افتراضات وهمية حول تاريخ الشيعة
قد تعرّفت على تاريخ التشيّع ، وأنّه ليس وليد الجدال الكلامي ، ولا إنتاج السياسات الزمنية وانّما هو وجه آخر للاسلام وهما وجهان لعملة واحدة; إلاّ أنّ هناك جماعة من المؤرخين وكُتّاب المقالات ظنّوا أنّ التشيّع أمر حادث وطارئ على المجتمع الاسلامي ، فأخذوا يُفتّشون عن مبدئه ومصدره ، وأشد تلك الظنون عدوانية ما تلوكه أشداق بعض المتقدمين والمتأخرين ، هو كونه وليد عبداللّه بن سبأ ذلك الرجل اليهودي ، الذي ـ بزعمهم ـ طاف الشرق والغرب ، وأفسد الاُمور على الخلفاء والمسلمين وألّب الصحابه والتابعين على عثمان ، فقتل في عقر داره ، ثم دعا إلى علي بالإمامة والوصاية ، وإلى النبي بالرجعة ، وكوَّن مذهباً بإسم الشيعة ، فهو صنيع ذلك الرجل اليهودي المتظاهر بالاسلام وبما أنّ للموضوع أهمية خاصة لا نكتفي ببيان توهم واحد بل نأتي كل ذكر كل تلك الإدعاءات واحدة بعد الاُخرى ، مع رعاية التسلسل الزمني.
________________________________________
(118)
________________________________________
(119)
الافتراض الأول :
الشيعة ويوم السقيفة
إنّ مأساة السقيفة جديرة بالقراءة والتحليل ، وسوف نتطرّق إليها في فصل خاص عند البحث عمّا تنعقد به الامامة لدى السنّة والشيعة ، ولكن نذكر هنا موجز ما ذكره الطبري وغيره الذي صار سنداً لمن تخيّل أنّ التشيّع تكوّن في ذلك اليوم.
قال الطبري : اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة ، فبلغ ذلك أبابكر فاتاهم ومعه عمر وأبو عبيدة بن الجراح ، فقال : ما هذا ؟ فقالوا : منّا أمير ومنكم أمير ، فقال أبوبكر : منّا الأمراء ومنكم الوزراء ـ إلى أن قال ـ فبايعه عمر ، وبايعه الناس ، فقالت الأنصار أو بعض الأنصار : لا نبايع إلاّ عليّا. ثم قال : أتى عمر بن الخطاب منزل علي وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين ، فقال : واللّه لأحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة ، فخرج عليه الزبير مسلّطاً بالسيف فعثر ، فسقط السيف من يده ، فوثبوا عليه فأخذوه ، وقال أيضاً : وتخلّف علي والزبير واخترط الزبير سيفه وقال : لا أغمده حتّى يبايَع علي ، فبلغ ذلك أبابكر وعمر فقالا : خذوا سيف الزبير ... (1).
________________________________________
1 ـ تاريخ الطبري 2 / 443 ـ 444.
________________________________________
(120)
وقال اليعقوبي : ومالوا مع علي بن أبي طالب منهم ، العباس بن عبدالمطلب ، والفضل بن العباس ، والزبير بن العوام بن العاص ، وخالد بن سعيد ، والمقداد بن عمرو ، وسلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري ، وعمار بن ياسر ، والبراء بن عازب ، وأبي بن كعب ... (1).
يلاحظ على تلك النظرية : انّ هذه النصوص تدل على أنّ فكرة التشيّع لعليّ كانت مختمرة في أذهانهم منذ عهد الرسول إلى وفاته ، فلمّا رأت الجماعة أنّ الحق خرج عن محوره ، عمدوا إلى التمسّك بالحق بالاجتماع في بيت علي الذي أوصاهم النبي به طيلة حياته ، إذ من البعيد جداً أن يجتمع رأيهم على علي في يوم واحد في ذلك اليوم العصيب. فالمعارضة كانت استمراراً لما كانوا يلتزمون به في حياة النبي ، ولم تكن فكرة خلقتها الظروف والأحداث.
كان أبوذر وقت أخذ البيعة غائباً ولمّا جاء قال : أصبتم قناعة ، وتركتم قرابة ، لو جعلتم الأمر في أهل بيت نبيّكم لما اختلف عليكم الاثنان (2) وقال سلمان : أصبتم ذا السن ، وأخطأتم المعدن ، أما لو جعلتموه فيهم ما اختلف منكم اثنان ولأكلتموها رغدا.
وروى الزبير بن بكار في الموفقيات : انّ عامة المهاجرين وجلّ الأنصار كانوا لا يشكّون أنّ علياً هو صاحب الأمر.
وروى الجوهري في كتاب السقيفة : انّ سلمان والزبير وبعض الأنصار كان هواهم أن يبايعوا عليّاً.
وروى أيضاً : انّه لمّا بويع أبوبكر واستقرّ أمره ، ندم قوم كثير من الأنصار
________________________________________
1 ـ تاريخ اليعقوبي 2 / 103 طبع النجف.
2 ـ ابن قتيبة : الامامة والسياسة 12.
(121)
على بيعته ولام بعضهم بعضاً ، وهتفوا باسم الامام علي ولكنّه لم يوافقهم (1).
ومن المستحيل عادةً اختمار تلك الفكرة بين هؤلاء في يوم واحد ، بل يعرب ذلك عن وجود جذور لها ، قبل رحلة النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ويؤكد ذلك نداءاته التي ذكرها في حق عليّ وعترته في مواقف متعدّدة ، فامتناع الصحابة عن بيعة الخليفة ومطالبتهم بتسليم الأمر إلى علي انّما هو لأجل مشايعتهم لعلي زمن النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وما هذا إلاّ اخلاص ووفاء منهم للنبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) أو أين هو من تكوّن التشيّع يوم السقيفة.
ويؤيد ذلك ما رواه الصدوق : انّه بعد ما استتبّ الأمر لأبي بكر اعترض عليه ( لفيف ) من الصحابة في مسجد النبي وكلّ يذكر وصايا النبي في حق علي بالوصاية من بعده ، وسيوافيك نصوصهم في فصل مأساة السقيفة على وجه موجز.
________________________________________
1 ـ ابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة 6 / 43 ـ 44
________________________________________
(122)
________________________________________
(123)
الافتراض الثاني :
التشيّع صنيع عبداللّه بن سبأ
« إنّ يهودياً باسم عبداللّه بن سبأ المكنّى بابن الأمة السوداء في ـ صنعاء ـ أظهر الإسلام في عصر عثمان واندسّ بين المسلمين ، وأخذ ينتقل في حواضرهم وعواصم بلادهم : الشام ، والكوفة ، والبصرة ، ومصر ، مبشّراً بأنّ للنبي الأكرم رجعة كما أنّ لعيسى بن مريم رجعة ، وأنّ عليّاً هو وصي محمّد ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) كما كان لكل نبي وصي ، وأنّ عليّاً خاتم الأوصياء كما كان محمّداً خاتم الأنبياء ، وأنّ عثمان غاصب حق هذا الوصي وظالمه ، فيجب مناهضته لارجاع الحق إلى أهله ».
« إنّ عبداللّه بن سبأ بثّ في البلاد الإسلامية دعاته ، وأشار عليهم أن يظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والطعن في الاُمراء ، فمال إليه وتبعه على ذلك جماعات من المسلمين ، فيهم الصحابي الكبير والتابعي الصالح من أمثال أبي ذر ، وعمار بن ياسر ،ومحمد بن حذيفة ،وعبدالرحمان بن عديس ،ومحمّد بن أبي بكر ، وصعصعة بن صوحان العبدي ، ومالك الأشتر ، إلى غيرهم من أبرار المسلمين وأخيارهم فكانت السبأية تثير الناس على ولاتهم ، تنفيذاً لخطة زعيمها ، وتضع كتباً في عيوب الاُمراء وترسل إلى غير مصرهم من الأمصار ، فنتج عن ذلك قيام جماعات
________________________________________
(124)
من المسلمين بتحريض السبأيين ، وقدومهم إلى المدينة وحصرهم عثمان في داره ، حتّى قتل فيها ، كل ذلك كان بقيادة السبأيين ومباشرتهم ».
إنّ المسلمين بعدما بايعوا عليّاً ، ونكث طلحة والزبير بيعته ، وخرجا إلى البصرة رأى السبأيون أنّ رؤساء الجيشين أخذوا يتفاهمون ، وأنّه إن تمّ ذلك سيؤخذون بدم عثمان ، فاجتمعوا ليلا وقرّروا أن يندسّوا بين الجيشين ويثيروا الحرب بكرة دون علم غيرهم ، وانّهم استطاعوا أن ينفّذوا هذا القرار الخطير في غلس الليل قبل أن ينتبه الجيشان المتقاتلان ، فناوش المندسّون من السبأيين في جيش علي من كان بازائهم من جيش البصرة ففزع الجيشان وفزع رؤسائهما ، وظنّ كلّ بخصمه شرّاً ، ثمّ إنّ حرب البصرة وقعت بهذا الطريق ، دون أن يكون لرؤساء الجيشين رأي أو علم.
إلى هنا انتهت قصة السبأية ، ولا يذكر منهم شيء بعد ذلك في التواريخ هذا هو الذي يذكره الطبري في تاريخه ، ويقول :
فيما كتب به إلى السرى ، عن شعيب ، عن سيف ، عن عطية ، عن يزيد الفقعسي قال : كان عبداللّه بن سبأ يهوديّاً من أهل صنعاء اُمّه سوداء ، فأسلم زمان عثمان ، ثمّ تنقّل في بلدان المسلمين يحاول اضلالهم فبدأ بالحجاز ، ثمّ البصرة ، ثمّ الكوفة ، ثمّ الشام ، فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام ، فأخرجوه حتّى أتى مصر فاعتمر فيهم ، فقال لهم فيما يقول : لعجب فمن يزعم أنّ عيسى يرجع ويكذب بأنّ محمّداً يرجع ، وقد قال اللّه عزّوجلّ : ( إنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ القُرآنَ لَرَادُّكَ إلى مَعاد ) (1) ، فمحمد أحق بالرجوع من عيسى قال : فَقُبِل ذلك عنه ، ووضع لهم الرجعة فتكلّموا فيها ، ثمّ قال لهم بعد ذلك : إنّه كان ألف نبي ولكل نبي وصي ،
________________________________________
1 ـ القصص / 85.
________________________________________
(125)
وكان علي وصي محمّد. ثم قال : محمّد خاتم الأنبياء وعلي خاتم الأوصياء. ثمّ قال بعد ذلك : من أظلم ممّن لم يجز وصية رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ووثب على وصي رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وتناول أمر الاُمّة ثمّ قال لهم بعد ذلك : إنّ عثمان أخذها بغير حق وهذا وصي رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) فانهضوا في هذا الأمر فحرّكوه ، وابدأوا باللعن على اُمرائكم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس ، وادعوهم إلى هذا الأمر. فبثّ دعاته وكاتب من كان استفسد في الأمصار وكاتبوه ودعوا في السرّ إلى ما عليه رأيهم ، واظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم ، ويكاتبهم اخوانهم بمثل ذلك ، ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون فيقرأه اُولئك في أمصارهم ، وهؤلاء في أمصارهم ، حتّى تناولوا بذلك المدينة وأوسعوا الأرض إذاعة ، وهم يريدون غير ما يظهرون ، ويسرّون غير ما يبدون ... إلى آخر ما يذكره الطبري في المقام ، وفي أحداث السنوات التالية إلى سنة 36 التي وقعت فيها حرب الجمل. ولا يأتي بعد بشيء عن السبأية (1).
ثمّ إنّك قد تعرّفت على كبار السبأية وأنّهم كانوا من أكابر الصحابة والتابعين ، كأبي ذرّ الغفاري وعمّار بن ياسر ، ومحمّد بن أبي حذيفة ، الذين عرفهم المسلمون بالزهد والتقى والصدق والصفا ، وأمّا عبدالرحمان بن عديس البلوي فهو ممّن بايع النبي تحت الشجرة وشهد فتح مصر ، وكان رئيساً على من سار إلى عثمان من مصر (2).
________________________________________
1 ـ الطبري 3 / 378.
2 ـ اُسد الغابة 3 / 309 قال : وشهد بيعة الرضوان وبايع فيها وكان أمير الجيش القادمين من مصر لحصر عثمان بن عفان ـ رضى اللّه عنه ـ لمّا قتلوه روى عنه جماعة من التابعين بمصر...
________________________________________
(126)
وأمّا محمّد بن أبي بكر ، فاُمّه أسماء بنت عميس الخثعمية تزوّجها أبوبكر بعد استشهاد جعفر بن أبي طالب فولدت له محمّداً في حجّة الوداع بطريق مكّة ، ثم نشأ في حجر علي بعد أبيه ، وشهد معه حرب الجمل ، كما شهد صفّين ، ثم ولي مصر عن علي ، إلى أن قتل فيها بهجوم عمرو بن العاص عليها (1).
وأمّا صعصعة بن صوحان العبدي ، أسلم على عهد رسول اللّه ، كان خطيباً فصيحاً شهد صفّين مع علي. ولمّا استشهد علي ، واستولى معاوية على العراق ، نفاه إلى البحرين ومات فيها (2).
وأمّا الأشتر ، فهو مالك بن الحرث النخعي ، وهو من ثقات التابعين ، شهد وقعة اليرموك ، صحب عليّاً في الجمل وصفّين ، ولاّه على مصر سنة ( 38 ) ثم وصل إلى القلزم ، دسّ إليه معاوية عميلا له ، فتوفّي بالسم (3).
هذا هو الذي يذكره الطبري وقد أخذه من جاء بعده من المؤرّخين وكتّاب المقالات حقيقة راهنة ، وبنوا عليه مابنوا من الأفكار والآراء فصارت الشيعة وليدة السبأية في زعم هؤلاء عبر القرون والأجيال ، وإليك من ذكرها مغمض العينين :
________________________________________
1 ـ كان أحد من توثّب على عثمان حتّى قتل ثم انضمّ إلى علي : اُسد الغابة 4 / 324 ، والاستيعاب 3 / 328 والجرح والتعديل 7 / 301.
2 ـ اُسد الغابة 3 / 320 قال : تقدم نسبه في أخيه زيد وكان صعصعة مسلماً على عهد رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ولم يره وصغر عن ذلك وكان سيّداً من سادات قومه عبد القيس وكان فصيحاً بليغاً لسناً ديّناً فاضلا يعد في أصحاب علي ـ رضي اللّه عنه ـ وشهد معه حروبه.
3 ـ ملك العرب ، أحد الأشراف والأبطال : الطبقات الكبرى 6 / 213 ، الاصابة 3 / 459 سير أعلام النبلاء 4 / 34.
________________________________________
(127)
1 ـ ابن الأثير ( ت 630 ) ، فقد أورد القصّة منبثة بين حوادث ( 30 ـ 36 ) وهو وإن لم يذكر المصدر في المقام ، لكنّه يصدر عن تاريخ الطبري في حوادث القرون الثلاثة الأول (1).
2 ـ ابن كثير الشامي ( ت 774 ) فقد ذكر القصّة في تاريخه « البداية والنهاية » وأسندها عند ما انتهى من سرد واقعة الجمل ، إلى تاريخ الطبري ، وقال : هذا ملخّص ما ذكر أبو جعفر بن جرير (2).
3 ـ ابن خلدون ( ت 808 ) ، في تاريخه « المبتدأ والخبر » أورد القصّة في حادثة الدار والجمل وقال : هذا أمر الجمل ملخّصاً من كتاب أبي جعفر الطبري (3).
وأمّا المتأخّرون ، وأخصّ الكتّاب الجدد فإنّهم يذكرون القصّة ، فنذكر منهم مايلي :
4 ـ محمّد رشيد رضا ، منشئ مجلة المنار ( ت 1354 ) ، ذكره في كتابه
________________________________________
1 ـ لاحظ مقدمة تاريخ الكامل يقول فيه : فابتدأت بالتاريخ الكبير الذي صنّفه الامام أبو جعفر الطبري إذ هو الكتاب المعوّل عند الكافة عليه والمرجوع عند الاختلاف إليه فأخذت ما فيه جميع تراجمه ، لم أخل بترجمة واحدة منها لاحظ 1 / 3 طبع دار صادر.
2 ـ البداية والنهاية 7 / 246 طبع دار الفكر بيروت.
3 ـ تاريخ ابن خلدون يقول : « وبعث ( عثمان ) إلى الأمصار من يأتيه بصحيح الخبر : محمد ابن مسلمة إلى الكوفة ، واُسامة بن زيد إلى البصرة ، وعبداللّه بن عمر إلى الشام وعمار بن ياسر إلى مصر وغيرهم إلى سوى هذه ، فرجعوا إليه فقالوا : ما أنكرنا شيئاً ولا أنكره أعيان المسلمين ولا عوامّهم إلاّ عماراً فانّه استماله قوم من الأشرار انقطعوا إليه ، منهم عبداللّه بن سبأ ويعرف بابن السوداء كان يهوديّاً وهاجر أيّام عثمان فلم يحسن اسلامه واُخرج من البصرة ... تاريخ ابن خلدون أو كتاب العبر 2 / 139 ، وقال 166 : هذا أمر الجمل ملخّص من كتاب أبي جعفر الطبري اعتمدناه للوثوق به ولسلامته من الأهواء.
________________________________________
(128)
« السنّة والشيعة » وقال : وكان مبتدع اُصوله ( التشيّع ) يهودي اسمه عبداللّه بن سبأ ، أظهر الإسلام خداعا ، ودعا إلى الغلوّ في علي كرم اللّه وجهه ، لأجل تفريق هذه الاُمّة ، وافساد دينها ودنياها عليها ، ثمّ سرد القصّة وقال : ومن راجع أخبار واقعة الجمل في تاريخ ابن الأثير مثلاً يرى مبلغ تأثير افساد السبأيين دون ما كاد يقع من الصلح (1).
5 ـ أحمد أمين ( ت 1372 ) ، وهو الذي استبطل عبداللّه بن سبأ في كتابه « فجر الإسلام وقال : إنّ ابن السوداء كان يهوديّاً من صنعاء أظهر الإسلام في عهد عثمان ، وحاول أن يُفسد على المسلمين دينهم وبثّ في البلاد عقائد كثيرة ضارّة ، وقد طاف في بلاد كثيرة ، في الحجاز ، والبصرة ، والكوفة ، والشام ، ومصر ، ثمّ ذكر أنّ أباذر تلقّى فكرة الاشتراكية من ذلك اليهودي ، وهو تلقّى هذه الفكرة من مزدكيّي العراق أو اليمن. وقد كان لكتاب « فجر الإسلام » عام انتشاره ( 1952 م ) دويّ واسع النطاق في الأوساط الإسلامية ، فإنّه أوّل من ألقى الحجر في المياه الراكدة بشكل واسع ، وقد ردّ عليه أعلام العصر بأنواع الردود ، فألّف الشيخ المصلح كاشف الغطاء « أصل الشيعة واُصولها » ردّاً عليه ، كما ردّ عليه العلاّمة الشيخ عبداللّه السبيتي بكتاب أسماه « تحت راية الحق ».
6 ـ فريد وجدي مؤلّف دائرة المعارف ( ت 1370 ) فقد أشار إلى ذلك في كتابه عند ذكره لحرب الجمل ضمن ترجمة الإمام علي بن أبي طالب (2).
7 ـ حسن إبراهيم حسن ، وذكره في كتابه ( تاريخ الإسلام السياسي ) وقد ذكر في اُخريات خلافة عثمان قوله : « فكان هذا الجوّ ملائماً تمام الملائمة ومهيّئاً لقبول دعوة ( عبداللّه بن سبأ ) ومن لفّ لفّه والتأثّر بها إلى أبعد حد « وقد أذكى نيران هذه
________________________________________
1 ـ السنّة والشيعة 4 ـ 6 ـ 45 ـ 49 ـ 103.
2 ـ دائرة المعارف 6 / 637.
________________________________________
(129)
الثورة صحابي قديم اشتهر بالورع والتقوى ـ وكان من كبار أئمّة الحديث ـ وهو أبوذر الغفاري الذي تحدّى سياسة عثمان ومعاوية واليه على الشام بتحريض رجل من أهل صنعاء وهو عبداللّه بن سبأ ، وكان يهوديّاً فأسلم ، ثمّ أخذ ينتقل في البلاد الإسلامية ، فبدأ بالحجاز ، ثمّ البصرة فالكوفة والشام ومصر ... الخ (1).
هذا حال من كتب عن الشيعة من المسلمين ، وأمّا المستشرقون المتطفّلون على موائد المسلمين فحدّث عنهم ولا حرج ، فقد اتبعوا تلك الفكرة الخاطئة في كتبهم الاستشراقية التي تؤلّف لغايات خاصّة ، فم أراد الوقوف على كلماتهم فليرجع إلى ما ألّفه الباحث الكبير السيد مرتضى العسكري في ذلك المجال ، فإنّه ـ دام ظلّه ـ حقّق المقال ولم يبق في القوس منزعاً (2).
نظر المحقّقين في الموضوع
1 ـ إنّ ما جاء في تاريخ الطبري من القصّة ، على وجه لا يصحّ نسبته إلاّ إلى عفاريت الأساطير ومردة الجن ، إذ كيف يصحّ لإنسان أن يصدّق أنّ يهوديّاً جاء من صنعاء وأسلم في عصر عثمان ،واستطاع أن يُغري كبار الصحابة والتابعين ، ويخدعهم ويطوف بين البلاد واستطاع أن يكوّن خلايا ضدّ عثمان ويستقدمهم على المدينة ويؤلِّبهم على الخلافة الإسلامية ، فيهاجموا داره ويقتلوه ، بمرأى ومسمع من الصحابة العدول ومن تبعهم باحسان ، هذا شيء لا يحتمله العقل وإن وطّن على قبول العجائب والغرائب.
إنّ هذه القصّة تمس كرامة المسلمين والصحابة والتابعين ، وتصوّرهم اُمّة
________________________________________
1 ـ تاريخ الإسلام السياسي 347.
2 ـ عبداللّه بن سبأ1 / 46 ـ 50 ، وكتابه هذا من أنفس الكتب وحسنات الزمان.
________________________________________
(130)
ساذجة يغترّون بفكر يهودي وفيهم السادة والقادة والعلماء والمفكّرون.
2 ـ إنّ القراءة الموضوعية للسيرة والتاريخ توقفنا على سيرة عثمان بن عفان ومعاوية بن أبي سفيان ، فإنّهما كانا يعاقبان المعارضين لهم ، وينفون المخالفين ويضربونهم ، فهذا أبوذر الغفاري نفاه عثمان من المدينة إلى الربذة لاعتراضه عليه في تقسيم الفيء وبيت المال بين أبناء بيته ، كما أنّ غلمانه ضربوا عمّار بن ياسر حتّى انفتق له فتق في بطنه وكسروا ضلعاً من أضلاعه (1). إلى غير ذلك من مواقفهم من مخالفيهم ومعارضيهم التي يقف عليها المتتبّع ، ومع ذلك نرى أنّ رجال الخلافة وعمّالها يغضّون الطرف عمّن يُؤلِّب الصحابة والتابعين على اخماد حكمهم ، وقتل خليفتهم في عقر داره ، ويجر الويل والويلات على كيانهم. وهذا شيء لا يقبله من له أدنى إلمام بتاريخ الخلافة وسيرة معاوية.
يقول العلاّمة الأميني : لو كان ابن سبأ بلغ هذا المبلغ من إلقاح الفتن ، وشقّ عصا المسلمين وقد علم به وبعيثه اُمراء الاُمّة وساستها في البلاد ، وانتهى أمره إلى خليفة الوقت ، فلماذا لم يقع عليه الطلب ؟ ولم يبلغه القبض عليه ، والأخذ بتلكم الجنايات الخطرة والتأديب بالضرب والاهانة ، والزج إلى أعماق السجون ؟ ولا آل أمره إلى الاعدام المريح للاُمّة من شرّه وفساده كما وقع ذلك كلّه على الصلحاء الأبرار الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ؟ وهتاف القرآن الكريم يرنُّ في مسامع الملأ الديني : ( إِنَّما جَزَاؤُا الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُواْ أو تُقَطِّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِن خِلاف أوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (2)
________________________________________
1 ـ الاستيعاب 2 / 422.
2 ـ المائدة / 33.
(131)
فهّلا اجتاح الخليفة جرثومة تلكم القلاقل بقتله ؟ وهل كان تجهّمه وغلظته قصراً على الأبرار من اُمّة محمّد ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ففعل بهم ما فعل (1).
وهناك لفيف من الكتّاب ممّن حضر أو غبر ، بدل أن يفتحوا عيونهم على الواقع المرير ، ليقفوا على الأسباب المؤدّية التي قتل الخليفة حاولوا التخلّص من أوزار الحقيقة ، فنحتوا فروضاً وهمّية سببت قتل الخليفة وأودت به.
وفي حق هؤلاء يقول الكاتب المعاصر :
« وفي الشرق كتَّابٌ لا يعنيهم من التاريخ واقعٌ ولا من الحياة حال أو ظرف ، فإذا بهم يعلّلون ثورة المظلومين على أيام عثمان ، ويحصرون أحداث عصر بل عصور ، بإرادةِ فردٍ يطوّفُ في الأمصار والأقطار ويؤلّبُ الناس على خليفةٍ ودولة!
إنّ النتيجة العملية لمثل هذا الزعم وهذا الافتراء هي أنّ الدولة في عهد عثمان ووزيره مروان إنّما كانت دولةً مثاليَّة ، وأنَّ الأمويّين والولاة والأرستقراطيين إنَّما كانوا رُسُلَ العدالة الاجتماعية والإخاء البشري في أرض العرب. غير أنّ رجلاً فرداً هو عبداللّه بن سبأ أفسدَ على الأمويين والولاة والأرستقراطيين صلاحَهم وبرّهم إذ جعل يطوف الأمصارَ والأقطارَ مؤلِّبا على عثمان واُمرائه وولاته الصالحين المُصلحين. ولولا هذا الرجل الفرد وطوافُه في الأمصار والأقطار لعاش الناس في نعيم مروان وعدل الوليد وحلم معاوية عيشاً هو الرغادة وهو الرخاء.
وفي مثل هذا الزعم افتراءٌ على الواقع واعتداءٌ على الخَلق ومسايرةٌ ضئيلة الشأن لبعض الآراء ، يلفّ ذلك جميعاً منطقٌ ساذج وحجَّةٌ مصطنعة واهية. وفيه ما هو أخطر من ذلك : فيه تضليلٌ عن حقائق أساسية في بناء التاريخ ، إذ يحاول صاحب هذا المسعى الفاشل أنْ يحصر أحداثَ عصرٍ بكامله ، بل عصورٍ كثيرة ، بإرادة فردٍ يطوف
________________________________________
1 ـ الغدير 9 / 219 ـ 220.
________________________________________
(132)
في الأمصار ويؤلِّب الناسَ على دولةٍ فيثور هؤلاء الناس على هذه الدولة لا لشيء إلاّ لأنّ هذا الفرد طاف بهم وأثارهم!
أمّا طبيعة الحكم وسياسة الحاكم وفساد النظام الاقتصادي والمالي والعمراني ، وطغيان الأثرة على ذوي السلطان ، واستبداد الولاة بالأرزاق ، وحمل بني اُميَّة على الأعناق ، والميل عن السياسة الشعبية الديمقراطية إلى سياسة عائلية أرستقراطية رأسمالية ، وإذلال من يضمر لهم الشعبُ التقدير والاحترام الكثيرين أمثال أبي ذرّ وعمّار بن ياسر وغيرهما ، أمّا هذه الاُمور وما إليها جميعاً من ظروف الحياة الاجتماعية ، فليست بذات شأن في تحريك الأمصار وإثارتها على الاُسرة الاُمويّة الحاكمة ومن هم في ركابها ، في نظر هؤلاء! بل الشأن كلّ الشأن في الثورة على عثمان لعبداللّه بن سبأ الذي يلفت الناس عن طاعة الأئمة ويلقي بينهم الشر.
أليس من الخطر على التفكير أن ينشأ في الشرق ، من يعلّلون الحوادث العامة الكبرى ، المتصلة اتّصالا وثيقاً بطبيعة الجماعة واُسس الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية ، بارادة فرد من عامة الناس يطوف في البلاد باذراً للضلالات والنساء في هذا المجتمع السليم.
أليس من الخطر على التفكير أن نعلّل الثورات الاصلاحية في التاريخ تعليلا صبيانياً نستند فيه إلى رغبات أفراد في التاريخ شاءوا أن يحدثوا شغباً فطافوا الأمصار وأحدثوه (1).
