49 - قاعدة أصالة اللزوم في العقود
قاعدة اصالة اللزوم في العقود * ومن جملة القواعد الفقهية قاعدة أصالة اللزوم في العقود في أبواب المعاملات والمعاهدات عن الشك في لزوم معاملة أو معاهدة، وفيها جهات من البحث. الاولى في شرح معناها والمراد منها فنقول: إن المراد من الاصل في قولهم أصالة اللزوم، يحتمل أن يكون القاعدة الاولية المستفادة من بناء العقلاء في معاملاتهم ومعاهداتهم، كما سيأتي تفصيله في الجهة الثانية التي رسمت لبيان الادلة الدالة على إثبات هذه القاعدة واعتبارها عند الشك في لزوم معاملة أو معاهدة، وبعبارة اخرى في الشك في لزوم عقد من العقود. ويحتمل أن يكون المراد منه ما هو مقتضى الادلة الشرعية التي تدل على لزوم جميع العقود والمعاهدات إلا ما خرج بالدليل تخصيصا كقوله تعالى أوفوا
(هامش)
. القواعد والفوائد ج 2، ص 242، الحق المبين ص 68، خزائن الاحكام ش 3، دلائل السداد و قواعد فقه واجتهاد ص 32، مجموعة قواعد فقه ص 174، القواعد ص 251، قواعد فقه ج 2، ص 136، قواعد الفقه ص 27، قواعد فقهى ص 273، قواعد فقهية ص 241، القواعد الفقهية (مكارم الشيرازي) ج 4، ص 319، اصل صحت واصل لزوم احمد شهيدي، ماجستير، جامعة الشهيد بهشتي، 1359. (*)
بالعقود (1) وسائر الايات والروايات الواردة في هذا الباب ويحتمل أن يكون المراد منها الاستصحاب وسيأتي في شرح جميع هذه الامور مفصلا إنشاء الله تعالى. والمراد من اللزوم هو عدم جواز حل العقد من أحد الطرفين بدون رضاية الطرف الاخر بل عدم إمكانه في عالم التشريع، فكما أن بعض العقد في عالم التكوين لا يمكن حله لشدة إبرامه وإحكامه كذلك العقود والعهود في عالم التشريع ليست قابلة للحل لاعتبار الشارع إبرامها وإتقانها بحيث لا يمكن حلها من طرف واحد، بدون رضاية الطرف الآخر، بل وفي بعض العقود يكون اعتبار ابرامها واتقانها بنحو لا يمكن حلها وإن كان برضاية الطرفين كالنكاح وكل عقد لا يتطرق فيه الاقالة شرعا وسيأتي بيان ذلك إنشاء الله تعالى. ثم إن اللزوم على قسمين: لزوم حقي ولزوم حكمي، واللزوم الحقي عبارة عن ملكية أحدهما التزام الآخر أو كل واحد منهما التزام طرفه، وفي الاول يكون اللزوم من طرف واحد، وفي الثاني يكون اللزوم من الطرفين، وكذلك الجواز حقي وحكمي والجواز الحقي هو أن يكون مالكا لالتزام نفسه ولا يكون التزامه ملكا لطرفه. فإذا كان كل واحد من المتعاقدين مالكا لالتزام نفسه فهذا جواز حقي من الطرفين، وإذا كان أحدهما فقط مالكا لالتزام نفسه دون الآخر، فهذا يكون جوازا حقيا من طرف واحد. بيان ذلك أن في باب العقود مدلول مطابقي للعقد وهو مضمونه، أي الذي ينشئه المتعاقدان من تبديل مال بمال أو غير ذلك من المضامين الكثيرة التي تنشأ بالعقود، ومدلول التزامي وهو التزام كل واحد منهما للاخر بما أنشآه بمعنى أنه يتعهد ويلتزم بالعمل على طبق ما أنشآ وأن لا يتخلف وأن لا ينقض تعهده.
(هامش)
1. المائدة (5): 1. (*)
وبهذا الاعتبار يطلقون على من تخلف عن تعهده في باب عقد البيعة مثلا بأنه ناقض للبيع ولعهده، وهكذا يكون الامر في جميع أبواب المعاملات والعهود والعقود العهدية دون الاذنية، وسيأتي الفرق بين العقود العهدية والاذنية انشاء الله تعالى. واما دلالة العقود والعهود عليه هذه الدلالة الالتزامية فمن باب بناء العقلاء إذ بنائهم على أنه لو أنشأوا هذه المعاملة باللفظ المتعارف عندهم لانشائها يكون لكل واحد من الطرفين اي الموجب والقابل التزام وتعهد بالبقاء عند هذه المعاوضة أو اي شيء آخر كان مضمون هذا العقد وعدم الرجوع عنه. وهذا المعنى غير صرف الاخذ والاعطاء كما هو كذلك في باب المعاطاة، ففي باب المعاطاة ليس في البين ما يدل على تعهد والتزام من الطرفين بل مجرد معاوضة بأن يعطي بدل ما يأخذ أو ياخذ عوض ما يعطى أو بدله. وذلك من جهة أنه ليس في المعاطاة غير الاخذ والعطاء الخارجي شيء آخر يكون دالا على انهما ملتزمان بالبقاء والوفاء بهذه المبادلة ولا يرجعان عنها، ولذلك قلنا إن المعاطاة ليس بعقد، إذ العقد هو العهد المؤكد لغة وعرفا، وليس في المعاطاة في مقام الاثبات ما يدل على هذا المعنى ويكشف عنه، وصرف الاخذ والاعطاء خارجا كل واحد عوضا وبدلا عن الآخر، لا يدل على ازيد من نفس المبادلة والمعاوضة. نعم قد يدل على هذا المعنى فعل من الافعال غير اللفظ كوضع أحدهما يده في يد الآخر أو ضرب أحدهما يده على يد الآخر، ومن هذه الجهة وبهذا الاعتبار يعبرون عن البيع بصفقة اليمين، وقد قال صلى الله عليه وآله في قضية عروة البارقي بارك الله لك في صفقة يمينك. (1)
(هامش)
1. عوالي اللئالي ج 3، ص 205، ح 26، مستدرك الوسائل ج 13، ص 245، أبواب عقد البيع وشروطه، باب 18، ح 1. (*)
وقد يكون الخط والامضاء دليلا على هذا كما أنه يقال إن العقود التي تقع بين الدول في معاملاتهم تتم بامضاء من خول إليه الامر من كل واحد من الطرفين وكذلك يقال إن في عقد النكاح يكون وقوعه وإتمامه بامضاء الطرفين. وعلى كل حال ليس صرف العمل بمضمون العقد عقدا ما لم يكن دالا على هذا الالتزام، من لفظ ينشأ به هذا المضمون، أو فعل يدل على البقاء والالتزام بعدم الرجوع عنه كوضع اليد في يد الاخر كما كان في باب البيعة أو ضرب اليد على يد الطرف الآخر كما في بعض أبواب المعاملات، أو خط أو إمضاء كما ذكرناه. إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنهم قسموا العقود على قسمين: عقود إذنية وعقود عهدية، وما ذكرنا من دلالة العقد بالدلالة الالتزامية على الالتزام بالوفاء بمضمون العقد والبقاء عنده وعدم الرجوع عنه في العقود العهدية ودون الاذنية إذ العقود العهدية عبارة عن العهد المؤكد، وأما العقود الاذنية فهي عبارة عن مجرد إذن أحدهما للاخر في امر من الامور كالوكالة والعارية وأمثالهما، وإنما عبر عنها بالعقد، لوقوع الاذن بصورة الايجاب ورضا الطرف بهذا الامر بصورة القبول، فيكون عقدا شكليا لا عقدا واقعيا، ولذلك يكون إطلاق العقد عليها اطلاقا مجازيا لا حقيقيا. فليس التزام من احدهما بالوفاء والبقاء عند هذه المعاوضة والمبادلة في البين وقوامها بالاذن فقط فإذا فسخ وارتفع الاذن فلا يبقى شيء في البين، كي يقال يجب الوفاء به والبقاء عنده، فخروج هذه العقود من أصالة اللزوم أو من قوله تعالى أوفوا بالعقود بالتخصص لا بالتخصيص كي يقال بأنه يلزم في الآية أو ذلك الاصل تخصيص الاكثر، وأما العقود العهدية فيشملها أصالة اللزم وكذلك أوفوا بالعقود يشمل كلها. وفرق شيخنا الاعظم قدس سره (1) في العقود العهدية بين التعليقية والتنجيزية، فاستشكل
(هامش)
1. المكاسب ص 85. (*)
في اللزوم في مثل السبق والرماية والجعالة، بناء على أن يكون مدرك اللزوم هو استصحاب أثر العقد، ففي العقود التعليقية لو فسخ الطرف قبل حصول المعلق عليه ليس أثر كي يستصحب بعد فسخ من عليه أداء الجعل في الجعالة، ومن عليه السبق في السبق والرماية، بناء على ما زعم من أن قبل حصول السبق في السبق والرماية، وكذلك قبل رد الضالة في الجعالة لا يستحق السبق ولا الجعل ولا يملك شيئا فليس شيء في البين كي يستصحبه بعد الفسخ. وسنتكلم إنشاء الله في هذا الامر حين تكلمنا في ان أحد الادلة على قاعدة اللزوم وعدم تأثير الفسخ هو الاستصحاب، ونبين ما هو الحق في هذا المقام. وخلاصة الكلام كما سنذكره إنشاء الله تعالى أنه لا فرق بين العقود العهدية التنجيزية والتعليقية في أن مقتضى الاصل وإن كان المراد من الاصل هو الاستصحاب هو اللزوم وعدم تأثير الفسخ. الجهة الثانية في بيان الادلة التي تدل على أن مقتضى الاصل الاولى في كل عقد هو اللزوم، وعدم نفوذ الفسخ من كل واحد من طرفي المتعاقدين، فنقول: الاول هو بناء العقلاء في عهودهم وعقودهم على لزوم الوفاء والبقاء عند التزامه بحيث لو رفع اليد عما التزم من عقده وعهده، يرونه ناقضا لالتزامه وتعهده، ويذمونه على ذلك، والشارع لم يردعهم عن هذه الطريقة، بل ألزمهم بذلك كما سنذكره إنشاء الله. والحاصل أن مخالفة الالتزامات وعدم الاعتناء بعقده وعهده عندهم من أكبر المعائب وأخس الصفات وأرذلها، إلا أن يجعل أحدهما لنفسه حق رفع اليد عن التزامه أو كل واحد منهما يجعل لنفسه من اول الامر ذلك في ضمن العقد، وهذا
يسمى بخيار الشرط لاحد الطرفين أو كليهما وهذا يرجع في الحقيقة إلى عدم التزامه المطلق وعلى كل حال، بل التزام على تقدير دون تقدير. وبعبارة اخرى بعد ما عرفت أن العقود المنشأة بانشاء لفظي لها دلالتان: احداهما مطابقة، والاخرى التزاما، والثاني التزامه للآخر بالبقاء عندما أنشأه بالمطابقة وعدم العدول عنه، فالعدول والرجوع عما التزم به خلف ونقض وهذا قبيح وإن شئت قلت إن التزامه لطرفه تمليك له، فهذا الالتزام في اعتبار العقلاء يكون ملكا لطرفه وذلك بتمليكه إياه، فكما لو وهب مالا لغيره ليس له الرجوع إليه عند العقلاء خصوصا بعد تصرف الموهوب له فيه وإتلافه، ليس له أن يضمنه، ويكون خارجا عن قاعدة الاتلاف تخصصا لا تخصيصا، فكذلك بعد ما التزم له بالوفاء، العقلاء يعتبرون للملتزم له حق الالزام له بالوفاء بما التزم به. نعم الملتزم له، لو رفع اليد عن حقه باسقاطه فلا يكون بعد ذلك ملزما بالعمل بالتزامه، ويجوز له حل عقده وعهده، وليس ذلك حينئذ خلف ونقض لعهده، ومرجع الاقالة إلى هذا الذي ذكرنا. فمعنى قول الملتزم للملتزم له أقلني أي ارفع اليد عن حقك الذي كان عبارة عن أنه كان لك إلزامي بالعمل بمقتضى هذا العقد ومضمونه، فإذا كان اللزوم والاقالة من الطرفين فقهرا يرتفع اللزوم من البين، فكأنه بالنسبة إلى لزوم الوفاء لكل واحد منهما لم يكن عقد وعهد في البين، ولعل هذا معنى انحلال العقد بالاقالة، ولعل من هذه الجهة قالوا إن انحلال العقد بالاقالة وارتفاع اللزوم من البين يكون على القاعدة ولا يحتاج صحة تأثيرها على وجود دليل في البين. وخلاصة الكلام أنه لا يمكن إنكار أن بناء العقلاء في جميع الاعصار والامصار على لزوم العمل بعقودهم وعهودهم وعدم قدرة الملتزم بمعاهدة وتعاقد وإن كان التزامه بدلالة التزامية لالفاظ العقود والمعاهدات على رفع اليد عن التزامه، وحل
عقده وعهده. وأما ما توهم من أن العقد أمر وحداني وجوده قائم بطرفين، ولا يمكن إيجاده من طرف شخص واحد لان العقد عبارة عن العقدة الحاصلة بين حبلي عهد كل واحد من الطرفين، فكان تعهد كل واحد من الطرفين بمضمون العقد حبل منه في عالم الاعتبار، فهناك حبلان أحدهما من طرف الموجب والآخر من طرف القابل، والعقد عبارة عن تعقيد رأس الحبلين كل واحد بالاخر. فالعقدة التي تحصل بين رأسي الحبلين في عالم الاعتبار هو المسمى بالعقد، وهذه العقد وحداني ولكن قائم بالطرفين، ولا يمكن أن يحصل بفعل واحد كما هو واضح لانها نتيجة فعلين فكذلك كل واحد منهما منفردا لا يقدر على حل تلك العقدة، وذلك لان هذه العقدة فعله وفعل غيره. فكما أن في عالم الايجاد لم يكن له إيجادها وحده، فكذلك في عالم حل تلك العقدة ليس له وحده حلها، ومعلوم أن جواز رجوع كل واحد منهما عن التزامه مرجعه إلى حل تلك العقدة، وإلا فما دام تلك العقدة موجودة، فحبل عهده مشدود ويمنعه عن الرجوع، والقول بأن له وحده حل تلك العقدة مساوق مع كونه مسلطا على فعل شخص آخر لم يجعل الله له تلك السلطنة. ولا شك في أن هذا واضح البطلان، وذلك من جهة أن هذه العقدة التي وجدت في عالم الاعتبار بعد ما فرضنا ان صرف المعاوضة والمبادلة لا يكون سببا لوجودها، ولذلك قلنا بأن المعاطاة ليس بعقد، إذ ليس هناك عقدة والتزام في البين بل صرف معاوضة ومبادلة بين المالين، أو صرف إنشاء مضمون تلك المعاملة بل سبب وجودها التزام كلا الطرفين بعدم الرجوع عن مضمون هذه المعاملة، فحصلت العقدة من هذين الالتزامين، فهي من فعل الطرفين فرفع هذه العقدة التي هي فعل الطرفين من طرف أحدهما لا يمكن إلا بأن يكون له سلطان على رفع سببها
