قاعدة اليد
ومن جملة القواعد الفقهية (قاعدة اليد). وفيها جهات من الكلام: الأولى: في أنها ليست من المسائل الأصولية، بل هي قاعدة فقهية. الثانية: في أنه ما المراد من كلمة (اليد) ؟ الثالثة: في بيان دليل اعتبارها. الرابعة: في أنها من الأمارات أو من الأصول التنزيلية ؟ وأما إحتمال كونها من الأصول غير التنزيلية فساقط جدا. الخامسة: في مقدار سعة دلالتها وهل أنها مخصوصة باثبات الملكية لذي اليد بالنسبة إلى فيما تحت يده، أو عام تشمل أشياء أخر كالتولية فيما هو وقف وتحت يده، والزوجية للمرأة التي تحت يده، والولدية للطفل الذي تحت يده، وهكذا إلى غير ذلك من التوسعة في اعتبارها ؟
(هامش)
(القواعد والفوائد) ج 2، ص 190، (الاقطاب الفقهية) قطب 44، (الحق المبين) ص 86، (عوائد الايام) ص 254، (عناوين الاصول) عنوان 57، (خزائن الاحكام) ش 2، (مناط الاحكام) ص 18، (بلغة الفقيه) ج 3، ص 291 - 369، (دلائل السداد وقواعد فقه واجتهاد) ص 52) (اصطلاحات الأصول) ص 206،، (الفوائد العلمية) ص 225، (القواعد) ص 429، (قواعد فقه) ص 29، (قواعد فقهى) ص 193، (قواعد فقهيه) ص 23، (القواعد الفقهية) (فاضل اللنكرانى) ج 1، ص 357، (القواعد الفقهيه) (مكارم الشيرازي) ج 1، ص 279، (يد اماره مالكيت) شيدا شكوايى، ماجستير، جامعة طهران، 1369، (يدمالكى و يدضماني) مجلة (حق) فصلية، العدد 9، العام 1366، (دو قاعده فقهى (قاعده يد ولاضرر)) مجلة (حق) فصلية، العدد 9، العالم 1366. (*)
(السادسة: في تعارضها مع سائر الأدلة من الأصول والأمارات. أما الجهة الأولى فقد تكرر منا في موارد كثيرة أن المناط في كون المسألة أصولية هو وقوع نتيجة البحث عنها كبرى في قياس الاستنباط، ولا شك أن نتيجة البحث عن هذه القاعدة - وهي حجيتها وإثبات الملكية مثلا لذي اليد - لا تقع كبرى في قياس الاستنتاج الحكم الشرعي الكلي الفرعي، بل لا يستنتج منها إلا الملكيات الشخصية أو ما شابهها من سائر الأمور الجزئية التي تثبت بها لذوي الأيدي: فهذه قاعدة فقهية يستنبطها الفقيه عن أدلتها التفصيلية ويفتي بحجية اليد، مثلا بالنسبة إلى ملكية ذي اليد لما في يده. ويكون أمر تطبيقها بيد المقلدين أنفسهم، بمعنى أنه في مقام تطبيق هذه الكبرى على مصاديقها المقلد والمجتهد سواء، فإذا طبق المقلد في مورد وأثبت الملكية بها لذي اليد عند الشك في ملكيته، فيجوز له أن يشتري منه، ويشهد له بالملكية، وهكذا بالنسبة إلى سائر آثار ثبوت الملكية له، أي لذي اليد. فهذه القاعدة كسائر القواعد الفقهية - المستعملة في الموضوعات الخارجية، أو الأحكام الجزئية كالبينة، وأصالة الصحة، وقاعدة الفراغ، وقاعدة التجاوز - يستنبطها الفقيه ويفتي بمضمونها، فيعمل المقلد على طبقها. وظهر مما ذكرنا: أنه لا فرق في عدم كون هذه القاعدة من المسائل الأصولية، أو كونها من القواعد الفقهية بين كون المناط في تميز المسألة الأصولية عن الفقهية ما ذكرنا، وبين ما ذكروه من أن المسألة الأصولية هي التي لا حظ للمقلد في مقام تطبيقها بل يكون أمر تطبيقها بيد المجتهد، أو ما ذكروه ميزانا للفرق بينهما من أن المسألة الأصولية ما لم تكن متعلقا بكيفية العمل بلا واسطة بل تكون تعلقها بكيفية العمل مع الواسطة، بخلاف المسألة الفقهية فانها متعلقة بكيفية العمل بلا واسطة: لما ذكرنا من
أن أمر تطبيق هذه القاعدة كما أنه بيد المجتهد كذلك يكون بيد المقلد أيضا، وهما بعد إفتاء المجتهد بمضمونها في مقام التطبيق سواء. وأيضا من الواضح الجلي أنه بعد افتاء المجتهد بمضمونها يكون ذلك المضمون متعلقا بكيفية العمل بلا واسطة. وأما الجهة الثانية فقد ذكر اللغويون لها معاني متعددة، ولا يهمنا أنها حقيقة في الجميع، أو مجاز في الجميع، أو حقيقة في البعض ومجاز في البعض الآخر، وإنما المهم أنه ما المراد والمتفاهم العرفي منها في محل البحث ؟ فنقول: الظاهر أن المراد منها في محل البحث هو الاستيلاء والسيطرة الخارجية، بحيث يكون زمام ما تحت يده بيده يتصرف فيه كيف ما يشاء من التصرفات العقلائية المتعارفة، ولا يخفى أنه بصرف التمكن من تحصيل مثل هذه السيطرة والاستيلاء الخارجي لا يقال أنه ذو اليد، بل كونه كذلك يحتاج إلى فعلية الاستيلاء والسيطرة الخارجية. وأما ما توهم: من أن اليد بهذا المعنى قد تكون مسببا عن الملكية كما في موارد النواقل الشرعية، اختيارية كانت كما في أبواب المعاوضات، أو قهرية كما في باب الإرث: وقد تكون سببا لحصول الملكية، كما في باب حيازة المباحات إذا كان الاستيلاء بقصد التملك. ففيه: أن ما يفهم عرفا من اليد في المقام هي السيطرة الخارجية، وهى أمر خارجي لا تحصل إلا بأسبابها الخارجية، من وجود المقتضى لها كارادة الاستيلاء والسيطرة، ومن وجود شرائطها، ومن فقد موانعها. والملكية الاعتبارية لا أثر لها في هذا الأمر الخارجي. نعم الملكية له أو كونه مأذونا من قبل المالك تؤثر في عدم كونها يدا عادية، ثم
إن المرجع في حصول هذا الاستيلاء أيضا هو العرف، لأن الاستيلاء والسيطرة أمر عرفي فلابد في تعيين مفادهما من الرجوع إلى العرف، وهو يختلف في نظرهم بحسب ما استولى عليه، مثلا الاستيلاء على الدار والدكان والخان وأمثالها فهو بأن يكون ساكنا في الدار ومشغولا بكسبه في الدكان والخان، وإما بأن تكون أبوابها مغلقة والمفتاح في يده، وفي الأراضي بالزرع والغرس وأمثال ذلك، وفي الدواب بربطها في اصطبله أو ركوبها أو كون زمامها بيده نعم ربما يتزاحم هذه الجهات بعضها مع بعض، مثلا لو كان أحد الشخصين راكبا على الدابة وبيد الآخر زمامها، وكل واحد منهما ادعى ملكية تمامها، ففي مثل هذا الفرض إذا حكم العرف بتقديم احدى الجهتين وأنها المناط في تحقق الاستيلاء فهو، وإلا فان حكم بوجود الاستيلاء وتحققه بالنسبة إلى كل واحد منهما فيدخل في مسألة تحقق يدين على مال واحد كشريكين في دار أو دكان أو غيرهما، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى. وإلا فإن لم يحكم بشئ منهما فتسقط كلتا الجهتين عن الاعتبار، ولا يحكم بتحقق اليد لكل واحد منهما. ولا يخفى أنه من الممكن أن يكون الاستيلاء على شيء لشخصين أو أكثر كما في الشريكين أو الشركاء، فبناء على اعتبار اليد وحجييته يثبت الملكية لجميعهم. وإلى هذا يرجع ما اشتهر بين الفقهاء من أن تحقق اليدين على مال واحد يرجع إلى ثبوت يد واحدة تامة مستقلة على نصف ذلك المال، والثلاث إلى الثلث، والأربع إلى الربع وهكذا. ثم إنه لا شك في أن يد الودعي والمستأجر والمستعير والوكيل يد المودع والمؤجر والمعير والموكل مع اعترافهم بهذه العناوين. وبعبارة أخرى: كل أمين من طرف المالك إذا اعترف بأنه أمين من قبله فيكون يده يد ذلك الشخص.
الجهة الثالثة في الدليل على اعتبارها، وهو من وجوه: الأول: الروايات. فمنها: رواية حفص بن غياث المروية في الكتب الثلاثة، عن أبي عبد الله عليه السلام، وفيها: أرأيت إذا رأيت شيئا في يد رجل أيجوز لي أن أشهد أنه له ؟ قال: عليه السلام (نعم) فقال الرجل: أشهد أنه في يده ولا أشهد أنه له فلعله لغيره ؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام: (أفيحل الشراء منه ؟) قال: نعم، فقال أبو عبد الله (ع): (فلعله لغيره، فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكا لك، ثم تقول بعد الملك هو لي وتحلف عليه ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك)، ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: (لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق) (1). ومنها: المروي عن الصادق عليه السلام في حديث فدك: (إن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام قال لأبي بكر: أتحكم فينا بخلاف حكم الله تعالى في المسلمين ؟ قال: لا. قال: فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه ادعيت أنا فيه من تسأل البينة ؟ قال: إياك كنت أسأل البينة على ما تدعيه على المسلمين. قال عليه السلام: فإذا كان في يدي شيء فادعى فيه المسلمون تسألني البينة على ما في يدي وقد ملكته في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعده ولم تسأل البينة على ما ادعوا علي كما سألتني البينة على ما ادعيت عليهم ؟ إلى أن قال: وقد قال رسول الله (ص): (البينة على من ادعى واليمين على من أنكر.) (2). ومنها: رواية مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول كل
(هامش)
(1) (الكافي) ج 7، ص 387، باب (من كتاب الشهادات) ح 1، (الفقهيه) ج 3، ص 51، باب من يجب رد شهادته ومن يجب قبول شهادته، ح 3307 (تهذيب الأحكام) ج 6، ص 261، ح 695، باب البينات، ح 100، (وسائل الشيعة) ج 18، ص 215، أبواب كيفية الحكم، باب 25، ح 2. (2) (علل الشرائع) ص 190، ح 1 (تفسير القمي) ج 2، ص 156، (الاحتجاج) ص 92، (وسائل الشيعة) ج 18، ص 215، أبواب كيفية الحكم، باب 25، ح 3. (2) (علل الشرائع) ص 190، ح 1، (تفسير القمي) ج 2، ص 156، (الاحتجاج) ص 92، (وسائل الشيعة) ج 18، ص 215، أبواب كيفية الحكم، باب 25، ح 3. (*)
شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب عليك قد اشتريته وهو سرقة، والمملوك عندك لعله حر قد باع نفسه أو خدع فبيع قهر ا، وامرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك، والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير هذا، أو تقوم به البينة) (1) ومنها: رواية حمزة بن حمران: أدخل السوق فأريد أن أشتري جارية تقول إني حرة، فقال (ع): (اشترها، إلا أن تكون لها بينة) (2) ومنها: صحيحة العيص، عن مملوك ادعى أنه حر ولم يأت بينة على ذلك، أشتريه ؟ قال: (نعم) (3). ومنها: موثقة يونس بن يعقوب، في المرأة تموت قبل الرجل أو رجل قبل المرأة، قال عليه السلام: (ما كان من متاع النساء فهو للمرأة، وما كان من متاع الرجل والنساء فهو بينهما، ومن استولى على شيء منه فهو له) (4). ومنها: ما في الوسائل عن العباس بن هلال، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام ذكر أنه لو أقضى إليه الحكم لأقر الناس على ما في أيديهم، ولم ينظر في شيء إلا بما حدث في سلطانه، وذكر أن النبي (ص) لم ينظر في حدث أحدثوه وهم مشركون، وأن من أسلم أقر على ما في يده. (5)
(هامش)
(1) (الكافي) ج 5، ص 313، باب النوادر (من كتاب المعيشة)، ح 40، (تهذيب الأحكام) ج 7، ص 226، ح 989، باب من الزيادات، ح 9، (وسائل الشيعة) ج 12، ص 60، أبواب ما يكتسب به، باب 4، ح 4. (2) (الكافي) ج 5، ص 211، باب شراء الرقيق، ح 13، (الفقيه) ج 3، ص 222، باب البيوع، ح 3824، (تهذيب الأحكام) ج 7، 74، ح 318، باب ابتياع الحيوان، ح 32، (وسائل الشيعة) ج 13، ص 31، أبواب بيع الحيوان، باب 5، ح 2. (3) (الفقيه) ج 3، ص 222، باب البيوع، ح 3825 تهذيب الأحكام) ج 7، ص 74، ح 317، باب ابتياع الحيوان، ح 31، (وسائل الشيعة) ج 13، ص 30، أبواب بيع الحيوان، باب 5، ح 1. (4) (تهذيب الأحكام) ج 9، ص 302، ح 1079، باب ميراث الأزواج، ح 39، (وسائل الشيعة) ج 17، ص 525، أبواب ميراث الأزواج، باب 8، ح 3. ((5) (تهذيب الأحكام) ج 6، ص 295، ح 824، باب من الزيادات في القضايا والأحكام، ح 31، (وسائل الشيعة) ج 18، ص 214، أبواب كيفية الحكم، باب 25، ح 1. (*)