3 ـ إنّ رواية الطبري نقلت عن أشخاص لا يصحّ الاحتجاج بهم :
أ : السريّ : إنّ السريّ الذي يروي عنه الطبري ، إنّما هو أحد رجلين :
________________________________________
1 ـ الإمام علي صوت العدالة الإنسانية 4 / 894 ـ 896 وللكلام صلة من أراد فليرجع إليه.
________________________________________
(133)
1 ـ السريّ بن إسماعيل الهمداني الذي كذّبه يحيى بن سعيد ، وضعّفه غير واحد من الحفّاظ (1).
2 ـ السريّ بن عاصم بن سهل الهمداني نزيل بغداد المتوفّى عام ( 258 ) وقد أدرك ابن جرير الطبري شطراً من حياته يربو على ثلاثين سنة ، كذّبه ابن خراش ، ووهاه ابن عدي ، وقال : يسرق الحديث ، وزاد ابن حبان : ويرفع الموقوفات ، لا يحل الاحتجاج به ، وقال النقاش في حديث وضعه السريّ (2) فالاسم مشترك بين كذّابين لايهمّنا تعيين أحدهما. واحتمال كونه السريّ بن يحيى الثقة غير صحيح ، لأنّه توفّي عام ( 167 ) مع أنّ الطبري من مواليد عام ( 234 ) فالفرق بينهما ( 57 ) عاماً ، فلا مناص أن يكون السريّ ، أحد الرجلين الكذابين.
ب ـ شعيب ، والمراد منه شعيب بن إبراهيم الكوفي المجهول ، قال ابن عدي : ليس بالمعروف ، وقال الذهبي : راوية ، كتب سيف عنه : فيه جهالة (3).
ت ـ سيف بن عمر ، قال ابن حبان : كان سيف بن عمر يروي الموضوعات عن الاثبات ، وقال : قالوا : إنّه كان يضع الحديث واتّهم بالزندقة. وقال الحاكم : اتّهم بالزندقة وهو في الرواية ساقط ، وقال ابن عدي : بعض أحاديثه مشهورة ، وعامتها منكرة لم يتابع عليها. وقال ابن عدي : عامّة حديثه منكر. وقال البرقاني عن الدار قطني : متروك. وقال ابن معين : ضعيف الحديث فليس خير منه. وقال أبو حاتم : متروك الحديث يشبه حديثه حديث الواقدي. وقال أبو داود : ليس بشيء. وقال النسائي : ضعيف ، وقال السيوطي : وضّاع ، وذكر حديثاً من طريق السريّ بن
________________________________________
1 ـ قال يحيى القطان : استبان لي كذبه في مجلس واحد ، وقال النسائي : متروك ، وقال غيره : ليس بشيء ، وقال أحمد : ترك الناس حديثه لاحظ ميزان الاعتدال 2 / 117.
2 ـ تاريخ الخطيب 993 ، ميزان الاعتدال 2 / 117 ، لسان الميزان 3 / 12.
3 ـ ميزان الاعتدال 2 / 275 ، لسان الميزان 3 / 145.
________________________________________
(134)
يحيى عن شعيب بن إبراهيم عن سيف فقال : موضوع ، فيه ضعفاء أشدّهم سيف (1).
ج ـ فإذا كان هذا حال السند ، فكيف نعتمد في تحليل تكوّن طائفة كبيرة من طوائف المسلمين تشكّل خمسهم أو ربعهم على تلك الرواية مع أنّ هذا هو حال سندها ومتنها ، فالاعتماد عليها خداع وضلال.
4 ـ عبداللّه بن سبأ ، اُسطورة تاريخية :
إنّ القرائن والشواهد والاختلاف الموجود في حق الرجل ومولده ، وزمن إسلامه ومحتوى دعوته يشرف المحقّق على القول ، بأنّ مثل عبداللّه بن سبأ مثل مجنون بني عامر وبني هلال وأمثال هؤلاء الرجال والأبطال كلّها أحاديث خرافة وضعها القصاصون وأرباب السمر والمجون ، فإنّ الترف والنعيم قد بلغ أقصاه في أواسط الدولتين : الأموية والعباسية ، وكلّما اتّسع العيش وتوفّرت دواعي اللهو ، اتسع المجال للوضع وراج سوق الخيال وجعلت القصص والأمثال كي تأنس بها ربات الحجال ، وأبناء الترف والنعمة (2).
هذا هو الذي ذكره المصلح الكبير كاشف الغطاء ، ولعلّ ذلك أورث فكرة التحقيق بين أعلام العصر ، فذهبوا إلى أنّ عبداللّه بن سبأ أقرب ما يكون إلى الاُسطورة منه إلى الواقع. وفي المقام كلام للكاتب المصري الدكتور طه حسين ، يدعم كون الرجل اُسطورة تاريخية استبطلها أعداء الشيعة نكاية بالشيعة ، ولا بأس في الوقوف على كلامه حيث قال :
________________________________________
1 ـ ميزان الاعتدال 1 / 438 ، تهذيب التهذيب 4 / 295 ، اللئالي المصنوعة 1 / 157 ـ 199 ـ 429.
2 ـ أصل الشيعة واُصولها 73.
________________________________________
(135)
وأكبر الظن أنّ عبداللّه بن سبأ هذا ـ إن كان كل ما يروى عنه صحيحاً ـ إنّما قال ودعا إلى ما دعا إليه بعد أن كانت الفتنة ، وعظم الخلاف ، فهو قد استغلّ الفتنة ولم يثرها.
إنّ خصوم الشيعة أيّام الأمويين والعبّاسيين قد بالغوا في أمر عبداللّه بن سبأ هذا ، ليشكّكوا في بعض ما نسب من الأحداث إلى عثمان ، وولاته من ناحية ، وليشنّعوا على علي وشيعته من ناحية اُخرى ، فيردّوا بعض اُمور الشيعة إلى يهودي اسلم كيداً للمسلمين ، وما أكثر ما شنع خصوم الشيعة على الشيعة ؟ وما أكثر ما شنع الشيعة على خصومهم في أمر عثمان وفي غير أمر عثمان ؟
فلنقف من هذا كلّه موقف التحفّظ والتحرّج والاحتياط ، ولنكبر المسلمين في صدر الإسلام عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم رجل أقبل من صنعاء وكان أبوه يهودياً وكانت اُمّه سوداء ، وكان هو يهوديّاً ثمّ أسلم لا رغباً ولا رهباً ولكن مكراً وكيداً وخداعاً ، ثمّ اُتيح له من النجح ما كان يبتغي ، فحرَّض المسلمين على خليفتهم حيث قتلوه ، وفرّقهم بعد ذلك أو قبل ذلك شيعاً وأحزاباً.
هذه كلّها اُمور لاتستقيم للعقل ، ولا تثبت للنقد ، ولا ينبغي أن تقام عليها اُمور التاريخ ، وإنما الشيء الواضح الذي ليس فيه شك هو أنّ ظروف الحياة الإسلامية في ذلك الوقت كانت بطبعها تدفع إلى اختلاف الراي ، وافتراق الأهواء ونشأة المذاهب السياسيّة المتباينة ، فالمستمسكون بنصوص القرآن وسنّة النبي وسيرة صاحبيه كانوا يروون اُموراً تطرأ ، ينكرونها ولا يعرفونها ، ويريدون أن تواجه كما كان عمر يواجهها في حزم وشدة وضبط للنفس وضبط للرعية ، والشباب الناشئون في قريش وغير قريش من أحياء العرب كانوا يستقبلون هذه الاُمور الجديدة بنفوس جديدة ، فيها الطمع ، وفيها الطموح ، وفيها الاثرة ، وفيها الأمل البعيد ، وفيها الهمَّ الذي لا يعرب حدّاً يقف عنده ، وفيها من أجل هذا كلّه التنافس والتزاحم لا على
________________________________________
(136)
المناصب وحدها بل عليها وعلى كل شيء من حولها. وهذا الاُمور الجديدة نفسها كانت خليقة أن تدفع الشيوخ والشباب إلى ما دفعوا إليه ، فهذه أقطار واسعة من الأرض تفتح عليهم ، وهذه أموال لا تحصى تجبى لهم من هذه الأقطار فأي غرابة في أن يتنافسوا في إدارة هذه الأقطار المفتوحة ، والانتفاع بهذه الأموال المجموعة ؟ وهذه بلاد اُخرى لم تفتح ، وكل شيء يدعوهم إلى أن يفتحوها كما فتحوا غيرها ، فمالهم لا يستبقون إلى الفتح ؟ ومالهم لا يتنافسون فيما يكسبه الفاتحون من المجد والغنيمة إن كانوا من طلاّب الدنيا ، ومن الأجر والمثوبة إن كانوا من طلاّب الآخرة. ثمّ ما لهم جميعاً لا يختلفون في سياسة هذا المُلك الضخم وهذا الثراء العريض ؟ واي غرابة في أن يندفع الطامعون الطامحون من شباب قريش هذه الأبواب التي فتحت لهم ليلجوا منها إلى المجد والسلطان والثراء ؟ واي غرابة في أن يهم بمنافستهم في ذلك شباب الأنصار وشباب الأحياء الاُخرى من العرب ؟ وفي أن تمتلئ قلوبهم موجدة وحفيظة وغيظاً إذا رأوا الخليفة يحول بينهم وبين هذه المنافسة ، ويؤثر قريشاً بعظائم الاُمور ، ويؤثر بني اُميّة بأعظم هذه العظائم من الاُمور خطراً وأجلّها شأناً.
والشيء الذي ليس فيه شك هو أنّ عثمان قد ولّى الوليد وسعيداً على الكوفة بعد أن عزل سعداً ، وولّى عبداللّه بن عامر على البصرة بعد أن عزل أبا موسى. وجمع الشام كلّها لمعاوية وبسط سلطانه عليها إلى أبعد حد ممكن بعد أن كانت الشام ولايات تشارك في ادارتها قريش وغيرها من أحياء العرب ، وولّى عبداللّه بن أبي سرح مصر ، بعد أن عزل عنها عمرو بن العاص ، وكل هؤلاء الولاة من ذوي قرابة عثمان ، منهم أخوه لاُمّه ، ومنهم أخوه في الرضاعة ، ومنهم خاله ، ومنهم من يجتمع معه في نسبه الأدنى إلى اُميّة بن عبد شمس.
كل هذه حقائق لا سبيل إلى انكارها ، وما نعلم أن ابن سبأ قد أغرى عثمان
________________________________________
(137)
بتولية من ولّى وعزل من عزل ، وقد أنكر الناس في جميع العصور على الملوك والقياصرة والولاة والاُمراء إيثار ذوي قرابتهم بشؤون الحكم وليس المسلمون الذين كانوا رعية لعثمان بدعاً من الناس ، فهم قد أنكروا وعرفوا ما ينكر الناس ويعرفون في جميع العصور (1).
إنّ الجهات التي استنتج منها كون ابن سبأ شخصية وهمية خلقها خصوم الشيعة ترجع إلى الاُمور التالية :
1 ـ إنّ كل المؤرّخين الثقات لم يشيروا إلى قصّة عبداللّه بن سبأ ، كابن سعد في طبقاته ، والبلاذري في فتوحاته.
2 ـ إنّ المصدر الوحيد عنه هو سيف بن عمر ، وهو رجل معلوم الكذب ، ومقطوع بأنّه وضّاع.
3 ـ إنّ الاُمور التي اُسندت إلى عبداللّه بن سبأ ، تستلزم معجزات خارقة لفرد عادي كما تستلزم أن يكون المسلمون الذي خدعهم عبداللّه بن سبأ ، وسخّرهم لمآربه ، وهم ينفّذون أهدافه بدون اعتراض ، في منتهى البلاهة والسخف.
4 ـ عدم وجود تفسير مقنع لسكوت عثمان وعمّاله عنه ، مع ضربهم لغيره من المعارضين كمحمد بن أبي حذيفة ، ومحمّد بن أبي بكر ، وغيرهم.
5 ـ قصة الاحراق ، إحراق علي إيّاه وتعيين السنة التي عرض فيها ابن سبأ للاحراق تخلو منها كتب التاريخ الصحيحة ، ولا يوجد لها في هذه الكتب أثر.
6 ـ عدم وجود أثر لابن سبأ وجماعته في واقعة صفّين وفي حرب النهروان.
________________________________________
1 ـ الفتنة الكبرى 134 لاحظ الغدير أيضا 9 / 220 ـ 221.
________________________________________
(138)
وقد انتهى الدكتور بهذه الاُمور إلى القول : بأنّه شخص ادّخره خصوم الشيعة للشيعة ولا وجود له في الخارج (1).
وقد تبعه غير واحد من المستشرقين ، وقد نقل آراءهم الدكتور أحمد محمود صبحي في نظرية الإمامة (2).
إلى أن وصل الدور إلى المحقّق البارع السيد مرتضى العسكري ـ دام ظلّه ـ فألّف كتابه « عبداللّه بن سبأ » ودرس الموضوع دراسة عميقة ، وهو الكتاب الذي يحلّل التاريخ على أساس العلم ، وقد أدّى المؤلّف كما ذكر الشيخ محمّد جواد مغنيه : « إلى الدين والعلم وبخاصّة إلى مبدأ التشيّع خدمة لا يعادلها أي عمل في هذا العصر ، الذي كثرت فيه التهجّمات والافتراءات على الشيعة والتشيّع ، وأقفل الباب في وجوه السماسرة والدسّاسين الذين يتشبّثون بالطحلب لتمزيق وحدة المسلمين واضعاف قوّتهم » (3).
ولنفترض أنّ للرجل حقيقة وليس اُسطورة تاريخية لكن لا شك أنّ ما نقل عنه في ذلك المجال سراب وخداع ، يقول الدكتور أحمد محمود صبحي : وليس ما يمنع أن يستغل يهودي الأحداث التي جرت في عهد عثمان ، ليحدت فتنة وليزيدها اشتعالا ، وليؤلّب الناس على عثمان ، بل أن ينادي بأفكار غريبة ، ولكن السابق لأوانه أن يكون لابن سبأ هذا الأثر الفكري العميق ، فيحدث هذا الانشقاق العقائدي بين
________________________________________
1 ـ طه حسين : الفتنة الكبرى : فصل ابن سبأ ، وقد لخّص ما ذكرنا من الاُمور من ذلك الفصل الدكتور الشيخ أحمد الوائلي في كتابه « هوية التشيّع » 146.
2 ـ نظرية الإمامة لأحمد محمود صبحي 37.
3 ـ عبداللّه بن سبأ 1 / 11 ، والكتاب يقع في جزأين وصل فيهما إلى النتيجة التي تقدّمت ، وقد استفدنا من هذا الكتاب في هذا الفصل.
________________________________________
(139)
طائفة كبيرة من المسلمين (1).
إلى هنا تبيّن أنّ تحليل تكوّن الشيعة عن هذا الطريق تحليل خيالي خادع ، وسراب لا ماء ويتّضح الحق إنّا إذا راجعنا كتب الشيعة نرى أنّ أئمّتهم وعلمائهم يتبرّأون منه أشدّ التبرّؤ.
1 ـ قال الكشي ، وهو من علماء القرن الرابع : عبداللّه بن سبأ كان يدّعي النبوّة وانّ عليّاً هو اللّه فاستتابه ثلاثة أيّام فلم يرجع ، فأحرقه بالنار في جملة سبعين رجلا (2).
2 ـ قال الشيخ الطوسي ( 385 ـ 460 ) في رجاله في باب أصحاب أميرالمؤمنين : عبداللّه بن سبأ الذي رجع إلى الكفر وأظهر الغلو (3).
3 ـ وقال العلاّمة الحلّي ( 648 ـ 726 ) : غال ملعون ، حرقه أميرالمؤمنين بالنار ، كان يزعم أنّ عليّاً إله وأنّه نبي ، لعنه اللّه (4).
4 ـ وقال ابن داود ( 647 ـ 707 ) : عبداللّه بن سبأ رجع إلى الكفر وأظهر الغلو (5).
5 ـ وذكر الشيخ حسن ( ت 1011 ) في التحرير الطاووسي : غال ملعون حرقه أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) بالنار (6).
ومن أراد أن يقف على كلمات أئمّة الشيعة في حق الرجل ، فعليه أن يرجع
________________________________________
1 ـ نظرية الامامة 37.
2 ـ رجال الكشي 98 برقم 48.
3 ـ رجال الطوسي : باب أصحاب علي برقم 76 / 51.
4 ـ الخلاصة للعلاّمة : القسم الثاني الباب الثاني : عبداللّه 236.
5 ـ رجال ابن داود : القسم الثاني 254 برقم 278.
6 ـ التحرير الطاووسي 173 برقم 234.
________________________________________
(140)
إلى رجال الكشي فقد روى في حقّه روايات كلّها ترجع إلى غلوّه في حق علي ، وأمّا ما نقله عنه سيف بن عمر فليس منه أثر في تلك الروايات ، فأقضى ما يمكن التصديق به أنّ الرجل ظهر غالياً فقتل أو اُحرق ، والقول بذلك لا يضر بشي ، وأمّا ما يذكره الطبري عن الطريق المتقدم فلا يليق أن يؤمن ويعتقد به من يملك أدنى إلمام بالتاريخ والسير.
وأخيراً فلنفترض أنّ كل ما ساقوه في القصة صحيح ولكن السؤال الذي نطرحه هو أنّه لا ملازمة بين التصديق بها وبين أنّ ذلك الحدث هو منشأ مذهب الشيعة فإنّ التشيّع حدث في عصر النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) واعتنقته اُمّة مسلمة ورعة من الصحابة والتابعين ، وأمّا ما قام به ابن سبأ على فرض صحة وقوعه فإنّه يعبّر عن موقف فردي وتصرّف شخصي خارج عن إطار المذهب ومن تبعه ، فقد أدخل نفسه دار البوار ، وأين هؤلاء من الذين لا يخالفون اللّه ورسوله واُولي الأمر ولا يتخلّفون عن أوامرهم قيد أنملة كالمقداد وسلمان وحجر بن عدي ورشيد الهجري ومالك الأشتر وصعصعة وأخيه وعمر بن الحمق ممّن يستدر بهم الغمام وتنزل بهم البركات.
إلى هنا تمّ تحليل النظرية الثانية في تكوّن الشيعة فلنرجع إلى تحليل النظرية الثالثة.
(141)
الافتراض الثالث :
التشيع فارسي المبدأ أو الصبغة
وهناك فرضية ثالثة اخترعها المستشرقون لتكوّن مذهب الشيعة في المجتمع الاسلامي ، وهؤلاء كالباحثين السابقين اعتقدوا أنّ التشيّع ظاهرة حدثت بعد النبي الأكرم ، فأخذوا يفتِّشون عن علّتها وسبب حدوثها حتّى انتهوا إلى أنّ التشيّع فارسي المبدأ أو الصبغة ، والترديد بين الأمرين لأجل أنّ لهم في المقام رأيين.
1 ـ انّ التشيع من مخترعات الفرس ، اخترعوه لأغراض سياسية ولم يعتنقه أحد من العرب قبل الفرس ، ولكنّهم لمّا أسلموا اخترعوا تلك الفكرة لغاية خاصة.
2 ـ انّ التشيع عربي المبدأ ، وإنّ لفيفاً من العرب اعتنقوه قبل أن يدخل الفرس في الإسلام ولمّا أسلموا اعتنقوه وصبغوه صبغه فارسية لم يكن له ذلك من قبل.
وهذان الرأيان هما اللذان عبّرنا عنهما في العنوان بما عرفت ، وإليك التفصيل.
أمّا الاُولى : فقد اخترعها المستشرق دوزي وحاصله أنّ للمذهب الشيعي نزعة فارسية لأنّ العرب كانت تدين بالحرية ، والفرس تدين بالملك ، والوراثة ،
________________________________________
(142)
ولا يعرفون معنى الانتخاب ، ولمّا انتقل النبيّ إلى دار البقاء ولم يترك ولدا ، قالوا علي أولى بالخلافة من بعده.
وحاصله : انّ الإنسجام الفكري بين الفرس والشيعة أعني كون الخلافة أمراً وراثيا ، دليل على أنّ التشيّع وليد الفرس.
يلاحظ عليه :
أولاً : انّ التشيّع حسب ما عرفت ظهر في عصر النبي الأكرم وهو الذي سمّى أتباع علي بالشيعة ، وكانوا متواجدين في عصر النبي وبعده ، إلى زمن لم يدخل أحد من الفرس سوى سلمان ، في الإسلام.
إنّ روّاد التشيّع في عصر الرسول والوصي كانوا كلّهم عرباً ولم يكن بينهم أي فارسي سوى سلمان المحمدي ، وكلّهم يتبنّون فكرة التشيّع.
وكان لأبي الحسن أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب ( عليهم السلام ) أيام خلافته ثلاثة حروب ، حرب الجمل ، وصفين ، والنهروان. وكان جيشه كلّه عرباً أقحاحاً بين عدنانية وقحطانية ، فقد انضمّ إلى جيشه زرافات من قريش والاُوس والخزرج ، ومن قبائل مذحج ، وهمدان ، وطي ، وكندة ، وتميم ، ومضر ، وكان زعماء جيشه من رؤوس هذه القبائل كعمار بن ياسر ، وهاشم المرقال ، مالك الأشتر ، صعصعة بن صوحان وأخوه زيد ، قيس بن سعد بن عبادة ، عبداللّه بن عباس ، محمّد بن أبي بكر ، حجر بن عدي ، عدي بن حاتم ، وأضرابهم ، وبهذا الجند وباُولئك الزعماء فتح أميرالمؤمنين البصرة وحارب القاسطين معاوية وجنوده يوم صفين ، وبهم قضى على المارقين.
فأين الفرس في ذلك الجيش واُولئك القواد كي نحتمل أنّهم كانوا الحجر الأساس للتشيّع. ثمّ لم يعتنق الفرس التشيّع دون غيرهم ، بل اعتنقه الأتراك والهنود وغيرهم من غير العرب.
________________________________________
(143)
شهادة المستشرقين على انّ التشيّع عربي المبدأ :
إنّ لفيفاً من المستشرقين وغيرهم صرّحوا بأنّ العرب اعتنقت التشيّع قبل الفرس وإليك نصوصهم :
1 ـ قال الدكتور أحمد أمين : إنّ الفكر الفارسي استولى على التشيّع لقدمه على دخول الفرس في الإسلام وقال : والذي أرى كما يدلّنا التاريخ أنّ التشيّع لعلي بدأ قبل دخول الفرس إلى الإسلام ولكن بمعنى ساذج ، ولكن هذا التشيّع أخذ صبغة جديدة بدخول العناصر الاُخرى في الإسلام وحيث انّ أكبر عنصر دخل في الإسلام الفرس فلهم أكبر الأثر في التشيّع (1) وسيوافيك الكلام ما في ذيل كلامه من أنّ التشيّع أخذ صبغة جديدة بعد فترة من حدوثه.
2 ـ قال المستشرق : « فلهوزن » : كان جميع سكان العراق في عهد معاوية خصوصاً أهل الكوفة شيعة ولم يقتصر هذا على الأفراد ، بل شمل القبائل ورؤساء العرب (2).
3 ـ وقال المستشرق جولد تسيهر : « إنّ من الخطأ القول بانّ التشيّع في منشئه ومراحل نموه يمثّل الأثر التعديلي الذي أحدثته أفكار الاُمم الإيرانية في الإسلام بعد أن اعتنقته ، أو خضعت لسلطانه عن طريق الفتح والدعاية ، وهذا الوهم الشائع مبني على سوء فهم الحوادث التاريخية ، فالحركة العلوية نشأت في أرض عربية بحتة (3).
4 ـ يقول المستشرق آدم متز : إنّ مذهب الشيعة ليس كما يعتقد البعض رد فعل من جانب الروح الإيرانية يخالف الإسلام فقد كانت جزيرة العرب شيعة كلّها
________________________________________
1 ـ فجر الإسلام 176.
2 ـ الخوارج والشيعة 241 ـ 148.
3 ـ العقيدة والشريعة 204.
________________________________________
(144)
عدا المدن الكبرى ، مثل مكة وتهامة وصنعاء وكان للشيعة غلبة في بعض المدن أيضاً مثل عمان ، وهجر وصعدة ، أمّا إيران فكانت كلّها سنّة ، ما عدا قم وكان أهل اصفهان يغالون في معاوية حتّى اعتقد بعض أهلها أنّه نبيّ مرسل (1).
هذه الكلمات من هؤلاء الذين يفقدون الاخلاص غالباً في قضائهم ، أوضح شاهد على أنّهم لم يجدوا لهذه النظرية أي مصدر صحيح.
5 ـ يقول الشيخ أبو زهرة : إنّ الفرس تشيّعوا على أيدي العرب وليس التشيع مخلوقاً لهم ، ويضيف : وأمّا فارس وخراسان وماوراءهما من بلدان الإسلام فقد هاجر إليها كثيرون من علماء الإسلام الذين كانوا يتشيّعون فراراً بعقيدتهم من الأمويين أولاً ، ثم العباسيين ثانياً وأنّ التشيّع كان منتشراً في هذه البلاد انتشاراً عظيماً قبل سقوط الدولة الأموية بفرار أتباع زيد ومن قبله إليها (2).
6 ـ قال السيد الأمين : إنّ الفرس الذين دخلوا الإسلام لم يكونوا شيعة في أول الأمر إلاّ القليل وجلّ علماء السنّة وأجلاّؤهم من الفرس ، كالبخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم النيسابوري والبيهقي وهكذا غيرهم ممّن أتوا في الطبقة التالية (3).
وثانياً : انّ التاريخ يدلّنا إلى أنّ الفرس دخلوا في الإسلام يوم دخلوا ، بالصبغة السنّية ، وهذا هو البلاذري يحدّثنا في كتابه ويقول :
كان ابرويز وجّه إلى الديلم فأتى بأربعة آلاف ، وكانوا خدمه وخاصته ، ثم كانوا على تلك المنزلة بعده ، وشهدوا القادسية مع رستم ، ولمّا قتل وانهزم
________________________________________
1 ـ آدم متز : الحضارة الإسلامية 102.
2 ـ الامام جعفر الصادق 545.
3 ـ أعيان الشيعة 1 / 33 ط الخامسة.
________________________________________
(145)
المجوس اعتزلوا ، وقالوا : ما نحن كهؤلاء ولا لنا ملجأ ، وأثرنا عندهم غير جميل ، والرأي لنا أن ندخل معهم في دينهم ، فاعتزلوا فقال سعد : ما لهؤلاء ، فأتاهم المغيرة ابن شعبة فسألهم عن أمرهم ، فأخبروه بخبرهم ، وقالوا : ندخل في دينكم ، فرجع إلى سعد فأخبره فأمنهم ، فأسلموا وشهدوا فتح المدائن مع سعد ، وشهدوا فتح جلولاء ، ثم تحولوا ، فنزلوا الكوفة مع المسلمين (1).
لم يكن اسلامهم يوم ذاك ، إلاّ كاسلام سائر الشعوب ، فهل يمكن أن يقال : انّ اسلامهم يوم ذاك كان اسلاماً شيعياً.
وثالثاً : إنّ الإسلام كان يمشي بين الفرس بالمعنى الذي كان يمشي في سائر الشعوب ولم يكن بلد من بلاد إيران معروفاً بالتشيّع إلى أن انتقل قسم من الأشعريين الشيعة إلى قم وكاشان ، فبذروا بذرة التشيّع وكان ذلك في أواخر القرن الأول مع أنّ الفرس دخلوا في الإسلام في عهد الخليفة الثاني أي من سنة 17 وهذا يعني أنّه قد انقضى عشرات الأعوام ولم يكن عندهم أثر من التشيّع. هذا هو ياقوت الحموي يحدّثنا في معجم البلدان ويقول :
« قم ، مدينة تذكر مع قاشان ، وهي مدينة مستحدثة اسلامية لا أثر للأعاجم فيها ، وأوّل من مصرها طلحة بن الأحوص الأشعري ، وكان بدو تمصيرها في أيام الحجاج بن يوسف سنة 83 ، وذلك نّ عبدالرحمان بن محمد بن الأشعث بن قيس ، كان أمير سجستان من جهه الحجاج ، ثم خرج عليه وكان في عسكره سبعة عشر نفساً من علماة التابعين من العراقيين ، فلمّا انهزم ابن الاشعث ورجع إلى كابل منهزماً كان في جملته إخوة يقال لهم عبداللّه ، والأحوص ، وعبدالرحمان ، وإسحاق ، ونُعَيم ، وهم بنو سعد بن مالك بن عامر الأشعري ، وقعوا إلى ناحية قم ، وكان هناك سبع قرى
________________________________________
1 ـ البلاذري : فتوح البلدان 279.
