاصة الكلام: أن المفروض ليس الضمان من باب قاعدة الاتلاف كي يأتي فيه ما ذكروه من التقسيط على مجموع الحمل ويغرم المستأجر بمقدار الزيادة. هذا كله لو كان المستأجر هو المعتبر والمحمل، وأما لو كان كلاهما هو نفس المؤجر، فلا ضمان لا بالنسبة إلى تلك الزيادة، ولا بالنسبة إلى تلف الدابة. أما المستأجر فلأنه لم يصدر منه شيء يكون موجب للضمان. وأما المؤجر الإنسان لا يضمن لتلف ماله لنفسه، لان الضمان عبارة عن اشتغال ذمته للمضمون له، فلا يتصور أن تكون مشغولة لنفسه. وأما لو كانا أجنبيين ولم يكون مأذونين وحملا واعتبرا من دون علم المستأجر ولا المؤجر فتلف المتاع والدابة أيضا، فيكونان ضامنين المتاع للمستأجر والدابة والزيادة للموجر، لعدوانهما عليهما - أي المؤجر والمستأجر - من جهة تصرفهما في مال الاثنين بدون إذنهما واطلاعهما. وم ذكرناه كله على قواعد باب الضمان. فرع: في الشرائع: ومن شرائط صحة الإجارة أن تكون المنفعة مباحة، فلو آجره مسكنا ليحرز فيه خمرا، أو دكانا ليبيع آلة محرمة، أو أجير ليحمل إليه
(هامش)
= ص 257، أبواب أحكام الإجارة، باب 17 ح 2. (1) تهذيب الأحكام ج 7، ص 223 ح 977، في الاجارات، ح 59، الاستبصار ج 3، ص 135، ح 484، باب من اكترى دابة إلى موضع فجاز ذلك...، ح 3، وسائل الشيعة ج 13، ص 257، أبواب أحكام الإجارة، باب 17، ح 5. (2) الكافي ج 5، ص 289 - 291، باب الرجل يكتري الدابة فيجاوز به الحد...، ح 2 و 3 و 4 و 5 و 7، وسائل الشيعة ج 3، ص 257 و 258، أبواب أحكام الإجارة، باب 17، ح 3 و 4 و 6. (*)
مسكرا، أو جارية للغناء، أو كاتبا ليكتب له كفرا لم تنعقد الإجارة، وربما قيل بالتحريم وانعقاد الإجارة لامكان الانتفاع في غير المحرم، والأول أشبه 1. لما ذكرن مكررا أن حقيقة الإجارة تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم، فإذا كانت المنفعة محرمة فليس قابلا للتمليك، لأنه لا يملكها فكيف يملكها، ولا يمكن يكون فاقد الشيء معطي له. فالتعليل لصحة الإجارة ووقوعها بإمكان الانتفاع في غير المحرم لا وجه له بعد عدم تمامية أركان الإجارة، وذلك لما ذكرنا أن المؤجر فعله عبارة عن تمليك المنفعة للمستأجر، فلابد وأن يكون إما مالكا لتلك المنفعة، أو يكون مالكا للتمليك من طرف المالك بنيابة، أو ولاية، أو غير ذلك، ففي إجارة الأعيان لابد وأن يكون مالك لتمليك منفعة تلك العين، وفي إجارة الأفعال لابد وأن يكون المؤجر مالكا لذلك الفعل، أو كان مالكا لتمليكه نيابة، أو ولاية، أو غير ذلك. فإذا سلب الشارع سلطنته في كل المقامين، فيكون الممتنع شرعا كالممتنع عقلا، فليس تمليك تلك المنفعة المحرمة أو ذلك الفعل المحرم اللذان وقعت الإجارة عليهما، فالاتنفاع في غير المحرم لا يملكه، فكيف يكون له ذلك. ولذلك قلنا لا يصح أخذ الأجرة على الواجبات على الاجير وكذلك على أفعاله المحرمة. فرع: ومن شرائط صحة الإجارة أن تكون المنفعة مقدورا على تسليمها، فلو آجر عبدا آبقا أو دابة شاردة بحيث لا يقدر المؤجر على تسليمها، ولا المستأجر على أخذها وقبضها، تكون الإجارة باطلة، لكونها معاملة غررية بل سفهية، ويكون أخذ العوض على تمليك مثل هذه المنفعة التي لا طريق للمستأجر إلى استيفائها أكل المال بالباطل، ولا يصدق عليه أنه تجارة عن تراض. وهذا لا
(هامش)
(1) شرائع الإسلام ج 2، ص 186. (*)
كلام فيه. وإنما الكلام في أنه لو ضم المؤجر العين المستأجرة التي لا يقدر على تسليمها عينا أخرى ذات منفعة محللة مقصودة للعقلاء التي قادر على تسليمها، فهل تصح الإجارة حينئذ كالبيع مع الضميمة أم لا؟ قال في الشرائع: وفيه تردد 1. وقيل في وجه تردد المحقق أن الضميمة في بيع العبد الابق توجب صحته وخروجه عن كونه غرريا، ففي الإجارة أولى بذلك، لان الإجارة تتحمل الغرر أزيد من البيع، فإذا كانت الضميمة موجبة لرفع الغرر هناك والمقدار الباقي من الغرر في الجزء الآخر من البيع معفو، ففي الإجارة يكون معفوا بطريق أولى. هذا أحد الوجهين من وجهي الترديد، والوجه الآخر هو أن دليل نفي الغرر وعدم صحة المعاملة الغررية المتفق عليه بين الفقهاء يشمل المقام، وصحة البيع هناك بدليل تعبدي، وليس هاهنا دليل على الصحة والقياس باطل وإن كان وجود ما يتخيل أنه الملاك في المقيس أولى من المقيس عليه لعدم خروجه بذلك عن كونه ظن غير معتبر. مضافا إلى منع الصغرى وعدم كونه أولى، لاشتراط معلومية المبيع في البيع والمنفعة في الإجارة على نسق واحد. والتحقيق في هذا المقام أن يقال: إن المستأجر إما يحتمل حصول القدرة له أو للموجر فيما بعد قبل فوت زمان استيفاء المنافع من العين المستأجر، أو مأيوس ولا يحتمل ففي الصورة الثانية تكون المعاملة باطلة قطع حتى مع الضميمة، للغرر، بل تكون سفهية إن لم تكن منافع الضميمة كثيرة بحيث يتدارك بها ما يفوت من منافع العين المستأجر التي لا يقدر المؤجر على تسليمها. وتارة يحتمل احتمالا عقلائيا، حصول القدرة له أو للموجر بعود العبد من قبل
(هامش)
(1) شرائع الإسلام ج 2، ص 186 (*)
نفسه، أو بإرجاعه من قبل أحدهما، ففي مثل هذه الصورة لا تكون سفهية، ولا أكل للمال الباطل، لاقدام العقلاء على أمثال هذه الخسارات لأجل احتمال تحصيل ما هو أنفع، فالزارع يصرف مصارف كثيرة لأجل احتمال تحصيل ما هو أزيد نفعا في نظره، وليس قاطع بحصول مثل هذا النفع، وكذلك التاجر في تجارته وسائر أرباب الحرف والصناعات في أشغالهم يبذلون الأموال باحتمال تحصيل ما هو أهم بنظرهم. نعم يبقى مسألة الغرر وأن عدمه من القيود الشرعية المعتبرة في صحة المعاملة، لما هو المنقول في المستدرك عن دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه سئل عن بيع السمك في الاجام؟ فقال: لا يجوز لأنه مجهول يقل ويكثر وهو غرر 1. فالتعليل عام يشمل الإجارة والبيع وغيرهما. أو من جهة شمول قوله صلى الله عليه وآله: نهى النبي عن بيع الغرر 2 للاجارة أيضا من باب وحدة المناط، بعد الفراغ عن أن معنى الغرر هو الجهل بالعوضين أو أحدهما، والمفروض هاهنا أن أحد العوضين - الذي هو المنفعة - حصوله غير معلوم، فيكون مثل هذه المعاملة غرريا بغير شك فيكون منهيا، فيكون باطلا. ولاشك في أن إجارة العبد الابق أو الدابة الشاردة التي غير معلوم مكانها من هذا القبيل، إذ لا يعلم المستأجر بإمكان حصول الانتفاع بهما واستيفاء ما يملكه بالإجارة منهما أم لا؟، فتكون الإجارة ونفس هذه المبادلة غرريا فلا تصح. نعم لو كان له طريق إلى تمكنه من ذلك ومطمئن بأن العبد يرجع إلى مولاه والدابة توجد بحيث لا يعد غررا في العرف، فل مانع ويجوز إجارتهم.