ولا شك في دلالة هذه الروايات على اعتبار اليد دلالة واضحة. وأما الإشكال في الرواية الأولى - بأن محط نظر السائل في سؤاله إلى جواز الشهادة بالملكية لذي اليد بصرف كون شيء تحت يده أم لا، وهذا غير إثبات الملكية لما تحت اليد باليد حتى تكون اليد حجة - واضح الفساد، لأن حكمه عليه السلام بجواز الشهادة مستندا إلى اليد يدل بالالتزام على إثبات الملكية بها أيضا، خصوصا بعد ما استدل عليه السلام على صحة هذا الحكم وجواز الشهادة بجواز الشراء مما في يده. مضافا إلى أن احتمال أن يكون جواز الشهادة بملكية ما في يده له حكما تعبديا من دون ثبوتها عند الشاهد في غاية البعد، وينكره الطبع السليم. وأما الإشكال عليها بأن ظاهر هذه الرواية جواز الشهادة مستندا إلى اليد من دون حصول العلم للشاهد، وهذا أمر مستنكر، لأن العلم مأخوذ في موضوع جوازأو وجوب أداء الشهادة، فلا يجوز مستندا إلى الأصول أو الأمارات، فظاهر هذه الرواية مما لم يعمل به فساقط عن الاعتبار. فلا يرد أصلا: لما ذكرنا أولا في محله من قيام الأمارات والأصول التنزيلية مقام القطع المأخوذ في الموضوع على نحو الطريقية - خلافا لصاحب الكفاية (قدس سره) (1) - دون ما أخذ فيه على نحو الصفتية. ومن المعلوم أن القطع المأخوذ في موضوع أداء الشهادة جوازا أو وجوبا هو من حيث كونه طريقا وكاشفا عن متعلقه، لا بما أنه صفة كذائية، بل ذكرنا في مبحث القطع أنه لم يوجد في الشرعيات موردا يكون القطع فيه مأخوذا في الموضوع على نحو الصفتية. نعم في بعض الموارد أخذ الاطمئنان موضوعا أو جزئه، ولكن ذلك غير أخذ القطع في الموضوع على نحو الصفتية. وثانيا: لو لم نقل بجواز الشهادة مستندا إلى اليد، وترتيب آثار الملكية على ما
(هامش)
(1) (كفاية الأصول) ص 263. (*)
تحت اليد، يختل النظام ولا يستقر حجر على حجر، فكيف يمكن أن يقال إن الأصحاب لم يعملوا بمضمون هذا الرواية ؟ فهذا الإشكال ساقط على كل تقدير. وأما الاشكال على الرواية الثانية - بأنها لا تدل على أكثر من أن البينة ليست على ذي اليد - أي المنكر - بل يكون على المدعي، وهذا لا ربط له بكون اليد حجة على الملكية، وقضية (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) شبه المتواتر بين المسلمين: لقوله صلى الله عليه وآله وسلم (إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان) (1) وقد قضى (ص) على هذا النحو في موارد عديدة وهذا من المسلمات، ولا شك أن المتفاهم العرفي من (المنكر) ذواليد ومن (المدعي) من هو مقابل ذي اليد، وهو من يطرح الدعوى إلى المنكر ويوجهها إليه. ففي هذه الرواية يحتج بهذا الأمر المسلم بين المسلمين، فلا ربط لها بإثبات الملكية باليد الذي هو محل الكلام. فالجواب عنه: أولا: أن قوله عليه السلام - (فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه ادعيت أنا فيه) (2) يدل على أن اليد أمارة الملكية، وإن الملكية في هذا الكلام ملكية إثباتية وإلا لو كان المفروض أمرين - أحدهما كونه تحت يدهم، والثاني كونهم يملكونه - فلا يبقى بعد هذا الفرض مجال للدعوى ومطالبة البينة وثانيا: لا يفهم العرف من كون طرف ذي اليد مدعيا وأنه يطالب منه البينة إلا كون ذي اليد مالكا، فيحتاج طرفه إلى الدليل على إثبات ما يدعيه. وأما الرواية الثالثة - أعني رواية مسعدة - فلا دلالة لها على هذا المطلب أصلا، بل مضمونه حلية مشتبه الحرمة، حتى يثبت خلاف ذلك بالبينة أو العلم. وأما رواية حمزة بن حمران، وصحيحة العيص فدلالتهما على هذا المطلب أوضح
(هامش)
(1) (الكافي) ج 7، ص 414، باب ان القضاء بالبينات والأيمان، ح 1، (تهذيب الأحكام) ح 6، ص 229، ح 552، باب كيفية الحكم والقضاء، ح 3، (معاني الأخبار) ص 279، (وسائل الشيعة) ج 18، ص 169، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، باب 2، ح 1. (2) تقدم تخريجه، ص 135، رقم (2) (*)
من أن يخفى. وأما قوله عليه السلام في موثقة يونس بن يعقوب: (ومن استولى على شيء منه فهو له) فلا إشكال في دلالته على اعتبار اليد إلا تخيل أن ضمير (منه) راجع إلى متاع البيت، فلا يدل إلا على أماريتها في هذا المورد الخاص أعني الزوج والزوجة، لا مطلقا. ولكن أنت خبير بأنه لا خصوصية لهذا المورد، مضافا إلى أن كلامنا الآن في اعتبارها في الجملة، وسنتكلم في التفاصيل فيما سيأتي إن شاء الله تعالى وأما رواية عباس بن هلال، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام فمن المحتمل جدا أن يكون مراده عليه السلام إمضاء جميع ما تقع من المعاملات في زمان انعزالهم عن الحكم، فإذا وصل إليهم الحكم يقرون الناس على ما في أيديهم، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع المشركين بالنسبة إلى ما كان في أيديهم في زمان الجاهلية وعلى كل حال لا ينبغي الارتياب في دلالة جملة من هذه الروايات على اعتبار اليد، بل على كونها أمارة الملك. وهيهنا روايات أخر ذكروها، لبعضها دلالة على اعتبار اليد، تركناها للاستغناء عنها وكفاية ما ذكرنا منها لإثبات هذا المطلب. الثاني من وجوه اعتبار اليد: الإجماع والاتفاق على أن من كان في يده شيء من الأموال يكون له ولا شك في تحقق هذا المعني بالنسبة إلى الأعيان المتمولة ولا خلاف فيه أصلا، وإن كان خلاف ففي التفاصيل الآتية، ولكن هذا المقدار لا يكفي في صدق الإجماع المصطلح الذي هو أحد الأدله الشرعية: لأن الإجماع المصطلح الاتفاق الذي يكون مسببا عن رأي المعصوم (ع)، أو دليل معتبر عند الكل في مقام الثبوت وإن كان سببا وكاشفا عن أحدهما في مقام الإثبات. ولاشك أن مثل هذا المعنى لا يجتمع مع وجود مدرك بل مدارك في المسألة كما في مسئلتنا، لأنه حينئذ من الممكن بل من المحتمل جدا اتكاء المجمعين واعتماد المتفقين على ذلك المدرك أو تلك المدارك، فلا يبقى مجال
لاستكشاف رأيهم عليهم السلام من مثل هذا الاتفاق، ولا ريب في وجود مدارك عديدة من الأخبار الكثيرة وبناء العقلاء. الثالث من وجوه اعتبارها: بناء العقلاء من جميع الملل والأمم، سواء أكانوا من أهل الأديان أم لا، حتى الملحدين والمنكرين للصانع - خذلهم الله - على اعتبارها وكونها أمارة لملكية المال لمن في يده، فإنهم لا يتوقفون في ترتيب آثار الملكية على ما في أيدي الناس، ولا يفتشون عن أن هذا الذي بيده هل له أو لغيره أو مسروق أو مغصوب مثلا، والشارع المقدس لم يردع عن هذه السيرة والبناء بل أمضاها، كما هو مفاد جملة من الروايات المتقدمة، مثل قوله عليه السلام في ما رواه حفص بن غياث (ولو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق) (1)، وقوله عليه السلام في موثقة يونس بن يعقوب (ومن استولى على شيء منه فهو له) (2). فالانصاف أن اعتبار اليد في الجملة من المسلمات، ولا يحتاج إلى البحث والتكلم أكثر من هذا. الجهة الرابعة في أنها أصل أو أمارة ؟ والحق في هذا المقام هو أنه لو كان المدرك لها هو الإجماع أو هذه الأخبار فلا يمكن إثبات أماريتها أما الإجماع فليس إلا على ترتيب آثار الملكية لما تحت يد شخص، من دون تعرضه إلى أن اليد طريق إلى الملكية أم لا. وأما الأخبار فمفادها إما جواز الشراء والشهادة مستندا إلى اليد، كما في رواية
(هامش)
(1) تقديم تخريجه في ص 135، رقم (1). (2) تقدم تخريجه في ص 136، رقم (4). (*)
حفص بن غياث، وهذا المعنى أعم من الأمارية والأصلية، ويجتمع مع كل واحد منهما، فلا يمكن إثبات خصوص أحدهما بها، حتى أن جواز الحلف والشهادة الذي أخذ العلم في موضوعهما على نحو الطريقية مستندا إليها لا ينافي أصليتها: لأنه قد حققنا في محله أن الأصول التنزيلية أيضا مثل الأمارات تقوم مقام العلم الذي أخذ في الموضوع على نحو الطريقية، فمن هذه الجهة أيضا لا فرق بينهما. نعم هذه الجهة تنافي كونها من الأصول غير التنزيلية، ونحن قلنا إن احتمال كونها من الأصول غير التنزيلية ساقط جدا. وأما رواية حمزة ابن حمران وصحيحة العيص، فليس مفادهما إلا جواز الشراء من ذي اليد وعدم الاعتناء بقول الجارية والعبد ما لم يأتيا ببينة، وقد عرفت أن جواز الشراء أعم من الأمارية والأصلية، ويجتمع مع كل واحد منهما. وأما رواية مسعدة، فقد عرفت أنها لا تدل على أصل اعتبارها، فضلا عن أماريتها أو أصليتها. وأما قوله (ع) - في موثقة يونس بن يعقوب (ومن استولى على شيء منه فهو له) لا يدل إلا على ترتيب آثار الملكية على ما استولى عليه، وقد بينا أن مثل هذا المعنى أعم من خصوص أحد هذين الأمرين. فقد ظهر مما ذكرنا قصور هذه الأخبار عن الدلالة على إثبات أحد هذين الأمرين، ومعلوم أنه عند الشك في الأمارية والأصلية نتيجة العملية توافق الأصلية، لأن إثبات اللوازم شيء زائد على إثبات أصل المؤدى الذي هو المسلم من هذه الأخبار، كما أن الشك في أن الأصل تنزيلي أو غير تنزيلي نتيجته غير التنزيلية بعين البيان المتقدم. وأما لو كان المدرك هو بناء العقلاء - كما هو كذلك، حيث قلنا أن الأخبار إمضاء للبناء والسيرة العقلائية - فالحق أماريتها: لأنه لا شك أن بناء العقلاء ليس من جهة
التعبد بترتيب آثا ر الملكية عند الشك فيها، بل من جهة كشفها عن الملكية الحاصل من غلبة كون ما تحت اليد ملكا لذي اليد عند عدم اعترافه بأنه لغيره، فيرون اليد طريقا وكاشفا عن ملكية ذي اليد ما لم يعترف بأنه ليس له كسائر الظنون النوعية والطرق والأمارات العقلائية. وبعبارة أخرى الشيء تارة معلوم وجوده أو عدمه سواء أكان ذلك الشيء أمرا تكوينيا أو اعتباريا، فالعقل يحكم بوجوب ترتيب آثاره عليه. وهذا معنى حجية العلم: فليست حجية العلم من المجعولات الاعتبارية، بل هي عبارة إما عن نفس هذا الحكم العقلي، فيكون من لوازم العلم، ويكون من قبيل الذاتي في كتاب البرهان. أو هي عبارة عن ملزوم هذا الحكم العقلي، أي نفس الانكشاف والظهور، فيكون من قبيل الذاتي الايساغوجي، لأن العلم عبارة عن نفس الانكشاف والظهور، وعلى كلا التقديرين ليست من المجعولات الاعتبارية، بل هي غنية عن الجعل المستقل. وأخرى مظنون أحدهما أي وجود الشيء أو عدمه - وحينئذ لا شك في أن العقل لا يحكم - بصرف الظن بوجود الشيء أو عدمه بوجوب ترتيب آثار وجوده في الأول، وآثار عدمه في الثاني إلا أن يجعل طريقا في عالم الاعتبار بأن يعتبره العقلاء أو الشارع المقدس طريقا وكاشفا، سواء أكان اعتبار الشارع إحداثيا أو أمضائيا لما يكون طريقا عند العقلاء، كما هو الحال في أغلب الطرق والأمارات الشرعية بل جميعها، لأنه لم نجد في الأمارات الشرعية ما لم تكن هي عند العقلاء أمارة. نعم ربما يتصرف الشارع في موضوع ما يراه العقلاء أمارة، بازدياد قيد، مثل عدالة الشاهدين في ثبوت ما أخبرا به مثلا، أو حذف قيد مما هو موضوع الحجية عند العقلاء. ولا شك في أن الحجية في هذا القسم من المجعولات الاعتبارية من طرف العقلاء، أو الشارع، أو من طرف كليهما بأن يكون مثلا من طرف العقلاء إحداثا ومن طرف الشارع إمضاء
فلا بأس بأن تقول أن الظن ممكن الحجية، كما أن لك أن تقول إن العلم واجب الحجية، كما أن الشك في شيء لا يمكن أن يجعل طريقا وكاشفا ولو كان في عالم الاعتبار العقلائي أو عالم الاعتبار الشرعي: لأن الحجية المجعولة في عالم الاعتبار لابد وأن تكون في محل قابل، والشك والتحير ليسا قابلين لأن يجعلا طريقا وكاشفا، فإذا حكم الشارع في مورده بشئ يكون صرف وظيفة عملية من دون أن يكون طريقا إلى وجود المشكوك أو طريقا إلى عدمه، فلا بأس بأن نقول الشك ممتنع الحجية. ثم لا يخفى أنه في مورد الظن بشي يمكن أن يجعل وظيفة عملية، ولا يلاحظ جهة كشفه الناقص وتتميمه في عالم الاعتبار كي تكون أمارة، بل المجعول صرف الوظيفة العملية بإلقاء جهة الكشف الناقص الموجود فيه وعدم رعايته أصلا، فيكون أصلا عمليا. ثم إن تلك الوظيفة العملية المجعولة في هذه الصورة إن كانت بلسان أنه هو الواقع فيكون أصلا تنزيليا - وإن شئت سمه: أصلا محرزا - وان لم يكن بهذا اللسان فهو أصل غير تنزيلي وإن شئت سمه: الأصل غير المحرز. إذا عرفت هذا فنقول: لا شك في حصول الظن النوعى من اليد غير المعترفة، بأن ما استولت عليه ليس لها بملكية ما تحتها لها، وبناء العقلاء على طريقية هذا الظن وحجيته لا على صرف العمل على طبق المظنون مع إلقاء جهة كشفه حتى يكون أصلا عمليا، والشارع أمضى بناء العقلاء كما هو مفاد هذه الأخبار، فتكون اليد أمارة وحاكمة على الاستصحاب كما تقدم وجهها. الجهة الخامسة في سعة دلالتها ومقدار حجيتها وموارد جريانها قد وقع الخلاف في كثير من الموارد بعد الاتفاق على حجيتها في الجملة.