والمفروض أن السبب مركب من فعلين والتزامين، وهو ليس له سلطان إلا على فعل نفسه، فله أن يرفع اليد عن التزام نفسه، وأما رفع اليد عن التزام غيره الذي هو فعل الغير، ليس له ذلك، لعدم سلطنته على الغير. هذا ولكن أنت خبير بأن تلك العقدة وإن كانت تحصل من التزام الطرفين بالبقاء بمضمون هذا العقد، ولكن ارتفاعها كما يكون برجوع كلا الطرفين عن التزامهما، كذلك يمكن برجوع أحدهما وحده. وذلك من جهة أن المعلول كما أنه يرتفع بارتفاع جميع أجزاء علته كذلك يرتفع بارتفاع بعض أجزائها وهذا واضح، وإنما الكلام في أنه هل يجوز لكل واحد منهما رفع اليد عن التزامه منفردا أو يجوز لكليهما رفع اليد عن التزامهما معا، أو لا يجوز مطلقا، لا مجتمعا ولا منفردا، أو يفصل بأنه لا يجوز منفردا ويجوز معا ومجتمعا، وهذا الاخير هي الاقالة. وقد ظهر مما تقدم أن الحق هو التفصيل في اللزوم الحقي بأنه يجوز رفع اليد عن التزامهم جمعا وبرضاية الطرفين دون أحد الطرفين بدون رضاية الطرف الاخر وذلك لما بينا أن التزام كل واحد منهما حيث يكون برعاية الطرف الآخر فيوجد عند العقلاء وفي اعتبارهم حق الزامه بالوفاء بما التزم به رعاية له، وأما رفع اليد عن التزامه برضا الطرف فلا ينافي كون الطرف له حق الزامه، وعلى هذا الاساس بنينا صحة الاقالة وجريانها على القاعدة في كل معاملة وعدم احتياجها إلى ورود دليل على صحة جريانها. وخلاصة الكلام أن الدليل على أصالة اللزوم في العقود العهدية تنجيزية كانت كالبيع والاجارة والصلح وغيرها، أو تعليقية كالجعالة هو بناء العقلاء على وجوب العمل بالتزامه وتعهده، وقبح التخلف ورفع اليد عن ذلك الالتزام، وذكرنا أن نقض العهد يعد عندهم من أرذل الرذائل ومن منافيات الشرف والفضيلة، والشارع الاقدس لم يردعهم من هذه الطريقة، بل أمضاها بقوله تعالى أوفوا بالعقود كما
سنذكر أدلته إنشاء الله. وبعبارة اخرى يرى العرف والعقلاء أن من التزم لشخص بشئ فقد جعل ذمته مشغولة له بذلك إذا كان هذا الالتزام في ضمن عقد وعهد، لا أن يكون التزاما بدوية، وإن كان منشأ بنفس مادة الالتزام، بأن يقول التزمت لك بذلك، لان الالتزامات البدوية التي ليست في ضمن عقد وعهد تحسب وعدا ابتدائيا، ولا شك في حسن الوفاء به، وأما وجوبه ولزوم الوفاء به عند العقلاء أو الشرع فيحتاج إلى دليل مفقود في المقام، ولعله نتكلم فيها انشاء الله تعالى. ولعل هذا مراد شيخنا الاستاد قدس سره حيث يقول: كل واحد من الطرفين مالك لالتزام الآخر فإذا أسقط ملكيته بمعنى حقه فقهرا يكون من عليه الحق مخيرا في البقاء وعدم الرجوع عما التزم به، وفي عدم البقاء عند التزامه والرجوع عما التزم به، فلابد من أن يكون مراده من ملكية الطرف لالتزامه ثبوت هذا الحق له لا ثبوت الملكية الاعتبارية الشرعية الذي هو حكم وضعي كالطهارة والنجاسة، وإلا لم يكن قابلا للاسقاط، فلا تكون الاقالة على القاعدة، وتحتاج إلى دليل على صحتها وجريانها إما عاما وفي جميع العقود، أو في مورد خاص، وقد تقدم أنها على القاعدة، وتجري في جميع العقود. فظهر مما ذكرنا أن لزوم العقد وعدم جواز حله من كل واحد من الطرفين منفردا منشأه بناء العقلاء على لزوم الوفاء وعدم نفوذ فسخه والرجوع عما التزم به وتعهد، والشارع الاقدس لم يردعهم عن ذلك بل أمضى هذه الطريقة بقوله تعالى أوفوا بالعقود وبسائر الادلة التي نذكرها انشاء الله تعالى. وأما أن العقدة التي تحصل من تعهد الطرفين الذي هو العقد حيث إنها أمر وحداني وحاصلة من فعل الطرفين، فليس لاحدهما إزالة تلك العقدة لانه لا سلطان له على فعل الغير وإزالته،
ففيه ما ذكرنا أن سلطنته على إزالة فعل نفسه كاف في ارتفاع تلك العقدة، لقيامها بكلا الفعلين وكلا الالتزامين، فإذا رجع أحدهما عن التزامه يرتفع تلك العقدة وينتقض بنقض أحدهما، ولذا يطلق على تخلف المبايع عن بيعته نقض البيعة، مع أن الرجوع عن عهده وميثاقه من طرفه فقط. وأما القول بأن البيعة ليست بعقد فليس مما يصغى إليه والسر في ذلك أن العقد إما عبارة عن نفس تعهدين، أو حاصل منهما وقائم بهما، فكما انه يرتفع بارتفاعهما كذلك يرتفع بارتفاع أحدهما، ثم إن بناء العقلاء على اللزوم أمر قابل للردع شرعا كما أنه وقع في مورد خيارر المجلس، فالعقلاء والعرف وإن كان بنائهم على اللزوم حتى فيما إذا كان المتعاقدان في مجلس العقد ولم يتفرقا في عقد البيع، ولكن الشارع الاقدس نفى اللزوم وما دام لم يتفرقا عن مجلس البيع بقوله صلى الله عليه وآله: البيعان بالخيار ما لم يفترقا (1) أو لم يتفرقا على بعض النسخ، أو الطرق، فبناء العرف والعقلاء في مورد خيار المجلس مردوع وليس بحجة. هذا إذا قلنا بأن بناء العقلاء على اللزوم مطلق من حيث التفرق عن المجلس وعدمه وأما إن قلنا بعدم إطلاقه وعدم بناء منهم في صورة عدم التفرق وبقاء المتعاقدين في المجلس وإن كان هذا الاحتمال بعيدا خصوصا فيما إذا طال المجلس كما إذا كان المتعاقدان في سبارة أو سفينة أو في طيارة في مسافة طويلة بل هما ربما يكونان في طيارة يطول مجلسهما إلى مآت فراسخ، بل آلاف. فالعرف في أمثال هذه الموارد بنائه على اللزوم بلا ريب، وإن أخذنا باطلاق دليل خيار المجلس، وهو قوله صلى الله عليه وآله البيعان بالخيار ما لم يفترقا وقلنا بثبوت الخيار فلا ردع في البين لتوافق بنائهم مع الدليل الشرعي الذي مفاده ثبوت خيار المجلس ما لم يفترقا. وأما في سائر الخيارات غير خيار المجلس كخيار الشرط والعيب، فليس بناء
(هامش)
1. الكافي ج 5، ص 170، باب الشرط والخيار في البيع، ح 6، تهذيب الاحكام ج 7، ص 20، ح 85، باب عقود البيع، ح 2، وسائل الشيعة ج 12، ص 346، أبواب الخيار، باب 1، ح 3. (*)
للعقلاء في مواردها على اللزوم قطعا، لان كون المعيوب مردودا قضية ارتكازية عند العرف والعقلاء، وما ورد في الشرع من الخيار إمضاء لذلك الامر الارتكازي وأما خيار الشرط فلا شك في أن العقلاء أيضا يحكمون بلزوم الوفاء بالشرط، فليس لهم بناء على اللزوم، وأما خيار تخلف الشرط أو الوصف فأيضا لا بناء للعقلاء على اللزوم في مواردهما. وأما خيار الغبن فبناء على ما هو الصحيح في مدركه من أنه يرجع إلى تخلف الشرط الضمني، فيكون من صغريات خيار تخلف الشرط، وقد عرفت أنه لا بناء لهم في مورد تخلف الشرط على اللزوم. نعم في خيار الحيوان الظاهر أنه حكم شرعي وليس عدم اللزوم الا من جهة ورود دليل شرعي، وهو قوله عليه السلام صاحب الحيوان بالخيار ثلثة أيام (1) سواء كان المراد هو خصوص المشتري أو كان أعم من البايع والمشتري، وإلا فمن ناحية بناء العقلاء على اللزوم، لا فرق بين أن يكون المبيع أو الثمن حيوانا أو غير حيوان. لا يقال إن خيار الحيوان جعله الشارع من جهة الاختبار وأنه هل فيه عيب ونقص أم لا، وهذا المعنى مما لا ينكره العرف والعقلاء، فهم أيضا لا يبنون على اللزوم في زمان الاختبار، لان ذلك من جهة أن خيار العيب عندهم مغن عن هذا الخيار، فخيار الحيوان لابد وأن يكون حكما تعبديا. نعم جميع الاحكام الشرعية لابد وأن يكون عن ملاك ملزم لذلك الحكم من ملزمة أو مفسدة كذلك، فدليل خيار الحيوان أيضا مثل دليل خيار المجلس يكون رادعا عن بناء العقلاء على اللزوم في مورد خيار الحيوان، أي فيما إذا كان المبيع
(هامش)
1. تهذيب الاحكام ج 7، ص 67، ح 287، باب ابتياع الحيوان، ح 1، وسائل الشيعة ج 12، ص 349، أبواب الخيار، باب 3 ح 2. (*)
أو الثمن حيوانا. وخلاصة الكلام أن في كل مورد حكم الشارع بالخيار وعدم اللزوم، فان لم يكن بناء العقلاء أيضا على اللزوم فلا كلام، ولا إشكال، وأما إذا كان بنائهم على اللزوم، فالدليل الذي يدل على حكم الشارع بالخيار وعدم اللزوم يكون رادعا لبناء العقلاء. هذا في العقود العهدية التنجيزية كالبيع والاجارة والصلح وأمثالها واضح، وأما العقود العهدية التعليقية كالجعالة والسبق والرماية والوصية وأمثالها، فايضا لا شك في أن بناء العقلاء على لزومها بعد التلبس بالعمل في الاولين، وبعد الموت في الثالث، بناء على كونها من العقود، وأما لو قلنا بعدم احتياجها إلى القبول وأنها إيقاعات، فخارجة عن محل البحث موضوعا. وأما العقود الاذنية التي لا تعهد فيها وقوامها بالاذن فقط، فقد تقدم أنها خارجة عن الموضوع تخصصا لا تخصيصا، لانه لا تعهد ولا التزام فيها، بل قلنا إن إطلاق العقد عليها ليس إلا من باب المشاكلة، وإلا ليس فيها عهد وعقدة بين الطرفين ولذلك قالوا إنها جائزة بالذات مقابل العقود اللازمة بالذات. وخلاصة الكلام أن بناء العرف والعقلاء على لزوم الوفاء بالتعهدات والالتزامات فالعقود الاذنية التي قوامها الاذن كالوكالة لا التزام ولا تعهد فيها خارجة عن دائرة هذا البناء، واما العقود العهدية فداخلة بكلا قسميه، سواء كانت تنجيزية أو تعليقية. نعم في العقود التعليقية نزاع صغروي وهو أنها هل تحتاج إلى القبول كالوصية والجعالة والسبق والرماية أم لا؟ فان قلنا بعدم الاحتياج وأنها ايقاعات، فهي خارجة عن موضوع هذا البناء، والا فحالها حال العقود التنجيزية. إذا عرفت ما ذكرنا فأقول:
التمسك بهذه القاعدة وبناء العقلاء على لزوم المعاملة كالوقف أو الجعالة مثلا عند الشك في لزومها، بعد الفراغ عن كون تلك المعاملة من العقود، وإلا لو علمنا بأنها ليست من العقود، فهي خارجة عن موضوع هذه القاعدة يقينا، وكما أنه لو شككنا أنها عقد أم لا، يكون التمسك بها لاثبات لزومها من التمسك بعموم العام في الشبهة المصداقية لنفس العام، الذي لا يجوز قطعا، وهو من الواضحات. فبعد إحراز أنها من العقود، فتارة يكون منشأ الشك هي الشبهة الحكمية، واخرى هي الشبهة الموضوعية. فالاول كما إذا شك في لزوم الوقف، مثلا لو مات الواقف قبل أن يقبض العين الموقوفة، فبناء على أنه من العقود كما رجحناه وقلنا إنه يحتاج إلى القبول يحكم عليه باللزوم لاجل هذه القاعدة، وكذا في باب المعاطاة لو قلنا بأنه عقد، وإن كان الصحيح عندنا خلافه. وكذا في سائر موارد الشك في الحكم الشرعي بالجواز أو اللزوم بعد الفراغ عن كونه عقدا يصح التمسك بهذه القاعدة لاثبات اللزوم، ولا يصغى إلى ما يقال بأن البناء العملي، لا عموم ولا إطلاق فيه مثل باب الالفاظ، كي يتمسك به لرفع الشك والحكم وذلك من جهة أن هذا البناء بعد إمضاء الشارع له ولو من جهة عدم الردع يستكشف منه حكم الشارع بلزوم كل عقد، فيكون كما إذا ورد عام لفظي يكون له عموم وإطلاق وبهذا البيان اثبتنا الاطلاق للاجماع إذا كان معقده عنوانا من العناوين. وأما الثاني أي إذا كان منشأ الشك الشبهة الموضوعية، كما إذا شككنا أن المعاملة الواقعة هل هي صلح كي يكون لازما أو هبة لغير ذي الرحم كي يكون جائزا أو شك في ان الموهوب له ذي رحم أو أجنبي كي يكون لازما في الاول وجائزا في
الثاني؟ فيصح التمسك بهذه القاعدة لاثبات لزومه. الثاني الادلة والعمومات والاطلاقات اللفظية من الايات والروايات، فمن الاول قول تعالى 1: أوفوا بالعقود وتقريب دلالتها على لزوم جميع العقود هو أنه لا شبهة في أن كلمة العقود بما أنه جمع معروف بالالف واللام يكون من ألفاظ العموم ودالا عليه، فيكون معنى الاية يجب الوفاء بجميع العقود. وهذا العموم الافرادي الذي هو ظاهر الآية ومدلولها مطابقي لها، يستتبع عموما أو زمانيا أيضا بدلالة الاقتضاء، لان الاية لو كانت مهملة من هذه الجهة يصدق امتثالها بالوفاء في آن من الآنات، فيكون هذا الحكم لغوا لا فائدة فيه، فصونا للكلام عن اللغوية، لابد وأن نقول بأن المراد وجوب الوفاء في كل زمان، ولا شك في ان وجوب الوفاء في كل زمان يكون من لوازم اللزوم، بل يكون عفا مساوقا معه ويصح التعبير عن اللزوم به عرفا. وأما توهم ان وجوب الوفاء بالعقد عبارة عن لزوم العمل بمضمونه مادام موجودا وباقيا لا يدل على عدم جواز إزالته بالفسخ، لانه لا تنافي بين جواز إزالته ووجوب الوفاء به مادام موجودا، فلو قال أكرم زيدا في كل زمان مادام موجودا في البلد، فجواز إخراجه من البلد لا ينافي وجوب إكرامه في كل زمان مادام موجودا في البلد وبعبارة اخرى يكون من قبيل الاصل الحاكم مع الاصل المحكوم، فوجوب العمل بالاصل المحكوم والجري بمقتضاه في كل زمان لا ينافي مع مقتضى دليل الاصل الحاكم، لان العمل بمقتضى اصل المحكوم معلق عقلا على بقاء موضوعه أي كونه شاكا، فإذا ارتفع موضوعه بالاصل الحاكم، لا يبقى تعارض في البين، ولذلك قلنا في باب تعارض الادلة أنه لا تعارض بين دليل الحاكم والمحكوم. فها هنا حل العقد وإفنائه لا ينافي وجوب العمل بمقتضاه دائما في كل زمان، لان
العمل بمقتضاه عقلا موقوف على بقائه، فادا ارتفع لا بيقى موضوع لهذا الحكم. وفيه أولا ما ذكرها ان هذه العبارة أي وجوب الوفاء بكل عقد في كل زمان مساوق في المتفاهم العرفي مع القول بأن كل عقد لازم لا يمكن أو لا يجوز حله ونقضه. وثانيا الظاهر من قوله تعالى أوفوا بالعقود ليس المراد به وجوب الوفاء بما عقد عليه وتعهد به كي يكون معناه وجوب العمل بمقتضاه، بل المراد به وجوب الوفاء بنفس عقوده وعهوده وأن لا ينقض عقده وعهده، فابتداء الواجب التكليفي هو البقاء على عهده وعدم الرجوع عن التزامه، لا وجوب العمل بما التزم به، نعم وجوب العمل بما التزم به من آثار البقاء على عهده وحفظ تعهده والتزامه. فبناء على ما ذهب إليه الشيخ الاعظم الانصاري قده (1) من انتزاع الحكم الوضعي من الحكم التكليفي فينتزع اللزوم قهرا من هذا الوجوب التكليفي أي وجوب البقاء على تعهده والتزامه وحرمة نقضه وحله. وهذا الكلام أي انتزاع الحكم الوضعي عن الحكم التكليفي، وإن كان لا أساس له عندنا، وأثبتنا فساده في الاصول، وبينا في كتابنا منتهى الاصول (2) أن بعض الاحكام الوضعية كالطهارة والنجاسة والملكية والزوجية وأمثالها مستقلات في الجعل وليست منتزعة من الاحكام التكليفية، بل هي موضوعات لها، فيكون الامر بالعكس أي يكون الحكم التكليفي من آثار الحكم الوضعي، فتكون حرمة الاستعمال فيما هو مشروط بالطهارة أو الشرب من آثار النجاسة وكذلك الامر في الملكية والزوجية وغيرهما. ولكن هاهنا لا نحتاج إلى الالتزام بأن وجوب الوفاء بالعقود حكم تكليفي ينتزع