(هامش)
(1) دعائم الإسلام ج 2، ص 23، ح 42، ذكر مأنهي عنه من بيع الغرر، مستدرك الوسائل ج 13، ص 237، أبواب عقد البيع وشروطه باب 10، ح 1. (2) تقدم ص 125، هامش (1). (*)
وأما صرف الضميمة فلا تصلح الجهالة التي هي حاصلة في نفس العين المستأجرة ولاترفعها. نعم الضميمة ترفع السفاهة عن مثل هذه المعاملة في بعض الصور، لاالجهالة. وهذا واضح. فرع: لو منع المؤجر من تسلم المستأجر العين المستأجرة بحيث لا يقدر على تحصيل المنفعة التي ملكها بالإجارة وتفوت عنه، فهل تنفسخ الإجارة ويرجع المستأجر إلى المسمى - كما في باب تلف العين المستأجرة لوحدة الملاك، وهو عدم إمكان تحصيل المنفعة التي ملكها بالإجارة - أو يغرمه المستأجر ببدل المنفعة التالفة، لأنه أتلفها عليه كما هو الحكم في باب إتلاف مال الغير، أو يكون مخيرا بين التغريم والرجوع إلى المسمى؟ وجوه. والظاهر من هذه الوجوه هو أن للمستأجر التغريم، لان حال المؤجر في المفروض حال الغاصب الاجنبي. اللهم إلا أن يقال: بأن قاعدة كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بايعه بناء على جريانها في الإجارة تقتضي انفساخ الإجارة ورجوع المسمى إلى المستأجر، ولاتصل النوبة إلى الاتلاف والتغريم، لأنهما موقوفان على بقاء العقد. وفيه: أن ظاهر قاعدة التلف قبل القبض وأنه من مال بايعه، هو أن يكون التلف من دون استناده إلى فعل متلف أتلفه اختيارا، بل وإن كان بغير تعمد واختيار. وبعبارة أخرى: قاعدة تلف قبل القبض لا تشمل موارد الاتلاف، والمفروض من قبيل الاتلاف لا التلف. هذا أولا. وثانيا: ما نحن فيه ليس من قبيل التلف، لان التلف عبارة عن انعدام الشيء إما حقيقة أو حكما، بمعنى عدم صلاحيته للاستفادة عنه وعدم ترتب فائدة عليه بالمرة. ومنع المالك عن تسلم المؤجر لا ينطبق على كل واحد منهما، لعدم انعدامه
فرضا وصلاحيته للاستفادة يقينا، غاية الأمر المالك المؤجر منع عن الاستفادة عنه. فالحق أن المالك المؤجر كالغاصب الاجنبي يكون ضامنا لما فوته على المستأجر. وأم القول بالتخيير فلا وجه له، لأنه مع جريان قاعدة التلف قبل القبض لا يبقى مجال لبقاء العقد وينفسخ ويرجع المسمى إلى المستأجر، ولا يبقى وجه لطلب أجرة المثل. ومع عدم جريانها وبقاء العقد تكون المعاملة موردا لقاعدة الاتلاف، وحيث أن المتلف هو المؤجر فيغرم، ولا مجال للرجوع إلى المسمى، فالتخيير بين الأمرين لا وجه له. فرع: لو منع المستأجر عن الانتفاع بالعين المستأجرة ظالم قبل أن يقبضها، فإن كان المنع بغصب العين المستأجرة ووضع اليد عليها، فيكون الحال كما قلنا في المسألة السابقة، ويكون الغاصب ضامنا لما فوته على المستأجر، فله الرجوع إلى الظالم بأجرة المثل. ول تجري في المفروض قاعدة التلف قبل القبض كي يرجع إلى المؤجر بالمسمى، لما ذكرنا في الفرع السابق الذي كان نظير المقام وقلنا: إن التلف لا يشمل مورد غصب الغاصب ومنعه المستأجر عن استيفاء المنفعة، وكذلك لا يشمل مورد استيفاء الغاصب للمنفعة وعدم إبقاء مجال للمستأجر. هذا إذا كان منع الظالم قبل أن يقبض المستأجر العين المستأجرة، وأما لو كان بعد القبض - سواء كان في ابتداء مدة الإجارة أو في أثنائه - فعدم جريان قاعدة التلف قبل القبض أوضح، وحكم تغريم الظالم والرجوع إليه بأجرة المثل أجلى. وأما لو كان بحبسه وسده عن الانتفاع به من دون وضع يد على العين المستأجرة وعدم تصرف فيها - كما أنه لو استأجر دارا لسكناه فمنعه الظالم عن
الدخول أو السكنى فيها، أو استأجر سيارة للسفر إلى مكان كذا فمنعه الظالم من المسافرة مطلقا، أو إلى ذلك المكان - فضمان اليد ليس هاهنا قطعا، لعدم يد على العين المستأجرة من طرف الظالم. نعم لو صدق إتلاف المنفعة على منع الظالم لأنه صار سبب لفوته، فيكون ضامنا بقاعدة الاتلاف وإلا فلا موجب لضمانه، وصدق الاتلاف عليه مشكل. اللهم إلا أن يقال بأنه وإن لم يصدق عليه الاتلاف لكن يصدق عليه التفويت على المستأجر، وهذا كاف في الضمان. فرع : لو حدث بعد وقوع الإجارة تام الأجزاء والشرائط ما يمنع عن استيفاء المنفعة شرعا أو عقلا، فهل تنفسخ الإجارة، أو يكون للمستأجر الخيار، أو ليس شيء منهما في البين؟ وقد ذكروا هاهنا أمورا تمنع الاستيفاء منها: م لو استأجر شخصا لقلع ضرسه فزال الالم قبل أن يقلع، ولم يكن به عيب يحتاج إلى القلع بناء على عدم جواز قلع الضرس السالم، فهذا مانع عن الاستيفاء بالقلع، فهل هذا يوجب انفساخ الإجارة أو الخيار، أم لا؟ الظاهر أنه يوجب الانفساخ، بل عدم صحة هذه الإجارة من أول الأمر، لان من شرائط صحة الإجارة أن يكون الاجير قادرا على انجاز العمل الذي استؤجر عليه في ظرف العمل، وكون العمل مقدورا في ظرف وقوع العقد لا أثر له، والممتنع شرعا كالممتنع. وحيث أن العمل - أي القلع في ظرف العمل - حرام فليس مقدورا للاجير شرعا، فيكشف هذا عن بطلان الإجارة من أول الأمر، فلاتصل النوبة إلى الفسخ أو الانفساخ.
ومنها: أنه لو استأجر امرأة لكنس المسجد أياما معينة، أو يوما معينا فحاضت، ومعلوم أن الحائض ممنوعة عن المكث واللبث في المساجد، والكنس بدون المكث واللبث لا يمكن، فهذا المورد أيضا لا يقدر المستأجر شرعا على إيجاد العمل مباشرة في الظرف الذي عين للعمل، فيكشف حدوث حيضها في ذلك الوقت عن بطلان الإجارة من أول الأمر مثل الصورة السابقة. هذا فيما إذا كان متعلق الإجارة عملها مباشرة، وإلا فلا مانع في البين. وخلاصة الكلام في هذا المقام هو أنه من شرائط صحة الإجارة في باب الأعمال هو أن يكون الاجير قادرا على إيجاد ذلك العمل الذي استؤجر عليه إذا كانت الإجارة واقعة على صدور العمل عنه مباشرة، وإذا لم يكن الاجير قادرا على إيجاد ذلك العمل فليس هناك عمل كي يملكه للمستأجر ويأخذ بإزائه العوض، فيكون أكلا للمال بالباطل، ول تكون تجارة عن تراض. ولافرق في عدم القدرة بين أن يكون تكوينيا أو تشريعيا، بمعنى أنه لا فرق في عدم حصول الشرط بين أن يكون عجز الاجير لعدم قدرته تكوينا، أو كان من ناحية نهي المولى عنه، أو من إحدى مقدماته التي لا يمكن أن يوجد ذلك العمل إلا به. وإن شئت قلت: لافرق بين أن يكون العجز عجزا تكوينيا أو تعجيزا مولويا لوحدة المناط، وهو عدم قدرته على الإيجاد. فلا فرق بين أن يكون العمل المستأجر عليه بنفسه حرام أو كان بعض مقدماته المنحصرة حراما، وفي كلتا الحالتين تسلب القدرة عنه في عالم الاعتبار التشريعي، لان الممتنع شرعا كالممتنع عقلا. وقد ظهر مما ذكرنا أن مسألة إجارة المرأة للارضاع مع طلب الزوج الاستمتاع في ذلك الوقت المعين للارضاع. وكذلك عروض مرض يمنع عن إيجاد العمل في
الوقت المعين له في عقد الإجارة، وكذلك عدم إمكان السلوك في طريق الحج لمانع شرعي أو عقلي في إجارة الدابة أو السيارة أو الطيارة أو غيرها، وكذلك عروض مانع آخر عن إيجاد العمل، كلها من واد واحد. مرجعها إلى أمر واحد، وهو عدم القدرة على إيجاد العمل إما تكوينا أو تشريعا، فتكون الإجارة باطلة. وأما مسألة عدم إمكان الانتفاع من العين المستأجرة لمانع فليس من هذا القبيل، وصحة الإجارة فيها أو عدم صحتها له ملاك آخر. نعم هي داخلة في العنوان الذي ذكرناه في أول هذا الفرع، وهو أنه لو حدث بعد وقوع الإجارة صحيحا تام الأجزاء والشرائط فحدث ما يمنع عن الاستيفاء. فالأولى أن يجعل ويذكر هاهنا عنوانان: أحدهما: عدم قدرة الاجير على إنجاز العمل تكوينا أو تشريعا، فتكون مسألة كنس المسجد مع صيرورة المرأة الاجيرة حائضا في الوقت المعين للكنس، وكذلك مسألة إرضاع المرأة المستأجرة لذلك في وقت معين مع طلب الزوج الاستمتاع في ذلك الوقت، وغيرهما مما هو نظيرهما داخلة في هذا العنوان، والإجارة باطلة لعدم قدرة الاجير على إنجاز العمل. والثاني: وجود مانع عن الاستيفاء للمنفعة التي للعين المستأجرة، فتكون مسألة وجود مانع عن الانتفاع بالدار المستأجرة وما هو نظيرها داخلة تحت هذا العنوان، ويكون ملاك البطلان فيها لغوية مثل هذا التمليك الذي لا يمكن أن ينتفع به. وليس ملاك بطلان الإجارة في كلتا المسألتين واحدا، لما هو واضح، فالأحسن أن لا يخلط بين المقامين، لعدم وحدة الملاك فيهما، بل لكل واحد منهم ملاك يخصه. فرع: إذا أفسد الصانع ما أعطى ليصنعه شيئا معينا - مثل أن أعطي ذهب