فنقول: أما حجيتها بالنسبة إلى ملكية الأعيان المتمولة هو فيما إذا كانت تلك العين في حد نفسها قابلة للنقل والانتقال من غير احتياج إلى طرو أمر يكون موجبا لجواز النقل والانتقال - أي لا تكون من قبيل الأعيان الموقوفة، بل ولا تكون من الأراضي المفتوحة عنوة العامرة حال الفتح، فإنها أيضا لا يجوز نقلها إلا فيما إذا رأى المصلحة في نقلها ولي المسلمين، وفيما إذا كانت اليد من أول حدوثها مجهولة العنوان، بمعنى أنها من أول حدوثها لا يعلم أنها يد مالكة، أو يد عادية، أو يد أمانة شرعية كاللقطة، أو أمانة مالكية كالإجارة والعارية والوديعة وأمثال ذلك من أمانات المالكية ولم يكن معترفا ذو اليد بأنه ليس له، ففي مثل هذه الصورة حجية من المسلمات، ولا خلاف بينهم في ذلك بالنسبة إلى الغير. وأما بالنسبة إلى نفسه إذا شك أن ما في يده هل ملك له أو لغيره، فحجية اليد في هذه الصورة أيضا وإثباتها ملكية ما في يده لنفسه لا يخلو من كلام، وإن كان الصحيح عندنا أنها تثبت لاتحاد ما هو المناط في الإثبات بين نفسه وغيره. فموارد البحث والخلاف أمور: (الأمر) الأول: إذا كان حال حدوثها معلوم العنوان: بأن كانت يد عادية، أو أمانة مالكية أو شرعية، فقد أفاد شيخنا الأستاد (قدس سره) حكومة استصحاب حال اليد - من كونها عادية أو أمانة - على نفس اليد. (1) لا يقال: إن اليد أثبتنا أماريته، والأمارات طرا لهاحكومة على الاستصحاب، فكيف تقول إن الاستصحاب حاكم على قاعدة اليد ؟ لأنه يقال في جوابه: إن ما قلت صحيح لو كان التعارض بين المؤديين، فلا شك في أن اليد حيث أنها أمارة - وبناء على ما هو المختار من تتميم الكشف في جعل حجية الأمارات - ترفع الشك عن مؤداه، فيذهب بموضوع الاستصحاب حيث أنه أخذ فيه
(هامش)
(1) (فوائد الأصول) ج 4، 604. (*)
الشك، ولكن كل ذلك فيما إذا جرت اليد وكان موضوعها، أي كونها مجهوله العنوان ومشكوك الحال، أي لا يعلم أنها يد مالكه أو يد عادية أو يد أمانة. وفيما نحن فيه أيضا حال ادعائه الملكية وإن كان لا يعلم حال اليد ويحتمل أن يكون يده يد مالكة بواسطة انتقاله بناقل شرعي إليه، ولكن الاستصحاب يرفع هذا الجهل تعبدا، فلا يبقى موضوع لقاعدة اليد حتى تجري وتكون حاكمة على الاستصحاب. وأورد عليه أستادنا المحقق (1) (قدس سره) بأن هذا الكلام له وجه لو قلنا بأن الجهل بالحالة السابقة مأخوذ في موضوع دليل اعتبار اليد وحجيته، لا أن يكون الجهل بالحالة السابقة موردا للقاعدة - كما هو كذلك - وإلا لو كان الجهل موضوعا للقاعدة يلزم أن تكون القاعدة أصلا عمليا، وذلك لما تقدم في أول البحث عن الأصول العملية أن الفرق بين الأصل والأمارة هو أن الشك والجهل مأخوذ في موضوع الأصل دون الأمارة. نعم حجية الأمارة واعتبارها في مورد الجهل واستتار الواقع، وإلا فمع العلم على وفاقه أو خلافه لا يبقى مورد لجعل الأمارة. ثم إنه يقول بعدم حجية اليد في مثل هذه الصور - أي فيما إذا كانت في أول حدوثها معلوم العنوان بأن كانت يد عادية أو أمانة - ولكن لا من جهة استصحاب حال اليد، بل لأجل عدم شمول بناء العقلاء لمثل هذه الصورة، ولا أقل من الشك. وأيضا النتيجة عدم اعتباره في هذه الصورة. ولكن يمكن أن يقال: إن بناء العقلاء على أمارية اليد لا يثبت الملكية شرعا إلا بإمضاء الشارع لذلك البناء، فإذا قال الشارع: لا تنقض اليقين بكونها يد عادية أو يد أمانة مالكية أو شرعية بالشك في بقاء تلك الحالة السابقة وابن على بقاء تلك الحالة السابقة من
(هامش)
(1) الحاشية على (فوائد الأصول) للعراقي ج 4، ص 605. (*)
كونها عادية أو أمانة، فهذا ردع لتلك السيرة وذلك البناء. ومما ذكرنا ظهر أنه لو كانت الحالة السابقة لما في يده عدم جواز نقله وانتقاله في حد نفسه إلا بطرو أحد الأمور التي يجوز معها النقل والانتقال كالوقف وفعلا انتقاله إليه بسبب يحتمل طرو أحد تلك الأمور، فأيضا لا تكون اليد في هذه الصورة أمارة على كون ما في يده ملكا له وذلك أيضا لما ذكرنا من استصحاب حال اليد، وإن شئت قلت: استصحاب عدم طرو ما يجوز معه النقل والانتقال، ففي هذه الصورة أيضا مثل الصورة السابقة لأمارية اليد وكشفها عن ملكية ما تحت اليد لا يبقى موضوع، لأن موضوع الأمارة اليد على مال قابل للنقل والانتقال، فباستصحاب عدم طرو ما معه قابل للنقل والانتقال يرتفع موضوع ما هي الأمارة. نعم لو احتملنا أن ما تحت اليد كان قبل حدوث اليد قابلا للنقل والانتقال - بواسطة احتمال طرو أحد المجوزات للبيع مثلا بحيث - لا يبقى مجال لاستصحاب حال اليد: لأنها من أول حدوثها من هذه الجهة مجهول الحال. وأما لو كان ما تحت اليد عن أراضي المفتوحة عنوة وحصل الشك في ملكيتها لذي اليد بواسطة احتمال انتقالها إلى ذي اليد بناقل شرعي، فالظاهر كون اليد أمارة الملك، ولا يقاس بالوقف، لأن الأراضي المفتوحة عنوة قابلة للنقل والانتقال، وليست مثل الوقف محبوسة لا يجوز نقلها إلا بعد طرو أحد مجوزات نقلها، غاية الأمر أن أمر نقلها بيد ولي المسلمين حسبما يرى مصلحة المسلمين من النقل أوا لإبقاء على ملك المسلمين وأخذ الخراج ممن بيده. هذا، ولكن ظاهر بعض الأخبار أن الأراضي المفتوحة عنوة موقوفة محبوسة في أيديهم لا يجوز بيعها وشرائها، ويأخذ الخراج ولي المسلمين ممن بيده تلك الأراضي، وبناء على هذا تكون حالها حال الوقف ليست قابلة للنقل والانتقال إلا ضرورة
وحاجة مهمة في أمور المسلمين. الأمر الثاني: إذا كان في مقابل ذي اليد من يدعي الملكية لما في يده، فتارة: له بينة طبق ما يدعي، فيؤخذ المال من ذي اليد ويعطي للمدعي. وأخرى ليس له بينة ولكن ذو اليد يعترف بأنه له، فكذلك أيضا. وتارة: يعترف بأنه كان له ولكن انتقل إليه بناقل شرعي، وعلى هذا تنقلب الدعوى ويصير ذو اليد مدعيا بعدما كان منكرا، والمدعي صار منكرا أيضا بواسطة هذا الاعتراف: لأن قول ذلك المدعي بعد هذا الاعتراف يصير مطابقا لا صالة عدم الانتقال، فتنقلب منكرا ولا كلام في هذا. وإنما الكلام في أن المال يؤخذ منه ويعطي لمن كان مدعيا، فصار منكرا بواسطة إقرار ذي اليد، أو يبقى عنده بواسطة أمارية اليد ؟ لا يقال: أمارية اليد للملكية سقطت بواسطة اعترافه بأن المال كان له، وذلك لأن اعترافه بأن المال كان له لا ينافي كون اليد أمارة على الملك الفعلي، من جهة أنه في أغلب الموارد معلوم أن ما في اليد كان لشخص آخر، فحال اعترافه حال العلم بأنه كان لغيره. فكما أن في مورد العلم بأنه كان لغير ذي اليد لا يسقط عن الاعتبار والأمارية، فكذلك فليكن في مورد الاعتراف. وبعبارة أخرى: لا فرق بين أن يثبت أن ما في يده كان ملكا لمن يدعى الآن بحكم الحاكم، أو بالبينة أو بالعلم الوجداني، أو بإقرار ذي اليد: لأن ثبوت الملكية السابقة بأحد هذه الأمور لا ينافي مع الملكية حال الدعوى لذي اليد. وحيث أن بناء العقلاء على أمارية اليد لملكية ما في اليد لذي اليد وقد أمضاها الشارع، فيحكم بالملكية الفعلية لذي اليد، إلا أن يأتي ببينة طبق دعواه. وأجاب شيخنا الأستاذ (قدس سره) عما ذكر بأن انقلاب الدعوى من آثار نفس الإقرار، وليس من آثار الواقع كي لا يكون فرق بين العلم والبينة والإقرار، فإذا أقر فهو
مأخوذ بإقراره ولو مع العلم بمخالفته للواقع (1). ولكن هذا كلام عجيب. أما أولا: لعدم حجية الإقرار مع العلم التفصيلي بمخالفته للواقع وأما ثانيا: معنى أخذه بإقراره ترتيب آثار الملكية السابقة لا عدم أمارية اليد للملكية الفعلية. نعم لو انضم إلى اعترافه بالملكية السابقة للمدعي دعوى الانتقال منه إليه بناقل شرعي، فمن حيث هذه الدعوى يكون ذو اليد مدعيا للانتقال، وقول ذلك المدعي المقابل لذي اليد يصير مطابقا لأصالة عدم الانتقال، فتنقلب الدعوى ويصير منكرا. فكأنه هناك دعويان: أحدهما: أن يدعي الملكية طرف ذي اليد، فبالنسبة إلى هذه الدعوى يكون ذو اليد منكرا، وطرفه يكون مدعيا. الثاني: دعوى ذي اليد الانتقال إليه من طرفه، وبالنسبة إلى هذه الدعوى يكون ذو اليد مدعيا وطرفه يكون منكرا، لمطابقة قوله مع أصالة عدم الانتقال. وأعجب مما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) ما ذكره أستاذنا المحقق (2) (قدس سره) في وجه انقلاب الدعوى هو حجية استصحاب عدم الانتقال مع وجود اليد الفعلي على المال، فمقتضى اليد هو كون هذا المال ملكا لذي اليد وانتقاله من الطرف إليه، ومقتضى استصحاب عدم الانتقال عدم كونه ملكا لذي اليد وبقاوه على ملك الطرف، فأمارية اليد هيهنا مع حجية استصحاب عدم الانتقال من المدعي الذي هو الطرف لذي اليد مما لا يجتمعان، فبناء على حجية هذا الاستصحاب لا يبقى مجال لأمارية هذه اليد: لما ذكرنا من أن مؤدى الاستصحاب - أي التعبد بعدم الانتقال - عدم ملكية ذي اليد، فمع حجية هذا الاستصحاب لا يمكن أن تكون اليد في هذا المقام أمارة.
(هامش)
(1) (فوائد الأصول) ج 4، ص 613.
(2) الحاشية على (فوائد الأصول) للعراقي ج 4، ص 614. (*)
وفيه: أن غاية ما يستفاد من هذا البيان تعارض هذا الاستصحاب مع هذه اليد، فبناء على أن اليد أمارة - كما هو نفسه جزم بذلك - تكون اليد حاكما على الاستصحاب، لما تقدم من حكومة الأمارات على الأصول. وأورد شيخنا الأستاذ (قدس سره) على نفسه بعد ما قال بالانقلاب في الصورة المذكورة - وهي الصورة التي يعترف ذو اليد بأن ما في يده كان سابقا للمدعي وادعى الانتقال إليه بناقل شرعي بمخالفة هذا القول، أي انقلاب الدعوى لما احتج به أمير المؤمنين (ع) على أبي بكر بأن الصديقة الطاهرة سلام الله عليها ذات يد على فدك، فلم تسأل البينة عنها ؟ والحال أنها صلوات الله عليها اعترفت بأن فدك كان لرسول الله (ص) نحلها إياها فادعت الانتقال إليها منه صلى الله عليه وآله وسلم بعد اعترافها أنها له (ص)، فبمقتضى تلك القاعدة انقلبت الصديقة الطاهرة مدعية فتكون البينة عليها، مع أن أمير المؤمنين (ع) ينفي في هذا الخبر - أي خبر الاحتجاج - كون البينة عليها (ع)، فتدل هذه الرواية دلالة صريحة على عدم انقلاب الدعوى (1). ثم أجاب (قدس سره) عن هذا الاعتراض بما لا يخلو عن قصور وإشكال: لأن جوابه مبتن على مبان في الملكية وأنواع انتقالاته غير مقبولة. فالأحسن أن يقال على تقدير تسليم دعوى الانقلاب مع ما فيها من النظر والتأمل: إن هيهنا كما قلنا آنفا دعويان: إحديهما: دعوى الانتقال، وبالنسبة إلى هذه الدعوى هي سلام الله عليها مدعية وعليها البينة والأخرى: دعوى الملكية وبالنسبة إلى هذه الدعوى حيث أنها سلام الله عليها كانت ذات يد كانت البينة على طرفها - أي أبي بكر - لأنه بزعمه كان ولي المسلمين، فكان أمير المؤمنين عليه السلام احتج على أبي بكر بالنسبة إلى هذه الدعوى الأخيرة إن كانت
(هامش)
(1) (فوائد الأصول) ج 4، ص 614. (*)
الدعوى الأولى مسكوتا عنها. ثم إن في هذه المسألة صور كثيرة ما استوفينا حقها: لأن محلها كتاب القضاء من الفقه. الأمر الثالث: من تلك الأمور التي صار محلا للكلام والبحث: أنه هل حجيتها مخصوصة بالأعيان المتمولة أم تجري في المنافع أيصا ؟ فنقول: التحقيق في هذا المقام هو التفصيل بين ما كان المدعي هو المالك باعتراف ذي اليد - بأن يقول مثلا: يا زيد المدعي، هذه الدار التي الآن في يدي ملكك ولكن في إجارتي إلى سنة مثلا - وبين أن يكون المدعي أجنبيا أي ليس بمالك، وذلك مثل أن يدعي شخص آخر ويقول: في إجارتي لا في اجارتك، بأن تكون اليد حجة في الثاني - أي مقابل الأجنبي - لا الأول، أي مقابل المالك. والسر في ذلك: أن المنفعة أمر معدوم بالنسبة إلى ما سيأتي في زمان النزاع، بل غالبا يكون أمرا غير قار لا يوجد جزء منه إلا بعد انعدام الجزء الآخر، فلا يمكن وقوعها استقلالا تحت اليد التي عرفت أنها سيطرة واستيلاء خارجي، سواء أكان هناك معتبر في العالم أولا يكون، إذ اليد بالمعنى المذكور من الأمور التكوينية الخارجية، وليست من الأمور الإعتبارية، ولذلك يتحقق اليد من الغاصب مع أنه لا اعتبار لا من طرف الشارع ولا من طرف العقلاء. وأما القول بأنه باعتبار نفسه شطط من الكلام، لأنه لو اعتبر نفسه مالكا أو مستوليا ومسيطرا ألف مرة بدون أن يكون له سيطرة وتسلط في الخارج - لا يقال أنه ذو اليد، فمعنى كون المنفعة تحت اليد ليس أنها استقلالا وبنفسها تحت اليد بل معناه أنها تحت اليد بتبع العين، لأن المنفعة من شئون العين، ونسبتها إلى العين كنسبة العرض إلى موضوعه، فالاستيلاء والسيطرة على العين استيلاء على منافعها. وبعبارة أخرى: اليد على العين يد على منافعها، لا بمعنى أنه هناك استيلاء ان