(هامش)
1. فرائد الاصول ج 2، ص 601. 2. منتهى الاصول ج 2، ص 395. (*)
منه، فان هذا يشبه الاكل من القفا، بل نقول من أول الامر أن وجوب الوفاء بالعقد عبارة عن لزوم البقاء عليه وعدم نقضه وحله، وهذا عين اللزوم، وإن شئت قلت إن معنى القاعدة عرفا هو الالتزام والتعهد بأمر، فهذا المعنى بنفسه يقتضي عند العرف والعقلاء البقاء على تعهده وعدم جواز حله ونقضه. وبعبارة اخرى يرونه في عالم اعتبارهم أمرا ثابتا غير ممكن النقض، ولذلك يرون الخارج عن التزامه ناقضا لعهده، وهذا عين اعتبار اللزوم عندهم في العقود والعهود، والشارع أمضى هذا اللزوم الذي في اعتبارهم للعقود بقوله: أوفوا بالعقود. فمفاد هذه الاية تثبيت ما هو ثابت عندهم، وتقرير أهل العرف في لزوم العقود في اعتبارهم. فكأن ها هنا اعتبارين أحدهما من قبل العرف وهو اعتبارهم اللزوم في عقودهم وعهودهم سواء كانت في أبواب المعاملات أو في غيرها ثانيهما من قبل الشرع وهو إمضاء ذلك الاعتبار العرفي وتثبيته في عالم الاعتبار الشرعي. وأما ما ذكره بعض المفسرين (1) من الوجوه الاربعة في المراد من العقود في الآية: أحدها أن المراد من هذه الكلمة هو عهود أهل الجاهلية، ذكره جمع من المفسرين، وفيهم ابن عباس، وهذا المعنى لابد منه توجيهه، وإلا فهو بظاهره فاسد. ثانيها هو العهود التي أخذ الله تعالى على عباده بأن لا يعبدوا الشيطان. ثالثها العقود والعهود التي بين الناس في معاملاتهم وغيرها. رابعها أن المراد به العهود والمواثيق التي أخذ من اهل الكتاب في التوراة من عدم إنكارهم لنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وتصديقهم لنبوته، وأن كل ما جاء به من الاحكام
(هامش)
1. انظر: مجمع البيان ج 2، ص 150. (*)
فهو حق ومن عند الله. فهذه المعاني وإن كانت في حد نفسها صحيحة وذكرها المفسرون، ولكنه من الواضح أن الاعتبار بعموم الالفاظ ولا يكون خصوصية المورد مخصصا، وكذلك تطبيق المفسرين بل الائمة عليهم السلام على بعض موارد ذلك العام، ولا شك في أن لفظ العقود عام يشمل كل عقد صدر من المتعاقدين، وكل واحد من هذه المعاني التي ذكروها مصداق من مصاديق العام، وشموله له لا ينفي شموله للمصاديق الاخر. فظاهر الآية بناء على ما ذكرنا في المراد منها هو لزوم كل ما يصدق عليه العقد ويحمل عليه حملا حقيقيا لا تجوزا. ثم انه استشكل على دلالة هذه الاية على اللزوم بلزوم تخصيص الاكثر، وهو مستهجن، فيسقط العموم عن الحجية، ولا يمكن التمسك به لاستهجانه ولزوم تخصيص الاكثر من جهة خروج العقود الجائزة عن هذا العموم قطعا، وكذلك المعاطاة بناء على تحقق الاجماع على جوازه، وهي كثيرة جدا خصوصا المعاطاة وذلك لان أغلب معاملات الاسواق والمعاوضات من البيوع والاجارات وغيرهما بالمعاطاة، بل لا يبعد دعوى كون جميعها بالمعاطاة، وكذلك العقود اللازمة في موارد الخيارات. وفيه أن العقود الجائزة بالذات لا بواسطة جعل الخيار من الله تعالى أو من قبل المتعاقدين، قد تقدم أنها هي العقود المسماة بالاذنية، مقابل العقود العهدية، وبينا أن تلك العقود المسماة بالاذنية التي قوامها بالاذن في الحقيقة، ليست بعقد كالوكالة أو العارية مثلا إذ ليس تعهد في البين، وقلنا إن اطلاق العقد عليها من باب المشاكلة، ومن جهة أن الاذن فيها يصدر بشكل الايجاب ورضا الطرف بالعمل على طبق ذلك الاذن يكون بصورة القبول وبشكله، فخروج تلك العقود عن عموم أوفوا بالعقود يكون بالتخصص لا بالتخصيص، وقد تقدم كل ذلك. وأما المعاطاة فقد بينا في محله أنه ليس بعقد بل هو صرف مبادلة بين العوضين
وليس تعهد في البين، وإن شئت قلت كما أنه يمكن أن ينقل مالا من مكانه إلى مكان مال آخر، وذلك المال الآخر ينقل من مكانه إلى مكان المال الاول، فيبدل مكان 178 كل واحد من المالين إلى مكان الاخر كذلك في عالم الاعتبار يمكن انشاء هذه المبادلة بين المالين بدون أن يكون التزام من المتعاملين أو أحدهما في البين، ومن دون أن يكون تعهد بالبقاء عند هذه المبادلة منهما أو من أحدهما، وهذا هو المسمى بالمعاطاة، فليس في المعاطاة عقد وعهد أصلا، فيكون خروجه عن عموم أوفوا بالعقود خروجا موضوعيا، ويكون من باب التخصص لا التخصيص. وأما العقود اللازمة في موارد الخيارات فهي في الموارد التي يكون الخيار مجعولا من قبل المتعاقدين، فلا يشمله هذه الآية، لان الآية معناها كما تقدم لزوم الوفاء بالتزامه وتعهده، فإذا كان تعهدهه والتزامه مشروطا بشرط ومقيدا بأمر كما في مورد خيار الشرط والغبن، بناء على رجوع الاخير إلى تخلف الشرط الضمني، وهو تساوي العوضين في المالية، ففي مورد فقد الشرط والقيد لا التزام كي يكون الوفاء به واجبا، فيكون خروج تلك الموارد عن عموم أوفوا بالعقود أيضا خروجا موضوعيا لا من باب تخصيص هذه القاعدة. نعم في الخيارات المجعولة من قبل الشارع مع كون الالتزام الذي قلنا انه مدلول التزامي للالفاظ التي تنشأ بها العقود مطلقا من الطرفين المتعاملين غير مقيد بشئ وغير مشروط بشرط كخيار المجلس وخيار الحيوان وما شابههما، يكون تخصيصا للقاعدة. وأنت خبير بأن هذا المقدار ليس من التخصيص المستهجن، فاشكال لزوم تخصيص الاكثر في عموم هذه القاعدة لا أساس له. هذا مضافا إلى أنه يمكن أن يقال بأن موارد الخيارات المجعولة من قبل الشارع أيضا ليس من باب التخصيص، بل يكون شبيها بالحكومة بأن يقال مثلا في خيار
المجلس أو خيار الحيوان: جعل الشارع التزامهما في تلك المدة كلا التزام، فكأنهما لم يلتزما بالبقاء عند هذه المعاملة مادام كونهما في المجلس ولم يفترقا بالنسبة إلى خيار المجلس، وكذلك كأنهما لم يلتزما في مدة ثلاثة أيام في خيار الحيوان فيكون أيضا خروجهما وأمثالهما أيضا خروجا موضوعيا، غاية الامر خروجا موضوعيا 179 تعبديا لا تكوينيا كما هو الشأن في جميع موارد الحكومة، وأن التوسعة والتضييق فيها من جانب الموضوع أو المحمول تعبدي لا تكويني ووجداني. وبعبارة اخرى التصرف في باب الحكومة في جانب الموضوع أو المحمول في القضية الشرعية المتكلفة لبيان حكم من الاحكام، ولا نظر في ذلك الباب إلى التضيق في الحكم، وإن كان التضيق في الموضوع أو المحمول ينتج ذلك أيضا. فنقول فيما نحن فيه: إن الشارع الاقدس في مدة بقاء المتبايعين في المجلس، أو مدة ثلاثة أيام في خيار الحيوان، جعل التزامهما بهذه المعاملة كلا التزام، لا أنه مع فرض البناء على وجود الالتزام نفي الوفاء بذلك الالتزام كي يكون من باب التخصيص، فإذا قال أكرم العلماء وفرضنا أن اكثر أفراد العلماء هم النحويون مثلا فقال: النحوي ليس بعالم، فليس هذا من باب تخصيص الاكثر بل من جهة أن الشارع أخرج النحوي عن موضوع حكمه خروجا تعبديا، فليس من باب التخصيص كي يكون مستهجنا إذا كان الخارج أكثر الافراد. ويمكن أيضا أن يقال إن ما نحن فيه ليس من قبيل التخصيص كي يقال بأن الخارج أكثر فهو مستهجن، بل من قبيل تقييد الاطلاق. وذلك من جهة أن عموم لفظ العقود باعتبار الافراد لا باعتبار الازمان، فالحكم ثبوته في جميع الازمان ليس من ناحية صيغة العموم بل من جهة الاطلاق الازماني الثابت بدلالة الاقتضاء، صونا عن لغوية جعل الخيار لو كان ثبوته في زمان ما فقط، وتقييد ذلك الاطلاق بالنسبة إلى قطعة من الزمان اي زمان بقاء المجلس
وعدم حصول الافتراق، وكذلك ثلاثة أيام في خيار الحيوان ليس من باب تخصيص العموم كي يقال بأنه مستهجن بل صرف تقييد اطلاق فلا يأتي هذا الكلام ولا مجال للاشكال به على التمسك بهذا العموم. وذلك من جهة أن الاطلاق وشمول الحكم لجميع الحالات والخصوصيات الواردة على المطلق، ليس بالوضع كما هو مذكور في محله، وإنما الشمول لدليل الحكمة وبمقدماتها، ففي كل مورد وبالنسبة إلى أي خصوصية جاء دليل على التقييد يبطل الاطلاق بالنسبة إلى تلك الخصوصية، ويرتفع من البين، فلو قيد المطلق بحيث لا يبقى له إلا فرد واحد، لا يكون مستهجنا. بخلاف العام فانه موضوع للعموم، فيكون ظاهره العموم خصوصا إذا كان المخصص منفصلا، فبعد تخصيص الاكثر إذا تبين أن مراده من هذا العموم ليس إلا أفراد قليلة، فألقى إلى طرفه أن مطلوبه العموم، مع أنه لم يرد إلا بعضه الاقل، فيكون مثل هذا الكلام ركيكا ومستهجنا. وخلاصة الكلام أن العام كاشف عن إرادة العموم بالوضع، وليس ظهوره معلقا نعم إذا جاء المخصص حيث إنه أكشف، يكون مقدما على العموم، وأما ظهور المطلق في الاطلاق، فمعلق على عدم البيان، فإذا جاء البيان لا يبقى موضوع للاطلاق. فتقديم ظهور الخاص على ظهور العام، من باب حكومة أصالة الظهور في طرفه على أصالة الظهور في طرف العام، وأما التقييد في باب الاطلاق فهو رافع لموضوع ظهور الاطلاق حقيقة وتكوينا، فكأنه من قبيل الورود. وأيضا من الاول أي الايات قوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم. (1)
(هامش)
1. النساء (4): 29. (*)
تقريب الاستدلال بالآية الشريفة على لزوم العقود، هو أن الظاهر من الاكل في المقام مطلق التصرفات والانتفاعات بالاموال لا خصوص الازدراد، إذ في جملة كثيرة من الاموال لا يمكن ذلك. فظاهر الاية هو النهي وتحريم التصرفات الباطلة أي على وجه لم يشرع في اموال الناس، إذ لا شك في جواز جميع التصرفات في أموال نفسه إلا أن يكون ذلك السنخ من التصرفات حراما كالاسراف والتبذير وغيرهما من التصرفات المحرمة الكثيرة. ولا يمكن أن يكون المراد من الباطل في الآية هذا القسم من التصرفات: أولا بقرينة بينكم لان أمثال هذه التصرفات محرمة وإن لم يكن غيره في البين، فهذه الكلمة خصوصا مع قوله تعالى إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم تكون قرينة على أن المراد من الاكل بالباطل هو التصرف في مال الغير على وجه شرعي، وبغير استحقاق، كالغصب والخيانة والسرقة والربا، وبشهادة الزور، أو باليمين الكاذبة، أو بالرشوة، أو بالبيوع الفاسدة كالبيع الغرري، أو سائر المعاملات الفاسدة الباطلة في الشرع، مثل أنواع القمار إلى غير ذلك من العقود والمعاملات الفاسدة: كالمعاملات التي تقع عن إكراه الطرف. فمعنى الآية بحسب الظاهر وما هو المتفاهم العرفي منها أن جميع هذه التصرفات في أموال الناس حرام، إلا أن يكون التصرف في مال الغير بالوجه الشرعي، وعبر سبحانه وتعالى عن ذلك الوجه بقوله إلا أن تكون تجارة عن تراض أي عند العرف مع عدم ردع الشارع عن مثل ملك التجارة، بل إمضائها، وذلك من جهة أن قولهم بكفاية عدم الردع من قبل الشارع من باب أنه كاشف عن الامضاء وإلا فهو بنفسه لا أثر له، فإذا كان معنى الآية ما عرفت، فدلالتها على اللزوم واضحة. بيان ذلك أنه بعد الفراغ عن حصول الملكية والنقل والانتقال بمحض وجود
العقد التام الواجد لجميع شرائط الصحة من الطرفين، ففسخ أحدهما من دون رضا الآخر يكون تصرفا في مال الغير بدون أن يكون تجارة عن تراض منهما، فيكون أكلا لمال الغير بالباطل، أي بوجه غير شرعي. فالفسخ الذي أثره إرجاع مال الغير إلى صاحبه الاولى من دون رضا من ملك بالعقد، يكون داخلا في المستثنى منه، فيكون منهيا عنه، فيكون باطلا وغير نافذ وهذا معنى مساوق للزوم. وخلاصة الكلام أن ظاهر الاية هو أن سبب جواز أكل أموال الناس منحصر في الانتقال إليه بالتجارة التي تكون عن تراض منهما، كما هو مفاد الاستثناء عن العموم. ثم إنه لا يخفى أن عقد المستثنى منه وحده كاف في إثبات هذا الحكم، أي 182 أصالة اللزوم في العقود، لو كان المراد من الاكل بالباطل هو الاكل من غير سبب شرعي. لا يقال: إن الفسخ لو كان مؤثرا يكون سببا شرعيا، ويخرج به كون الاكل اكلا لمال الغير الباطال، فيكون هذا الاستدلال دوريا، لان عدم تأثير الفسخ موقوف على كون أكل المال به أكلا بالباطل، وكونه كذلك موقوف على عدم تأثير الفسخ، وألا يكون الاكل على وجه شرعي، وليس من اكل المال بالباطل. لان الآية حصرت سبب جواز أكل مال الغير في التجارة عن تراض، ومعلوم أن الفسخ من دون رضاية الطرف الآخر ليس من التجارة عن تراض. إن قلت: أليس يجوز أكل مال الغير باباحة مالكه، وليست الاباحة تجارة عن تراض؟ قلنا أولا إن المراد من الاكل ها هنا هو التملك لا المعنى المعروف المقابل للشرب كما تقدم ذكره، والتملك لا يحصل بالاباحة بل يحتاج إلى تمليك من قبل الله أو من قبل مالكه.
