في الاُصول الخمسة عند المعتزلة
اشتهرت المعتزلة باُصولها الخمسة ، فمن دان بها فهو معتزلي ومن نقص منها أو زاد عليها فليس منهم. وتلك الاُصول المرتّبة حسب أهمّيتها ، عبارة عن : التوحيد ، والعدل ، والوعد والوعيد ، والمنزلة بين المنزلتين ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فمن دان بها ثمّ خالف بقيّة المعتزلة في تفاصيلها أو في فروع اُخر لم يخرج بذلك عنهم.
قال الخيّاط : « فليس يستحقّ أحد منهم الاعتزال حتى يجمع القول بالاُصول الخمسة : التوحيد ، والعدل ، والوعد والوعيد ، والمنزلة بين المنزلتين ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإذا اكملت في الإنسان هذه الخصال الخمس فهو معتزلي » (1).
قال المسعودي ( م 345 ) بعد سرد الاُصول الخمسة حسب ما سمعت منّا : « فهذا ما اجتمعت عليه المعتزلة ومن اعتقد ما ذكرناه من الاُصول الخمسة ، كان معتزليّاً ، فان اعتقد الأكثر أو الأقلّ لم يستحقّ اسم الاعتزال ، فلا يستحقّه إلا باعتقاد هذه الاُصول الخمسة. وقد تنوزع فيما عدا ذلك من فروعهم » (2).
والعجب من ابن حزم ( م 456 ) حيث زعم أنّ الاُصول الخمسة عبارة عن القول بخلق القرآن ، ونفي الرؤية ، والتشبيه ونفي القدر ، والقول بالمنزلة بين المنزلتين ، ونفي
________________________________________
1 ـ الانتصار للخيّاط: ص 126.
2 ـ مروج الذهب: ج 3 ، ص 222.
________________________________________
(296)
الصفات (1).
فقد ذكر من الاُصول ثلاثة ، حيث إنّ نفي القدر و خلق القرآن إيعاز إلى العدل (2) كما أنّ نفي الصفات والرؤية إشارة إلى التوحيد أي تنزيهه سبحانه عمّا لا يليق ، وأهمل اثنتين منها أعني الوعد والوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فإذا كان هذا مبلغ علم الرجل بأصول الاعتزال الّذي هو أقرب إليه من الشيعة ، فما ظنّك بعلمه بطوائف أخرى كمعتقدات الشّيعة الّذين يعيشون في بيئة بعيدة منه ، ولأجل ذلك رماهم بنسب مفتعلة.
إيعاز إلى الاُصول الخمسة
وقبل كلّ شيء نطرح هذه الاُصول على وجه الاجمال حتّى يعلم ماذا يريد منها المعتزلة ، ثمّ نأخذ بشرحها واحداً بعد واحد فنقول:
1 ـ التوحيد: ويراد منه العلم بأنّ الله واحد لا يشاركه غيره فيما يستحقُّ من الصفات نفياً و إثباتا على الحدّ الّذي يستحقّه. وسيوافيك تفصيله فيما بعد ، والتوحيد عندهم رمز لتنزيهه سبحانه عن شوائب الامكان ووهم المثليّة و غيرهما ممّا يجب تنزيه ساحته عنه كالتجسيم والتشبيه و إمكان الرؤية و طروء الحوادث عليه ، غير أنّ المهمّ في هذا الأصل هو الوقوف على كيفيّة جريان صفاته عليه سبحانه ونفي الروية ، وغيرهما يقع في الدّرجة الثانية من الأهمية في هذا الأصل ، لأنّ كثيراً منها لم يختلف المسلمون فيه إلاّ القليل منهم.
2 ـ العدل: إذا قيل إنّه تعالى عادل ، فالمراد أنّ أفعاله كلّها حسنة ، وأنّه لا يفعل القبيح ، وأنّه لا يخلّ بما هو واجب عليه. وعلى ضوء هذا لا يكذب في خبره ، ولا يجور في حكمه ولا يعذِّب أطفال المشركين بذنوب آبائهم ، ولا يُظهر المعجزة على أيدي
________________________________________
1 ـ الفصل: ج 2 ، ص 113.
2 ـ سيأتي في الأصل الثاني أنّ القاضي أدخل البحث عن خلق القرآن تحت ذلك. و إن كان غير صحيح.
________________________________________
(297)
الكذّابين ، ولا يكلِّف العباد ما لا يطيقون ، وما لا يعلمون ، بل يقدرهم على ما كلّفهم ، ويعلِّمهم صفة ما كلّفهم ، ويدلّهم على ذلك ويبيّن لهم ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَة وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَة ) (1) و أنّه إذا كلّف المكلّف و أتى بما كلّف على الوجه الّذي كلف فإنّه يثيبه لا محالة ، وأنّه سبحانه إذا آلم و أسقم فإنّما فعله لصلاحه و منافعه و إلاّ كان مخلاّ ً بواجب...
3 ـ الوعد و الوعيد: والمراد منه أنّ الله وعد المطيعين بالثواب ، وتوعّد العصاة بالعقاب ، وأنّه يفعل ما وعد به وتوعّد عليه لا محالة. ولا يجوز الخلف لأنّه يستلزم الكذب. فإذا أخبر عن الفعل ثمّ تركه يكون كذباً ، ولو أخبر عن العزم ، فبما أنّه محال عليه كان معناه الإخبار عن نفس الفعل ، فيكون الخلف كذباً ، وعلى ضوء هذا الأصل حكموا بتخليد مرتكب الكبائر في النار إذا مات بلا توبة.
4 ـ المنزلة بين المنزلتين: وتلقّب بمسألة الأسماء و الأحكام ، وهي أنّ صاحب الكبيرة ليس بكافر كما عليه الخوارج ، ولا منافق كما عليه الحسن البصري ، ولا مؤمن كما عليه بعضهم ، بل فاسق لا يحكم عليه بالكفر ولا بالإيمان.
5 ـ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر: والمعروف كلّ فعل عرف فاعله حسنه أو دلّ عليه ، والمنكر كلّ فعل عرف فاعله قبحه أو دلّ عليه ، ولا خلاف بين المسلمين في وجوبهما ، إنّما الخلاف في أنّه هل يعلم عقلاً أو لا يعلم إلاّ سمعاً؟ ذهب أبو عليّ ( م 303 ) إلى أنّه يعلم عقلاً وسمعاً ، وأبو هاشم ( م 321 ) إلى أنّه يعلم سمعاً ، ولوجوبه شروط تذكر في محلّها ، ومنها أن لا يؤدّي إلى مضرّة في ماله أو نفسه إلاّ أن يكون في تحمّله لتلك المذلّة إعزاز للدّين.
قال القاضي: « وعلى هذا يحمل ما كان من الحسين بن عليّ ـ عليهما السلام ـ لما كان في صبره على ما صبر إعزاز لدين الله عزّوجلّ ولهذا نباهي به سائر الاُمم فنقول: لم يبق من ولد الرّسول صلَّى الله عليه و آله و سلَّم إلاّ سبط واحد ، فلم يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتّى
________________________________________
1 ـ الأنفال / 42.
________________________________________
(298)
قتل دون ذلك » (1).
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ضربين:
أحدهما: إقامة ما لا يقوم به إلاّ الأئمّة كإقامة الحدود و حفظ بيضة الإسلام وسدّ الثغور و إنفاذ الجيوش و نصب القضاة والاُمراء وما أشبه ذلك.
والثاني: ما يقوم به كافة الناس ، وفي المسلمين ـ كالإماميّة ـ من يقول بأنّ بعض المراتب منه كالجهاد الابتدائي مع الكفّار مشروط بوجود إمام معصوم مفترض الطاعة.
وهذا إلماع إلى معرفة الاُصول الخمسة الّتي يدور عليها فلك الاعتزال وقد أخذناها من شرح الاُصول الخمسة وقد أتى بها في الفصل الّذي عقده لبيان اُصول المعتزلة على وجه الاختصار. ثمّ أخذ بالتفصيل في ضمن فصول.
والمعتزلة قد اتّفقوا على هذه الاُصول و إن اختلفوا في تفاصيلها. نعم ، إنّ هناك اختلافات فيها بين أصحاب المدرستين: أصحاب مدرسة البصرة وعلى رأسهم واصل ابن عطاء ، وعمرو بن عبيد ، والنظّام والجبائيان والقاضي ، وأصحاب مدرسة بغداد وفي مقدّمهم بشر بن المعتمر ، وأبو الحسين الخيّاط ، وأبو القاسم البلخي ، وقد عرفت في الفصول السابقة ترجمة حياتهم.
هذه الاُصول الخمسة الّتي بها يناط دخول الرجل في سلك المعتزلة.
وقد ذكر الشهرستاني الاُصول الّتي اتّفقت المعتزلة عليها ، من دون أن يفرّق بين ما يدخل في الاُصول الخمسة وما هو خارج عنها ، وإليك نصّه:
« القول بأنّ الله تعالى قديم ، والقدم أخصّ وصف ذاته ، ونفوا الصفات القديمة أصلاً فقالوا: هو عالم بذاته ، قادر بذاته ، حيّ بذاته ، لا بعلم وقدرة وحياة. هي صفات قديمة ، ومعان قائمة به ، لأنّه لو شاركته الصفات في القدم الّذي هو أخصّ الوصف ،
________________________________________
1 ـ الاُصول الخمسة ص 142.
________________________________________
(299)
لشاركته في الإلهيّة.
واتّفقوا على أنّ كلامه محدث مخلوق في محلِّ ، وهو حرف وصوت كتب أمثاله في المصاحف حكايات عنه. فإنّ ما وجد في المحلّ عرض قد فني في الحال. واتّفقوا على أنّ الإرادة والسمع والبصر ليست معاني قائمة بذاته ، لكن اختلفوا في وجوه وجودها ، ومحامل معانيها كما سيأتي.
واتّفقوا على نفي روية الله تعالى بالأبصار في دار القرار ، ونفي التشبيه عنه من كلّ وجه: جهة ، ومكاناً ، وصورة و جسماً ، وتحيّزاً ، وانتقالاً ، وزوالاً و تغيّراً و تأثّراً. وأوجبوا تأويل الآيات المتشابهة فيها ، وسمّوا هذا النّمط توحيداً.
واتّفقوا على أنّ العبد قادر خالق لأفعاله خيرها و شرّها مستحقّ على ما يفعله ثواباً و عقاباً في الدار الآخرة. والربّ تعالى منزّه أن يضاف إليه شرّ وظلم ، وفعل هو كفر ومعصية ، لأنّه لو خلق الظّلم كان ظالماً ، كما لو خلق العدل كان عادلاً.
واتّفقوا على أنّ الله تعالى لا يفعل إلاّ الصّلاح والخير ، ويجب من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد ، وأمّا الأصلح واللّطف ففي وجوبه عندهم خلاف. وسمّوا هذا النّمط عدلاً.
واتّفقوا على أنّ المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعة و توبة ، استحقّ الثّواب والعوض. والتّفضل معنى آخر وراء الثّواب و إذا خرج من غير توبة عن كبيرة ارتكبها ، استحقّ الخلود في النار ، لكن يكون عقابه أخفّ من عقاب الكفّار و سمّوا هذا النمط وعداً و وعيداً.
واتّفقوا على أنّ اُصول المعرفة ، وشكر النعمة واجبة قبل ورود السّمع ، والحسن والقبح يجب معرفتهما بالعقل ، واعتناق الحسن واجتناب القبيح واجب كذلك وورود التّكاليف ألطاف للبارىء تعالى أرسلها إلى العباد بتوسط الأنبياء ( عليهم السلام ) امتحاناً واختباراً ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَة وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَة ) ( الانفال / 42 ).
واختلفوا في الإمامة ، والقول فيها نصّاً و اختياراً ، كما سيأتي عند مقالة كلّ
________________________________________
(300)
طائفة » (1).
يلاحظ عليه: أنّ المعتزلة لم تقل في الإمامة بالنصّ ، وإنّما يقولون بالاختيار. ونسبة نظرية النصّ إليهم مبنيّ على عدّ الشيعة القائلين بالنص منهم ، وهو خطأ.
ولا يخفى على القارئ بعد الاحاطة بما حقّقنا حول الاُصول الخمسة تفكيك الاُصول عمّا يترتب عليها من الأحكام ، وقد خلط هو وقبله الأشعري بين المبني و ما يترتب عليه من البناء وغيرهما من الاُصول.
وتحقيق الحقّ حول هذه الاُصول يستدعي رسم اُمور تلقي ضوءاً على الأبحاث التالية:
1 ـ أصلان أو اُصول خمسة؟
إنّ القاضي عبدالجبّار ليس أوّل من ألّف في عقائد المعتزلة باسم الاُصول الخمسة بل سبق في ذلك شخصان آخران من خرّيجي المدرستين ، أحدهما: أبو الهذيل العلاّف البصري ، والثاني: جعفر بن حرب البغدادي.
قال النّسفي في « بحر الكلام »: « خرج أبو الهذيل فصنّف لهم كتابين و بيّن مذهبهم ، وجمع علومهم ، وسمّى ذلك: « الخمسة الاُصول » ، وكلّما رأوا رجلاً قالوا له:هل قرأت « الاُصول الخمسة » فإن قال: نعم ، عرفوا أنّه على مذهبهم » (2).
وقال ابن المرتضى: « ومنهم جعفر بن حرب ( م 236 ) الّذي عدّه المرتضى من الطّبقة السابعة فقال: له الاُصول الخمسة » (3).
والظاهر أنّ القاضي أملى شرح الاُصول الخمسة على غرار الكتابين الماضيين وكتبه عدد من تلاميذه ، وقد اختلفت كلمة القاضي في عدّ الاُصول ، فجعلها في شرح
________________________________________
1 ـ الملل والنحل: ج 1 ، ص 44 ـ 46 ، طبعة دار المعرفة.
2 ـ نقله محقق شرح الاُصول الخمسة للقاضي ، ص 26 ، عن مخطوط دار الكتب المصرية لبحر الكلام ، ورقة 57.
3 ـ المنية والامل: ص 41. والصحيح « الخمسة ».
(301)
الاُصول خمسة على الوجه الّذي عرفت ، وجعلها في « المغني » (1) اثنين: التوحيد والعدل. وجعل غيرهما داخلاً في ذينك الأصلين. وجعلها في كتاب « مختصر الحسنى » ، أربعة: التوحيد والعدل والنبوّات والشرائع ، وأدخل الوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشرائع. ويظهر من كلمات تلاميذه الّذين أملى لهم القاضي كتاب « الاُصول الخمسة » أنّ ما فعله في « المغني » هو الأرجح ، قالوا:
إنّ النبوّات والشرائع داخلان في العدل ، لأنّه كلام في أنّه تعالى إذا علم أنّ صلاحنافي بعثة الرُّسل و أن نتعبّد بالشريعة ، وجب أن يبعث ونتعبّد ، ومن العدل أن لا يُخلّ بما هو واجب عليه. وكذلك الوعد والوعيد داخل في العدل. لأنّه كلام في أنّه تعالى إذا وعد المطيعين بالثّواب ، وتوعّد العصاة بالعقاب فلا بدّ من أن يفعل ولا يخلف في وعده ولا في وعيده ، ومن العدل أن لا يُخلف ولا يكذب ، وكذلك المنزلة بين المنزلتين داخل في باب العدل ، لأنّه كلام في أنّ الله تعالى إذا علم أنّ صلاحنا في أن يتعبّدنا بإجراء أسماء و أحكام على المكلّفين وجب أن يتعبّدنا به ، ومن العدل أن لا يُخلّ بالواجب وكذا الكلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فالأولى أن يقتصر على ما أورده « في المغني » (2).
يلاحظ عليه:أوّلاً: ـ أنّه لو صحّ إدخال المنزلة بين المنزلتين في باب العدل ، حسب البيان الّذي سمعت ، لصحّ إدخال المعارف العقليّة كلّها تحته بنفس البيان ، بأن يقال إنّ الله تعالى إذا علم أنّ صلاحنا أن يتعبّدنا بالمعارف وجب أن يتعبّدنا بها ، ومن العدل أن لا يُخلّ بالواجب ، ولا أرى أنّ واحداً من المعتزلة يقبل ذلك.
وثانياً ـ إنّ الاُصول الاعتقاديّة على قسمين:
قسم يجب الاعتقاد به بنفس عنوانه ولا يكفي الاعتقاد بالجامع البعيد الّذي يشمله ، وذلك كالاعتقاد بنبوّة النّبيّ الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم وعموميّة رسالته وخاتميتها ، فالكلّ ممّا
________________________________________
1 ـ من أبسط كتب القاضي وأهمها ، يقع في عشرين جزءاً ، طبع منه أربعة عشر جزءاً ولم يعثر على الباقي.
2 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 123.
________________________________________
(302)
تجب معرفته بنفس عنوانه ولا يكفي في معرفته عرفان عدله سبحانه ، بحجّة أنّ النبوّات والشرائع داخلة تحته ، فمن عرف الله سبحانه بالعدل كفى في معرفة ما يقع تحته.
ولعلّ المعارف العقليّة الّتي يستقلّ العقل بعنوانها من مقولة القسم الأوّل.
وقسم آخر يكفي فيه الاعتقاد بالعنوان البعيد ولا يلزم الاعتقاد بشخصه ، كالاعتقاد ببعض الخصوصيّات الواردة في الحياة البرزخيّة والأخروية.
2 ـ ما يلزم المكلّف عرفانه من اُصول الدين
عرّف المتكلّمون اُصول الدين بـ « ما يجب الاعتقاد به على وجه التفصيل أو الاجمال » ويقابلها الفروع فهي ما يجب العمل به. ويظهر من القاضي أنّه يجب على كلّ مسلم ، عالماً كان أو غيره ، الاعتقاد بالاُصول الخمسة أمّا التوحيد و العدل فذلك لوجهين:
1 ـ إنّ في ترك الاعتقاد بالتوحيد والعدل مظنّة الضرر ويخاف الإنسان من تركه.
2 ـ إنّهُ لطف في أداء الواجبات واجتناب المقبّحات.
وأمّا الاُصول الاُخر فيجب الاعتقاد بها ، لأنّ العلم بكمال التوحيد والعدل موقوف على ذلك ، ألا ترى أنّ من جوّز على الله تعالى في وعده و وعيده الخلف والاخلال بما يجب عليه من إزاحة علّة المكلّفين و غيره فإنّه لا يتكامل له العلم بالعدل ، ولا فرق في ذلك بين من يسلك طريقة العلماء وبين من لا يكون كذلك ، لأنّ العامي أيضاً يلزمه معرفة هذه الاُصول على سبيل الجملة ، وإن لم يلزمه معرفتها على سبيل التّفصيل ، لأنّ من لم يعرف هذه الاُصول ، لا على الجملة ، ولا على التّفصيل ، لم يتكامل علمه بالتوحيد والعدل (1).