وسيطرتان في الخارج: أحدهما على العين، والأخرى على المنفعة، بل ليس في الخارج إلا الاستيلاء على العين، وهذا الاستيلاء الواحد كما يصح أن ينسب إلى العين يصح أن ينسب إلى المنفعة. وبعبارة أخرى: المنفعة غالبا أمر غير قار لا توجد إلا تدريجا. نعم هناك عند العرف قد تطلق المنفعة على بعض الأعيان الخارجية، كاللبن في الضرع، والثمرة على الشجرة. فهذه وأمثالها خارجة عن محل الكلام، ولا شك في إمكان وقوعها مستقلا تحت اليد، فكلامنا في ما هو من قبيل الأول - أي المنافع التي لا وجود لها استقلالا - بل هي حال النزاع كما قلنا معدومة ولا توجد إلا تدريجا، فليس حال النزاع شيء موجود حتى نقول بأنه تحت اليد مستقلا، نعم إنها تحت اليد بتبع العين، بمعنى أن اليد على العين يد أيضا عليها، وبهذا صححنا الضمان في المقبوض بالعقد الفاسد بالنسبة إلى المنافع غير المستوفاة من باب ضمان اليد. والحاصل: أن اليد على العين يد على المنافع غير القارة حقيقة وواقعا، وليس من قبيل الوصف بحال متعلق الموصوف، أي ليس العين واسطة في العروض بل واسطة في الثبوت، فإذا استولى على العين لا يصح سلب السلطنة واستيلائه على المنفعة. وبعد ما ظهر ما قلنا فنقول: فلو كان المدعي هو المالك فحيث أن ذا اليد معترف بأن يده أماني ومن قبل المالك، ففي الحقيقة يده يد المالك، كما بينا سابقا أن يد كل أمين مالكي يد المالك، فلا يبقى مجال للمخاصمة مع المالك بمثل هذه اليد، لأنه اسقطها عن الإعتبار بالنسبة إلى المالك باعترافه أن يده أمانية. وأما بالنسبة إلى الأجنبي فلا، من جهة أن اليد موجودة على الفرض، ولم يصدر عن ذي اليد اعتراف يضر بأماريتها بالنسبة إلى الأجنبي. نعم يبقى مطالبة الدليل على اعتبار مثل هذه اليد التبعي، فنقول: لو كان المدرك لهذه القاعدة هو الأخبار فالانصاف أن إثبات حجيتها حتى فيما إذا كان المدعي غير المالك مشكل، لأن أغلب الأخبار موردها الأعيان، والخروج عنها إلى المنفعة يحتاج
إلى دليل. وأما قوله عليه السلام في موثقة يونس بن يعقوب: (ومن استولى على شيء منه فهو له) (1). وإن كان فيه عموم بالنسبة إلى المنفعة والعين باعتبار لفظ (شيء) ولكن ضمير (منه) الراجع إلى متاع البيت يقيد هذا الإطلاق، فتأمل. وأما رواية عباس بن هلال عن أبي الحسن الرضا عليه السلام وإن كان فيه عموم باعتبار جملة (لأقر الناس على ما في ايديهم) (2) لكنك عرفت عدم دلالتها على أصل المطلب، بل هي بصدد بيان مطلب آخر لاربط له بما نحن فيه أصلا. وأما لو كان المدرك هو الإجماع، فمعلوم أنه لا حجية له في محل الخلاف. وأما لو كان المدرك هو بناء العقلاء كما هو الصحيح عندنا وقلنا إن هذه الأخبار إمضاء لما عندهم، فالأظهر بل الأقوى والمتعين هو التفصيل المتقدم، لأنه من الواضح أن العقلاء يفرقون بين أن يكون المدعي هو المالك أو الأجنبي: الأمر الرابع: أنها تجري في الحقوق أم لا ؟ فنقول: الحقوق المتعلقة بالأعيان على اختلاف انحائها، سواء أكانت الأعيان متمولة كحق الرهانة وحق التولية وغيرهما، أو غير متمولة كحق الاختصاص المتعلقة بالعذرة والخمر والميتة، لا يمكن وقوعها تحت اليد ابتداء، بل تقع تحتها بتبع العين، وحالها من هذه الجهة حال المنافع بل انزل، لأن الحق أمر اعتباري، إذ ليس هو إلا سلطنة اعتبارية مجعولة في عالم الاعتبار من طرف العقلاء أو الشارع على شيء أو شخص. ومن آثاره أنه يسقط بإسقاطه بخلاف المنفعة، فإنها من الأمور الواقعية المحمولة بالضميمة. فالتفصيل الذي بيناه في باب المنافع آت هنا بطريق أولى، فاليد هيهنا على
(هامش)
(1) تقدم تخريجه في ص 136، رقم (4) (2) تقدم تخريجه في 136، رقم (5) (*)
تقدير حجيتها مخصوصة بالنسبة إلى الأجنبي، لا بالنسبة إلى المالك. وأما الدليل على اعتبارها بالنسبة إلى الأجنبي فكما بينا في باب المنافع حرفا بحرف: لو كان مدرك هذه القاعدة هو الأخبار أو الإجماع فلا دليل في المقام أصلا، أما لو كان المدرك بناء العقلاء فالظاهر استقرار بنائهم بثبوت هذه الحقوق إذا كان المدعي غير مالك العين: الأمر الخامس: في أنه هل تجري قاعدة اليد في النسب والأعراض أم لا ؟ كما لو تنازع شخص مع آخر في زوجة تحت يد أحدهما، أي تكون في بيته ويعامل معها معاملة الزوج مع زوجته، أو في صبي تحت يد أحدهما. والأقوال في المسألة مضطربة، ولكن الأقوى - بناء على ما ذكرنا من أن مدرك هذه القاعدة هو بناء العقلاء - استقرار بنائهم على أمارية اليد في هذه المواضع، لأن الظن الحاصل من الغلبة هاهنا أقوى بمراتب من الظن الحاصل في باب الأملاك: لأن الغصب في باب الأمالك كثير، بخلافه هيهنا فإن غصب أحدهم زوجة الآخر أو ولده في غاية القلة بل الندرة. نعم لو كان مدرك القاعدة هو الأخبار أو الإجماع فشمولهما لمثل المقام في غاية الإشكال: لعدم شمول الإجماع لمورد الخلاف واختصاص الأخبار حسب ظهورها العرفي بأعيان الأملاك. الأمر السادس: في أنه هل هذه القاعدة تجري في حق نفس ذي اليد إذا شك في أن ما بيده ملك له أو لغيره فيما إذا لم يكن مدع في قباله، أم لا ؟ ربما يقال بجريانها في حقه وان لم يكن في قباله مدع يزاحمه: مستندا إلى رواية مسعدة بن صدقة، فإنه عليه السلام قال فيها بحلية ما تحت يده، ولو احتمل ذو اليد كونه سرقة أو غير ذلك من الاحتمالات المنافية لملكية ذي اليد، سواء أكان هناك مدع أو لم يكن.
ولكنك عرفت أن مساق تلك الرواية في بيان قاعدة الحل ولا ربط لها بباب اليد أصلا. وربما يستند لإثبات هذا المطلب بعموم قوله عليه السلام في موثقة يونس بن يعقوب: (ومن استولى على شيء منه فهو له) حيث أنه عليه السلام لم يقيد هذا الحكم بأنه فيما إذا كان في قباله مدع، فالحكم بكونه له مطلق من هذه الجهة. وفيه: أن الظاهر من هذه الرواية أنه عليه السلام في مقام مخاصمة الزوج مع الزوجة حكم بأن كل واحد منهما إذا كان مستوليا على شيء من متاع البيت فهو له، فلا إطلاق لها يشمل صورة عدم التنازع وعدم وجود مدع في البين. واستدل أيضا لهذا المطلب - أي حجية اليد لملكية ما في يده لنفسه عند الشك، ولو لم يكن مدع في البين - بصحيحة جميل بن صالح، عن الصادق (ع)، رجل وجد في بيته دينارا، قال عليه السلام: (يدخل منزلة غيره ؟) قلت: نعم كثير، قال عليه السلام: (هذه لقطة) قلت: فرجل وجد في صندوقه دينارا قال عليه السلام: (فيدخل أحد يده في صندوقه غيره، أو يضع فيه شيئا ؟) قلت: لا، قال: (فهو له) (1) حيث حكم عليه السلام بكون الدينار الذي وجده في صندوقه له مع كونه شاكا أنه له، ولم يفرق عليه السلام بين أن يكون هناك مدع يدعيه أم لا، فالرواية بإطلاقها يشمل المقام. ولكنه من المحتمل جدا أن يكون حكمه عليه السلام بكونه له بعد - السؤال عنه بأنه هل يدخل أحد فيه غيره أو يضع في شيء وجوابه بالعدم - من جهة حصول القطع العادي، أي ركون النفس والاطمئنان بأنه له في مثل هذه الصورة، فكأنه عليه السلام نبهه على أن احتمال كونه لغيره في الفرض وهم محض، فلا ربط له بباب اليد، بل نفس هذا الاطمئنان معتبر سواء أكان هناك يد أم لا.
(هامش)
(1) (الكافي) ج 5، ص 137، باب اللقطة والضالة، ح 3، (الفقيه) ج 3، ص 293، باب اللقطة والضالة، ح 4050، (تهذيب الأحكام) ج 6 ص، 390، ح 1168، باب اللقظة والضالة، ح 8 (وسائل الشيعة) ج 17، ص 353، أبواب اللقطة، باب 3، ح 1. (*)
والشاهد على ذلك أنه (ع) حكم في صدر هذه الرواية بأن الدرهم الذي وجده في الدار لقطة، وليس له بعد السؤال عنه أيضا بمثل هذا السؤال وأنه هل يدخل ذلك المنزل غيره وجوابه ب (نعم، كثير) مع وجود اليد في كلا الموردين، ولا فارق بينهما إلا ما ذكرنا. ولو كان يجيب في ما وجده في صندوقه أيضا ب (نعم، كثير) مثل ما أجاب في منزلة لكان حكمه عليه السلام أيضا بأنه لقطة. واحتمال أن يكون الفرق من جهة أنه في الصورة الأولى كثرة الداخلين في ذلك المنزل كما هو المفروض، واحتمال أن يكون الدينار الذي وجده من أحدهم مانعة من حجية اليد فيها، بخلاف الصورة الثانية فإن الفرض فيها عدم وضع غيره شيئا فيه، فليس شيء مانعا عن حجيتها. وبعبارة أوضح: اليد في الصورة الأولى سقطت عن الحجية بواسطة الأمارة على الخلاف، وهي كثرة الداخلين في ذلك المنزل غيره، فيكون احتمال أن يكون لهم أقوى من احتمال أن يكون له: لأنه أحدهم وفي عرض أحدهم، فهذا احتمال مرجوح بل خلاف المتفاهم العرفي. وعلى فرض تساوي هذين الاحتمالين أيضا تسقط عن الدلالة على اعتبارها في المقام. وأما القول بمعارضة هذه الصحيحة بموثقة إسحاق بن عمار، عن رجل نزل في بعض بيوت مكة، فوجد فيها نحوا من سبعين درهما مدفونة، فلم يزل معه ولم يذكرها حتى قدم الكوفة كيف يصنع ؟ قال عليه السلام: (يسأل عنها أهل المنزل لعلهم يعرفونها) قلت: فإن لم يعرفوها ؟ قال عليه السلام (يتصدق بها) (1) حيث حكم الإمام عليه السلام بالتصدق بها في صورة عدم معرفتهم إياها، الشاملة بإطلاقها، ما إذا كانوا شاكين أنها لهم أم لا، فليس بشئ، من جهة أنه:
(هامش)
(1) (تهذيب الأحكام) ج 6، ص 391، ح 1171، باب اللقطة والضالة، ح 11، (وسائل الشيعة) ج 17، ص 355، أبواب اللقطة، باب 5، ح 3. (*)
أولا: عدم معرفة أهل المنزل لها ملازم عادة مع العلم بالعدم، لا صرف عدم العلم. واحتمال أن يكون لأبيهم أو جدهم - مع عدم اطلاعهم - في غاية البعد وثانيا: صدق اليد على الدراهم المدفونة خصوصا في تلك المنازل المعدة للايجار كما في الفرض لا يخلو عن إشكال، فيكون من قبيل مجهول المالك الذي تعريفه بالنسبة إلى صاحب الدار ممكن، وبالنسبة إلى غيرهم غير ممكن. فحكم عليه السلام أولا بتعريفهم إياها فإذا لم يعرفوها يتصدق بها. وأما القول باعتبار اليد في حق صاحب اليد لو لم يكن مدع يدعيه ويزاحمه - حتى مع علمه بعدم كونه له لأنه رزق ساقه الله إليه - فدعوى بلا برهان وبعيد عن مذاق الفقه والفقاهة. كما أن انضمام كونه مدعيا أنه له في هذه الصورة - أي: فيما إذا كان شاكا مع عدم وجود مزاحم يزاحمه ومدع في البين إلى اليد في الحكم بأنه له، وإلا لو كان ذو اليد شاكا وساكتا فما بيده ليس له - عجيب لا ينبغي التكلم فيه. هذا كله لو كان المدرك لهذه القاعدة هي الأخبار، أما لو كان بناء العقلاء - كما ذكرنا - فالانصاف أنه لا فرق عندهم في اعتبارها بين أن يكون مدع في البين أم لا. الأمر السابع: في أنه هل يد المسلم أمارة على التذكية والحلية أم لا ؟ فنقول: لا كلام في أمارية سوق المسلم ويده على التذكية والحلية إجماعا ونصا، وإنما الكلام وقع في محل آخر، وهو أنه هل كما أن يد المسلم أمارة التذكية، يد الكافر تكون أمارة الميتية أم لا ؟ فذهب جمع إلى أنها أمارة، وبعض آخر إلى عدمها. نعم ما كان في يد الكافر حيث أنه ليس عليه أمارة التذكية فاستصحاب عدمها يجري، ويجعله في حكم الميتة أو يدخله في موضوعها، على القولين في معنى الميتة، وهذا غير كونها أمارة الميتية. واستدل للقول الأول برواية إسحاق بن عمار، عن العبد الصالح عليه السلام: (لا بأس في
الصلاة في الفراء اليماني وفيما صنع في أرض الإسلام) قلت: فإن كان فيها غير أهل الاسلام ؟ قال (ع): (إذا كان الغالب عليها المسلمون فلا بأس) (1). وتقريب الاستدلال بهذه الرواية: أنها تدل بمفهوم الشرط على ثبوت البأس إذا لم تكن الغلبة للمسلمين في تلك الأرض أو ذلك البلد، ولو كان ذو اليد مشكوك الكفر فضلا عن أن يكون معلوم الكفر. ولكنك خبير بأن الرواية في مقام بيان المراد من سوق الإسلام وأرضهم، وأن المدار في كون السوق سوق الإسلام هو أن يكون إما جميعهم مسلمين أو غالبهم، فإذا لم يكن كذلك فليس أمارة على التذكية والحلية، فقهرا يكون فيه البأس بحكم أصالة الحرمة في اللحوم ما لم تكن امارة على التذكية. وذلك لجريان استصحاب عدم التذكية بدون أن يكون حاكم عليه في البين، فلا ربط لها بأمارية يد الكافر على الميتية أصلا، ولا بأمارية سوقهم وأرضهم، كما أن الظاهر من صاحب الجواهر (قدس سره) استفادة ذلك (2)، من جهة أنه عليه السلام حكم بالبأس عند عدم غلبة المسلمين، وعند عدم تحقق سوقهم وذلك من جهة أن حكمه عليه السلام بالبأس في الصورة المذكورة أعم من كون سوقهم أمارة على العدم ومن عدم كونه أمارة، فكيف يستكشف منه الملزوم الخاص ؟ مضافا إلى أن إطلاق عدم الغلبة يشمل صورة تساويهما من حيث العدد، فيكون في هذه الصورة أيضا بأس بحكم المفهوم. ولا وجه حينئذ لعدها من سوق الكفار وأرضهم مع تساوي الطائفتين من حيث العدد. واستدل - أيضا لذلك القول برواية إسماعيل بن موسى، عن أبيه: سألت أبا الحسن عليه السلام عن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل، أيسأل عن ذكاته إذا كان البايع مسلما غير عارف ؟ قال (ع): عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا
(هامش)
(تهذيب الأحكام) ج 2، ص 368، ح 1532، باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس، ح 64، (وسائل الشيعة) ج 2، ص 1072، ابواب النجاسات، باب 50، ح 5، وج 3، ص 332، أبواب لباس المصلي، باب 55، ح 3. (2) (جواهر الكلام) ج 6، ص 347، وج 8، ص 54 (*).