وثانيا أن عقد المستثنى منه عام كسائر العمومات الشرعية قابل للتخصيص، فمفاده وإن كان عدم جواز التصرف في مال الغير مطلقا، ولم يخرج في ظاهر الآية عن هذا العموم، إلا كون الاكل من باب التجارة عن تراض، ولكن يمكن تخصيصه بدليل آخر أيضا كسائر العمومات التي ترد عليها مخصصات كثيرة ومتعددة، ما لم تصل إلى حد تخصيص الاكثر، فهاهنا أيضا خصص العام بدليل جواز التصرف باباحة المالك. وثالثا ليس مورد إباحة المالك من الاكل بالباطل، لا في نظر العرف وهو واضح ولا في نظر الشرع لان الممنوع والمنهي في نظر الشرع هو أكل مال الغير من غير إذنه وبدون طيب نفسه، وأما مع أحدهما فلا يرى الاكل باطلا، ففي مورد الاباحة بل في كل مورد صدر الاذن من قبل الشارع بجواز التصرف فيه، ليس من الاكل بالباطل، لا في نظره ولا في نظر العرف، فلا يشمله هذا العام. ورابعا يظهر من الآية المقابلة بين الاكل بالباطل، وكونه عن تجارة مع تراضي الطرفين بطور المنفصلة المانعة الخلو بمعنى أن الاكل لمال الغير لا يخلو من أحد هذين الامرين: إما يكون بوجه غير شرعي وباطلا، وإما أن يكون من باب التجارة عن تراض، ولا ريب في أن موارد صدور الاذن من الشارع بجواز الاكل والتصرف أو المالك كذلك ليس بوجه غير شرعي ولا يصدق عليها ايضا أنها تجارة عن تراض، فلابد من حمل الآية على معنى يلتئم مع هذا الحصر، وعدم خلو الاكل عن أحد هذين، أي كونه إما باطلا أو يكون تجارة عن تراض، وهو أن يقال: إن المراد منها أن هذه المعاملات والمعاوضات والمبادلات التي تقع بينكم لا يخلو من أحد أمرين إما باطل ويكون بوجه غير شرعي، فهذا القسم حرام، وليس لكم ارتكابه ويجب الاجتناب عنه، وإما أن يكون تجارة عن تراض وهذا القسم لا مانع من ارتكابه بل ندب إليه الشرع، وأما الحرمة في القسم الاول فهل هي وضعي أم تكليفي؟ فبحث آخر، وإن كان الظاهر منها الوضعي، بقرينة كلمة الباطل
وإطلاقها عليها. إذا عرفت ما ذكرنا في معنى الآية، فلا يبقى إشكال في دلالتها على المطلوب، أي اللزوم. بيان ذلك أن القضية المنفصلة المانعة الخلو، رفع كل واحد من طرفها يثبت وجود الطرف الآخر، فإذا لم يكون المعاملة المشروعة من مصاديق التجارة عن تراض تكون باطلة، وفيما نحن فيه من المعلوم أن الفسخ بدون رضاية الطرف الآخر ليس تجارة عن تراض، فيكون باطلا غير نافذ، وهذا من لوازم اللزوم. وإن شئت قلت إن مفاد الآية قضيتين كليتين إحداهما أن كل معاملة ليست بباطلة لابد وأن تكون تجارة عن تراض، والاخرى أن كل معاملة ليست تجارة عن تراض فلا محالة تكون باطلة، وهذا معنى كون مفادها قضية منفصلة مانعة الخلو وباقي ما ذكرنا واضح لا يحتاج إلى الايضاح. وخلاصة الكلام أن الآية حسب المتفاهم العرفي الذي هو معنى الظهور وهو 184 الحجة، هو أن ما ليس بتجارة عن تراض فهو باطل، لا أن كل معاملة تكون من مصاديق عنوان تجارة عن تراض، تكون صحيحة، كي يرد عليه النقوض الكثيرة كالمعاملات غير المشروعة من جهة مبغوضية نفس عناوينها كالقمار والرباء، أو من جهة خلل في العقد، أو في المتعاقدين، أو في العوضين، والامثلة واضحة، فانها باطلة مع كونها تجارة عن تراض يقينا. إن قلت ان الآية مركبة من عقدين: عقد المستثنى وعقد المستثنى منه، والاول سلبي مفاده عدم جواز أكل المال بالباطل، والثاني ايجاي مفاده جواز الاكل ان كانت المعاملة تجارة عن تراض، فليس ها هنا ما يكون مفاده أن ما ليس بتجارة عن تراض يكون من الاكل بالباطل الذي هو مبنى هذا الاستدلال. وذلك من جهة أن في العقد الاول موضوع الحكم بالحرمة هو أكل المال بالباطل
والحكم لا يثبت موضوعه، والمفروض أن الموضوع فيما نحن فيه مشكوك لانه بناء على اللزوم الفسخ لا يؤثر، فيكون أكل المال بالفسخ أكلا بالباطل، وبناء على عدمه يؤثر الفسخ فلا يكون الاكل به أكلا بالباطل. وحيث إن اللزوم مشكوك فيكون موضوع الحرمة مشكوكا فيكون الاستدلال بهذا العموم لعدم تأثير الفسخ لكونه أكلا بالباطل من قبيل التمسك بعموم العام في الشبهة المصداقية لنفس العام الذي لا يقول به أحد، ولا يمكن أن يقول به أحد. وفي العقد الثاني موضوع الحكم الايجابي أي جواز الاكل هو كون المعاملة تجارة عن تراض، وهذا الحكم الايجابي لا يدل على أن كل ما ليس بتجارة عن تراض فهو من الاكل بالباطل، نعم انتفاء الجواز بانتفاء كونه تجارة عن تراض حكم عقلي ومن باب انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه. قلنا إن نفس جعل المقابلة بين أكل المال بالباطل وبين كونه عن تجارة عن تراض، يدل على أن ما ليس من التجارة عن تراض فهو من أكل المال بالباطل وقد تقدم تفصيل ذلك، فلا نعيد، ففي الحقيقة في مورد الشك في لزوم المعاملة عقدية يثبت الموضوع بعد أن فسخ المعاملة للعقد الاول أي المستثنى منه بالعقد الثاني أي المستثنى وقرينيته. فكل واحد من العقدين وحده، وإن لم يدل على عدم تأثير الفسخ ولا على اللزوم، إلا أنه بانضمام أحدهما إلى الآخر والتعمق في مجموع الآية تحصل هذه النتيجة، أي يكون إرجاع المال بالفسخ مع عدم رضاية الطرف الآخر من أكل مال الغير بالباطل الذي هو موضوع الحرمة في عقد المستثنى منه، فيكون الفسخ غير مؤثر، وهو من لوازم اللزوم.
وأما الثاني أي الاخبار التي تدل على لزوم كل عقد مملك فمنها قوله عليه السلام لا يحل مال امرء مسلم إلا بطيب نفسه. (1) بيان ذلك أنه بعد الفراع عن أن العقد سبب لانتقال كل واحد من العوضين إلى صاحب العوض الآخر، وصيرورته ملكا ومالا له، فلو كان إرجاع ذلك المال إلى صاحبه الاول بصرف الفسخ من دون طيب نفس الطرف، أي من انتقل المال إليه بالعقد، جائزا الذي هو معنى عدم اللزوم يلزم أن يكون أكل مال المسلم بدون طيب نفسه جائزا، والحديث ينفيه. فالحديث يدل على عدم تأثير الفسخ وهو ملازم مع اللزوم. وأما توهم أنه بعد الفسخ يشك في أنه مال الغير: إذ على تقدير كون العقد أو المعاملة جائزة، فبعد الفسخ يخرج عن كونه مال الغير قطعا، وعلى تقدير كونه لازما يبقى بعده على كونه مال الغير، وحيث إن كلا الامرين غير معلوم، فكونه مال الغير بعد الفسخ مشكوك، فيكون التمسك بالحديث من قبيل التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية لنفس العام، وهو واضح البطلان، للزوم إحراز موضوع الحكم. ففيه أن عدم كونه مال الغير، متوقف على تأثير الفسخ في إرجاع المال إلى صاحبه الاول، وإلا فمع عدم تأثيره وعدم انحلال العقد لا وجه لخروجه عن ملك من انتقل إليه بالعقد، بل باق على ملكه يقينا من دون احتياج إلى استصحاب بقائه على ذلك، وتأثير الفسخ متوقف على عدم كونه مال الغير، والا يلزم أن يكون التصرف في مال الغير باخراجه عن ملكه بدون طيب نفسه حلالا وجائزا والحديث ينفيه، فلا يمكن اثبات جواز التأثير بالشك في كونه مال الغير ويكون دورا واضحا.