________________________________________
(146)
اسم احداها « كمندان » فنزل هؤلاء الاخوة على هذه القرى حتّى افتتحوها واستولّوا عليها ، وانتقلوا إليها واستوطنوها ، واجتمع عليهم بنوعمّهم وصارت السبع قرى ، سبع محال بها ، وسميت باسم احداها ، « كمندان » فأسقطوا بعض حروفها ، فسميت بتعريبهم قماً وكان متقدم هؤلاء الاخوة عبد اللّه بن سعد ، وكان له والد قد ربى بالكوفة ، فانتقل منها إلى قم ، وكان إمامياً فهو الذي نقل التشيّع إلى أهلها ، فلا يوجد بها سنّي قط » (1).
هذا كله راجع إلى تحليل النظرية من منظار التاريخ ، وأمّا دليله فهو أوهن من بيت العنكبوت فانّ الفرس وإن كانوا لا يعرفون معنى الإنتخاب والحرية ، ولكن كانت العرب أيضاً مثلهم ، فانّ العربي الذي كان يعيش في البادية عيشة فردية كان يحب الحرية ويمارسها ، وأمّا العربي الذي يعيش عيشة قبلية ، فقد كان شيخ القبيلة يملك زمام اُمورهم وشؤونهم ، فما معنى الحرية بعد هذا ، وإذا مات شيخ القبيلة ، يقوم أبناؤه وأولاده مكانه واحداً بعد الآخر.
تحليل النظرية الثانية :
إنّ هذه النظرية وإن كانت تتعرف بأنّ التشيّع عربي المولد والمنشأ ، ولكنّها تدّعي أنّه اصطبغ بصبغة فارسية بعد دخول الفرس في الإسلام وهذا هو الذي اختاره الدكتور أحمد أمين كما عرفت ولفيف من المستشرقين كـ « فلهاوزن » ، يقول الثاني إنّ آراء الشيعة كانت تلائم الايرانيين ، أمّا كون هذه الآراء قد انبثقت من الايرانيين فليست تلك الملاءمة دليلاً عليه ، بل الروايات التاريخية تقول
________________________________________
1 ـ معجم البلدان 4 / 396 ، مادة قم ، ويقول في مراصد الاطلاع بأنّ أهل قم وكاشان كلهم شيعة إمامية ولاحظ رجال النجاشي ترجمة الرواة الأشعريين فيه.
________________________________________
(147)
بعكس ذلك ، إذ تقول انّ التشيّع الواضح الصريح كان قائماً أولاً في الأوساط العربية ، ثم انتقل بعد ذلك منها إلى الموالي ، وجمع بين هؤلاء وبين تلك الأوساط.
ولكن لمّا ارتبطت الشيعة العربية بالعناصر المضطهدة تخلّت عن تربية القومية العربية ، وكانت حلقة الإرتباط هي الإسلام ولكنّه لم يكن ذلك الإسلام القديم ، بل نوعاً جديداً من الدين (1).
أقول : إنّ مراده أنّ التشيّع كان في عصر الرسول وبعده بمعنى الحب والولاء لعلي لكنّه انتقل بيد الفرس إلى معنى آخر وهو كون الخلافة أمراً وراثياً في بيت علي ( عليهم السلام ) هذا هو الذي يصرح به الدكتور أحمد أمين ويقول : إنّ الفكر الفارسي استولى على التشيّع ، والمقصود من الاستيلاء هو جعل الخلافة أمراً وراثياً كما كان الأمر كذلك بين الفرس في عهد ملوك بني ساسان وغيرهم.
يلاحظ عليه : أنّ كون الحكم والملك أمراً وراثياً لم يكن من خصائص الفرس ، بل وراثية الحكم كان سائداً في جميع المجتمعات ، فالنظام السائد بين ملوك الحيرة وغسان وحمير في العراق والشام واليمن كان هو الوراثه ، والحكم في الحياة القبلية في الجزيرة العربية كان وراثياً ، والمناصب المعروفة لدى قريش من السقاية والرفادة وعمارة المسجد الحرام والسدانة كانت اُموراً وراثية حتّى أنّ النبي الأكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يغيّرها بل أنّه أمضاها ومن هنا نرى أنّه قد دفع مفاتيح البيت لبني شيبة لمّا كانت السدانة منصباً لهم أيام الجاهلية ، فتخصيص الفرس بالوراثة وغمض العين عن غيرهم أمر عجيب ، فعلى ذلك يجب أن نقول ، انّ التشيّع اصطبغ بصبغة فارسية وغسانية وحميرية وأخيراً عربية ، فما معنى تخصيص فكرة الوصاية بالفرس مع كونها آنذاك فكرة عامة عالمية ؟!
________________________________________
1 ـ الخوارج والشيعة 169.
________________________________________
(148)
إنّ النبوة والوصاية من الاُمور الوراثية في الشرائع السماوية ، لا بمعنى أنّ الوراثة هي الملاك المعيّن بل بمعنى أنّه سبحانه جعل نور النبوة والامامة في بيوتات خاصة ، فكان يتوارث نبي نبيّاً ، ووصي وصيّاً ، يقول سبحانه :
( وَلَقَدْ أَرْسَلنَا نُوحاً وإبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِما النُّبُوَّةَ والكِتابَ ) (1). ( وإِذِ ابْتَلَى إِبراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمات فَأتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَاماً قَالَ وَ مِن ذُرِّيَّتِى قَالَ لا يَنالُ عَهْدِى الظّالِمينَ ) (2). ( أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبراهيمَ الكِتَابَ والحِكْمَةَ وآتَيناهُم مُلْكاً عَظِيماً )(3).
فلماذا لا يكون سبب تشيّع الفرس مفاد هذه الآيات والروايات التي تصرّح بأنّ الوصاية بين الأنبياء كانت أمراً وراثياً ؟ وانّ هذه سنّة اللّه في الاُمم كما هو ظاهر قوله سبحانه ( لا ينال عهدى الظالمين ) فسمّى الامامة عهد اللّه لا عهد الناس.
ثمّ إنّ من زعم أنّ التشيّع من صنع الفرس مبدأً وصبغة فهو جاهل بتاريخ الفرس وذلك لأنّ التسنّن كان هو السائد عليهم إلى أوائل القرن العاشر حتّى غلب عليهم التشيّع في عصر الصفويين ، نعم كانت الري وقم وكاشان معقل التشيّع ومع ذلك يقول أبو زهرة : إنّ أكثر أهل الفارس إلى الأن من الشيعة وأنّ الشيعة ، الأولين كانوا من أهل فارس (4).
أمّا غلبة التشيّع عليهم في الآونة الأخيرة فلا ينكره أحد ، إنّما الكلام كونهم
________________________________________
1 ـ الحديد / 26.
2 ـ البقرة / 124.
3 ـ النساء / 54.
4 ـ تاريخ المذاهب الإسلامية 1 / 41 ط دار الفكر العربي.
________________________________________
(149)
كذلك في بداية دخولهم إلى الإسلام ، وكأنّ الرجل جاهل بتاريخ بلاد إيران ، وها نحن ننقل كلام « أحسن التقاسيم » لتقف على أنّ المذهب السائد في ذلك القرن ، هل كان هو التشيّع أم التسنّن يقول :
« اقليم خراسان للمعتزلة والشيعة ، والغلبة لأصحاب أبي حنيفة إلاّ في كورة الشاش فانّهم شوافع وفيهم قوم على مذهب عبداللّه السرخسي ، واقليم الرحاب مذاهبهم مستقيمة إلاّ أنّ أهل الحديث حنابلة والغالب بدبيل ـ لعلّه يريد أردبيل ـ مذهب أبي حنيفة وبالجبال ، أمّا بالري فمذاهبهم مختلفة ، والغلبة فيهم للحنفية ، وبالري حنابلة كثيرة ، وأهل قم شيعة والدينور غلبه مذهب سفيان الثوري ، واقليم خوزستان مذاهبهم مختلفة ، أكثر أهل الأهواز ورامهرمز والدورق حنابلة ، ونصف أهل الأهواز شيعة ، وفيه من أصحاب أبي حنيفة كثير ، وبالأهواز مالكيون ، اقليم فارس العمل فيه على أصحاب الحديث وأصحاب أبي حنيفة ، اقليم كرمان المذاهب الغالبة للشافعي ، اقليم السند مذاهبهم أكثرها أصحاب الحديث ، وأهل الملتان شيعة يهيعلون في الأذان ـ أي يقولون : حي على خير العمل ـ ويثنون في الاقامة ـ أي يقولون : اللّه أكبر مرتين ، وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه مرتين أيضاً وهكذا ـ ولا تخلوا القصبات من فقهاء على مذهب أبي حنيفة (1).
ذكر ابن بطوطة « كان ملك العراق السلطان محمد خدابنده قد صحبه في حال كفره فقيه من الروافض الامامية يسمّى جمال الدين بن مطهر ـ يعني العلامة الحلي ( 648 ـ 726 ) ـ فلمّا أسلم السلطان المذكور وأسلمت باسلامه التتر زاد في تعظيم هذا الفقيه فزيّن له مذاهب الروافض وفضله على غيره ... فأمر السلطان بحمل الناس على الرفض وكتب بذلك إلى العراقين وفارس وآذربايجان واصفهان وكرمان
________________________________________
1 ـ أحسن التقاسيم لشمس الدين محمّد بن أحمد المقدسي / 119 ( ألفه عام 375 ).
________________________________________
(150)
وخراسان وبعث الرسل إلى البلاد ، فكان أوّل بلاد وصل إليها الأمر بغداد وشيراز واصفهان ، فأمّا أهل بغداد فخرج منهم أهل باب الازج يقولون لاسمعاً ولا طاعة ، وجاءوا للجامع وهدّدوا الخطيب بالقتل إن غيّر الخطبة وهكذا فعل أهل شيراز وأهل اصفهان (1).
وقال القاضي عياض في مقدمة ـ ترتيب المدارك ـ وهو يحكي انتشار مذهب مالك : وأمّا خراسان وما وراء العراق من بلاد المشرق فدخلها هذا المذهب أولاً بيحيى بن يحيى التميمي ، وعبداللّه بن المبارك ، وقتيبة بن سعيد ، فكان له هناك أئمة على مر الأزمان ، وتفشّى بقزوين وماولاها من بلاد الجبل. وكان آخر من درس منه بنيسابور أبو إسحاق بن القطان وغلب على تلك البلاد مذهبا أبي حنيفة والشافعي (2).
قال « بروكلمان » : إنّ شاه إسماعيل الصفوي بعد انتصاره على « الوند » توجّه نحو تبريز فأعلمه علماء الشيعة التبريزيون أنّ ثلثي سكان المدينة الذين يبلغ عددهم ثلاثمائة ألف ، من السنّة (3).
هذه النصوص تعطينا أنّ السنّة كانت هي المذهب السائد إلى القرن العاشر بين الفرس ، فكيف يمكن أن يقال : إنّ بلاد فارس كانت هي الموطن الأصلي للتشيّع.
هذا هو ابن الأثير يؤكّد على أنّ أهل طوس كانوا سنَّة إلى عصر محمود بن سبكتكين ، قال : إنّ محمود بن سبكتكين جدّد عمارة المشهد بطوس الذي فيه قبر
________________________________________
1 ـ رحلة ابن بطوطة 219 ـ 220.
2 ـ ترتيب المدارك 1 / 53.
3 ـ تاريخ المذاهب الإسلامية 1 / 140.
(151)
علي بن موسى الرضا وأحسن عمارته ، وكان أبوه سبكتكين أخربه ، وكان أهل طوس يؤذون من يزوره فمنعهم ابنه عن ذلك ، وكان سبب فعله ذلك أنّه رأى في المنام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب وهو يقول : إلى متى هذا ؟ فعلم أنّه يريد أمر المشهد يأمر بعمارته (1).
ويؤيّد ذلك ما رواه البيهقي : انّ المأمون العباسي همَّ بأن يكتب كتاباً في الطعن على معاوية ، فقال له يحيى بن أكثم : يا أميرالمؤمنين! العامة لا تتحمّل هذا ولا سيما أهل خراسان ولا تأمن أن يكون لهم نفرة (2).
فقد بان ممّا ذكر أمران :
1 ـ انّ التشيع ليس فارسي المبدأ ، وانّما هو حجازي المولد ، والمنشأ اعتنقه العرب فترة طويلة لم يدخل فيها أحد من الفرس ـ سوى سلمان المحمدي ـ وانّ الإسلام دخل بين الفرس مثل دخوله بين سائر الشعوب وانّهم اعتنقوا الإسلام ـ لا التشيّع ـ مثل اعتناق سائر الاُمم وبقوا عليه قروناً وكان التشيّع بينهم قليلا ـ إلى أن ظهر بينهم ، في عهد بعض ملوك المغول أو عهد الصفوية عام 905.
2 ـ انّ كون الامامة منحصرة في علي وأولاده ، ليس صبغة عارضة على التشيّع ، بل هو جوهر التشيّع وحقيقته ولولاه ، فقد التشيّع روحه وجوهره ، فجعل الولاء لآل البيت أو تفضيل علي ، على سائر الخلفاء أصله وجوهره ، وجعل الامامة في علي ونسله أمراً عرضياً فكر خاطئ ليس له دليل.
قال المفيد : الشيعة من دان بوجوب الامامة ووجودها في كل زمان وأوجب
________________________________________
1 ـ ابن الأثير : الكامل في التاريخ 5 / 139.
2 ـ البيهقي : المحاسن والمساوئ 1 / 108.
________________________________________
(152)
النص الجلي والعصمة والكمال لكلّ امام ثم حصر الامامة في ولد الحسين بن علي ( عليهما السلام ) وساقها إلى الرضا علي بن موسى ( عليهما السلام ). (1)
________________________________________
1 ـ اوائل المقالات / 7
________________________________________
(153)
الافتراض الرابع :
الشيعة ويوم الجمل
إنّ الشيعة تكوّنت يوم الجمل لما ذكر ابن النديم : انّ عليّاً قصد طلحة والزبير ليقاتلهما حتّى يفيئا إلى أمر اللّه جلّ اسمه وتسمّى من اتّبعه على ذلك الشيعة. وكان يقول : شيعتي وسمّاهم ( عليه السلام ) الأصفياء ، الأولياء ، شرطة الخميس ، الأصحاب (1).
وعلى ذلك جرى المستشرق « فلهوزن » حيث يقول : بمقتل عثمان انقسم الإسلام إلى فئتين : حزب علي ، وحزب معاوية ، والحزب يطلق عليه في العربية اسم « الشيعة » فكانت شيعة عليّ في مقابل شيعة معاوية ، لكن لمّا تولّى معاوية الملك في دولة الاسلام كلّها ... أصبح استعمال لفظ « شيعة » مقصوراً على أتباع علي (2).
يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره ابن النديم نفس ما ذكره البرقي قبله بقول (3) في رجاله وإليك نصّه.
________________________________________
1 ـ ابن النديم : الفهرست 263 طبع القاهرة.
2 ـ الخوارج والشيعة 146 ( ترجمة عبدالرحمان بدوي ، طبع القاهرة ).
3 ـ توفّي البرقي عام ( 274 ) أو ( 280 ) وألّف ابن النديم كتابه عام ( 377 ) وتوفّي عام ( 378 ).
________________________________________
(154)
أصحاب أميرالمؤمنين :
من أصحاب رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) الأصحاب ، ثم الأصفياء ، ثم الأولياء ، ثم شرطة الخميس :
من الأصفياء من أصحاب أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) : سلمان الفارسي ، المقداد ، أبوذر ، عمار ، أبوليلى ، شبير ، أبو سنان ، أبو عمرة ـ أبو سعيد الخدري ( عربي أنصاري ) ـ أبو برزة ، جابر بن عبداللّه ، البراء بن عازب ( أنصاري ) ، عرفة الأزدي ، وكان رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) دعا له فقال : اللّهمّ بارك ( له ) في صفقته.
وأصحاب أميرالمؤمنين ، الذين كانوا شرطة الخميس كانوا ستّة آلاف رجل ، وقال علي بن الحكم ( أصحاب ) أميرالمؤمنين الذين قال لهم : تشرّطوا انّما اُشارطكم على الجنّة ولست اُشارطكم على ذهب وفضّة انّ نبيّنا ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) قال لأصحابه فيما مضى : تشرّطوا فانّي لست اُشارطكم ، إلاّ على الجنّة (1).
ترى انّه عدّ من أصحاب الامام رجالاً ماتوا ، قبل أيام خلافته كسلمان ، وأبوذر والمقداد ، وكلّهم كانوا شيعة الامام ، فكيف يكون التشيّع وليد يوم الجمل والظاهر وجود التحريف في عبارة ابن النديم.
وعلى كل تقدير فما تلونا عليك من النصوص في وجود التشيّع في عصر الرسول وبعده وقبل أن تشب نار الحرب في البصرة ، دليل على وهن هذا الرأي ـ على تسليم دلالة كلام ابن النديم ـ بل كان ذلك اليوم يوم ظهور التشيّع.
فانّ الامام وشيعته بعد خروج الحق عن محوره ، واستتباب الأمر لأبي بكر ، رأوا أنّ مصالح الإسلام والمسلمين تكمن في السكوت ومماشاة القوم ، بينما كان نداء
________________________________________
1 ـ البرقي : الرجال 3.
________________________________________
(155)
التشيّع يعلو بين آونة واُخرى من جانب المجاهرين بالحقيقة ، كأبي ذر الغفاري وغيره ، ولكن كانت القاعدة الغالبة هو إدلاء الأمر للمتقمّصين بالخلافة والاشتغال برفع مشاكلهم العلمية ، ولكن عندما تمّ الأمر للامام علي ، ورجع الحق إلى محلّه اهتزّت الشيعة فرحاً ، وارتفع كابوس الضغط عنهم ، واستنشقوا نسيم الحرية ـ وإن كانت أياماً قصيرة ـ ففي تلك الأحايين ظهرت المعارضة بين المتشيّعين وغيرهم.
________________________________________
(156)
________________________________________
(157)
الافتراض الخامس :
الشيعة ويوم صفين
إنّ بعض المستشرقين (1) زعم أنّ الشيعة تكوّنت يوم افترق جيش علي في مسألة التحكيم إلى فرقتين فلمّا دخل علي الكوفة وفارقته الحرورية وثبت إليه الشيعة ، فقالوا : في أعناقنا بيعة ثانية ، نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت.
إنّ رمي الشيعة بالتكوّن يوم صفين اعتماداً على هذه العبارة باطل وانّما ذهب إليه ذلك المستشرق لأنّه افترض لتكوّن الشيعة ، تاريخاً مفصولا عن تاريخ الإسلام فأخذ يتمسّك بهذه العبارة ، مع أنّ تعبير الطبري ، أعني قوله : وثبت إليه الشيعة (2) دليل على سبق وجودهم على ذلك.
نعم كانت للشيعة بعد تولّي الإمام الخلافة الحرية حيث ارتفع الضغط فالتفّ حوله مواليه من الصحابة والتابعين ، نعم لم يكن كل من في جيشه من الشيعة بالمعنى المصطلح ، وإنّما كانوا يقتدون به لأجل مبايعته.
________________________________________
1 ـ تاريخ الامامية للدكتور عبداللّه فياض 37.
2 ـ تاريخ الطبري 4 / 46 طبع مصر.
________________________________________
(158)
________________________________________
(159)
الافتراض السادس :
الشيعة والبويهيون
تلقّى آل بويه مقاليد الحكم والسلطة من عام 320 ـ 447 ، فكانت لهم السلطة في العراق وبعض بلاد إيران كفارس وكرمان وبلاد الجبل وهمدان وإصفهان والري ، وقد اُقصوا عن الحكم في الأخير بهجوم الغزاونة عليه عام 420 وقد ذكر المؤرّخون خصوصاً ابن الأثير في الكامل وابن الجوزي في المنتظم شيئاً كثيراً من أحوالهم ، وخدماتهم ، وافساحهم المجال للعلماء من غير فرق بين طائفة واُخرى. وقد أفرد المستشرق « استانلي لين بول » كتاباً في حياتهم ترجم باسم طبقات سلاطين الإسلام.
يقول ابن الأثير وكان عضد الدولة عاقلاً ، فاضلاً ، حسن السياسة ، كثير الإصابة ، شديد الهيبة ، بعيد الهمة ، ثاقب الرأي ، محبّاً للفضائل وأهلها ، باذلاً في مواضع العطاء ... إلى أن قال : وكان محبّاً للعلوم وأهلها ، مقرّباً للعلماء ، محسناً إليهم ، وكان يجلس معهم يعارضهم في المسائل. فقصده العلماء من كل بلد وصنّفوا له الكتب ومنها الايضاح في النحو ، والحجّة في القراءات ، والمكلى في
________________________________________
(160)
الطب ، والتاجي في التاريخ إلى غير ذلك (1). وهذا يدل أنّهم كانوا محبّين للعلم ومروّجين له من غير فرق بين كون العالم من الشيعة أو السنّة. وكان في عصرهم يغلب التسنّن على أكثر البلاد ومع ذلك لم يحاربوا التسنّن خلافاً لملوك السنّة ، فكلّما كانت لهم السلطة والقوّة استأثرت الشيعة ، ولو وقعت في أيّامهم حوادث بين الشيعة والسنّة في الطرق كان التحرّش فيها من طرف السنّة ، ومن الحوادث المؤلمة في نهاية حكمهم بعد دخول طغرل بك مدينة دار السلام ( بغداد ) عام 447 ، إحراق مكتبة الشيخ الطوسي وكرسيّه الذي كان يجلس عليه للتدريس (2). نعم راج مذهب الشيعة في عصرهم واستنشقوا نسيم الحرية بعد أن تحمّلوا الظلم والاضطهاد طيلة حكم العباسيين خصوصاً في عهد المتوكّل ومن بعده. غير أنّ تكوّن مذهب الشيعة في أيّامهم شيئاً وكونهم مروّجين ومعاضدين له شيء آخر ، والمسكين لم يفرّق بينهما.
________________________________________
1 ـ الكامل في التاريخ 9 / 19 ـ 21 طبع دار صادر.
2 ـ لاحظ المنتظم : لابن الجوزي 16 / 108 الطبعة الحديثة بيروت.
(161)
الافتراض السابع :
الشيعة والمغول
لمّا اُقصي آل بويه عن الحكم في العراق وإيران ، لم تقم للشيعة دولة قويّة ذات حول وطول بعدهم ، وعاد الضغط على أتباع أهل البيت إلى أن استولى « هولاكو » على ايران وقضى على الخلافة العباسيّة عام ( 665 ) فأعطى الحرية للمذاهب ومنها مذهب أهل البيت وعلى ذلك نهج أولاده ، ثمّ أسلم من ملوك المغول أربعة ثالثهم محمّد خدابنده ، ورابعهم سعيد بن محمد خدابنده. فأمّا الأوّل منهما فقد كان حنيفاً ولمّا وفد عليه نظام الدين عبد الملك الشافعي جعله قاضي القضاة في المملكة وكان يناظر الحنيفة في محضر السلطان فيفحمهم ، ولمّا ظهرت له الغلبة حسن للسطان المذهب الشافعي فعدل إليه ، ولمّا كثرت المناظرات بين نظام الدين وعلماء الحنيفة ، وكان ينسب كل منهم إلى مذهب الآخر ما لا تستحسنه العقول ، ظهر عليه الملل والضجر ، وقد ورد إليه في هذه الآونة السيد تاج الاوي مع جماعة من الشيعة وقعت بينه وبين نظام الدين محاضرات بمحضره ، ثم بعد آونة حضر عنده العلاّمة الحلّي الحسن بن يوسف بمناسبة خاصّة يذكرها التاريخ ، فأمر قاضي القضاة بمناظرته ، وأعدّ لهم مجلساً حافلاً للعلماء وأهل الفضل ، فوقعت المناظرة بينهم في المسائل العقائدية والفقهية ، فظهرت غلبة العالم الشيعي ، فأظهر السلطان
________________________________________
(162)
التشيّع من احينه ، وصارت تلك المناظرة سبباً لأنتشار التشيّع (1) وقد استنشقت الشيعة في عصر المغوليين على وجه الاطلاق عطر الحرية ونسيمها ، فازدحمت المراكز العلمية بعلمائهم ومفكّريهم ، كنصير الدين الطوسي والمحقّق الحلّي. وازدهرت بيوتات الشيعة كبيت آل طاووس وآل سعيد وغيرهما. وقد كان للشيعة كيان ونشاط في عصرهم أعادوا مجدهم في عصر البويهيين.
________________________________________
1 ـ لاحظ منتخب التواريخ لمعين الدين النطزي المؤلف عام 816 ـ 817 طبع عام 1336.
________________________________________
(163)
الإفتراض الثامن :
الشيعة والصفوية
والكلام في هذه الأسرة هو الكلام في البويهيين والمغوليين.
إنّ الصفويين اُسرة الشيخ صفي الدين العارف المشهور في أردبيل المتوفّى عام ( 735 ) ولمّا انقرضت دولة المغول ، انقسمت البلاد إلى دويلات صغيرة شيعية وغير شيعية إلى أن قام أحد أحفاد صفي الدين ، الشاه إسماعيل عام ( 905 ) واستلم مقاليد الحكم وسيطر على بلاد فارس والطرق ، واستمرّ في الحكم إلى عام ( 930 ) ، ثمّ ورثه أولاده إلى أن اُقصوا عن الحكم بسيطرة الأفاغنة على ايران عام ( 1135 ) فكان الصفويون خير الملوك لقلّة شرورهم وكثرة بركاتهم ، وقد راج العلم والأدب والفنون المعمارية أثناء حكمهم ، ولهم آثار خالدة إلى الآن في ايران والعراق ، ومن وقف على أحوالهم ووقف على تاريخ الشيعة يقف على أنّ عصرهم كان عصر ازدهار التشيّع لا تكوّنه.
هذه هي الآراء الساقطة في تحليل تاريخ الشيعة ومبدأ تكوّنهم ، وكلّها كانت اُموراً افتراضية بنوها على أساس خاطئ وهو أنّ الشيعة ظاهرة طارئة على المجمتع الاسلامي بعد عهد النبي ، سامحهم الله وغفر الله لنا ولهم.
________________________________________
(164)
زلّة لاتستقال :
إنّ الدكتور عبد اللّه فياض زعم أنّ التشيع بمعنى موالاة علي نضج في مراحل ثلاث :
1 ـ التشيّع الروحي ، يقول : إنّ التشيّع لعلي بمعناه الروحي زرعت بذرته في عهد النبي وتمّت قبل تولّيه الخلافة ، ثم ساق الأدلّة على ذلك وجاء بأحاديث يوم الدار أو بدء الدعوة وأحاديث الغدير وما قال النبي في حق علي من التسليم على علي بإمرة المؤمنين.
2 ـ التشيّع السياسي ، ويريد من التشيّع السياسي ، كون علي أحق بالإمامة لا لأجل بل لأجل مناقبة وفضائله ، ويقول : إنّ التشيّع السياسي ظهرت بوادره ـ دون الالتزام بقضية الاعتراف بإمامته الدينية ( يريد النص ) ـ في سقيفة بني ساعدة ، حين أسنَدَ حقَ علي بالخلافة عدد من المسلمين أمثال الزبير ، والعباس ، وغيرهما ، وبلغ التشيّع السياسي أقصى مداه حين بويع علي بالخلافة بعد مقتل عثمان.
3 ـ ظهوره بصورة فرقة ، فإنّما كان ذلك بعد فاجعة كربلاء سنة ( 61 ) ولم يظهر التشيّع قبل ذلك بصورة فرقه دينية تعرف بالشيعة. ثمّ استشهد بكلام المقدسي حيث قال : إنّ أصل مذاهب المسلمين كلّها منشعبة من أربع : الشيعة ، والخوارج ، والمرجئة ، والمعتزلة. وأصل افتراقهم قتل عثمان ، ثمّ تشعّبوا (1) وأيّد نظريته بما ذكره المستشرق « فلهوزن » قال : تمكّن الشيعة أوّلاً في العراق ولم يكونوا في الأصل فرقة دينية ، بل تعبيراً عن الرأي السياسي في هذا الاقليم كلّه ، فكان جميع سكان العراق خصوصاً أهل الكوفة شيعة علي على تفاوت بينهم (2).
________________________________________
1 ـ أحسن التقاسيم 38 طبع ليدن 1906.
2 ـ تاريخ الإمامية 38 ـ 47.
________________________________________
(165)
يلاحظ عليه ، أوّلاً : انّ التفكيك بين المرحلتين الأوليتين وانّ الاُولى منهما كانت في عصر النبي وظهرت بوادر المرحلة الثانية بعد رحلة النبي قد نقضه نفس الكاتب في كلامه حيث قال : كان روّاد التشيّع الروحي يلتزمون بآراء علي الفقهية إلى جانب الالتزام باسناده سياسياً (1).