رأيتم المشركين يبيعون ذلك، وإذا رأيتم يصلون فيه فلا تسألوا عنه) (1) وتقريب الاستدلال بهذه الرواية هو أنه عليه السلام أمر بالسؤال إذا كان البائع مسلما غير عارف بأن ما باعه ميتة أم لا، وكان هناك في البلد والسوق مشركون يبيعون ذلك، ومن المحتمل أن يكون هذا المسلم اشترى منهم. ونتيجة السؤال هو أنه لو تبين أن البائع الأول مشرك، وهذا البائع الثاني المسلم اشترى من ذلك المشرك يجب الاجتناب عنه، وإلا يلزم أن يكون الأمر بالسؤال لغوا ومعلوم أن معنى هذا أن يد الكافر أمارة عدم التذكية، وتعارض يد المسلم التي هي أمارة التذكية وتكون مقدمة عليها، فيدل على اختصاص أمارية يد المسلم على التذكية بما لا يعلم تقدم يد الكافر عليها. ولكن أنت خبير بأنه لو كان الأمر كذلك فحينئذ (يمكن أن يقال) أن حكمة السؤال هو أنه هل أمارة التذكية هيهنا موجودة أم لا ؟ لأنه على فرض سبق يد الكافر لا أمارية لهذه اليد التي اشترى منها، لا أن الحكمة وجدان الامارة على الميتية كما توهم. إن قلت: أي داع كان على الفحص مع أن اليد يد مسلم، ولم يعلم الانتقال إليها من يد الكافر. قلنا: علق السؤال على رؤيته بيع المشركين لذلك، وبعبارة أخرى: الظاهر أن المراد من هذه الرواية أن يد المسلم وسوقهم أمارة إذا لم يكن هناك جماعة من الكفار يتناولون بيعها وشرائها، وإلا يجب السؤال إذا كان البائع المسلم غير عارف، أما إذا رأيته يصلي فيه فلا يجب السؤال. فما عن الجواهر في هذا المقام - حيث يقول: بل لعل
(هامش)
(1) (الفقيه) ج 1، ص 258، باب فيما يصلي فيه وما لا يصلي، ح 792، (تهذيب الأحكام) ج 2، ص 371، ح 1544، باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس، ح 76، (وسائل الشيعة) ج 2، ص 1072، أبواب النجاسات، باب 50، ح 7. وفي السند (عن سعد بن إسماعيل، عن أبيه إسماعيل بن عيسى) بدل: إسماعيل بن موسى عن أبيه. (*)
من خبر اسحاق بن عمار مع خبر إسماعيل يستفاد كون يد الكافر وأرضه أمارة على عدم التذكية (1) - غريب هذا أحد الاحتمالات في معنى الرواية، لكنه انصافا بعيد. والصحيح في معناها: أن الراوي سأل عن لزوم السؤال إذا كان البائع المسلم غير عارف، وغير العارف يحتمل له معنيان: أحدهما أنه غير عارف بالولاية، ثانيهما أنه غير عارف بالأحكام والإمام عليه السلام يجيبه بأنه يجب السؤال إذا كان البائع مشركا، فكأنه عليه السلام جعل حجية يد المسلم مفروغا عنه، سواء أكان عارفا أو غير عارف، وأنه) هناك لا يحتاج إلى السؤال عن البائع، وأثبت السؤال في مورد آخر وهو كون البائع مشركا وكافرا. ووجه الاستدلال - بناء على هذا المعنى للرواية - هو أن السوق مع أنه سوق المسلم كما أنه المفروض في صدر الرواية، حيث يقول الراوي (يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل) وأنه أمارة على التذكية وحاكم على استصحاب عدم التذكية، فلا يجب السؤال ومع ذلك أمر عليه السلام بلزوم السؤال إذا كان البائع مشركا، وليس هذا إلا من جهة أمارية يد الكافر على عدم التذكية، وتقديمها على سوق المسلم عند التعارض. ولكن أنت خبير بأنه لو كان الأمر كذلك فلا معنى لوجوب السؤال بعد قيام الحجة على العدم، فنفس الأمر بالسؤال يبطل هذا الاحتمال، مضافا إلى أنه لا وجه لتوهم أمارية سوق المسلم مع أن اليد يد كافر، بل أماريتها في مورد كون اليد مشكوكا. نعم الذي يمكن أن يستدل بهذه الرواية عليه بناء على هذا الاحتمال أمران: أحدهما: حجية اليد ولو كان من غير العارف بالولاية.
(هامش)
(1) (جواهر الكلام) ج 8 ص 52. (*)
والثاني: حجية إخبار ذي اليد في ثبوت التذكية وآثارها ولو كان ذو اليد كافرا، وذلك لأنه لولا حجيته يلزم أن يكون السؤال لغوا، بل يمكن أن يدعي الملازمة العرفية بين وجوب السؤال وحجية قوله خصوصا وأن الوجوب وجوب طريقي. ومما ذكرنا تبين أنه لو كان هناك يدان: أحدهما للمسلم، والأخرى للكافر على مشكوك التذكية، فبناء على أن يد الكافر أمارة على عدم التذكية تتعارض اليدان، وبعد التساقط يرجع إلى استصحاب عدم التذكية. وأما بناء على المختار فيحكم على طبق يد المسلم ولا تعارض أصلا، فتكون يد المسلم حاكمة على الاستصحاب. الأمر الثامن: هل يقبل قول ذي اليد في الطهارة والنجاسة أم لا ؟ المشهور هو القبول خصوصا بين المتأخرين، بل عن الحدائق: ظاهر الأصحاب الاتفاق عليه، ولذلك استدل عليه بعضهم بالإجماع (1). وقد عرفت حال الإجماع في أمثال هذه المقامات مما يكون مستند المجمعين معلوما، وهو تارة سيرة المتشرعة كما في لسان بعض، وأخرى أخبار ذكروها في هذا الباب ولكن عمدة المستند في هذا الباب هي الأخبار، كصحيح معاوية بن عمار، عن الرجل من أهل المعرفة بالحق يأتيني بالبختج ويقول: قد طبخ على الثلث وأنا أعرفه أنه يشربه على النصف، فاشربه بقوله وهو يشربه على النصف ؟ فقال عليه السلام: (لا تشربه). قلت: رجل من غير أهل المعرفة ممن لا نعرفه أنه يشربه على الثلث ولا يستحله على النصف يخبر أن عنده بختجا على الثلث قد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه يشرب منه ؟ قال (ع): (نعم) (2). ولا شك في أن ظاهر هذه الرواية هو حجية إخبار ذي اليد
(هامش)
(1) (الحدائق الناضرة) ج 5، ص 252. (2) (الكافي) ج 6، ص 421، باب الطلاء، ح 7، (تهذيب الأحكام) ج 9، ص 122، ح 526، باب الذبائح و الأطعمة وما يحل من ذلك...، ح 261، (وسائل الشيعة) ج 17، ص 234، أبواب الأشربة المحرمة، باب 7، ح 4. (*)
ولو كان من غير أهل المعرفة إذا لم يكن في البين ما يوهن صحة إخباره، ولا يعارضها ما في صدر الرواية من قوله عليه السلام (لا تشربه) لأن شربه على النصف كما - هو مفروض السؤال - أسقط إخباره عن الحجية والاعتبار، ولا يدل على أن إخباره من حيث أنه إخبار ذي اليد ليس بحجة حتى يكون منافيا للذيل نعم صحيح معاوية بن وهب - عن البختج (إذا كان هو يخضب الإناء وقال صاحبه قد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه فاشربه) (1) - ظاهره أنه يحتاج إلى ضم أمارة أخرى إلى الأخبار حتى تكون حجة وهي كونه بحيث يخضب الإناء. ولكن يمكن أن يقال: إن هذا التقييد أيضا يرجع إلى ما ذكرنا في صحيح معاوية بن عمار من عدم كون موهن لإخباره، ولا شك في أن عدم خضبه للإناء موهن لإخباره بذهاب الثلثين: لوجود ملازمة عادية بين ذهاب الثلثين وبين خضبه للإناء. نعم يدل موثق عمار فيمن يأتي بالشراب ويقول هو مطبوخ على الثلث، فقال عليه السلام: (إن كان مسلما ورعا مؤمنا فلا بأس أن يشرب) (2) - وهكذا صحيح ابن جعفر: (لا يصدق إلا أن يكون مسلما عارفا) (3) على اختصاص الاعتبار بما إذا كان ذو اليد من أهل الايمان، بل الأول منهما زائدا على ذلك بما إذا كان ورعا. ولكن الانصاف أن الصحيحة صريحة ونص في اعتبار قول من ليس من أهل المعرفة فلا مناص إلا من حمل هاتين الروايتين على كراهة تصديقه والعمل على طبق إخباره فيما إذا لم يكن ذو اليد مؤمنا ورعا ولا يخفى أن دلالة هذه الأخبار على حجية إخبار ذي اليد في الطهارة والنجاسة
(هامش)
(1) (الكافي) ج 6، ص 420، باب الطلاء، (تهذيب الأحكام) ج 9، ص 121، ح 523، باب الذبائح والأطعمة و ماركل من ذلك... ح 258، (وسائل الشيعة) ج 17، ص 234، أبواب الأشربة المحرمة، باب 7، ح 3. (2) (تهذيب الأحكام) ج 9، ص 116، ح 502، باب الذبائح والأطعمة وما يحل من ذلك...، ح 237، (وسائل الشيعة) ج 17، ص 235، أبواب الاشربة المحرمة، باب 7، ح 6. (3) (تهذيب الأحكام) ج 9، ص 122، ح 528، باب الذبائح والأطعمة وما يحل من ذلك...، ح 263، (وسائل الشيعة) ج 17، ص 235، أبواب الأشربة المحرمة، باب 7، ح 7. (*)
مبني على نجاسة العصير بعد الغليان وقبل ذهاب الثلثين، وإلا فلا يدل إلا على حجية إخباره بالنسبة إلى الحلية، لا بالنسبة إلى الطهارة التي هي محل الكلام هذا الذي ذكرنا من الأخبار في حجية قول ذي اليد بالنسبة إلى طهارة ما في يده، مضافا إلى ما ذكرناه في خبر اسماعيل بن موسى عن أبيه، سألت أبا الحسن عليه السلام عن جلود الفراء يشتريها الرجل من سوق من أسواق الجبل، أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف ؟ فقال: (عليكم أنتم أن تسألوا إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك) (1) من أنه ربما يدل حجية إخبار ذي اليد ولو كان كافرا، فضلا عن أن يكون مسلما. وأما الاستدلال على اعتبار إخبار ذي اليد بالسيرة العملية من المسلمين المتدينين الملتزمين بالشريعة - لا من العوام الذين لا يبالون بمخالفة الشريعة والدين ويتبعون كل ناعق - فإنه في محله. ولا شك في أن المتدينين إذا أخبر ذو اليد بطهارة طعام يأكلونه ولو كان مستصحب النجاسة، وكذلك يجتنبون عن أكله بعد إخباره بالنجاسة ولو كان مستصحب الطهارة، أو مجرى قاعدة الطهارة. ومعلوم أن مثل هذه السيرة والبناء العملي من المتدينين بما هم متدينون كاشفة عن الحكم الشرعي ورضاء صاحب الشريعة إذا علم استمرارها إلى زمان المعصوم (ع)، ومن المستبعد جدا استقرار سيرتهم بدون أخذ ذلك منهم عليهم السلام، وعلى فرض وقوع ذلك يجب عليه الردع إظهارا للحق وإزاحة للباطل، وحيث لا ردع في المقام فتدل على اعتباره. الأمر التاسع: في قبول ذي اليد وإقراره لأحد المتنازعين بحيث يجعله المنكر كنفس ذي اليد ويجعل الطرف الآخر مدعيا.