يلاحظ عليه أوّلاً : ـ أنّ القول بلزوم معرفة الاُصول الخمسة على النّحو الّذي
________________________________________
1 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 123 ـ 124.
________________________________________
(303)
تسرده المعتزلة قول بلا دليل. كيف والنّبيّ الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم كان يقبل إسلام من شهد الشهادتين وإن لم يشهد على بعض هذه الاُصول ، ومعنى الشهادة الثانية هو التصديق بكلّ ما جاء به وهذا يكفي في تسمية الشاهد مسلماً إذا اعترف بلسانه ، ومؤمناً إذا اعترف بقلبه. وعلى ضوء ذلك فلا يلزم عرفان هذه الاُصول ، لا على وجه التفصيل أي بالبرهنة والاستدلال ، ولا على وجه الاجمال أي تلقّيها اُصولاً مسلّمة.
وثانياً: أنّه لو صحّ ما ذكره من البيان بطل الاقتصار على الاُصول الخمسة ، لأنّ الاعتقاد بالنبوّات والشرائع والمعاد وحشر الأجساد ممّا يتكامل به العلم بالعدل ، فمن لم يعرفها ، لا على وجه الجملة ولا على وجه التفصيل ، لم يتكامل اعتقاده بالتوحيد والعدل ، وقس عليه سائر الاُصول.
والّذي يمكن أن يقال في المقام أنّ ما يجب تحصيله من هذه الاُصول الخمسة هو وجوب معرفة و حدانيّته على الوجه اللائق به ، وأمّا الاُصول الأربعة فلا دليل على وجوب عرفانها بعينها استدلالاً أو تعبّداً.
3 ـ سبب الاقتصار على الاُصول الخمسة
قد تعرّفت على أنّه لا وجه للاقتصار على الاُصول الخمسة ، لما مرّ من أنّ أمر النبوّات والشرائع والمعاد أولى بأن يعدّ من الاُصول ، غير أنّ القاضي حاول أن يبيّن وجه الاقتصار على الخمسة فقال: « إنّ المخالف في هذه الاُصول ربّما كفر و ربّما فسق و ربّما كان مخطئاً.
أمّا من خالف في التّوحيد ونفى عن الله تعالى ما يجب إثباته ، وأثبت ما يجب نفيه عنه ، فإنّه يكون كافراً.
وأمّا من خالف في العدل و أضاف إلى الله تعالى القبائح كلّها من الظّلم والكذب و إظهار المعجزات على الكذّابين و تعذيب أطفال المشركين بذنوب آبائهم
________________________________________
(304)
والإخلال بالواجب ، فإنّه يكفّر أيضاً.
وأمّا من خالف في الوعد والوعيد وقال: إنّه تعالى ما وعد المطيعين بالثّواب ، ولاتوعّد العاصين بالعقاب البتّة ، فإنّه يكون كافراً ، لأنّه ردّ ما هو معلوم ضرورة من دين النّبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم.
وكذا لو قال: إنّه تعالى وعد وتوعّد ولكن يجوز أن يخلف في وعيده ، لأنّ الخلف في الوعيد كرم ، فإنّه يكون كافراً لاضافة القبيح إلى الله تعالى.
فان قال: إنّ الله تعالى وعد و توعّد ، ولا يجوز أن يخلف في وعده و وعيده ، ولكن يجوز أن يكون في عمومات الوعيد شرط أو استثناء لم يبيّنه الله تعالى ، فإنّه يكون مخطئاً.
وأمّا من خالف في المنزلة بين المنزلتين ، فقال: إنّ حكم صاحب الكبيرة حكم عبدة الأوثان والمجوس و غيرهم فإنّه يكون كافراً ، لأنّا نعلم خلافه من دين النّبيّ والاُمّة ضرورة.
فان قال: حكمه حكم المؤمن في التعظيم والموالاة في الله تعالى ، فإنّه يكون فاسقاً ، لأنّه خرق إجماعاً مصرّحاً به على معنى أنّه أنكر ما يعلم ضرورة من دين الاُمّة.
فان قال: ليس حكمه حكم المؤمن ولا حكم الكافر ولكن اُسمّيه مؤمناً ، فإنّه يكون مخطئاً.
وأمّا من خالف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصلاً ، وقال: إنّ الله تعالى لميكلّف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصلاً ، فإنّه يكون كافراً ، لأنّه ردّ ما هو معلوم ضرورة من دين النّبىّّ و دين الاُمّة.
فان قال: إنّ ذلك ممّا ورد به التّكليف ، ولكنّه مشروط بوجود الإمام فإنّه يكون مخطئاً » (1).
يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من الوجوه الثلاثة من الكفر والفسق والخطاء ، لاتختصّ
________________________________________
1 ـ شرح الاُصول الخمسة ، ص 125 ـ 126 ، يريد من العبارة الأخيرة الشيعة الامامية القائلين بأنّ بعض المراتب من الأمر بالمعروف مشروط بوجود الامام المعصوم مع بسط اليد.
________________________________________
(305)
بهذه الخمسة ، فهناك اُصول حالها حال الخمسة.فإنّ منكر نبوّة النّبيّ الأعظمصلَّى الله عليه و آله و سلَّم أو عالميّة رسالته أو خاتميّتها كافر. ومنكر عصمته بلا شب فاسق ، ومعها مخطىء.
وهناك وجه آخر لتخصيص الخمسة من الاُصول بالذكر أشار إليه القاضي في كلامه وقال: « إنّ خلاف المخالفين لنا لا يعدو أحد هذه الاُصول. ألا ترى أنّ خلاف الملحدة والمعطّلة والدهرية والمشبّهة قد دخل في التوحيد. وخلاف المجبّرة بأسرهم دخل في باب العدل. وخلاف المرجئة دخل في باب الوعد والوعيد. وخلاف الخوارج دخل تحت المنزلة بين المنزلتين. وخلاف الإماميّة دخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر » (1).
وهذا الوجه وإن صحّح سبب الاقتصار على الخمسة ، لكنّه يدلّنا على شيء آخر غريب في باب العقائد والاُصول ، وهو أن السابر في كتب الحنابلة و الأشاعرة والمعتزلة يقف بوضوح على أنّ أكثر الاُصول الّتي اتخّذتها الطوائف الإسلاميّة اُصولاً عقائدية ليست إلاّ اُصولاً كلاميّة ناتجة من المعارك العلمية ، وليست اُصولاً للدين أعني ما يجب على كلِّ مؤمن الإيمان به بالتفصيل والبرهنة أو بالاجمال وإن لم يقترن بالبرهان.
والاُصول الخمسة الّتي يتبنّاها المعتزلة مؤلّفة من اُمور تعدُّ من اُصول الدين كالتوحيد والعدل على وجه ، ومن اُصول كلاميّة أنتجوها من البحث والنقاش ، وأقحموها في الاُصول لغاية ردّ الفرق المخالفة الّتي لا توافقهم في هذه المسائل الكلاميّة.
وعند ذاك يستنتج القارئ أنّ ما اتّخذته المعتزلة من الاُصول ، وجعلته في صدر آرائها ليست إلاّ آراء كلاميّة لهذه الفرقة ، تظاهروا بها للردّ على المجبّرة والمشبّهة والمرجئة والإمامية و غيرهم من الفرق على نحو لولا تلكم الفرق لما سمعت من هذه الاُصول ذكراً ، « وليس هذه أوّل قارورة كسرت في الإسلام » ، فإنّ السلفيّين و أهل الحديث والحنابلة وبعدهم الأشاعرة ذهبوا هذا المذهب فقاموا بتنظيم قائمة بيّنوا فيها « قولهم
________________________________________
1 ـ شرح الاُصول الخمسة ، ص 124.
________________________________________
(306)
الّذي يقولون به ، وديانتهم الّتي يدينون بها » (1). و بيّنوا « مذاهب أهل العلم و أصحاب الأثر و أهل السنّة ، فمن خالف شيئاً منها في هذه المذاهب أو طعن فيها ، أو عاب قائلها فهو مخالف مبتدع وخارج عن الجماعة ، زائل عن منهج أهل السنّة وسبيل ا (2)لحقّ ».
وفي الوقت نفسه إنّ أكثر ما جاء في قائمتي الشيخين اُصول كلاميّة نتجت من البحث والنزاع ، و صفت لدى الشيخين بعد عراك ، ومن تلك الاُصول القول بقدم القرآن و كونه غير مخلوق ، مع تصريح أئمّة الحديث بعدم ورود نصّ في ذلك من الرسول ومنها كون خير الاُمّة الخلفاء الراشدين و يتفاضلون بحسب تقدّم تصدّيهم للخلافة ، فالأوّل منهم هو الأفضل ثمّ الثاني... ومعنى هذا أنّ الاُصول الّتي يدين بها أهل السنّة لم تكن منتظمة ولا مرتّبة في عصر الرسول والصحابة ولا التابعين ، وإنّما انتظمت بعد احتكاك الآراء و اختلاف الأفكار حتّى أنتج البحث والنقاش هذه الاُصول والكلّيات. وإنّ ذا من العجب.
إنّ الاُصول الّتي يدين بها أهل الحديث والأشاعرة هي الّتي مزّقت الاُمّة الواحدة تمزيقاً ، وصيّرتها فرقاً شتى ، وما هذا إلاّ لأجل إصرارهم على أنّ هذه الاُصول اُصول الديانة ، والزائل عنها خارج عن الجماعة. وكان في وسعهم التفريق بين الاُصول العقائدية الّتي لا منتدح لمسلم عن عرفانها والإيمان بها إجمالاً أو تفصيلاً ، والاُصول الكلاميّة الّتي وصل إليها البحث الكلامي بفضل النقاش في ضوء الكتاب والسنّة والبرهان العقلي القائم على اُصول موضوعية مبرهنة.
وعند ذلك تتجلّى عندك حقيقة ناصعة وهي أنّ أكثر الفرق الّتي عدّها أصحاب الملل والنحل والمقالات فرقاً إسلاميّة ، فإنّما هي فرق كلامية وليست فرقاً دينية إسلاميّة داخلة في الثلاث والسبعين فرقة بحيث تكون الواحدة منها ناجية والبواقي هلكى ، لأنّ الإذعان بحكم مرتكب الكبيرة ليس ملاكاً للنجاة والهلاك حتّى تكون فرقة منهم من
________________________________________
1 ـ هذه نفس عبارة الشيخ الأشعري في « الابانة » الباب الثاني ، ص 17.
2 ـ وهذه نفس عبارة إمام الحنابلة في كتابه « السنة » ، ص 44.
________________________________________
(307)
أهل النجاة و غيرهم من أهل النار ، ويكون الإيمان منوطاً بالإذعان به ، وعدم الإيمان موجباً للخروج عنها ، بل أقصى ما يقال في حقّ هذه الاُصول أنّها اُصول حقّة صحيحة دلّ على صحّتها الدليل ، ولكن ليس كلّ حقّ ممّا يجب الإذعان به أو يؤاخذ على عدم الاعتقاد به.
هذا هو الشيخ أبو جعفر الطحاوي المصري ( م 321 ) كتب رسالة حول عقيدة أهل السنّة تشتمل على مائة و خمسة اُصول زعم أنّها عقيدة الجماعة والسنّة على مذهب فقهاء الاُمّة: أبي حنيفة ، وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري ، وأبي عبدالله محمّد ابن الحسن الشيباني (1)وقد كتب على هذه الرسالة شروح و تعاليق ، واحتلّت مكانها ـ بعد زمن ـ « العقائد النسفية ». واللأسف أنّ كلّ أصل من الكتابين ردّ على فرقة وملّة. فصارت الاُصول الإسلاميّة عبارة عن عدّة اُصول يرد بكلِّ أصل ملّة و نحلة ، كالملاحدة والمجبِّرة والقدرية والرافضة من الفرق الكلامية الّتي أنجبتها الأبحاث والتيّارات الفكرية.
ثم إنّي وقفت بعد ما حرّرته على ما نقلته المستشرقة « سوسنه ديفلد » محقّقة كتاب « طبقات المعتزلة » لابن المرتضى عن الاُستاذ « هـ.ريتر »: « من أراد أن يفهم إحدى العقائد السنّية فعليه أن يستحضر في خاطره أنّ كلّ جملة منها إنّما هي ردّ على إحدى الفرق المخالفة لها من الشيعة والخوارج والمرجئة والجهمية والمعتزلة ، ولقد تشكّلت عقيدة أهل السنّة بردّ الفرق الضاّلة الّتي لم تسمّ « ضالّة » إلاّ بعد غلبة أصحاب السنّة والجماعة » (2).
فواجب على الباحث المنصف الّذي يبتغي الحقيقة ، التفكيك بين اُصول الدين والاُصول الكلامية. وعند ذلك تحصل الوحدة بين الاُمّة أو تقرّب الخطى بين الفرق ، ويقلّ التشاحّ والنزاع المؤدّي إلى الهلاك.
إذا عرفت هذه الاُمور فلنأخذ بتفصيل الاُصول الخمسة واحداً بعد آخر:
________________________________________
1 ـ شرح العقائد الطحاوية: ص 25.
2 ـ طبقات المعتزلة لابن المرتضى: المقدمة. ط بيروت.
________________________________________
(308)
الأصل الأوّل
التوحيد
عرِّف التوحيد في مصطلح المتكلّمين بأنّه العلم بأنّ الله سبحانه واحد لا يشاركه غيره في الذات والصفات و الأفعال والعبادة وبالجملة ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء ) ( الشورى / 11 ). والّذي يصلح للبحث عنه في هذا الأصل عبارة عن الاُمور التالية:
1 ـ إثبات وجوده سبحانه في مقابل الدهريّة والماديّة القائلين بأصالة المادّة وقدمها و غناها في الفعل والانفعال و إيجاد الأنواع عن قدرة خارجة عن نطاقها.
2 ـ إنّه سبحانه واحد لا ثاني له ، بسيط لا جزء له ، فهو الواحد الأحد ، خلافاً للثنويّة والمانويّة في الواحديّة ، وللنّصارى في الأحديّة.
3 ـ عرفان صفاته سبحانه سواء أكانت من صفات الذات ككونه عالماً قادراً حيّاً سميعاً بصيراً مدركاً ، أم من صفات الأفعال ككونه خالقاً رازقاً غافراً.
4 ـ كيفيّة استحقاقه لهذه الصّفات وتبيّن وجه حملها عليه سبحانه ، فهل تحمل عليه كحملها على سائر الممكنات أو لا؟
5 ـ تنزيهه سبحانه عمّا لا يليق به كالحاجة وكونه جسماً أو جسمانيّاً ، عرضاً أو جوهراً أو غير ذلك.
6 ـ تنزيهه سبحانه عن إمكان الرؤية الّتي يتبنّاها أهل الحديث والأشاعرة
________________________________________
(309)
بحماس.
فمع أنّ هذه الأبحاث الستّة صالحة للبحث في هذا الأصل ، لكن نرى أنّ المعتزلة يركّزون على البحث عن الرابع والسادس أكثر من غيرهما ، و يمرّون على الأبحاث الباقية مروراً إجمالياً. وما هذا إلاّ لأنّ أهل الحديث والأشاعرة متّفقون معهم فيها. وهذا أيضاً يؤيّد ما ذكرنا من أنّ الاُصول العقائدية إنّما رتّبت ونظمت بين كلّ فرقة لأجل الردّ على مخالفيها لا لبيان الاُصول الّتي يناط بها الإسلام والإيمان في عصر النّبيّ والصحابة.
و لأجل ذلك صار التوحيد عند المعتزلة رمزاً للتنزيه ، فكلّما أطلقت هذه الكلمة ، انصرفت أذهانهم إلى تنزيهه سبحانه عمّا لا يليق به في باب الصّفات و مجال الروية.
وبما أنّهم ينفون الصفات الزائدة على ذاته سبحانه ، وتثبته الأشاعرة و قبلهم أهل الحديث ، صارت الصفاتية شعاراً لهذه الفرقة.
إذا وقفت على ذلك فلنركّز على النّقاط الّتي يرجى تبيينها في زاوية فكر الاعتزال ونطوي الكلام عن غيرها لعدم الخلاف ، فنقول:
إنّ البحث عن صفاته سبحانه يتمركز على نقاط ثلاث:
الاُولى: تبيين كيفيّة استحقاقه سبحانه لصفاته الكماليّة وحملها عليه ، فهل هذه الصّفات حادثة أو قديمة ، زائدة على الذات أم لا؟
الثانية: تبيين كيفية حمل الصفات الخبرية عليه الواردة في الذكر الحكيم من اليد والوجه والعين ، فهل تحمل على الله سبحانه بظواهرها الحرفيّة كما عليه السّلفية والأشاعرة ، أو تحمل عليه بظواهرها التصديقيّة ، أو لا هذا ولا ذاك بل تؤوّل لقرائن عقليّة؟
الثالثة: نفي الرؤية الحسية الّتي يدّعيها أهل الحديث.
فلنرجع إلى تبيين النقطة الاُولى أعني تبيين كيفيّة حمل الصّفات عليه.
________________________________________
(310)
أ ـ نفي الصفات الزائدة على ذاته
اتّفق أهل الحديث والكلابيّة وتبعهم الشيخ الأشعري على أنّ لله سبحانه صفات ذات كماليّة قديمة ، زائدة على ذاته.
قال القاضي: « وعند الكلابيّة إنّه تعالى يستحقّ هذه الصفات لمعان أزليّة ، وأراد بالأزلي القديم ، إلاّ أنّه لمّا رأى المسلمين متّفقين على أنّه لا قديم مع الله تعالى لم يتجاسر على إطلاق القول بذلك ، ثمّ نبغ الأشعري و أطلق القول بأنّه تعالى يستحقُّ هذه الصّفات لمعان قديمة لوقاحته و قلّة مبالاته بالإسلام والمسلمين » (1) ورائدهم في هذه العقيدة هو الظّواهر القرآنية. قال سبحانه: ( أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ) ( النساء / 166 ) ، وقال تعالى: ( وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إلاّ بِعِلْمِهِ ) ( فاطر / 11 ). وقال عزّ من قائل: ( ذو القوّة المتين ) ( الذاريات / 58 ).
قالوا: إنّ ظواهر هذه الآيات تعرب عن أنّ هنا ذاتاً ولها علم ولها قدرة كلاهما يغايران ذاته. ولو كانا نفس ذاته لما صحّ التعبير بقوله ( أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ) أو ( ذُو القوة المتين ) ومثلها سائر الآيات الظاهرة في مغايرة الصّفات للذات (2).