ليصنعه زينة معينة للنساء - فلم يقدر على صنعه، أو صنع غير ما أراد المعطي، أو صنع ما أراد ولكن صنعه غير جيد بحيث يقال عند العرف إنه أفسد في صنعه وأتلف أو أتلف شيئا منه، أو كسر ما أعطى من الاحجار الكريمة ليصنع خاتما أو شيئا آخر أو أعطى ساعة لكي يصلحها فكسرها أو أتلف شيئا منها، أو غير ذلك من الالات والأدوات فأوقع التلف عليها من حيث الصورة أو المادة، أو أعطى ثوبا للقصار فخرقه أو أحرقه، أو للخياط فأتلفه أو لم يصنع كما أراد ووقعت الإجارة عليه - ففي جميع ذلك يكون الصانع ضامنا، لقاعدة الاتلاف، لأنه أتلف مال الغير من دون إقدام مالكه على تلفه أو إذنه فيه. وذلك لان قاعدة لا يشترط في جريانها أن يكون قاصدا إليه متعمدا، بل لو صدر عنه بل توجه والتفات إليه يكون ضامنا، ولذلك لو اشتبه الطبيب وأعطى المريض دواء مضرا يكون ضامنا إذا كان هو المباشر لاشراب الدواء ولو كان حاذقا، وكذلك الحجام والختان إذ اشتبها في عملهما، وتجاوزا عن حد الحجامة والختان، وحدث تلف نفس أو عضو بسببهما، يكونان ضامنين، لصدق الاتلاف في الجميع. وفي باب ضمان الاتلاف المناط هو صدق الاتلاف ويوجب الضمان إلا إذا كان مأذونا في الاتلاف وكان المالك مقدما عليه، فهو الذي هتك حرمة ماله. ولافرق بين أن يكون المتلف يده يد أمانة، وذلك لان سبب الضمان ليس هو اليد كي يفرق بين أن يكون أمينا أو لا يكون، فالمناط كل المناط هو صدق الاتلاف. وقد حققنا في محله أن القصد والتعمد ليسا مأخوذين، لا في مادة الأفعال ول في هيئتها. هذا، مضافا إلى ورود أخبار كثيرة في ضمان جملة مما ذكرنا: منها: صحيح الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام في الرجل يعطي الثوب ليصبغه
فيفسده، فقال عليه السلام: كل عامل أعطيته أجرا على أن يصلح فأفسد فهو ضامن 1. ومنها: أيضا عن الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سئل عن القصار يفسد؟ فقال: كل أجير يعطي الأجرة على أن يصلح فيفسد فهو ضامن 2. وأيضا عن الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال في الغسال والصباغ: ما سرق منهم من شيء، فلم يخرج منه على أمر بين أنه قد سرق وكل قليل له أو كثير فإن فعل فليس عليه شيء، وإن لم يقم البينة وزعم أنه قد ذهب الذي ادعى عليه فقد ضمنه إن لم يكن له بينة على قوله 3. وهناك روايات كثيرة بهذا المضمون أو ما هو قريب منه، وقد عقد لها بابا في الوسائل 4. ومضافا إلى نقل الإجماعات الذي قيل إنها ربما تبلغ حد التواتر. وهاهنا روايات أخرى ربما يكون ظاهرها معارضا لهذه الروايات، كرواية معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن الصباغ والقصار؟ قال عليه السلام: ليسا يضمنان 5. ولكن لا يصح الاعتماد عليها والاعتناء بها، لاعراض المشهور عنها وعدم العمل بها، وإن كانت بحسب السند من الصحاح ولكن إعراض المشهور عن العمل
(هامش)
(1) الفقيه ج 3 ص 253، ح 3917، باب ضمان الصناع، ح 1، وسائل الشيعة ج 13، ص 275، أبواب أحكام الاجاره باب 29 ح 19. (2) الكافي ج 5 ص 241 باب ضمان الصناع ح 1 تهذيب الأحكام ج 7 ص 219 ح 955 في الاجارات ح 37، الاستبصار ج 3 ص 131 ح 470 باب الصانع يعطى شيء ليصلحه فيفسده... ح 1، وسائل الشيعة ج 13 ص 271 أبواب أحكام الإجارة باب 29 ح 1. (3) الكافي ج 5 ص 242 باب ضمان الصناع ح 2، الفقيه ج 3 ص 254 ح 3921 باب ضمان من حمل شيئا فادعى ذهابه، ح 2، وسائل الشيعة ج 13 ص 271 أبواب أحكام الاجارات باب 29 ح 2. (4) وسائل الشيعة ج 13 ص 271 أبواب أحكام الاجارات باب 29. (5) تهذيب الأحكام ج 7 ص 220، ح 964، في الاجارات ح 46، الاستبصار ج 3 ص 132 ح 477 ، باب الصنائع يعطى شيئا ليصلحه فيفسده...، ح 8، وسائل الشيعة ج 13 ص 274، أبواب أحكام الإجارة، باب 29 ح 14. (*)
بها يسقطها عن الحجية، والتعارض فرع الحجية. وأما صحيحة أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام في الجمال يكسر الذي يحمل أو يهريقه؟ قال عليه السلام: إن كان مأمون فليس عليه شيء، وإن كان غير مأمون فهو ضامن 1. فالظاهر أنها ليست من موارد إتلاف الجمال ما حمله، لأنه في مورد الاتلاف لافرق بين أن يكون المتلف أمينا وبين أن يكون غير أمين، لان المتلف يكون ضامنا مطلقا. فالأحسن أن يجمع بين هذه الروايات بحمل م نفي فيها الضمان مطلقا كرواية معاوية بن عمار، أو نفي فيها الضمان فيما إذا كان مأمونا على ما إذا كان التلف في المال الذي تحت يده من دون صدق الاتلاف. ومعلوم أن التلف تحت يد الامين لا يوجب ضمانا إلا مع التعدي أو التفريط، فيخرج بذلك عن كونه أمينا. وحمل الروايات التي تدل على ثبوت الضمان على موارد الاتلاف، كما هو ظاهر قوله عليه السلام كل أجير يعطى الأجرة على أن يصلح فيفسد فهو ضامن هو إتلاف م وقع تحت يده، لا تلفه فقط. وفرق واضح بين المسألتين، وإلا ففي مورد الجمع الدلالي بالاطلاق والتقييد - كما في رواية الحلبي مع رواية أبي بصير - لا تصل النوبة إلى الإسقاط عن الحجية بإعراض المشهور، لأنه مع الجمع الدلالي لا يبقى تعارض في البين كي يعالج بأمثال هذه المرجحات. فرع: لو استأجر دابة للركوب أو للحمل، وأخذها من المالك، وصارت
(هامش)
(1) الكافي ج 5 ص 244 باب ضمان الجمال والمكاري واصحاب السفن، ح 6، وسائل الشيعة ج 13 ص 278 أبواب أحكام الاجاراة باب 30 ح 7. (*)
تحت يده لاستفادة الركوب أو الحمل منها يجب عليه سقيها وعلفها، ولو أهمل ضمن. هذ ما أفتى به المحقق في الشرائع 1. وتفصيل الكلام فيه: أنه تارة نتكلم في وجوب السقي والتعليف من حيث حفظ مال الغير الذي أمانة عنده، وأخرى نتكلم من حيث ضمان مالك الحيوان للمصارف التي صرفها المستأجر لتلك الدابة. فنقول: أما الأول - أي وجوبهم من حيث حفظ مال الغير عن التلف - باعتبار أن بناء العقلاء على أن المستأجر الذي يقبض الدابة المستأجرة وتدخل تحت يده لو لم يعلفها ولم يسقها وتلفت من الجوع أو العطش فعند العرف هو - أي المستأجر - سبب لتلفها، ويكون تعد وتفريط من قبل الأخذ والقابض، ففي صورة عدم سقيها وتعليفها لو تلفت يكون ضامنا. وذلك كما صرحوا في باب لقطة الحيوان الذي يسمى بالضالة بلزوم الانفاق عليه ويجوز الرجوع إلى مالكه بالعوض إذا كان إنفاقه بقصد أخذ العوض. نعم إذا لم تكن تحت يده ولم تخرج عن يد المالك، بل استفادة المستأجر الركوب أو الحمل مع كونها تحت يد مالكها - كما هو الحال والمتعارف عند المكارين والحملدارية في بعض البلاد - فلا يجبان على المستأجر قطعا، لأنهما عين العوض مع عدم ذكر الانفاق، ولذلك لو أنفق بقصد العوض مع غياب المالك المؤجر، أو لم ينفق عليها مع حضوره لعدم قدرته أو لاي علة أخرى يجوز له الرجوع إلى المالك. ومم ذكرنا ظهر أنه لا منافاة بين وجوب الانفاق وجواز مطالبة العوض.