(هامش)
1. الكافي ج 7، ص 273، باب القتل، ح 12، الفقيه ج 4، ص 92، باب تحريم الدماء والاموال بغير حقها...، ح 5151، وسائل الشيعة ج 3، ص 424، أبواب مكان المصلي، باب 3، ح 1، وج 19، ص 3. أبواب القصاص في النفس، باب 1، ح 3. والنص في جميع المصادر هكذا: لا يحل دم امرئ مسلم و لا ماله إلا بطيبة نفسه . (*)
وان شئت قلت: ان ارجاع المال إلى نفسه واخراجه عن ملك طرفه بالفسخ، متوقف على عدم كونه ملكا لذلك الطرف حال الاخراج، وعدم كونه ملكا له في ذلك الحال متوقف على الاخراج بذلك الفسخ، إذ ليس سبب آخر في البين على الفرض، فالاخراج بذلك الفسخ متوقف على نفسه، نعم شمول هذا الحديث للفسخ في العقد المشكوك اللزوم منوط بالقول بحصول الملكية بعد تمامية العقد كما هو الصحيح. ثم انه لا يخفى أن دلالة هذا الحديث على اللزوم يشمل جميع المعاملات، سواء كانت عقدية أو بالمعاطاة، بناء على حصول الملكية بالمعاطاة كما هو الصحيح، وأما بناء على أنها مفيدة للاباحة من دون حصول ملكية في البين، فلا، لانه بناء على القول بالاباحة، لا يكون المباح له مالك كي يقال بأنه لا يمكن ارجاعه بدون طيب نفسه، وكذلك لا يشمل المعاملات التي ليست مملكة كالنكاح مثلا، وان كان عقدا وهو واضح. ومما تقدم ذكره يظهر أن دلالة هذا الحديث على لزوم المعاملات المملكة في غاية الوضوح، ولا فرق بين وقوع تلك المعاملات بالعقد أو بالمعاطاة، ولذلك قلنا في مبحث بيع المعاطاة أن مقتضى القاعدة المتخذة من الروايات بل بناء العقلاء لزوم بيع المعاطاة، ولكن الذي أخرجنا عن الالتزام بهذه القاعدة هو دعوى الاجماع من جمع من أعاظم الفقهاء. ومنها قوله عليه السلام: الناس مسلطون على اموالهم. (1) بيان ذلك أن السلطنة على المال التي أمضاها الشارع - لان العرف والعقلاء أيضا يعتبرون المالك ذا سلطان على ماله أعم من السلطنة على التصرفات التكوينية كالاكل والشرب واللبس والركوب والسكنى وهكذا في المأكولات
(هامش)
1. سنن الكبرى ج 6، ص 100، سنن الدارقطني ج 3، ص 26، ح 91، تذكرة الفقهاء ج 1، ص 489، عوالي اللئالي ج 3، ص 208، ح 49. (*)
والمشروبات والملبوسات والمركوبات والمساكن وهكذا الامر في غير المذكورات ومن السلطنة على التصرفات الشريعية كالبيع والهبة والوقف والصلح وأمثال تلك العناوين مما توجد بانشاءاتها في عالم الاعتبار التشريعي. وبعبارة أخرى كما أن المالك في نظر العرف والعقلاء ذو سلطان على التصرفات التكوينية كذلك في نظرهم له السلطنة بالنسبة إلى التصرفات في عالم اعتبارهم كأنواع المعاملات والمبادلات الواقعة عليه عندهم، وقد أمضى الشارع هذه السلطنة التي عند العرف تكوينا وتشريعا، ولا شك في أن العرف والعقلاء كما انهم يرون جواز كلا القسمين من التكوينية والتشريعية للمالك عندهم، كذلك يرون له حق منع الغير عن التصرف بكلا قسميه أي يرون له مثلا حق المنع عن أكله وعن بيعه أو هبته. فبناء على أن يكون مفاد هذا الحديث الشريف إمضاء ما عليه العرف كما هو الظاهر منه، يكون مفاده أن للمالك بعد العقد حق المنع عن إرجاع المالك الاول هذا المال الذي خرج عن ملكه إلى نفسه ثانيا بواسطة الفسخ ومرجع هذا إلى عدم تأثير الفسخ، وهذا هو اللزوم. ومما ذكرنا يظهر فساد ما ربما يقال بأن موضوع هذه السلطنة ومتعلقها هو أن يكون ماله، وبعد الفسخ كونه ماله مشكوك، لاحتمال عدم اللزوم وتأثير الفسخ. وذلك من جهة انه بناء على ما ذكرنا ليس لغير المالك بدون اذنه ورضاه حق الفسخ لان الفسخ ايضا من التصرفات الاعتبارية التي قلنا إن للمالك منعه عنها، وهذا دليل على عدم تأثير الفسخ، فيكون موضوع السلطنة الذي هو عنوان ماله موجودا فيشمله الحديث. وخلاصة الكلام في هذا المقام هو أن المالك هل له السلطنة على أنحاء التصرفات في ماله فقط غاية الامر أعم من التكوينية والتشريعية أم لا بل له أيضا مضافا إلى ذلك حق منع الغير عن التصرف في ماله، وإن كان التصرف اعتباريا كايقاع
المعاملات عليه بمعنى ان تصرفات غير المالك بدون إذن المالك ورضاه إن كان تصرفا خارجيا في 188 المال يكون حراما لقوله عليه السلام لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه، وأما إن كان تصرفا اعتباريا وفي عالم المعاملات والمبادلات الاعتبارية فيكون تلك التصرفات لغوا لا أثر لها كالتصرفات التي تصدر من الفضولي، وحيث إنها بدون إجازة المالك وإذنه فلا أثر لها وإن لم يكن حراما. فالتصرفات التكوينية في مال الغير حرام سواء كان باتلاف نفسه أو شيء من أوصافه أو من منافعه أو باستيفاء منافعه أو بحبس تلك المنافع عن مالكه كل ذلك بقاعدة الاتلاف، أو قاعدة على اليد، ففي جميع ذلك يكون الامران: أي الحرمة التكليفية والضمان وضعا وذلك من جهة أن التصرف التكويني تنطبق عليه إحدى هاتين القاعدتين أي الاتلاف وعلى اليد غالبا. وأما التصرفات الاعتبارية أي نقلها بالانشاءات المعهودة من العقود والايقاعات: فمن حيث أنها فعل غير المالك وأمر خارجي لا مساس لها بمال الغير، ومن حيث منشأتها امورا اعتبارية لا وجود لها في عالم الاعتبار، ويحتاج وجودها في عالم الاعتبار التشريعي أيضا إلى اذن المالك أو اجازته، والمفروض فيما نحن فيه أي الفسخ أنه بدون إذن المالك وإجازته، فلا يوجد في عالم الاعتبار التشريعي فيكون لغوا لا أثر له، فيبقى المال في ملك من ملك بالعقد، وهذا دليل على البقاء من دون حاجة إلى الاستصحاب. فموضوع السلطنة باق وموجود والنتيجة حيث إن الفسخ يتعلق بمال الغير بدون إذنه ورضاه فلا أثر له. إن قلت إن ما ذكر صحيح إن كان الفسخ عبارة عن إرجاع المال واسترداد ما انتقل منه إلى طرفه، فحينئذ يمكن أن يقال حيث إن الطرف مسلط على ماله، فله المنع عن إرجاع ماله إلى صاحبه الاول بدون إذنه ورضاه، وأما لو كان الفسخ عبارة عن
حل العقد ونقض العهد كما هو الصحيح وعليه بنى المحققون في مبحث الخيارات، فليس للفسخ علاقة وتعلق بالمال المنتقل إلى طرف الفاسخ كي يقال بأنه بدون إذن مالكه يكون منافيا مع السلطنة المطلقة التي للمالك التي هي مفاد هذا 189 الحديث الشريف. قلنا إن السلطنة المطلقة التامة للمالك على ماله التي ثابتة له عند العرف والعقلاء، ومفاد هذا الحديث وهو إمضاء ما عند العرف، تنافي إمكان إرجاع ماله بدون إذنه وإجازته، ولو كان بتوسط حل العقد، فقاعدة تسلط الناس على أموالهم في نظر العرف والعقلاء تمنع عن انحلال العقد بفسخه، وتبين عدم قدرته في عالم التشريع على حل العقد الذي يكون سببا لخروج ماله عن ملكه بدون رضاه وإجازته. وإن شئت قلت: إن الفسخ بعنوانه الاولي حل العقد، وبعنوانه الثانوي إرجاع كل واحد من العوضين إلى مالكه الاول، فإذا كان الارجاع والاخراج عن ملكه بدون إذنه منافيا لسلطنته، فالسبب الذي يترتب عليه هذا الامر أيضا يكون منافيا لسلطنته فيكون منفيا بهذا الحديث، فهما ضدان أي قدرته على حل العقد مع كون طرفه ذا السلطنة المطلقة التامة ضدان، فلا يصح جعلهما، وحيث إن السلطنة ثابتة بهذا الحديث فلا بد وان نقول بعدم قدرته شرعا على حل العقد الذي هو مناف بهذه السلطنة. نعم لو قلنا بأن المالك له السلطنة فقط على أنواع التصرفات في ماله وأما منعه للغير فلا، فحينئذ يمكن أن يقال بجواز حل العقد بالفسخ، وإن كان أثره إرجاع كل واحد من العوضين إلى صاحبه الاولى على رغم المالك الفعلي بالعقد. ولكنك خبير بأن هذا الاحتمال بعيد عن الصواب، والنتيجة أنه ليس لكل واحد من الطرفين فسخ العقد وحله إلا أن يكون بجعل منهما، أو بجعل من قبل الشارع كخيار المجلس، أو كان العقد من العقود الجائزة بالذات كالعقود الاذنية التي قلنا
إطلاق العقد عليها إطلاق عنائي مسامحي، ولو فسخ لا يؤثر، وهذا معنى اللزوم. ومما ذكرنا ظهر أن تفصيل شيخنا الاستاذ قده في المقام بين أن يكون الخيار أي ملك فسخ المعاملة وإقرارها متعلقا بالعقد أو بالعين: فقال في الاول إن في مورد الشك لا يمكن التمسك بهذه القاعدة لاثبات اللزوم لان الفسخ لا يرجع إلى تصرف غير المالك في العين المملوكة لغيره كي يكون منافيا مع سلطنة ذلك الغير على ماله، وذلك لان الخيار يبطل التبديل الواقع من المتعاقدين من دون إرجاعه للعين، وإنما يكون رجوعها يحصل قهرا بواسطة حل العقد. وأما في الثاني أي صورة القول بأن الخيار متعلق بالعين، فيجوز التمسك بهذه القاعدة في مورد الشك لاثبات اللزوم، لمنافات الخيار بناء على هذا مع سلطنة الطرف على منع الغير عن التصرف في ماله، وإن كان باخراجه عن ملكه ليس كما ينبغي. ومنها قوله صلى الله عليه وآله المؤمنون عند شروطهم، (1) ودلالة هذا الحديث الشريف على المطلوب مبني على أمرين: أحدهما شمول الشرط للعقود الابتدائية بمعنى أن يكون المراد منه مطلق الالزام والالتزام، وإلا لو كان خصوص الالزام أو الالتزام في ضمن العقود فلا يشمل العقود الابتدائية، وذلك واضح. ولا يخفى أن إثبات هذا المعنى أي كون المراد منه مطلق الالزام والالتزام موقوف إما على كون هذا المعنى معنى حقيقيا لهذه الكلمة وإما أن يكون في المقام قرينة على إرادة هذا المعنى مجازا، والثاني واضح عدمه وأما الاول فلا طريق له إلا انسباق هذا المعنى إلى أذهان أهل العرف في موارد الاستعمالات والظاهر أيضا عدمه بل الذي
(هامش)
1. تهذيب الاحكام ج 7، ص 371، ح 1503، باب المهمور والاجور و...، ح 66، الاستبصار ج 3، ص 232، ح 835، باب من تزويج المرأة على حكمها في المهر، ح 4، وسائل الشيعة ج 15، ص 30، أبواب المهور، باب 19، 4. (*)
ينسبق إلى الذهن من هذه اللفظة في موارد الاستعمالات هو ما يكون له ارتباط وعلاقة بشئ آخر وجودا أو عدما. وأما ما ذكره في القاموس (1) من أنه الالزام والالتزام في ضمن البيع فهو تعريف بالاخص ببيان بعض مصاديقه، وإطلاق الاصوليين مفهوم الشرط في قولهم أن للقضية الشرطية مفهوم يرجع إلى هذا المعنى، بمعنى أن وجود التالي مربوط ومعلول لوجود المقدم فيلزم من عدمه العدم، وكذا قول المنطقيينن في باب القضايا القضية الشرطية وتقسيمها إلى المتصلة والمنفصلة، وقول النحويين أن كلمة إن ومتى وأمثالهما أداة الشرط، كلها يرجع إلى ما قلنا من أنه يطلق على ما فيه نحو ارتباط بغيره. فالالتزامات الابتدائية وكذلك إلزاماتها التي لا ربط بينها وبين غيرها، لا يطلق عليها الشرط إطلاقا حقيقيا، ولذلك قلنا إن الشروط الابتدائية التي ليست في ضمن عقد لازم لا يجب الوفاء بها، لعدم شمول قوله صلى الله عليه وآله المؤمنون أو المسلمون عند شروطهم لتلك الشروط، لعدم انطباق مفهوم الشرط بمعناه الحقيقي عليها، لا أن عدم وجوب الوفاء بها لاجل وجود المخصص، وهو الاجماع على عدم لزوم الوفاء بها. وخلاصة الكلام أن القول بأن الالتزامات الابتدائية شروط بالمعنى الحقيقي، مما لا يساعد عليه الوجدان وفهم العرف. وأما إطلاق الشرط في بعض الاخبار على بعض الاحكام الشرعية كقوله صلى الله عليه وآله شرط الله قبل شرطكم (2) أي كون الولاء لمن أعتق، أو قوله عليه السلام في الحيوان كله شرط ثلاثة أيام (3) وأمثالهما، فالظاهر أن ليس المراد منهما الجعل الابتدائي من دون
(هامش)
1. القاموس المحيط ج 2، ص 381 (شرط). 2. تفسير العياشي ج 1، ص 240، ح 121، وسائل الشيعة ج 15، ص 31، أبواب المهور، باب 20، ح 6. 3. الفقيه ج 3، ص 201، باب الشرط والخيار في البيع، ح 3761، تهذيب الاحكام ج 7، ص 24، ح 101، باب عقود البيع، ح 18، وسائل الشيعة ج 12، ص 349، أبواب الخيار، باب 3، ح 1. (*)
ملاحظة ارتباطه مع غيره كما توهم، إذ يمكن أن يكون المراد منهما هو الجعل الالهي بملاحظة كون العمل بما ألزم فعله أو تركه، وامتثاله بالايجاد في الاول والترك في الثاني، وترتيب الاثر في الوضعيات شرطا لدخول الجنة. فكأن الله تبارك وتعالى جعل امتثال أحكامه والعمل بها مقدمة وشرطا لدخول الجنة، ولعل بهذا الاعتبار يقول جل جلاله إن الله اشترى من المؤمنين و أنفسهم أموالهم بأن لهم الجنة (1) وأيضا قوله تعالى تجارة تخشون كسادها (2) وأيضا قوله تعالى ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان. (3) وخلاصة الكلام أنه يظهر من الآيات والاخبار أن الاحكام الشرعية وضعية وتكليفية امتثالها والعمل على طبقها وترتيب الاثر عليها في الوضعيات شروط في عالم العهد والميثاق الذي يعتبر عنه بعالم الذر في الاخبار من قبل الله تعالى لدخول الجنة التي وعد بها المتقون، والحاصل أن القول بأن الشرط بحسب مفهومه العرفي وما هو معناه الحقيقي يشمل مطلق الجعل الابتدائي كي يكون جميع العقود الابتدائية من مصاديق ذلك المفهوم، مما ينكره الوجدان، وما هو المتفاهم العرفي من هذه الكلمة. ثانيهما أن تكون هذه الجملة دالة على وجوب الوفاء بالشروط تكليفا أو وضعا فيكون معناها أنه يجب الوفاء على المؤمنين بشروطهم، فيكون مساقها مساق أوفوا بالعقود بعد هاتين المقدمتين، أي كون الشروط عبارة عن مطلق الالزامات والالتزامات، وكون معنى الجملة وجوب الوفاء بتلك الالزامات والالتزامات، وقد تقدم شرح دلالة أوفوا بالعقود على اللزوم.
