قاعدة حرمة الإعانة على الإثم والعدوان
ومن جملة القواعد الفقهية المشهورة التي يتمسك بها الفقهاء في مقام الإفتاء في جملة من الفروع الفقهية، ويطبقونها على المسائل الفرعية (قاعدة الإعانة على الإثم) وتوضيح الحال يقتضي التكلم فيها عن جهات ثلاث: (الجهة) الأولى في بيان مدركها ومستندها وهو امور: الأول: قوله تعالى في سورة المائدة في ضمن الآية الثالثة (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان) (1) ودلالة الجملة الثانية المشتملة على النهي عن التعاون على الإثم والعدوان على حرمة الإعانة على الإثم واضحة، كما أن الجملة الأولى أيضا ظاهرة في وجوب التعاون على البر والتقوى. ولكن حيث نعلم من الخارج عدم وجوب مطلق التعاون على البر والتقوى، فلا بد من رفع اليد عن ذلك الظهور والحمل على الاستحباب كما هو الظاهر، أو الحمل على بعض الموارد التي يكون التعاون واجبا، كانقاذ غريق، أو حريق وأمثال ذلك مما
(هامش)
(عوائد الأيام) ص 24، (اصول الاستنباط بين الكتاب والسنة) ص 133، (القواعد الفقهية) (فاضل اللنكراني) ج 1، ص 423 (1) المائدة (5): 2. (*)
يكون التعاون لأجل حفظ نفس محترمة مثلا. لكن لا مانع من الأخذ بظهور الجملة الثانية، بل هو المشهور المعروف، فلا بد من الأخذ به والعمل على طبقه بمقتضى أصالة الظهور. وأما حديث وحدة السياق ولزوم حمل النهي على الكراهة لا الحرمة من تلك الجهة. ففيه أولا: أن وحدة السياق فيما إذا كانت كل واحدة من الجملتين مشتملة على الأمر أو النهي، مثل أن يقول: (اغتسل للجمعة والجنابة) أو يقول مثلا: (لا تشرب الماء قائما ولا تبل في الماء). وأما في مثل المقام مما يكون إحدى الجملتين مشتملة على الأمر والأخرى على النهي - أي تكون إحديهما مفادها البعث على ايجاد شيء، والأخرى الزجر عن إيجاد شيء آخر - فلا يكون موردا للأخذ بوحدة السياق. وثانيا: أن الجملتين هاهنا كل واحدة منها مستقلة وفي مقام بيان أمر غير ما هو مفاد الأخرى، وبعبارة أخرى: في كل واحدة منهما بصدد بيان مطلب لاربط له بالمطلب الآخر الذي هو مفاد الجملة الأخرى، وصرف تتابع الجملتين في الذكر لا يدل على أن سياقهما واحد. نعم في مثل حديث الرفع (1) حيث أنه (ص) بصدد بيان رفع الأشياء التي في رفعها امتنان عن هذه الأمة كرامة له (ص)، فالمرفوع وإن كان متعددا ولكن المسند في جميعها هو الرفع الامتناني، وهو معنى واحد. ولذلك قالوا بلزوم أن يكون المرفوع في الجميع إما هو الحكم وإما يكون هو الموضوع، لا أن يكون في بعضها الحكم وفي بعض الآخر هو الموضوع: لوحدة السياق. وربما يستشكل في دلالة الآية على حرمة الإعانة على الإثم بأن النهي في الآية
(هامش)
(1) (التوحيد) ص 353، ح 24 (الخصال) ص 417، ح 9 (وسائل الشيعة) ج 11، ص 295، أبواب جهاد النفس وما يناسبه، باب 56، ح 1. (*)