(هامش)
(1) شرائع الإسلام ج 2 ص 187. (*)
وإن شئت قلت: لاشك في عدم وجوب الانفاق على مال الغير إن كان حيوانا، سواء كان له منفعة أو لم يكن، إلا إذا كان تحت يده بطور الأمانة المالكية أو الشرعية والمالك غائب أو معذور لا يقدر على الانفاق، وفي هذه الصورة يجب، ولكن مع جواز الرجوع إليه إذا كان الانفاق بقصد العوض. كل ذلك لقاعدة احترام مال المسلم من جهة، وعدم جواز التعدي والتفريط في مال الغير من جهة أخرى، وأنه ضامن لو فعل وإن كان لا يجب حفظ مال الغير ابتداء، إذ لادليل عليه. فرع: قال المحقق رحمه الله في الشرائع: من استأجر أجيرا لينفذه في حوائجه فنفقته على المستأجر إلا أن يشترط على الاجير 1. وهذا الكلام مخالف لظاهر القواعد المقررة في باب الإجارة، وذلك لان حقيقة الإجارة في باب الأجراء هو أن الاجير يملك المنفعة - أي عمله المعين بتعيينهما، أي الاجير والمستأجر للمستأجر بعوض معين - فنفقة الاجير خارجة عن العوضين في باب الإجارة، وم يستحقه الطرفان - أي الاجير والمستأجر - ليس إلا العوضان اللذان وقع المبادلة بينهما، كما هو الحال في سائر العقود المعاوضية. فكل واحد من المتعاقدين يملك م ملكه الآخر في عقد المعاوضة بإزاء ما ملكه هو للآخر، وليس لنفقة الاجير ذكر في عقد الإجارة، وإلا لو كان لها ذكر - أي كان شرط من طرف الاجير ولو كان شرطا ضمنيا - فل كلام، وكان يجب على المستأجر ذلك، لوجوب الوفاء بالشرط. ولكن مع ذلك تبع جماعة من الأساطين كما حكي عن النهاية والقواعد
(هامش)
(1) شرائع الإسلام ج 2 ص 188. (*)
والإرشاد والروض 1 المحقق في هذه الفتوى، بل حكي عن اللمعة أنه المشهور 2. والظاهر أن القائلين بهذه الفتوى تمسكوا إما بظاهر ما هو المتعارف في الخارج من إعطاء المخدوم نفقة خادمه، خصوصا إذا أرسله إلى بلد آخر لقضاء حوائجه فيه، فيكون هذ التعارف بمنزلة الشرط الضمني، بعد أن كانت الشروط الضمنية واجب الوفاء. وأنت خبير بأن إثبات مثل هذا التعارف كي يكون بمنزلة الشرط الضمني لا يخلو من إشكال. وإم يكون تمسكهم بالروايات الواردة في هذا الباب: منها: ما رواه سليمان بن سالم، قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجل استأجر رجلا بنفقة ودراهم مسماه على أن يبعثه إلى أرض، فلما أن قدم أقبل رجل من أصحابه يدعوه إلى منزله الشهر والشهرين، فيصيب عنده ما يغنيه من نفقة المستأجر، فنظر الاجير إلى ما كان ينفق عليه في الشهر إذا هو لم يدعه فكافى به الذي يدعوه فمن مال من تلك المكافأة؟ أمن مال الاجير، أم من مال المستأجر؟ قال عليه السلام: إن كان في مصلحة المستأجر فهو من ماله، وإلا فهو على الاجير . وعن رجل استأجر رجلا بنفقة مسماه ولم يفسر (وفي التهذيب ولم يعين) شيئ على أن يبعثه إلى أرض أخرى، فما كان من مؤونة الاجير من غسل الثياب والحمام فعلى من؟ قال: على المستأجر 3. وأنت خبير بأن هذه الرواية في كلا السؤالين أجنبية عن محل كلامنا، إذ كلامن
(هامش)
(1) النهاية ص 447، قواعد الأحكام ج 1 ص 225، ارشاد الاذهان ج 1 ص 425 وحكى قول روض الجنان صاحب جواهر الكلام ج 27 ص 328. (2) اللمعة الدمشقية ص 165، كتاب الإجارة المسألة الرابعة. (3) الكافي ج 5 ص 287، باب الإجارة الاجير وما يجب عليه، ح 2، تهذيب الأحكام ج 7 ص 212، ح 933، في الاجارات ح 15، وسائل الشيعة ج 13 ص 250، أبواب أحكام الإجارة، باب 10 ح 1. (*)
فيما إذا لم يكن للنفقة ذكر في متن العقد، لا بنحو الشرط، ولا بنحو كونه عوضا عن عمل الاجير أو جزء عوض عنه، وفي هذه الرواية في السؤال الأول النفقة جزء العوض، لقوله استأجر رجلا بنفقة ودراهم مسماة فمورد السؤال كون مجموع النفقة والدارهم عوضا مجعولا عن العمل، وفي السؤال الثاني جعل النفقة تمام العوض، فأين هذا من مفروض كلامنا وأن لا يكون من النفقة ذكر في متن العقد، ولم تجعل لاتمام العوض ولاجزئه. فالرواية مضافا إلى إعراض المشهور عن العمل بها وضعف سندها أجنبية عن محل بحثن وفرضنا. وأما الإشكال عليها بأن النفقة مختلفة من حيث المقدار وجعلها عوضا من غير تعيين مقدارها ولابد من تعيين العوضين في الإجارة. ففيه: أنها محمولة على المتعارف في حق مثل ذلك الاجير، وهذا نحو تعيين وغير مضر بصحة الإجارة. فرع: صاحب الحمام ل يضمن إلا إذا أودع المال أو اللباس عنده وقبل هو، فحينئذ إذا تعدى أو فرط يكون ضامنا كما هو الشأن في كل وديعة ولا اختصاص له بالمقام. وبعبارة أخرى: للضمان أسباب وليس شيء منها هاهنا إلا اليد، لأنه لا يد له على ماله أو لباسه، ولا الاتلاف، لأنه لم يتلف شيئا منها. ولو ادعاه من دخل في الحمام يجري في حقهما - أي صاحب الحمام وصاحب المال واللباس - قاعدة البينة على المدعي واليمين على من أنكر . مضافا إلى كونه أمينا ولاضمان في يد الامين. ومضافا إلى ورود روايات هاهن:
منها رواية غياث بن إبراهيم عن أبي عبد الله عليه السلام أن أمير المؤمنين عليه السلام أتي بصاحب حمام وضعت عنده الثياب فضاعت فلم يضمنه وقال: إنما هو أمين 1. ومنها: رواية عبد الله بن جعفر في قرب الإسناد عن السندي بن محمد، عن أبي البختري، عن جعفر، عن أبيه، عن علي عليه السلام أنه كان لا يضمن صاحب الحمام وقال: إنم يأخذ الأجر على الدخول إلى الحمام 2. ومنها: رواية إسحاق بن عمار، عن جعفر، عن أبيه أن عليا عليه السلام كان يقول: لا ضمان على صاحب الحمام فيما ذهب من الثياب، لأنه إنما أخذ الجعل على الحمام ولم يأخذ على الثياب 3. ودلالة هذه الروايات على عدم ضمان الحمامي فيما إذا تلف وذهب شيء من ثياب من دخل الحمام أو من ماله واضح، إلا فيما إذا تعدي الحمامي أو فرط في حفظه. فرع: لو آجر الولي صبيا مدة يعلم بلوغه فيها، فهل تبطل بالنسبة إلى المدة التي بعد البلوغ، لان الولي يملك التصرف فيه بالنسبة إلى زمان قبل البلوغ، وأما بالنسبة إلى زمان البلوغ وبعده فلا ولاية له، فلا تنفذ تصرفاته بالنسبة إلى ذلك الزمان، فتكون إجارته بالنسبة إلى ذلك الزمان باطلة؟ الظاهر هو ذلك. ويحتمل أن تكون فضوليا موقوفا على إجازة ذلك الصبي بعد بلوغه وخروجه
(هامش)
(1) تقدم 122، هامش 1. (2) قرب الإسناد ص 152، ح 553، أحاديث متفرقة وسائل الشيعة ج 13 ص 271، أبواب أحكام الاجارات، باب 28 ح 2. (3) تهذيب الأحكام ج 6 ص 869، من باب في الزيادات في القضايا والأحكام، ح 76، وسائل الشيعة ج 13 ص 271 أبواب أحكام الإجارة باب 28 ح 3. (*)