(هامش)
1. التوبة (9): 111. 2. التوبة (9): 24. 3. يس (36): 60. (*)
والانصاف أن هذه المقدمة الثانية لا إشكال فيها بيان ذلك أن قوله عند شروطهم ظرف لغو متعلق بأفعال العموم، وهذا ظاهر الكلام لا يحتاج إلى الدليل، كما بينا ذلك في نظائره مثل قوله صلى الله عليه وآله وعلى اليد ما أخذت حتى تؤديه. (1) فتقدير الكلام أن المؤمنين أو المسلمين ثابتون أو واقفون أو مستقرون وأمثال ذلك عند شروطهم فهي إما من قبيل انشاء الحكم بصورة الاخبار الذي هو آكد في الوجوب من الجملة الطلبية الانشائية كما قررناه في الاصول، فيكون المعنى يجب الثبوت عند الشروط، وعدم الخروج عما التزم به، وهذا المعنى من لوازم اللزوم. وإما مفاده يكون ابتداء هو الحكم الوضعي بأن يكون الحكم بالثبوت كناية عن اللزوم، ويدل عليه استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام بهذه الجملة في قوله من شرط لامرأته بشرط فليف لها به، فان المسلمين عند شروطهم، إلا ما أحل حراما أو حرم حلالا (2) فتمسك بهذا الحديث النبوية لوجوب الوفاء، وعلى كل تقدير يكون مفاد الجملة هو اللزوم على تقدير صحة المقدمتين. لكن عرفت أن صحة المقدمة الاولى في غاية الاشكال، بل مناف للوجدان، فلا دلالة لهذا الحديث الشريف على وجوب الوفاء بكل عقد كي يكون مفاده لزومها. نعم يدل على وجوب الوفاء بالشروط الضمنية التي تقع في ضمن العقود اللازمة. ومنها الاخبار الكثيرة الواردة في لزوم البيع بعد التفرق عن مجلس المعاملة، بقوله صلى الله عليه وآله البيعان بالخيار ما لم يفترقا وإذا تفرقا أو إذا افترقا على اختلاف
(هامش)
1. سنن أبي داود ج 3، ص 296، ح 3561، سنن ابن ماجه ج 2، ص 802، ح 2400، مسند احمد ج 5، ص 8 و 13، سنن البيهقى ج 6، ص 95. 2. تهذيب الاحكام ج 7، ص 467، ح 1872، باب الزيادات وفقه النكاح، ح 80، وسائل الشيعة ج 12، ص 353، أبواب الخيار، باب 6، ح 5. (*)
طرق نقل الحديث الشريف وجب البيع ولا خيار بعد الرضا. (1) والمراد من الرضا في الحديث الشريف هو الرضا المعاملي أي اختيار المعاملة من غير كره ولا إجبار عليها، لاطيب النفس، وذلك لان كثيرا من المعاملات ليست عن طيب نفس بل الحاجة والضرورة دعته إلى إيقاع المعاملة، وعلى كل حال الذي لا يمكن إنكاره دلالة الحديث الشريف على لزوم البيع بعد انقضاء المجلس وحصول الافتراق بين المتبايعين، وبناء على هذا إذا طرأ شك في لزوم البيع بعد حصول الافتراق لعروض حالة أوجبت الشك نتمسك بهذه الاخبار للزومة وعدم الاعتناء بالشك. وأما ما توهم من أن الشارع جعل الافتراق غاية لهذا الخيار الخاص، أي خيار المجلس، ولا ينافي ذلك ثبوت الخيار من جهة اخرى إذا جاء الدليل عليه، فليس أدلة سائر الخيارات مخصصا لهذا العموم، وفي الحقيقة لا عموم في البين يدل على اللزوم مطلقا بل اللزوم يكون من ناحية خاصة أي تمامية خيار المجلس بحصول الافتراق فقط، فلو احتملنا وجود خيار من ناحية اخرى ليس عموم يرفع الشك. فعجيب من جهة أن قوله صلى الله عليه وآله إذا افترقا وجب البيع بعقد قوله البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ظاهره وجوب البيع ولزومه من جميع النواحي، ولا وجه لتقييده بناحية هذا الخيار أي خيار المجلس، وإلا لو فتح هذا الباب لانسد باب التمسك بالاطلاقات في جميع الموارد خصوصا بملاحظة قوله صلى الله عليه وآله ولا خيار بعد الرضا الذي نفى فيه جنس الخيار بلا النافية للجنس، فكيف يمكن أن يقال إن المنفي هو انتفاء هذا الخيار فقط ولا يدل على انتفاء مطلق الخيار بحصول التفرق.
(هامش)
1. الكافي ج 5، ص 170، ح 4 - 6، التهذيب ج 7، ص 24، ح 100 وج 7، ص 20، ح 85، الاستبصار ج 3، ص 72، ح 24، وسائل الشيعة ج 12، ص 345، أبواب الخيار، باب 1، ح 1 - 3، صحيح البخاري ج 3، ص 84، سنن السنائى ج 7، ص 248، صحيح مسلم ج 3، ص 1163، سنن ابن ماجة ج 2، ص 736، ح 2182، سنن الترمذي ج 3، ص 547، ح 1245. (*)
فالحق أن هذا الحديث يدل على اللزوم مطلقا ومن جميع النواحي لا من ناحية خيار المجلس فقط، فأدلة سائر الخيارات تكون من قبيل المخصصات والمقيدات لهذا العموم والاطلاق، نعم هذه الرواية أو الحديث لا تدل على اللزوم إلا في البيع وأما في سائر العقود والمعاملات، فلابد من التماس دليل آخر على اللزوم. ثم بعد ما عرفت ما ذكرنا تعرف أن مقتضى هذه العمومات والاطلاقات، هو كون الاصل في أبواب العقود والمعاملات هو اللزوم، ولا يؤثر الفسخ إلا بدليل خاص لادلة الخيارات فأصالة اللزوم حيث إنها من باب أصالة الاطلاق أو أصالة العموم فهي قابلة للتقييد والتخصيص، والمخصصات هي أدلة الخيارات. ثم إن مفاد الاطلاقات والعمومات المذكورة مختلفة من حيث السعة والضيق فالعموم الاول أي بناء العقلاء أوسع وأشمل من الجميع، إذ يشمل جميع العقود والمعاهدات معاوضية كانت أو غير معاوضية، مملكة كانت أو غير مملكة، بل يشمل الايقاعات أيضا وأما الثاني أي قوله تعالى أوفوا بالعقود يشمل جميع العقود مطلقا ولا يشمل الايقاعات، وأما خروج العقود الاذنية عن مفادها فقد قلنا إنها ليس من باب التخصيص بل يكون خروجها خروجا موضوعيا وبالتخصص، لانها عقد صورة وليست في الحقيقة بعقد، وأما العقود العهدية، فيشملها سواء كانت معاوضية ومملكة أو لم تكون كذلك، حتى يشمل مثل عقد البيعة الشرعية الصحيحة بل المعاهدات التي تقع بين المسلمين وغيرهم إن كانت جائزة، وكانت على طبق المقررات الشرعية. وأما الثالث أي قوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم (1) فبناء على ما تقدم في وجه دلالته على اللزوم وعدم تأثير الفسخ يكون مختصا بالعقود المملكة وفي أبواب المعاوضات التي يصير كل واحد من
(هامش)
1. النساء (4): 29. (*)
العوضين ملكا لصاحب العوض الآخر، فكون الفسخ مؤثرا وموجبا لحل العقد ورجوع كل واحد إلى ملك مالكه الاولى بدون رضاية من ملكه بالعقد أو بالمعاطاة يكون من أكل مال الغير بالباطل. وأما الرابع أي قوله عليه السلام لا يحل ما امرئ مسلم إلا بطيب نفسه (1) فمساقه مساق الآية المتقدمة أي يكون دلالته على اللزوم في خصوص المعاملات المملكة سواء كانت بالمعاطاة أو بالعقد. وأما الخامس اي حديث السلطنة فأيضا مثل سابقيه، يدل على لزوم كل معاملة مملكة سواء كانت بالعقد أو كانت بالمعاطاة. وأما السادس أي حديث المؤمنون أو المسلمون عند شروطهم (2)، فيدل على لزوم كل ما يسمى شرطا وقد بينا في وجه اللزوم بعد صدق الشرط قول أمير المؤمنين عليه السلام من شرط لامرأته شرطا فيلف لها به (3) ومفاد هذه الرواية كما تقدم وجوب الوفاء بشرطه الذي شرط على نفسه والتزم به، فمفاد هذا الحديث الشريف الذي رواه الفريقان ومن هذه الجهة ربما يطمئن الانسان بصدوره عنه صلى الله عليه وآله بل يقطع هو الوقوف والثبوت عند التزاماته مطلقا سواء كانت تلك الالتزامات بدوية أو كانت في ضمن العقود اللازمة، وقد تقدم أن هذا المعنى مساوق للزوم. وهذا الدليل يشمل جميع الالتزامات التي التزم بها المؤمن سواء كانت في أبواب المعاملات والمعاوضات، أو كانت في غيرها، فيمكن أن يقال إن هذا الدليل أشمل من الادلة السابقة، إذ له إطلاق من أغلب الجهات. وأما السابع أي الاخبار الواردة في لزوم البيع بعد الافتراق، فلا شك في أنها
(هامش)
1. تقدم تخريجه في ص 220. 2. تقدم تخريجه في ص 225. 3. تهذيب الاحكام ج 7، ص 467، ح 1872، باب الزيادات وفقه النكاح، ح 80، وسائل الشيعة ج 12، ص 353، أبواب الخيار، باب 6، ح 5. (*)
تدل على لزوم خصوص البيع بعد انقضاء المجلس، وحصول التفرق. ثم إنه لو فرضنا عدم دلالة الادلة السابقة على لزوم العقود ووصلت النوبة إلى حكم الشك، فنقول: لا شك في أنه لو كان للحكم الشرعي أو الموضوع الذي له أثر شرعي حالة سابقة متيقنة، وشك في بقاء تلك الحالة يستصحب ان كان لبقاء تلك الحالة أثر شرعي في حال الاستصحاب، فنرى هل هاهنا يمكن استصحاب نفس اللزوم أو ما يكون لازما أو ملزوما أو ملازما له، فيثبت بها اللزوم، أم لا يمكن شيء من ذلك؟ أقول: أما استصحاب نفس اللزوم وان قلنا بأنه حكم وضعي قابل للجعل ابتداء بلا توسيط جعل آخر كي يكون منشأ لانتزاعه أو اعتباره فلا مجال له هاهنا أي في مورد الشك في لزوم معاملة أو عقد ابتداء، لانه متى كان لازما كي يستصحب؟ نعم لو كان عقدا ومعاملة لازما ابتداء، وشككنا في طرو الجواز عليها لاحتمال وجود خيار لم يكون دليل على وجوده ولا على عدمه ووصلت النوبة إلى حكم الشك فلا مانع من استصحاب نفس اللزوم، والا ففي غير هذه الصورة فاستصحاب نفس اللزوم لا معنى له. وأما استصحاب الملكية السابقة على الفسخ الذي ينتج اللزوم، ففيه تفصيل إجماله أن هذا الاستصحاب المدعى في المقام تارة يدعى انه من قبيل استصحاب الكلي، وأخرى أنه استصحاب شخص الملكية المنشأة بالعقد أو بالمعاطاة والفعل من طرف واحد أو الفعل الصادر من الطرفين. أما الثاني أي استصحاب شخص الملكية ففيه أنه من قبيل استصحاب الفرد المردد فلا يجري اولا على ما هو التحقيق وسنبين وجهه وثانيا على فرض الجريان يكون مثبتا، أما عدم جريان الفرد المردد لان شخص هذه الملكية التي وجدت
بانشاء المتعاملين المرددة بين أن يكون مستقرة لا تزول بالفسخ وغير الثابتة التي تزول بالفسخ ليست قابلة للبقاء، لانه بعد الفسخ إن كانت متزلزلة، غير مستقرة فقد زالت وانعدمت بالفسخ وإن كانت مستقرة غير متزلزلة، فهي وإن كانت باقية بعد الفسخ، ولكن ليست فردا مرددا فالفرد المردد بوصف أنه مردد غير قابل للبقاء، فلا يمكن استصحابه، والفرد المعين وإن كان قابلا للبقاء لكنه ليست معلومة ومتيقنة في وقت من الاوقات، فما هو متيقن أي الفرد المردد ليس قابلا للبقاء، وما هو قابل للبقاء أي الفرد المعين لم يكن متيقنا. فعلى كل واحد من التقديرين يختل أحد أركان الاستصحاب أي إما لا يكون اليقين السابق، أو لا يكون الشك في البقاء لاحقا. فاختلال الركن الاول إذا فرضنا المستصحب فردا معينا واختلاف الركن الثاني أي الشك في البقاء، إذا كان المستصحب فردا مرددا، فاستصحاب الفرد والشخص لا مجرى له. وأما الاول أي استصحاب الكلي أي الجامع بين الملك المستقر الثابت وبين المتزلزل كي يكون من قبيل استصحاب القسم الثاني من أقسام الكلي كاستصحاب كلي الحدث الجامع بين الحدث الاصغر والاكبر، بأن يقال هذا الجامع وجد بمحض وجود العقد تام الاجزاء والشرائط أو وجود معاملة المعاطاة مثلا، فان كان وجوده في ضمن الملك المتزلزل غير المستقر، انعدم بالفسخ، وإن وجد في ضمن الملك المستقر فبعد الفسخ لا ينعدم مثل إنعدامه في القسم الاول، بل باق، وهذا الترديد في الانعدام والبقاء يرجع إلى الشك في البقاء فيتم أركان الاستصحاب من اليقين بوجوده المستصحب سابقا، والشك في بقائه لاحقا. واعترض على هذا الاستصحاب من وجوه: منها أن هذا الاستصحاب مثبت من جهة أن بقاء قدر المشترك لا يثبت
عنوان اللزوم، ولكن جواب هذا الاشكال وهو أن المراد والمقصود من النزاع في اللزوم وعدمه هو أن المعاملة أو العقد ينحل بالرجوع والفسخ أم لا، ويبقى أثره، فاثبات بقاء الاثر وعدم الانحلال بالرجوع أو الفسخ كاف في اثبات هذا المقصود، ولا نحتاج إلى اثبات عنوان اللزوم كي يقال بأنه مثبت. هذا مضافا إلى أنه يمكن أن يقال إن عنوان اللزوم عنوان ومفهوم انتزاعي ينتزع قهرا من بقاء أثر العقد بعد فسخ أحدهما بدون رضا الآخر، أو يقال بأنه وان كان من الاحكام الشرعية الوضعية ولكنه ينتزع من الاحكام التكليفية كما أنه نسب ذلك إلى الشيخ الاعظم الانصاري قده (1) فأيضا ينتزع قهرا من بقاء أثر العقد الثابت بالاستصحاب. ومنها ما اعترض به صاحب الكفاية في تعليقته على مكاسب شيخنا الاعظم الانصاري (2) بأن هذا الاستصحاب من الشك في المقتضى فمن يقول بعدم جريان في الشك في المقتضى ليس له أن يستند في اثبات اللزوم بهذا الاستصحاب. وفيه أن المراد من الشك في المقتضى الذي، لا نقول بجريان الاستصحاب فيه هو أن يكون الشك في استعداد بقائه في عمود الزمان، بحيث يحتمل تمامية قابلية بقائه وفناء عمره وارتفاعه من عند نفسه، من دون وجود مزيل ورافع له، وما نحن فيه ليس هكذا، بل قابل للبقاء مادام موضوعه موجودا شأن كما هو كل حكم شرعي، فما لم يأت الفسخ لا يشك في بقائه، وإنما الشك في البقاء يحصل بعد وجود محتمل الرافعية وقد دافعنا عن أمثال هذه الشبهات تفصيلا في الاصول في بيان معنى الشك في المقتضى وأن أغلب الشبهات من جهة عدم الوصول إلى معنى الشك في المقتضى.