تعلق بعنوان التعاون لا المعاونة والإعانة، والتعاون لابد وأن تكون المعاونة من الطرفين، ففيما إذا كان صدور فعل بإعانة كل واحد منهما للاخر - أي كانا شريكين في ايجاد ذلك الفعل - يصدق التعاون، وإلا لو كانت الإعانة من طرف واحد بحيث يكون أحدهما عونا للفاعل المباشر بواسطة إيجاد بعض مقدمات فعله، فهذه إعانة لا تعاون، لأن هيئة باب التفاعل موضوعة لا شتراك الشخصين في جهة صدور الفعل عنهما. فالتعاون عبارة عن كون كل واحد منهما عونا للاخر، والإعانة عبارة عن كون شخص عونا لشخص آخر في فعله. وما هو مفاد القاعدة ومضمونها هو الثاني، ومفاد الآية هو الأول. ولكن أنت خبير بأن أمره تبارك وتعالى بالتعاون على البر والتقوى، وكذلك نهيه عن التعاون على الإثم والعدوان ليس باعتبار فعل واحد وقضية واحدة وفي واقعة واحدة، بل الخطاب إلى عموم المؤمنين والمسلمين بأن يكون كل واحد منهم عونا للاخر في البر والتقوى، ولا يكون عونا لأحد في الإثم والعدوان. وبعبارة أخرى: إطلاق لفظ (التعاون) باعتبار مجموع القضايا، لا باعتبار قضية واحدة وفعل واحد، فلو كان مثلا زيد عونا لعمرو في الفعل الفلاني وكان عمرو عونا لزيد في فعل آخر يصدق أنهما تعاونا، أي أعان كل واحد منهما الآخر. ولو كان إعانة كل واحد منهما لصاحبه في فعل يصدر من نفس ذلك الصاحب، فيكون المأمور به في الآية الشريفة إعانة كل مسلم لكل مسلم في ما يصدر منه من فعل الخير والبر والتقوى، بمعنى مساعدته في ذلك الفعل ولو كان بايجاد بعض مقدماته القريبة أو البعيدة. والمنهي عنه إعانة كل شخص في فعله الذي هو إثم، أي معصية للخالق أو عدوان وظلم على الغير، وهذا عين مفاد القاعدة. فالانصاف أنه لا قصور في دلالة الآية المباركة على هذه القاعدة
وأما المراد بالبر والتقوى هي الأفعال الحسنة التي تصدر من المسلمين، سواء أكانت واجبة عليهم كالحج مثلا، أو مستحبة كبناء المساجد، وطبع الكتب الدينية ونشرها، إلى غير ذلك مما ندب الشرع إليها. كما أن المراد بالإثم هي المنهيات والمعاصي، صغيرة كانت أو كبيرة. وقد روى الطبري عن ابن عباس هذا المعنى في تفسير الآية المباركة (1) وأما عطف (العدوان) على (الإثم) فمن قبيل عطف الخاص على العام: لأن العدوان - أي التعدي والظلم - أيضا من مصاديق الاثم. ثم إن المفسرين ذكروا في شأن نزول الآية الشريفة قصة وحكاية، ولكن أنت خبير بأن خصوصية المورد لا يضر بحجية عموم مفاد الآية: وذلك من جهة أن العمومات الواردة في الكتاب الكريم في مورد خاص يكون من قبيل الكبرى الكلية التي تنطبق على المورد، ويكون المورد إحدى صغرياتها. الثاني: الأخبارة الواردة في الموارد الخاصة التي تدل على حرمة الإعانة على الإثم. منها: قوله (ص) (من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة، جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه: آيس من رحمة الله) (2) وتقريب الاستدلال بهذا الحديث على حرمة الإعانة على الإثم أنه لا شك في أن قتل المسلم إثم، وقد أوعد في الحديث العقاب واليأس من رحمة الله بالنسبة إلى الذي أعان على هذا الإثم العظيم والجريمة الكبيرة، ويستكشف من هذا الايعاد حرمته. ولكن يمكن أن يقال: إن الإعانة على قتل المسلم هي بنفسها إثم وحرام لا من جهة كونها إعانة على الإثم، وإن كان الظاهر من الحديث هو المنع عن الإعانة على
(هامش)
(1) (جامع البيان في تفسير القران) ج 6، ص 44 (2) (عوالي اللئالي) ج 2، ص 333، ح 48. (*)