هذا دليل أهل الحديث و الكلابيّة و الأشاعرة و نرجع إلى تبيين مفاد الآيات بعد الفراغ من دليل المعتزلة.
تثنية القديم في نظريّة أهل الحديث
إنّ هذه النظريّة الّتي يتبنّاها أهل الحديث اغتراراً بظواهر النّصوص ، تؤدّي إلى تعدّد القديم المنتهي إلى تعدّد الواجب حسب عدد الصفات ، وأيّ ثنويّة أسوأ من هذه؟ فلو قالت الثنويّة بأصلين أزليّين هما النور و الظلمة ، وقالت المانويّة بأنّ العالم مركّب من أصلين قديمين أحدهما نور والآخر ظلمة ، أو قالت النّصارى بالأقانيم
________________________________________
1 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 183.
2 ـ لاحظ: الابانة للشيخ الأشعري: ص 107.
(311)
الثّلاثة فقد قال هؤلاء الأشاعرة بقدماء كثيرين بحسب تعدّد الصفات.
وبذلك تقف على أنّ الحافز على التركيز على نفي الصّفات الزائدة ، هو التحفّظ على التوحيد و وحدانيّة الواجب والقديم ، ونفي المثيل و النّظير له أخذاً بقوله سبحانه ( ليس كمثله شيء ) و ( قل هو الله أحد ).
فمن المحتمل عند البعض أنّ المعتزلة أرادوا بهذا ، الردّ على فكرة الأقانيم لدى النّصارى ، فإنّ القول بأنّ الذات الإلهيّة جوهر يتقوّم بأقانيم أي صفات هي الوجود والعلم والحياة ، قد أدى إلى الاعتقاد باستقلال الأقانيم عن الجوهر ، وإلى اعتبار الصّفات أشخاصاً ، وإلى تجسّد « الاقنوم الثاني » ـ اقنوم العلم ـ في الابن. فلموا جهة هذا الاعتقاد نفى المعتزلة وصف الله بأنّه جوهر واعتبروا الصّفات هي الذات غير مغايرة لها ، فصفات الله ليست حقائق مستقلّة و إنّما هي اعتبارات ذهنيّة ، ويمكن أن تختلف وجوه الاعتبارات في النظر إلى الشيء الواحد دون أن يلزم من ذلك التعدّد في ذاته ، فيقال عالم و نعني إثبات علم هو ذاته ، ونفي الجهل عن ذاته ، ويقال: قادر ونعني إثبات ذاته ونفي العجز ، فالله حيّ عالم قادر بذاته لا بحياة وعلم وقدرة زائدة على ذاته (1).
يلاحظ عليه: أنّه إنّما يصح لو كانت الصّفات الذاتيّة منحصرة في الثلاث: العلم والقدرة و الحياة حتّى يقال إنّ الهدف من القول بالعينيّة نفي توهّم التثليث ، بل الصفات الذاتية أكثر من ذلك.
أضف إلى ذلك أنّ تفسير عقيدة المعتزلة في باب الصّفات بأنّها ليست حقائق مستقلّة و إنّما هي اعتبارات ذهنيّة ، غير تامّة ناشئة من تفسير خصومهم بما ذكر ، بل الحقُّ أنّ مرادهم هو أنّ واقعيّة خارجيّة بسيطة تجمع هذه الواقعيات ببساطتها و وحدتها ، لا أنّها اعتبارات ذهنيّة ، و ليست للصفات واقعيّة خارجية ، فإنّه لا ينطبق إلاّ على القول بالنيابة.
________________________________________
1 ـ نهاية الاقدام في علم الكلام للشهرستاني: ص 192 ـ 194 ، و « في علم الكلام » قسم المعتزلة للدكتور أحمد محمود صبحي ، ص 123.
________________________________________
(312)
محاولة الأشاعرة لتصحيح تثنية القديم
لمّا كان ما استند إليه أهل الاعتزال من البرهان في نفي الصفات الزائدة برهاناًدامغاً قاطعاً للنزاع ، حاول أهل التفكير من الأشاعرة نقده ، ولكن أتوا بالعجب العجاب. فهذا هو القاضي عضد الدين الإيجي يجيب عن البرهان في مواقفه بقوله: « إنّ الكفر إثبات ذوات قديمة لا ذات وصفات » (1)وقد أقرّه شارحه الشريف الجرجاني.
وهو من الوهن بمكان ، إذ هو أشبه بتخصيص القاعدة العقليّة ، والقاعدة العقليّة لا تخصّص. إذ لسائل أن يسأل: أيّ فرق بين الذات والوصف حتّى يكون القول بتعدّد الأوّل موجباً للكفر دون الثاني ، مع أنّ ملاك الكفر موجود في كلا الموضعين ، فإنّ القول بتعدّد القدماء قول بتعدّد الواجب ، قول بتعدد الغنيّ بالذات المستغني عن غيره ، قول بتعدّد من يكون وجوده عن ذاته لا عن غيره ، وهذا كلّه من صفات الباري عزّ اسمه ، فلو كانت صفاته غير ذاته و كانت قديمة ، تكون واجبة غنيّة عن كلّ شيء ، واجدة لوجودها.
وهناك محاولة ثانية للتخلّص عن تعدّد القدماء وهي القول بأنّ الصفات لا هو ولا غيره (2) وهذا أشبه باللّغز مع أنّ العقائد الإسلاميّة تتّسم بسمة الوضوح والسهولة ، لا التعقيد والغموض الّذي ربّما ينتهي في المقام إلى رفع النقيضين.
ولو قال بحدوث الصفات ـ ولن يقول أبداً ـ يكون الفساد أفحش ، والمصيبة أعظم ، لأنّ اتّصافه بالقدرة الحادثة مثلاً إمّا بالاختيار وإمّا بالإيجاب. والأوّل محال لاستلزامه محذور التسلسل في صفاته ، لأنّ الكلام ينتقل إلى القدرة الثانية. فهل اتّصافه بها عن اختيار أو بايجاب؟ فعلى الأول يعود السؤال فيلزم التسلسل. وعلى الثاني يلزم أن يكون فاعلاً موجباً بالذات ، وأىُّ نقص أعظم من تصوير مبدأ الكمال والجمال وخالق
________________________________________
1 ـ المواقف: ص 280.
2 ـ أوائل المقالات: ص 17.
________________________________________
(313)
القدرة والاختيار في الإنسان ، فاعلاً موجباً في اتّصافه بصفاته ، فلو صحّ كونه موجباً في مورد ، فليصحّ في سائر الموارد ككونه فاعلاً موجباً بالقياس إلى مصنوعاته.
وهذه الاُمور هي الحوافز الحقيقية الّتي دعت المعتزلة إلى القول بالتوحيد والتنزيه في باب الصفات ونفي الصفات الزائدة والمعاني القائمة بذاته ، ولم يكن الحافز إلاّ الفرار عن الثنويّة و توابعها.
ومن الجسارة الواضحة بل الظلم الفاحش اتّهام هذه الفرقة بما كتبهم عنه أهل الملل والمقالات. فهذا الأشعري يتّهمهم بقوله « أرادت المعتزلة أن تنفي أنّ الله عالم قادر حيّ سميع بصير ، فمنعهم خوف السيف من إظهارهم نفي ذلك ، فأتوا بمعناه ، لأنّهم إذا قالوا: لا علم لله ولا قدرة له ، فقد قالوا: إنّه ليس بعالم ولا قادر و وجب ذلك عليهم ، وهذا إنّما أخذوه عن أهل الزندقة والتعطيل ، لأنّ الزنادقة قال كثير منهم إنّ الله ليس بعالم ولا قادر ولا حيّ ولا سميع ولا بصير ، فلم تقدر المعتزلة أن تفصح بذلك فأتت بمعناه و قالت: إنّ الله عالم قادر حيّ سميع بصير من طريق التسمية ( الكتاب والسنّة ) من غير أن يثبتوا له حقيقة العلم والقدرة والسّمع والبصر.
وحاصل (1)تحليل الشيخ أنّ المعتزلة كانت بصدد نفي الأسماء والصفات وفاقاً للزنادقة ، فلم يقدروا عليه خوفاً من السلطة ، ولكنّهم نفوا العلم والقدرة والحياة حتّى يتسنّى لهم نفي الأسماء والصفات ( العالم والقادر ) بالملازمة ، فمثلهم كمثل من خرج من الباب موهماً للانصراف ثمّ دخل من النافذة.
تلك والله جرأة في الدين و جسارة بلا مبرّر ، والآثار الباقية من المعتزلة تبيّن لنا جهة إصرارهم على نفي الصفات الزائدة على الذات. وليست الغاية نفي أسمائه وصفاته وتصوير كونه سبحانه غير عالم ولا قادر ، بل الغاية نفي الثنويّة وتعدُّد الواجب.
قال القاضي: « لو كان عالماً بعلم ، لكان لا يخلو إمّا أن يكون موجوداً أو معدوماً ،
________________________________________
1 ـ الابانة: ص 107 ـ 108.
________________________________________
(314)
لا يجوز أن يكون معدوماً ، وإن كان موجوداً فلا يخلو إمّا أن يكون قديماً أو محدثاً ، والأقسام كلُّها باطلة ، فلم يبق إلاّ أن يكون عالماً بذاته على ما نقوله » (1).
وقال أيضاً: « لو كان يستحقّ هذه الصفات لمعان قديمة ، وجب أن تكون هذه المعاني مثلاً لله تعالى...إلى آخر ما أفاده » (2).
كلّ ذلك يعرب عن أنّ الداعي لنفي الصفات الأزليّة هو تنزيهه سبحانه عن المثل بل الأمثال. تعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً.
نعم هناك حافزان آخران صارا سببين لنفي الصفات الزائدة على الذات نشير إليهما:
1 ـ تركيب الذات مع الصّفات ، فإنّه سبحانه كما هو واحد لا نظير له ولا مثيل فهو عزّ وجلّ « أحد » بسيط لا جزء له ، والتركيب حليف الامكان ، لأنّ المركّب متقوّم بالأجزاء ، والمتقوّم لا يكون واجباً ولا غنياً.
2 ـ استلزام القول بالصفات الزائدة على الذات كونه سبحانه ناقصاً مستكملاً بالخارج عن ذاته و حيطة وجوده ، مع أنّه سبحانه كلّ الجمال والكمال ، لا يشذُّ كمال عن حيطة وجوده ، ولاجمال عن حدِّ ذاته.
ولأجل هذين الأمرين مع ما تقدّم من حديث تعدّد القدماء اشتهرت المعتزلة بنفاة الصفات « الصفات الزائدة على الذات » كما اشتهرت الأشاعرة بالصفاتية ، متظاهرين بأنّ هناك ذاتاً و وصفاً ، والذات غير الوصف ، وكلاهما قديمان.
إذا عرفت موقف المعتزلة في نفي الصفات الزائدة على الذات ، فهلمّ معي نقرأ بحثاً آخر من هذا المقام وهو تبيين كيفيّة حمل الصّفات على ذاته سبحانه على مذهبهم ، إذ كيف يمكن توصيفه سبحانه بأنّه عالم و قادر مع القول بعدم الصفات الزائدة على
________________________________________
1 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 183.
2 ـ المصدر نفسه: ص 195 ، ولاحظ ص 197. ولاحظ الملل والنحل: ج 1 ص 46 في تبيين القاعدة الأولى من القواعد الأربع الّتي اختارها واصل بن عطاء ، ترى فيها التصريح منه بأنّ الغاية لنفي الصفات هو التنزيه.
________________________________________
(315)
الذات أي عدم العلم والقدرة المغايرين لها.
وهذا هو البحث المهمّ في المقام ، فنقول: إنّ لهم في تبيين كيفيّة الحمل آراء مختلفة بين صحيح و زائف و إليك الاشارة إلى عناوين مذاهبهم إلى أن نأخذ بالتّفصيل.
أ ـ مذهب أبي الهذيل: إنّه عالم بعلم هو هو.
ب ـ مذهب أبي عليّ الجبّائي: إنّه يستحقُّ هذه الصفات الأربع الّتي هي كونه قادراً ، عالماً ، حيّاً ، موجوداً لذاته.
ج ـ مذهب أبي هاشم: إنّه يستحقّها لما هو عليه في ذاته (1).
هذه هي مذاهبهم الثلاثة في تبيين كيفيّة الحمل ، وقد حاق بها الابهام ، وإليك التوضيح:
توضيح مذهب أبي الهذيل
إنّ أبا الهذيل من كبار رجال الاعتزال و أحد شيوخ مدرسة البصرة ، توفّي سنة 235 هـ ، و يعتبر أوّل من نظم قواعد الاعتزال و وضع اُصوله ، ولكنّ الزّمان عبث بكتبه ، ولأجل ذلك طرأ على مذهبه الابهام حتّى إنّ القاضي عبدالجبّار أرجعه إلى مذهب أبي عليّ الجبّائي و قال: « أراد أبو الهذيل ما ذكره الشيخ أبو عليّ إلاّ أنّه لم تتلخّص له العبارة » (2).
لكن ما نقل عنه حول مذهبه في علم الباري يدفعنا إلى القول بأنّ مذهبه في باب الصفات يغاير مختار الجبّائي و إليك هذه الكلمات:
قال الشيخ الأشعري: « والفرقة الهذيليّة يزعمون أنّ لله علماً هو هو ، وقدرة هي هو ، وحياة هي هو ، وسمعاً هو هو ، وكذلك قالوا في سائر صفات الذات » (3).
________________________________________
1 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 182.
2 ـ المصدر نفسه: ص 183.
3 ـ مقالات الاسلاميين: ص 179.
________________________________________
(316)
قال الشهرستاني: « انفرد أبو الهذيل بعشر قواعد ، الاُولى: إنّ الباري تعالى عالم بعلم و علمه ذاته ، قادر بقدرة و قدرته ذاته ، حيّ بحياة و حياته ذاته ، وإنّما اقتبس هذا الرأي من الفلاسفة الّذين اعتقدوا أنّ ذاته واحدة لا كثرة فيها بوجه ، وإنّما الصفات ليست وراء الذات معاني قائمة بذاته بل هي ذاته » (1).
ولو صحّ نقل هذه الكلمات عن أبي الهذيل فهو لا يهدف إلى إنكار أسمائه كالعالم و القادر والحيّ ، ولا إلى إنكار صفاته من العلم و القدرة والحياة ، بل يعترف بهما معاً ، غير أنّه يقول باتّحاد الصفات مع الذات وجوداً و عينيّة ، وتغايرهما مفهوماً دفعاً للاشكالات المتوجّهة إلى القول بالزيادة.
ولأجل إيقاف القارئ على مرام الشيخ أبي الهذيل نأتي بالتوضيح التالي:
إنّ المتبادر من قولنا « عالم ، قادر ، حيّ » في نظر أهل اللّسان هو الذات الموصوفة بالعلم والقدرة و الحياة ، بمعنى أنّه يتبادر مفهوم بسيط ينحلّ إلى ذلك المركّب مآلاً. فتكون هناك اثنينيّة باعتبار أنّ هناك موصوفاً و معروضاً و وصفاً و عرضاً.
هذا هو المتبادر في الاستعمالات العرفيّة ، ولا يمكن إنكار ذلك أبداً. ولكنّه بهذا المعنى لا يصحّ إطلاقه على الله ، لاستلزامه تثنية الواجب أوّلاً ، وتركّبه من شيئين ثانياً ، واستكماله بغيره ثالثاً. فلأجل ذلك يجب أن يصار في توصيفه سبحانه إلى فرض آخر يحفظ معه أمران:كونه سبحانه واجداً لحقيقة العلم والقدرة و الحياة حتّى لا يلزم التّعطيل ، وكونه واحداً بسيطاً غير مركّب من شيء و شيء حتّى لا ترد الاشكالات الثلاثة الماضية ، والتحفّظ على هذين الأمرين لا يحصل إلاّ بالقول بأنّ أوصافه سبحانه و نعوته كلّها موجودة بوجود واحد وهو وجود الذات ، وهي بمفردها مصداق لهذه النعوت ، و يكفي نفس وجودها في حمل هذه الصفات الكماليّة عليها بلا طروء تعدُّد في مرحلة الذات. ولأجل تقريب المطلب وأنّه يمكن أن تحمل صفات كثيرة على شيء
________________________________________
1 ـ الملل والنحل: ج 1 ، ص 49 ـ 50.
________________________________________
(317)
واحد ، وينتزع منه مفاهيم عديدة ، نأتي بمثال و إن كان الفرق بين المثل والممثّل عظيماً ، ولكنّ الهدف هو التقريب لا التشبيه.
إذا تصوّرنا الإنسان الخارجي و فرضنا له ماهيّة ، فلها ذاتيات ـ كالحيوان والناطق ـ يعدّان من الاُمور الذاتية بالنسبة إلى ماهيته ، فهذه الذاتيات موجودة بوجود واحد شخصي من دون أن تكون حيثيّة الحيوان في الخارج غير حيثيّة الناطق ، بل الإنسان الخارجي كلّه بوحدته مصداق للحيوان ، كما هو كلّه مصداق للناطق.
فهنا شيء واحد و هو الشخصية الخارجية الّتي هي مصداق الإنسان ، يصحّ أن ينتزع منه مفاهيم كثيرة من دون أن تنثلم وحدته.
وعلى ضوء هذا المثال نقول : إنّ ذاته سبحانه بوحدتها و بساطتها ، مصداق لكونه عالماً وقادراً و حيّاً ، وليست حقيقة العلم في ذاته تغاير واقعيّة القدرة فيه. كما أنّ كليهما لا يغايران حقيقة الحياة. بل الذات الواحدة بما أنّها موجود بسيط ، مصداق لهذه الكمالات من دون أن تضمّ إلى الذات ضميمة أو تطرأ كثرة.
وبهذا البيان تحفظ على بساطته ، كما تحفظ على كونه واجداً لحقيقة الصفات الكماليّة. ولا يهدف هذا البيان إلى إخلاء الذات عن حقيقة هذه الصّفات ، ولا تعطيلها عن الاتّصاف بها ، بل يريد أنّ الذات لأجل كونها كلّ الكمال و كلّ الجمال ، وليس فوقها موجود أكمل و أجمل ، بوحدتها و بساطتها واجدة لحقيقة هذه الصفات. والفرق بين كونه سبحانه عالماً و كون زيد عالماً ، بعد اشتراكهما في كونهما واجدين لحقيقة هذا الوصف ، هو أنّه سبحانه ببساطته واجد لهذا الكمال ، وذاته مصداق للعلم ، ولكنّ زيداً بذاته غير واجد لهذا الكمال و إنّما وصل إليه في مرتبة بعدها.