(هامش)
(1) تقدم تخريجة في ص 158. (*)
وهذا الحكم مسلم بين الفقهاء، وإنما الكلام في وجهه. فقال بعض: من جهة القاعدة، المعروفة وهي: (إقرار العقلاء على أنفسهم جائز) فإذا أقر الغاصب أو غيره ممن يكون المال بيده لشخص آخر فحيث أن هذا الإقرار عليه، أنفذه الشارع عليه ولكن أنت خبير بأن مفاد هذه القاعدة ليس إلا نفوذ الإقرار على نفس المقر لا على غيره، فإذا أقر ذو اليد لشخص بما في يده فهذا الإقرار له جهتان: جهة نفي كون المال لنفسه - وهي عليه ونافذ، ويؤخذ المال منه - وجهة إثبات للمقر له، وهذه ليست عليه، بل على ذلك الطرف الآخر فلا يمكن انفاذها بهذه القاعدة. وأما ما يقال: من أن الظرف لو كان متعلقا بالإقرار يكون معنى القاعدة أن الإقرار الذي صدر من المقر وكان عليه فهو جائز ونافذ مطلقا، سواء أكان بالنسبة إلى الغير له أو عليه. فلو أقر ذو اليد بأن ما في يده ملك لفلان الذي هو أحد المتنازعين، فهذا الإقرار نافذ على ذلك الطرف الآخر ولو كان عليه، لا له، لأنه إقرار على المقر فيكون نافذا وجائزا. فجوابه أولا: أن الظاهر من هذا الكلام أن الظرف متعلق بجائز لا بالإقرار، و وجه تقديمه عليه إفادة الحصر، لأن تقديم ما هو حقه التأخير يفيد الحصر، بمعنى أن نفوذ إقرار العقلاء وجوازه يكون على أنفسهم لا على غيرهم، فتأمل. وثانيا: على فرض أن يكون متعلقا بالإقرار لاشك في أنه يضيق الموضوع ويخصصه، فيكون حكم الشارع بالنفوذ في احدى الحصتين من الإقرار لا على الطبيعة المطلقة، فتكون النتيجة أن الإقرار الذي على المقر بما أنه عليه نافذ وجائز، فحينئذ إذا كان في الإقرار جهتان: جهة على المقر وجهة أخرى ليس عليه، فالذي يكون نافذا هي الجهة الأولى. وبعبارة أخرى: حيث أن العاقل لا يقر على ضرر نفسه بلا جهة وكذبا، فإذا أقر
كذلك لابد وأن يكون بداعي بيان الواقع وإظهار الحق هذا بالنسبة إلى الجهة التي عليه واضح، وأما بالنسبة إلى الجهة التي ليست عليه ربما يكون الإقرار لدواعي عقلائية غير بيان الواقع والإخبار عنه، فليس في الإقرار أمارية من هذه الجهة. وثالثا: قيل إن الإقرار لا يطلق عرفا إلا على ما يكون على المقر، وأما الإخبار الذي ليس على المقر سواء أكان له أو لم يكن له ولا عليه لا يسمى إقرارا، فبناء على هذا لا يبقى مجال لارجاع الظرف إلى الإقرار: لأنه مأخوذ في ماهيته فيكون التقييد به من قبيل تقييد الشيء بما هو ذاتي له كتقييد الإنسان مثلا بكونه ناطقا فلا مناص إلا عن تعلقه بجائز لا بالإقرار. وقال بعض آخر: من جهة قاعدة (من ملك شيئا ملك الإقرار به). ببان ذلك أن ذا اليد مالك لأن يملك هذا المال الذي في يده للمقر له، ببيع أو صلح أو هبة أو نحو ذلك، فيملك الإقرار بأنه له بهذه القاعدة قلت: هذه مغالطة واضحة لأنه فرق واضح بين أن يقر بتمليكه إياه وبين أن يعترف أنه له، والذي هو - أي: ذو اليد - مالك هو تمليكه إياه ويكون مستوليا عليه، لا على أن هذا المال له. وهنا وجه ثالث: وهو أن اليد أمارة على أن هذا الذي في يده له بالدلالة المطابقية، وأيضا أمارة على نفي كونه لغيره بالدلالة الالتزامية، وأماريتها تسقط بالنسبة إلى المدلول المطابقي إذا أقر لشخص آخر، وكذا تسقط أماريتها على نفي الملكية للمقر له بسبب إقراره له. وأما بالنسبة إلى ما عدا هذين فأماريتها باقية على حالها، فإذا أقر ذو اليد لأحد المتنازعين المدعيين لما في يده يسقط اعتبار اليد بالنسبة إلى نفسه والمقر له بواسطة إقراره: لأن بناء العقلاء على أمارية اليد فيما إذا لم يكن إقرار من ذي اليد على خلاف أمارية يده. وأما بالنسبة) إلى غيرهما تبقى أماريته على النفي، فالنتيجة قيام الحجة على نفي الملكية عن ذي اليد وعن غيره ما عدا المقر له، ومعلوم أن المال لا يبقى
بلا مالك. وبعبارة أخرى: إن هذا المال إما للمقر له أو لغيره يقينا، فإذا ثبت بواسطة إقرار ذي اليد أنه ليس لغير المقر له فلابد وأن يكون له، فيكون هو المنكر وطرفه المدعي وهو المدعى في المقام، وكون المقر له هو المنكر وطرفه المدعي يكون هكذا بناء على ما هو التحقيق من أن المدعي من يكون قوله مخالفا للحجة الفعلية، والمنكر من يكون قوله موافقا للحجة الفعلية، هذا ما افاده أستاذنا المحقق العراقي (قدس سره) وهو وإن كان في غاية اللطافة والدقة والمتانة، لكن يرد عليه: أن دلالة اليد على نفي الملكية عمن عدا ذي اليد كان من باب دلالة الالتزام، لأن مدلولها ابتداء وبالمطابقة ملكية ما في اليد لذيها، ولازم كونه ملكا لذي اليد نفيه عن غيره أي شخص كان، فإذا بطل أماريتها بالنسبة إلى الملزوم والمعنى المطابقي لا يبقى مجال لدلالتها على المعنى الالتزامي. وقياسه بالخبرين المتعارضين في غير محله لأنه هناك في الحقيقة أخبار متعددة، فكما أخبر بالمعنى المطابقي كذلك أخبر بالمعنى الالتزامي. فدليل (صدق العادل) يشملها جميعا في عرض واحد. ولو كان طولية في البين فبين الموضوعات لدليل حجية الإخبار، فبعد تحقق الموضوع - ولو كان في طول إخبار الملزوم وبعد تحققه يكون مشمولا لدليل الحجية في عرض مشمولية الإخبار بالملزوم. وأما في ما نحن فيه فلا يجري هذا الكلام أصلا، لأنه ليس هنا أمارات متعددة طولية حتى تكون مشمولة لدليل الحجية في عرض واحد، ويكون سقوط حجية بعضها غير مضر بحجية البعض الآخر، بل ليس هيهنا إلا أمارة واحدة، وهي اليد التي تكون أمارة على ملكية ما فيها لذيها. غاية الأمر حيث أن مثبتات الأمارات حجة فكما أن اليد تدل على ملكية ما فيها لذيها، كذلك تدل بالالتزام على نفيها عن غير ذي اليد، فإذا بطلت هذه الدلالة المطابقية - بإقراره لغيره لا يبقى مجال للدلالة التابعة
لها. وأين هذا من باب تعارض الخبرين، وحجيتهما في نفي الثالث بعد سقوط كليهما عن الحجية في مدلولهما المطابقي بواسطة المعارضة ؟ وحاصل الفرق بين المقامين أن العام المشمول لحكم من الأحكام الانحلالية لو كان بعض أفراده علة لوجود فرد آخر من ذلك العام، فشمول الحكم لذلك الفرد المعلول في عرض شموله لعلته، ولذلك لو خصص العام بالنسبة إلى العلة لا ينتفي الحكم عن المعلول. نعم لو انتفى ذات العلة ينتفي ذات المعلول، فإذا قال: أكرم العلماء، و فرضنا أن وجود زيد العالم علة لوجود عمرو العالم، وأخرج زيد العالم عن تحت عموم (أكرم العلماء) بالتخصيص، فخروجه غير مضر بشمول عموم الحكم لعمرو العالم الذي هو المعلول. وباب الخبرين المتعارضين من هذا القبيل، لأن الخبرين علة لوجود خبر آخر الذي هو لازم لهما، وهو الاخبار بنفي الثالث، فسقوطهما عن الحجية بواسطة المعارضة لا يوجب سقوط الخبر المعلول لهما عن الحجية. لكن كل ذلك تبعيد للمسافة، مضافا إلى أنها دعاو بلا بينة ولا برهان، لأن أمارية اليد من باب بناء العقلاء، فإن كان بناء العقلاء في مورد إقرار ذي اليد لأحد المتنازعين على إثبات الملكية له، فلا يحتاج إلى هذه الدعاوي من سقوط اليد عن الحجية في مدلولها المطابقي بواسطة ذلك الإقرار، وبقاء حجيتها بالنسبة إلى مدلولها الإلتزامي، أي نفي الملكية عن غير المقر له، وإن لم يكن مثل هذا البناء من طرفهم فلا يفيد هذه الدعاوي، بل تكون دعاوى بلا دليل على إثباتها. فالأحسن أن يقال: إن الدليل على هذه الفتوى المسلمة بين الأصحاب هو بناء العقلاء على أنه لو أقر ذو اليد على أن هذا المال لزيد مثلا يكون له، سواء أكان منازع ومن يدعيه في مقابله أم لم يكن. الأمر العاشر: فيما إذا اعترف ذو اليد لشخص بتمام ما في يده، ثم اعترف لشخص آخر أيضا كذلك، والمفروض أن ما في يده عين شخصي وقع الإقرار عليها من ذي
اليد مرتين لشخصين، فنقول: تارة: يكون الإقرار الثاني بعد الإقرار الأول وفي كلام منفصل عن الإقرار الأول بمعنى أن الإقرار الأول تم وخلص، ثم بعد زمان وفي كلام آخر بل وفي مجلس آخر أقر لشخص آخر بعين ذلك المال. وأخرى: يعقب الإقرار الأول بالإقرار الثاني في كلام واحد وبصورة الإضراب كما أنه لو قال: هذه العين الشخصي لزيد بل لعمرو. أما في الصورة الأولى فالظاهر عدم نفوذ الإقرار الثاني: لأنه وقع على مال الغير، ولا تجري فيه قاعدة (إقرار العقلاء على أنفسهم جائز) لأنها - أي تلك العين بواسطة الإقرار الأول صار ملكا للغير أي المقر له فالإقرار الثاني إقرار من الأجنبي بالنسبة إلى مال، فلا أثر لهذا الإقرار. ولكن يمكن أن يقال: فرق بين المقامين، لأن الأجنبي إذا أقر بما هو تحت يد شخص لشخص آخر لا يشمله قاعدة الإقرار، لأنه ليس عليه بل على غيره الذي هو ذو اليد، بخلاف ما نحن فيه، لأن إقراره الثاني أيضا يكون على ضرره، من جهة دلالته بالالتزام على أنه اتلف على المقر له الثاني هذا المال بإقراره الأول، فتشمله قاعدة الإقرار. غاية الأمر لا يمكن أخذه بإقراره بالنسبة إلى نفس العين، لأنه من هذه الجهة ليس عليه بل على المقر له الأول، فليس بنافذ. وأما من جهة ماليته أي مثله إن كان مثليا، وقيمته إن كان قيميا - فيكون إقراره عليه ويؤخذ به. ومعنى هذا أنه يغرم للثاني بمثله أو بقيمته لأجل وقوع يده على مال الغير ثم إتلافه عليه بإقراره الأول. ومما ذكرنا ظهر أنه في الصورة الثانية أيضا يعطي العين للمقر له الأول، ويغرم للثاني بالمثل القيمة بطريق أولى كما هو المشهور، بل ادعى جماعة أنه لا خلاف فيه. وذلك لأنه بالإضراب عدل عن إقراره الأول ولا يسمع منه، لأنه إنكار بعد
الإقرار، فلابد من ترتيب آثار الإقرار الأول بحكم قاعدة الإقرار، ويعطي العين للمقر له الأول، والغرامة بالمثل أو القيمة للثاني: لما ذكرنا في الصورة الأولى عينا. ووجه الأولوية هاهنا: أنه هناك كان يمكن أن يقال أنه بعد إخراج المال عن تحت يده بإقراره للمقر له الأول في كلام منفصل عن هذا الإقرار الثاني، يكون الإقرار الثاني من قبيل إقرار الأجنبي ولغوا، أماهاهنا فلا يمكن أن يقال مثل هذه المقالة، لأن المفروض أن المال بعد في يده، والكلام متصل وله أن يلحق بكلامه ما شاء من إضراب أو غير ذلك. وأما ما في الدروس (1) من العلم بانحصار الحق فيهما - أي المقر له الأول والثاني، وحيث أن ذا اليد أقر لكل واحد منهما فأسقط يده عن الاعتبار - فيدخل في مسألة التداعي والتحالف. فقد أورد عليه صاحب الجواهر (قدس سره) بأن احتمال السهو وغيره لا ينافي التعبد بظاهر قوله: لقوله عليه السلام: (إقرار العقلاء على أنفسهم جائز) (2) فيكون كلا الإقرارين نافذين، غاية الأمر يعطي العين لأحدهما أي الأول لما ذكرنا، والمثل أو القيمة للثاني. (3) هذا، ولكن أنت خبير بأنه لو لم يكن إجماع في البين يمكن أن يقال: إن حال هذين الإقرارين حال سائر الأمارتين المتعارضتين، فيتساقطان للعلم بكذب أحدهما، اللهم إلا أن يقال في خصوص الإقرار بالسببية والموضوعية، وهو بعيد غاية البعد. فالنتيجة كما قال في الدروس هو العلم بانحصار الحق فيهما بعد تساقط الإقرارين، للعلم بكذب أحدهما وسقوط اليد عن الاعتبار، فيكون من باب التداعي والنتيجة التحالف والتنصيف، إلا أن نقول بالموضوعية في باب الإقرار ما لم يكن العلم التفصيلي
(هامش)
(الدروس) ج 3، ص 132، كتاب الإقرار، درس (223). (2) (وسائل الشيعة) ج 16، ص 111، أبواب كتاب الإقرار، باب 3، ح 2، (عوالي اللئالي) ج 1، ص 22 3 ح 104، وج 2، ص 257، ح 5، وج 3، ص 442، ح 5. (3) (جواهر الكلام) ج 35، ص 131. (*)
على خلاف شخص الإقرار. وأما العلم الإجمالي بكذب أحد الإقرارين لا ينافي مع الأخذ بكل واحد منهما. وهذا القول لا يخلو من الغرابة. ثم إنه من فروع هذه المسألة أنه لو قال: إن هذا المال لزيد بل لعمرو بل لخالد، يعطي العين لزيد والقيمة أو المثل لعمرو واخرى كذلك لخالد. ولو قال: لزيد بل لعمرو وخالد، يعطي العين لزيد والقيمة أو المثل لهما أي لعمرو وخالد بحيث يشتركان في تلك القيمة أو المثل. ولو قال: لزيد وعمرو بل لخالد، يعطي العين لزيد وعمرو يشتركان فيها، والقيمة أو المثل لخالد وحده. ولو قال: لزيد وعمرو وبل لخالد، قال صاحب الجواهر (قدس سره) يعطي لخالد الثلث ويحتمل النصف، لأن (بل) للإضراب، والعطف يقتضي التشريك مع أحدهما، والأول، أظهر (1). وفي ما أفاده كلام يطول ذكره. ثم إنه لو أقر أولا بأني غصبته من زيد، ثم عقبه بقوله: بل من عمرو في كلام متصل، كان بصورة الإضراب أم لا، فالمشهور لم يفرقوا بين هذه الصورة وبين الصورة السابقة، أي فيما لم تكن بصورة الغصبية، بل كان الإقرار أنه له، وحكموا في كل واحدة من الصورتين بإعطاء العين للمقر له الأول وقيمتها أو مثلها للثاني. نعم استشكل العلامة (قدس سره) في القواعد على هذا الحكم بأنه فرق بينهما بأن الغصب لازم أعم بالنسبة إلى الملكية: لأنه يمكن أن يكون من المالك ويمكن أن يكون ممن عنده أمانة من قبل المالك، كالمستأجر والمستعير والودعي وأمثالهم، والإقرار باللازم الأعم لا يثبت الملزوم الخاص، فليس إقرارا بالملكية حتى يترتب عليه آثارها، من اعطاء العين للأول والغرامة للثاني، نعم في الإقرار الأول حيث أنه لا معارض ولا
(هامش)
(جواهر الكلام) ج 35، ص 132. (*)
منافي له فيلزم بإقراره ويعطي العين للمقر له وأما الإقرار الثاني حيث أنه بعد إتلاف العين بالإقرار الأول لو كان إقرارا بالملكية فحينئذ حيث أن مرجعه إلى الإقرار بإتلاف مال الغير فيضمن، أما لو لم يكن إقرارا بالملكية فلماذا يضمن ؟ (1) واستشكل عليه صاحب الجواهر (قدس سره) بأن مثل هذا الإقرار لو يثبت الملكية فلابد من إعطاء الغرامة للثاني، وإلا لا وجه لإ عطاء العين للأول. (2) ولكن أنت خبير بأن الفرق بينهما في غاية الوضوح، لأنه في الإقرار الأول كما بينا لا يخلو الأمر إما يكون من المالك أو من المأذون من قبل المالك، وعلى كل واحد من التقديرين يجب رد العين - ما دامت باقية - إلى المقر له. وأما في الإقرار الثاني فلا أثر له إلى إعطاء الغرامة والضمان - أي البدل الواقعي في التلف الواقعي - والحيلولة والغرامة والضمان لا معنى لهما لغير المالك، والمفروض أنه في الإقرار الثاني ما أقر بمالكية المقر له، بل باللازم الأعم الذي هو الغصب، فلا يثبت به الملزوم الخاص الذي هي الملكية، فما ذكره العلامة (قدس سره) في القواعد في غاية الجودة والمتانة. الأمر الحادى عشر: هل يجوز الشهادة والحلف مستندا إلى اليد أم لا ؟ فنقول: تارة نتكلم في هذا الأمر باعتبار القواعد الأولية، وأخرى باعتبار الأخبار الواردة في هذا الباب. أما الأول فحيث تقدم منافي مبحث حجية القطع قيام الأمارات والأصول التنزيلية مقام القطع الذي أخذ في الموضوع على نحو الطريقية، وفي موضوع جواز الحلف ووجوب أداء الشهادة القطع مأخوذ على نحو الطريقية، والكاشفية لا الصفتية، بل قلنا إننا لم نجد في الشرعيات موردا يكون القطع مأخوذا في موضوعه على نحو الصفتية، وقد بينا أن اليد أمارة فيجوز الحلف والشهادة بالملكية مستندا إلى اليد التي هي من الأمارات. هذا بحسب القواعد الأولية.