عن الصغر بالنسبة إلى ذلك المقدار الذي وقع في كبره، ويكون كالاجير الذي استأجر عينا سنة وآجرها مدة سنتين، فبالنسبة إلى السنة الثانية التي لا يملك منفعتها تقع الإجارة فضوليا موقوفا على إجازة المالك. وما يقال: من أنه من الممكن أن تكون إجارة الصغير أزيد من مدة صغره من مصالح الصغير، فيجب أن تنفذ مثل هذا التصرف في حقه، خصوصا إذا كان عدمه مفسدة في حقه، مثل أن يكون هناك شخص يطلب كاتبا لمدة عشر سنين - مثلا - بإجارة تكون أجرته فوق ما هو المتعارف في الاجارات من حيث الزيادة والكثرة، والصبي عمره أربع عشر سنين ولم يبلغ، ولكنه محاسب قدير يقدر على تمشي هذا الشغل حسنا وبكمال الجودة، فلو ترك الولي ولم يوجره يعلم بأنه لا يوجد له مثل هذا الشغل فيما بعد، فبأي وجه للولي يجوز ترك ما هو ذوالمصلحة الكثيرة للصبي. وفيه: أن صحة مثل هذه الإجارة وجوازه، بل وجوبه على الولي لا ينافي سلطنة الصبي بعد بلوغه على الإمضاء والرد، فيكون حاله حال سائر المعاملات الفضولية التي تكون من مصلحة المالك ومع ذلك يكون له الاجازة والرد. وصرف كون الشيء ذا مصلحة لا يوجب سلب سلطنة المالك عن ملكه، الإنصاف أن أمثال هذه المعاملات إذا وقعت فيما يرجع إلى التصرف في نفس الصبي بحيث شمل مقدارا من زمان بلوغه، تكون بالنسبة إلى ذلك الزمان فضوليا، فله بعد بلوغه الإمضاء أو الرد. وقياسها على مسألة تزويج الصغيرة أو الصغير انقطاعا، ونفوذه فيما بعد البلوغ باطل، وذلك لان تزويج الصغيرة بالعقد الانقطاعي في مدة أزيد من زمان صغرها ونفوذه عليها حتى في زمان كبرها إذا كان العقد الواقع في حال الصغر من مصلحتها ليس من قبيل الإجارة، لان الإجارة عبارة عن تمليك منافع الصغير في تمام تلك المدة للمستأجر، فإذا فرضنا أن مدة عشر سنين - مثلا - فكأنه تنحل إلى عشر
إجارات، أي في كل سنة تملك منافع تلك السنة، والمفروض أن في بعض هذه السنين ليس له السلطنة على تمليك منافعها، فتكون الإجارة بالنسبة إلى تلك السنة فضوليا. وأما في تزويج الصغيرة ولو انقطاعا في مدة أزيد من مدة صغرها فلا انحلال في البين، بل إيجاد علاقة الزوجية بينهما في وقت له حق إيجاد مثل تلك العلاقة وهي الزوجية، غاية الأمر أن هذه العلاقة الواحدة الانية الحصول على قسمين: مطلقة وتسمى بالعقد الدائم، وموقتة وتسمى بالعقد المنقطع، وليس من قبيل تمليك البضع في كل سنة كي يقال بأنه في بعض هذه السنين - السنين التي بعد بلوغها - ليس للولي هذا الحق. فقياس أحدهم بالآخر باطل، مضافا إلى بطلان أصل القياس، إذ الدليل هناك وارد على صحة عقد الصغيرة من قبل الولي دواما وانقطاعا، ولم يردها دليل على جواز الإجارة في الصغير والصبي أزيد من مدة صغرها. والعمومات لا تشملها، لان عمومات جواز تصرف الولي مخصص بحال الصغر ولا يشمل حال الكبر، فتصرفه فيه بالنسبة إلى زمان كبره غير نافذ، ويكون فضوليا، كما بينا وعرفت. هذا كله بالنسبة إلى تصرف الولي في نفس الصغير، وأم تصرفاته بالنسبة إلى أمواله، فهل يجوز التصرف في حال صغره تصرفا يمتد إلى حال كبره، بأن يكون زمانه أزيد مما بقي من زمان صغره، مثلا بقي من زمان صغره سنتان وهو يوجر أملاكه لمدة أربع سنين لوجود مصلحة له في ذلك، بحيث لو منعنا عن إجارته أزيد من المقدار الذي بقي من صغره يتضرر الصبي، وتفوت منه المصلحة التي يلزم تحصيله. والإشكال الوارد على هذا التصرف هو تجويز تصرف الولي على الصغير في
مال ليس له الولاية عليه، لان المفروض أن له الولاية على أمواله التي له حال صغره، وأما الأموال التي تجددت له في حال كبره فليس له ولاية عليها. كما أنه لو علم بأن هذا الصغير يرث بعد سنتين مالا من قريبه، لا يجوز للولي التصرف في ذلك باعتبار زمان كونه لهذا الصبي، أي باعتبار زمان بعد سنتين الذي يكبر فيه، لأنه الان ليس له. فإن قلنا بأن الصغير الان لا يملك منافع ماله التي توجد وتتجدد بعد سنتين، فليس للولي الان التصرف فيها، لعدم كونها الان ملكا للصبي وإنما تصير ملكا له فيما بعد البلوغ. اللهم إلا أن يقال: أن الصبي الان - أي في حال صغره - يملك منافع ماله التي تتجدد في حال كبره، ولابعد فيه. ويكون هذا هو الفارق بين أمواله وأعماله، بأن يقال: إنه لا يملك الان أعماله التي تصدر عنه في زمان كبره، ويملك الان منافع أمواله التي تتجدد وتوجد في زمان كبره، فبناء على هذا يكون للولي الان الولاية على منافع أمواله التي تتجدد في زمان كبره، لأنها الان ملك الصغير، وللوصي الولاية على أملاك الصغير، وليس له الولاية على أعماله في زمان كبره، لان الصبي لا يملك تلك الأعمال الان وإنما يملكها حال وجودها. وهذا هو السر في الفرق بين أعمال الصبي وأمواله. وعلى هذ يبتني الفرق في تجويز إجارة أمواله أزيد من مدة صغره إذا كان لها مصلحة ملزمة، وعدم جواز إجارة نفسه باعتبار الأعمال المتأخرة عن زمان صغره وكونها في زمان كبره وبلوغه. وأما ما يقال: من أن ملاك جعل الولي للصبي هو أن لا يفوت عليه ما يتعلق بنفسه وبماله من المصالح في صغره، وأما ما يتعلق بماله في زمان كبره فيمكن له
تحصيلها، ولا يفوت عنه بترك جعل الولي، فدائرة الولاية للولي ضيقة لا تشمل الأموال التي له في زمان كبره، لعدم الملاك، فلا ولاية له بالنسبة إلى منافع أمواله في زمان كبره، فتصرفه لا ينفذ بالنسبة إلى منافع زمان كبره، وإن كان ظرف التصرف زمان صغره. ففيه: أن هذه الاستحسانات والظنون لا يصح استناد الحكم الشرعي إليها، ولا يجوز أن تكون مدركا لها، بل لابد وأن يراجع إلى الأدلةالشرعية ومفادها. والدليل الشرعي في المقام هو أنه للولي التصرف في أموال الصغير حال صغره، وقد عرفت أنه يصدق على المنافع التي تتجدد في أموال الصغير حال كبره، أنها أموال الصغير في حال صغره، فيجوز للولي التصرف فيها إن كان فيه مصلحة للصغير. فالإنصاف: أنه فرق بين التصرف في نفس الصغير أزيد من زمان صغره، وبين ماله كذلك، وأن الأول لا يجوز، وأما الثاني فل إشكال فيه ولا مانع عنه. فرع: إذا هلك الاجير الذي يعمل لشخص، أو وقع تلف عضو، أو كسر وأمثال ذلك من أنواع التلف وأقسامه عليه، ولم يكن بتسبيب من المستأجر أو تفريطه وتعديه - كما إذا وقع البناء من مكان مرتفع، أو كان هناك بئر يشتغل فيه فوقع فيه وهلك، أو تلف عضو من أعضائه كما أنه يتفق كثيرا للعمال في هذه المكائن الجديدة من كسر عضو أو قطعة - فلا ضمان على المستأجر. وهذا إذا كان الاجير حرا فواضح، لأنه فعل باختياره من باب الوفاء بالإجارة، ولم يصدر من طرف المستأجر شيء يوجب ضمانه أو الدية عليه، وأما إذا كان عبدا فأيضا ليس عليه شيء، وإن كان للمستأجر يد عليه، لان يده يد أمانة لا توجب الضمان إلا إذا تعدى أو فرط فيه.