نعم ، كونه سبحانه عالماً بهذا المعنى يخالف ما هو المتبادر منه لفظ « العالم » وأشباهه ، فإنّ المتبادر منه هو الذات المتّصفة بالمبدأ لا الذات البسيطة المتحقّق فيها المبدأ ، والقسم الثاني مصداق جديد لم يتعرّف عليه العرف كما لم يتعرّف عليه الواضع ، وإنّما هو مصداق كشف عنه العقل بدقّته و غفل عنه العرف لمسامحته ، ولكنّه لا يضر
________________________________________
(318)
بالاطلاق ، لأنّ العرف لا يتوجّه إلى هذه الدّقائق ، وأهل الدقّة غير غافلين عن هذا الفرق ، وارتكاب خلاف الظواهر بهذا المقدار فراراً عن الاشكالات العقليّة كثير النظير (1).
ثمّ إنّ القائلين بوحدة الصّفات مع الذات لا يعنون منها الوحدة من حيث المفهوم والموضوع له ، بداهة أنّ ما يفهم من لفظ الجلالة في قولنا « الله عالم » غير ما يفهم من المحمول كلفظ « العالم » و إنّما يعنون بها الوحدة من حيث العينيّة والتحقّق ، بمعنى أنّ ما هو المصداق للفظ الجلالة هو المصداق للفظ العالم ، وهكذا سائر الصفات.
برهان بديع لاثبات الوحدة
ثمّ إنّ لأهل التّحقيق في إثبات الوحدة العينيّة براهين دقيقة نكتفي بذكر واحد منها:
« إنّ بديهة العقل حاكمة بأنّ ذاتاً ما إذا كان لها من الكمال ما هو بحسب نفس ذاتها ، فهي أفضل و أكمل من ذات لها كمال زائد على ذاتها ، لأنّ تجمّل الاُولى بذاتها ، وتجمّل الثانية بصفاتها. وما تجمّل بذاته أشرف ممّا يتجمّل بغير ذاته ، وإن كان ذلك الغير صفاته. وواجب الوجود يجب أن يكون في أعلى ما يتصوّر من البهاء و الشّرف والجمال ، لأنّ ذاته مبدأ سلسلة الوجودات و واهب كلّ الخيرات و الكمالات ، والواهب المفيض لا محالة أكرم و أمجد من الموهوب المفاض عليه ، فلو لم يكن كماله بنفس حقيقته المقدّسة ، بل مع اللّواحق لكان المجموع من الذات و اللّواحق أشرف من الذات المجرّدة ، والمجموع معلول فيلزم أن يكون المعلول أشرف و أكمل من علّته وهو محال بيّن الاستحالة » (2).
هذا هو واقع النّظرية و حقيقتها ، وأنت إذا لاحظت دليلها وما أوضحناها به
________________________________________
1 ـ قال سبحانه ( الآن خفف الله عنكم وعلم أنّ فيكم ضعفاً ) ( الانفال / 66 ) فهل يمكن الأخذ بظاهره البدئي في أنّه لم يكن عالماً قبله.
2 ـ الاسفار: ج 6 ، ص 134 ـ 135.
________________________________________
(319)
تقف على أنّ ما ردّ به تلك النظرية ناش عن عدم الوقوف على مراد القائل ، ولو أنّهم كانوا واقفين على مصدر هذه النظريّة لما وجّهوا إليها سهامهم المرقوشة ، وإليك تلك الردود واحداً بعد الآخر.
1 ـ قال الأشعري: « وألزم أبو الهذيل فقيل له: إذا قلت إنّ علم الله هو الله فقل: يا علم الله اغفر لي و ارحمني فأبى ذلك ، فلزمته المناقضة ».
2 ـ وقال: « إنّ من قال عالم ولا علم ، كان مناقضاً ، كما أنّ من قال علم ولا عالم كان مناقضاً » (1).
يلاحظ عليه: أمّا أوّلاً: فإنّ أبا الهذيل لم يقل بالوحدة من حيث المفهوم و إنّما قال بالوحدة من حيث التحقق و العينيّة وما ذكره من النّقض إنّما يرد على الوجه الأوّل لا على الوجه الثاني. فلا يصحّ أن يقال « يا علم الله اغفرلي » ، لأنّ المفهوم من لفظ علم الله غير المفهوم من لفظ الجلالة ، فلا يصحّ أن يوضع « علم الله » من حيث المفهوم مكان لفظ « الله » و يدعى بمفهوم غيره ، ولأجل ذلك لا يصحّ أن يقال يا موجود ، ويقصد به الله سبحانه ، بحجّة أنّ ماهيّته إنيّته ، ووجوده نفس ماهيّته.
وأمّا ثانياً: فبأنّ الشيخ الأشعري خلط بين نظريّة أبي الهذيل و نظرية الجبّائي الّذي تتلمذ عليه الشيخ الأشعري سنين متمادية إلى أن رفضه و رفض مذهبه ، وانسلك في عداد الحنابلة. فتصوّر أنّ مذهب أبي عليّ نفس مذهب أبي الهذيل. ففي مذهب أبي عليّ ، الذات خالية من الصّفات الحقيقيّة ، غير أنّها نائبة منابها ، ولأجل هذه النيابة يصحّ الحمل ، ويجيء توضيحه عمّا قريب ، بخلافه على مذهب أبي الهذيل.
3 ـ قال البغدادي: « الفضيحة الرابعة من فضائحه ( أبي الهذيل ) قوله بأنّ علم الله سبحانه و تعالى هو الله و قدرته هي هو ، ويلزمه على هذا القول أن يكون الله تعالى علماً و قدرة ، ولو كان هو علماً وقدرة لاستحال أن يكون عالماً قادراً ، لأنّ العلم لا يكون
________________________________________
1 ـ الابانة: ص 108.
________________________________________
(320)
عالماً والقدرة لا تكون قادرة » (1).
يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من الاشكال مبنىُّ على اقتناص المعارف الإلهية من اللّغة والعرف ، أو من باب مقايسة الواجب بالممكن ، فيما أنّ العلم والقدرة في الإنسان عرض والإنسان معروض لهما ، تخيّل أنّ العلم والقدرة في جميع المراتب أعراض لا تخرج عن حدِّها ، ولكنّه غفل عن أنّ للعلم والقدرة والحياة مراتب و درجات. فالعلم منه عرض كعلمنا بالأشياء الخارجيّة ، و منه جوهر كعلمنا بذاتنا و حضور ذاتنا لدى ذاتنا ، ومنه واجب قائم بنفسه كعلم الله سبحانه بذاته. فعند ذلك لا مانع من أن يكون هناك علم قائم بالذات و قدرة مثلها و حياة كذلك.
وهناك كلمة قيّمة للحكيم الفارابي حيث يقول: « يجب أن يكون في الوجود وجود بالذات ، وفي العلم علم بالذات ، وفي القدرة قدرة بالذات ، وفي الارادة إرادة بالذات ، حتّى تكون هذه الاُمور في غيره لا بالذات ».
ومصدر ه (2)ذه الكلمات العجيبة هو مقايسة الغائب بالشاهد و تصوّر أنّ علمه سبحانه أو قدرته و حياته كعلم الممكنات و قدرتها و حياتها. فذلك هو التشبيه الّذي هو الأساس لمذهب أهل الحديث ومن لفّ لفّهم.
4 ـ ذكر الشهرستاني أنّ أبا الهذيل اقتبس هذا الرأي من الفلاسفة الّذين اعتقدوا أنّ ذاته واحدة لا كثرة فيها بوجه (3).
يلاحظ عليه: أنّه رجم بالغيب ومن الممكن أنّه وصل إليه من خطب الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كما سيوافيك كلامه ، وقد عرفت أنّ المعتزلة في التوحيد والعدل عالة على خطب الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ).
5 ـ قال القاضي الايجي: « لو كان مفهوم كونه عالماً حيّاً قادراً نفس ذاته ، لم يفد
________________________________________
1 ـ الفرق بين الفرق: ص 127.
2 ـ تعاليق الاسفار: ج 6 ، ص 135.
3 ـ الملل والنحل: ج 1 ، ص 50.
(321)
حملها على ذاته ، وكان قولنا: « الله الواجب » بمثابة حمل الشيء على نفسه ».
6 ـ وقال أيضاً: « لو كان العلم نفس الذات والقدرة نفس الذات لكان العلم نفس القدرة فكان المفهوم من العلم والقدرة واحداً » (1).
يلاحظ عليه: أنّ الاشكالين من الوهن بمكان ، حتّى إنّ المستشكل لم يقبله. وأساس الاشكال هو الخلط بين الوحدة المفهوميّة والوحدة المصداقيّة ، والقائل يقول بالثاني لا بالأوّل. ولأجل ذلك يقول الايجي في دفع الاشكال الأوّل: « وفيه نظر ، فإنّه لا يفيد إلاّ زيادة هذا المفهوم على مفهوم الذات ، وأمّا زيادة ما صدق عليه هذا المفهوم على حقيقة الذات فلا ».
وعند ذلك يصحّ لشيخ الاعتزال أن يتمثّل و يقول:
وكم من عائب قولاً صحيحا وآفته من الفهم السقيم
كلام الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في عينيّة الصفات مع الذات
قد ورد في خطب الإمام ( عليه السلام ) ما يدلّ على نفي زيادة الصفات لله تعالى بأبلغ وجه و آكده حيث قال في خطبة من خطبه المشهورة: « أوّل الدين معرفته ، وكمال معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الاخلاص له ، وكمال الاخلاص له نفي الصِّفات عنه ، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصِّفة ، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله ، ومن جهله فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حدّه ، ومن حدّه فقد عدّه ، ومن قال فيم فقد ضمّنه ، ومن قال علام فقد أخلى منه » (2).
وتوضيح هذه الجمل الدّريّة تدفعنا إلى البسط في الكلام ولكنّ المقام لا يقتضيه وإنّما نشير إلى بعضها.
________________________________________
1 ـ المواقف: ص 280.
2 ـ نهج البلاغة: الخطبة الاُولى.
________________________________________
(322)
قال ـ عليه السلام ـ : « وكمال توحيده الاخلاص له » ، يريد تخليصه سبحانه من الزوائد والثواني حتّى لا يكون خليطاً مع غيره ، ثمّ فرّع على ذلك قوله: « وكمال الاخلاص له نفي الصّفات عنه » يريد نفي الصّفات الّتي وجودها غير وجود الذات لا نفي حقائقها عن ذاته ، فإنّ ذاته بذاته مصداق لجميع النعوت الكماليّة و الأوصاف الإلهيّة من دون قيام أمر زائد على ذاته ، فعلمه وقدرته و.... كلُّها موجودة بوجود ذاته الأحديّة مع أنّ مفاهيمها متغايرة.
وقال ( عليه السلام ) : « لشهادة كلِّ صفة أنّها غير الموصوف... الخ » إشارة إلى برهان نفي الصفات العارضة ، سواء فرضت قديمة كما عليه الكلابيّة و الأشاعرة أو حادثة. فإنّ الصفة إذا كانت عارضة كانت مغايرة للموصوف بها.
فعندئذ يترتّب عليه قول: « فمن وصفه فقد قرنه » أي من وصفه بصفة زائدة فقد قرنه بغيره ، فان كان ذلك الغير مستقلاّ ً في الوجود يلزم أن يكون له ثان في الوجود ، وإن كان غير مستقلّ فبما أنّه جزء له فقد جعله مركّباً ذا جزأين و إليه يشير بقوله: « ومن ثنّاه فقد جزّأه » ومن المعلوم أنّ من جزّأه فقد جهله ، ولم يعرفه على ما هو عليه. ومن جهله بهذا المعنى فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حدّه ، لأنّ الاشارة إلى الشيء حسّيّة كانت أو عقليّة تستلزم جعله محدوداً بحدّ خاصّ ، ومن حدّه بحد معيّن فقد جعله واحداً بالعدد ـ إلى آخر ما أفاده.
هذا هو توضيح نظريّة أبي الهذيل وهو المختار لدى الإماميّة وعليه خطب الإمام وكلمات أئمّة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ وعندئذ يحين وقت إيضاح النظرية الثانية المنسوبة إلى أبي علي الجبّائي.
توضيح مذهب أبي عليّ الجبّائي
إنّ أبا عليّ الجبّائي يقول: إنّه تعالى يستحقّ هذه الصّفات الأربع الّتي هي كونه قادراً عالماً حيّاً موجوداً لذاته. فهو يهدف إلى نظريّة اُخرى يليق أن يتّهم معها
________________________________________
(323)
بالتعطيل
وقد أوضح الشهرستاني الفرق بين هذه النظرية و النظرية السابقة بقوله: « والفرق بين قول القائل: « عالم بذاته لا بعلم » وبين قول القائل: « عالم بعلم هو ذاته » ، أنّ الأوّل هو نفي الصفة ، والثاني إثبات ذات هو بعينه صفة ، أو إثبات صفة هي بعينها ذات » (1).
ولقد أحسن في التّوضيح و أصاب الغرض. فعلى هذا القول ليست الذات واجدة لواقعيات الصّفات ، غير أنّ ما يترقّب من الذات المتصفة بها ، يترتّب على ذاته سبحانه و إن لم تكن هناك تلك الصفات. مثلاً أثر الذات الموصوفة بالعلم هو إتقان الفعل وهو يترتّب على ذاته سبحانه بلا وجود وصف العلم فيه ، وقد اشتهر عندهم « خذ الغايات واترك المبادئ ».
وصاحب النظريّة توفّق في الجمع بين الأمرين الخطيرين. فمن جانب اتّفقت الشرائع السماويّة على أنّه سبحانه عالم حيّ قادر. ومن جانب آخر واقعية الصفة لا تنفكّ عن القيام بالغير بحيث لو لم تكن قائمة به لما صدق عليه الوصف. فعندئذ يدور الأمر بين الاُمور التالية:
1 ـ نفي كونه عالماً قادراً حيّاً.... وهذا يكذّبه اتّفاق الشرائع السماوية ووجود آثار الصفات في أفعاله من الإتقان والنظم البارزين.
2 ـ كون صفاته زائدة على ذاته وهو يستلزم المفاسد السابقة من تعدّد القدماء وغيره.
3 ـ كون صفاته عين ذاته كما عليه شيخ المعتزلة في عصره « أبي الهذيل » وهو لا يتّفق مع واقعيّة الصِّفات ، فإنّ واقعيّتها نفس قيامها بالغير لا صيرورتها نفسه ، فتعيّن القول التالي:
4 ـ كون ذاته نائبة مناب الصّفات وإن لم تكن هناك واقعيّتها. وممّن اختار هذا
________________________________________
1 ـ الملل والنحل: ج 1 ص 50.
________________________________________
(324)
القول قبل الجبّائي هو عبّاد بن سليمان المعتزلي. قال: « هو عالم ، قادر ، حيّ ، ولا أثبت له علماً ، ولا قدرة ، ولا حياة ولا أثبت سمعاً ولا أثبت بصراً. وأقول: هو عالم لا بعلم ، وقادر لا بقدرة ، وحىُّ لا بحياة ، وسميع لا بسمع ، وكذلك سائر ما يسمّى به من الأسماء الّتي يسمّى بها » (1).
تقييم نظريّة النيابة
إنّ هذه النظريّة من الوهن بمكان ، فإنّ أبا عليّ لو تأمّل في واقعيّة الصفات الكماليّة لما أصرّ على أنّ واقعيّتها في جميع المجالات و المراحل ، واقعية القيام بالغير. وإنّما هي واقعيتها في بعض المراتب كعلم الإنسان و قدرته و حياته ، وليس في جميع المراتب كذلك. وذلك لأنّ الكمالات ترجع إلى الوجود ، وله شؤون و عرض عريض. فكما أنّ منه وجوداً رابطاً و رابطيّاً و جوهراً ، فكذا العلم. فمنه عرض قائم بالغير ، ومنه جوهر قائم في نفسه كعلم الإنسان المدرك بذاته ، ومنه ممكن ومنه واجب ، وهكذا سائر الصفِّات. وعلى ذلك فالاصرار على واقعيّة واحدة تجمع شتات العلم ، إصرار في غير محلِّه. فإنّ للعلم و كلّ كمال مثله ، إطارات و قوالب و مظاهر و مجالات تختلف حسب اختلاف المراتب.
إذا وقفت على مذهب الوالد ( أبي عليّ ) فهلمّ معي ندرس مذهب الولد في باب حمل الصفِّات الذاتية عليه سبحانه.
مذهب أبي هاشم
إنّ لأبي هاشم في كيفيّة استحقاق الصفِّات مذهباً خاصّاً عبّر عنه القاضي بقوله: « وعند أبي هاشم يستحقّها لما هو عليه في ذاته » وعبّر عن نظرية أبيه بقوله: « إنّه
________________________________________
1 ـ مقالات الاسلاميين: ج 1 ، ص 225. نعم نقل القاضي في شرح الاُصول الخمسة ص 183 رأياً آخر لسليمان بن جرير وهو غير عباد بن سليمان فلا يختلط عليك الأمر.
________________________________________
(325)
يستحقّها القديم تعالى لذاته » (1).
وقد حاول البغدادي تبيين الفرق بقوله: « إنّ أبا عليّ جعل نفس الباري علّة لكونه عالماً و قادراً ، وخالف أبو هاشم أباه و زعم أنّ الله عالم لكونه على حال ، قادر لكونه على حال وزعم أنّ له في كلِّ معلوم حالاً مخصوصاً ، وفي كلِّ مقدور حالاً مخصوصاً. وزعم أنّ الأحوال لا موجودة ولا معدومة ولا معلومة ولا أشياء » (2).
و أوضحه الشهرستاني بقوله: « قال الجبّائي: عالم لذاته ، قادر حيّ لذاته ، ومعنى قوله: « لذاته » أي لا يقتضي كونه عالماً ، صفة هي علم أو حال توجب كونه عالماً ، وعند أبي هاشم: « هو عالم لذاته » بمعنى أنّه ذو حالة هي صفة معلومة وراء كونه ذاتاً موجوداً ، وإنّما تعلم الصِّفة على الذات ، لا بانفرادها. فأثبت أحوالاً هي صفات لا موجودة ولا معدومة ولا معلومة ولا مجهولة ، أي هي على حيالها لا تعرف كذلك بل مع الذّات » (3).