و ثانياً : إنّ ما ذكره من النصوص في مجال التشيّع الروحي كما يدّل على أنّ عليّاً القائد الروحي ، يدل بوضوح على أنّه القائد السياسي ، وقد نقل الكاتب جل النصوص ، فمعنى التفكيك بينهما هو أنّ الصحابة الواعين أخذوا ببعض مضامينها وتركوا بعضها ، ولو صحّ اسناد ذلك إلى بعض الصحابة فلا يصح اسناده إلى سلمان ، وأبي ذر ، وعمّار ، الذين لا يتركون الحق وإن بلغ الأمر ما بلغ.
و بما أنّ النبي كان هو القائد المحنَّك للمسلمين لم تكن هناك حاجة لظهور التشيّع السياسي في حياته ، بل كان المجال واسعاً لظهور التشيّع الروحي ورجوع الناس إلى علي في القضايا والأحكام الفقهية ، وهذا لا يعني عدم كونه قائداً سياسياً وانّ وصايا النبي لم تكن هادفة إلى ذلك الجانب.
و ثالثاً : إنّ التشيّع السياسي ظهر في أيّام السقيفة في ظل الاعتراف بإمامته الروحية ، فانّ الطبري وغيره وإن لم يذكروا مصدر رجوع الزبير والعباس إلى علي ، ولكن هناك نصوص عن طرق الشيعة وردت في احتجاج جماعة من الصحابة على أبي بكر مستندين إلى النصوص الدينية.
روى الصدوق عن زيد بن وهب انّه قال : كان الذين أنكروا على أبي بكر في تقدّمه على علي بن أبي طالب اثنا عشر رجلاً من المهاجرين والأنصار ، فمن المهاجرين خالد بن العاص ، والمقداد بن الأسود ، واُبيّ بن كعب
________________________________________
1 ـ تاريخ الإمامية 45.
________________________________________
(166)
و عمّار بن ياسر ، وأبو ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي ، وعبد الله بن مسعود ، وبريدة الأسلمي ، ومن الأنصار زيد بن ثابت ، وذو الشهادتين ، وابن حنيف وأبو أيّوب الأنصاري ، وأبو الهيثم بن التيهان. وبعدما صعد أبابكر على المنبر قال خالد ابن سعيد : يا أبابكر اتّق الله ... ثم استدلّ على تقدم علي بما ذكره النبي فقال : معاشر المهاجرين والأنصار ، اُوصيكم بوصية فاحفظوها ، وانّي مؤدّ اليكم أمراً فاقبلوه على أنّ عليّاً أميركم من بعدي وخليفتي فيكم ـ إلى آخر ما ذكره ـ ثمّ قام أبوذر وقال : يا معاشر المهاجرين والأنصار ... طرحتم قول نبيكم وتناسيتم ما أوعز إليكم ، ثمّ ذكر مناشدة كل منهم مستندين في حجاجهم على أبي بكر بالأحاديث التي سمعوها من النبي الأكرم (1) وهذا يعرب أنّ التشيّع السياسي ـ الذي كان ظرف ظهوره حسب طبع الحال ـ بعد الرحلة ، كان مستفاداً من نصوص النبي ـ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ـ.
رابعاّ : ماذا يريد من الفرقة وانّ الشيعة تكوّنت بصورة فرقة بعد مقتل الامام الحسين فهل يريد الفرقة الكلامية التي تبتنى على آراء في العقائد تخالف فيها الفرق الاُخرى ، فهذا لم يكن منه أثراً إلى أواسط العقد الثالث من الهجرة ، ولم يكن يومذاك أيّة مسألة كلامية مطروحة حتى تأخذ شيعة علي بجانب والآخرون بجانب آخر ، بل كان المسلون متسالمين في العقائد والأحكام حسب ما بلغ إليهم من الرسول ، ولم يكن يومذاك أيّ اختلاف إلا مسألة القيادة فالفرقة بهذا المعنى لم تكن موجودة في أوساط المسلمين.
و إن أراد من الفرقة الجماعة المتبنّية ولاية علي روحيّاً وسياسياً وانّه أحق بالقيادة على جميع الموازين ، فكانت موجودة في يوم السقيفة وبعدها.
________________________________________
1 ـ الخصال 461 طبع مكتبة الصدوق لاحظ المناشدة إلى آخرها ترى فيها دلائل كافية لاثبات الخلافة للامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ).
________________________________________
(167)
نعم إنّ احتكاك المسلمين مع ألأجانب واستيراد آرائهم وعقائدهم في المسائل الكلاميةو الدينية أوجد فروعاً كلامية ، وبما أنّ الشيعة حسب حديث الثقلين رجعوا إلى أئمّة أهل البيت فصاروا فرقة كلامية متشعّبة الأفنان ، ضاربة جذورها في الكتاب والسنّة والعقل.
الآن حصحص الحق وأسفر الصبح لذي عينين فليس التشيّع ظاهرة طارئة على الإسلام ، وإنّما هو نفس الإسلام في إطار ثبوت القيادة لعلي بعد رحلة النبي بتنصيصه. وتبنّاه منذ بعثة النبي الأكرم لفائف من الصحابة والتابعين وامتدّ حسب الأجيال والقرون وظهر بفضل التمسّك بالثقلين علماء مجاهدون ، وشعراء مجاهرون ، وعباقرة في الحديث ، والفقه والتفسير والفلسفة والكلام واللغة والأدب ، وشاركوا جميع السملين في بناء الحضارة الاسلامية بجوانبها المختلفة ، يتّفقون مع جميع الفرق في أكثر الاُصول والفروع وإن اختلفوا معهم في بعضها كاختلاف بعض الفرق مع بعضها الآخر. وسيوافيك تفصيل عقائدهم في الفصل العاشر باذن اللّه.
و بذلك يظهر وهن ما ذهب إليه الدكتور عبد العزيز الدوري من أنّ التشيّع باعتباره عقيدة روحية ظهر في عصر النبي وباعتباره حزباً سياسياً قد حدث بعد قتل عليّ (1).
هذه الفروض الوهمية تبتنى على أساس باطل وهو أنّ التشيّع بجميع أو بعض أبعاده أمر طارىء على الاسلام والاُمّة ، فراحوا يتبنّون الفروض الذهنيّة.
________________________________________
1 ـ لاحظ الصلة بين التصوّف والتشيّع 18.
________________________________________
(168)
________________________________________
(169)
الفصل السابع
صيغة الحكومة عند أهل السنّة
________________________________________
(170)
(171)
قد تعرّفت على صيغة الحكومة عند الشيعة ، وحان البحث عن صيغتها لدى أهل السنّة ، وأنّهم يختلفون عن الشيعة في شكل الحكومة بعد رسول اللّه ، في أمرين :
الأوّل : فيما يتعلّق بجوهرها وصلبها وأساسها ، فانّ الخلافة عند الشيعة إمرة إلهية ، واستمرار لوظائف النبوّة كلّها ، سوى تلقّي الوحي الإلهي ، والامام نفس الرسول في الصلاحيات والوظائف غير أنّه ليس بنبيّ لأنّ النبوّة اُوصدت وختمت بالرسول ... فلا نبيّ ولا رسول بعده ، ولكن الوظائف كلّها مستمرّة فلأجل ذلك يجب أن يكون الامام قائماً بوظائفه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) المعنوية والمادية والعلمية والاجتماعية ، ويسد الفراغات الحاصلة بوفاته ، وقد عرفت قسماً منها ، وكان الامام علي وعترته الطاهرة على هذا الوصف فكانوا خلفاءً إلهيّين عيّنهم الرسول ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ، لكن لم تسمح الظروف للقيام بجميع وظائفهم إلا لعلي بعد حرمانه من حقّه سنين متمادية ، فلمّا استتبّت له الاُمور قام بنفس وظائف النبيّ ، من غير فرق بين الأجتماعية منها والعلمية ، وسد الفراغات الهائلة.
و لكن الخلافة عند أهل السنّة رئاسة دينية لتنظيم اُمور الاُمّة من تدبير الجيوش ، وسد الثغور ، وردع الظالم ، والأخذ للمظلوم ، وقسمة الفيء بين
________________________________________
(172)
المسلمين ، وقيادتهم في حجّهم وغزوهم (1).
و لأجل اختصاص وظائف الامام بهذه الاُمور السياسية لا تشترط فيه العصمة ، ولا الاحاطة بالشرع اُصوله وفروعه ، بل يكفي فيه المقدرة لتدبير الاُمور ، وقطع كيد الأعداء ، وتسهيل الحياة للاُمّة فعلى ذلك ، فلا تتجاوز وظائفه عن الوظائف المخوّلة للحكومات الحاضرة ، غير أنّه يجب أن يكون مؤمناً باللّه ورسوله وقائماً بالوظائف الفردية ، ولا يعزل عن مقامه بالخروج عن الطاعة واقتراف المعصية حسب ما ذكروه في محلّه (2).
و هذا الاختلاف بين الفريقين يرجع إلى تفسير جوهر الامامة وحقيقتها ويتفرّع على ذلك خلاف آخر وهذا هو الذي نذكره في الأمر التالي.
الثاني : انّ الامام عند الشيعة يعيّن من جانب اللّه سبحانه ويبلّغ بواسطة الرسول ، وأمّا الامام عند أهل السنّة فقد فوّض أمر النتخابه إلى الاُمّة على وجه الاجمال ولم تذكر خصوصياته على وجه التفصيل ، والذي يظهر من مجموع كلامهم ، انّ الامامة تنعقد عن طريق الشورى ، واختيار أهل الحل والعقد أوّلاً ، وبتعيين الامام السابق ثانياً ، وبالغلبة ثالثاً (3).
قال الماوردي : الامامة تنعقد بوجهين :
أحدهما : باختيار أهل الحل والعقد.
والثاني : بعهد الامام من قبل (4).
________________________________________
1 ـ قد لخّص الماوردي مسؤوليات الامام في عشرة ، لاحظ الأحكام السلطانية 15 ـ 16.
2 ـ التمهيد للباقلاني ( ت 403 هـ ) 181.
3 ـ الماوردي : الأحكام السلطانية 6 والتفتازاني : شرح مقاضد الظالبيين في علم اُصول عقائد الدين 272 طبع مصر.
4 ـ الأحكام السلطانية 4.
________________________________________
(173)
و قال العضدي : إنّها تثبت بالنص من الرسول ، وفي الامام السابق بالاجماع ، وتثبت ببيعة أهل العقد والحل (1).
ثمّ إنّهم اختلفوا في عدد من تنعقد بهم الامامة على مذاهب شتّى ، فقالت طائفة : لا تنعقد الامامة إلا بجمهور أهل العقد والحل من كل بلد ليكون الرضا به عامّا.
و قالت طائفة : أقل ما تنعقد به منهم خمسة ، بشهادة أنّ بيعة أبي بكر انعقدت بخمسة وهم عمر بن الخطاب ، وأبو عبيدة الجرّاح ، واسيد بن حضير ، وبشر بن سعد ، وسالم مولى أبي حذيفة.
و قال آخرون : تنعقد بثلاثة ، يتولّاها أحدهم برضا الاثنين ، ليكونوا حاكماً وشاهدين ، كما يصح عقد النكاح بولي وشاهدين.
و قالت طائفة اُخرى : تنعقد بواحد ، لأنّ العباس قال لعلي : امدد يدك اُبايعك ، فيقول الناس عم رسول اللّه بايع ابن عمّه فلا يختلف عليك اثنان ، ولأنّه حكم وحكم الواحد نافذ (2).
إنّ هذا الاختلاف الهائل فيما تنعقد به الامامة ، ناجم عن القول بأنّ أمر الخلافة مفوّض إلى الاُمّة مع عدم النص على أصل التفويض ولا على خصوصياته. وهذا من عجيب الأمر ، حيث إنّ النبيّ يفوّض ذلك الأمر الحيوي إلى الاُمّة ، ولا يتكلّم بأصل التفويض ولا خصوصياته ، فيترك الاُمّة في حيرة.
و قد وقف على ذلك ، الكاتب المصري الخضري ، قال : لم يرد في الكتاب أمر صريح بشكل انتخاب خليفة لرسول اللّه ، اللّهمّ تلك الأوامر العامة التي تتناول
________________________________________
1 ـ شرح المواقف 3 / 265.
2 ـ الأحكام السطانية 4.
________________________________________
(174)
الخلافة وغيرها ، مثل وصف المسلمين بقوله تعالى : ( وَأمْرُهُمْ شورى بَينَهُمْ ) (1) وكذلك لم يرد في السنّة بيان نظام لانتخاب الخليفة ، إلا بعض نصائح تبعد عن الاختلاف والتفرّق ، كأنَّ الشريعة أرادت أن تكل هذا الأمر للمسلمين حتى يحلّوه بأنفسهم ، ولو لم يكن الأمر كذلك لمهّدت قواعده واُوضحت سبله ، كما اُوضحت سبل الصلاة والصيام (2).
إنّ ما ذكره الخضري لا يسمن ولا يغني من جوع لأنّ الحكومة بعد النبي الأكرم كانت من عظائم الاُمور فلا يخطر ببال أحد أن يكتفي الرسول بجميع تفاصيلها وخصوصياتها التي لم تمارسها الاُمّة ولا ذاقتها طوال حياته بآية الشورى وهذا أشبه بالاكتفاء في اقامة الصلاة بالمجاملات الواردة في نص الكتاب.
« كيف يخطر ببال أحد أن يهمل الرسول ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) القيادة السياسية للدولة الاسلامية التي أسّسها ، وثبّت عناصرها ومرتكزاتها ، فلم يضع قاعدة معيّنة للخلافة كما زعموا ، مع العلم بأنّ القيادة بالنسبة للدولة كالرأس من الجسد ، وكالقلب من سائر الأعضاء والجوارج , أيهمل القيادة والرئاسة للدولة ، ولا يتكلّم عنها بنفي أو اثبات ؟ أيهملها ويتركها نهباً لأصحاب المطامع ، والمطامح , والأهواء ، ولشهوات أصحاب القوّة والفساد في الأرض ؟ فتعود بذلك بعد موته ، الجاهلية ، وعبادة الطواغيت ، بعد أن عان وأصحابه ما عانوا من متاعب ، ومشقّات ، وما قدّموه من تضحيات غالية وعزيزة للخلاص من أوبائها وتحرير العباد من فحشائها ؟ أيتركها لتكون سبباً لإراقة الدماء وازهاق الأرواح ؟ وهو المرسل رحمة لا نقمة للعالمين ، ونوراً وهدىً للحائرين والضالّين.
________________________________________
1 ـ الشورى / 38.
2 ـ محاضرات في تاريخ الاُمم الاسلامية 2 / 161.
________________________________________
(175)
حاشاه حاشاه لقد وضع لاُمّته وبوحيٍ من ربّه العليم الخبير كل قواعد واُسس الحياة الانسانية بمجالاتها الواسعة ، ولم يهمل حتى آداب الأكل والشرب ولبس النعال وحتى آداب التبوّل والتبرّز ، ووضّح لاُمّته معالم الحياة الرفيعة الراقية وفي مقدّمتها الحياة السياسية ، ورأسها المفكر وقلبها البابض ، هو القيادة المعروفة في لغة القرآن والسنّة باسم ـ الامامة والخلافة ـ والملك والسلطان ـ وبذلك نزلت البشرى من عالم الغيب والشهادة باكمال الدين ، واتمام النعمة ، والرضى بالاسلام قال تعالى : ( اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً ) ـ المائدة / 3 (1).
لو كانت صيغة الحكومة قائمة على أساس الشورى ، وكانت هي طريقاً لتعيين الحاكم ، كان من الضروري أن يقوم النبي بتوعية الاُمّة ، وايقافها بصورة واسعة على حدود الشورى وتفاصيلها وخطوطها العريضة ، حتى لا تتحيّر الاُمّة ولا تختلف في أمرها ، ولكنّا رغم هذه الأهمية القصوى ، لا نجد لهذه التوعية الضرورية أي أثر في الكتاب والسنّة في مجال انتخاب الحاكم. أجل إنّ مقتضى كون الدين الاسلامي ديناً خاتماً هو التعرّض لصلب الموضوع مُوكِلاً شكله إلى نظر الاُمّة ، حتى يتماشى مع جميع العصور. ولا نعني من هذا أنّه يجب على الشارع اعطاء كل التفاصيل الخصوصيات الراجعة إلى الشورى ، غير أنّ هناك اُموراً ترجع إلى جوهر الشورى وصميمها ، فلا يصح للشارع أن يترك بيانها ، إذاً هناك أسئلة تطرح نفسها في المقام لا يمكن الوقوف على أجوبتها ، إلا عن طريق الشرع ، وهي :
1 ـ من هم المشاركون في الشورى ، فهل العلماء وحدهم أو السياسيون وحدهم أو الضبّاط والعساكر وحدهم ، أو المختلط منهم ؟
________________________________________
1 ـ الزيدية نظرية وتطبيق تأليف علي بن عبدالكريم 102 ـ 103 طبع عمان 1405.
________________________________________
(176)
2 ـ من هم الذين يختارون أهل الشورى ؟
3 ـ لو اختلف أهل الشورى في شخص أو أمر ، ما هو الملاك لتقديم رأي على آخر ؟ إلى غير ذلك من الأسئلة المطروحة التي ترتبط بنظام الشورى المجمل ، ولا يستطيع أحد أن يجيب عنها إلا رجماً بالغيب.
ثمّ إنّ القوم ربّما يعبّرون عن صيغة الحكومة باتّفاق أهل الحل والعقد ، وهذه الكلمة أشد غموضاً من السابقة إذا لا يعرف الانسان من هم أهل الحل والعقد ، وماذا يُحلِّون وماذا يعقِدون ؟ أهم أصحاب الفقه والرأي الذين يرجع إليهم الناس فيما ينوبهم من حوادث ؟ وهل هناك درجة معيّنة من الفقه والعلم إذا بلغها الانسان صار من أهل الحل والعقد ؟ ما هي تلك الدرجة ؟ وبأي ميزان توزن ؟ ولأجل هذه الابهامات حول نظام الشورى أوّلاً ، وأهل الحل والعقد ثانياً ، تنبّه بعض دكاترة العصر إلى وهن هذه النظرية.
قال الدكتور طه حسين : لو كان للمسلمين هذا النظام المكتوب أي نظام الشورى ، لعرف المسلمون في أيام عثمان ما يأتون من ذلك ، وما يدعون ، دون أن تكون بينهم فرقة أو اختلاف.
و قال الخطيب : إنّ كلمة أهل العقد والحل لأغمض غموضاً من كلمة الأفراد المسؤولين (1).
كل ذلك يعرب عن أنّ مسألة نظام الشورى انّما اخترعها المتقمّصون للخلافة في أيام الأمويين.
________________________________________
1 ـ الخلافة والامامة للخطيب عبد الكريم 271.
________________________________________
(177)
آيتان حول الشورى :
إنّ القائلين بكون الحكم بعد رحلة الرسول الأعظم ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) هو الشورى ، استدلّوا بأمرين :
1 ـ الآيتان الواردتان حول الشورى.
2 ـ انّ خلافة الخلفاء تمّت بالشورى.
و نحن نبحث عن كلا الموضوعين بوجه موجز ، ونحيل التفصيل إلى الموسوعات الكلامية ، وإليك الآية الاُولى وتحليلها :
1 ـ ( فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِر لَهُمْ وشاوِرهُمْ فِى الأمْرِ فإذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ ) (1).
إنّ الاستدلال بها سببه الغفلة عن موردها ومضمونها فإنّ الخطاب فيها موجّه إلى الحاكم الذي فرضه سبحانه حاكماً على الاُمّة ، فيأمره أن يشاور أفراد الاُمّة فلا صلة للآية بالمدعى. فإنّ أقصى ما تفيده الآية هو أن لا يكون الحكاكم الاسلامي الذي تمّت سلطته ، مستبدّاً في أعماله ، وأمّا أنّ الامام ، يتعيّن عن طريق الشورى فالآية لا تدل عليه ، والذي يؤكّد ما قلناه انّه يأمر النبيّ بعد المشاورة. بالتوكّل عند العزم. وأنّ له الرأي النهائي والأخير.
والحاصل : انّ الآية خطاب للحاكم الاسلامي وأنّ عليه المشورة أوّلاً وأخذ التصميم النهائي ثانياً , وأمّا أنّ الحاكم الاسلامي يتعيّن من جانب الشورى ، فالآية أجنبية عنه فانّ الخطاب في الآية للحاكم لا لغيره.
وأمّا الآية الثانية : أعني قوله سبحانه في صفات المؤمنين : ( وأمْرُهُمْ
________________________________________
1 ـ آل عمران / 159.
________________________________________
(178)
شُورى بَيْنَهُمْ ) (1) فهي تحثّ المؤمنين إلى المشورة في جميع الاُمور المرتبطة بهم وأمّا أنّ أمر الخلافة والولاية ، من الاُمور المرتبطة بهم فلا تظهر من الآية. والتمسّك بها في مثل هذه المقام المردّد بين كونه من اُمور المؤمنين أو ممّا يرجع إلى اللّه ونبيّه تمسّك بالعام عند الشبهة المصداقية.
و بعبارة اُخرى : انّ الامامة لو كانت أمراً إلهيّاً. متوقّفاً على ولاية مفاضة من اللّه سبحانه وإلى الولي يكون من الاُمور المربوطة باللّه ورسوله ، وأمّا لو كانت امرة عرفية وولاية شعبية تكون من الاُمور المتعلّقة بالمؤمنين وفي مثله حيث الأمر مردّد لا يمكن التمسّك بالعموم واثبات انّ الولاية من شؤون المؤمنين.
أضف إلى ذلك انّه لو كان أساس الحكم في الاسلام هو الشورى لوجب على الرسول الأكرم بيان تفاصيلها وخصوصياتها وخطوطها العريضة. على ما عرفت تفصيلا.
ولأجل عدم وجود أيّ ايضاح من قبل النبيّ حول النظام المذكور ، التجأ الكاتب المصري إلى رفض أن يكون ذلك أساساً للحكم وانّما كانت تجربة من المسلمين بعد رحلة الرسول ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ).
يقول : « ينظر بعضهم إليه على انّه ( أي تعيين الامام بالشورى ) نواة صالحة لأوّل تجربة ، وانّ الأيام كفيلة بأن تنميها وتستكمل ما يبدو فيها من نقص فلم تكن الأحوال التي تمّت فيها هذه التجربة تسمح بأكثر ممّا حدث ، إذ لم يكن من المستطاع ـ حينذاك الوقوف على رأي الاُمّة كلّها ، فرداً فرداً ـ فيمن يخلف النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وينظر بعض آخر إلى هذا الاسلوب بأنّه اُسلوب بدائي عالج أهم مشكلة في الحياة وقد كان لهذا الاسلوب أثر في تعطيل القوى المفكرّة
________________________________________
1 ـ الشورى / 38.
________________________________________
(179)
للبحث عن اسلوب آخر من أساليب الحكم التي جريتها الاُمم » (1).
ومعنى ذلك انّ الرسالة العالمية الخاتمة لجميع الرسالات قد أهملت هذا الجانب المصيري في حياة الاُمّة ، وانّه اهتمّ بكل صغير وكبير سوى هذا الأمر الخطير الذي به يناط بقاء الاسلام واستمراره. علماً انّ الظروف كانت مساعدة لوصول ذلك ولا مانع يعترض الطريق.
خلافة الخلفاء ومسألة الشورى :
هذا كلّه حول الدليل الأول وأمّا الدليل الثاني. وهو انّ خلافة الخلفاء تمّت عن هذا الطريق فهو أوهن وأضعف من الأوّل فمن قرأ تاريخ السقيفة وانتخاب الخلفاء الثلاثة يقف على أنّه لم يكن هناك أي مشورة ولا استشارة وانّما تمّت خلافة الأول في جوّ إرهابي وفي محفل ساد فيه ، السب والشتم والضرب. إلى غير ذلك من الأفعال الشنيعة التي لا تليق بمجلس كهذا.
كما انّ خلافة الثاني تمّت بتنصيص من الخليفة الأول وانّه استبدّ بالأمر ولم يدع مجالاً للاُمّة.
و أمّا خلافة الثالث فهي وإن كانت مصبوغة بصبغة الشورى ولكن الخليفة هو الذي عيّن أعضاء الشورى واستبدّ بالأمر وعيّن المرشحين للخلافة بل كان ما قام به يؤدي إلى تعيّن الخليفة. ومثل ذلك لا ينطق عليه شروط الشورى وانّما كان استبداداً في لباس الحرية.
وإن كنت في شك ممّا تلوناه عليك فلندرس تاريخ انتخاب الخلفاء عن كثب.
________________________________________
1 ـ الخلافة والامامة : عبد الكريم الخطيب 272.
________________________________________
(180)
1 ـ السقيفة وخلافة أبي بكر :
توفّي رسول اللّه وكان أبوبكر خارج المدينة فقام عمر بن الخطاب فقال : إنّ رجالاً من المنافقين يزعمون أنّ رسول اللّه قد توفّي ، وانّ رسول اللّه ما مات ، ولكن ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل أنّه قد مات فواللّه ليرجعنّ رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) عمّا رجع موسى وليقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنّ رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) مات فما زال عمر يتكلّم حتّى أزبد شدقاه. فقال العباس : إنّ رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) يأسن كما يأسن البشر. وانّ رسول اللّه قد مات فادفنوا صاحبكم أيميت أحدكم إماتة ويُميته إماتتين ؟ هو أكرم على اللّه من ذلك فان كان كما تقولون فليس على اللّه بعزيز أن يبحث عنه التراب فيخرجه إن شاء اللّه.
وما زال الجدال مستمرّاً بين عمر والعباس وشاركهم سائر المسلمين إلى أن نزل أبوبكر من السُنح فسمع مقالة عمر فدخل البيت فكشف عن وجه النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) فقبّله وقال : بأبي أنت واُمّي طبت حيّاً وميّتاً والذي نفسي بيده لا يذيقك اللّه الموتتين أبداً (1). ثم خرج فقال : على رِسْلِك يا عمر. فجلس عمر. فحمداللّه أبوبكر وأثنى عليه ثم قال : ألا من كان يعبد محمّداً فإنّ محمّداً قد مات ، ومن كان يعبد اللّه فانّ اللّه حىّ لا يَمُوت وقال : ( إنّكَ مَيِّتٌ وإنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) وقال : ( وما مُحَمَّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبلِهِ الرُّسُلُ أفَاِنْ ماتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وسَيَجْزِى اللّهُ الشّاكرِينَ ) فتشنّج الناس. فقال عمر : واللّه ما هو إلاّ أن
________________________________________
1 ـ أين الوهابيون من موقف الخليفة هذا ، حيث أخذ يخاطب النبي وهو ميّت ، ويقبّله ويتبرّك به ، ويقول بأبيه واُمّه له.
(181)
سمعت أبابكر تلاها فدهشت. حتّى وقعت إلى الأرض ، وعرفت أنّ رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) قد مات (1).
نقاش مع الخليفة :
هناك تساؤلات تطرح نفسها ولعلّه كان عند الخليفة أجوبة لها أو أنّ القارئ ، يتفطّن للاجابة عنها وهي :
1 ـ انّ موت النبي الأكرم ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) لم يكن فُجائيّاً بل كان بعد مرض ألمّ به عدّة أيام فكانت القرائن والشواهد تدل على أنّه قد دنى فراقه للاُمّة وقد صرّح بذلك في غير واحد من أصحابه ، آخرها طلبه للقلم والدواة وكتابة الصحيفة الوصية للاُمّة حتّى لا تضلّ الاُمّة من بعده وقد حال الخليفة الثاني بين النبي واُمنيته وقال ما قال (2).
وعندئذ فكيف أذعن بأنّ النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ما مات وإنّما غاب كغيبة موسى وقد أصرّ على ذلك حتّى ازبد شدقاه ولم يكن بين الصحابة من يدافع عن تلك العقيدة. سوى نفسه.
فهل كان الخليفة موقناً بذلك جدّاً أو أنّه كان له في تبنّي هذه الفكرة ( لساناً لا قلباً ) هدفاً سياسيّاً يخبّئ فيه مصالحه أو مصالح الاُمّة ؟
2 ـ هل كانت الغيبة سنّة رائجة بين جميع الأنبياء أو كانت من مختصّات بعض الأنبياء كالكليم ونحوه. ولو صحّ الثاني كما هو الحق فما هو الوجه في الحاقه بالنادر ؟
________________________________________
1 ـ السيرة النبوية : ابن هشام 655 ، الطبقات الكبرى 2 / 268 ـ 269.