قتل المسلم لكونها إعانة على ذلك الإثم العظيم، لا لكونه إثم مستقل في قبال قتل النفس المحترمة. منها: ما في الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام حكاية قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من أكل الطين فمات فقد أعان على نفسه) (1) والمستفاد من ظاهر هذا الحديث مفروغية حرمة الإعانة على النفس وأنها موجبة لاستحقاق العقاب، وأخبر أن أكل الطين من مصاديقها كي يرتدع منه خوفا من العقاب وإن كان من المحتمل أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم بصدد إرشاد من يأكل الطين، وأن العاقل لا يرتكب أمرا يكون موجبا لهلاك نفسه. لكن هذا الاحتمال ضعيف، والظاهر هو الأول. منها: الأخبار الواردة في حرمة معونة الظالمين في ظلمهم، وهي كثيرة ولها باب مخصوص في كتاب الوسائل (2) والمستدرك (3)، وإن شئت راجع إليهما. منها: ما ورد في حرمة إجارة داره لأن يباع فيها الخمر، كخبر جابر قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن الرجل يواجر بيته فيبتاع فيه الخمر، قال (عليه السلام): (حرام أجرته) (4). منها: ما رواه الكليني بإسناده عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام قال: (لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الخمر عشرة غارسها، وحارسها، وعاصرها، وشاربها، وساقيها،
(هامش)
(1) (الكافي) ج 6، ص 266، باب أكل الطين، ح 8، (تهذيب الأحكام) ج 9، ص 89، ح 376، باب الذبائح و الأطعمة، ح 111، (وسائل الشيعة) ج 16، ص 393، أبواب الأطعمة والأشربة، باب 58، ح 7. (2) (وسائل الشيعة) ج 12، ص 127، أبواب ما يكتسب به، باب 42. (3) مستدرك الوسائل) ج 13، ص 122، أبواب ما يكتسب به، باب 35. (4) (الكافي) ج 5، ص 227، باب جامع فيما يحل الشراء والبيع منه وما لا يحل، ح 8، (تهذيب الأحكام) ج 7، ص 134، ح 593، باب الغرر والمجازفة وشراء السرقة، ح 64، وج 6، ص 371، ح 1077، باب المكاسب، ح 198، (الاستبصار) ج 3، ص 55، ح 179، باب كراهية إجارة البيت لمن يبيع فيه الخمر، ح 1، (
وسائل الشيعة) ج 12، ص 125، أبواب ما يكسب به، باب 39، ح 1. (*)
وحاملها، والمحمولة إليه، وبايعها، ومشتريها، وآكل ثمنها) (1) فما عدا الشارب من هذه العشرة حرمتها من جهة كونها إعانة على الإثم. نعم أكل ثمنها من جهة بطلان بيعها لإلغاء الشارع ماليتها. والأخبار الخاصة بمعنى النهي عن مصاديق الإعانة على الإثم كثيرة، وفي بعضها يكون متعلق النهي مفهوم الإعانة لكن في مورد خاص. والإنصاف أن الفقيه يستظهر من مجموع هذه الأخبار المتفرقة في الأبواب المختلفة حرمة الإعانة على الإثم، خصوصا في المعاصي الكبيرة. الثالث: حكم العقل بقبح المساعدة على إتيان ما هو مبغوض المولى وما هو فيه المفسدة، فإن من رضي بفعل قوم فهو منهم، فضلا من أن يكون هيأ له المقدمات أو بعضها. نعم المقدمات البعيدة - كبعض معدات وجود الشيء الذي يحتاج إلى وجود مقدمات كثيرة بعده، حتى تصل النوبة إلى صدور الفعل بإرادته واختياره - مع عدم قصد ترتب صدور الحرام عليه لا يحكم العقل بقبحه، فلابد وأن يحمل لعنه صلى الله عليه وآله وسلم غارسها مع أنه من المقدمات البعيدة على أن يكون الغرس بهذا القصد والنية، إذ من الواضح المعلوم أن إيجاد مقدمة من مقدمات فعل الحرام الصادر من الغير إن كان بقصد ترتب ذلك الحرام عليها يكون إعانة على ذلك الإثم وإن كان من المقدمات البعيدة. وأما إن لم يكن بذلك القصد، أو قصد العدم ولكن ترتب عليه فلا يعد عند العرف إعانة، فلا يكون زواج الأب من أم الولد العاصي إعانة على الإثم، مع أنه قطعا من معدات صدور المعصية عن ذلك الولد، غاية الأمر من المعدات البعيدة. وفي نفس