وأنت تعلم أنّ هذه المحاولات تزيد في الغموض ، وقد أصبحت نظريّته لغزاً من الألغاز لم يقف عليه أحد. قال الشريف المرتضى: « سمعت الشيخ المفيد يقول: ثلاثة أشياء لا تعقل وقد اجتهد المتكلّمون في تحصيل معانيها من معتقديها بكلِّ حيلة ، فلم يظفروا منهم إلاّ بعبارات يناقض المعنى فيها مفهوم الكلام: اتّحاد النّصرانية ( التثليت مع ادّعاء الوحدة ) ، وكسب النّجارية و أحوال البهشميّة » (4).
ممّا يقال ولا حقيقة عندهالكسب عند الأشعري والحال معقولة تدنو إلى الأفهامعند البهشمي وطفرة النظام(5)
________________________________________
1 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 129.
2 ـ اُصول الدين للبغدادي: ص 92.
3 ـ الملل والنحل: ج 1 ، ص 82.
4 ـ الفصول المختارة: ص 128.
5 ـ القضاء والقدر ، لعبد الكريم الخطيب: ص 185.
________________________________________
(326)
وبما أنّ تحقيق نظريته مبنيّ على تحقيق « الأحوال » الّتي يتبنّاها أبو هاشم فلنكتف بهذا المقدار.
هذا كلّه حول المسألة الاُولى الّتي تركِّز المعتزلة عليها عند البحث عن الأصل الأوّل ( التوحيد ) وإليك البحث في المسألة الثانية الّتي يركّزون عليها في إطار هذا الأصل ، وهي تبيين كيفيّة حمل الصفّات الخبريّة عليه سبحانه.
ب ـ المعتزلة وحمل الصفات الخبريّة (1)
قسّم الباحثون صفاته سبحانه إلى صفات ذاتيّة و صفات خبريّة ، فتوصيفه سبحانه بالعلم والقدرة توصيف بصفات ذاتيّة ، كما أنّ توصيفه بما دلّ عليه ظواهر الآيات والأحاديث كالوجه واليدين صفات خبريّة.
وأمّا عقيدة المعتزلة في هذه الصفِّات ، فقد وصفها الشيخ الأشعري فى كتابه بأحسن وجه. وإليك نصّ كلامه:
« أجمعت المعتزلة على أنّ الله واحد ليس كمثله شيء وهو السّميع البصير ، وليس بجسم ، ولا شبح ، ولا جثّة ، ولا صورة لحم ولا دم ، ولا شخص ولا جوهر ولا عرض ، ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا مجسّة ، ولا بذي حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة ، ولا طول ولا عرض ولا عمق ، ولا اجتماع ولا افتراق. ولا يتحرّك ولا يسكن ولا يتبعّض ، ولا بذي أبعاض و أجزاء و جوارح وأعضاء ، وليس بذي جهات ولا بذي يمين و شمال وأمام وخلف وفوق وتحت ، ولا يحيط به مكان ولا يجري عليه زمان ولا تجوز عليه المماسّة ولا العزلة ولا الحلول في الأماكن ، ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدوثهم ، ولا يوصف بأنّه متناه ، ولا يوصف بمساحة ولا ذهاب في الجهات ، وليس بمحدود ، ولا والد ولا مولود ، ولا تحيط به الأقدار ، ولا تحجبه الأستار ، ولا تدركه
________________________________________
1 ـ هذه هي النقطة الثانية التي تركّز عليها المعتزلة في هذا الأصل.
________________________________________
(327)
الحواسّ ولا يقاس بالناس ، ولا يشبه الخلق بوجه من الوجوه ولا تجري عليه الآفات ، ولا تحلّ به العاهات ، وكلّ ما خطر بالبال ، وتصوّر بالوهم فغير مشبه له. لم يزل أوّلاً ، سابقاً ، متقدّما للمحدثات ، موجوداً قبل المخلوقات ، ولم يزل عالماً قادراً حيّاً ولا يزال كذلك. لا تراه العيون ، ولا تدركه الأبصار ، ولا تحيط به الأوهام ، ولا يسمع بالأسماع ، شيء لا كالأشياء ، عالم قادر حيّ لا كالعلماء القادرين الأحياء. وإنّه القديم وحده ولا قديم غيره ولا إله سواه ، ولا شريك له في ملكه ، ولا وزير له في سلطانه ولا معين على إنشاء ما أنشأ وخلق ما خلق. لم يخلق الخلق على مثال سبق ، وليس خلق شيء بأهون عليه من خلق شيء آخر ولا بأصعب عليه منه ، ولا يجوز عليه اجترار المنافع ولا تلحقه المضارّ ، ولا يناله السرور واللذات ، ولا يصل إليه الأذى و الآلام ، ليس بذي غاية فيتناهى ، ولا يجوز عليه الفناء ، ولا يلحقه العجز والنقص ، تقدّس عن ملامسة النساء ، وعن اتّخاذ الصاحبة والأبناء ، قال: فهذه جملة قولهم في التّوحيد » (1).
والسابر في نهج البلاغة يقف على أنّ المعتزلة أخذت جلّ هذه الكلمات من خطب الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لكن باختلاف في التعبير والألفاظ.
وقد ذكرت المعتزلة وغيرهم دليلاً عقليّاً على تنزيهه سبحانه عن هذه الصفِّات ، خلاصته: أنّه سبحانه ليس مادّة ولا ماديّاً ولا مركّباً منهما ، وما ليس كذلك يمتنع عليه هذه الصفات. فمن يُثبت له حركة أو سكوناً أو يداً أو رجلاً فلا منتدح له عن القول بكونه جسماً أو جسمانياً.
هذا هو الحقّ القراح الّذي لا يشكّ فيه مسلم واع. إنّما الكلام في تفسير ما ورد من النُّصوص المشتملة بظواهرها على هذه الصفِّات. وهذه النقطة هي المخمصة الكبرى للمعتزلة. فلابدّ لهم من الجمع ما بين العقل والنّقل بوجه يقبله العقل ، ولا
________________________________________
1 ـ مقالات الاسلاميين للاشعري: ص 155 ـ 156. وقد كتب أبو الفتح محمد بن علي الكراجكي ( م 449 ) قائمة تشتمل على اُصول التنزيه على مذهب الامامية أسماها « البيان عن جمل اعتقاد أهل الايمان » فمن أراد فليرجع إلى كنز الفوائد ، ج 1 ، ص 240 ط بيروت.
________________________________________
(328)
يكذّبه النقل.
ثمّ إنّ للباحثين من المتكلِّمين و أهل الحديث في المقام طرقاً نشير إليها:
الأوّل : الإثبات مع التّشبيه والتّكييف.
الثّاني : الإثبات بلا تشبيه ولا تكييف.
الثالث : التفويض.
الرابع : التّأويل.
وقد بحثنا عن الوجوه الثّلاثة الاُول في الجزء الثاني ، وهي خيرة أهل الحديث والأشاعرة. والأمر الرابع هو خيرة المعتزلة. ولأجل ذلك يسمّون المؤوّلة ، فيؤوّلون الآيات المشتملة على اليد والوجه والاستيلاء وغير ذلك ، ولنا هنا كلمة موجزة وهي:
إنّ التأويل على قسمين: قسم يرفضه الكتاب ولا يرضى به العقل وهو تأويل النصوص القرآنيّة والأحاديث المتواترة بحجّة أنّها تخالف العقل الصّريح فقط ، وهذا رأي عازب ، بل فكرة خاطئة. فإنّ ظواهر الكتاب والنصوص الصحيحة لا يمكن أن تكون مخالفة للعقل.
ولقد كذب من قال من المؤوّلة: إنّ الأخذ بظواهر الكتاب والسنّة من اُصول الكفر أو إنّ التمسّك في اُصول العقائد بمجّرد ظواهر الكتاب والسنّة من غير بصيرة في العقل هو أصل ضلالة الحشوية (1).
فإنّ هؤلاء لم يعرفوا موقف الكتاب والسنّة الصحيحة ، فإنّ من الممتنع أن يشتمل الكتاب الهادي على ما يضادّ العقل الصحيح. وهو القائل ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرآنَ أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالُهَا ) ( محمد / 24 ).
وقسم يراد منه تمييز الظاهر التصديقي عن الظاهر الحرفي ، وتمييز الظاهر البدوي عن الظاهر الاستمراري ( ما يستقرّ في الذهن بعد التدبّر ) ومثل هذا لا يتحقّق إلاّ
________________________________________
1 ـ علاقة الاثبات والتفويض: ص 67 ، نقلاً عن الصاوي على تفسير الجلالين ج 3 ، ص 10 وغيره.
________________________________________
(329)
بالتأمّل في نفس الآية الكريمة و ما احتفّ بها من القرائن اللفظية أو ما جاء في الآيات الأخر. وهذا القسم لو صحّت تسميته بالتأويل ، تأويل مقبول. كيف وهو ليس بتأويل بمعنى صرف الكلام عن ظاهره والأخذ بخلاف الظاهر ، بل واقعيته تحديد ظاهر الكلام ، وتعيينه. وهذا من خواصّ كلِّ كلام مشتمل على نكات بديعة و معاني رفيعة ألقي لهداية الناس باختلاف طبقاتهم و تعدّد ثقافاتهم. ومثل هذا لو صحّ عليه أنّه أخذ بخلاف الظاهر فإنّما هو أخذ بخلاف الظاهر الحرفي و رفض لظاهره الابتدائي. وأمّا الظاهر التصديقي والاستمراري فهو عين الأخذ به. ونمثِّل لك مثالاً:
إذا قال القائل في تبيين سماحة شخص وجوده: « فلان كثير الرّماد » فهناك ظاهر حرفي و ظاهر تصديقي ، كما أنّ هناك ظاهراً بدئياً و ظاهراً استمراريّاً.
فالأوّل مرفوض جدّاً ، فإنّ كثرة الرّماد في البيت لو لم يكن ذمّاً لا يكون مدحاً ، مع أنّ القائل بصدد المدح.
والثاني مقبول عند العقلاء وعليه يدور رحى الفصاحة والبلاغة و إلقاء الخطب الرنانّة و إنشاء الكلم اللّذيذة على الأسماع.
المعتزلة بين التأويل المرفوض و المقبول
إنّ المعتزلة في تفسير الآيات الواردة في مجال الصفِّات بين تأويل مرفوض ، وتأويل مقبول. فتارة يؤوّلون الكلام بحجّة أنّه يخالف العقل ولا يذكرون للتّأويل قرينة مقاليّة أو شاهداً من سائر الآيات. وهذا يعرب عن أنّ الغاية منه هو التخلّص من مخالفة النقل مع العقل ، وهذا هو التأويل المرفوض ، فحاشا أن يكون النقل مخالفاً للعقل. بل المخالفة تتراءى إمّا لعدم تشخيص حقيقة النّقل و تخيّل ما ليس بظاهرها ظاهراً ، أو لاشتباه العقل فيما يحكم و يبرم.
وأخرى يؤوّلون معتمدين على القرائن و الشّواهد الّتي تثبت الظهور التصديقي وتوقفنا على أنّ الظهور البدائي أو التصوّري ليس بمراد. وهذا هو التّأويل المقبول ،
________________________________________
(330)
وإليه الاستناد في تأويل المتشابهات بالمحكمات و تعيين الظهور التصديقي.
ولأجل إيقاف القارئ على نماذج من التأويلين نأتي بمثالين:
1 ـ قول سبحانه: ( قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ اسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ العَالِينَ ) ( ص / 75 ).
ترى أنّ القاضي يبادر إلى تأويل الآية بأنّ اليد هنا بمعنى القوّة (1).
يلاحظ عليه: أنّ اليد و إن كانت تستعمل في القوّة والنعمة ، قال سبحانه ( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُد ذَا الأيدِ إِنَّهُ أَوّاب ) ( ص / 17 ) فإنّ اليد في هذه الآية مردّدة ابتداء بين النعمة والقوّة والعضو المخصوص ، إلاّ أنّ القرينة في الآيات تدلُّ على أنّها كناية عن النعمة أو القوّة ، والقرينة عليه ورودها في قصّة داود المشهورة في القرآن. فقد كان ذا نعمة و قوّة ، أشار إليهما سبحانه في تلك ا لسورة وقال: ( إنّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ... ) ( ص / 19 ـ 29 ) و هذه الآيات قرينة على أنّ اليد إنّما كنّى بها عن النّعمة والقوّة. إلاّ أنّ الآية السابقة تفارق هذه الآية و ليس مثلها وذلك لأجل أمرين:
أوّلاً: إنّ من المعلوم أنّ الخالق لا يخلق شيئاً إلاّ عن قوّة ، فلا معنى لذكرها إلاّ أن تكون هنا نكتة ، مثل دفع توهّم العجز في المتكلّم و ليس المقام كذلك كما سيأتي في قوله سبحانه ( وَالسَّماءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْد ).
وثانياً : أنّه لو كان المراد منها هو القوّة ، فما هو وجه التثنية؟
فلأجل ذلك كان اللاّزم على القاضي و أمثاله ، الامعان في الآية حتّى يقفوا على الظهور التصديقي ، ليستغنوا به عن مخالفة العقل. فنقول:
إنّ اليد في الآية استعملت في العضو المخصوص ، ولكنّها كنّى بها عن الاهتمام بخلقة آدم حتّى يتسنّى بذلك ذمّ إبليس على ترك السجود لآدم. فقوله سبحانه: ( مَامَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) كناية عن أنّ آدم لم يكن مخلوقاً لغيري حتّى
________________________________________
1 ـ شرح الاصول الخمسة: ص 228.
(331)
يصحّ لك يا شيطان التجنّب عن السجود له ، بحجّة أنّه لا صلة له بي ، مع أنّه موجود خلقته بنفسي ، ونفخت فيه من روحي. فهو مصنوعي و مخلوقي الّذي قمت بخلقه ، فمع ذلك تمرّدت عن السجود له.
فاُطلقت الخلقة باليد و كنّى بها عن قيامه سبحانه بخلقه ، وعنايته بايجاده ، وتعليمه إيّاه أسماءه ، لأنّ الغالب في عمل الإنسان هو القيام به باستعمال اليد ، يقول: هذا ما بنيته بيدي ، أو ما صنعته بيدي ، أو ربّيته بيدي و يراد من الكل هو القيام المباشري بالعمل ، و ربّما استعان فيه بعينه و سمعه و غيرهما من الأعضاء ، لكنّه لا يذكرها و يكتفي باليد. وكأنّه سبحانه يندِّد بالشيطان بأنّك تركت السجود لموجود اهتممت بخلقه و صنعه.
و نظير ذلك قوله سبحانه: ( أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ) ( يس / 71 ) فالأيدي كناية عن تفرّده تعالى بخلقها ، لم يشركه أحد فيه. فهي مصنوعة لله تعالى والناس يتصرّفون فيها تصرف المّلاك كأنّها مصنوعة لهم ، فبدل أن يشكروا يكفرون بنعمته. وأنت إذا قارنت بين الآيتين تقف على أنّ المقصود هو المعنى الكنائي ، والمدار في الموافقة والمخالفة هو الظهور التّصديقي لا التصوّري.
قال الشريف المرتضى: « قوله تعالى: ( لما خلقت بيديّ ) » جار مجرى قوله « لما خلقت أنا » و ذلك مشهور في لغة العرب. يقول أحدهم: هذا ما كسبت يداك ، وما جرت عليك يداك. و إذا أرادوا نفي الفعل عن الفاعل استعملوا فيه هذا الضّرب من الكلام فيقولون: فلان لا تمشي قدمه ، ولا ينطق لسانه ، ولا تكتب يده ، وكذلك في الاثبات ، ولا يكون للفعل رجوع إلى الجوارح في الحقيقة بل الفائدة فيه النفي عن الفاعل » (1).
وأمّا قوله سبحانه ( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْد وَ إِنَّا لَمُوسعونَ ) ( لذاريات / 47 ) ، فالمراد من الأيدي هو القوّة و الإحكام ، والقرينة عليه قوله: ( لموسعون ) وكأنّه سبحانه
________________________________________
1 ـ امالي المرتضى: ج 1 ، ص 565.
________________________________________
(332)
يقول: والسماء بنيناها بقدرة لا يوصف قدرها و إنّا لذو سعة في القدرة لا يعجزها شيء ، أو بنيناها بقدرة عظيمة و نوسعها في الخلقة. ومن أراد أن يقف على تأويل غير مقبول في تفسير الآية فعليه أن يرجع إلى كلام الزمخشري في هذاالباب ، فإنّ تأويله أردأ من تأويل القاضي ، وهو من ذلك العالم البارع الأديب بعيد جدّا (1).
هذا نموذج من التّأويل المردود ، وأمّا التأويل المقبول فحدّث عنه ولا حرج ، وإليك نموذجاً منه:
2 ـ قوله سبحانه: ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمواتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوى عَلَى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأمْرَ مَا مِنْ شَفِيع إلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) ( يونس / 3 ).
وقوله سبحانه: ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمواتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوى عَلَى العَرْشِ يُغْشِي الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرات بِأَمْرِهِ ألا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ العَالَمِينَ ) ( الأعراف / 54 ).
وقد شغل بال المفسّرين و أهل الكلام استواؤه سبحانه على العرش ، فأقصى ما عند أهل التنزيه من الأشاعرة أنّه سبحانه مستو على عرشه ( جالس أو مستقرّ عليه ) ولكن من غير كيف (2).
وأمّا المشبّهة فهم يقولون بالجلوس على العرش على الكيف والتّشبيه.
ولو أنّ القوم تدبّروا في نفس الآيتين الماضيتين والآيات الاُخر (3) التّي ورد فيها قوله سبحانه: ( ثُمَّ اسْتَوى عَلَى العَرْشِ ) ، لوقفوا على أنّ الظهور التصوّري وهو كونه سبحانه ذا سرير متربّعاً عليه ، غير مراد قطعاً ، إذ لا مناسبة لهذا المعنى مع ما جاء في الآيات من بيان عظمة قدرته وسعة ملكه و تدبيره ، وإنّه لا يشذّ عن علمه شيء ، بل
________________________________________
1 ـ لاحظ الكشاف: ج 3 ص 21.
2 ـ الابانة: باب ذكر الاستواء على العرش ، ص 85.
3 ـ الرعد / 2 ، الفرقان / 59 ، السجدة / 5 ، الحديد / 5 ، غافر / 15 ، طه / 8 باختلاف يسير.
________________________________________
(333)
المراد هو الظهور التصديقي ، وأنّ الاستواء بمعنى التمكّن والاستيلاء التام ، لا الجلوس ولا الاستقرار بعد التزلزل ، كما أنّ المراد من العرش ، عرش التدبير و عرش الملك لا الّذي يجلس عليه الملوك. وليس هذا شيئاً غير موجود في الأدب العربي بل هو مملوء من هذه المعاني.