(هامش)
(1) (قواعد الأحكام) ج 1، ص 286. (2) (جواهر الكلام) ج 35، ص 133. (*)
وأما بحسب الأخبار الواردة في هذا المقام، فمن جملة ما يدل على الجواز رواية حفص بن غياث، وفيها: أرأيت إذا رأيت شيئا في يد رجل أيجوز لي أن اشهد له ؟ قال: (نعم) فقال الرجل: أشهد أنه في يده ولا اشهد أنه له فلعله لغيره. فقال أبو عبد الله عليه السلام: (أفيحل الشراء منه ؟) قال: نعم، فقال عليه السلام: (لعله لغيره، فمن أين جائز لك أن تشتريه ويصير ملكا لك ثم تقول بعد الملك هو لي وتحلف عليه ؟ ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله اليك - ثم قال عليه السلام: - ولو لم يجز هذا لما قام للمسلمين سوق) (1) - حيث أن هذه الرواية صريحة في جواز الشهادة مستندا إلى اليد، بل وتدل على جواز الحلف أيضا مستندا إليها، بل يستنكر عدم جواز الشهادة مستندا إلى اليد، وأنه يلزم منه عدم قيام سوق للمسلمين واختلال النظام. وأما الإشكال على الرواية من ناحية ضعف السند ففيه أولا: أن بعض المشائخ ذكر أن كتاب حفص بن غياث القاضي الكوفي معتمد ولو هو عامي. وثانيا: ضعفها منجبر بالشهرة العظيمة، حتى ادعى بعضهم الإجماع في المسألة، وإن كان الاستدلال في مثل هذه المسألة التي لها مدارك من الروايات وغيرها بالإجماع لا وجه. وقد ذكرنا هذا الإشكال على الإجماعات المنقولة في موارد متعددة، وسائر في أغلب الإجماعات. ثم إنه ذكر بعض السادة (قدس سره) وجه آخر لجواز الشهادة مستندا إلى اليد، حاصله: أن الملكية أمر ينتزعها العقلاء من الاستيلاء الخارجي لشخص على مال والشارع امضى هذه الطريقة، ولا شك في أن الأمر الانتزاعي معلومية بمعلومية منشأ انتزاعه،
(هامش)
(1) (الكافي) ج 7، ص 387، باب (من كتاب الشهادات) ح 1، (الفقيه) ج 3، ص 51، باب فيمن يجب رد شهادته...، ح 3307، (تهذيب الأحكام) ج 6، ص 261، ح 695، باب البينات، ح 100، (وسائل الشيعة) ج 18، ص 215، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، باب 25، ح 2. (*)
فإذا كان منشأ انتزاعه من الأمور المحسوسة كما فيما نحن فيه، فإن الاستيلاء الخارجي الذي هو سبب لا نتزاع الملكية التي هي إضافة خاصة بين المالك والمملوك أمر محسوس، فإذا أدرك السبب حسا يجوز أن يشهد بالمسبب. كما أنه في سائر الموارد إذا أدرك بالحس آثار العدالة أو الاجتهاد - وهما من الحالات والملكات النفسانية - يجوز أن يشهد بهما بواسطة العلم بهذا الأثر المحسوس، فليكن الأمر في الملكية ومنشأ انتزاعها - أي الاستيلاء الخارجي - أيضا كذلك. وبعبارة أخرى: الملكية تنتزع عن إحاطة ذي اليد بالشئ خارجا، لأنها عبارة عن إضافة اعتبارية بين المالك والمملوك، حاصلة عن استيلاء الشخص واحاطته خارجا على شيء قابل لأن يتملك، فإذا كان منشأ انتزاعه محسوسا ومشاهدا فقهرا يترتب المنتزع على منشأ إنتزاعه، فيجوز الشهادة بمقتضى إحساسه ومشاهدته سبب ذلك الأمر الانتزاعي، أي تلك الاضافة الاعتبارية، ضرورة معلومية الأمر الانتزاعي بمعلومية منشأ انتزاعه. ولذلك يجوز الشهادة بالملك المطلق بمشاهدة أسبابه الشرعية كالبيع ونحوه، مع أنه من الممكن أن لا يكون ملكا للبايع، فلا يكون ملكا للمشتري. والسر في ذلك كله: هو أن السبب في الجميع محسوس ومعلوم بالمشاهدة، وترتب المسبب على السبب علمي. إن قلت: إحاطة ذي اليد موجب لاختصاص المحاط به فيما إذا لم تكن تلك الإحاطة واقعة على مال الغير، وإلا إذا وقعت على مال الغير فلا يكون سببا لانتزاع الملكية، وذلك الاختصاص الخاص، بل تكون الاحاطة لأحد أمرين: إما كونه غاصبا أو كونه أمينا من قبل الله أو من قبل المالك. قلنا: هذا الاحتمال مدفوع بالأصل. هذا حاصل ما أفاده (قدس سره). ولكن أنت خبير بأن اليد ليست سببا للملكية، لا عند العرف، ولا عند الشرع.
نعم هو سبب إثباتي إذا قلنا بحجيتها وأماريتها، وهذا المعنى موجود في كل أمارة عند العقلاء أو الشرع، ولا اختصاص له باليد أصلا. والحاصل: أن الملكية مجعولة في عالم الاعتبار بجعل إمضائي أو إحداثي من قبل الشارع حسب اختلاف الموارد، فالسبب الموجد لها هو الشارع، أو العرف والعقلاء، وهذا المعنى سار في كل امر اعتباري. نعم قد يطلق السبب والشرط عند الفقهاء مسامحة على بعض قيود الموضوع، أو على تمام ما هو الموضوع، كقولهم: إن الاستطاعة سبب أو شرط لوجوب الحج، والعقد الكذائي سبب للملكية أو الزوجية، والإفطار أو الظهار سبب لوجوب الكفارة، وهكذا. ولكن هذا مع أنه أيضاليس صحيحا في حدنفسه - لأن هذه الأمور إما من قيود موضوع ذلك الحكم الذي يسمى بالمسبب، أو تمام موضوعه، وليست من باب الأسباب والمسببات - لاربط له أيضا بمقامنا، لأن اليد ليست من قيود موضوع الملكية ولا تمام موضوعها، بل هي سبب إثباتي لها بواسطة الغلبة عند العرف والعقلاء، والشارع أمضى طريقيته، وأين هذا المعنى من كونها موجبة لانتزاع الملكية في موردها ؟ فقد ظهر مما ذكرنا جواز الشهادة والحلف مستندا إلى اليد، لقيامها مقام العلم الذي أخذ في الموضوع على نحو الطريقية ولا فرق بين اليد وسائر الامارات من هذه الجهة، لا لما ذكره من أن اليد منشأ انتزاع الملكية فاحساسها كأنه إحساس الملكية. الجهة السادسة في تعارضها مع الأمارات والأصول وحيث تقدم أنها أمارة، وأيضا تقدم أن كل أمارة مقدم على كل أصل من
الأصول بالحكومة، وإن كانت الأمارة من أضعف الأمارات، والأصل من أقوى الأصول وكان تنزيليا كالاستصحاب. وذكرنا ما هو السر في ذلك وأنه حيث أحذ الشك في موضوع كل أصل ولو كان محرزا وتنزيليا مثل الاستصحاب، وحجية الأمارات - بناء على ما هو التحقيق - من باب تتميم الكشف، فلا محالة يرفع موضوع الأصل تعبدا، وهذا معنى الحكومة كما شرحناها في محلها مفصلا، (1) فتقديم اليد على الأصول من جهة كونها أمارة، وهذا واضح. وأما بالنسبة إلى سائر الأمارات غير البينة والإقرار فلابد وأن يلاحظ أولا أن أماريتها عند العقلاء هل هي في ظرف عدم كون تلك الأمارة على خلافها أم لا ؟ فان كانت مقيدة بعدمها على خلافها فتسقط عن الأمارية عند وجود تلك الأمارة الأخرى، مثلا لو كان الشياع على وقفية دار أو دكان أو محل اخر، ولكن ذو اليد يدعي الملكية، فبناء على أمارية الشياع فإن كانت أمارية اليد على الملكية عند العقلاء مقيدة بعدم الشياع على خلافه، فقهرا تسقط عن الحجية. (وأما إذا لم يكن كذلك، فقهرا يتعارضان ويؤخذ بأقويهما كشفا، وإلا فيتساقطان. وأما بالنسبة إلى إقراره على خلاف مقتضى يده، كما إذا أقر بأن هذا المال في يدي ليس لي، أو أقر بأنه لفلان، فلا شك في أن إقراره على نفسه نافذ وتسقط يده عن الاعتبار بالنسبة إلى ملكية نفسه، وقد تقدم شطر من الكلام في هذا الباب. وأما بألنسبة إلى البينة فمن المقطوع تقدم البينة على اليد، بل حجية البينة في قبال ذي اليد خصوصا في باب الدعاوى من المسلمات عند جميع المسلمين، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان) (2) وعمله (ص)، وعمل أصحابه، وعمل
(هامش)
(1) (منتهى الأصول) ج 2، ص 537. (2) تقدم تخريجه في ص 138، رقم (1) (*)
جميع المسلمين على هذا من أقدم العصور. الجهة السابعة في أنه إذا تعددت الأيدي على مال واحد فهل أنها أيضا أمارة على الملكية أم لا، بل أماريتها مخصوصة بما إذا كانت واحدة، وإلا إذا تعدد ت فكل واحدة منها تنفي اعتبار الاخر، لأن كل واحدة منها تكشف عن ملكية تمام ما فيها لذيها، فيتعارضان ويتساقطان ؟ والمشهور بين الفقهاء أنه إذا تعددت الأيدي على مال واحد فتكون أمارة على ملكية كسر من ذلك المال الذي تحت أيديهم بنسبة تلك الأيدي على ذلك المال، مثلا لو كان ذو اليد اثنين فكل يد أمارة على النصف، ولو كانوا ثلاثة تكون كل واحدة من تلك الأيدى أمارة على الثلث، وهكذا. وقد استشكل على هذا بأن مقتضى حجية اليد وأماريتها إثبات ملكية تمام ما في يده، فالنتيجة كما ذكرنا هي التعارض والتساقط والرجوع إلى الأصول العملية إن لم تكن أمارة أخرى في البين، فلا وجه لإثباتها كسرا مما في يده على الترتيب المذكور. وإن لم تكن حجة في الفرض المذكور، أي في صورة تعدد الأيدى فأيضا لا معنى لإ ثباتها الكسر المذكور، فعلى كل حال الذي تقتضيه القواعد الأولية خلاف فتوى المشهور. وقد تخلص بعض عن هذا الإشكال بأنه: إذا تعددت الأيدى على مال واحد فلا يمكن أن يكون كل واحدة منها يدا تامة مستقلة على جميع ذلك المال، لأن اليد كما ذكرنا عبارة عن الاستيلاء الخارجي، والاستيلاء الخارجي التام لا يمكن مع التعدد: لأن الاستيلاء التام المستقل هي السلطنة على جميع التصرفات ومنع الغير أيضا عن جميع التصرفات، ومعلوم أن مثل هذا المعنى لا يمكن تحققه بالنسبة الى المتعدد، لأنه
لازم ثبوته لكل واحد منهما رفعه عن الآخر. ففي صورة تعدد الأيدي لابد وأن نقول بأحد أمرين. أحدهما: أن كل يد من تلك الأيدي يد تامة مستقلة ولكن على الكسر المشاع بنسبة تعدد الأيدي، فإن كانا اثنين فالكسر المشاع لكل واحد منهما النصف، وإن كانوا ثلاثة فالثلث، وهكذا. ثانيهما: أن اليد لكل واحد من الأيدي وإن كانت على المجموع ولكن ليست يدا تامة مستقلة، بل يد ناقصة على المجموع، ولكن عند العقلاء يحسب كاليد التامة المستقلة على الكسر المشاع، ولكن الذي يظهر من بناء العقلاء في مثل هذه الموارد أنهم يرونهم شركاء شركة قهرية أو اختيارية، ويحكمون لكل واحد منهم بالكسر المشاع، فكأنه يرون أن كل واحد من تلك الأيدي يد تامة مستقلة على الكسر المشاع. وأما حديث أن اليد عبارة عن الاستيلاء الخارجي - وهو إما يكون على مجموع هذا المال الخارجي، أو على جزء معين من أجزائه، وأما الجزء المشاع الذي عبرنا عنه بالكسر المشاع فلا معنى لوقوعه تحتها إلا في ضمن وقوع الكل - فلا أساس له، لما ذكرنا من أن العقلاء يرون أن الشركاء ذوي الأيدي على مال معين كدار، أو دكان، أو خان، أو حمام، أو غير ذلك كل واحد منهم ذايد وسلطان على الكسر المشاع على ذلك المال، فتكون يده أمارة على ملكية ذاك الكسر المشاع، ولذلك إذا كانا اثنين وتصرف أحدهما في النصف المشاع بالبيع أو الهبة أو غير ذلك لا يرونه متعديا، ويقولون بأنه تصرف في ماله. وأما لو باع أو وهب أكثر من النصف يرونه متعديا، إلا أن يثبت أن ملكه أكثر بإقرار من الشريك أو ببينة أسو بنحو ذلك من الأدلة، وكذلك يرونه متعديا لو باع أو وهب نصفه المعين، وكل ذلك اية أن اليد والاستيلاء على الكسر المشاع، لا على
الجزء المعين، ولا على المجموع، فإذا كانت الأيدي متعددة. وأما الفرق بين الكسر المشاع والكلي في المعين، والآثار المترتبة على كل واحد منهما، وأنه هل يتوقف على إنكار الجزء الذي لا يتجزى أم لا ؟ فليس هاهنا، محل بحثه، وله مقام آخر. الجهة الثامنة في أن اليد أحد موجبات الضمان إذا كانت على مال الغير بدون أن يكون مأذونا من قبله، أو من قبل الله، أو يكون وليا على صاحب المال والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (وعلى اليد ما أخذت حتى تؤدي) (1). وشهرته بين الفريقين نقلا وعملا يغني عن التكلم في سنده. وأما دلالتها على الضمان: فمن جهة أن الظاهر من هذا الكلام الشريف أن الظرف ظرف مستقر أعني عامله من أفعال العموم، لا أنه ظرف لغو حتى يكون متعلقا بأفعال الخصوص، مثل (يجب) و (يلزم) في المقام، وذلك لجهات: أما أولا: فمن جهة أنه لو كان متعلقا بأحد هذين الفعلين فلابد من التقدير بمثل الرد والأداء، لأنه لا معنى لوجوب نفس ما أخذت ولزومها، لأن الحكم التكليفي لابد وأن يتعلق بأحد أفعال المكلفين ولا معنى لتعلقه بالذوات، ومعلوم أن التقدير خلاف الأصل. وثانيا: لو كان الظرف ظرف لغو وكان متعلقا ب (يجب) كان يلزم أن يكون
(هامش)
(1) (عوالي اللئالي) ج 1، ص 224، ح 106 وص 389 ح 22، وج 2، ص 345، ح 10، وج 3، ص 246، ح 2 و ص 251، ح 3 (مستدرك الوسائل) ج 17، ص 88، أبواب كتاب الغصب، باب 1، ح 4، (تفسير أبو الفتوح الرازي) ج 1، ص 784، (سنن البيهقي) ج 6، ص 95، باب رد المغصوب إذا كان باقيا، (سنن ابن ماجد) ج 2، ص 802، كتاب الصدقات، باب العارية، ح 2400. (*)