وقد تقدم بعض الكلام في مسألة هلاك الدابة لو حمل عليها أزيد من المقدار المتعارف. فرع: إذا دفع سلعته ليعمل له فيها عملا، كما إذا دفع ثوبه للقصار والغسال ليغسله ويبيضه أو يرقعه إذا كان محتاجا إلى التغسيل والتبييض والترقيع، فإن كان هذا شغله، ومن حرفته أن يستأجر لمثل هذه الأعمال فله أجرة المثل، لان هذا العمل - أي إعطاء السلعة للعمل فيها - يكون إجارة معاطاتية، كما أن المتعارف الان في الأسواق في أكثر البلاد أن صاحب النعال والحذاء إذا كان في نعاله أو حذائه خرق يعطي للرقاع ليصلحه بإزاء ما هو المتعارف من أجرته، وكذلك الحال في صباغ الاحذية والاثواب. وقد يكون بصورة الأمر، كما إذا قال للحلاق: احلق رأسي، وكذلك الأمر في سائر أرباب الحرف والصنائع يعطي سلعته لكي يصلحها، مثل الرجوع إلى من يصلح الساعة أو المكائن للطبخ، وكثير من المراجعات إلى أرباب الحرف والصناعات من هذا القبيل، فلاشك في استحقاق العامل أجرة مثل عمله. وأما إذا لم يكن شغله ولا من عادته أخذ الأجرة على مثل هذ العمل، ولكن كان لمثل هذا العمل عند العرف أجرة، وسائر الناس يأخذون الأجرة عليه، فله حق المطالبة وادعاء أنه لم يعمل مجانا، بل قصد أخذ الأجرة. وحيث أن عمل المسلم محترم وهذه الدعوى - أي قصده للأجرة - لا يعلم إلا من قبله وهو أعرف بنيته وم قصده، فتسمع ويجب على صاحب السلعة أو الأمر إعطاء الأجرة. وأما لو لم يكن عند العرف لمثل هذا العمل أجرة، مثل أن يأمر شخصا بأن يؤذن أو يكنس هذا المسجد هذا اليوم فقط، أو يلتمس استيداع شيء عنده لمدة
قليلة، فالعرف في الغالب لا يطلبون لمثل هذه الأمور أجرة. ولكن هذا لا ينافي كونه ذات مالية وإن كان بناء العرف على عدم أخذ الأجرة على مثل هذه الأمور، وأنهم يعملونها مجانا ومن باب الصداقة مع المستودع مثلا، أو طلبا لمرضاة الله جل جلاله وتعالى شأنه. وعلى كل بناء العرف على عدم ماليتها وإن كان في الواقع لها مالية. ففي هذا القسم ظاهر الحال يدل على وقوعها مجانا وعدم قصد الأجرة، فهل يؤخذ بظاهر الحال ويحكم بعدم استحقاق الأجرة، أو يؤخذ بقاعدة احترام مال المسلم وعمله ويحكم باستحقاقه للأجرة إن طالبها، فيجب إعطاؤها له إن طالبها؟ لا يبعد جريان قاعدة الاحترام إن ادعى أنه أتى بالعمل بقصد الأجرة، لأنه أعرف بنيته، وهذه دعوى لا تعرف إلا من قبله، فتكون من الدعاوي المسموعة كما حققناه في باب الدعاوي من كتاب القضاء. فرع: كل ما يتوقف عليه استيفاء المنفعة للمستأجر فهو على المؤجر، سواء كان في إجارة الأموال، أو في إجارة الأجراء. فإذا استأجر دارا مثلا للسكنى فيها، أو دكانا للكسب والتجارة فيه، فتنقية البئرين - أي البالوعة والبئر التي يجري منها الماء في الدار - والقفل والباب في الدكان على المؤجر، كما أن الأدوات التي تستعمل في البناء على المؤجر أي البناء، وذلك من جهة أن المؤجر ملك عمله للمستأجر، ولابد وأن يكون عمله قابلا لان يستوفيه المستأجر، فيجب عليه تسليم العمل، وهو متوقف على الالات والأدوات، فيجب عليه تحصيلها بالاشتراء أو الاستعارة أو غيرهما من وجوه الحلال مقدمة لأداء الواجب، بل وإن كانت غصبا ولكن حينئذ ضمانها وأجرتها على المؤجر. وكذلك الخياط مثل البناء من حيث احتياج عمله إلى الابرة والخيوط، وكذلك الحال
في سائر الأجراء كالملا الذي يجر الماء من البئر لاملاء الحوض أو لجهة أخرى يجب عليه تحصيل الدلو والحبل والبكرة التي يتوقف عليها جر الماء من البئر، وهكذا الأمر في جميع الالات التي يحتاج إليها الأجراء في أعمالهم التي آجروا أنفسهم لانجاز تلك الأعمال. كل ذلك لأجل وجوب تسليم العمل للمستأجر، والمفروض أن التسليم متوقف على هذه الأمور، فتجب مقدمة لما هو الواجب عليهم. نعم لو اشترط المؤجر - سواء كان في إجارة الأعيان أو كان في باب الأجراء - أن ما يتوقف عليه استيفاء المنفعة على المستأجر لا على المؤجر، فالشرط سائغ يجب إنفاذه. وكذلك الحال في الشروط الضمنية التي منها بناء العرف والعادة على كونها على المستأجر. وقد يفصل بين ما كان استيفاء المنفعة متوقفا عليه من الأموال التي تدخل في ملك المستأجر، كالخيوط والقياطين في خياطة بعض الملابس كالعباء والقباء، أو أشياء أخرى في ملابس أخر، فتكون على المستأجر، وبين ما لا يكون كذلك بل صرف آلة للعمل بحيث يكون إنجاز العمل من قبل الاجير متوقفا عليها، كالابر ومكائن الخياطة وأمثالها، فهي على نفس الاجير إلا إذ اشترط الاجير كونها على المستأجر، أو كان من الشروط الضمنية التي عليها بناء العرف والعادة. وهذه البناء يختلف اختلافا كثيرا باختلاف الأمكنة والأزمنة، حتى في زمانن هذا على ما أسمع البطانة أيضا يكون على الخياط الاجير. ثم إنه لا ينبغي أن يشك أن تدارك الضرر الذي يرد على العين المستأجرة من ناحية استيفاء المنفعة إذا لم يكن خارجا عن المتعارف لا يجب على المستأجر، فتنقية البئرين البالوعة وبيت الخلاء ليس على المستأجر بعد تمامية مدة الإجارة إذا لم يكن استعماله لهما خلاف المتعارف، وكذلك حال الاصباغ في المنزل لو زالت
باستعمال الغرف إذا لم يكن الاستعمال خارجا عما هو المتعارف، فليس على المستأجر أن يصبغها صبغا جديدا وإعادتها كما كانت يوم تسلمها. وأمثلة هذا الفرع كثيرة لا يمكن إحصاؤها. والضابط الكلي: هو أن كل نقص يحصل في العين المستأجرة من ناحية الاستعمالات المتعارفة ليس تداركه على المستأجر، لان ورود مثل هذا النقص من لوازم الاستيفاء الذي يملكه المستأجر بعقد الإجارة من قبل المؤجر. فرع: لو تلف الاجير حال العمل للمستأجر، أو وقع التلف على عضو من أعضائه حال الاشتغال بالعمل بسبب العمل أو بسبب غيره، فهل يضمن المستأجر التلف أو النقص لو كان الاجير عبدا، أو الدية لو كان حرا، أم لا يضمن أصلا؟ الظاهر عدم الضمان مطلقا، سواء كان حرا أو عبدا. أما الأول: فلعدم موجب للضمان، لا اليد، لان الحر البالغ العاقل لا يقع تحت اليد كما هو المسلم عندهم، ولا الاتلاف، لأنه لاإتلاف في البين أولا بل التلف وقع عليه أولا بفعله الاختياري، وثانيا تلف الحر لا يوجب الضمان، لا المثل ولا القيمة، وإنما عين الشارع لتلفه القصاص إذا كان بفعل فاعل مختار أو الدية، وأما إذا كان بفعل نفسه بدون مباشرة للغير أو كونه سببا فلا شيء في البين أصلا. وأما الثاني: أي لو كان الاجير عبدا فحاله حال سائر الأعيان المستأجرة أنه يضمن مع التعدي والتفريط، وإلا فيده يد الأمانة المالكية ولاضمان عليه. وقد تقدم هذا المطلب في بعض الفروع السابقة، وقد استوفينا الكلام فيه فراجع.
فرع: كل ما كان بعد وقوع عقد الإجارة في ذمة الاجير من عمل كلي، أو كان في ذمة المؤجر من العوض نقدا أو عروضا ومتاعا كليا، فكل واحد منهما المالك لذلك الكلي في ذمة الآخر إبراء ذمته، فيسقط عن ذمته وتصير ذمته غير مشغولة كأن لم يكن. والسر في ذلك: أن الكلي في الذمة إما أن يكون اعتبارا عقلائيا أمضاه الشارع، وإما أن يكون من أول الأمر اعتبارا شرعيا. وعلى كل حال هذا الأمر الاعتباري اعتبر لرعاية ذلك الطرف الآخر ويكون زمامه بيده، فإذا أسقطه يسقط. لا يقال: إن ملكية ما في ذمة أحدهم للآخر حكم شرعي ليس قابلا للاسقاط، وذلك لان الإسقاط يتعلق بما هو موضوع للحكم الشرعي لابنفس الحكم. وبعبارة أخرى: الموجود في ذمة كل واحد منهما للآخر أمر اعتباري مثل الحق، وذلك الأمر الاعتباري موضوع للملكية وقابلا للاسقاط، فقهر بذهابه يذهب الحكم، لعدم موضوعه. وذلك مثل أنه لو كان له مملوك في الخارج، فإذ انعدم ذلك المملوك فبانعدامه تنعدم الملكية المتعلقة به، إلا يلزم بقاء أحد المتضايفين بدون الآخر وهو محال. فرع: يجوز الإجارة لحفظ المتاع أو الدار أو البستان أو غير ذلك، ويسمى في عرف هذا الزمان ذلك الاجير بالناطور. ولا إشكال في ذلك، لأنه عمل مباح له منفعة مباحة للمستأجر، وهي حفظ ماله عن السرقة أو التلف، فيجوز للاجير تمليكه للمستأجر بعوض معلوم. وفيه رواية عن الصفار عن مولانا العسكري، قال: إنه كتب إلى أبي محمد الحسن بن علي عليه السلام: رجل يبذرق القوافل من غير أمر السلطان في موضع مخيف يشارطونه على شيء مسمى، أله أن يأخذ منهم أم لا؟ فوقع عليه السلام: إذا واجر نفسه
بشيء معروف أخذ حقه إن شاء الله 1. نعم يجب أن يكون عمل الناطور معينا من حيث المدة والكيفية، لرفع الغرر. وهل يجوز اشتراط الضمان عليه لو تلف أو سرق ما استوجر على حفظه من التلف والسرقة أم لا؟ فيه كلام وهو أنه مقتضى كون يده يد أمانة عدم الضمان إلا مع التعدي والتفريط، وبهما تخرج عن كونها أمانية، فشرط الضمان مخالف للكتاب فلا ينفذ بدون التعدي والتفريط. ومقتضى بعض الروايات كرواية إسحاق بن عمار 2 نفوذ الشرط. ولكن يمكن أن يكون المراد من نفوذ هذا الشرط هو أن يكون من قبيل شرط الفعل لا شرط النتيجة، بمعنى أن يكون تدارك خسارة المستأجر من مال نفسه، فليس مخالفا للكتاب، لان المخالف للكتاب هو ضمانه واشتغال ذمته، وأما تدارك خسارة المستأجر من ماله فحلال وجائز. بل ربما يكون من الأمور الراجحة عقلا وشرعا، لأنه إحسان إلى أخيه المؤمن، غاية الأمر هذا الأمر الجائز فعله وتركه يلزم ويجب عليه بالشرط، لقوله صلى الله عليه وآله: المؤمنون عند شروطهم 3.