أمّا الاستواء بمعنى الاستيلاء فقد قال الأخطل يمدح بشراً أخا عبدالملك بن مروان حين ولى إمرة العراقين:
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
فالحمد للمهيمن الخلاّق
فليس المراد من الاستواء الجلوس أو الاستقرار ، بل التمكّن والاستيلاء التام والسيطرة على العراقين وكسح كلِّ مزاحم ومخالف.
وقال الطرمّاح بن حكيم:
طال على رسم مهدد أبده وعفى واستوى به بلده
والمراد استقام له الأمر واستتبّ.
وقال آخر:
فلمّا علونا و استوينا عليهم تركناهم صرعى لنسر و كاسر
هذا حول الاستواء. وأمّا العرش ، فالمتبادر منه تصوّراً هو السرير يجلس عليه الملوك ، و يدبّرون منه ملكهم و يصدرون الأوامر والنواهي. غير أنّه هناك كناية عن الملك والسّلطة. يقال: ثلّ عرش بني فلان ، إذا زال ملكهم. يقول الشاعر:
إذا ما بنو مروان ثلّت عروشهم وأودت كما أودت أياد وحمير
فليس المراد تهدّم العروش الّتي كانوا يجلسون عليها ، بل كناية عن زوال الملك والسيطرة وانقطاع سلطتهم. والدقة في الآيات الّتي ورد فيها استيلاؤه سبحانه على العرش يثبت بوضوح أنّ المراد من الآية هو السيطرة والتمكّن على صحيفة الكون
________________________________________
(334)
والخلقة ، وأنّها بعد الخلقة في قبضة قدرته و حوزة سلطنته لم تفوّض لغيره ، ولأجل ذلك يذكر في سورة يونس بعد هذه الجملة قوله: ( يدبِّر الأمر ما من شفيع إلاّ من بعد إذنه ) معرباً عن أنّه المدبِّر لأمر الخلقة ، وذلك لاستيلائه على عرش ملكه. فمن استولى على عرش ملكه يقوم بتدبيره ، ومن ثلّ عرشه أو زال ملكه أو انقطع عنه لا يقدر على التدبير. كما أنّه سبحانه يذكر بعد هذه الجملة في سورة الأعراف كيفيّة التدبير و يقول: ( يُغْشِي الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرات بِأَمْرِهِ ألا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ ) فهذه الجمل تعابير عن تدبيره صحيفة الكون. وكونه مصدراً لهذه التدبيرات الشامخة ، دليل على أنّه مستول على ملكه ، مهيمن عليه ، مسيطر على ما خلق ولم يخرج الكون عن حوزة قدرته ، ومثله سائر الآيات الواردة فيها تلك الجملة ، فإنّك ترى أنّه جاء في ضمن بيان فعل من أفعاله سبحانه. ففيها دلالات على « التوحيد في التدبير » الّذي هو أحد مراتبه.
وأمّا إذا فسّرنا الاستواء بالجلوس والاستقرار ، والعرش بالكرسي الّذي يتربّع عليه الملوك ، يكون المعنى غير مرتبط بما ورد في الآية من المفاهيم ، إذ أيّ مناسبة بين التربّع على الكرسي المادي والقيام بهذه التدابير الرفيعة. فإن المصحِّح للتدبير هو السيطرة والهيمنة على الملك وهو لا يحتاج إلى التربّع والجلوس على الكرسي ، بل يتوقّف على سعة ملكه و نفوذ سلطته.
وقد قام القاضي بتأويل الآية بمثل ما ذكرنا ـ بعبارات قليلة ـ وهو نموذج واضح للتأويل المقبول.
وإذا وقفت على هذا المقياس تقدر على تمييز المقبول عن الزائف في الصفات الخبريّة ، وعليك بالآيات الوارد فيها الألفاظ التالية:
الوجه ، العين ، الساق ، مجيئه سبحانه.
وفي الأحاديث المرويّة عن طرق ضعاف ورد: الرجل ، والقدم.
فالمعتزلة بل العدليّة عامّة يصفونه سبحانه بكلِّ ما وصف نفسه به. ولكنّ
________________________________________
(335)
الاختلاف في تمييز المراد الجدّي عن الصّوري ، والظاهر التصديقي عن الظاهر الحرفي. فالمشبِّهة والأشاعرة مصّرون على الأخذ بالأوّل مع أنّ سيرة العقلاء العارفين بالكلام وأساليب البلاغة على الثاني. وعند ذلك لا تجد أيّ مخالفة بين العقل والنّقل الصحيح كالقرآن الكريم. وأمّا الروايات فأكثرها إسرائيليات دسّت في الأحاديث الإسلاميّة من طريق الأحبار والرهبان و نقلها السذّج من أصحاب الحديث زاعمين أنّها حقائق راهنة يلزم الأخذ بها ، وقد استوفينا الكلام فيها عند البحث عن عقائد أهل الحديث.
ج ـ نفي الرؤية الحسية
هذه هي النقطة الثالثة الّتي تركز عليها المعتزلة عند البحث عن التوحيد ، وقد عرفت أنّ التوحيد رمز للتنزيه ، أي تنزيهه سبحانه عن الجسم والجسمانيّات و أحكامها. وقد شغلت هذه المسألة بال المفسِّرين و المتكلِّمين وقد بحث عنها القاضي في كتابيه « شرح الاُصول الخمسة » ، و « المغني » على وجه البسط.
يقول القاضي: « وممّا يجب نفيه عن الله تعالى الرؤية ، وهذه مسألة خلاف بين الناس ، وفي الحقيقة الخلاف في هذه المسألة إنّما يتحقّق بيننا وبين هؤلاء الأشاعرة الّذين لا يكيّفون الرؤية. وأمّا المجسّمة فهم يسلِّمون أنّ الله تعالى لو لم يكن جسماً لم صحّ أن يرى ، ونحن نسلِّم لهم أنّ الله تعالى لو كان جسماً لصحّ أن يرى والكلام معهم في هذه المسألة لغو ».
وبما أنّا استوفينا دراسة أدلّة المجوّزين للرؤية في الجزء الثاني ، فلنكتف في المقام بدراسة أدلّة النافين على وجه الإجمال. فنقول:
استدلّت المعتزلة على نفي الرؤية بالأدلّة العقليّة والسّمعية. أمّا العقلية ، فهي ما أثبتها الحسّ والعلوم الطبيعية من أنّ الرائي بالحاسّة لا يرى الشيء إلاّ إذا كان مقابلاً أو حاّلاً في المقابل أو في حكم المقابل. وقد ثبت أنّ الله تعالى لا يجوز أن يكون كذلك ، لأنّ المقابلة من أحكام الأجسام والأعراض وهو سبحانه فوق الممكنات والمادّيات.
________________________________________
(336)
هذا ما استدلّ به القاضي تبعاً لمشايخه. ثمّ أجاب عمّا ربّما يتمسّك به المجوّز من أنّه يمكن أن نرى القديم تعالى بحاسّة سادسة من دون الحاجة إلى المقابلة. وقال: إنّه لو جاز أن يرى القديم بحاسّة سادسة لجاز أن يذاق بحاسّة سابعة ، وأن يلمس بحاسّة ثامنة ، وأن يشمّ بحاسّة تاسعة ، ويسمع بحاسّة عاشرة. تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً (1).
أقول: كان على القاضي أن يعترض أيضاً بأنّ الرؤية بحاسّة سادسة مضافاً إلى أنّه رجم بالغيب ، خروج عن الموضوع.
وأمّا السمعيّة: فقد استدلّ القاضي بقوله تعالى: ( لاتُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الخَبِير ) ( الأنعام / 103 ).
قال: « وجه الدّلالة في الآية هو ما قد ثبت من أنّ الإدراك إذا قرن بالبصر ، لا يحتمل إلاّ الرؤية. وثبت أنّه تعالى نفى عن نفسه إدراك البصر ، ونجد في ذلك تمدّحاً راجعاً إلى ذاته. وما كان نفيه تمدّحاً راجعاً إلى ذاته كان إثباته نقصاً ، والنقائص غير جائزة على الله تعالى في حال من الأحوال.
ثمّ قال: فإن قيل: أليس يقولون: « أدركت ببصري حرارة الميل » فكيف يصحّ قولكم إنّ الادراك إذا قرن بالبصر لا يحتمل إلاّ الرؤية؟ اُجيب بأنّ هذا ليس من اللّغة في شيء ، و إنّما اخترعه ابن أبي بشر الأشعري ليصحّح مذهبه به ، إذ لم يرد في كلامهم لا المنظوم ولا المنثور ».
أقول: إنّ العرب في هذا المجال تقول: « أحسست ببصري حرارة الميل » على أنّ الباء إنّما تدخل على الآلة كقولهم: « مشيت برجلي و كتبت بقلمي » والبصر ليس بآلة في إدراك الحرارة ، بل يستوي فيه البصر والسّمع ، فلو اُطلق البصر فلا يراد منه إلاّ العضو الحاسّ لا العضو الّذي يرى به.
ثمّ إنّ القاضي أفاض الكلام في دلالة الآية وردّ ما اُثير حولها من الشبهات بوجه
________________________________________
1 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 248 ـ 253.
________________________________________
(337)
ممتاز ، فمن أراد فليرجع إليه (1).
ومن لطيف ما أفاده في المقام ، هو الاجابة عن احتجاج المثبتين بما رووه عن النّبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: « إنّكم سترون ربّكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر » (2). فأجاب عن الاستدلال بوجوه:
الأوّل: إنّ الأخذ بظاهر الخبر يستلزم أن نرى الله سبحانه مثلما نرى القمر ، فإنّا لا نرى القمر إلاّ مدوّراً عالياً منوّراً ، والله سبحانه أعلى من هذه الصفات.
يلاحظ عليه: أنّ وجه الشّبه هو الرؤية الحسيّة اليقينيّة. فكما أنّ الإنسان لا يشكّ ـ بعد ما رأى القمر ـ أنّه رآه ، فهكذا فيه سبحانه لاتمام الخصوصيات.
الثاني: أنّ هذا الخبر يروى عن قيس بن أبي حازم ، عن جرير بن عبدالله البجلي ، عن النّبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم. وقيس هذا مطعون فيه من وجهين:
أحدهما: أنّه كان يرى رأى الخوارج. يروى أنّه قال: « منذ سمعت عليّاً على منبر الكوفة يقول: انفروا إلى بقيّة الأحزاب ـ يعني النّهروان ـ ، دخل بغضه على قلبي » ومن دخل بغض أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ قلبه فأقلّ أحواله أن لا يعتمد على قوله ، ولا يحتجّ بخبره.
وثانيهما: قيل إنّه خولط في عقله آخر عمره ، والكتبة يكتبون عنه على عادتهم في حال عدم التّمييز ، ولا ندري أنّ هذا الخبر رواه وهو صحيح العقل أو مختلطه.
الثالث: إن صحّ هذا الخبر فأكبر ما فيه أن يكون خبراً من أخبار الآحاد. وخبر الواحد ممّا لا يقتضي العلم. ومسألتنا طريقها القطع والثبات.
ثمّ إنّ هذا الخبر معارض بأخبار رويت. ثمّ ذكر بعض الأخبار (3).
________________________________________
1 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 248 ـ 253.
2 ـ صحيح البخاري ، كتاب المواقيت ، الباب 16 ، الحديث 26 ج 1 ص 111 ، وباب الاذان وغيره.
3 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 269.
________________________________________
(338>)
الاجابة عن الشّبه الثلاث
إنّ للمثبتين ، شبهاً ثلاثاً أشبه ما تكون بشبهات الأحداث:
الأولى:إنّ القديم تعالى عندكم راء لذاته ، فيجب أن يرى نفسه فيما لم يزل. وكلّ من قال إنّه يرى نفسه ، قال إنّه يراه غيره.
يلاحظ عليه: أنّ الصغرى والكبرى ممنوعتان. فإن اُريد من رؤيته لذاته حضور ذاته لذاته وعدم غيبوبتها عنها ، فهو صحيح ولا صلة له بالرؤية الحسّيّة ، وإن اُريد الرؤية بالبصر فالصغرى ممنوعة. وأمّا الكبرى فزعم المستدلّ أنّ المسألة مسألة فقهيّة لا يصحّ التفكيك بينهما.
الثانية:إنّ مصحِّح الرؤية هو الوجود ، بدليل أنّ الشيء متى كان موجوداً كان مرئياً. ومتى لم يكن كذلك لم يكن مرئيّاً.
يلاحظ عليه: أنّ الوجود شرط الرؤية لا العلّة التامّة. ولأجل ذلك لا يرى الإنسان الارادات والكراهات ولا غير ذلك. فللرؤية شرائط قد حقِّقت في العلوم الطّبيعية.
الثالثة:إنّ إثبات الرؤية للّه تعالى لا تؤدّي إلى حدوثه ، ولا إلى حدوث معنى فيه ، ولا إلى تشبيهه بخلقه.
وأجاب القاضي أنّ إثبات الرؤية تؤدّي إلى تشبيهه بخلقه ، لأنّ الشّيء إنّما يرى إذا كان مقابلاً ، أو حالاً في المقابل ، وهذه من صفات الأجسام ، فيجب أن يكون تعالى جسماً ، وإذا كان جسماً يجب أن يكون محدثاً (1).
________________________________________
1 ـ كان على القاضي و غيره البحث عن حدوث كلامه سبحانه أو قدمه في المقام ، لأنّ نفي قدمه من شئون توحيده ، ولكنه غفل عن ذلك.
________________________________________
(339)
الأصل الثاني
العدل
هذا هو الأصل الثّاني من الاُصول الخمسة ، والأصل الأوّل يهدف إلى تنزيه ذاته سبحانه عمّا لا يجوز حمله عليه ، وتمييزه عمّا يجوز ، و هذا يهدف إلى أفعاله سبحانه و تمييز ما يجوز عليه عمّا لا يجوز ، فإذا وصفنا القديم تعالى بأنّه عدل حكيم ، فالمراد به أنّه لا يفعل القبيح أو لا يختاره ولا يخلّ بما هو واجب عليه وإنّ أفعاله كلّها حسنة. وخالفتهم المجبِّرة و أضافت إلى الله تعالى كلّ قبيح ، وقد تعرّفت على تعريف القاضي لهذا الأصل في مدخل البحث عن الاُصول الخمسة.
وخلاصة هذا الأصل عند العدليّة من غير فرق بين المعتزلة والإماميّة ، هو أنّ الله عزّوجلّ عدل كريم ، خلق الخلق لعبادته ، وأمرهم بطاعته ، ونهاهم عن معصيته ، وعمّهم بهدايته ، بدأهم بالنِّعم و تفضّل عليهم بالاحسان. لم يكلِّف أحداً إلاّ دون الطاقة ، ولم يأمره إلاّ بما جعل له عليه الاستطاعة. لا عبث في صنعه ولا قبيح في فعله. جلّ عن مشاركة عباده في الأفعال ، وتعالى عن اضطرارهم إلى الأعمال لا يعذِّب أحداً إلاّ على ذنب فعله ، ولا يلوم عبداً إلاّ على قبيح صنعه. لا يظلم مثقال ذرّة ، وإن تك حسنة يضاعفها و يؤت من لدنه أجراً عظيماً.
ثمّ إنّ لهذا الأصل دوراً كبيراً في تطوير المسائل الكلاميّة ، وهو الحجر الأساس لكثير من آراء المعتزلة كما نشير إليها. وهو يبتنى على التّحسين والتّقبيح العقليّين ، فلو ثبتا بالبرهان العقلي ، يثبت العدل كما ثبت كلّ ما بنى عليه من المسائل ، وإلاّ يصبح الأساس والبناء خاليين من البرهان. وترى ما ذكرنا في نصّ القاضي ، يقول:
________________________________________
(340)
« إنّ العَدْل مصدر عَدَلَ يَعْدلُ عَدْلاً ، ثمّ قد يذكر و يراد به الفعل ، وقد يذكر و يراد به الفاعل ، فإذا وصف به الفعل ، فالمراد به كلّ فعل حسن يفعله الفاعل لينفع به غيره أو ليضرّه.
فأمّا إذا وصف به الفاعل ، فعلى طريق المبالغة كقولهم للصائم:صوم ، ونحن إذا وصفنا القديم تعالى بأنّه عدل حكيم ، فالمراد به أنّه لا يفعل القبيح ، أو لا يختاره ، ولا يخلّ بما هو واجب عليه ، وأنّ أفعاله كلّها حسنة ، وقد خالفنا في ذلك المجبِّرة وأضافت إلى الله تعالى كلّ قبيح » (1).
إنّ إثبات عدله سبحانه مبنيّ على ثبوت اُمور ثلاثة:
الأوّل: إنّ هناك أفعالاً تتّصف بذاتها بالحسن والقبح.
الثاني: إنّ الله تعالى عالم بحسن الأشياء و قبحها.
الثّالث: إنّه سبحانه لا يصدر منه القبيح.
أمّا الأوّل: فقد برهنوا عليه بوجوه مختلفة ، أوضحها ما أشار إليه أبو عبدالله البصري في عبارة مختصرة و قال: « إنّ كلّ عاقل يستحسن بكمال عقله التّفرقة بين المحسن والمسيء ، وإنّما تفرق بينهما الحسنة و إلاّ فلا نفع في ذلك ولا دفع ضرر ».
قال القاضي عبدالجبّار: « ومعرفة حسن الأفعال أو قبحها كمعرفة حسن الصِّدق وقبح الكذب ، إنّما يعلم ببداهة العقول. أمّا استنباط وجوه الحسن أو القبح في فعل معيّن فذلك يحتاج الى تفكير و استدلال ، ومن ثمّ لا تختلف العقول في التّمييز بين حسن الأفعال وقبحها على وجه الجملة ، كمعرفة قبح الظّلم ، ولكنّها تختلف في الحكم على الإفعال تفصيلاً ، فيستحسن الخوارج قتل مخالفيهم بينما تستقبح ذلك معظم فرق المسلمين » (2).
________________________________________
1 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 301.
2 ـ المغني: ج 6 ، ص 20.
(341)
توضيحه إنّ في الحكمة النّظريّة قضايا نظريّة تنتهي إلى قضايا بديهيّة ، ولولا ذلك لعقمت القياسات و صارت غير منتجة ، ومثلها الحكمة العمليّة ، ففيها قضايا غير معلومة لا تعرف إلاّ بالانتهاء إلى قضايا ضروريّة ، وإلاّ لما عرف الإنسان شيئاً من قضايا الحكمة العمليّة. فكما أنّ العقل يدرك القضايا البديهيّة في الحكمة النظريّة من صميم ذاتها ، فهكذا يدرك بديهيّات القضايا في الحكمة العمليّة من صميم ذاتها بلا حاجة إلى تصوّر شيء آخر.