2 ـ البخاري : الصحيح ، كتاب العلم 1 / 22 وح 2 / 14.
________________________________________
(182)
3 ـ نرى أنّ عم النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) العباس ، واجهه بما واجه به أبوبكر وهو أنّ النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) أكرم من أن يُميته سبحانه موتتين. مع أنّه لم يقتنع بكلامه بل اقتنع بما ذكره أبوبكر.
4 ـ انّه كان مصرّاً على الغيبة مادام ابو بكر غائباً عن المدينة ، فلمّا نزل من السُنح وأدلى بمقاله سرعان ما تراجع عن موقفه ، وأىّ سرّ كان في هذا الرجوع السريع عن فكرة كان يستميت في الدفاع عنها ؟
5 ـ كيف يقتنع القارئ بأنّ الخليفة لم يكن ذاكراً قوله سبحانه ( إنَّك ميّت وإنّهم ميّتون ) وقوله سبحانه : ( وما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل ) وغيرهما ؟
هذه الأسئلة لم نجد لها أجوبة شافية ومن المحتمل جداً أن يكون وراء الكواليس شيئاً ما. وأن تكون اطروحة الغيبة مناورة سياسية ، الغاية منها منع المسلمين من اتّخاذ أىّ موقف في المسائل المصيرية للاُمّة حتّى يجيء أبوبكر من السُنح ويجتمعا على رأي واحد. ولأجل ذلك تنازل عن موقفه بعد ما جاء أبوبكر من خارج البلد. فاتّخذا موقفاً واحداً ، تجاه المسائل المصيرية.
مأساة السقيفة :
كان علي بن أبي طالب وجمهور المهاجرين منهمكين في تجهيز النبي فوقف الخليفتان على اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة للتداول في مسألة الخلافة. فقال عمر لأبي بكر : انطلق بنا إلى اخواننا هؤلاء من الأنصار ما هم عليه فدخلا ومعهما بعض المهاجرين كأبي عبيدة بن الجراح وكان خطيب الأنصار ونقيبهم سعد بن عبادة يخطب ويحث الأنصار على الأخذ بمقاليد الخلافة بحجّة أنّهم آووا النبي الأكرم عندما أخرجه قومه. وضحّوا في سبيل دعوته بكل غال ورخيص.
________________________________________
(183)
فلمّا أتمّ كلامه ابتدأ أبوبكر بالبحث والكلام فاستند إلى أنّ اللائق بالخلافة هو قوم النبي وقبيلته بحجّة أنّهم أوسط العرب داراً وأحسنهم احساباً ولم يكتف بذلك حتّى أخذ بيد عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح ورشحهما للبيعة.
ترى أنّ الطائفتين اتّخذوا في حل مشكلة الخلافة قواعداً كانت سائدة في عصر الجاهلية فالأنصار ترى نفسها أحق بالخلافة لحمايتها النبي الأكرم وتقديم المأوى له ، وأمّا هؤلاء الحاضرون من المهاجرين فاحتجّوا يحتمل ما احتجّت به الأنصار وهو أنّ قريش أوسط داراً وأحسن نسباً.
ولم يكن هناك من يذكّر ويوقفهم على أنّ الإسلام عصف بهذه الأساليب من الاحتجاجات وحطّم أحكام الجاهلية (1)
فلو كان هناك مشورة اسلامية كان عليهم أن يتفحّصوا عن أعلم القوم بالكتاب والسنّة وأكثرهم دراية بهما. وأسوسهم وأخشنهم في ذات اللّه وأسبقهم إلى الايمان والإسلام. كما هو الوارد عن الكتاب والسنّة قال سبحانه : ( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الاَْرضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وآتَوُاْ الزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ ونَهَوْاْ عَنِ المُنكَرِ وللهِ عَاقِبةُ الاُمُورِ ) (2).
وقال النبي الأكرم لا تصلح الإمامة إلاّ لرجل فيه خصال ثلاث :
1 ـ ورع يحجزه عن معاصي اللّه.
2 ـ وحلم يملك به غضبه.
3 ـ وحسن الولاية على من يلي حتّى يكون كالأب الرحيم (3).
________________________________________
1 ـ لاحظ : في الوقوف على احتجاج الطائفتين ، السيرة النبوية لابن هشام 2 / 659 والطبقات الكبرى لابن سعد 2 / 269 وتاريخ الطبري 2 / 442 ـ 446.
2 ـ الحج / 41.
3 ـ الكافي للكليني 1 / 407.
________________________________________
(184)
وقال الامام علي : « أيّها الناس إنّ أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه ، وأعلمهم بأمر اللّه فإن شغب شاغب استعتب فإن أبي قوتل » (1).
وقال ( صلوات اللّه عليه ) أيضاً عندما قال قال كلام « إنّك على هذا الأمر يا بن أبي طالب لحريص ، فقلت : بل أنتم واللّه لأحرص وأبعد ، وأنا أخصّ وأقرب ، وانّما طلبت حقاً لي وأنتم تحولون بيني وبينه وتضربون وجهي (2).
وقال الامام السبط الطاهر الحسين بن علي ( عليهما السلام ) فما الامام إلا الحاكم بالكتاب ، الدائن بدين الحق ، القائم بالقسط ، الحابس نفسه على ذات اللّه (3).
و أين هذه الملاكات والضوابط ممّا جاء في احتجاجات المهاجرين والأنصار وكأنّهم لم يسمعوا قول اللّه سبحانه : ( أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُون ) (4).
ما سمعت من الكلمات ، كانت احتجاجاتهم وشعاراتهم في نادي السقيفة وأمّا ما قاموا به من الأعمال المخزية أو ما صدر منهم من الضرب والسباب ، فحدّث عنه ولا حرج. وبذلك تقف على أنّه لم تكن هنا أي مشورة ، ولا تلاقح فكري وانّما كان أشبه بملعب يتسابق فيه لأخذ كرة الخلافة بأي طريق حصل وإن كنت في شك منها فاستمع لما نتلوه عليك من المصادر الموثقة.
هذا الحباب بن المنذر الصحابي البدري الأنصاري قد انتضى سيفه على أبي بكر وكان داعياً إلى قيادة الأنصار وقال : « واللّه لا يرد عليَّ أحد ما أقول إلا
________________________________________
1 ـ نهج البلاغة ، قسم الخطب برقم 173.
2 ـ نهج البلاغة ، قسم الخطب برقم 172.
3 ـ روضة الواعظين 206.
4 ـ الأنبياء / 105.
________________________________________
(185)
حطّمت أنفه بالسيف ، أنا جُذيلها المحكّك ( أصل الشجرة ) وعُذيقها المرجَّب ( النخلة المشتملة بالتمر ) أنا أبو شبل في عرينة الأسد ، يعزي إلىّ الأسد » (1).
وهو بكلامه هذا يتهدّد كل من يحاول اخراج القيادة من الأنصار وأقرارها لغيرهم.
وها هو آخر ( وهو سعد بن عبادة ) يخالف مبايعة أبي بكر وينادي : « أنا أرميكم بكل سهم في كنانتي من نبل ، وأخضب منكم سناني ورمحي ، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي واُقاتلكم مع من معي من أهلي وعشيرتي » (2).
وها هو ثالث يتذمّر من تلك البيعة ويشب نار الحرب بقوله : « إنّي لأرى عجاجة لا يطفئها إلا الدم » (3).
وهذا هو سعد بن عبادة أمير الخزرج الذي طلب أن تكون الخلافة في الأنصار يداس بالأقدام ، وينزي عليه وينادي عليه بغضب : « اقتلوا سعداً قتله اللّه إنّه منافق أو صاحب فتنة » وقد قام عمر على رأسه ويقول : « لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضوك أو تندر عيونك » (4).
فإذا بقيس بن سعد يأخذ بلحية عمر ويقول : « واللّه لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة ! أو لخفضت منه شعرة ما رجعت وفي فيك جارحة » (5).
وهذا نفس عمر بن الخطاب يصف تكل المشاجرة بقوله : « كثر اللغط
________________________________________
1 ـ شرح ابن أبي الحديد 2 / 16.
2 ـ الغدير 7 / 76.
3 ـ الامامة والسياسة 1 / 11 ، تاريخ الطبري 3 / 210.
4 ـ مسند أحمد 1 / 56 ، تاريخ الطبري 3 / 210 ، وغيرهما.
5 ـ تاريخ الطبري 3 / 210 ، السيرة الحلبية 3 / 387.
________________________________________
(186)
وارتفعت الاصوات حتى تخوّفت الاختلاف ، فقلت : ابسط يديك يا أبابكر ، فبسط يده ، فبايعته ، ثم بايعه المهاجرون ، ونزونا على سعد بن عبادة ، فقال قائل منهم : قتلتم سعد بن عبادة ، فقلت : قتل اللّه سعد بن عبادة » (1).
إنّ الشورى الاسلامية حسب ما توحي كلمتها السامية ، لا تنعقد إلا بدراسة الموضوع دراسة موضوعية واقعية ، وأن تكون هناك حرّية في الرأي والنظر. ونزاهة في الكلام ، ويقوم مندوب كل جماعة بإدلاء رأية بدليل وبرهان ، وربّما تتطلّب دراسة مثل ذلك الموضوع الحيوي عقد مجالس متعدّدة حتى يصل من خلالها المسلمون إلى ألامثل فالأمثل في موضوع القيادة ، وأمّا المجلس الذي تسل فيه السيوف على المخالف ، ويداس المقابل بالأقدام ، فهذا أشبه ، بميدان الحرب والقتال لا المفاهمة والمشاورة ، بل أشبه ...
هذا حال السقيفة وأما ما جرى بعد السقيفة فحدّث عنه ولا حرج ، فقد خرج الخليفة من السقيفة مع من بايعوه فلم يلاقوا أحداً في الطريق إلا وضعوا يده على يد الخليفة بيعة له.
ثمّ إنّ علياً وجماعة معه كانوا متخلّفين عن البيعة ، ولمّا كان تخلّفه ومن معه من أصحابه اخلالاً بالبيعة ، بعث أبو بكر عمر بن الخطاب إلى بيت علي وفاطمة ، ليتهدّدوا اللائذين به ، الممتنعين عن مبايعته ، وقال له : إن أبوا فقاتلهم ، وأتى عمر إلى بيت فاطمه وهو يقول : واللّه لنحرقنّ عليك أو لتخرجنّ إلى البيعة ، فقالت فاطمة لمّا سمعت ذلك صائحة منادية : « يا أبت يا رسول اللّه ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة » (2).
________________________________________
1 ـ السيرة النبوية لابن هشام 2 / 660.
2 ـ تاريخ الطبري 3 / 210 ، الامامة والسياسة لابن قتيبة 1 / 13.
________________________________________
(187)
ثمّ بعد هنّ وهنات اُخرج الأمام من بيته ، وقادوه إلى البيعة كما يقاد البعير المخشوش ، وسيق سوقاً عنيفاً ، وقالوا له : بايع ، فيقول : « إن أنا لم أفعل فمه ؟ » فيقال : واللّه الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك ، فقال علي : « إذن تقتلون عبد اللّه وأخا رسول اللّه » (1).
و لم يكن الضغط منحصراً في علي ، بل لمّا سمع الزبير ما جرى في السقيفّة سلّ سيفه وقال : لا أغمده حتى يبايع علي ، فيقول عمر : عليكم الكلب ، فيؤخذ سيفه من يده ، ويضرب به الحجر فيكسر (2).
هذه صورة اجمالية وضعناها أمام القارئ ليقف على مدى صحّة الشورى التي بنيت عليها خلافة الخليفة الأوّل ، ثمّ هو عقد الخلافة بنفسه لعمر من دون أي مشاورة للمسلمين (3) كما فوّض الثاني أمر الخلافة إلى ستّة وقد استبدّ في تعيينهم من دون مشورة ، وليس هذا شيئاً ينكر أو يشك فيه(4).
وقد بلغت فضاحة الأمر في السقيفة إلى حدّ يصفه عمر بقوله : كانت بيعة أبي بكر فلتة كفلتة الجاهلية وقى اللّه المسلمين شرّها. أو قال : كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمّت ، وانّها قد كانت كذلك إلا أنّ اللّه قد وقى شرّها ، فمن بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين ، فانّه لا بيعة له (5).
________________________________________
1 ـ الامامة والسياسة 1 / 13.
2 ـ تاريخ الطبري 3 / 199 ، الامامة والسياسة 1 / 11.
3 ـ سيأتي مصدره.
4 ـ سيأتي مصدره.
5 ـ السيرة النبوية 2 / 658 ، تاريخ الطبري 2 / 446.
________________________________________
(188)
الخلفاء وتناسي الشورى :
قد درسنا كيفية انعقاد الامامة لأوّل الخلفاء ، هلمّ معي ندرس خلافة غيره ، فسوف ترى أنّه لم يكن هناك أيّ مشورة ولا أيّ استفتاء شعبي ، ولا أيّ ديمقراطية كما يدّعيها بعض الكتّاب المعاصرون.
روى المؤرّخون : انّه دعا أبوبكر عثمان بن عفان ، فقال : اكتب عهدي ، فكتب عثمان وأملى عليه : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، هذا ما عهد به أبوبكر بن أبي قحافة آخر عهده بالدنيا ، نازحاً عنها ، وأوّل عهده بالآخرة داخلاً فيها ، إنّي أستخلف عليكم عمر بن الخطاب ... (1).
والانسان عندما يقرأ هذه الصفحة من التاريخ ، يقف على قيمة ما ذكره الامام ، عندما رفعوا السيف على رأسه ليبايع أبابكر ، فقال : « احلب يا عمر حلباً لك شطره ، اُشدد له اليوم أمره ، ليردّه عليك غداً ، ألا واللّه لا أقبل قولك ولا اُبايع » (2) فو اللّه ، لقد تحقّق قول الامام حيث ردّ عليه الأمر من بعد ، كما عرفت.
وهذا عمر بن الخطّاب ، فبعد ما جرح ودنا أجله قال : سأستخلف النفر الذين توفّي رسول اللّه وهو عنهم راض ، فأرسل إليهم فجمعهم وهم : علي بن أبي طالب ، وعثمان بن عفّان ، وطلحة ، والزبير بن العوّام ، وسعد بن أبي وقّاص ، وعبد الرحمان بن عوف ، وكان طلحة غائباً.
فقال : يا معشر المهاجرين الأوّلين ، إنّي نظرت في أمر الناس فلم أجد فيهم شقاقاً ولا نفاقاً فإن يكن بعدي شقاق ونفاق فهو فيكم فتشاوروا ثلاثة أيّام ، فإن جاءكم طلحة إلى ذلك وإلا فأعزم عليكم أن لا تتفرّقوا من اليوم الثالث حتى
________________________________________
1 ـ الامام والسياسية لابن قتيبة 18 ، الكامل في التاريخ 2 / 425.
2 ـ الامامة والسياسة 23 ، الكامل 3 / 35.
________________________________________
(189)
تستخلفوا أحدكم.
ثم قال لصهيب : « صلّ بالناس ثلاثة أيام وأدخل هؤلاء الرهط بيتاً وقم على رؤوسهم فإن اجتمع خمسة وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف ... وإن اتّفق أربعة وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما ... فان رضى ثلاثة رجلا وثلاثة رجلا ، فحكّموا عبد اللّه بن عمر فإن لم يرضوا بحكم عبد اللّه بن عمر ، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمان بن عوف واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع عليه الناس » (1).
« فلما دفن عمر جمعهم أبو طلحة ووقف على باب البيت بالسيف في خمسين من الأنصار ، حاملي سيوفهم ثم تكلّم القوم وتنازعوا فأوّل ما عمل طلحة أنّه أشهدهم على نفسه أنّه قد وهب حقّه من الشورى لعثمان ، وذلك لعلمه أنّ الناس لا يعدلون به عليّاً وعثماناً ، وانّ الخلافة لا تخلص له وهما موجودان فأراد تقوية أمر عثمان وإضعاف جانب علي ( عليه السلام ) بهبة أمر لا انتفاع له به ولا تمكّن له منه.
ولمّا رأي الزبير أنّ علياً قد ضعف ، وانخذل بهبة طلحة حقه لعثمان دخلته حميّة النسب فوهب حقه من الشورى لعلي. لأنّه ابن عمّته. وهي صفية بنت عبد المطلب وأبو طالب خاله.
وقال سعد بن أبي وقاص : أنا قد وهبت حقي من الشورى لابن عمي عبد الرحمان وذلك لأنّهما من بني زهرة ولعلمه أنّ الأمر لا يتم له.
فلما لم يبق إلا الثلاثة. علي وعثمان وعبد الرحمن ولكن واحد صوتان وبما أنّ عمر بن الخطاب قال في وصيته لأبي طلحة الأنصاري : بأنّه إذا تساوت الآراء فرجّح الفئة التي فيها عبد الرحمن بن عوف. ومن المعلوم أنّ عبد الرحمان ما كان يميل إلى علي ويترك نفسه أو صهره عثمان ، ولأجل ذلك قام بلعبة اُخرى يريد بها
________________________________________
1 ـ تاريخ الطبري 3 / 294.
________________________________________
(190)
حرمان علي.
فقال عبد الرحمان لعلي وعثمان : أيّكما يخرج نفسه من الخلافة ويكون إليه الأختيار في الأثنين الباقيين ؟ فلم يتكلّم منهما أحد ، فقال عبد الرحمان : اشهدكم انّني قد أخرجت نفسي من الخلافة على أن أختار أحدكما ، فامسكا فبدأ بعلي ( عليه السلام ) وقال له : اُبايعك على كتاب اللّه وسنّة الرسول ـ صلّى اللّه عليه و آله وسلّم ـ وسيرة الشيخين : أبي بكر وعمر ، فقال : بل على كتاب اللّه وسنّة الرسول واجتهاد رأيي ، فعدل عنه الى عثمان فعرض عليه ذلك ، فقال : نعم فعاد إلى علي ( عليه السلام ) فأعاد قوله ، وفعل ذلك عبد الرحمان ثلاثاً ، فلمّا رأى أنّ علياً غير راحع عمّا قاله وأنّ عثمان يَنْعم له بالاجابة صفّق على يد عثمان ، وقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، فيقال : إنّ عليّاً ( عليه السلام ) قال له : واللّه ما فعلتها إلا لأنّك رجوت منه ما رجاه صاحبكما من صاحبه دقَّ اللّه بينكما عطر « منشم ».
قيل : ففسد ذلك بين عثمان وعبد الرحمان فلم يكلّم أحدهما صاحبه حتى مات عبد الرحمان (1).
شورى سداسية أو لعبة سياسية ؟ :
إذا ألقيت نظرة على كيفية تشكيل الشورى وأعضائها أدركت أنّها كانت لعبة سياسية وكان الهدف منها تسليم الخلافة إلى عثمان ولكن بصبغة شرعية وقانونية. إذ لم تكن الظروف تسمح بتنصيبه أو الايصاء به صريحاً. فدقّ الخليفة باب الشورى
________________________________________
1 ـ الطبري : التاريخ 3 ، الجزري : الكامل 3 وشرح بن أبي الحديد 1 / 188 ، و« منشم » اسم امرأة عطَّارة بمكة وكانت خزاعة وجرهم إذا أرادوا القتال تطيّبوا بطيبها وكانوا إذا فعلوا ذلك كثرت القتلى فكان يقال أشأم من عطر منشم ، لاحظ الصحاح للجوهري.
(191)
حتى يسّد به أفواه المعترضين بالقدر الميسور. وكانت الغاية واضحة لدى المطّلعين على خبايا الاُمور. منهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) حيث قال لعمّه العباس : عُدل بالأمر عنّي يا عم قال : وما عيبك ، قال : قرن بي عثمان ، وقال عمر : كونوا مع الأكثر فان رضى رجلان رجلاً ، ورجلان ورجلاً ، فكونوا مع عبد الرحمان بن عوف ، فسعد لا يخالف ابن عمه ( عبد الرحمان بن عوف ) وعبد الرحمان صهر عثمان لا يختلفان (1).
و قال ابن عباس : الرجل يريد أن يكون الأمر في عثمان (2).
و قد نال الخليفة بغيته من خلال الاُمور التالية :
1 ـ إنّ الشخصيات المشاركة في الشورى فرضت من جانب الخليفة وقد احتكر ذلك الحق لنفسه وسلبه عن الاُمة ـ ولو كان الانتخاب بيد الاُمة ربّما كان المصير على خلاف ما أراده. فأدخل في الشورى رجالاً يسيرون على الخط الذي رسمه الخليفة في نفسه.
و برّر الخليفة حصر أعضاء الشورى فيهم بأنّ النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) مات وهو راض عنهم وهو تبرير تافه ، فانّ النبي مات وهو راض عن غير هؤلاء أيضاً ولقد أثنى على عدّة من أصحابه كأبي ذر الغفاري وعمّار بن ياسر وجابر بن عبد اللّه الأنصاري ، وأبي أيوب مضيّفه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وغيرهم بيد أنّ هؤلاء لمّا كانوا لا يحققون مطامع الخليفة أعرض عنهم وأدلى بأسماء هؤلاء الذين يتجاوبون مع ما يريد.
2 ـ انتخب رجالاً لعضوية الشورى كانوا مختلفي النزعة والهوى ولكن
________________________________________
1 ـ شرح النهج 1 / 191.
2 ـ شرح النهج 1 / 189.
________________________________________
(192)
الجامع بين أغلبهم هو الانحراف عن علي ( عليه السلام ) واضمار العداء له. فعند ذلك أصبح اقصاء عليّ أمراً محتوماً إن لم نقل انّ تعيين عثمان أضحى أمراً مفروضاً وذلك لأنّ طلحة بن عبيد اللّه كان معروفاً بعدائه لعلي وانحارفه عنه. فلأجل ذلك وهب حقّه لعثمان تضعيفاً لجانب علي.
إنّ سعد بن أبي وقاص كان ابن عم عبد الرحمان بن عوف وكلاهما من بني زهرة فلا يميل إلى علي وفي الشورى واحد من عشيرته.
وعبد الرحمان بن عوف كان صهر عثمان. لأنّ اُمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط كانت زوجته وهي اُخت عثمان من اُمّه.
على هذا كانت تشهد القرائن على أنّ الخليفة كان يضمر حرمان علي من الخلافة. ولم يكن في الشورى منافس لعلي سوى عثمان ، فطبع الحال كان يوحي بأنّ عثمان هو الذي سيأخذ بمقاليد الحكم. إذ لم يكن لسائر الأعضاء الأربعة مكانة اجتماعية مثل علي وعثمان بل لم يكن لهم إربة في الخلافة وإنّما أطمعهم فيها الخليفة للتوصّل إلى مأربه.
3 ـ انّه لما كان من المحتمل أن تتساوى الأصوات بين علي وعثمان جعل الرجحان والتقديم للفئة التي فيها عبد الرحمان بن عوف فكأنّه جعل صوته صوتين. وأمّا عبد الرحمان بن عوف ( وهو ذلك الرجل الثري الذي ترك كمية هائلة من الذهب والفضة وقد كُسرت بالفؤوس عند تقسيمها ) فهل يترك عثمان ويميل إلى علي وانّ الطيور على أشكالها تقع.
وبالتالي لم يفسد الخليفة على علي في هذه الواقعة فحسب بل افسده على علي بعد رحيل عثمان حيث إنّ ادخال هؤلاء في الشورى أطمعهم في الخلافة وجعلهم يعتقدون في أنفسهم بانّهم مؤهّلين لها وأنّهم أعدال علي وأقرانه. ولأجل ذلك قاموا في وجه الامام علي يدّعون الخلافة لأنفسهم تحت غطاء أخذ الثأر لعثمان.
________________________________________
(193)
إنّ الامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قد أفصح بما يكنّه ضميره حول وصية الشورى ، فقال في بعض خطبه : « فيا للّه والشورى ، متى اعترض الريب فيّ مع الأوّل حتى صرت اُقرن إلى هذه النظائر ، لكنّي أسففت إذ أسفّوا. وطرت إذ طاروا. فصغا رجل منهم لضغنه ، ومال الآخر لصهره مع هن وهن » (1).
و هذا كلام علي في أواخر أيامه. فقد اعترض هو أيضاً في أيام الشورى وكذلك فعل أصحابه فروى الطبري أنّ عبد الرحمان قال : أيّها الناس أشيروا عليّ في هذين الرجلين ؟ فقال عمّار بن ياسر : إنّ أردت أن لا يختلف الناس فبايع علياً. فقال المقداد : صدق عمّار ، وإن بايعت علياً سمعنا وأطعنا ، فقال عبد اللّه بن أبي سرح : إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان ، وقال عبد اللّه بن أبي ربيعة المخزومي : صدق ، إن بايعت عثمان سمعنا وأطعنا ، فشتم عمّار بن أبي سرح وقال له : متى كنت تنصح الاسلام ؟!
فتكلّم بنو هاشم وبنو اُميّة وقام عمّار وقال : أيّها الناس إنّ اللّه أكرمكم بنبيّه وأعزّكم بدينه فإلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيّكم. فقال رجل من بني مخزوم : لقد عدوت طورك يابن سمية وما أنت وتأمير قريش لأنفسها. فقال سعد : يا عبد الرحمان أفرغ من أمرك قبل أن يفتتن الناس فحينئذ عرض عبد الرحمان على علي ( عليه السلام ) العمل بسيرة الشيخين.
فقال : بل أجتهد برأيي فبايع عثمان بعد أن عرض عليه فقال : نعم ، فقال علي ( عليه السلام ) : ليس هذا بأوّل يوم تظاهرتم فيه علينا فصبر جميل واللّه المستعان على ما
________________________________________
1 ـ نهج البلاغة ، قسم الخطب / الخطبة 3.
________________________________________
(194)
تصفون واللّه ما ولّيته الأمر إلا ليردّه إليك واللّه كل يوم في شأن (1).
و بهذا تبين أنّ الشورى كانت نظرية بدون تطبيق وكانت اسماً بلا مسمى.
إجابه عن سؤال :
إذا لم تكن الشورى مبدأ للحكم في الاسلام ، فماذا يعني الامام علي من قوله في رسالته إلى معاوية حيث يقول : إنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبابكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ، ولا للغائب أن يردّ ، إنّما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضاً (2).
نقول : إنّ ابن أبي الحديد أوّل من احتجّ بهذه الخطبة ، على أنّ نظام الحكومة بعد وفاة النبيّ هو نظام الشورى ، وتبعه البعض غفلة عن حقيقة المراد ، وذلك لأنّ ملاحظة اسلوب الكلام ، وما صدَّر به الامام رسالته ، أعني قوله : « انّه بايعني الذين بايعوا أبابكر وعمر وعثمان » تدل بوضوح على أنّ الامام كان في مقام الاحتجاج بمسلَّم الخصم ـ أعني معاوية ـ ، على قاعدة « ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم » ، فإنّه خرج عن طاعة الامام مع اعتناقه إمامة من تقدّم ، فالامام يحتجّ عليه بأنّه بايعني الذين بايعوا الثلاثة فما وجه البغي عليّ والطاعة لهم ، ولو لم يكن في مقام الجدل وافحام الخصم ، لما كان لذكر خلافة الخلفاء في صدر الرسالة وجه ، مع أنّ للامام كلمات في تخطئة الشورى التي تمّت بها ، أو بادّعائها خلافة الخلفاء ، ومن تصفّح نهج البلاغة يقف عليها.
________________________________________
1 ـ شرح النهج : لابن أبي الحديد 1 / 193 ـ 194.
2 ـ الامامة والسياسة 23 ، ونهج البلاغة قسم الرسائل ، برقم 45.
________________________________________
(195)
و العجب أنّ أحداً من المهاجرين والأنصار لم يستند في مأساة السقيفة ، إلى نظام الشورى بل استند كل من اللفيفين باُمور لا تمت إلى هذا الأصل ، فادّعى أبوبكر أنّ المهاجرين من أقوام النبيّ وعشيرته ، واحتجّ الأنصار بأنّهم هم الذين آووا الرسول ، وضّحوا بأنفسهم ونفايسهم لحراسته وحفظه ، فانظر ماذا ترى قاتل اللّه الأنانية ، وحيّا اللّه الحقيقة وحماتها.