(هامش)
(1) (الكافي) ج 6، ص 429، باب النوادر (من كتاب الأشربة) ح 4، (وسائل الشيعة) ج 12، ص 165، أبواب ما يكتسب به، باب 55، ح 4. (*)
المثال لو تزوج بقصد أنه يولد له ولد يبيع الخمر أو يكون عشارا مثلا، يكون تزويجه إعانة على الإثم وإن كان من المقدمات البعيدة. وأما المقدمات القريبة فيمكن أن يعد إعانة عرفا ولو لم يكن بقصد ترتب ذلك، وسيأتي تحقيقه في بيان الجهة الثانية إن شاء الله تعالى. والحاصل: أنه لا شك في أنه كما أن العقل مستقل بقبح مخالفة المولى وإتيان ما هو المبغوض عنده، كذلك مستقل في الحكم بقبح المساعدة على إتيان الغير ذلك المبغوض للمولى وما فيه المفسدة. الرابع: الإجماع واتفاق الفقهاء رضوان الله تعالى عليهم أجمعين على حرمة الإعانة على الإثم، فإنهم يعللون حرمة بعض الأفعال بأنه إعانة على الإثم ويرسلونه إرسال المسلمات، وكأنها أمر مفروغ عنه عندهم. ولكن ذكرنا مرارا أن مثل هذا الاتفاق الذي له مدارك عقلية وكذلك النقلية من الآيات والروايات ليس من الإجماع الذي بنينا في الأصول على حجيته. الجهة الثانية في أنه ما المراد من هذه القاعدة أي حرمة الإعانة على الإثم. فنقول: أما الإثم فمعناه معلوم، إذ المراد به مخالفة التكليف الإلزامي، أي: ترك ما هو الواجب، أو فعل ما هو الحرام. وبعبارة أخرى: الإثم هو العصيان. وأما الإعانة فهي لغة بمعني المساعدة، وأعانه على ذلك، أي ساعده عليه، والمعين والمعاون للإنسان هو المساعد له في فعله واشغاله. وقوله عليه السلام: (عون الضعيف من أفضل الصدقة) (1) أي مساعدته في أفعاله وفي أمور معيشته أو أشغاله.
(هامش)
(1) (الكافي) ج 5، ص 55، باب (من كتاب الجهاد) ح 2، (وسائل الشيعة) ج 11، ص 108، أبواب جهاد العدو (*)
فالمراد من الإعانة على الإثم مساعدة الآثم في الإثم الذي يصدر منه، وذلك بايجاد جميع مقدمات الحرام الذي يرتكبه أو بعضها لاكلام في ذلك. إنما الكلام في أنه هل يحتاج في صدق الإعانة قصد ترتب الحرام الذي يرتكبه الآثم على هذه المقدمة أم لا ؟ ومضافا قصد ترتب الحرام هل يحتاج إلى وقوع الحرام بمعنى أنه لو قصد بإيجاد هذه المقدمة من مقدمات الحرام الصادر عن الغير ترتب ذلك الحرام عليهما، فهل يحتاج في صدق الإعانة على هذا الإيجاد وقوع ذلك الحرام أيضا في الخارج أم لا، بل صرف إيجاده تلك المقدمة بقصد ترتب ذلك الحرام يكفي في صدق الإعانة، سواء وقع الإثم أم لم يقع ؟ وجوه بل أقوال: فقد يقال: بلزوم كلا الأمرين في صدق الإعانة على ايجاد تلك المقدمة. وقد يقال بعدم لزوم كلا الأمرين بل بمحض ايجاد تلك المقدمة يصدق عليه الإعانة، قصد ترتب ذلك الحرام أولم يقصد، وأيضاوقع ذلك الحرام في الخارج أولم يقع. وقد يفصل باحتياج صدقها إلى القصد دون وقوع ذلك المحرم. وقد يقال بالعكس، أي باحتياج صدقها إلى وقوع ذلك المحرم دون القصد. والتحقيق في هذا المقام: أن من هذه الصور الاربع: أي فيما إذا قصد المعين الإعانة على ذلك الإثم مع وقوع الإثم، وفيما إذا لم يقصد المعين، وأيضا لم يقع الإثم، وفيما إذا قصد ولم يقع، أو وقع ولم يقصد. الصورة الأولى، أي فيما إذا قصد ووقع، فلا شك في أنها القدر المتيقن من صدق الإعانة. وأما الصورة الثانية، فهو القدر المتيقن من عدم صدق الإعانة وإن قيل بالصدق فيها أيضا.