مثلاً ، إنّ كلّ القضايا النظريّة يجب أن تنتهي إلى قضيّة امتناع اجتماع النّقيضين وارتفاعهما ، بحيث لو ارتفع التّصديق بهما لما أمكن التّصديق بشيء من القضايا ولذا تسمّى ب ـ « أمّ القضايا » فلا يحصل اليقين بأنّ زوايا المثلّث مثلاً تساوي قائمتين ، إلاّ إذا حصل قبله امتناع صدق نقيض تلك القضيّة ، أي عدم مساواتها لهما. وإلاّ فلو احتمل صدق النّقيض لما حصل اليقين بالنّسبة ، ولأجل ذلك اتّفقت كلمة الحكماء على أنّ إقامة البرهان على المسائل النّظريّة إنّما تتمّ إذا انتهى البرهان إلى أُمّ القضايا الّتي قد عرفت.
وعلى ضوء هذا البيان نقول: كما أنّ للقضايا النّظرية في العقل النّظري قضايا بديهيّة أو قضايا أوّليّة تنتهي إليها ، فهكذا القضايا غير الواضحة في العقل العملي يجب أن تنتهي إلى قضايا أوّليّة و واضحة عند ذلك العقل ، بحيث لو ارتفع التّصديق بهذه القضايا في الحكمة العمليّة لما صحّ التّصديق بقضيّة من القضايا فيها.
فمن تلك القضايا البديهيّة في العقل العملي مسألة التّحسين والتّقبيح العقليّين الثابتين لجملة من القضايا مثل قولنا: « العدل حسن » و « الظّلم قبيح » و « جزاء الإحسان بالإحسان حسن » و « جزاء الإحسان بالإساءة قبيح ». فهذه القضايا قضايا أوّلية في الحكمة العمليّة ، والعقل العملي يدركها من ملاحظة القضيّة بنفسها وفي ضوئها يحكم بما ورد في مجال العقل العملي من الأحكام المربوطة بالأخلاق أوّلاً ، وتدبير المنزل ثانياً ، وسياسة المدن ثالثاً ، الّتي يبحث عنها في العقل العملي. وليس استقلال
________________________________________
(342)
العقل في تلك القضايا الأوّلية الراجعة إلى العقل العملي إلاّ لأجل أنّه يجدها إمّا ملائمة للجانب العالي من الإنسانيّة ، المشترك بين جميع أفراد الإنسان ، أو منافرة له. وبذلك تصبح قضيّة التّحسين والتّقبيح في قسم من الأفعال ، قضيّة كلّية لا تختصّ بزمان دون زمان ، ولا جيل دون جيل. بل لا تختصّ ـ في كونها كمالاً أو نقصاً ـ بالإنسان بل تعمّ الموجود الحيّ المدرك المختار ، لأنّ العقل يدركها بصورة قضيّة عامّة شاملة لكلّ من يمكن أن يتّصف بهذه الأفعال كالعدل والظلم ، فهو يدرك أنّ الأوّل حسن عند الجميع ومن الجميع ، والثاني قبيح كذلك ، وليس للانسان خصوصيّة في ذلك القضاء.
وبذلك يصبح المدّعي للتّحسين والتّقبيح العقليّين الذاتيّين في غنى عن البرهنة لما يتبنّاه ، كما أنّ المدّعي لامتناع اجتماع النقيضين و ارتفاعهما كذلك.
والعجب أنّ الحكماء والمتكلّمين اتّفقوا على أنّه يجب انتهاء القضايا النّظريّة في العقل النظري إلى قضايا بديهيّة ، و إلاّ عقمت الأقيسة ولزم التّسلسل في مقام الاستنتاج ، ولكنّهم غفلوا عن إجراء ذلك الأصل في جانب العقل العملي ولم يقسّموا القضايا العمليّة إلى فكرية و بديهيّة ، أو نظريّة و ضروريّة. كيف والاستنتاج والجزم بالقضايا الواردة في مجال العقل لا يتمّ إلاّ إذا انتهى العقل إلى قضايا واضحة في ذلك المجال.
فالمسائل المطروحة في الأخلاق ممّا يجب الاتّصاف به أو التنزّه عنه ، أو المطروحة في القضايا البيتيّة و العائليّة الّتي يعبّر عنها بتدبير المنزل ، أو القضايا المبحوث عنها في علم السياسة و تدبير المدن ، ليست في الوضوح على نمط واحد ، بل لها درجات ومراتب.
فلا ينال العقل الجزم بكلّ القضايا العمليّة إلاّ إذا كانت هناك قضايا بديهيّة واضحة تبتنى عليها القضايا المجهولة العمليّة حتّى يحصل الجزم بها و يرتفع الابهام عن وجهها. ولأجل ذلك فالقائل بالتّحسين والتّقبيح العقليّين في غنى عن التوسّع في طرح أدلّة القائلين بهما.
________________________________________
(343)
وبهذا البيان يستغني الإنسان عن كثير من الأدلّة الّتي أقامها القائلون بالحسن والقبح ، سواء أكانت صحيحة أم لا. نظير ما ربّ ـ ما يقال من أنّ أحدنا لو خيّر بين الصّدق و الكذب وكان النّفع في أحدهما كالنّفع في الآخر وقيل له: إن كذبت أعطيناك درهماً و إن صدقت أعطيناك درهماً ، فإنّه قطُّ لا يختار الكذب على الصدق. ليس ذلك إلاّ لعلمه بقبحه و بغناه عنه (1).
يلاحظ عليه: أنّ اختيار الصِّدق على الكذب يمكن أن يكون مستنداً إلى أمر آخر ، وهو كون الصِّدق مطابقاً للفطرة و الكذب على خلافها. ولأجل ذلك لا يختار الصبي إلاّ الصِّدق وليس ذلك لأجل العلم بقبح الكذب. هذا كلّه حول الأمر الأوّل.
وأمّا الأمر الثاني: أعني كونه سبحانه عالماً بحسن الأشياء وقبحها ، فقد استدلّ عليه القاضي بأنّه تعالى عالم لذاته ، ومن حقِّ العالم لذاتهـ أن يعلم جميع المعلومات على الوجوه الّتي يصح أن تعلم عليها. ومن الوجوه الّتي يصحّ أن يعلم المعلوم عليه قبح القبائح ، فيجب أن يكون القديم تعالى عالماً به (2).
يلاحظ عليه: أنّ كلامه مجمل و لعلّه يريد أنّ ذاته سبحانه علّة الأشياء و علّة لصفاتها ، والعلم بالعلّة ، علم بالمعاليل. فهو سبحانه بما أنّه عالم لذاته ، عالم بمعاليله من الذوات والصفات.
ولكن التقرير عليل من وجهين:
الأوّل:إنّ الحسن والقبح من صفات الأفعال لا من صفات الأشياء الخارجية من الجواهر والاعراض القائمة بها ، وأفعال الإنسان ليست مخلوقة له سبحانه عند المعتزلة فلا تكون معلولة لذاته حتّى يلزم من العلم بالذات ، العلم بها.
الثاني: إنّ الحسن والقبح ، بمعنى يجب أَنْ يفعل أو لا يفعل ، من الأحكام العقلية وليست من الصفات الخارجية للأفعال و الأشياء ، حتّى يكونا مخلوقين له سبحانه ،
________________________________________
1 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 303.
2 ـ المصدر السابق: ص 302.
________________________________________
(344)
وحتى يقال بأنّ خالق القبيح والحسن خالق لقبحه أو حسنه. فالطريق الأوسط ، الاستدلال على علمه بالحسن والقبيح بعلم الإنسان بهما ، والله سبحانه عالم بما خلق ، وبما ينطوي عليه مخلوقه من التصورات والتّصديقات.
فاذا كان حسن الأشياء وقبحها بذاتها معلومة للإنسان المخلوق ، فهي معلومة له بالضرورة ، لانتهاء ما في الكون إلى الله سبحانه. قال تعالى: ( ألا يعلم من خلق وهو الّلطيف الخبير ) ( الملك / 14 ) وقد تعرّفت في البيان الّذي أوضحنا به دليل أبي عبدالله البصري أنّ العقل يدرك أن هنا شيئاً حسناً لدى الكلّ وقبيحاً كذلك. فلا يختصّ قبح الأشياء ولا حسنها بشخص دون آخر.
وأماّ الأمر الثالث: فقد استدلّوا عليه بما ورد في الكتب الكلاميّة من أنّ القبيح لا يختاره إلاّ الجاهل بالقبح أو المحتاج إليه ، وكلاهما منفيّان عنه تعالى ، ولأجل ذلك إنّ الظّلمة والفسقة لا يرتكبون القبائح إلاّ لجهلهم بقبحها أو لاعتقادهم أنّهم سيحتاجون إليها في المستقبل ، كما في غصب الأموال.
يلاحظ عليه: أنّ هذا الدّليل مبنيّ على كون فاعليّة الواجب بالدّاعي الزائد على ذاته ، وهو خلاف التّحقيق لكونه تامّاً في الفاعليّة. فلا يكون في الايجاد محتاجاً إلى شيء وراء ذاته.
والأولى أن يقرّر بأنّ مقتضى التّحسين والتّقبيح العقليّين ـ على ما عرفت ـ هو أنّ العقل بما هو هو ، يدرك أنّ هذا الشيء بما هو هو ، حسن أو قبيح ، وأنّ أحد هذين الوصفين ثابت للشيء بما هو هو ، من دون دخالة ظرف من الظروف أو قيد من القيود ، ومن دون دخالة درك مدرك خاصّ.
وعلى ذلك فالعقل في تحسينه و تقبيحه يدرك واقعيّة عامّة و متساوية بالنسبة إلى جميع المدركين والفاعلين ، من غير فرق بين الممكن والواجب. فالعدل حسن يمدح فاعله عند الجميع ، والظّلم قبيح يذمّ فاعله عند الجميع ، وعلى هذا الأساس فالله سبحانه ، المدرك للفعل ووصفه ـ أعني استحقاق الفاعل للمدح أو الذمّ من غير
________________________________________
(345)
خصوصيّة للفاعل ـ كيف يقوم بفعل ما يحكم بأنّ فاعله مستحقّ للذّم ، أو يقوم بفعل مايحكم بأنّه يجب التنزّه عنه؟!
وعلى ذلك فالله سبحانه عادل ، لأنّ الظلم قبيح و ممّا يجب التنزّه عنه ، ولا يصدر القبيح من الحكيم ، والعدل حسن وممّا ينبغي الاتّصاف به ، فيكون الاتّصاف بالعدل من شؤون كونه حكيماً منزّهاً عمّا لا ينبغي.
وإن شئت قلت: إنّ الإنسان يدرك أنّ القيام بالعدل كمال لكلّ أحد ، وارتكاب الظّلم نقص لكلّ أحد. وهو كذلك حسب إدراك العقل ، عنده سبحانه. ومعه كيف يجوز أن يرتكب الواجب خلاف الكمال ، ويقوم بما يجرّ النّقص إليه؟!
ما يتفرّع على العدل من المسائل
قد عرفت أنّ الحسن والقبح أساس القول بالعدل ، وعنه تتفرّع عدّة مسائل تفترق فيها مدرسة الاعتزال عن مدرسة أهل الحديث و الأشاعرة. ونحن نشير إلى عناوينها ، ثمّ نبحث عن كلّ واحد تلو الآخر وهي عبارة عن:
1 ـ الله قادر على القبيح.
2 ـ أفعال العباد غير مخلوقة فيهم و أنّهم المحدثون لها.
3 ـ الاستطاعة متقدِّمة على الفعل.
4 ـ قبح التّكليف بما لايطاق.
5 ـ الله تعالى لا يكون مريداً للمعاصي.
6 ـ اللّطف واجب على الله سبحانه.
7 ـ حكم القرآن الكريم من حيث الحدوث والقدم.
8 ـ ما يتعلّق بالنبوّات والشرائع و معاجز الأنبياء.
هذه هي المسائل المبنيّة على العدل ، ونحن نأخذ بالبحث عنها على منهج الاعتزال ، وسيوافيك أنّ ثمرات التّحسين والتّقبيح العقليّين أوسع مما ذكر.
________________________________________
(346)
المسألة الاُولى:
قدرته سبحانه على القبيح
قد عرفت أنّ القاضي قد رتّب على القول بالعدل عدّة مسائل ، ولأجل التعرّف على منهج الاعتزال نطرح هذه المسائل مكتفين على ما جاء به القاضي في ( شرح الاُصول الخمسة ) فهو رائدنا في هذه المباحث ، ومن أراد التبسّط فعليه المراجعة بكتابه الآخر: « المغني » وقد طبع منه أربعة عشر جزءاً ، وعلى كلّ حال فكتب القاضي هي الممثّلة لرأي المعتزلة في أعصارهم. والمسألة الاُولى في قدرته سبحانه على القبيح وإنّما عنونها في هذا الفصل لأدنى مناسبة ، مع أنّ عنوانها في عموم القدرة أولى من عنوانها في مسألة التّحسين والتّقبيح ، والمخالف فيها عدّة من المعتزلة منهم النظّام وعليّ الأسواري والجاحظ ، حيث ذهبوا إلى أنّه تعالى غير موصوف بالقدرة على ما لو فعله لكان قبيحاً ، وقد ردّ عليه القاضي بقوله « إنّه تعالى قادر على أن يخلق فينا العلم كما هو قادر على أن يخلق بدله الجهل ، وأيضاً قادر على أن يخلق الشّهوة في أهل الجنّة كما هو قادر على أن يخلق فيهم النّفرة » (1).
أقول: إنّ التّفصيل بين القدرة على الحسن والقدرة على القبيح ، موهون جدّاً ، وناش عن عدم التعرّف على مفهوم القدرة ، فإنّها تستعمل فيما إذا كان الفاعل بالنّسبة إلى الفعل والتّرك متساوياً ، وإلاّ لما وصف بالقدرة ، بل بالايجاب. فلو كان قادراً على إدخال المطيع إلى الجنّة ، ولم يكن قادراً على إدخاله في النار لما وصف بالقادر ، بل كان فاعلاً موجباً ، وبذلك يعلم حال عدّة من المسائل الّتي اختلف فيها المعتزلة ، وإليك عناوينها:
1 ـ ذهب عبّاد بن سليمان إلى عدم قدرته تعالى على خلاف معلومه ، قائلاً بأنّ ما علم وقوعه يقع قطعاً ، فهو واجب الوقوع ، وما علم عدم وقوعه لا يقع قطعاً ، فهو ممتنع
________________________________________
1 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 314.
________________________________________
(347)
الوقوع.
يلاحظ عليه: أنّ معناه نفي القدرة و توصيفه سبحانه بالايجاب أوّلاً ، وأن تعلّق العلم بوقوعه لا يخرجه عن الاختيار ثانياً ، لأنّه تعلّق بصدوره عنه سبحانه اختياراً لا اضطراراً وإيجاباً وقد قلنا نظير ذلك في تعلّق علمه سبحانه بصدور أفعال العباد عنهم. فلاحظ (1).
2 ـ ذهب البلخي إلى عدم قدرته تعالى على مثل مقدور العبد ، لأنّه إمّا طاعة ، أو معصية ، أو عبث. وهو منزّه عن أن يكون مطيعاً ، أو عاصياً ، أو عابثاً.
وقد غفل عن أنّ الاطاعة والمعصية ، ليستا من الاُمور الحقيقيّة الدّخيلة في ماهيّة العمل ، فلو قام إنسان كالخليل لبناء بيت امتثالاً لأمره سبحانه ، فالله سبحانه يقدر على إيجاد بيت مثله ، والفعلان متّحدان ماهيّة و هيئة ، وإن كان الأوّل مصداقاً للاطاعة دون الآخر.
وبعبارة أُخرى: أنّ الاطاعة أمر انتزاعيّ ينتزعه العقل من مطابقة المأتي به لما أمر به المولى ، وعلى هذا فهناك واقعيّتان: الأوّل: الأمر ، الثاني ، المأتيّ به ، وأمّا الموافقة والمخالفة فهما أمران ذهنيّان يتواردان على الذّهن من ملاحظتهما ، فإن وجد بينهما المشابهة أو المخالفة يعبّر عن الاُولى بالطّاعة ، وعن الثانية بالعصيان ، وليس لهما واقعيّة وراء الذهن ، فلا تكون الحقيقة الخارجيّة سواء صدرت عن الله سبحانه ، أو عن عباده ، أمرين متباينين.
3 ـ ذهب الجبّائيان إلى عدم قدرته تعالى على عين مقدور العبد ، وإلاّ لزم اجتماع النقيضين إذا أراده الله و كرهه العبد ، أو بالعكس.
يلاحظ عليه: أنّه كان على القائل الاستدلال بوجه آخر ، وهو أنّه يلزم حينئذ اجتماع العلّتين على معلول واحد. ومع ذلك كلّه ، فما جاء في الاستدلال نشأ من فكرة ثنويّة ناشئة عن مبادئ الاعتزال ، فتخيّل أنّ فعل العبد يجب أن يكون مخلوقاً للعبد
________________________________________
1 ـ لاحظ الجزء الثاني: ص 301 ـ 307.
________________________________________
(348)
وحده ولا يكون للّه سبحانه فيه شأن ، لما أنّ هناك فاعلين مستقلّين: « الله » و « الإنسان » ، ولكلِّ مجاله الخاص. وعند ذلك لا يرتبط مقدور العبد بالله سبحانه كما لا يرتبط مقدوره بعباده ، ولكنّه باطل ، لما عرفت من أنّ العلّتين ليستا عرضيّتين بل طوليّتين ، فالعلل الامكانيّة في طول العلّة الواجبة ، وبما أنّه تنتهي العلل إلى الواجب ، يكون مخلوق العبد مخلوقه سبحانه.
المسألة الثانية:
في أنّ أفعال العباد ، ليست مخلوقة للّه سبحانه
من فروع القول بالعدل كون فعل الإنسان فعله ، لا فعل خالقه.
توضيحه: أنّ أهل الحديث و الأشاعرة يعتقدون بكون أفعال العباد مخلوقة للّه سبحانه ، وعندئذ يلزم على أصول الاعتزال كونه سبحانه موصوفاً بفعل القبيح ، وذلك لأنّ أفعال العباد بين حسن وقبيح ، فلو كان هو الفاعل يلزم أن يكون فاعل القبيح. ثمّ الجزاء على القبيح قبيح مع كون الفاعل هو الله سبحانه.