________________________________________
(196)
________________________________________
(197)
الفصل الثامن
نصوص الخلافة والركون إلى الأمر الواقع
________________________________________
(198)
________________________________________
(199)
دلّت نصوص الخلافة الماضية ، بوضوح على أنّ الامام علياً كان هو الخليفة الشرعي والقائم بالأمر بعد الرسول وانّه كان من واجب المسلمين الرجوع إليه فيما يمت إلى حياتهم السياسية والاجتماعية والدينية ، غير أنّ رجالاً بعد النبيّ تناسوا النصّ بعد تلبية النبيّ نداء ربّه ، وانثالوا على أبي بكر ، وبعده على عمر وعثمان ، إلى أن عاد الحق إلى نصابه ، ودار الأمر على مداره. وهناك سؤال يطرحه كل من يؤمن بتواتر النصوص ووضوح دلالتها ، لما يشاهد المعارضة بينها وبين الأمر الواقع في السقيفة وما بعدها ، وانثيال كثير من المهاجرين والأنصار إلى غير علي ، فيقع في الحيرة والتعجّب ، فيقول : لو كانت النصوص النبويّة على هذا المستوى ، فلماذا أعرض عنها المسلمون ؟ ولماذا لم يطلب الامام حقّه الشرعي ؟ ولماذا رضي بالأمر الواقع ، ولم ينبس فيه ببنت شفة ؟ وهذا هو الذي نجيب عنه في المقام ، فنقول :
إنّ المهم هو بيان السرّ الذي دفع الامام إلى ترك المطالبة بحقّه بالقدرة والعنف ، وأمّا إعراض المهاجرين والأنصار ، أو في الحقيقة ـ إعراض الرؤوس منهم عن النص ، وانثيال غيرهم إليهم ، فليس هذا أمراً عجبا ، فقد أعرضوا عن كثير من النصوص ، واجتهدوا تجاهها كما تقدّم البحث عن موارده ـ. وإليك تشريح ما هم المهم :
________________________________________
(200)
إن الامام لم يسكت طول حياته عن بيان حقّه وارشاد الناس إليه ، بل أظهر عدم رضاه بالأمر الواقع وانّه تعبير آخر عن غصب حقّه ، يقف عليه كل من قرأ ماساة السقيفة في كتب التاريخ ، فلا يفوتنّك قراءة طبقات ابن سعد ، وتاريخ الطبري ، والسيرة النبوّية لابن هشام ، ولا العقد الفريد ، ولا الامامة والسياسة لابن قتيبة ، فكلّها مفعمة بشكوى الامام وعدم قبوله بالأمر الواقع ، غير انّ التكليف حسب القدرة ، ـ وبعدها ـ في ظلّ المصالح العامّة ، فلم يكن للامام قدرة على المطالبة بحقّه ، وعلى فرض وجودها كانت المصلحة تكمن يومذاك في ادلاء الأمر إلى متقمّصيها وعدم المطالبة بها بالقهر والقوّة ، وإليك ما يدل على ذينك الأمرين من خلال دراسة التاريخ.
1 ـ هذا ابن قتيبة يسرد تاريخ السقيفة ، وما فيه من مآسي ، يقول : إنّ علياً كرّم اللّه وجهه اُتي به إلى أبي بكر وهو يقول : « أنا عبد اللّه وأخو رسول اللّه » فقيل له : بايع ، فقال : « أنا أحقّ بهذا الأمر منكم ، وأنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الأمر من الأنصار ، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبيّ ، وتأخذوه من أهل البيت غصبا ! ألستم زعمتم للأنصار أنّكم أولى بهذا الأمر منهم لمّا كان محمد فيكم فسلّموا إليكم الإمارة ، فإذن أحتجُّ عليكم بمثل ما احتججتم على الأنصار. نحن أولى برسول اللّه حيّاً وميتاً ، فأنصفوا إن كنتم تؤمنون ، وإلا فبوءوا بالظظلم وأنتم تعلمون. فقال له عمر : إنّك لست متروكاً حتى تبايع ، فقال له علي : « احلب حلباً لك شطره ، وشُدَّ له اليوم ، يردده عليك غداً ـ ثمّ قال : ـ واللّه يا عمر لا أقبل قولك ولا اُبايعه » فقال له أبوبكر : فإن لم تبايع فلا اُكرهك ، فقال أبو عبيدة بن الجرّاح لعلي كرم اللّه وجهه : يا ابن عم إنّك حديث السن وهؤلاء مشيخة قومك ، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالاُمور ولا أرى أبابكر إلا أقوى على هذا الأمر منك وأشدّ احتمالاً واستطلاعا ، فسلِّم لأبي بكر فإنّك إن تعش ويطل لك بقاء ،
(201)
فأنت لهذا الأمر خليق وحقيق في فضلك ودينك وعلمك وفهمك وسابقتك ونسبك وصهرك. فقال علي كرم اللّه وجهه : « اللّه اللّه يا معشر المهاجرين لا تُخرجوا سلطان محمّد في العرب من داره ، وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم ، وتدفعون أهله عن مقامه في الناس ، وحقّه ، فو اللّه يا معشر المهاجرين لنحن أحقّ الناس به لأنّا أهل البيت ، ونحن أحقّ بهذا الأمر منكم ، ما كان فينا القارئ لكتاب اللّه ، الفقيه في دين اللّه ، العالم بسنن رسول اللّه ، المتطلّع لأمر الرعيّة ، الدافع عنهم الاُمور السيّئة ، القاسم بينهم بالسويّة ، واللّه إنّه لفينا فلا تتّبعوا الهوى فتضلّوا عن سبيل اللّه فتزدادوا من الحقّ بعدا » (1).
فأي بيان أروع من هذا البيان ، وأيّ بلاغ أصرح منه ، فقد فنَّد خلافة المتقمّص ببيان فقده مؤهّلاتها وهي الاُمور التالية : « 1 ـ ما كان فينا القارئ لكتاب اللّه ، 2 ـ الفقيه في دين اللّه ، 3 ـ العالم بسنن رسول اللّه ، 4 ـ المتطلّع لأمر الرعيّة ، 5 ـ الدافع عنهم الاُمور السيّئة ، 6 ـ القاسم بينهم بالسويّة » : ومعني ذلك انّ المتقمّص ومؤيديه فاقدون لهذه الصلاحيات.
2 ـ لمّا انتهت إلى أمير المؤمنين أنباء السقيفة قال ( ع ) : « ما قالت الأنصار ؟ » قالوا : قالت منّا أمير ومنكم أمير ، فقال : « فهلّا احتججتم عليهم بأنّ رسول اللّه وصّى بأن يُحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسيئتهم ؟ » قالوا : وما في هذا من الحجّة عليهم ؟! فقال ( عليه السلام ) : « لو كانت الامامة فيهم ، لم تكن الوصيّة بهم ـ ثم قال : ـ فماذا قالت قريش ؟ » قالوا : « احتجّت بأنّها شجرة الرسول ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ، فقال ( عليه السلام ) : « احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرّة » (2).
________________________________________
1 ـ الامة والسياسة 1 / 11 ـ 12.
2 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 67.
________________________________________
(202)
و روى الرضي في المقام شعراً للإمام :
فإن كنت بالشورى ملكت اُمورهمو إن كنت بالقربى حججت خصيمهم فكيف بهذا والمشيرون غيّبفغيرك أولى بالنبي وأقرب (1)
3 ـ الامام لم يكتف بهذه الجمل في بادئ الأمر ، بل استمر على بيان الحق بأساليب مختلفة منها أحتجاجه بحديث الغدير في يوم الشورى سنة 23 ، قال عمر بن واثلة : كنت على الباب يوم الشورى مع علي ( عليه السلام ) في البيت ، فسمعته يقول : « لأحتجنّ عليكم بما لا يستطيع عربيّكم ولا أعجميّكم تغيير ذلك ـ ثمّ قال : ـ أنشدكم اللّه ، أفيكم من وحّد اللّه قبلي ؟ » قالوا : لا ... ـ إلى أن قال : ـ « فأنشدكم باللّه ، هل فيكم أحد قال له رسول اللّه : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، ليبلّغ الشاهد الغائب غيري ؟ » قالوا : اللّهمّ لا (2).
4 ـ كما ناشد يوم الرحبة سنة 35 ، روى الأصبغ قال : نشد علي الناس في الرحبة : « من سمع النبيّ يوم غدير خم ما قال ، إلا قام ولا يقوم إلا من سمع رسول اللّه » يقول : فقام بضعة عشر رجلاً ، فيهم أبو أيّوب الأنصاري ، وسهل بن حنيف ، وخزيمة بن ثابت ، وعبد اللّه بن ثابت الأنصاري ... فقالوا : نشهد أنّا سمعنا رسول اللّه يقول : « ألا من كنت مولاه فعلي مولاه اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وأحبّ من أحبّه ، وابغض من أبغضه ، وأعن من أعانه » (3).
و لم تكن المناشدة ، منحصرة بهذين الموردين ، بل ناشد الامام في غير واحد من المواقف الاُخرى كما ناشدت زوجة الصدّيقة الطاهرة بحديث الغدير ، وبعده
________________________________________
1 ـ نهج البلاغة ( قسم الحكم ) برقم 190.
2 ـ الصواعق لابن حجر 75 ، المناقب للخوارزمي 135 برقم 152 طبع النشر الاسلامي.
3 ـ اُسد الغابة 3 / 307 و5 / 205.
________________________________________
(203)
الحسنان السبطان ، وعبد اللّه بن جعفر وعمّار بن ياسر ، حتى ناشد به عدوّه عمرو بن العاص عند احتجاجه على معاوية (1).
وهذه شواهد باهرة على عدم سكوته ولا رضاه ، بالأمر الواقع بل استمرّ على هذا إلى اُخريات حياته ، ويتّضح هذا بالرجوع إلى خطبته المعروفة الشقشقية التي ألقاها في آخر خلافته.
وأمّا عدم القيام بأخذ الحقّ بالقوة ، فلأجل أنّ القيام فرع القدرة ، ولم يكن يومذاك أيّ منعة وقدرة للإمام ، ويكفي في ذلك كلامه في خطبته الأخيرة : « فسدلت دونها ثوباً ، وطويت عنها كشحاً ، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربّه » (2).
ولو افترضنا وجود القدرة ، لكن مصالح الاسلام كانت تكمن في المسالمة وادلاء الأمر إليهم ، يشير إليه الامام تارة بالكناية واُخرى بالتصريح ، أمّا الأوّل فيقول : « أيّها الناس شقّوا أمواج الفتن بسفن النجاة ، وعرِّجوا عن طريق المنافرة ، وضعوا تيجان المفاخرة ، أفلح من نهض بجناح ، أو استسلم فأراح. هذا ماء آجن ، ولقمة يغصّ بها آكلها ، ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه.
فإن أقل ، يقولوا : حرص على الملك ، وإن أسكت ، يقولوا : جزع من الموت ، هيهات بعد اللّتيَّا والتي. واللّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدث اُمّه ، بل اندمجت على مكنون علم لو بُحْتُ به ، لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطويِّ
________________________________________
1 ـ راجع للوقوف على هذه المناشدات كتاب الغدير 1 / 159 ـ 213.
2 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 3.
________________________________________
(204)
البعيدة » (1).
وقد خطب بها الامام لمّا قبض رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وخاطبه العباس وأبو سفيان بن حرب في أن يبايعا له بالخلافة. وذلك بعد أن تمّت البيعة لأبي بكر في السقيفة ، فيشير الامام إلى ما لديه من العلم المكنون ، وهو إشارة إلى الوصيّة التي خصّ بها ( عليه السلام ) وانّه كان من جملتها الأمر بترك النزاع في مبدأ الاختلاف عليه (2).
وقد أوضح ما ذكره مجملاً في هذه الخطبة التي ألقاها بعد وفاة الرسول ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) بخطبته التي ألقاها بعد رجوع الناس إليه وصرّح ـ بأنّ لمسالمته الخلفاء لأجل أخطار كانت تحدق بالمسلمين بعد موت النبيّ ، فقال ( عليه السلام ) : « إنّ اللّه سبحانه بعث محمّداً ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) نذيراً للعالمين ، ومهيمناً على المرسلين ، فلمّا مضى ( عليه السلام ) ، تنازع المسلمون الأمر من بعده ، فو اللّه ما كان يلقى في روعي ، ولا يخطر ببالي ، أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) عن أهل بيته ، ولا أنّهم مُنحّوه عنّي من بعده ! فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه ، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام ، يدعون إلى محق دين محمّد ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) فخشيت إن لم أنصر الاسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً ، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولا يتكم التي إنّما هي متاع أيّام قلائل ، يزول منها ما كان ، كما يزول السراب ، أو كما يتقشّع السحاب ، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل
________________________________________
1 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 5.
2 ـ شرح نهج البلاغة 1 / 215.
________________________________________
(205)
وزهق ، واطمأنّ الدين وتنهنه » (1).
ورواه أبو الحسن علي بن محمّد المدائني عن عبد اللّه بن جنادة ، قال : قدمت من الحجاز اُريد الطريق في أوّل إمارة علي ( عليه السلام ) فمررت بمكّة فاعتمرت ، ثم قدمت المدينة فدخلت مسجد رسول اللّه ، إذ نودي : الصلاة جامعة ؛ فاجتمع الناس وخرج علي ( عليه السلام ) متقلّداً سيفه ، فشخصت الأبصار نحوه ، فحمد اللّه و صلّى على رسوله ، ثم قال : أمّا بعد ، فلمّا قبض اللّه نبيّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) قلنا : نحن أهله وورثته ، وعترته ، وأولياؤه دون الناس ، لا ينازعنا سلطانه أحد ، ولا يطمع في حقّنا طامع ، إذ انبرى لنا قومنا ، فغصبونا سلطان نبينا ، فصارت الإمرة لغيرنا ـ إلى أن قال : ـ وأيم اللّه ، لو لا مخافة الفرقة بين السلمين ، وأن يعود الكفر ويبور الدين ، لكنّا على غير ما كنّا لهم عليه فوليَ الأمر ولاة لم يألوا الناس خيرا » (2).
كان الامام ( عليه السلام ) يرى انّ الدعوة إلى نفسه تؤدّي إلى تعرّض الاسلام إلى الأخطار المهلكة.
روى الزبير بن بكار ، قال : روى محمد بن إسحاق أنّ أبابكر لمّا بويع افتخرت تيم بن مرة ، قال : وكان عامة المهاجرين وجلّ الأنصار لا يشكون انّ عليّاً هو صاحب الأمر بعد رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وقال بعض بني هاشم شعراً مدح فيه الامام وعاب المتقمّصين وقال :
ما كنت أحسِب أنّ الأمر منصرفأليس أوّل من صلّى لقبلتكمو أقرب الناس عهداً بالنبيّ وَ من عن هاشم ثمّ منها عن أبي حسن و أعلم الناس بالقرآن والسنن ؟جبريل عون له في الغسل والكفن
________________________________________
1 ـ نهج البلاغة ، قصم الكتب 62.
2 ـ شرح نهج البلاغة 1 / 307 ، والكلمتان متقاربتان.
________________________________________
(206)
ما فيه ما فيهم لا يمترون به ماذا الذي ردّهم عنه فنعلمه ؟ و ليس في القوم ما فيه من الحسنها إنّ ذا غبننا من أعظم الغبن !
قال الزبير : فبعث إليه علي فنهاه ، أمراً لا يعود وقال : لسلامة الدين أحبُّ إلينا من غيره.
فهذه الكلم والخطب عن عليٍّ تعرب عن إخلاصه للدين وحبّه لحفظ الوثام والسلام بين المسلمين وانّه لو لا خوف محق الدين لما ترك الأمر إلى الغير ، ولقام بالسلاح والكراع على أخذ حقّه.
« ولو لا مراعاة عليّ للأوضاع والظروف التي أحاطت بالاسلام في تلك الفترة من تاريخه ، لحدثت تطوّرات في تاريخ الاسلام لا نستطيع أن نقدّر مدى أثرها السيّئ على جهود الرسول والوصي والمخلصين من الصحابة ، ولكنّه أدركت ذلك ، وأحصى ما سيجرّه تصلّبه في موقفه من الغنائم على المرتدّين والمنافقين الذين أضمروا الدمار للاسلام » (1).
كان الامام ينطر إلى أنّ طوائف من العرب على عتبة الارتداد عن الاسلام ، وانّ بين المسلمين في المدينة طابور خامس يتحيّن الفرص للقضاء على الاسلام وإحياء الجاهلية ، فلم ير بدّاً من التسليم للأمر الواقع ومماشاة الخلفاء ، ورفع مشاكل المسلمين في المسائل المستجدّة والمستعصية والاجابة على أسئلة الوافدين إلى غير ذلك من الاُمور التي استغرقت قرابة خمس وعشرين سنة من حياته ، إلى عام 35 الذي قتل فيه عثمان بمرأى ومسمع من المهاجرين والأنصار. وقد أحدث في الاسلام اُموراً أدَّت إلى الفتك به ، وكان
________________________________________
1 ـ الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة 28.
________________________________________
(207)
الخليفة الثاني متنبّئاً به ، فقال له : لئن وليتها ( الخلافة ) لتحملن بني أبي معيط على رقاب الناس فحمل بني أبيه على رقابهم ، يخضمون مال اللّه خضم الابل نبتة الربيع ، فأدّى ذلك وغيره إلى قتله في عقر داره.
تسنّم الامام مقاليد الحكم بعد ربع قرن :
كان الامام قرابة ربع قرن جليس بيته ، يشتغل ببعض الاُمور لما فيه صلاح الاسلام والمسلمين ، إلى أن قُتِل عثمان وانثال الناس على الامام من كل جانب هاتفين : لا يصلح للخلافة إلا علي. فقال لهم : « دعوني والتمسوا غيري ».
روى الطبري نقلاً عن محمّد بن الحنفية : كنت مع أبي ، حين قتل عثمان فدخل منزله ، فأتاه أصحاب رسول اللّه ، فقالوا : إنّ هذا الرجل قد قتل ، ولابدّ للناس من إمام ، ولا نجد اليوم أحداً أحقّ بهذا الأمر منك ، ولا أقدم سابقة ، ولا أقرب من رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) فقال : « لا تفعلوا فانّي أكون وزيراً خير من أن أكون أميرا » فقالوا : « واللّه ما نحن فاعلين حتى نبايعك » فقال : « ففي المسجد ، فإنّ بيعتي لا تكون خفياً ، ولا تكون إلا عن رضا المسلمين » ، قال سالم بن أبي الجعد : فقال عبد اللّه بن عباس : فلقد كرهت أن يأتي المسجد مخافة أن يشغب عليه ، وأبى هو إلا المسجد. فلمّا دخل ، دخل المهاجرون والأنصار ، فبايعوه ، ثم بايعه الناس (1).
وفي رواية اُخرى : غشى الناس عليّاً ، فقالوا : نبايعك ، فقد ترى ما نزل بالاسلام وما ابتلينا به من ذوي القربى ، فقال علي : « دعوني والتمسوا غيري ، فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه ، وله ألوان ، لا تقوم له القلوب ، ولا تثبت عليه العقول » فقالوا : ننشدك اللّه ، ألا ترى ما نرى ، ألا ترى الاسلام ، ألا ترى الفتنة ، ألا تخاف اللّه ،
________________________________________
1 ـ تاريخ الطبري 3 / 450.
________________________________________
(208)
فقال : « قد أجبتكم لما أرى ، واعلموا إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ، وإن تركتموني ، فانّما أنا كأحدكم ، إلا أنّي أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم » (1).
هذا ما يذكره الطبري ، وأمّا الامام فهو يصف كيفية هجوم الناس على بيته لمبايعته فيقول : « فتداكّوا عليّ ، تداكّ الإبل اليهم يوم وِرْدِها ، وقد أرسلها راعيها ، وخُلعت مثانيها ، حتى ظننت أنّهم قاتلي ، أو بعضهم قاتل بعض لديَّ » (2).
وفي خطبة اُخرى : « فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إليَّ ، ينثالون عليّ من كل جانب حتى لقد وطئ الحسنان ، وشقّ عطفاي ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم » (3).
ولم تشهد ساحة الخلافة احتشاداً جماهيرياً إلى يومنا هذا ، مثلما شهدته في ذلك الزمان ، فقد اتّفق المهاجرون والأنصار ، والتابعون لهم ئإحسان على المبايعة ، ولم يتخلّف إلا قليل من الناس لا يتجاوز عدد الأنامل. وقد جاء الطبري بأسمائهم يقول : بايعت الأنصار علياً إلا نفراً يسيراً ، منهم حسان بن ثابت ، وكعب بن مالك ، ومسلمة بن مخلد ، وأبو سعيد الخدري ، ومحمّد بن مسلمة ، والنعمان بن بشير ، وزيد بن ثابت ورافع بن خُديج ، وفضالة بن عبيد ، وكعب بن عجرة وكانوا عثمانية. فقال رجل لعبد اللّه بن حسن : كيف أبى هؤلاء بيعة علي وكانوا عثمانية ، فقال : أمّا حسّان ، فكان شاعراً لا يبالي ما يصنع ، وأمّا زيد بن
________________________________________
1 ـ تاريخ الطبري 3 / 456.
2 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 53 ، تداكوا : ازدحموا ، والهيم : العطاش ، يوم رودها : يوم شربها ، والمثاني : الحبال.
3 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 3 ، عُرْف الضبع : ما كثر على عنقها من الشعر ، يضرب به المثل الكثرة ، ينثالون : يتتابعون ، شقّ عطفاي : خدش جانباه من الاصطكاك.
________________________________________
(209)
ثابت فولّاه عثمان الديوان وبيت المال ، فلمّا حصر عثمان قال : يا معشر الأنصار ، كونوا أنصار اللّه ـ مرتين ـ فقال أبو أيّوب : ما تنصروه إلا إنّه كثر لك من العضدان (1) فأمّا كعب بن مالك فاستعمله على صدقة « مُزِينة » وترك ما أخذ منهم له (2).
قام الامام بواجبه ، وهمَّ بالاصلاح ، وحوله حُسّاد حاقدون ، وأعداء يترقّبون الفرص ، وعمّال للخليفة يسألونه البقاء على مناصبهم ، فعند ذلك حاقت به الأزمات والشدائد ، وهو يصف ذلك بقوله : « فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة ، ومرقت اُخرى ، وقسط آخرون ، كأنّهم لم يسمعوا كلام اللّه سبحانه يقول : ( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجعَلُها لِلَّذِينَ لا يُريدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلا فَسَاداً وَالعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ ) (3) بلى ! واللّه لقد سمعوها ووعوها ، ولكنّهم حَلِيتْ الدنيا في أعينهم ، وراقهم زِبْرجها. أما والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، لو لا حضور الحاضر ، وقيام الحجّة بوجود الناصر ، وما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة (4) ظالم ، ولا سغب (5) مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عَنْز » (6).
فقد أشار الامام بكلامه هذا إلى حروبه الثلاثة مع طوائف ثلاث ، فالناكثون هم أصحاب الجمل ، الذين لم يجدوا عند الاما إلا الحقّ ، فطلبوا منه من المناصب ما كان فوق شأنهم وأمانتهم فاجتمعوا في مكّة وأمانتهم في مكّة تحت غطاء المطالبة بدم عثمان مع
________________________________________
1 ـ العضاد : كل ما يحيط بالعضد من حلي وغيرها.
2 ـ تاريخ الطبري 3 / 452.
3 ـ القصص / 83.
4 ـ الكظّة : البِطْنَة ( ما يعتري الآكل عند امتلاءه بالطعام ) والمراد : استئثار الظالم بالحقوق.
5 ـ السغب : شدة الجوع.
6 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 3.
________________________________________
(210)
أنّهم هم المحرّضون على قتله ، وموَّلهم جماعة من بني اُميّة ولم يكتفوا بذلك ، وإنّما غرّوا باُمّ المؤمنين عائشة ، وأركبوها على الجمل يقطعون بها الفيافي والقفار ، حتى نزلوا البصرة ، فقتلوا من شيعة علي ومحبّيه ما استطاعوا. فلمّا لاقوا عليّاً بجيوشهم أبوا إلا الحرب فدارت الدوائر على الناكثين ، فقتل رؤوس الفتنة ، واُرسلت اُمّ المؤمنين إلى المدينة بتكريم واحترام.
ولكن لم يقف الأمر على هذا الحد ، فقام ابن آكلة الأكباد ، الطليق ابن الطليق الذي خَذَلَ هثمان ، ولم ينصره ، ثم انتحل دمه وطلب ثأره ، فجمع حوله الهمج والرعاع ، وتحالف مع عمرو بن العاص الذي عزله عثمان عن ولاية مصر ، فألّب عليه كل راع رآه في البادية ، وساومه معاوية على ولاية مصر ، فقابلهم الامام في أرض صفين ، وقد كادت الحرب تنتهي لصالح الحق والمسلمين لو لا أنّهم رفعوا المصاحف على الرماح ، وانطلت الحيلة على عسكر الامام ، وقالوا : له أجب القوم ، فحذّرهم الامام بأنّه مكر وخداع ، والقوم ليسوا أهل قرآن وسنّة ، فطلب منهم المهلة فما أجابوه ، بل هدّدوا بإراقة دمه وقتاله إن لم يُوقف الحرب ، ولم يسترجع قائده من ساحة القتال ، حتى أنّ الأشتر قائد القوات طلب منهم المهلة ولو بقدر فواق ناقة أو عدوة فرس ، فما وافقوه ، فاضطرّ الامام إلى إيقاف الحرب ، وادلاء الأمر إلى الحكمين بشرط أن لا يخرجوا عن حكم الكتاب والسنّة ، وكانت نهاية الأمر ، عزل مندوب الامام ( أبو موسى الأشعري ) خليفة المسلمين ، ونصب عمرو ابن العاص معاوية للخلافة ، كل ذلك بمكر وخداع واحتيال على أبي موسى ، فقام الحكمان ومن حولهما يشتتمان ويتسابّان.
ثمّ اُولئك الذين فرضوا قبول التحكيم على علي ، ندموا على ذلك ، وطفقوا يطالبونه بنقض الميثاق قبل حكم الحكمين ، فخرجوا عن طاعة علي ، وعن جيشه ، فنزلوا حروراء ولم يرجعوا إلى الطاعة حتى بعد ما دعاهم الامام لاعادة الحرب على
(211)
معاوية ، لما ظهر لهم كون قول حكم الحكمين على خلاف الكتاب والسنّة ، بل أصبحوا يطالبون عليّاً أن يتوب من كفره ، كما هم تابوا من كفرهم ، لأجل تحكيمه الرجال في أمر الدين ، ولم يكتفوا بذلك ، فصاروا كقطّاع الطريق يقتلون البريء ، ويسفكون الدماء ، فأوجدوا دهشة ورعباً في قلوب المسلمين ، فلم يجد الامام بدّاً من قتالهم ، وإن كان قتالهم أمراً عظيماً لأنّهم كانوا أصحاب الجباه السود ، يصومون النهار ، ويقومون الليل ، وفي الوقت نفسه هم المارقون ، والمعاندون لله ورسوله ، وفي حقّهم يقول الامام :
« إنّي فقأت عين الفتنة ، ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري ، بعد أن ماج غيهبها (1) ، واشتدّ كلبها (2) » (3).
هذه حياة الامام على وجه الاجمال ، حياة من ولد في الكعبة ولم يسجد لصنم ورافق النبيّ منذ صباه في موطنه ومهجره ، ولم يتخلّف عنه في غزوة من غزواته إلا غزوة تبوك ، حيث خلّفه في المدينة لإدارة شؤونها في غيابه.
و مع الأزمات التي خلّفت عثمان وعمّاله ، وسوّدوا وجه التاريخ وقطعوا عرى الوحدة بين الخلافة والناس « استطاع أن يجعل من نظامه السياسي المثل الكامل للنظام السياسي للدولة التي أسّسها ورفع كيانها رسول اللّه ، وأن يجعل من أعماله وأقواله في السلم والحرب ، التجسيد الكامل للشريعة الاسلامية وأن يجعل من سلوكه وأخلاقه الصورة الكاملة لأخلاق الرسول وسلوكه ، وبذلك ربط كل مسيرة عهده بمسيرة العهد النبوي الشريف ، وثبّت للاسلام دعائمه ، وأعاد إلى النفوس
________________________________________
1 ـ الغيهب : الظلمة ، وموجها : شمولها وامتدادها.
2 ـ الكلب ـ محركة ـ داء معروف يصيب الكلاب ، فكل من عظه اُصيب به فجنّ ومات إن لم يبادر بالدواء.
3 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 93.
________________________________________
(212)
المؤمنة أمنها ويقينها بالرسالة الاسلامية الخالدة » (1).