(هامش)
(1) الفقيه ج 3 ص 173 ح 3653، المكاسب والفوائد والصناعات ح 88 تهذيب الأحكام ج 6، ص 385 ح 1141، في المكاسب ح 262، وسائل الشيعة ج 13 ص 254، أبواب أحكام الإجارة، باب 14 ح 1. (2) تهذيب الأحكام ج 7 ص 467 ح 1872 في الزيادات في فقه النكاح، ح 80، وسائل الشيعة ج 12، ص 353 كتاب التجارة أبواب الخيار باب 6 ح 5. (3) تقدم ص 18، هامش 4. (*)
في التنازع وفيه فروع: [ الفرع ] الأول: لو تنازعا في أصل وقوع الإجارة فالقول قول منكرها، سواء كان هو المالك أو طرفه، لمطابقة قوله للحجية الفعلية، وهي أصالة عدم وقوعها. وقد حقق في باب تشخيص المدعي والمنكر أن المناط في كونه منكرا مطابقة قوله للحجية الفعلية، كما أن المناط في كونه مدعيا مخالفة قوله لها، وبعد تشخيصهم يدخلان تحت القاعدة المعروفة المسلمة البينة على المدعي، واليمين على من أنكر . هذا إذا كان قبل استيفاء المنفعة، فبعد إن لم تكن لمدعي الإجارة بينة وحلف المنكر، فالعين التي يدعي إجارتها مع منافعها لمالكها ويختم النزاع. وأما لو كان بعد استيفاء المنفعة فحيث أن مع بطلان الإجارة يستحق المالك أجرة المثل فلا يخلو الأمر من أحد ثلاث: إما يكون المسمى المدعى مساويا لأجرة المثل، أو أقل، أو أكثر. فإن كان مساويا فلا يبقى نزاع في البين، وإن كان أقل فالاغلب حينئذ أن يكون المالك هو الذي يدعي البطلان لكي يأخذ أجرة المثل الذي هو أكثر، فيؤول النزاع إلى أن المالك يطالب الزيادة على المسمى، والأصل عدمها، فيكون طرف المالك هو المنكر، لاصالة عدم الزيادة. وإن كان أكثر فالاغلب أن يكون المدعي للبطلان هو طرف المالك لكي لا يعطي المسمى الذي يزيد على أجرة المثل، فيكون هو المنكر، لاصالة عدم استحقاق المالك أزيد من أجرة المثل، فيحلف على عدم وقوع الإجارة ويعطى أجرة المثل الذي هو الاقل. وهذ الذي ذكرنا من تقديم قول منكر الإجارة مضافا إلى أنه مقتضى قواعد باب القضاء، ادعو عليه الإجماع.
ولو كان نزاعهما في قدر العين المستأجرة، فادعى أحدهما أنه تمام الدار مثلا، والآخر أنه نصف الدار، فالظاهر أيضا أن القول قول منكر الزيادة، لعين ما ذكرنا فيما إذ كان التنازع في أصل الإجارة، وهو أصالة عدم وقوع العقد على الزيادة. ولافرق في أن تكون الزيادة المدعاة في المنفعة التي يملكها المؤجر للمستأجر - كما إذا ادعى المستأجر أنها سكنى تمام الدار، والمالك يدعي أنها سكنى نصف الدار مثلا، أو يدعي زيادة المدة كسنة، والمالك لا يعترف بأزيد من ستة أشهر مثلا - أو تكون في جانب الأجرة - كما أنه لو ادعى المالك أن الأجرة في السنة مائة وخمسين دينارا، والمستأجر يدعي أنها مائة دينار - لاتحاد المناط في الجميع، وهو أصالة عدم الزيادة على م يعترف الطرف في جميع صور المسألة. وأما القول بأنه في بعض صور المسألة يكون من باب التحالف لوجود دعوى من كل واحد منهما مع إنكار الآخر، فأحدهما يدعي أن الإجارة وقعت على مائة وخمسين دينارا مثلا وينكر الآخر، والثاني يدعي وقوعها على مائة مثلا وينكر الآخر، فتكون دعويان وإنكاران، فقهرا يكون المورد من موارد التحالف، فيحلف أحدهم على نفي الزيادة، والآخر على إثبات الزيادة. وفيه: أن مدعي الزيادة ليس بمنكر كي يكون وظيفته الحلف، بل هو مدع ووظيفته البينة، فإذا لم تكن له بينة فيكون الحلف لطرفه على نفي الزيادة، فليس في البين إلا منكر واحد وهو منكر الزيادة. وليست المسألة من باب التحالف، لاتفاقهما على مقدار الاقل، والخلاف والنزاع إنما هو في الزيادة فقط. ومعلوم أن منكر الزيادة قوله مطابق للاصل، فهو المنكر وعليه اليمين ل على طرفه، بل على طرفه البينة لا غير. وأما القول بعدم الاتفاق على الاقل بشرط لا، لان مدعي الزيادة ينكر الوقوع على الاقل بشرط لا، وهو مباين مع الأكثر.
ففيه: أنه كلام شعري، لان قوله صلى الله عليه وآله البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه 1 يؤخذ بمفهومه العرفي، ولاشك في أن مثل هذه الموارد العرف يفهم أن من يدعي الزيادة مدع وطرفه الذي ينكر الزيادة منكر. الفرع الثاني: لو تنازع واختلفا في رد العين المستأجرة، فالقول قول المالك، لاصالة عدم ردها. وكونها بيد المستأجر أمانة مالكية لا يثبت أزيد من أن تلفها بيده لا يوجب الضمان، أي ضمان اليد، لان ضمان اليد وكونها مشمولة لقاعدة وعلى اليد ما أخذت مخصوص باليد غير المأذونة، وأما المأذونة والامانية فخارجة عن هذه القاعدة إما تخصيصا أو تخصصا على القولين في القاعدة، فقبول قوله في الرد يحتاج إلى دليل مفقود في المقام، فلابد من إجراء قواعد باب القضاء وتشخيص المدعي أو المنكر. وحيث أنه في هذا المقام قول المالك ودعواه عدم الرد مطابق للحجة الفعلية - أي أصالة عدم ردها - فيكون هو المنكر وعليه اليمين، وعلى المستأجر البينة. وأما قوله عليه السلام لا تتهم من ائتمنته 2 أي بالتعدي والتفريط، لا أنه يجب قبول قوله في دعوى الرد. وأما قبول دعوى الرد في الوديعة فلدليل خاص وأنه محسن و (ما على المحسنين من سبيل) 3. وبعبارة أخرى: الودعي يحفظ المال لمصلحة المودع،
(هامش)
(1) الكافي ج 7 ص 415، باب ان البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، ح 1 تهذيب الأحكام ج 6 ص 229 ح 553، باب كيفية الحكم والقضاء، ح 4 وسائل الشيعة ج 18، ص 170، أبواب كيفية الحكم، باب 3 ح 1 و 2. (2) قرب الإسناد ص 72، ح 231، أحاديث متفرقة، وسائل الشيعة ج 13 ص 229، كتاب الوديعة، في أحكام الوديعة، باب 4، ح 9. (3) التوبة 9: 91. (*)
وليس عمله إلا محض الإحسان، وأما المستأجر وإن كان مأذونا من قبل المالك في كون المال في يده ولكن لمصلحة نفسه لا لمصلحة المالك، فليس إحسان في البين، بل معاملة ومعاوضة أقدم كل واحد من الطرفين لمصلحة نفسه. الفرع الثالث: لو تنازعا - أي المؤجر والمستأجر - في هلاك المتاع الذي في يد الاجير الذي آجر نفسه لحمل المتاع، كما إذ كان الاجير ملاحا أو كان مكاريا أو قصارا جمالا أو غير ذلك، وأنكر المالك أصل الهلاك ويزعم البقاء ويتهم الاجير، فاختلف الفقهاء في أنه هل يقدم قول المالك، لمطابقة قوله لاصالة عدم التلف وعدم الهلاك، أو يقدم قولهم، لأنهم أمناء وليس على الامين إلا اليمين؟ فقال جماعة كالمفيد 1 والسيد 2 وثاني الشهيدين في المسالك 3 بأنهم يكلفون بالبينة ومع فقدها يضمنون، وقال الآخرون يقبل قولهم مع اليمين، لأنهم أمناء، وما على الامين إلا اليمين. والأقوال والروايات في المسألة مختلفة، وهو السبب في اختلاف الأقوال. أما الأخبار التي تدل على تضمينهم: فمنها: خبر أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام في الجمال يكسر الذي يحمل أو يهريقه. فقال: إن كان مأمونا فليس عليه شيء، وإن كان غير مأمون فهو ضامن 4. ومنها: خبر عثمان بن زياد، عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت: إن حمالا لنا يحمل