(هامش)
1. فرائد الاصول ج 2، ص 601. 2. حاشية كتاب المكاسب ص 13. (*)
ومنها معارضته مع الاستصحاب الحاكم عليه، وهو استصحاب بقاء علقة المالك الاول من جهة الشك في أن المالك الاول بعد وقوع المعاملة التي يشك في لزومها انقطعت علاقته عن هذا المال بالمرة أو بقيت بحيث يقدر بسبب ذلك المقدار الباقي من تلك العلاقة على إرجاع ذلك المال إلى نفسه. وبعبارة اخرى هذه المعاملة التي وقع الشك في لزومها هل صارت سببا لخروج المال عن يد المالك الاول بحيث صار المالك الاول مثل الاجنبي وصار كأنه لم يكن مالكا؟ أو بقى له حق الارجاع بتوسط الفسخ؟ فبقاء ذلك المقدار الذي قد يعبر عنه بملك أن يملك، مشكوك فيستصحب، ولا شك في حكومة هذا الاستصحاب على استصحاب بقاء ملكية المالك الثاني، لانه رافع في عالم التشريع لموضوع استصحاب الاخير، إذ بقاء علاقة المالك الاول وقدرته على إرجاع المال إلى نفسه بالفسخ موجب للعلم بعدم بقاء ملكية المالك الثاني في عالم التعبد والتشريع، فلا يبقى شك في البين كي يستصحب. وفيه أنه لا شك في ارتفاع الاضافة التي كانت بين المالك الاول وهذا المال بنفس العقد التام الاجزاء والشرائط، وهذا هو معنى انتقال المال بالبيع مثلا من البايع إلى المشتري بالنسبة إلى المثمن، وبالعكس بالنسبة إلى الثمن، فلا يبقى إضافة بين المال والمالك الاول، لان الاضافة اعتبارية ولا تنقطع كي يقال قطعة ارتفعت بالبيع وبقى قطعة منها، فلو كان علاقة وإضافة بين المالك الاول والمال، لابد وأن يكون حادثا بسبب الفسخ فليس شيء يحتمل بقائه كي يستصحب. وبعبارة اخرى العقد المشكوك اللزوم ليس أمره أعظم من الموارد المعلوم جوازها بسبب الخيار، وفي العقد الخياري، يحدث علاقة بسبب الخيار، وإلا فالعلاقة التي كانت بين الملك والمالك زالت بالمرة بالعقد، والخيار المجعول من قبل المتعاقدين أو من قبل الله تعالى يوجب حدوث علاقة جديدة بين ذي الخيار والمال الذي انتقل منه إلى طرفه المسمى بحق الارجاع، أو كونه مالكا لان يملك.
وأما بناء على قول من يقول إن ملكية المشتري مثلا للثمن متوقفة على انقضاء زمن الخيار، وإلا فقبل انقضاء زمن الخيار لا تحصل ملكية بنفس العقد، فلا تحصل علاقة جديدة بالفسخ، بل الملكية من الاول موجودة لذي الخيار، وعلى هذا أيضا لا وجه للاستصحاب، لبقاء الملكية قطعا، ولكن مثل هذا الكلام على تقدير صحته في العقود الخيارية لا يمكن القول به في مطلق العقود الجائزة، لانه لو لم تحصل الملكية بنفس العقد، فلا تحصل اصلا، لانه ليس هناك خيار كي يقال بحصول الملكية بعد انقضاء زمان الخيار. فقد ظهر من جميع ما ذكرنا أن علاقة المالك تزول بمحض وجود العقد الناقل ولا يبقى منها شيء قطعا ويقينا، فليس شيء يشك في بقائه كي يستصحب. وأما احتمال أن يكون الاستصحاب من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي بان يقال ان الملكية مثل السواد والبياض من الطبائع المقولة بالتشكيك، فلها مراتب مختلفة بالشدة والضعف، فإذا جاء الفسخ، فمن الممكن أن يذهب ببعض مراتبها ويبقى البعض الآخر، فإذا شك في بقاء البعض يستصحب بقائه بعد الفسخ، فيبقى بعد الفسخ على ملك المالك الثاني، وهذا عبارة اخرى عن اللزوم، لانه بالفسخ لم ترتفع الملكية بتمامها بل بقي مرتبة منها والمعاملة الجائزة أو العقد الجائز هوأن يرجع المال بالفسخ إلى صاحبه الاول، ولا يبقى للمالك الثاني شيء منه. هذا، ولكن فيه أن الامور الاعتبارية وان كان من الممكن اعتبارها شديدا أو ضعيفا كما اعتبر ذلك في النجاسة والحدث، فالحدث الاكبر أشد من الحدث الاصغر فقد عبر عن الرواية في مقام السؤال عن المرأة الجنب إذا حاضت أنه جاءها ما هو أعظم، أي الحيض أعظم من الجنابة، أو نجاسة البول أشد من نجاسة الدم مثلا، فلا ينبغي أن يشك في أن الامور الاعتبارية أيضا مثل الامور التكوينية يمكن أن يكون لبعض أنواعها مراتب مختلفة الشدة والضعف، مقولة بالتشكيك، وذلك باعتبار بعض
أفراد نوع من أنواعها أشد من الفرد الآخر فيعتبر في نجس من أنواع النجاسات نجاسة شديدة وفي نجس آخر منها نجاسة ضعيفة، ففي النجاسة الحاصلة من ملاقات جسم للبول يمكن أن يعتبر نجاسة شديدة بحيث إذا غسل مرة تزول مرتبة وتبقى مرتبة منها، فيحتاج إلى غسله ثانية لزوال المرتبة الباقية. ولكن الملكية في الاعتبار العرفي ليست هكذا، بل هي أمر بسيط يدور أمرها بين الوجود والعدم، ولا يمكن في نظر العرف والعقلاء أن تنعدم مرتبة منها وتبقى مرتبة اخرى، فيدور أمرها بين أن تبقى بتمامها أو تزول بتمامها، فبناء على هذا لا يمكن استصحاب بقاء مرتبة ضعيفة عن الملكية للمالك الثاني، بعد فسخ المالك الاول، كي ينتج نتيجة اللزوم. فقد ظهر مما ذكرنا أن استصحاب الملك الكلي الجامع بين الملكية المستقرة الثابتة التي لا تزول بالفسخ، وبين الملكية المتزلزلة التي تزول بالفسخ لا مانع منه، ونتيجته لزوم المعاملة التي شك في لزومها. وأما الاشكال على هذا الاستصحاب بأن الشك في بقاء الكلي مسبب عن حدوث الفرد الباقي والاصل عدمه فلا يبقى موضوع لهذا الاستصحاب. ففيه أولا: أن الشك في البقاء الكلي ليس مسببا عن الشك في حدوث ذلك المشكوك الحدوث الذي لو كان حادثا لكان الكلي باقيا، أعني الفرد الباقي، بل من لوازم كون الحادث ذلك الفرد الذي ارتفع يقينا، أو الذي بقى يقينا. وبعبارة أوضح الشك في بقاء الكلي مسبب عن أن الحادث أي واحد من هذين الفردين بمفاد كان الناقصة. وليس في البين ما يعين أن الحادث أي واحد من الفردين، وذلك لان الشك في بقاء الكلي لا يرتفع إلا بارتفاع منشائه، وثانيا في حكومة الاصل الجاري في السبب على الاصل المسببي، لابد أن يكون الترتب والسببية بينهما شرعيا، وتفصيل المسألة في الاصول ذكرنا في كتابنا
منتهى الاصول. (1) وخلاصة الكلام أن العدم النعتي أي عدم كون الحادث الذي وجد هو الفرد الباقي ليس له حالة سابقة والعدم المعمولي أي عدم حدوث الفرد الباقي مثبت لان لازمه عقلا هو حدوث الفرد الزائل الذي لازمه القطع بارتفاع الكلي فافهم. وثالثا أصالة عدم حدوث الفرد الباقي باصالة عدم حدوث الفرد الزائل. نعم أنكر شيخنا الاستاد قده (2) كون الاستصحاب ها هنا من القسم الثاني من أقسام الاستصحاب الكلي، لان اختلاف الملك بكونه مستقرا ومتزلزلا ليس لعروض خصوصيتين على الملك يكون باحداهما مستقرا وبالاخرى يسمى متزلزلا، بل الاختلاف يكون بنفس الارتفاع والبقاء، من جهة أن تنوعه بنوعين ليس باختلاف سبب الملك ولا باختلاف حقيقته وماهيته، من غير جهة أن أحدهما يرتفع بالفسخ والاخر لا يرتفع. فإذا كان الامر كذلك وكان تنوعه بنفس اللزوم والجواز، فينتفي أحد ركني الاستصحاب على أي حال، لان احد النوعين أي الجائز مقطوع الارتفاع، والاخر أي اللازم مشكوك الحدوث من أول الامر. وبعبارة اخرى بناء على ما ذكر ليس في البين إلا ملكية واحدة مرددة بين أن الشارع حكم بلزومها أو حكم بجوازها بواسطة اختلاف أسبابها، فمع قطع النظر عن حكم الشارع باللزوم والجواز لا تعدد ولا تنوع كي يقال بأن الجامع كان متيقن الوجود فصار مشكوك البقاء، بل ملكية واحدة لم يعلم أن الشارع حكم عليه باللزوم أو الجواز.
(هامش)
1. منتهى الاصول ج 2، ص 540 - 541. 2. المكاسب والبيع ج 1، ص 165. (*)
فليس الجامع هاهنا من قبيل الكلي الذي له وجود بوجود هذا الفرد وله وجود آخر بوجود الفرد الآخر كما هو الشأن في الكلي الطبيعي في الموارد الاخر، بل ها هنا يشبه الفرد الشخصي المردد بين كونه كذا وبين كونه كذا. فالشك في البقاء فيه يرجع إلى أن هذا الكلي الذي حكم عليه الشارع بالبقاء أو بالزوال هل هو باق أم لا، ومعلوم أن هذا الكلي الذي إما باق أو زائل على كل واحد من التقديرين ليس قابلا للابقاء، لانه على تقدير الزوال ممتنع البقاء، وعلى تقدير البقاء يكون إبقائه تعبدا من قبيل تحصيل الحاصل بل أسوء منه، لانه يكون من تحصيل ما هو حاصل بالوجدان بالتعبد ولا يقاس بالكلي الذي له فردان: باعتبار إضافة خصوصية إلى الطبيعة يحصل فرد منها وباضافة خصوصية اخرى بدل الاولى يحصل فرد آخر، لانه هناك للطبيعة وجودان وجود منضم إلى هذه الخصوصية ووجود آخر منضم إلى خصوصية اخرى. فالشك في أن الخصوصية المنضمة إلى الطبيعة أية واحدة من الخصوصيتين موجب للشك في بقاء الطبيعة، لان مرجع الشك الاول إنه هل الجامع بين الوجودين وجد في ضمن وجود الفرد الزائل كي يكون زائلا أو وجد في ضمن وجود الفرد الباقي كي يكون باقيا، فيكون شكا في بقاء ذلك الجامع الذي نسميه بالكلي. وفيما نحن فيه ليس للملكية وجودان أحدهما في ضمن الذي حكم عليه الشارع بالبقاء، والآخر في ضمن الذي حكم عليه بالزوال، بل وجود واحد إما حكم عليه بالبقاء أو بالزوال، فالاستصحاب مرجعه إلى أن هذا الوجود الباقي باق أو هذا الوجود الزائل باق، وكلاهما محالان، كما بينا وجهه، وعبر عن هذا المعنى شيخنا الاستاد قد سره (1) بأنه يلزم منه إدخال عقد الجمل في عقد الوضع فافهم فانه دقيق
(هامش)
1. المكاسب والبيع ج 1، ص 174. (*)
وبالتأمل حقيق. وهذا الكلام أي كون الملكية مستقرة أو متزلزلة ليس باعتبار اختلاف في حقيقة الملك، بل إنما هو باعتبار حكم الشارع في بعض المقامات عليه بالزوال برجوع المالك وفي بعض المقامات الاخر بعد الزوال بالرجوع، ومنشأ هذا الاختلاف اختلاف حقيقة السبب المملك لا اختلاف حقيقة الملك. فجواز الرجوع وعدمه من الاحكام الشرعية للسبب لا من الخصوصيات المأخوذة في المسبب، وقد أخذه شيخنا الاستاذ قده من الشيخ الاعظم الانصاري قده ولكن الشيخ الاعظم (1) علل بهذا صحة جريان الاستصحاب وشيخنا الاستاذ (2) علل به عدم صحة جريانه، والتوفيق بين الكلامين أن شيخنا الاستاذ أراد به عدم جريان استصحاب الكلي، والشيخ الاعظم أراد صحة استصحاب الشخصي وأنه ليس من الكلي ولا من الفرد المردد، وكلا القولين في غاية القوة والمتانة. أما الاول أي عدم جريان استصحاب الكلي فقد بينا وجهه فلا نعيد، وأما القول الثاني أي كون هذا الاستصحاب شخصيا وأنه ليس من الفرد المردد، فلا مانع من جريانه، فلان الملكية الحاصلة من العقد أو من المعاملة الخارجية شخصي لا تعدد فيها على الفرض، لان المفروض أن اللزوم أو الجواز من الاحكام الشرعية للسبب لا من خصوصيات المسبب. فالمسبب باق على النحو الذي انشأ ووجد في عالم الاعتبار، أي على تشخصه وتفرده فبواسطة الشك في أن الشارع حكم باللزوم وعدم الرجوع أو الجواز ورجوع المال إلى مالكه الاولى يشك في بقائه فيستصحب، لتمامية أركانه من اليقين بوجود الملكية الشخصية والشك في ارتفاعها بواسطة الشك في حكم الشارع باللزوم
(هامش)
1. المكاسب ص 85. 2. المكاسب والبيع ج 1، 174. (*)