قام الامام بالخلافة ، وتقلّدها بعد مقتل عثمان ، وقد ترك ولاة يمتصّون دماء الناس ، ولم يكن الامام ممّن يساوم ويداهن ويترك الحق جانباً ، وأوّل ما قام به ، هو أنّه أزال الظلم عن الناس بازالة العمّال والولاة الظالمين ، الذين اكتنزوا الذهب والفضّة ، وملكوا العقارات والمواشي ، فعند ذلك قامت قيامة هؤلاء فهم بين ناكث وقاسط ، وضمّ إليهم أعداء يترقّبون الفرص للوثوب ، والانتقام ، لأنّه قتل آباءهم واستأصل شافتهم في الحروب والغزوات ، كل ذلك صار سبباً لانشغال الامام بالحروب الداخلية. ولو كان الامام آخذاً مقاليد الخلافة بعد الرسول ، بل حتى بعد خلافة الشيخين لما وجد الانحراف عن الدين وتعاليمه في الحياة مجالاً ولكنّه ـ يا للأسف ـ أخذ بها والمجتمع مثقّل بالأزمات والانحرافات.
إغارة معاوية على البلاد الآمنة :
هذا ابن أبي سفيان ، لمّا رأى انّ الأمصار الاسلامية عامدا الشام في طاعة الامام ، جمع حوله الأشقياء والبغاة ، يغيرون على البلاد الآمنة ، وينشرون الفوضى والفساد واحداً بعد واحد.
1 ـ فأرسل سفيان عوف الغامدي ، وقال : إنّي موجّهك في جيش كثيف ، ذي أداة وجلادة فالزم لي جانب الفرات ، حتى تمر بهيت (2) فتقطعها ، فإن وجدت بها جنداً فأغر عليها ، وامض ، حتى تغير على الأنبار فإن لم تجد بها جنداً ، فامض حتى توغل المدائن ، فكأنّك غرت على الكوفة ، إنّ هذه الغارة يا سفيان على أهل العراق
________________________________________
1 ـ الزيدية نظرية وتطبيق 19.
2 ـ هيت : بلد على الفرات فوق الأنبار.
________________________________________
(213)
ترعب قلوبهم ، وتفرح كل من له فينا هوى منهم ، وتدعو إلينا كل من خاف الدوائر ، فاقتل من لقيته ممّن ليس على مثل رأيك ، وأخرب كل ما مررت به من القرى ، واحرب الأموال فإنّ حرب الأموال ـ أي سلبها ـ شبيهة بالقتل ، وهو أوجع للقلب » (1).
و لمّا بلغ عليّاً جنايات الرجل ، خطب خطبته المعروفة وقال :
« فإنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه اللّه لخاصّة أوليائه ، وهو لباس التقوى ، ودرع اللّه الحصينة ، وجنّته الوثيقة ـ إلى أن قال : ـ وهذا أخو غامد ، وقد وردت خيله الأنبار وقد قتل حسّان بن حسّان البكري ، وأزال خيلكم عن مسالحها ، ولقد بلغني أنّ الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والاُخرى المعاهدة ، فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورُعُثها ، ما تمتنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام ، ثمّ انسرفوا وافرين ما نال رجلاً منهم كلم ، ولا اُريق لهم دم ، فلو أنّ امرأً مسلماً مات من بعد هذا أسفا ، ما كان به ملوما ، بل كان به عندي جديرا » (2).
2 ـ هذا بسر بن أرطاة ، بعثه معاوية إلى اليمن في جيش كثيف وأمره أن يقتل كل من كان في طاعة علي ( عليه السلام ) فقتل خلقاً كثيراً ، وقتل فيمن قتل ابني عبيى اللّه بن العباس بن عبد المطلب ، وكانا غلامين صغيرين ، فقالت اُمّهما ترثيهما :
يا من أحسّ بابنيّ اللذين هما كالدرّتين تشظّى عنهما الصدف (3)
وقد خطب الامام بعدما بلغه النبأ بقوله : « اُنبئتُ بسراً قد اطّلع اليمن ، وانّي واللّه لأظنّ أنّ هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم ، وتفرّقكم
________________________________________
1 ـ شرح نهج البلاغة 2 / 85.
2 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 27.
3 ـ شرح نهج البلاغة 1 / 340 ، تشظّا : تفرّق شظايا ، راجع للوقوف على بقية الأبيات الكامل للمبرد وقد ذكره ابن أبي الحديد في شرحه 2 / 13.
________________________________________
(214)
عن حقّكم ، وبمعصيتكم أمامكم بالحق ، وطاعتهم إمامهم بالباطل ، وبأَدائهم الأمانة إلى صاجهم ، وخيانتكم ، وبصلاحهم في بلادهم ، وفسادكم ، فلو ائتمنت أحدكم على قعب ، لخشيت أن يذهب بعلاقته » (1).
3 ـ دعا معاوية الضحاك بن قيس الفهري ، وقال له : « سر حتى تمر بناحية الكوفة ، وترتفع عنها ما استطعت فمن وجدته من الأعراب في طاعة علي ، فأغر عليه ، وإن وجدت له مسلحة أو خيلا ، فأغر عليها ، وإذا أصبحت في بلد فامس في اُخرى ، ولا تقيمن لخلي بلغك أنّها قد سرحت إليك لتلقاها فتقاتلها » ثم جهّزه بثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف.
فأقبل الضحاك ، فنهب الأموال ، وقتل من لقي من الأعراب ، حتى مرّ بالثعلبية (2) ، فأغار على الحاج ، فأخذ أمتعتهم ، ثم أقبل فلقي عمرو بن مسعود الهذلي ، وهو ابن أخي عبد اللّه بن مسعود ، صاحب رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) فقتله في طريقه الحاج عند القطقطانة (3). وقتل معه ناساً من أصحابه (4).
4 ـ ولم يكتف معاوية بهذه الهجمات العنيفة على البلاد الآمنة ، بل جهّز بسر بن أرطاة مرّة ثانية ، لإراقة الدماء في حرم الرسول. ويقول ابن أبي الحديد : كان بسر بن أرطاة قاسي القلب فظّاً سفّاكاً للدماء لا رأفة عنده ولا رحمة ، وقد جهّزه معاوية في ثلاثة آلاف ، قال له : سر حتى تمرّ بالمدينة ، فاطرد الناس ، وأخف من مررت به ، وانهب أموال كل من أحصيت له مالا ، فمن لم يكن دخل في طاعتنا ، فإذا دخلت المدينة فأرهم أنّك تريد أنفسهم ، وأخبرهم انّه لا براءة لهم عندك
________________________________________
1 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 25.
2 ـ الثعلبية : من منازل طريق مكّة إلى الكوفة.
3 ـ بالضم ثم السكون : موضع قرب الكوفة من جهة البرية بالطف.
4 ـ شرح نهج البلاغة 2 / 116 ـ 117.
________________________________________
(215)
و لا عذر. ووصل بسر إلى المدينة المنوّرة ، فشتم أهلها وتهدّدهم وتوعّدهم وأحرق دوراً كثيراً ، منها دار زرارة بن حرون ، ودار عمرو بن عوف ، ودار رفاعة بن رافع الرزقي ، ودار أبي أيّوب الأنصاري صاحب منزل رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) (1).
و قال المسعودي : قتل بسر بالمدينة وبين المسجدين خلقاً كثيراً من خزاعة وغيرها ، وكذلك بالجرف قتل خلقاً كثيراً من رجال همدان ، وقتل بصنعاء خلقاً كثيراً. ولمّا بلغ الخبر عليّاً أنفذ جارية بن قدامة في ألفين ، ووهب بن مسعود في ألفين ، وحين علم بسر بخبر حارثة فرّ هاربا (2).
و كانت هذه العصابات الاجرامية ، تأتي إلى العراق فتقتل وتحرق وتدمّر ، إلى آخر حياة الامام ، الذي قضى نحبه في الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة 40. وأصبحت شيعته كغنم غاب عنها راعيها. يفترسهم أعداؤهم عندما استتبّ الأمر لآل أبي سفيان وآل مروان وهذا هو الذي نطرحه في الفصل التالي :
________________________________________
1 ـ شرح نهج البلاغة 2 / 10 ، وما ذكرناه ملخّص ما ذكره مفصّلا.
2 ـ مروج الذهب 3 / 31 طبعة 1948.
الفصل التاسع
الشيعة في العصرين الأموي والعباسي
لبّى الامام دعوة ربّه في ليلة الحادي والعشرين من رمضان على يد أشقى الأوّلين والآخرين ، شقيق عاقر ناقة ثمود ، وهو يصلّي في محراب عبادته ، فلمّا بلغ عائشة قتل علي ، فرحت وقالت :
فألقت عصاها واستقرّ بها النوى كما قرّ عيناً بالاباب المسافر
ثم قالت : من قتله ؟ فقيل : رجلٌ من مراد ، فقالت :
فان يك نائيا فلقد نعاه نعي ليس في فيه التراب
فقالت زينب بنت أبي سلمة : أتقولين هذا لعلي ؟ فقالت : إنّي أنسى ، فإذا نسيت فذكّروني ... !! (1).
ولمّا بلغ خبر قتله إلى معاوية قال : إنّ الأسد الذي كان يفترش ذراعيه في الحرب قد قضى نحبه. ثمّ أنشد :
قل للأرانب ترعى أينما سرحت وللظبأ بلا خوف ولا وجل (2)
فلمّا مات الامام ، خطب الحسن في مسجد الكوفة ، وقال : « ألا انّه قد مضى ، في هذه الليلة ، رجل لم يدركه الأوّلون ، ولن ير مثله الآخرون. من كان يقاتل
________________________________________
1 ـ الكامل لابن الاثير 3 / 394 طبع دار صادر.
2 ـ ناسخ التواريخ ، القسم المختص بحياة الامام 692.
________________________________________
(220)
وجبرئيل عن يمينه وميكائيل عن شماله. واللّه لقد توفي في هذه الليلة التي قبض فيها موسى بن عمران ، ورفع فيها عيسى بن مريم واُنزل القرآن. الا وانّه ما خلّف صفراء ولا بيضاء إلاّ سبعمائة درهم فضلت من عطائه ، أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله » (1).
ثمّ بويع الحسن في نهاية خطبته ، وأوّل من بايعه قيس بن سعد الأنصاري ، ثمّ تتابع الناس على بيعته وكان أميرالمؤمنين بايعه أربعون ألفاً من عسكره على الموت. فبينما هو يتجهّز للمسير قُتل ( عليه السلام ). وبايع هؤلاء ولده الحسن ، فلمّا بلغهم مسير معاوية في أهل الشام إليه ، تجهّز هو والجيش الذين كانوا قد بايعوا عليّاً. وسار عن الكوفة إلى لقاء معاوية (2).
وهل وفى هؤلاء للحسن ( عليه السلام ) وكانوا صادقين في بيعتهم ؟ كلاّ بل خانوه كما خانوا أباه فلم ير الامام بدّاً عن التصالح ، لأجل تخاذل أهل العراق أولا وكون الشيوخ الذين بايعوا عليّاً والتفّوا حوله كانوا من عبدة الغنائم والمناصب ، ولم يكن لهؤلاء نصيب في خلافة الحسن إلاّ ما كان لهم عند أبيه من قبل ثانياً. وانّ عدداً غير قليل ممّن بايع الحسن كانوا من المنافقين ، يراسلون معاوية بالسمع والطاعة ثالثاً ، وانّ لفيفاً من جيشه كانوا من الخوارج أو أبنائهم رابعاً ، إلى غير ذلك من الأسباب التي دفعت الامام إلى قبول الصلح مع معاوية ، تحت شروط خاصة تضمن لشيعة علىّ الأمن والأمان ولكنّه بعد ما وافق معاوية على الصلح ووقّع عليه ، قام وخطب : إنّي واللّه ما قاتلتكم لنصّلوا ولا لتصوموا ، ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا ، وانّكم لتفعلون ذلك ولكن قاتلتكم لأتأمّر عليكم ، وقد أعطاني اللّه ذلك وأنتم له كارهون ألا وأنّي قد كنت منيت الحسن أشياء ، وجميعها تحت قدمي لا أفي بشيء
________________________________________
1 ـ تاريخ اليعقوبي 2 / 213.
2 ـ الكامل 3 / 404 طبع دار صادر.
(221)
منها له (1).
فعند ذلك فسح المجال لمعاوية في قتل الشيعة واستئصالهم ، تحت كل حجر ومدر. وجاءت المجازر تترى بعد معاوية إلى آخر عهد الدولة الأموية ، فلم يكن للشيعة في تلك الأيام نصيب سوى القتل والنفي والحرمان. وهذا هو الذي يستعرضه في هذا الفصل على وجه الاجمال ، حتّى يقف القارئ على أنّ بقاء التشيّع في هذه العصور المظلمة ، كان معجزة من معاجز اللّه سبحانه كما يقف على أنّ الصمود والكفاح والرد على الظلمة وأعوانهم ، كان شعار الشيعة منذ عصر الامام إلى يومنا هذا. وإليك بعض الوثائق من جرائم معاوية.
1 ـ رسالة الامام الحسين إلى معاوية :
« أمّا بعد فقد جاءني كتابك تذكر فيه أنّه انتهت إليك عنّي اُمور لم تكن تظنّني بها رغبة بي عنها ، وأنّ الحسنات لا يهدي لها ولا يسدّد إليها إلاّ اللّه تعالى ، وأمّا ما ذكرت أنّه رمي إليك عنّي ، فإنّما رقّاه الملاّقون المشّاؤون بالنميمة ، المفرّقون بين الجمع ، وكذب الغاوون المارقون ، ما أردن حرباً ولا خلافاً وانّي لأخشى اللّه في ترك ذلك منك ومن حزبك القاسطين المحلّين حزب الظالم وأعوان الشيطان الرجيم. ألست قاتل حجر وأصحابه العابدين المخبتين الذين كانوا يستفظعون البدع ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، فقتلتهم ظلماً وعدواناً من بعدما أعطيتهم المواثيق الغليظة والعهود المؤكّدة جرأة على اللّه واستخافاً بعهده. أولست بقاتل عمرو بن الحمق الذي اختلقت وأبلت وجهه العبادة ؟ فقتلته من بعد ما أعطيته من العهود ما لو فهمته العصم لنزلت من سقف الجبل.
________________________________________
1 ـ الارشاد للشيخ المفيد 191.
________________________________________
(222)
أو لست المدعي زياداً في الإسلام فزعمت أنّه ابن أبي سفيان ، وقد قضى رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) انّ الولد للفراش وللعاهر الحجر ، ثم سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ويصلبهم على جذوع النخل ؟
سبحان اللّه يا معاوية! لكأنّك لست من هذه الاُمّة ، وليسوا منك ، أو لست قاتل الحضرمي الذي كتب إليك في حقه زياد أنّه على دين علي كرم اللّه وجهه ، ودين علي هو دين ابن عمّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه ، ولو لا ذلك كان أفضل شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين : رحلة الشتاء والصيف ، فوضعها اللّه عنكم بنا منَّةً عليكم ، وقلت فيما قلت : لا تردن هذه الاُمّة في فتنة وانّي لا أعلم لها فتنة أعظم من امارتك عليها ، وقلت فيما قلت : انظر لنفسك ولدينك ولاُمّة محمّد. وانّي واللّه ما أعرف فضلا من جهادك ، فإن أفعل فإنّه قربة إلى ربّي ، وإن لم أفعله فأستغفر اللّه لديني. وأسأله التوفيق لما يحب ويرضى ، وقلت فيما قلت : متى تكدني أكدك ، تكدني يا معاوية ما بدا لك ، فلعمري لقديماً يكاد الصالحون وانّي لأرجو أنّ لا تضر إلاّ نفسك ولا تمحق إلاّ عملك فكدني ما بدالك ، واتّق اللّه يا معاوية! واعلم انّ للّه كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ، واعلم أنّ اللّه ليس بناس لك قتلك بالظنّة ، وأخذك بالتهمة ، وإمارتك صبيّاً يشرب الشرب ويلعب بالكلاب ، ما أراك إلاّ قد أوبقت نفسك ، وأهلكت دينك ، وأضعت الرعية ، والسلام » (1).
هذه رسالة أبي الشهداء ، الحسين بن علي ( عليهما السلام ) ، وتكفيك بياناً
________________________________________
1 ـ الامامة والسياسة 1 / 164 ، جمهرة الرسائل 2 / 67 ورواه الكشي في رجاله 48 ـ 51 ، والمجلسي في البحار 44 / 212 ـ 214.
________________________________________
(223)
وبلاغاً لما جنت به يدا معاوية وعماله على شيعة أبيه ، من فتك وقتل ذريع ، للأبرياء وصحابة النبي الأكرم ونردفها بكلام حفيده الامام محمّد الباقر ( عليه السلام ) ، قال لبعض أصحابه :
إنّ رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) قبض وقد أخبر أنّا أولى الناس بالناس فتمالأت علينا قريش حتّى أخرجت الأمر عن معدنه واحتجّت على الأنصار بحقّنا وحجّتنا. ثمّ تداولتها قريش ، واحد بعد واحد ، حتّى رجعت إلينا ، فنكثت بيعتنا ونصبت الحرب لنا ، ولم يزل صاحب الأمر في صعود كئود ، حتّى قتل ، فبويع الحسن ابنه وعوهد ثم غدر به وأسلم ووثب عليه أهل العراق حتّى طعن بخنجر في جنبه ، ونهب عسكره ، وعولجت خلاخيل اُمّهات أولاده فوادع معاوية وحقن دمه ودماء أهل بيته ، وهم قليل حق قليل. ثمّ بايع الحسين من أهل العراق عشرون ألفاً ، ثمّ غدروا به ، وخرجوا عليه ، وبيعته في أعناقهم وقتلوه.
ثمّ لم نزل ـ أهل البيت ـ نُستذل ونستضام ، ونقصى ونمتهن ، ونحرم ونقتل ، ونخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقرّبون به إلى أوليائهم وقضاة السوء وعمال السوء في كل بلدة ، فحدّثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة ، ورووا عنّا ما لم نقله ولم نفعله ، ليبغّضونا إلى الناس ، وكان عُظم ذلك وكُبره زمن معاوية بعد موت الحسن ( عليه السلام ) فقتلت شيعتنا بكل بلدة ، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنّة ، وكان من يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله ، أو هدمت داره ، ثمّ لم يزل البلاء يشتد ويزداد إلى زمان عبيد اللّه بن زياد قاتل الحسين ( عليه السلام ) ثمّ جاء الحجّاج فقتلهم كل قتلة ، وأخذهم بكل ظنّة وتهمة ، حتى انّ الرجل ليقال له : زنديق أو كافر ، أحبّ إليه من أن يقال : شيعة علي ، وحتى صار الرجل الذي يذكر بالخير ـ ولعلّه يكون ورعاً صدوقاً ـ يحدّث بأحاديث عظيمة عجيبة ، من تفضيل
________________________________________
(224)
بعض من قد سلف من الولاة ولم يخلق اللّه تعالى شيئاً منها ، ولا كانت ولا وقعت وهو يحسب أنّها حقّ لكثرة من قد رواها ممّن لم يعرف بكذب ولا بقلّة ورع (1).
و لعلّ في رسالة الامام أبي الشهداء ، وما قاله حفيده الامام الباقر ( عليه السلام ) غنى وكفاية لمن أراد أن يعرف الأمر عن كثبٍ ويقف على مظالم الامويين في حق شيعة الامام ، غير أنّه ايضاحاً للحقيقة نؤكّد ذلك بكلام غيرهما لتتم الحجّة على الجميع.
كان سعيد بن سرح مولى حبيب بن عبد شمس من شيعة على بن أبي طالب ، فلمّا قدم زياد الكوفة والياً عليها ، طلبه وأخافه ، فأتى الحسن بن علي مستجيراً به ، فوثب زياد على أخيه وولده وامرأته ، فحبسهم وأخذ ماله وهدم داره ، فكتب الحسن إلى زياد : « من الحسن بن علي إلى زياد ، أمّا بعد : فإنّك عمدت إلى رجل من المسلمين لخ له مالهم ، و عليه ما عليهم ، فهدمت داره و أخذت ماله ، و حبست أهله وعياله ، فإذا أتاك كتابي هذا ، فابن له داره ، واردد عليه عياله وماله ، وشفّعني فيه فقد أجرته » فكتب إليه زياد : من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن بن فاطمة ، أمّا بعد : فقد أتاني كتابك تبدأ فيه بنفسك قبلي وأنت طالب حاجة وأنا سلطان وأنت سوقة ، كتبت إليّ في فاسق آويتَه إقامة منك على سوء الرأي ورضاً منك بذلك ، وأيم اللّه لا تسبقني به ، ولو كان بين جلدك ولحمك ، وإن نلت بعضك فغير رفيق بك ولا مرع عليك ، فإنّ أحبَّ لحم إليّ أن آكل منه ، اللحم الذي أنت منه ، فسلّمه بحريرته إلى من هو أولى به منك ، فإن عفوت عنه لم أكن شفّعتك فيه ، وإن قتلته لم
________________________________________
1 ـ شرح نهج البلاغة 11 / 43 ـ 44.
________________________________________
(225)
أقتله إلا لحبّه أباك الفاسق ، والسلام (1).
« كان زياد جمع الناس بالكوفة بباب قصر يحرّضهم على لعن عليّ أو البراءة منه ، فملأ منهم المسجد والرحبة ، فمن أبى ذلك عرضه على السيف » (2) ، وفي المنتظم لابن الجوزي : إنّ زياداً لمّا حصبه أهل الكوفة وهو يخطب على المنبر قطع أيدي ثمانين منهم ، وهمّ أن يخرب دورهم ويحرق نخلهم ، فجمعهم حتى ملأ بهم المسجد والرحبة يعرضهم على البراءة من علي ، وعلم أنّهم سيمتنعون ، فيحتج بذلك على استئصالهم وإخراب بلدهم (3).
بيان معاوية إلى عماله :
روى أبو الحسن علي بن محمّد بن أبي سيف المدايني في كتاب « الأحداث » قال : كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة : أن برئت الذمة ممّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته ، فقام الخطباء ، وفي كل كورة ، وعلى كل منبر ، يلعنون عليّاً ويبرأون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته ، كان أشدّ الناس بلاءً حينئذ أهل الكوفة ، لكثرة من بها من شيعة علي ( عليه السلام ) فاستعمل عليها زياد ابن سميّة ، وضمّ إليه البرة ، فكان يتبع الشيعة وهو بهم عارف ، لأنّه كان منهم أيّام علي ( عليه السلام ) فقتلهم تحت كل حجر ومدر ، وأخافهم ، وقطع الأيدي والأرجل ، وسمل العيون ، وصلبهم على جذوع النخل ، وطردهم وشرّدهم عن العراق ، فلم يبق بها معروف منهم ، وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق :
________________________________________
1 ـ شرح ابن أبي الحديد 16 / 194.
2 ـ مروج الذهب 3 / 26.
3 ـ المنتطم 5 / 263 طبع بيروت.
________________________________________
(226)
ألّا يجيزو لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة. وكتب إليهم : ان انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبّيه وأهل ولايته ، والذين يروون فضائله ومناقبه فادنوا مجالسهم وقرّبوهم وأكرموهم ، واكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم ، واسمه واسم أبيه وعشيرته.
ففعلوا ذلك ، حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه ، لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطائع ، ويفيضه في العرب منهم والموالي ، فكثر ذلك في كل مصر ، وتنافسوا في المنازل والدنيا ، فليس يجيئ أحد مردود من الناس عاملاً من عمال معاوية ، فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلا كتب اسمه وقرّبه وشفعه. فلبثوا بذلك حينا.
ثمّ كتب إلى عماله : أن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجه وناحية ، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّلين ، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا وتأتوني بمناقض له في الصحابة ، فإنّ هذا أحبّ إليّ وأقرّ لعيني ، وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته ، وأشدّ إليهم من مناقب عثمان وفضله.
فقرئت كتبه على الناس ، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها ، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجري حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر ، واُلقي إلى معلّمي الكتاتيب ، فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتى رووه وتعلّموه كما يتعلّمون القرآن ، وحتى علّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم ، فلبثوا بذلك ما شاء اللّه.
ثمّ كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان : انظروا من قامت عليه البيّنة انّه يحبّ عليّاً وأهل بيته ، فامحوه من الديوان ، وأسقطوا عطاءه ورزقه وشفع ذلك بنسخة اُخرى : من اتّهمتموه بموالاة هؤلاء القوم ، فنكّلوا به ، واهدموا داره.
________________________________________
(227)
فلم يكن البلاء أشدّ ولا أكثر منه بالعراق ، ولا سيما بالكوفة ، حتى انّ الرجل من شيعة علي ( عليه السلام ) ليأتيه من يثق به ، فيدخل بيته ، فيلقي إليه سرّه ، ويخاف من خادمه ومملوكه ، ولا يحدّثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ، ليكتمن عليه ، فظهر حديث كثير موضوع ، وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة وكان أعظم الناس في ذلك بليّة القرّاء والمراؤون ، والمستضعفون ، الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ، ويقربوا مجالسهم ، ويصيبوا الأموال والضياع والمنازل ، حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلّون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها ، وهم يظنون أنّها حقّ ، ولو علموا أنّها باطلة لما رووها ، ولا تديّنوا بها.
وذكر ابن أبي الحديد : فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي ( عليه السلام ) فازداد البلاء والفتنة ، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلا وهو خائف على دمه ، أو طريد في الأرض.
ثم تفاقم الأمر بعد قتل الحسين ( عليه السلام ) ، وولّي عبد الملك بن مروان ، فاشتدّ على الشيعة ، وولّى عليهم الحجّاج بن يوسف ، فتقرّب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببغض علي وموالاة أعدائه ، وموالاة من يدّعي من الناس أنّهم أيضاً أعداؤه ، فأكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم ، وأكثروا من البغض من علي ( عليه السلام ) وعيبه ، والطعن فيه ، والشنان له حتى انّ انساناً وقف للحجّاج ـ ويقال انّه جدّ الأصمعي عبد الملك بن قريب ـ فصاح به : أيّها الأمير انّ أهلي عقّوني فسمّوني عليّاً ، وانّي فقير بائس ، وأنا إلى صلة الأمير محتاج. فتضاحك له الحجّاج ، وقال : للطف ما توسّلت به ، قد ولّيتك موضع كذا.
و قد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه ـ وهو من أكابر المحدّثين واعلامهم ـ في تاريخه ما يناسب هذا الخبر ، وقال : إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في
________________________________________
(228)
فضائل الصحابة افتعلت في أيّام بني اُميّة تقرّباً إليهم بما يظنّون أنّهم يرغمون به اُنوف بني هاشم (1).
فمن أراد أن يفق على الضغط الشديد الذي تعرض له الشيعة في عصر الامويّين فليقرأ حياة الصحابة والتابعين الذين قًتلوا بسيف عمّال معاوية وآل مروان ، وهؤلاء الأبطال :
1 ـ حجر بن عدي الذي قبض عليه زياد بعد هلاك المغيرة سنة ( 51 ) وبعثه مع أصحابه إلى الشام بشهادة مزوّرة ، وانّه يجتمع عليه شيعة علي ويظهرون لعن معاوية والبراءة منه. يقول المسعودي :
« في سنة ثلاث وخمسين قتل معاوية حجر بن عدي الكندي ـ وهو أوّل من قتل صبراً في الاسلام ـ وحمله زياد من الكوفة ومعه تسعة نفر من أصحابه من أهل الكوفة وأربعة من غيرها فلمّا صار على أميال من الكوفة يراد به دمشق أنشأت ابنته تقول ـ ولا عقب له من غيرها ـ :
ترفَّع أيّها القمر المنيريسير إلى معاوية بن حربو يصلبه على بابي دمشق لعلّك ان ترى حجراً يسيرليقتله كذا زعم الأميرو تأكل من محاسنه النسور
فقتله مع أصحابه في مرج العذراء (2).
2 ـ عمرو بن الحمق ذلك الصحابي العظيم الذي وصفه الامام الحسين سيّد
________________________________________
1 ـ شرح نهج البلاغة 11 / 44 ـ 46.
2 ـ مروج الذهب 3 / 3 ـ 4 ، سير أعلام النبلاء 3 / 462 ـ 466 برقم 95.
________________________________________
(229)
الشهداء بأنّه : أبلت وجهه العبادة. قتله بعدما أعطاه الأمان (1).
3 ـ مالك الأشتر ملك العرب ، أحد الأشراف والأبطال كان شهماً مطاعاً وكان قائد القوات العلوية قتله بالسم في مسيره إلى مصر بيد أحد عمّاله (2).
4 ـ رشيد الهجري كان من تلاميذ الامام وخواصّه عرض عليه زياد البراءة واللعن فأبى ، فقطع يديه ورجليه ولسانه ، وصلبه خنقاً في عنقه (3).
5 ـ جويرية بن مهر العبدي أخذه زياد وقطع يديه ورجليه وصلبه على جذع نخلة (4).