(هامش)
وما يناسبه، باب 59، ح 2. (*)
وأما الصورة الثالثة، أي فيما إذا قصد الإعانة ولم يقع الإثم، فالظاهر أيضا عدم صدق الإعانة على الإثم: لعدم إثم في البين. فلو أعطي العصا بقصد أن يضرب ولكنه لم يضرب، أو أعطاه الخشب ليصنع صليبا أو صنما، باعه العنب ليصنع خمرا ولكنه صنعه خلا ولم يصنع خمرا وأمثال ذلك، فليس هناك معصية ولم يصدر منه إثم حتى تكون الأفعال المذكورة من إعطاء العصا، وإعطاء الخشب، وبيع العنب إعانة على الإثم. نعم بناء على حرمة الإعانة على الإثم - كما استظهرنا من الأية والروايات وحكم العقل بقبحها - يصدق عليه المتجري: لأنه أتى بهذه الأفعال بقصد الإعانة قاطعا بأنها إعانة على الإثم، لقطعه بصدور الحرام منه أو وثوقه واطمئنانه بصدوره منه، أو قيام حجة أخرى عليه. أو يقال بأنه حرام من جهة أن تهيئة أسباب الحرام حرام في نفسه مع قصد ترتب ذلك الحرام عليها، لا من جهة الإعانة على الإثم. والحاصل: أن الإعانة على فعل - سواء أكان ذلك الفعل من قبيل البر والتقوى، أو كان من قبيل الإثم والعدوان - عبارة عن إيجاد مقدمة من مقدمات وجود ذلك الفعل الذي صدر عن الغير، فإذا لم يصدر سواء أكان برجوعه عن قصده أو بواسطة وجود مانع عن إيجاد ذلك الفعل، فلا معنى لكونه مساعدا له في ذلك الفعل المعدوم. فالإنصاف أن صدور ذلك الفعل الذي هو إثم وقوعه في الخارج شرط في صدق الإعانة بالنسبة إلى ذلك الفعل. وأما قولهم في بعض الموارد بأنه أعانه، كما أنه لو أراد التزويج أو أراد شراء دار فساعده شخص آخر بإعطاء المال له ليبذل في المهر، أو لجعله ثمنا لشراء الدار، فمنعه مانع عن التزويج أو شراء الدار، أو هو رجع عن إرادته، فهذا الإطلاق مسامحي. ومرجعه إلى أنه أعانه وساعده على القدرة على التزويج أو على شراء الدار، والقدرة المالية حصلت. وإلا فالقول بأنه أعانه على فعل لم يفعل لا يخلو عن ركاكة.
وأما الصورة الرابعة، أي فيما إذا وقع الإثم في الخارج من شخص، وأوجد شخص آخر بعض مقدمات ذلك الإثم الذي يتوقف وجود ذلك الإثم عليه ولكن بدون قصد ترتب ذلك الإثم عليه، فصار محل الخلاف بين الأعلام والفقهاء المحققين فبعضهم قال بعدم صدق الإعانة مع عدم القصد، ومنهم الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) (1) والبعض الآخر قالوا بصدقها ولو لم يقصد، وفصل جماعة - وهو الحق بين ما إذا كانت تلك المقدمة بعد إرادة الآثم لذلك الإثم وعزمه على ذلك الفعل ولكن يتوقف إيجاده على تلك المقدمة، كما إذا عزم على ضرب شخص وأراده ولكن يتوقف وقوع الضرب في الخارج على وصول عصاء بيده، فإعطاه العصا بيده في هذه الحالة مع علم المعطي بإرادته، يكون إعانة على ذلك الإثم ولو لم يقصد ترتب الضرب على ذلك الإعطاء، بل يتمني ويرجى أن يندم ولا يضرب، وإنما كان إعطاءه العصا لفرض عقلائي أو سفهي آخر. وبعبارة أخرى: فرق بين أن تكون تلك المقدمة التي يوجدها المعين قبل إرادة الآثم لذلك الفعل المحرم - تكون من مبادئ الإرادة عليها - وبين أن تكون بعد تحقق إرادة الاثم وعزمه على الفعل المحرم وتكون بمنزلة الجزء الأخير من العله التامة لذلك الفعل المحرم. ففي الصورة الأولى لا تكون إعانة على الإثم لا مع قصد ترتب ذلك الحرام والإثم. وذكرنا أن لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غارسها لابد وأن يحمل على صورة قصد الغارس ترتب صنع الخمر على غرسه هذا. وأما في الصورة الثانية فهى إعانة، قصد أو لم يقصد: لأنه يعلم أن بفعله يصدر الحرام عن ذلك الغير، إذ هو بمنزلة الجزء الأخير من العلة التامة، لأنه ليس لوقوع