أو الجواز. نعم يبقى شيء وهو دليل أن الملكية المنشأة واحدة لا تعدد فيه، أقول بعد أن فرضنا أن الجواز واللزوم ليسا من خصوصيات الملك المسبب بل من الاحكام الشرعية للسبب المملك، وأيضا بعد أن المفروض أن المنشئ أنشأ بانشاء واحد ملكية شيء واحد كليا كان ذلك الشيء أو كان جزئيا خارجيا ممتنع الصدق على كثيرين. فبانشاء واحد على متعلق واحد لا يمكن جعل ملكيتين، بل لا يمكن ذلك ولو كان بانشاءات متعددة، إذ باعتبارات متعددة لو اعتبر حرية شخص أو رقيته أو ملكية مال لا يحصل إلا حرية أو رقية أو ملكية واحدة، وذلك من جهة أن اعتبارها ثانيا بعد حصولها لغو بل محال، لانه من قبيل تحصيل الحاصل، فإذا باع المالك ماله مثلا وأنشأ ملكية لزيد مثلا فلا أثر لانشاء ملكية له ثانيا بل لا يمكن. وخلاصة الكلام أن البايع مثلا أنشأ شخصا من الملكية يكون تشخصها بتشخص متعلقها وموضوعها فيكون إنشاء طبيعة في عالم الاعتبار كايجادها في عالم التكوين، وحيث أن متعلق ذلك الامر الاعتباري شخص واحد، فقهرا يتشخص بتشخصه كالعرض بموضوعه، وكونها مرددة بين اللزوم والجواز تقدم أنه ليس من الخصوصيات اللاحقة لها فثبت أن الملكية المنشأة شخص واحد لا تعدد فيه فلا مانع من استصحاب ذلك الشخص بعد حصول الشك في بقائه من ناحية الشك في الحكم الشرعي ببقائه أو لزومه. فخلاصة الكلام في المقام أنه إن قلنا بأن اللزوم والجواز من الخصوصيات اللاحقة للملكية المنوعة أو المصنفة لها أو لحوقهما لها كل واحد منهما لخصوصية فيها غير الخصوصية الاخرى فيجري فيها استصحاب الكلي الجامع بينهما كسائر الاستصحابات التي من القسم الثاني من أقسام الاستصحاب الكلي على ما هو الصحيح من صحة جريانها، وأما إن قلنا بأنهما ليسا من الخصوصيات المنوعة أو
المصنفة للملكية بل هما حكمان شرعيان لها باعتبار اختلاف اسبابها، فيجري فيها الاستصحاب الشخصي كما تقدم. ثم إنه ذكر الشيخ الاعظم الانصاري قده (1) أنه لو شك في اللزوم والجواز من خصوصيات الملك أو حكمان شرعيان يتعلقان بالملك باعتبار اختلاف أسبابه أيضا يجري الاستصحاب وما ذكره قده واضح على ما ذكرنا، لانه بناء على كونهما من خصوصيات الملك يكون الاستصحاب من القسم الثاني من أقسام الاستصحاب الكلي، ويكون من قبيل الحدث المردد بين الاصغر والاكبر فتوضأ، فان كان الاصغر ارتفع وإن كان الاكبر فباق، فيستصحب الجامع بينهما. وفيما نحن فيه بناء على أن يكونا أي اللزوم والجواز من خصوصيات الملك، فبعد الفسخ إن كان جائزا فقد ارتفع، وإن كان لازما فالملك باق، فيستصحب الملك الكلي الجامع بين الخصوصيتين، وأما بناء على كونهما حكمان شرعيان يردان على الملك باعتبار اختلاف أسبابه، فيستصحب شخص الملكية المنشأة من جهة الشك في ارتفاعها بعد ثبوتها يقينا، فلا إشكال على كل واحد من التقديرين في جريان الاستصحاب وتمامية أركانه، غاية الامر في أحد الفرضين يكون الاستصحاب كليا، وفي الاخر يكون شخصيا. ولا يتوهم أنه بناء على ما ذكرنا وتقدم في أول بحث جريان الاستصحاب أن استصحاب الشخص لا يجري، لان مرجعه إلى استصحاب الفرد المردد، وهو لا يجوز فقولكم إنه يجري على كلا الفرضين مناقض لما تقدم، وذلك من جهة أن قولنا بعدم جريان الاستصحاب الشخصي وأنه من استصحاب الفرد المردد كان مبنيا على أن يكون اللزوم والجواز من الخصوصيات
(هامش)
1. المكاسب ص 85. (*)
المنوعة للملك أما إذا كانا من الاحكام الشرعية التي جعلهما باعتبار اختلاف الاسباب كما هو المفروض في محل الكلام، فلا مانع من جريان الاستصحاب الشخصي، فلا مناقضة بين الكلامين. خاتمة البحث في هذه القاعدة، وهو أنه وعدنا في صدر المسألة بيان جريان الاستصحاب في العقود التمليكية التعليقية وإثبات لزومها به عند الشك، والمراد من العقود التعليقية التملكية هو أن يكون التمليك معلقا على أمر غير حاصل، ويظهر مما أفاده الشيخ الاعظم الانصاري قده عدم جريان استصحاب الملكية في تلك العقود قبل حصول ذلك الامر المعلق عليه لو شك في لزومها. مثلا لو شك في لزوم الجعالة قبل حصول ما جعل على تحصيله الجعل، أو شك في لزوم عقد المسابقة قبل حصول السبق فلا يصح إثبات لزومهما باستصحاب ملكية الجعل في الجعالة أو السبق في عقد المسابقة، وذلك من جهة عدم حصول ملكية الجعل والسبق كي يستصحب، والمستصحب قبل وجود المعلق عليه لا وجود له ولا عين ولا أثر له، فأي شيء يستصحبه، وكيف يستصحب؟ وفيه أن الشارع في هذه العقود التعليقية يمضي ما أنشأهه العاقد كما أنه في العقود التنجيزية أيضا يمضي ما أنشأه العاقد، وليس فرق بين إمضاء الشارع في النوعين التعليقية والتنجيزية، وإنما الفرق بينهما في المنشأ فان المنشأ في العقود التنجيزية الملكية المنجزة وفي العقود التعليقية الملكية المعلقة. فالعاقد في العقود التعليقية مثل الجعالة والسبق والرماية ينشأ ملك الجعل على تقدير رد الضالة، وملكية السبق في عقد السبق والرماية، على تقدير حصول السبق وإصابة الرمي، وهذا الانشاء يشبه جعل الشارع الاحكام الكلية على موضوعاتها
على نحو القضية الحقيقية، أي على الموضوعات المقدرة وجودها. فالحكم الكلي المجعول على موضوع سواء كان ذلك الموضوع مقيدا بوصف أو كان مشروطا بشرط يكون الموضوع ذلك المركب المفروض الوجود، فإذا قال الشارع يجب الحج على العاقل البالغ المستطيع الحر أو قال بصورة القضية الشرطية من كان عاقلا بالغا حرا مستطيعا يجب عليه الحج فالموضوع عبارة عن الانسان الواجد لهذه الصفات، فكلما وجد في الخارج إنسان جامع لهذه الصفات يتحقق الموضوع ويوجد وينطبق ما هو الموضوع عليه، فان أتى بذلك المركب يكون ممتثلا، وإن لم يأت يعد عاصيا متمردا، وفي أي وقت رفع الشارع هذا الحكم عن ذلك الموضوع بدون أي تغيير في جانب الموضوع، من فقد شرط أو جزء أو وجود مانع، يعد هذا نسخا، فلو شك في بقاء هذا الحكم على هذا الموضوع المفروض الوجود، بدون أي تغيير، يستصحب بقائه لتمامية أركانه، ويسمى باستصحاب عدم النسخ، ولا كلام ولا إشكال ولا خلاف في جريانه، والاستصحاب في العقود التعليقية من هذا القبيل: ففي قضية فقد صواع الملك في قضية يوسف الصديق مع إخوته، جعل حمل بعير لمن جاء بصواع الملك، أي الجام الذي يشرب فيه أو منه، ورد هذه الضالة أي جام الملك، فيشبه هذا الجعل أي جعل ملكية حمل بعير لمن يأتي بصواع الملك جعل حكم كلي على الموضوع المقدر وجوده. فها هنا أيضا الموضوع المقدر وجوده كل إنسان جاء بلجام الملك غاية الامر هناك أي في القضايا المتكفلة لجعل الاحكام الشرعية الجعل ابتداء من قبل الشارع وها هنا أي في باب العقود التعليقية الجعل إبتداء من المالك والامضاء من الشارع فكما أن استصحاب عدم النسخ في الاحكام الكلية لا إشكال فيه، لتمامية أركانه فكذلك ها هنا استصحاب بقاء الملكية المنشأة من قبل المالك لا إشكال فيه.
والعجب من شيخنا الاعظم الانصاري قده (1) أنه قال بصحة الاستصحاب التعليقي مع أنه غير صحيح، وأنكر جريان الاستصحاب هاهنا، وقد عرفت أن صحة الاستصحاب هاهنا وجريانه لا اشكال فيه. وأما عدم صحة الاستصحاب التعليقي وأنه لا يجري، فبيانه وإيضاحه موقوف على بيان مقدمة، وهي أن استصحاب التعليقي عبارة عن أن يكون موضوع الحكم الشرعي مركبا من جزئين، سواء كان أحد الجزئين قيدا ووصفا للآخر أو كان شرطا له، فالاول كالعنب المغلي، والثاني كالعنب إذا غلى، فتغير أحد الجزئين قبل وجود الجزء الآخر. مثلا جف العنب قبل أن يغلي وصار زبيبا فشك في أنه إذا انضم إلى الجزء الآخر بعد حدوث هذا التغير هل يبقى الحكم السابق أم لا؟ فإذا غلى الزبيب هل يكون شربه حراما ويكون نجسا كما أنه لو كان يغلي في حال عدم الجفاف والعنبية كان له هذا الحكم يقينا. وبعد وجود هذا الشك هل يصح استصحاب الحكم السابق فيقال: إن هذا الزبيب حين ما كان عنبا كان شربه حراما على تقدير الغليان، والآن بعد ما صار زبيبا أيضا كذلك أي يكون شربه حراما على تقدير الغليان، وهذا يسمى بالاستصحاب التعليقي لانه عبارة عن إبقاء الحكم المعلق لا المنجز، وفي صحته وجريانه خلاف. والاصح عندي عدم صحته وذلك من جهة أن العنب لم يكون له حكم كي بعد جفافه والشك في بقاء ذلك الحكم يستصحب، وذلك من جهة أن العنب كان جزء الموضوع والجزء الآخر هو الغليان، وقبل وجود الموضوع بتمام أجزائه محال أن يوجد الحكم، لان وجود الحكم قبل ذلك خلف أي يلزم منه أن يكون ما فرضته موضوعا
(هامش)
1. فرائد الاصول ج 2، ص 653. (*)
لا يكون موضوعا ويكون من هذه الجهة حال الموضوع المركب حال العلة المركبة، أي كما لا يمكن وجود المعلول قبل وجود علته بتمام أجزائها كذلك لا يمكن وجود الحكم قبل وجود الموضوع بتمامه، والبرهان في الموردين هو لزوم الخلف. فبناء على هذا لم يكن للعنب قبل أن يجف ما لم يغل حكم كي يبقى بالاستصحاب إلى حال الجفاف، وأما القول بأن الحرمة والنجاسة الفعلية وإن لم تكونا للعنب قبل الغليان لعدم تحقق موضوعهما قبل الغليان، ولكن الحرمة النجاسة التقديريتان كانتا له بمعنى أنه كان يصح أن يقال قبل الغليان: إن العنب يتصف بالحرمة والنجاسة على تقدير غليانه، وهذا نحو وجود للحكم، ولا بأس بأن نسميه بالحكم التقديري. وقد اختار هذا القول في الكفاية (1) وأصر في وجود الحكم التقديري قبل وجود ما علق عليه أي الجزء الآخر، وقال: فان المعلق قبله إنما لا يكون موجودا فعلا، لا أنه لا يكون موجودا أصلا ولو بنحو التعليق. ولكن أنت خبير بفساد هذا القول العجيب، إذ لا شك في أن بداهة العقل يحكم بوجود كل معلول عند وجود علته، فهل يصح عند عدم وجود علة شيء أن يقال بالوجود التقديري لذلك المعلول في ظرف عدم علته مثلا لا شك في أن غروب الشمس عله لوجود الليل أفيصح أن يقول في وقت الظهر وارتفاع الشمس إن الليل موجود بالوجود التقديري؟ نعم الموجود هي الملازمة بين وجود العلة والمعلول، والحكم والموضوع، والملازمة حكم عقلي لا دخل ولا ربط لها بالاحكام، وقد يتحقق بين الممتنعين كتعدد الآلهة وفساد السموات والارضين ووجود الملازمة بين شيئين لا يدل على وجود طرفي الملازمة، بل تثبت وتصدق كما ذكرنا بين الممتنعين.
(هامش)
1. كفاية الاصول ص 411. (*)
وأعجب من هذا ما نسب إلى شيخنا الاعظم الانصاري (1) قدس الله روحه من تصحيح الاستصحاب التعليقي بارجاعه إلى استصحاب الملازمة، ويرد عليه أولا أن الملازمة بين الشيئين حكم عقلي أزلي ليس قابلا للجعل الشرعي، وهو قده اعترف بذلك وقال بأن الملازمة وكذلك السببية لا يمكن أن يكونا مجعولين بالجعل الشرعي، فالقول باستصحاب الملازمة مناقض مع ذكره في الاحكام الوضعية من عدم إمكان جعل الملازمة والسببية. وذلك من جهة أن المستصحب لابد وأن يكون إما من المجعولات الشرعية بنفسه أو يكون له أثر مجعول كي يكون قابلا للتعبد ببقائه، والسر في أن الملازمة ليست قابلة للجعل الشرعي أما في المقام فمن جهة أن فرض عدم الملازمة بين الحكم وموضوعه يرجع إلى جواز الانفكاك بينهما، وهذا خلف أي يكون خلاف فرض كونهما موضوعا وحكم وهذا مناقضة ومحال. فالعقل ينتزع الملازمة من كون الانفكاك بين شيئين محالا، سواء كان بين العلة والمعلول أو الحكم والموضوع، أو بين معلولي علة واحد المسمى بالمتلازمين، فإذا كان الامر كذلك فلا يبقى مجال للجعل الشرعي، بل لا يمكن، لان انتزاعه قهري ويكون من لوازم الذات التي لا يتطرق الجعل إليها مطلقا لا تكوينا ولا تشريعا كالامكان بالنسبة إلى الممكنات، والشيئية بالنسبة إلى الاشياء. وثانيا على فرض أن تكون الملازمة من المجعولات الشرعية تكون بين تمام الموضوع وحكمه فانهما لا ينفكان وأما جزء الموضوع مع جزئه الاخر مع الحكم فليسا بمتلازمين، بل لابد من الانفكاك بينهما، وإلا يلزم الخلف أي يلزم ما فرضته جزء الموضوع أن يكون تمام الموضوع. ففي المثال المفروض: الملازمة بين العنب المغلي مع الحرمة والنجاسة، وأما العنب
(هامش)
1. فرائد الاصول ج 2، 654. (*)
مع عدم الغليان فلا ملازمة بينه وبين الحرمة والنجاسة فلا ملازمة كي يستصحب بقاؤها في ظرف الشك في البقاء بواسطة جفافه وصيرورته زبيبا. وهاهنا إشكالات وأنظار من القائلين بصحة الاستصحاب التعليقي ولكن نحن لسنا بصدد تحرير هذه المسألة من جميع النواحي والجهات، وقد حققناها ودفعنا جميع ما أوردوا عليها في كتابنا منتهى الاصول ومن أراد فليراجع إليها. والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.