(هامش)
(1) المقنعة ص 643. (2) الانتصار ص 225. (3) مسالك الإفهام ج 1 ص 263. (4) تقدم ص 156، هامش (1). (*)
فكاريناه، فحمل على غيره فضاع، قال: ضمنه وخذ منه 1. ومنها: خبر السكوني عن جعفر، عن أبيه، عن علي عليه السلام قال: إذا استبرك البعير بحمله فقد ضمن صاحبه 2. ومنها خبر حسن بن صالح، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا استقل البعير أو الدابة بحملها فصاحبها ضامن 3. والإنصاف: أن هذه الروايات أجنبية عن محل كلامنا، لان محل كلامنا هو ادعاء الاجير تلف المال مع إنكار المالك ودعواه البقاء وعدم التلف. نعم هذه الروايات تدل على عدم قبول قولهم في عدم التعدي والتفريط، بل يحكم بتفريطهم إلا أن يأتوا بالبينة على التلف وأنهم لم يفرطوا. نعم هاهنا روايات أخر ربما تدل على عدم قبول قولهم دعوى التلف والهلاك إلا بالبينة: منها: رواية الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام في الغسال والصباغ: ما سرق منهما من شيء، فلم يخرج منه على أمر بين أنه قد سرق وكل قليل له أو كثير فهو ضامن، فإن فعل فليس عليه شيء، وإن لم يفعل ولم يقم البينة وزعم أنه قد ذهب الذي ادعى عليه فقد ضمنه إن لم يكن له بينة على قوله 4. ومنها: رواية أبي بصير عن الصادق عليه السلام: لا يضمن الصائغ ولا القصار ولا
(هامش)
(1) الفقيه ج 3 ص 256، ح 3926، باب ضمان من حمل شيئا فادعى ذهابه ح 7، تهذيب الأحكام ج 7، ص 221، ح 969، في الاجارات، ح 51، وسائل الشيعة ج 13 ص 278، أبواب أحكام الإجارة، باب 30، ح 8. (2) تهذيب الأحكام ج 7 ص 222، ح 971، في الاجارات، ح 53، وسائل الشيعة ج 13 ص 278، أبواب أحكام الاجاراة باب 30 ح 9. (3) تهذيب الأحكام ج 7 ص 222 ح 972 في الاجارات ح 54، وسائل الشيعة ج 13 ص 279، أبواب أحكام الإجارة، باب 30 ح 10. (4) تقدم ص 155، هامش 3. (*)
الحائك إلا أن يكونوا متهمين فيخوف بالبينة والتحليف، لعله يستخرج منه شيء 1. ومنها: خبر أبي بصير عنه عليه السلام أيضا: سألته عن قصار دفعت إليه ثوبا، فزعم أنه سرق من بين متاعه. فقال عليه السلام: عليه أن يقيم البينة أنه سرق من بين متاعه وليس عليه شيء، فإن سرق متاعه فليس عليه شيء 2. أقول: لاشك في أن هذه الأخبار متعارضة، لان طائفة منها تنفي الضمان عن المذكورين، وأخرى تثبت إلا أن يأتي بالبينة على التلف من دون تعد ولا تفريط. ومقتضى قواعد باب القضاء هو طلب البينة على التلف إن لم يصدقهم المالك، وأما لو صدقهم في التلف وادعى عليهم التعدي والتفريط فمقتضى قواعد أبواب الامانات هو عدم اتهامهم بذلك وقبول قولهم مع اليمين، فيمكن الجمع بين الطائفتين بحمل ما مفادها الضمان إلا أن يأتوا بالبينة، على دعواهم التلف وحمل م مفادها عدم ضمانهم على دعوى المالك عليهم التعدي أو التفريط. ويمكن أيضا أن يجمع بين الطائفتين بحمل احديهما على مورد اتهامهم وعدم كونهم مأمونين عنده، كما هو صريح جملة من أخبار الباب، وهي الطائفة التي مفادها ضمانهم إلا أن يأتوا بالبينة على التلف بدون تعد أو تفريط، وحمل الطائفة الآخرى - أي النافية للضمان عنهم - على كونهم مأمونين عنده، فالقول قولهم مع الحلف ولا يكونون ضامنين مع الحلف. وأما لو أتوا بالبينة فيرتفع الضمان عنهم أم لا؟ مبني على أن الميزان للمنكر هو خصوص الحلف بحيث لو أتى بالبينة على نفي ما يدعيه المدعي لا أثر لها، أو
(هامش)
(1) الفقيه ج 3 ص 257، ح 3928، باب ضمان من حمل شيئا فادعى ذهابه ح 9، تهذيب الأحكام ج 7، ص 218، ح 951، في الاجارات، ح 33، وسائل الشيعة ج 13 ص 274، أبواب أحكام الإجارة، باب 29، ح 11. (2) الكافي ج 5 ص 242، باب ضمان الصناع، ح 4، الفقيه ج 3 ص 256، ح 3925، باب ضمان من حمل شيئا فادعى ذهابه، ح 6، تهذيب الأحكام ج 7 ص 218 ح 953، في الاجارات، ح 35، وسائل الشيعة ج 13 ص 272، أبواب أحكام الإجارة، باب 29 ح 5. (*)
تعيين الحلف لكونه ميزانا له من باب أخف الميزانين تسهيلا ومن باب مراعاته، لكون قوله مطابقا للحجة الفعلية. فعلى الأول لا أثر لبينته، وعلى الثاني يثبت قوله مع البينة بطريق أولى. والظاهر هو أن الحق هو الثاني وأن جعل الحلف ميزانا للمنكر لأجل التأكيد من البراءة، وعدم اشتغال ذمته بما يدعيه المدعى عليه، وإلا فالحجة الفعلية التي كان قوله مطابقا معها كانت كافية في براءة ذمته، وحصول التأكيد بالبينة أقوى، لان كثيرا من الناس في مقام جلب النفع أو دفع الخسارة لايحتزرون عن الحلف الكاذب. الفرع الرابع: قال في الشرائع: لو قطع الخياط قباء، فقال المالك: أمرتك بقطعه قميصا، فالقول قول المالك مع يمينه. وقيل: القول قول الخياط، والأول أشبه. 1 أقول: وجه كون القول قول المالك في إنكاره الأمر أو الإذن بقطعه قباء هو أصالة عدم الأمر أو الإذن بقطعه قباء، فيكون المالك منكرا في دعوى الخياط إن قطعه بأمر المالك أو إذنه، فعليه اليمين. ولا يستحق الخياط أجرة بل عليه أرش قيمة الثوب لو حصل فيه أرش. وليس له نقضه إن كانت الخيوط التي خاط بها القباء لمالك الثوب إلا بإذنه، وأما لو كانت الخيوط له فالظاهر أن له استخلاص ماله وجره من القباء، مع ضمانه للنقص الحاصل في الثوب من ناحية جر الخيوط، فالخياط ضامن لحصول كلا النقصين وللارش الحاصل بسببهما في الثوب، أي النقص الحاصل بسبب الفصل والخياطة، والنقص الحاصل بسبب النقص وجر الخيوط إن حصل نقص من ناحيه الخياطة أو من ناحية النقض. هذا بالنسبة إلى دعوى الخياط صدور الإذن أو الأمر من طرف المالك بقطعه
(هامش)
(1) شرائع الإسلام ج 2 ص 189. (*)
قباء، وأما بالنسبة إلى دعوى المالك أمره أو إذنه بقطعه قميصا فلا أثر له، لان الخياط لم يفعل شيئا ولم يعمل عملا كي يكون مستحقا للأجرة، والأمر بعمل مع عدم المأمور ذلك العمل لا يوجب حقا للمأمور. نعم لو كان النزاع في تعلق عقد الإجارة بعد الاتفاق على وقوعه بقطعه قباء كما يدعيه الخياط، أو بقطعه قميصا كما يدعيه المالك، فيكون لكلتا الدعويين أثر، وتكون المسألة من باب التداعي كما حكي عن الاردبيلي قدس سره 1، وذلك لان من يدعي وقوع عقد الإجارة على قطعه قميصا - وهو المستأجر المالك للثوب - يدعي كونه مالكا في ذمة الاجير - أي الخياط - صنع الثوب قميصا بإزاء عوض معين، والخياط ينكر ذلك، وقوله مطابق مع أصالة عدم ما يدعيه المالك المستأجر، فيكون منكرا وعليه الحلف، والمالك مكلف بإتيان البينة على ما يدعيه. ومن يدعي وقوع عقد الإجارة على قطعه قباء يدعي أجرة خياطة القباء على المالك، وهو ينكر ذلك، وقوله مطابق للاصل، أي أصالة عدم اشتغال ذمته للخياط بما يدعيه من استحقاق الأجرة. وأم اصالة عدم وقوع العقد على ما يدعيه كل واحد منهما فيتساقطان بالمعارضة بعد الفراغ عن العلم إجمالا بوقوع أحدهما، وإلا فلا مانع من جريان كليهما. والله العالم بحقائق الأمور.
(هامش)
(1) مجمع الفائدة والبرهان ج 10 ص 84 و 85. (*)