6 ـ قنبر مولى أمير المؤمنين إذ قال الحجّاج لبعض جلاوزته : اُحبّ أن اُصيب رجلاً من أصحاب أبي تراب ، فقالوا : ما نعلم أحداً كان أطول صحبة له من مولاه قنبر ، فبعث في طلبه ، فقال له : أنت قنبر ؟ قال : نعم ، قال له : إبرأ من دين علي ، فقال له : هل تدلّني على دين أفضل من دينه ؟
قال : إنّي قاتلك فاختر أيّ قتلة أحبّ إليك ، قال : أخبرني أمير المؤمنين : انّ ميتتي تكون ذبحاً بغير حقّ. فأمر به فذبح كما تذبح الشاة (5).
7 ـ كميل وهو من خيار اشيعة وخاصّة أمير المؤمنين طلبه الحجّاج فهرب منه ، فحرم قومه عطاءهم فلمّا رأى كميل ذلك قال : أنا شيخ كبير وقد نفد عمري ولا ينبغي أن أكون سبباً في حرمان قومي ، فاستسلم للحجّاج ، فلمّا رآه قال له : كنت اُحبُّ أن أجد عليك سبيلا ، فقال له كميل : لا تبرق ولا ترعد ، فو اللّه ما بقي من عمري
________________________________________
1 ـ سير أعلام النبلاء 4 / 34 ـ 35 برقم 6.
2 ـ شذرات الذهب 1 / 91.
3 ـ شرح نهج البلاغة 2 / 294 ـ 295.
4 ـ شرح نهج البلاغة 2 / 290 ـ 291.
5 ـ رجال الكشي 68 ـ 69 برقم 21 الشيعة والحاكمون 95.
________________________________________
(230)
إلاّ مثل الغبار ، فاقض فإنّ الموعد اللّه عزّوجلّ ، وبعد القتل الحساب. وقد أخبرني أميرالمؤمنين انّك قاتلي ، فقال الحجّاج : الحجّة عليك إذن ، فقال : ذلك إن كان القضاء لك ، قال : بلى ، اضربوا عنقه (1).
8 ـ سعيد بن جبير التابعي المعروف بالعفّة والزهد والعبادة وكان يصلّي خلف الامام زين العابدين فلمّا رآه الحجّاج قال له : أنت شقي بن كسير ، فقال : اُمّي أعرف بإسمي منك ، ثم بعد رد وبدل أمر الحجّاج بقتله ، فقال سعيد : وجّهت وجهي للّذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين. فقال الحجاج : شدّوه إلى غير القبلة ، فقال : أينما تولّوا فثمّ وجه اللّه ، فقال : كبوه على وجهه ، قال : منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة اُخرى ، ثم ضربت عنقه (2).
وسيوافيك ما جرى على زيد بن علي من الصلب أيّام خلافة هشام بن عبدالملك عام ( 122 ) عند الكلام عن فرق الزيدية فتربّص حتّى حين.
هذه صورة مصغّرة من جنايات البيت الأموي وقد جئنا بها كنموذج يوقفك على كثير وذكرناه لتقف على انّ بقاء التشيّع مع هذه المجازر أشبه بالمعجزة.
الشيعة في خلافة العباسيّين :
دار الزمان على بني اُميّة ، وقامت ثورات عنيفة ضدّهم ، أثناء خلافتهم إلى أن قضت على آخر ملوكهم ( مروان الحمار ) ( فَقُطِعَ دابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالحَمْدُللّهِ رَبِّ العالَمِينَ ) (3) وولي الأمر العباسيون ، وكان الأمر في القتل
________________________________________
1 ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 17 / 149 ، الشيعة والحاكمون 96.
2 ـ سير أعلام النبلاء 4 / 321 ـ 328 ، الجرح والتعديل 4 / 9 برقم 29.
3 ـ الأنعام / 45.
(231)
والتشريد والسفك والحبس في عهدهم نفس ما كان في عهد الامويين بل أسوأ بكثير. قال الشاعر :
واللّه ما فعلت اُميّة فيهم معشار ما فعلت بنو العباس
1 ـ وأوّل من تولّى منهم أبو العباس السفّاح بويع سنة ( 132 ) ومات سنة ( 136 ) ، قضى وقته في تتبّع الامويّين والقضاء عليهم ، وهو وإن لم يتعرّض للعلوّيين ، لكنّه تنكّر لهم وشيعتهم ويوعز إلى الشعراء أن يتعرّضوا لأولاد علي ويمحوا عنهم حقّ الخلافة. هذا محمّد أحمد براق يقول في كتابه « أبو العباس السفاح » : « إنّ أصل الدعوة كان لآل علي ، لأنّ أهل خراسان كان هواهم في آل علي لا آل العباس ، لذلك كان السفّاح ، ومن جاء بعده مفتّحة عيونهم لأهل خراسان حتّى لا يتفشّى فيهم التشيّع لآل علي : ... وكانوا يستجلبون الشعراء ليمدحوهم ، فيقدّمون لهم الجوائز ، وكان الشعراء يعرضون بأبناء علي وينفون عنهم حقّ الخلافة ، لأنّهم ينتسبون إلى النبىّ عن طريق ابنته فاطمة ، أمّا بنو العباس فإنّهم أبناء عمومة » (1).
2 ـ ثمّ جاء بعده أبو جعفر المنصور ، وقد شيّد مجد الاُسرة العباسيّة ، وكانت خلافته مزيجاً من الخير والشرّ وصار في اُخريات أيّامه شرّاً كلّه ، ويكفي للإلمام بجرائمه وقسوته ما كتبه ابن عبد ربّه في العقد الفريد قال : إنّ المنصور كان يجلس ويجلس إلى جانبه واعظاً ، ثمّ تأتي الجلاوزة في أيديهم السيوف يضربون أعناق الناس ، فإذا جرت الدماء حتّى تصل إلى ثيابه ، يلتفت إلى الواعظ ويقول : عظني! فإذا ذكّره الواعظ باللّه ، أطرق المنصور كالمنكسر ، ثمّ يعود الجلاوزة إلى ضرب الأعناق ، فإذا ما أصابت الدماء ثياب المنصور ثانياً ، قال لواعظه :
________________________________________
1 ـ أبو العباس السفاح 48 ، كما في الشيعة والحاكمون 139.
________________________________________
(232)
عظني!! (1).
فماذا يريد المنصور من قوله للواعظ ، وهل يريد الاستهزاء بالدين الذي نهى عن قتل النفس وسفك الدماء أو يريد شيئاً آخر واللّه العالم.
وأمّا ما جرى منه على العلويّين ، فنذكر ما يلي حتّى يكون كنموذج لأعماله : يقول المسعودي : جمع المنصور أبناء الحسن ، وأمر بجعل القيود والسلاسل في أرجلهم وأعناقهم ، وحملهم في محامل مكشوفة وبغير وطاء تماماً كما فعل يزيد بن معاوية بعيال الحسين ، ثمّ أودعهم مكاناً تحت الأرض لا يعرفون فيه الليل من النهار ، واُشكلت أوقات الصلاة عليهم ، فجزَّأوا القرآن خسمة أجزاء ، فكانوا يصلّون على فراغ كل واحد من حزبه ، وكانوا يقضون الحاجة الضرورية في مواضعهم ، فاشتدّت عليهم الرائحة ، وتورّمت أجسادهم ولا يزال الورم يصعد من القدم حتّى يبلغ الفؤاد ، فيموت صاحبه مرضاً وعطشاً وجوعا (2).
وقال ابن الأثير : دعا المنصور محمّد بن عبداللّه العثماني ، وكان أخاً لأبناء الحسن من اُمّهم ، فأمر بشقّ ثيابه ، حتّى بانت عورته ، ثم ضرب مائة وخسمون سوطاً ، فأصاب سوط منها وجهه فقال : ويحك اكفف عن وجهي ، فقال المنصور للجلاّد : الرأس الرأس ، فضربه على رأسه ثلاثين سوطاً ، وأصاب إحدى عينيه فسالت على وجهه ، ثم قتله ـ ثم ذكر ـ وأحضر المنصور محمّد بن إبراهيم بن الحسن ، وكان أحسن الناس صورة ، فقال له : أنت الديباج الأصفر ، لاُقتلنّك قتلة لم أقتلها أحداً ، ثمّ أمر به ، فبنى عليه اسطوانة ، وهو حي ، فمات فيها (3).
________________________________________
1 ـ العقد الفريد 1 / 41.
2 ـ مروج الذهب 3 / 310 طبع 1948.
3 ـ الكامل 4 / 375.
________________________________________
(233)
3 ـ ثمّ ولي بعده المهدي ولد المنصور ، وبقى في الحكم من سنة ( 158 ) إلى سنة ( 169 ) وكفى في ظلمه للعلويّين ، انّه أخذ علي بن العباس بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، فسجنه فدسّ إليه السم فتفسّخ لحمه وتباينت أعضاؤه.
4 ـ ولمّا توفّي المهدي بويع ولده الهادي ، وكانت خلافته سنة وثلاثة أشهر ، وكفى فيه ظلمه ـ بالرغم من قصر أيّامه ـ ما يذكره أبو الفرج الأصفهاني : انّ اُمّ الحسين صاحب فخ هي زينب بنت عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، قتل المنصور ، أباها واخوتها ومومتها وزوجها علي بن الحسن ، ثم قتل الهادي حفيد المنصور ، ابنها الحسين ن وكانت تلبس المسوح على جسدها ، لا تجعل بينا وبينه شيئا حتى لحقت باللّه عزّ وجلّ (1).
5 ـ ثم تولّى بعده الرشيد سنة ( 170 ) ومات ( 193 ) ونذكر من جرائمه شيئاً واحداً ، ما نقله صاحب مقاتل الطالبيين عن إبراهيم بن رباح ، قال : إنّ الرشيد حين ظفر بيحيى بن عبد اللّه بن الحسن ، بني عليه اسطوانة وهو حي ، وكان هذا العمل الاجرامي موروثاً من جدّه المنصور (2) وأمّا ماجرى منه في حقّ الامام الكاظم فنذكره في المفصل الحادي عشر عند ذكر أئمّة الشيعة.
6 ـ ثمّ جاء بعده ابنه الأمين ، فكان على الحكم أربع سنين وأشهرا ، يقول أبو الفرج : كانت سيرة الأمين في أمر آل أبي طالب خلاف من تقدّم لتشاغله بما كان فيه من اللّهو ثمّ الحرب بينه وبين المأمون ، حتى قتل فلم يحدث على أحد منهم في أيّامه حدث.
7 ـ وتولّى الحكم بعده المأمون ، فقد كان من أقوى الحكّام العباسيّين بعد
________________________________________
1 ـ مقاتل الطالبيين 285 طبع النجف.
2 ـ مقاتل الطالبيين 320 طبع النجف ، و روى في مقتله أمراً آخر.
________________________________________
(234)
أبيه الرشيد. فلمّا رأى المأمون إقبال الناس على العلويّين وعلى رأسهم الإمام الرضا ، ألقى عليه القبض بحيلة الدعوة إلى بلاطه ، ثمّ دسّ السمّ للإمام الرضا ، وسيوافيك تفصيله.
8 ـ مات المأمون سنة ( 218 ) وجاء إلى الحكم النه المعتصم فسجن محمّد ابن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن أبي طالب فتغلّب عليه وسجنه ثمّ فرّ من السجن.
9 ـ ولى الحكم بعده الواثق وقد سجن الإمام الجواد بن الإمام الرضا ( عليه السلام ) ، ودسّ له السم بيد زوجته الأثيمة اُمّ الفضل بنت المأمون.
10 ـ وولى الحكم بعد الواثق ، المتوكّل وإليك نموذجاً من حقده علي آل البيت وهو ما ذكره أبو الفرج قال : كان المتوكّل شديد الوطأة على آل أبي طالب غليظاً في جماعتهم ، شديد الغيظ والحقد عليهم ، وسوء الظن والتهمة لهم ، واتّفق له أنّ عبيد اللّه بن يحيى بن خاقان وزيره يسيئ الرأي فيهم ، فحسن له القبيح في معاملتهم ، فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله ، وكان من ذلك أن كرب (1) قبر الحسين وعفّى آثاره ، ووضع على سائر الطرق ، مسالح له لا يجدرون أحداً زاره إلا أتوه به وقتله أو أنهكه عقوبة.
و قال : : بعث برجل من أصحابه ( يقال له « الديزج » وكان يهودياً فأسلم ) إلى قبر الحسين وأمره بكرب قبره ومحوه وإخراب ما حوله ، فمضى ذلك ، فخرّب ما حوله وهدم البناء وكرب ما حوله نحو مأتي جريب ، فلمّا بلغ إلى قبره لم يتقدّم إليه أحد فأحضر قوماً من اليهود فكربوه ، وأجرى الماء حوله ، ووكل به مسالح ، بين كل مسلحتين ميل ، لا يزوره زائر إلا أخذوه ووجّهوا به إليه.
و قال : حدثني محمّد بن الحسين الأشناني : بعد عهدي بالزيارة في تلك
________________________________________
1 ـ الكرب : إثارة الأرض للزرع.
________________________________________
(235)
الأيّام خوفاً ، ثمّ عملت على المخاطرة بنفسي فيها ، وساعدني رجل من العطّارين على ذلك ، فخرجنا زائرين ، نكمن النهار ونسير الليل حتى أتينا نواحي الغاضريّة ، وخرجنا نصف الليل فصرنا بين مسلحتين ، وقد ناموا ، حتى أتينا القبر فخفي علينا فجعلنا نشمّه ( نتسمه ) ونتحرّى جهته حتى أتيناه ، وقد قلع الصندوق الذي كان حواليه ، واُحرق واُجري الماء عليه ، فانخسف موضع اللبن وصار كالخندق ، فزرناه وأكببنا عليه .. فودّعناه وجعلنا حول القبر علامات في عدّة مواضع ، فلمّا قتل المتوكّل اجتمعنا مع جماعة من الطالبيين والشيعة حتى صرنا القبر فأخرجنا تلك العلامات وأعدناه إلى ما كان عليه. و قال : واستعمل على المدينة ومكّة عمر بن الفرج فمنع آل أبي طالب من التعرّض لمسألة الناس ومنع الناس من البرّ بهم ، وكان لا يبلغه أنّ أحداً أبرّ أحداً منهم بشيء ، وإنّ قلّ إلا أنهكه عقوبة ، وأثقله غرماً ، حتى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلّين فيه واحدة بعد واحدة ، ثمّ يرقعنه ويجلسن على مغازلهن عوارى حواسر إلى أن قتل المتوكّل فعطف المنتصر عليهم وأحسن إليهم بمال فرّقه بينهم ، كان يؤثر مخالفة أبيه في جميع أحواله ومضادّة مذهبه (1). و ولى بعده المنتصر ابنه وظهر منه الميل إلى أهل البيت وخالف أباه ـ كما عرفت ـ فلم يجر منه على أحد منهم قتل أو حبس أو مكروه فيما بلغنا. و أوّل ما أحدثه انّه لمّا ولى الخلافة عزل صالح بن علي عن المدينة ، وبعث علي بن الحسين مكانه فقال له ـ عند الموادعة ـ : يا علي : إنّي اُجّهك إلى لحمي ودمي فانظر كيف تكون للقوم وكيف تعاملهم ـ يعني آل أبي طالب ـ ، فقلت : أرجو أن أمتثل رأي أمير المؤمنين ـ أيّده اللّه ـ فيهم ، إن شاء اللّه. قال : إذاً تسعد
________________________________________
1 ـ مقاتل الطالبيين 395 ـ 396.
________________________________________
(236)
بذلك عندي (1).
وقام بعده المستعين بالأمر ، فنقض كلّما عزله المنتصر من االبرّ والإحسان ، ومن جرائمه انّه قتل يحيى بن عمر بن الحسين ، قال أبو الفرج : وكان ـ رضي اللّه عنه ـ رجلاً فارساً شجاعاً شديد البدن ، مجتمع القلب ، بعيداً من رهق الشباب وما يعاب به مثله ، ولمّا اُدخل رأسه إلى بغداد جعل أهلها يصيحون من ذلك إنكاراً له ، ودخل أبو هاشم على محمّد بن عبد اللّه بن طاهر ، فقال : أيّها الأمير جئتك مهنّا بما لو كان رسول اللّه حيّاً يعزّي به.
واُدخل الاُسارى من أصحاب يحيى إلى بغداد ولم يكن روي قبل ذلك من الاُسارى لحقه ما لحقهم من العسف وسوء الحال ، وكانوا يساقون وهم حفاة سوقاً عنيفاً ، فمن تأخّر ضربت عنقه.
قال أبو الفرج : وما بلغني أنّ أحداً ممّن قتل في الدولة العباسيّة من آل أبي طالب رثي بأكثر مما رثي به يحيى ، ولا قيل فيه الشعر بأكثر ممّا قيل فيه.
هذا قليل من كثير من المجازر الدامية ، التي قام بها بنو العباس وأتوا بجرائم لم يسبقهم أحد من الامويين ولا من جاء بعدهم إليها وهم كما قال الشاعر :
تا للّه إن كانت بنو اُميّة قد أتتفلقد أتاه بنو أبيه بمثلهاأسفوا على أن لا يكونوا شايعوا قتل ابن بنت نبيّها مظلوماهذا لعمرك قبره مهدومافي قتله فتتّبعوه رميما
و من أراد أن يقف على سجلّ جرائم الدولتين ( الاموية والعباسية ) وملف مظالمهم فعليه قراءة القصائد الثلاث التي نظمها رجال مؤمنون مخلصون ، عرضوا أنفسهم للمخاوف والأخطار طلباً لرضى الحقّ :
________________________________________
1 ـ مقاتل الطالبيين 636.
________________________________________
(237)
1 ـ تائية دعبل الخزاعي الشهيد عام 246 هـ ، فإنّها وثيقة تأريخية خالدة تعرب عن سياسة الدولتين تجاه أهل البيت ( عليه السلام ) ، وقد أنشدها الشاعر للإمام الرضا ، فبكى وبكت معه النسوة.
أخرج الحموي عن أحمد بن زياد عن دعبل الخزاعي قال : أنشدت قصيدة لمولاي علي الرضا ـ رضي اللّه عنه ـ :
مدارس آيات خلت من ثلاوةٍ ومنزل وحي مقفر العرصات
قال دعبل : ثمّ قرأت باقي القصيدة ، فلمّا انتهيت إلى قولي :
خروج إمام لا محالة واقع يقوم على اسم اللّه والبركات
وبكى الرضا بكاءً شديداً من هذه القصيدة قوله :
هم نقضوا عهد الكتاب وفرضهتراث بلا قربى وملك بلا هدى وما حكمه بالزور والشبهاتو حكم بلا شورى بغير هدات
و فيها أيضاً قوله :
لآل الرسول بالخيف من منىديار علي والحسين وجعفرديار عفاها جور كل منابذو دار لعبد اللّه والفض صنوهمنازل كانت للصلاة وللتقىمنازل وحي اللّه معدن علمهمنازل وحي اللّه ينزل حولها وبالبيت والتعريف والجمراتو حمزة والسجّاد ذي الثفناتولم تعف للايّام والسنواتسليل رسول اللّه ذي الدعواتو للصوم والتطهير والحسناتسبيل رشاد واضح الطرقاتعلى أحمد الروحات والغدوات
إلى أن قال :
ديار رسول اللّه أصبحن بلقعا و دار زياد أصبحت عمرات
________________________________________
(238)
و آل رسول اللّه غُلَّتْ رقابهمو آل رسول اللّه تُدْمى نحورهم وآل زياد غلّظِ القصراتو آل زياد زيّنوا الحجلات
و فيها أيضا :
أفاطم لو خلت الحسين مجدّلاًإذاً للطمت الخد فاطم عندهأفاطم قومي يا ابنة الخير واندبي وقد مات عطشاناً بشطّ فراتو أجريت دمع العين والوجناتنجوم سماوات بأرض فلات (1)
2 ـ ميميّة الأمير أبي الفراس الحمداني ( 320 ـ 357 هـ ) ، هذه القصيدة تعرف بالشافية وهي من القصائد الخالدة ، وعليها مسحة البلاغة ، ورونق الجزالة ، وجودة السرد ، وقوّة الحجّة ، وفخامة المعنى ، انشدها ناظمها لمّا وقف على قصيدة ابن سكره العباسي التي مستهلّها :
بني علي دعوا مقالتكم لا ينقض الدر وضع من وضعه
فقال الأمير في يجوابه ميميّته المعروفة وهي :
الحق مهتضم والدين مخترم و فيئ آل رسول اللّه مقتسم
إلى أن قال :
يا للرجال أما للّه منتصربنو علي رعايا في ديارهم من الطغاة ؟ أما للّه منتقم ؟و الأمر تملكه النسوان والخدم ! (2)
3 ـ جيميّة ابن الرومي التي رثا بها يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد ، وهي :
________________________________________
1 ـ لاحظ للوقوف على هذه القصيدة : المناقب لابن شهر آشوب 2 / 394 ، وروضة الواعظين للقتال النيسابوري 194 ، وكشف الغمة للاربلي 3 / 112 ـ 117 ، وقد ذكرها أكثر المؤرخين.
2 ـ نقلها في الغدير برمتها وأخرج مصادرها ، لاحظ 3 ، 399 ـ 402.
________________________________________
(239)
أمامك فانظر أيّ نهجيك تنهجألا أيّ هذا الناس طال ضريركمأكلّ أوانٍ للنبي محمّد طريقان شتّى مستقيم وأعوجبآل رسول اللّه فاخشوا أو ارتجواقتيل زكيّ بالدماء مضرّج (1)
« واللّه لا يعرف التاريخ اُسرة كاُسرة أبي طالب بلغت الغاية من شرف الأرومة ، وطيب النجار ، ضلّ عنها حقّها ، و جاهدت في سبيل الله حقَّ الجهاد من الاعصار ثم لم تظفر من جهادها المرير إلا بالحسرات ولم تعقب من جهادها إلا العبرات ، على ما فقدت من أبطال أسالوا نفوسهم في ساحة الوغى ، راضية قلوبهم مطمئنة ضمائرهم ، وصافحوا لاموت في بسالة فائقة وتلقّوه في صبر جميل يثير في النفس الاعجاب والاكبار ويشيع فيها ألوان التقدير والاعظام.
وقد أسرف خصوم هذه الاُسرة الطاهرة في محاربتها وأذاقوها ضروب النكال ، وصبّوا عليها صنوف العذاب ، ولم يرقبوا فيها إلاً ولا ذمّةً ولم يرعوا لها حقّاً ولا حرمة وأفرغوا بأسهم الشديد على النساء والأطفال ، والرجال جميعاً في عنف لا يشوبه لين ، وقسوة لا تمازجها رحمة ، حتى غدت مصائب أهل البيت مضرب الأمثال ، في فظاعة النكال ، وقد فجرت هذه القسوة البالغة ينابيع الرحمة والمودّة في قلوب الناس وأشاعت الأسف الممض في ضمائرهم ، وملأت عليهم أقطار نفوسهم شجنا ، وصارت مصارع هؤلاء الشهداء حديثاً يروي وخبراً يتناقل ، وقصصاً يقص ، يجد فيه الناس إرضاء عواطفهم وإرواء مشاعرهم فتطلبوه وحرصوا عليه » (2).
كانت الشيعة حليف الضغط والكبت ، لم ير الامويّون والعباسيّون ولا الملوك
________________________________________
1 ـ مقاتل الطالبيين 639 ـ 646.
2 ـ مقدّمة مقاتل الطالبيين ، بقلم السيد أحمد صفر : الصفحة ي ـ ك ، طبع دار المعرفة.
________________________________________
(240)
الغزانوة ولا السلاجقة ولا من أتى بعدهم أي حرمة لنفوسهم واعراضهم وعلومهم ومكتباتهم ، وكانت اليهود والنصارى أحراراً في الرقعة الاسلامية وكانت الشيعة تعيش في التقيّة ولا يتوجّه أي ذنب على الشيعة في أن يتقي أخاه المسلم ، ويظهر له خلاف ما يعتقده. إنّما التقصير على من حملهم على التقيّة ، وأباح دمهم وعرضهم وأموالهم فلم ير بدّاً ، لصيانة نفسه ونفيسه من التقيّة.
هذا هو طغرل بيك أوّل ملك من السلاجقة ورد بغداد سنة 447 وشنّ على الشيعة حملة شعواء وأمر بإحراق مكتبة الشيعة التي أنشأها أبو نصر سابور بن اردشير ، وزير بهاء الدولة البويهي وكانت من دور العلم المهمّة في بغداد بناها هذا الوزير الجليل ما تفرّق من كتب فارس والعراق واستكتب تآليف أهل الهند والصين والروم ، كما قاله محمد كرد علي ، ونافت كتبها على عشرة آلاف من جلائل الآثار ومهام الأسفار ، وأكثرها نسخ الأصل بخطوط المؤلّفين (1).
قال ياقوت الحموي : وبها كانت خزانة الكتب التي أوقفها الوزير أبو نصر سابور بن اردشير وزير بهاء الدولة بن عضد الدولة ، ولم يكن في الدنيا أحسن كتباً منها ، كانت كلّها بخطوط الأئمّة المعتبرة واُصولهم المحرّرة (2).
و كان من جملتها مصاحف بخطّ ابن مقلة على ما ذكره ابن الأثير (3).
و حيث كان الوزير سابور من أهل الفضل والأدب ، أخذ العلماء يهدون إليه
________________________________________
1 ـ خطط الشام 3 / 185.
2 معجم البلدان 2 / 342.
3 ـ الكامل في التاريخ 10 / 3.
(241)
مؤلّفاتهم ، فأصبحت مكتبته من أغنى دور الكتب ببغداد ، وقد احترقت هذه المكتبة العظيمة فيما احترق من محال كرخ عند مجيئ طغرل بيك وتوسّعت الفتنة حتى اتّجهت إلى شيخ الطائفة وأصحابه فأحرقوا كتبه وكرسيه الذي كان يجلس عليه للكلام.
و قال ابن الجوزي في حوادث سنة 448 :
و هرب أبو جعفر الطوسي ونهبت داره ، ثمّ قال في حوادث سنة 449 : وفي صفر هذه السنة كبست دار أبي جعفر الطوسي المتكلّم الشيعة في الكرخ ، واُخذ ما وجد من دفاتره وكرسيّ يجلس إليه للكلام ، واُخرج إلى الكرخ واُضيف إليه ثلاث سناجيق بيض كان الزوّار من أهل الكرخ قديماً يحملونها معهم إن قصدوا زيارة الكوفة ، فاُحرق الجميع (1).
و أنت إذا سبرت غضون التأريخ المؤلّف في عصور الامويّين والعباسيّين ومن بعدهم ـ مع أنّه قد لعبت به الهوى ودسّ فيها أشياء وأشياء ـ تقف على أنّ بقاء الشيعة إلى العصر الحاضر من المعاجز والكرامات وخوارق العادات ، وكيف وانّ تاريخهم هو الذبح ، والقتل ، والقمع ، والاستئصال ، والسحق ، والإبادة ، قد تضافرت قوى الكفر والفسق على إهلاكهم وقطع جذورهم ومع ذلك فقد كانت لهم دول ودويلات ، ومعاهد وكلّيّات ، وبلدان وحضارات ، وأعلام ومفاخر وعباقرة وفلاسفة ، وفقهاء ومحدّثون ووزراء وسياسيّون ، ويشكلون اليوم خمس المسلمون أو ربعهم ، إنّ ذلك من فضله سبحانه لتعلّق مشيئته على إبقاء الحقّ
________________________________________
1 ـ المنتظم 8 / 173 ـ 179 ، نقلنا ما يتعلّق بمكتبة أبي نصر سابور والشيخ الطوسي عن مقدّمة شيخنا الطهراني على التبيان وذكرنا المصادر التي أومأ هو إليها في الهامش ، لاحظ الصفحة هـ ـ ومن المقدمة.
________________________________________
(242)
و إزهاق الباطل في ظل قيام الشيعة طيلة القرون بواجبها وهو الصمود أمام الظلم ، والتضحية والتفدية للمبدأ والمذهب وقد قال سبحانه : ( إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشرونَ صابِرونَ يَغْلِبُوا مائَتَينِ وإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا ألْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفروا بِأنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ) (1).
و لا يفوتنّك انّ ثوراتهم المتعاقبة أدّت إلى تشريدهم وقتلهم والفتك بهم ، ولو أنّهم ساوموا السلطة الأموية والعباسية ، لكانوا في أعلى المناصب والمدارج ، لكن ثوراتهم لم تكن عنصريّة أو قوميّة أو طلباً للرئاسة ، بل كانت لإزهاق الباطل ورفع الظلم عن المجتمع ، والدعوة إلى اعلاء كلمة اللّه وغير ذلك ممّا هو من وظائف العلماء العارفين.
________________________________________
1 ـ الأنفال / 65.