(هامش)
(المكاسب) ص 17. (*)
الفعل المحرم حالة منتظرة إلا وجود هذه المقدمة، فكيف يمكن أن يقال بأنها ليست إعانة على الإثم ؟ وظهر مما ذكرنا أن تجارة التاجر وإن كان من مقدمات أخذ العشار العشر مثلا وهو حرام وإثم، ولكن حيث أن التجارة من مبادي إرادة أخذ العشر وتكون بمنزلة الموضوع له وفي الرتبة المتقدمة عليه، فلو لم يكن بفعله - أي تجارته قاصدا ترتب أخذ العشر، كما أنه كذلك إذ قصد التاجر الانتفاع بهذا العمل، لاأن يؤخذ منه العشر بل يسعى في عدمه أو لا أقل في تقليله، فلا يكون إعانة وليس بحرام، بل يكون على حكمه الأولي أي الاستحباب مثلا. نعم لو قصد بفعله هذا ترتب الحرام عليه يكون إعانة وإن كان من أبعد المقدمات والمعدات. الجهة الثالثة في موارد تطبيق هذه القاعدة. فمنها: مسألة بيع العنب لمن يعلم أنه يصنعه خمرا. وقد تعرض لهذه المسألة شيخنا الأعظم الأنصاري (قدس سره) (1) وبناء على ما ذكرنا من الضابط في باب الإعانة على الإثم إن كان البائع للعنب قصد ببيعه هذا ترتب صنع الخمر على هذا البيع، فيكون من الإعانة على الإثم قطعا. وأما إن لم يقصد ذلك، بل يريد بيع عنبه وتحصيل ثمنه، وربما يتأذى من صنعه خمرا ويسأل الله أن يردعه عن هذا الفعل، فإن كان ذلك الغير عازما ومريدا لصنع الخمر إذا وجد العنب - بحيث يكون بيعه للعنب عليه بمنزلة الجزء الأخير من العلة
(هامش)
(1) (المكاسب) ص 16 (*)
التامة، ويكون من قبيل إعطاء العصا بيد من يريد ضرب شخص - فيكون بيعه إعانة على الإثم، قصد أو لم يقصد. وأما إن لم يكن كذلك ولا يريد فعلا أن يصنع خمرا، ولكن يعلم البايع أن هذا العنب لو انتقل إليه يحدث فيه بعد ذلك إرادة صنع الخمر لما يعلم أنه سيحدث له دواعى هذا الفعل، ففي هذه الصورة لا يصدق على ذلك البيع عنوان الإعانة على الإثم، إلا مع قصده ترتب صنع الخمر على بيعه. ومنها: بيع السلاح من أعداء الدين حال قيام الحرب معهم، أو مطلقا على بعض الوجوه، أي فيما إذا قصد البايع تقويتهم وازدياد شوكتهم، أو استعماله في الحرب مع المسلمين إن قام بينهم وبين المسلمين حرب، هكذا قال بعضهم. ولكن التحقيق أن هذا بنفسه إثم بل من المعاصي الكبيرة، لا أن حرمته من باب الإعانة على الإثم. وهذا الذي قلنا من حرمة بيع العنب لمن يعلم أنه يجعله خمرا من باب الإعانة على الإثم في بعض الصور الذي تقدم تفصيلا ليس مختصا بالبيع، بل يشمل مطلق التمليك الاختياري، سواء أكان بالبيع أو الصلح، أو الدين، أو الهبة، أو المهر، أو عوض الخلع إلى غير ذلك: لوحدة مناط الحكم في الجميع. ومنها: إجارة الدار أو الدكان لصنع الخمر، أو لبيعه، أو ليكون محل الشرب. ويجري فيه التفصيل الذي تقدم في بيع العنب من كونها إعانة على الإثم مطلقا إذا كانت بقصد ترتب ذلك الحرام على هذه الإجارة، وإلا إذا لم يقصد فإن كانت هذه الإجارة بمنزلة الجزء الأخير للعلة التامة لوقوع ذلك الحرام والإثم، أي كانت بعد تحقق إرادة المباشر للإثم وعزمه عليه بحيث لا تكون له حالة منتظرة إلا وجود مكان للاشتغال بهذا المحرم، من دكان، أو دار، أو ما يشبههما فتكون إعانة على الإثم، وإلا فلا. ومنها: بيع الخشب أو مادة أخرى لمن يعلم أنه يصنع الصليب أو الصنم، على