الحكم مغيى في لسان دليله بإتيان متعلقة وأمثاله، وهذا ركيك إلى الغاية. أنظر هل ترضى من نفسك بأن تقول: يجب عليك إكرامي حتى تكرمني ؟ فكيف ترضى أن تقول: بأن معنى الحديث الشريف أنه يجب على اليد رد ما أخذته وأدائه حتى تؤدى ؟ هذا كله، مضافا إلى أن ظاهر الحديث أن نفس ما أخذت على عهدة اليد، أي المال المأخوذ الذي صار تحت اليد والاستيلاء على عهدة اليد والذي أخذه، وهذا هو عين الضمان. وفي معنى الضمان أقوال، ولكن التحقيق هو أن يقال: إن الضمان عبارة: عن كون ماله المالية في عهدة الضامن وذمته، وحيث أن وجود الشيء في العهدة يكون وجودا اعتباريا، لأن معنى كونه في العهدة اعتبار العقلاء ذلك فيها، فكما أن الموجود الخارجي لا يمكن أن ينتقل إلى الذهن وإلا يلزم الانقلاب المحال، كذلك لا يمكن أن ينتقل إلى عالم الاعتبار لعين ذلك المحذور، بل بطريق أولى. فالظاهر من معنى الحديث أن المال الذي وقع تحت اليد العادية على احتمال، أو يد غير المأذونة على احتمال آخر، مع أنه موجود خارجي يعتبر في عهدة الآخذ ومستقر وثابت في ذمته بوجوده الاعتباري، إلى أن يؤدي. غاية الأمر أن أداءه مادام العين موجودة يكون بأداء نفسها، وبعد التلف إن كان لها مثل فأداؤها بأداء مثلها، وإن لم يكن لها مثل أو كان ولكنه متعذر الأداء، أو كان لقلته وغلاء قيمته عند العرف والعقلاء بمنزلة المعدوم، فاداءه بأداء قيمته. ومما ذكرنا يظهر المناط والضابط في المثلية والقيمية. وبعد ما عرفت أن ما يقع تحت اليد من الأموال بوجوده الخارجي يعتبر على العهدة بوجوده الاعتباري، لأن هذا المعنى هو الظاهر من الحديث الشريف، فنقول: إن ما هو تحت اليد يعتبر فوق اليد بما له من الشؤون والأوصاف والعوارض والألوان،
كانت تلك الشؤون والأوصاف من الأمور التكوينية الخارجية أو من الأمور الاعتبارية، فكل صفة أو لون كان فيما تحت اليد يثبت ويستقر على العهدة وما فوق اليد. ولا فرق في ذلك بين أن تكون خصوصيات العين المغصوبة مثلا من الأمور التكوينية الواقعية المحمولة بالضميمة. أو من الأمور الاعتبارية التي لا وجود لها في غير عالم الاعتبار. وبعبارة أخرى: كما أن الأوصاف الخارجية للعين تقع تحت اليد يتبع اليد على العين، ويضمن الغاصب تلك الأوصاف كضمانة لنفس العين، كذلك الأوصاف الإعتبارية التي للعين أيضا تقع تحت اليد، ويضمن ذو اليد تلك الأوصاف كضمانه لنفس العين. إذا عرفت ذلك فنقول: في باب تعاقب الأيدى الذي يقع تحت اليد الأولى ليس إلا نفس العين بصفاتها الخارجية التكوينية، ولذلك لا يضمن الآخذ الغاصب مثلا إلا نفس العين بتلك الصفات الخارجية للمالك، ولا يضمن لشخص آخر، ولذلك لا يرجع إليه إلا المالك. وأما اليد الثانية فالذي يقع تحت يده ليس هو العين بصفاتها التكوينية الخارجية فقط، بل بزيادة صفة اعتبارية، وهي أنها مضمونة على اليد الأولى، ولذلك يضمن ذو اليد الثانية لشخصين: أحدهما المالك، والثاني ذو اليد الأولى، بمعنى أن المالك لو رجع إلى ذي اليد الأولى فله أن يرجع إلى اليد الثانية، وهكذا يكون الأمر في اليد الثالثة والرابعة ولو إلى الألف. إن قلت: كيف يمكن أن يكون الشخص بالنسبة إلى مال واحد ضامنا لشخصين ؟ وأن يكون لذلك الواحد بدلان ؟ ولعله لذلك التجأ بعض المحققين إلى إنكار تعدد الضمان في مورد تعاقب الأيدي، وقال: إن الضمان يكون على من بيده التلف، وأما في سائر الأيدي فليس إلا حكم
تكليفي فقط، ولا ضمان في البين. وبعض آخر التزم بأن للأيدي المتعددة لجميعها ضمان واحد، وأن البدل الواحد له إضافة إلى الكل كما يقولون: بأن الكلي الطبيعي وجوده بالنسبة إلى وجود الأفراد، نسبة أب واحد إلى أبناء متعددة، وإن كان هذا القول مردود هناك وهيهنا. قلت: إن ضمانه لشخصين أو أكثر ليس ضمانا عرضيا حتي ترد هذه الإشكالات، بل هو طولي في كل واحد منها. بيان ذلك: بعد ما عرفت أن العين تقع تحت اليد بجميع خصوصياتها وأوصافها الواقعية التكوينية والاعتبارية، فاليد الأولى - كما ذكرنا لا يقع تحتها إلا العين بصفاتها وخصوصياتها التكوينية، وأما اليد الثانية فالواقع تحتها هي العين بتلك الصفات الخارجية والخصوصيات التكوينية، بإضافة أنها مضمونة على اليد الأولى، فهي ضامنة للمالك بالنسبة إلى العين وصفاتها الخارجية، ولليد الأولى بالنسبة إلى ضمانها وخسارتها للمالك، بمعنى أن المالك لو رجع إلى اليد الأولى وأخذ منها البدل، فاليد الثانية عليها تلك الخسارة. ولكن أنت خبير بأن هذا الضمان ليس في عرض ذلك الضمان الأول، لأن ضمان ضمان الشيء ليس في عرض ضمان الشيء، بل هو متأخر عنه فلا يبقى مجال لذلك الإشكال، أي إشكال الضمان لشخصين بالنسبة إلى مال واحد، لأنه ليس ضمانان لمال واحد مرتين: مرة لهذا الشخص، ومرة أخرى لشخص آخر، بل أحدهما ضمان نفس المال، والآخر ضمان ذلك الضمان الأول، فاليد الأولى ضامنة لنفس العين المأخوذ ة فقط، واليد الثانية ضامنة للعين المأخوذة. ومن هذه الجهة للمالك أن يرجع إليه وضامنة لضمان اليد الأولى، ومن هذه الجهة لليد الأولى أن يرجع إليه إذا رجع المالك إليها وخسرت للمالك. فليس لنفس العين إلا ضمان واحد على البدل، بمعنى أن المالك له أن يرجع إلى
أي واحد من الآخذين لما له على البدل، وإلا فليس له أن يرجع إلى الأثنين معا ويأخذ بدلين، كي يكون الإشكال المذكور وارادا. وأما ضمانه لغير المالك من الأيدي المتقدمة عليه فليس ضمان نفس المال حتى يلزم ضمانه للمال الواحد مرة أو مرات، أي مرة للمالك، وأخرى لكل يد متقدمة عليه، بل كل من عدا المالك من تلك الأيدي المتقدمة فالضمان له يكون ضمان الضمان، أي الخسارة اليد السابقة عليه للمالك. فليس من قبيل ضمان الشخصين لمال واحد مرتين، لأنه بالنسبة إلى المالك ونفس العين وان كان بحسب تعدد الأيدي متعددا، ولكن ليس في عرض واحد بل على البدل. وأما بالنسبة إلى الأيدي السابقة فليس الضمان ضمان العين، وهذا الحكم جار ولو إلى ألف يد، ولا يلزم محذور، لطولية الضمانات. ثم إن هاهنا فروع كثيرة، ومطالب جليلة - ذكرها الفقهاء والمحققون في كتاب الغصب وفي مسألة المقبوض بالعقد الفاسد - يطول ذكرها والنقض والابرام فيها. الجهة التاسعة في كون اليد سببا لحصول الملكية في عالم الثبوت لا أنها سبب إثباتي فقط وذلك كما في حيازة المباحات كالاحتطاب والاحتشاش وأمثال ذلك، ولا شك في أن اليد على المباحات الأصلية - والاستيلاء عليها بقصد التملك - تكون سببا لحصول الملكية، وإنما الكلام في كفاية صرف الاستيلاء ولو لم يكن بقصد التملك، بل كان لغرض آخر. ربما يقال بكفاية هذا الاستيلاء الخارجي ولو لم يكن قاصدا للتملك، مستندا إلى
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد من المسلمين فهو أحق به) (1) المنجبر ضعف سنده بالاشتهار عند الكل واستناد الجميع إليه. ولكن الاستيلاء على الشيء بدون قصد التملك وإن كان يصدق عليه السبق إلى الشيء، ولكن السبق إلى المباحات الأصلية لا يوجب حسب مضمون الحديث إلا الأحقية من الآخرين، والأحقية غير الملكية، لأنها تجري فيما لا يقبل التملك، كالأوقاف العامة مثل المساجد والمشاهد المشرفة والربط وخانات الوقف، فالذي سبق إلى مكان من هذه الأماكن، وأخذ لنفسه وعياله محلا منها فليس لأحد مزاحمته، بل يكون هو أحق من جميع الناس بذلك المكان، مع أن تلك الأماكن غير قابلة لأن تصير ملكا لأحد. فهذا الحديث الشريف لا يدل إلا على حصول حق السبق بالنسبة إلى الأمكنة التي هي وقف عام كالموارد التي ذكرناها، أو بالنسبة إلى المباحات الأصلية إذا استولى عليها لا بقصد التملك. وأما إذا استولى عليها بقصد تملكها فيصير ملكا قطعا، لبناء العقلاء والسيرة القطعية عند المتدينين على حصول الملكية في المباحات الأصلية إذا كان الاستيلاء بقصد التملك، وذلك كالاحتطاب والاعتشاب. اللهم إلا أن يقال: إن مطلق الأحقية وإن كان غير ملازم للملكية: لما ذكرنا من أنها قد توجد فيما ليس بقابل لأن يصير ملكالأحد كالأوقاف العامة، ولكن الأحقية المطلقة مساوقة مع الملكية ولا تنفك عنها، لأن الأحقية المطلقة عبارة كون صاحبها أحق من جميع من عداه بالنسبة إلى جميع التصرفات، ومنع غيره عن جميع التقلبات. ومثل هذا المعنى في نظر العرف والشرع عين الملكية: وذلك من جهة أن الملكية اعتبار عقلائي بلحاظ هذه الآثار، فإذا حكم الشرع أو العقلاء بترتب هذه الآثار على شيء وفي مورد معناه أنه أو أنهم اعتبروا ملكية ذلك الشيء، فإذا دل الحديث الشريف على
(هامش)
(1) (عوالي اللئالي) ج 3، ص 48، ح 4، (سنن البيهقي) ج 6، ص 142، باب من أحيا أرضا ميتة ليست لأحد. (*)
أن من سبق إلى شيء من المباحات الأصلية - فيما إذا لم يسبق إليه أحد من المسلمين - فهو أحق به بالنسبة إلى جميع التصرفات، حتى التصرفات المتوقفة على الملك - فيدل على حصول الملكية بالسبق والاستيلاء، ولو كان خاليا عن قصد التملك، ولكن الشأن في استفادة هذا المعنى من الحديث. ويمكن أن يقال: إن إطلاق الأحقية يقتضي أحقية المطلقة، لأن ما عداها من مراتب الأحقية، وبالنسبة إلى بعض التصرفات دون بعض يحتاج إلى البيان، ففيما ليس بقابل لأن يكون ملكا - كالأوقاف العامة - نعلم بالأدلة الخارجية عدم جواز بعض التصرفات، مثل بيعها وهبتها وسائر الانتقالات المتعلقة بأعيانها، بأي عنوان وأي عقد كانت. وأما فيما يقبل التملك فنأخذ بإطلاق الأحقية ونقول: بأن الاستيلاء على المباحات الأصلية - ولو لم يكن بقصد التملك بل كان لغرض عقلائي آخر - يوجب الأحقية المطلقة المساوقة للملكية. ثم إنه ربما يستدل على حصول الملكية بصرف الاستيلاء واليد من غير قصد التملك بقوله عليه السلام، في موثقة يونس بن يعقوب: (ومن استولى على شيء منه فهو له) (1) بأن يقال: لا شك في أن قوله عليه السلام (فهو له) ظاهر في أنه ملك له، وقد رتب هذا الحكم على عنوان (من استولى) من دون مدخلية أي شيء. وقد بينا أن هذا العنوان - أي عنوان الاستيلاء - عين عنوان اليد، ولكن الاستدلال بهذه الفقره متوقف على أن تكون هذه الجملة كبرى كلية، لا أن يكون المراد منها أن استيلاء أي واحد من الرجل والمرأة على أي متاع من أمتعة البيت موجب لكونه له، وإلا إن كان كذلك فهذا حكم خاص، لخصوص الرجل والمرأة في
(هامش)
(1) (تهذيب الأحكام) ج 9، ص 302، ح 1079، باب ميراث الأزواج، ح 39، (وسائل الشيعة) ج 17، ص 525، أبواب ميراث الأزواج، باب 8، ح 3. (*)
خصوص متاع البيت ولا يشمل سائر الموارد. ولكن الانصاف أن كون خصوصية متاع البيت، وكذلك خصوصية الزوج والزوجة دخيلا في هذا الحكم بعيد وإن كان الظاهر من تقييد الشيء بقوله عليه السلام (منه) هو ذلك. هذا أولا. وثانيا: ظاهر هذه الجملة على فرض إلقاء الخصوصية وكونها كبرى كلية، هو أن الاستيلاء على شيء أمارة الملكية في عالم الإثبات للمستولي بعد الفراغ أن له مالك في مقام الثبوت، وكلامنا في أن صرف الاستيلاء بدون قصد التملك هل يكون سببا لحصول الملكية في عالم الثبوت أم لا ؟ فالمقامان كل واحد منهما أجنبي عن الآخر. وأما الاستدلال على هذا المطلب بأدلة إحياء الموات، وأن الأرض الميتة تصير ملكا بالإحياء، سواء قصد التملك أم لا، والإحياء عبارة عن وضع اليد عليها. - ففيه: أن الإحياء وإن كان سببا لحصول الملكية لقوله عليه السلام: (من أحيا أرضا ميتة فهي له) (1) ولكنه ليس عبارة عن الاستيلاء فقط، وصرف وضع اليد على أرض ميتة، بل يحتاج إلى عمل من طرف المحيي من اجراء نهر، أو كريه حتى يجري عليها الماء، أو غرس أشجار، أو زرع، أو بناء بأن يجعله خانا أو دارا أو حماما أو مقهى أو غير ذلك مما ذكره الفقهاء في كتاب إحياء الأراضي الميتة. وعلى كل حال الإحياء غير صرف اليد.
(هامش)
(1) (الكافي) ج 5 ص 279، باب في إحياء أرض الموات، ح 4، (تهذيب الأحكام) ج 7 ص 152، ح 673، باب أحكام الأرضين، ح 22، (الاستبصار) ج 3، ص 1 08، ح 382، باب من أحيا أرضا، ح 4، (وسائل الشيعة) ج 17، ص 327، أبواب إحيا الموات، باب 1، ح 5. (*)