التفصيل الذي تقدم في بيع العنب لمن يعلم أنه يصنعه خمرا لأنهما من واد واحد، ومناط الحكم فيهما واحد. ثم أنه لا فرق في صدق الإعانة على الإثم فيما ذكرنا من إجارة الدار أو الدكان أو محلا آخر مما يشبههما بين أن يكون تسليم الدار أو الدكان إلى المباشر الآثم بعنوان الوفاء بعقد الإجارة، أو كان بعنوان الإعارة، أو بعنوان آخر مما يوجب نقل المنفعة أو حلية الانتفاع لذلك الذي يصدر منه الحرام. وكذلك في مسألة بيع الخشب أو مادة أخرى مما يصنع منه الصليب أو الصنم لمن يعلم أنه يصنعهما، لا فرق بين البيع والهبة والصلح وسائر النواقل الشرعية الاختيارية للأعيان التي لها مالية. وكذلك الحكم في بيع الخشب أو أي مادة أخرى تصلح لصنع البرابط والمزامير والعود وسائر أدوات اللهو وآلاته، على التفصيل المتقدم في بيع العنب لمن يعلم أنه يصنع منها آلات اللهو وأدواته. وأيضا لا فرق بين أن يكون نقل هذه المواد إلى الذي يعلم أنه يصنعها آلات اللهو بالبيع، أو كان بناقل شرعي اختياري آخر، كما ذكرنا في الفروع السابقة: لوحدة مناط الحكم في الجميع. ومنها: إجارة السفينة أو الدابة أو ما يشبههما كالسيارة والطيارة والقطار لحمل الخمر ونقله من مكان إلى مكان آخر لغرض عقلائي. ولا يأتي فيه التفصيل المتقدم كما هو واضح بأدنى تأمل. ثم إنهم عدوا من شرائط صحة الإجارة أن تكون المنفعة مباحة: لأن حقيقة الإجارة تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم، والفرق بين البيع والإجارة أن البيع يتعلق بالأعيان ويكون عبارة عن تمليك الأعيان المتمولة بعوض مالي، والإجارة تتعلق بالمنافع وتكون عبارة عن تمليك المنافع المتمولة في نظر الشارع، فإذا كانت المنفعة
محرمة فليس لها مالية كي تقابل بالعوض المالي. قال في الشرائع: الشرط الخامس أن تكون المنفعة مباحة، فلو آجره مسكنا ليحرز فيه خمرا، أو دكانا ليبيع فيه آلة محرمة، أو أجيرا ليحمل إليه مسكرا لم تنعقد الإجارة، وربما قيل بالتحريم وانعقاد الاجارة. (1) انتهى وزاد في الجواهر: (أو جارية للغناء، أو كاتبا ليكتب له كفرا ونحوه) (2) لأن الملاك في الجميع واحد، والمراد بالكاتب الذي يكتب الكفر هو كتابة كتب الضلال التي توجب ضلال الناظرين فيه وفساد عقائدهم، كالكتب التي تكتب ردا على الإسلام من أصحاب سائر الأديان، أو من الطبيعين المنكرين للاله خذلهم الله. والأمثلة والموارد التي تكون المنفعة محرمة ليست منحصرة بما ذكره صاحب الشرائع وصاحب الجواهر (قدس سرهما) بل هي كثيرة، ولا يتوقف الفقيه في مقام التطبيق بعد معرفة ضابط الذي ذكرناها. ولكن الظاهر أن المفروض في كلام الشرائع غير ما نحن فيه: لأن ما فرضه (قدس سره) فيما إذا كانت لأجل هذه الغاية المحرمة، وبعبارة أخرى: حصر المنفعة التي يملكها المؤجر للستأجر في المحرمة. وهذا لاكلام في بطلان عقد الإجارة وحرمته، وإن نسب المحقق (قدس سره) الصحة وعدم البطلان إلى القيل، ولكن لا وجه له. والحمد لله أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا.
(هامش)
(1) (شرائع الاسلام) ج 2، ص 147. (2) (جواهر الكلام) ج 27، ص 307. (*)