ويفصّل القاضي الأقوال في المسألة على النّحو التالي:
1 ـ العباد هم المحدثون لأفعالهم ، ويقابلهم الجبريّة كالجهميّة القائلون بأنّ أفعالهم مخلوقة للّه ولا تعلّق لها بالعباد.
2 ـ من ذهب إلى كونها مخلوقة للّه ولكن لها تعلّق بهم من جهة الكسب.
3 ـ من سوّى في هذه القضيّة بين المباشر و المتولّد ، وقال: كلاهما مخلوق للّه سبحانه ومتعلّق بنا من جهة الكسب ، وينسب هذا إلى ضرار بن عمرو.
4 ـ ومنهم من فصل بين المباشر والمتولّد ، فقال: إنّ المباشر خلق الله تعالى فينا متعلّق بنا من حيث الكسب ، وأمّا المتولّد كالاحراق بعد الالقاء فالله تعالى متفرّد بخلقه.
وبما أنّا استوفينا الكلام في عقيدة الأشاعرة و مفهوم الكسب في الجزء الثاني ،
________________________________________
(349)
نركّز البحث هنا على عقيدة المعتزلة. فالمنقول عنهم تفويض ، أفعال العباد إلى أنفسهم وأنّهلا شأن للّه سبحانه في أفعال عباده ، فذواتهم مخلوقة للّه و أفعالهم مفوّضة إلى أنفسهم.
وبعبارة ثانية: العباد في ذواتهم محتاجون إلى الواجب لا في أفعالهم و حركاتهم وسكناتهم. فالمعتزلة في كتب الأشاعرة والشّيعة الإماميّة ، مرميّة بهذه العقيدة ، وإليك نقل ما يعرب عن مذهبهم:
1 ـ قال الأشعري: « زعمت المعتزلة أنّ الله تعالى لم يخلق الكفر والمعاصي ولا شيئاً من أفعال غيره. وأنّ الله خلق الكافر لا كافراً ، ثمّ إنّه كفر وكذلك المؤمن ، واختلفت في الإنسان يخلق فعله أم لا ، على ثلاث مقالات:
فزعم بعضهم أنّ معنى فاعل و خالق واحد ، وأنّا لا نطلق ذلك في الإنسان لأنّا مُنعنا منه.
وقال بعضهم: هو الفعل لا بآلة ولا بجارحة ، وهذا يستحيل منه.
وقال بعضهم: معنى خالق: أنّه وقع منه الفعل مقدّراً ، فكلّ من وقع فعله مقدّراً فهو خالق ، قديماً كان أم محدثاً » (1).
وحاصله أنّهم لم يقولوا بكون أفعال العباد مخلوقة للِّه ، وأمّا كونها مخلوقة لأنفسهم فمن فسّر الخلق بالايجاد لا بآلة ولا بجارحة ، فمنع عن الاطلاق. وأمّا من فسّر الخلق بالتّقدير فقد جوّزه ، وسيوافيك التصريح من أبي بكر الأنباري و غيره أنّ الخلق ربّما يستعمل في التّقدير.
2 ـ وقال البغدادي: « وقالت المعتزلة: إنّ الله تعالى غير خالق لأكساب الناس ، ولا لشيء من أعمال الحيوانات ، وقد زعموا أنّ الناس هم الّذين يقدرون على أكسابهم و أنّه ليس للّه عزّوجلّ في أكسابهم ولا في أعمال سائر الحيوانات صنع و تقدير » (2).
________________________________________
1 ـ مقالات الاسلاميين: ص 295 ط 2.
2 ـ الفرق بين الفرق: ص 114 ـ 115.
________________________________________
(350)
3 ـ وقال القاضي عبدالجبّار: « ذكر شيخنا أبو عليّ ـ رحمه اللِّه ـ : اتّفق كلّ أهل العدل على أنّ أفعال العباد من تصرّفهم و قيامهم و قعودهم ، حادثة من جهتهم ، وأنّ الله عزّوجلّ أقدرهم على ذلك ، ولا فاعل لها ولا محدث سواهم ، وأنّ من قال إنّ الله سبحانه خالقها ومحدثها ، فقد عظم خطاؤه ، وأحالوا حدوث فعل من فاعلين » (1).
4 ـ وقال أيضاً: « نحن نبيّن أنّ العبد إنّما يقدر على إحداث و إيجاد ، وأنّ القدرة لا تتعلّق بالشّيء إلاّ على طريق الحدوث ، وأنّه يستحيل أن يفعل الشيء من وجهين ، ويستحيل تعلّق الفعل بفاعلين محدثين ، أو قديم ومحدث.... و نبيِّن من بعد إبطال قول من أضاف أفعال العباد إلى الله تعالى. ونذكر ما يلزمهم على قوده من الفساد ، والخروج عن الدّين ، والتزام جحد الضروريات » (2).
5 ـ قال صدر المتألّهين: « ذهبت جماعة إلى أنّ الله أوجد العباد و أقدرهم على بعض الأفعال ، وفوّض إليهم الاختيار ، فهم مستقلّون بايجادها على وفق مشيئتهم و طبق إرادتهم » (3).
وهذه النصوص الخمسة من أكابر الأشاعرة والمعتزلة والإماميّة ، تحاول أن ترميهم بالتّفويض و إن لم تكن في الصّراحة بمكان يجزم الإنسان معها بصحّة النّسبة. ولأجل ذلك يلزم المزيد من التتبّع في كتبهم الّتي قصرت أيدينا عنها. ولأجل التّوضيح نبحث عن اُمور:
1 ـ لا شكّ في وجود القول بالتّفويض في عصر الإمام الباقر ( عليه السلام ) كيف وقد طلب عبدالملك بن مروان ( ت86هـ ) ، من عامله في المدينة ، أن يوجّه محمّد بن علي الباقر إلى الشام حتّى يناظر قدريّاً أعيى الشاميين جميعاً. فبعث الإمام ولده جعفراً الصادق ( عليه السلام ). فلمّا ورد الشام واجتمع مع القدري ، فقال للإمام: سل عمّا شئت. فقال: إقرأ سورة الحمد. قال: فقرأها... حتّى بلغ قول الله تبارك و تعالى: ( إيّاك نَعْبُدُ وَ
________________________________________
1 ـ المغني: ج 6 ، الارادة ص 41 و ج 8 ، ص 1.
2 ـ المغني: ج 6 ، الارادة ص 41 و ج 8 ، ص 1.
3 ـ رسالة خلق الأعمال.
(351)
إِيَّاكَ نَسْتَعِين ) فقال له جعفر ( عليه السلام ) : قف. من تستعين؟ ما حاجتك إلى المعونة؟ إنّ الأمر إليك. فبهت القدري (1).
2 ـ تضافر عنهم ( عليهم السلام ) التّنديد بالجبر والتّفويض بمضامين مختلفة ، نأتي بواحد منها حتّى تقف على ما يشابهه:
سأل محمّد بن عجلان الصّادق ـ عليه السلام ـ أنّه هل فوّض الله الأمر إلى العباد؟ قال: « الله أكرم من أن يفوّض إليهم. قال: فأجبرهم على أفعالهم؟ فقال: الله أعدل من أن يجبر عبداً على فعل ثمّ يعذّبه عليه » (2).
3 ـ تضافر عن أئمّة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ قولهم: « لا جبر ولا تفويض » وذلك يدفعنا إلى القول بوجود المفوِّضة في زمن صدور هذه الروايات بين الأُمة الإسلاميّة ، ويرجع صدورها إلى أواخر القرن الأوّل ، وأواسط القرن الثاني.
4 ـ إنّما الكلام في أنّ المعتزلة هل هم المعنيّون في هذه الأخبار ، أو هم غيرهم ، وهذا هو الّذي يحتاج إلى دراسة عميقة بالغور في الآثار الباقية من المعتزلة.
أمّا ما نقلناه من « المغني » فهو محتمل الوجهين ، فيمكن أن يكون إشارة إلى استقلال العباد في أفعالهم و أعمالهم كما نسب إليهم صدر المتألّهين. كما أنّه يمكن أن يكون قوله: « لا فاعل لأفعال العباد ولا محدث لها سواهم » ، هو نفي كونها مخلوقة للّه سبحانه مباشرة وبلا واسطة. والشاهد عليه قوله فيما بعد: « وأنّ من قال إنّ الله سبحانه خالقها و محدثها ، فقد عظم خطاؤه و أحالوا حدوث فعل من فاعلين ».
فالعبارة بصدد نفي كون فعل العباد مخلوقاً للّه مباشرة على النّحو الّذي يذهب إليه أهل الحديث و الأشاعرة. وهذا غير القول باستقلال العباد في أفعالهم و غناهم عن الواجب في أعمالهم.
________________________________________
1 ـ بحار الأنوار: ج 5 ، ص 55 ـ 56.
2 ـ المصدر نفسه: ص 51.
________________________________________
(352)
وبعبارة ثانية: كان المذهب في أفعال العباد أحد أمرين: كون أفعالهم مخلوقة للّه مباشرة و بلا واسطة ، أو كون أفعالهم مخلوقة للعبد كذلك. فأهل الحديث والأشاعرة على الأوّل ، والمعتزلة على الثاني. لكنّ القول بالثاني ليس بمعنى انقطاع عمل العباد عن الله سبحانه ، وعدم انتهاء سلسلة العلل إلى الحقّ عزّ اسمه.
نعم ، لم يكن الأمر بين الأمرين شيئاً مفهوماً لديهم حتّى يعتقدوا به ، لأنّه من الكنوز العلميّة الّتي ظهرت من معادن العلم و أهل بيت النبوّة. ولكن عدم الوقوف على هذا المذهب غير الاعتقاد على التّفويض و الاذعان بالمعنى الباطل الّذي لا يفارق الشّرك.
5 ـ إنّ ما استدلّ به القاضي على مذهبه لا يثبت سوى نفي الجبر و كون أفعال العباد غير مخلوقة للّه سبحانه. وأمّا التّفويض الّذي اتّهم به ، فلا تثبته أدلّته ، وإليك بعض ما استدلّ به على ردّ الخصم على وجه الاجمال:
الأوّل : قال: « والّذي يدلّ على ذلك أن نفصل بين المحسن والمسيء ، وبين حسن الوجه وقبيحه. فنحمد المحسن على إحسانه و نذمّ المسيء على إساءته. ولا تجوز هذه الطّريقة في حسن الوجه وقبيحه. فلولا أنّ أحدهما متعلّق بنا بخلاف الآخر ، لما وجب هذا الفصل » (1).
الثاني : قال: « لو صحّ الجبر لزمهم التّسوية بين الرسول و إبليس ، لأنّ الرسول يدعوهم إلى خلاف ما أراد الله تعالى منهم ، كما أنّ إبليس يدعوهم إلى ذلك ، بل يلزمهم أن يكون حال الرسول أسوأ من حال إبليس » (2).
الثالث : قال: « يلزم قبح مجاهدة الكفّار ، لأنّ للكفرة أن يقولوا لماذا تجاهدونا؟ فإن كان جهادكم إيّانا على ما لا يريده الله تعالى منّا ولا يحبّه ، فالجهاد لكم أولى و أوجب ، وإن كان الجهاد لنا على ما خلق فينا...فذلك جهاد لا معنى له » (3).
________________________________________
1 ـ شرح الاُصول الخمسة: الصفحات 333 و 335 و 336.
2 ـ شرح الاُصول الخمسة: الصفحات 333 و 335 و 336.
3 ـ شرح الاُصول الخمسة: الصفحات 336.
________________________________________
(353)
إلى غير ذلك من الأدلّة الّتي أقامها القاضي على نفي الجبر ، فلا يجد الإنسان في كتابه ما يثبت به التّفويض ولو بصورة الدّليل.
6 ـ إنّ فكرة التّفويض فكرة ثنويّة لا يعرج عليها مسلم واع ، عارف بالكتاب والسنّة وبدايات الفلسفة الإلهيّة ، ولا ينطق بها من وقف على موقف الممكن من الواجب ، وواقعيّة العلل و المعاليل الامكانيّة بالنّسبة إلى الواجب المكوِّن لها بأسرها ، فإنّ صفحة الوجود الامكاني صفحة فقيرة متدلّية بالذات قائمة بالغير ، ذاتاً كان أم فعلاً. ونسبة الوجود الامكاني إلى الوجود الواجبي ، كنسبة الوجود الحرفي إلى الاسمي. وعندئذ كيف يعقل لموجود امكاني الاستقلال في التّأثير والفعل من دون أن يستند إلى الواجب و يعتمد عليه.
وبعبارة ثانية: كما أنّه ليس للمعنى الحرفي الخروج عن إطار المعنى الاسمي في المراحل الثلاث: التصور ، والدلالة ، والتحقّق في الخارج ، فهكذا المعلول الامكاني بهويّته و أفعاله ، فليس له الخروج عن إطار العلّة الواجبة في حال من الحالات.
هذا ، وقد أوضحنا بطلان التّفويض كتاباً و عقلاً في أبحاثنا الكلاميّة (1).
7 ـ هنا مسألتان:
الاُولى: هل أفعال العباد مفوّضة إليهم أنفسهم أو لا؟
الثانية: هل الذّوات الامكانيّة محتاجة إلى الواجب في حدوثهم فقط ، أو في حدوثهم و بقائهم؟ فمن قال بالأوّل وجب له القول بالتّفويض في الأفعال بوجه أولى ، لأنّ الذات إذا كانت غنيّة عن الواجب في بقائه ، فأولى أن يكون كذلك في أفعالها.
قال الشيخ الرئيس في إشاراته: « وقد يقولون إنّه إذا أوجد فقد زالت الحاجة إلى الفاعل ، حتّى إنّه لو فقد الفاعل جاز أن يبقى المفعول موجوداً كما يشاهدونه من فقدان البنّاء و قوام البناء ، وحتّى إنّ كثيراً منهم لا يتحاشى أن يقول: لو جاز على الباري تعالى
________________________________________
1 ـ لاحظ « الالهيات في الكتاب والعقل والسنة » الجزء الثاني 321 ـ 331.
________________________________________
(354)
العدم لما ضرّ عدمه وجود العالم ، لأنّ العالم عندهم إنّما احتاج إلى الباري تعالى في أن أوجده أي أخرجه من العدم إلى الوجود ، حتّى كان بذلك فاعلاً. فإذا قد فعل و حصل له الوجود عن العدم ، فكيف يخرج بعد ذلك إلى الوجود عن العدم حتّى يحتاج إلى الفاعل » (1).
أقول: ما نقله الشيخ عنهم مبنيّ على أنّ مناط حاجة الممكن إلى العلّة هل هو إمكانه أو حدوثه ، فمن قال بالثاني ، صوّر الممكن غنياً في بقائهـ فضلاً عن فعله ـ عن الواجب. ومن قال بالأوّل ، أظهر الممكن محتاجاً في كلِّ حال من الأحوال إلى الواجب حدوثاً و بقاءً و ذاتاً و فعلاً. وبما أنّ التّحقيق كون مناط الحاجة هو الامكان ، فإذاً يصبح التّفويض أمراً باطلاً لا يحتاج إلى التّدليل أكثر من ذلك.
ولأجل ذلك نأتي ببعض الدّلائل المتقنة على أنّ مناط الحاجة هو الامكان ، و هو لا يزول عن الممكن أبداً. فذاته تتعلّق به دائماً ، فكيف بأفعاله ، فانتظر.
8 ـ الظّاهر من الشيخ المفيد موافقة المعتزلة للإماميّة في مسألة أفعال العباد. قال: « إنّ الله عدل كريم ـ إلى أن قال: ـ جلّ عن مشاركة عباده في الأفعال ، و تعالى عن اضطرارهم إلى الأعمال. لا يعذّب أحداً إلاّ على ذنب فعله ، ولا يلوم عبداً إلاّ على قبيح صنعه. لا يظلم مثقال ذرّة ، فإن تك حسنة يضاعفها و يؤت من لدنه أجراً عظيماً.
وعلى هذا القول جمهور أهل الإمامة ، وبه تواترت الآثار عن آل محمّد ( عليهم السلام ) وإليه يذهب المعتزلة بأسرها إلاّ ضراراً منها و أتباعه. وهو قول كثير من المرجئة ، وجماعة من الزيديّة والمحكّمة ، و نفر من أصحاب الحديث ، وخالف فيه جمهور العامّة و بقايا ممّن عددناه » (2).
وماذكره الشيخ المفيد يعرب عن أنّ المعتزلة في ذلك العصر لم تكن معتقدة بالتّفويض ، وإلاّ لم يعدّها الشيخ متّحدة مع الإماميّة القائلة بنفي الجبر و التفويض
________________________________________
1 ـ الاشارات ، للشيخ الرئيس: ج 3 ، ص 68.
2 ـ أوائل المقالات: ص 24 ـ 25.
________________________________________
(355)
معاً.
9 ـ يظهر من المفيد أنّ المراد من التّفويض الوارد في الروايات غير ما هو المصطلح بيننا حيث قال: « الجبر هو الحمل على الفعل و الاضطرار إليه بالقهر و الغلبة. وحقيقة ذلك إيجاد الفعل في الخلق من غير أن يكون له قدرة على دفعه ، والامتناع من وجوده فيه.... والتّفويض هو القول برفع الحظر عن الخلق في الأفعال ، والاباحة لهم مع ما شاءوا من الأعمال. وهذا قول الزّنادقة و أصحاب الاباحات. والواسطة بين هذين القولين أنّ الله أقدر الخلق على أفعالهم ، ومكّنهم من أعمالهم ، وحدّ لهم الحدود في ذلك... إلى آخر ما أفاده » (1).
10 ـ هل يصحّ إطلاق « الخلق » في مورد فعل الإنسان ، أو يختصّ « الخلق » بفعل الله سبحانه؟
لا شكّ أنّ الله سبحانه هو الخالق ، وأنّه خلق السّموات و الأرض بجواهرها وأعراضها. إنّما الكلام في أنّه هل يصحُّ استعمال كلمة الخلق في مورد فعل الإنسان ، فإذا قام أو قعد يصحّ لنا أن نقول: « خلق القيام والقعود » أو إذا أكل و شرب هل يصحّ لنا أن نقول: « خلق الأكل و الشرب » أو لا يجوز ذلك إلاّ في مورد يكون هناك عناية في استعمال هذه اللّفظة.
والرائج في مصطلح القرآن هو التّعبير بالكسب والفعل. قال سبحانه: ( لها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) ( البقرة / 286 ).
وقال تعالى: ( كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) ( النمل / 33 ).
وقال سبحانه: ( لمَ تَقُولُونَ مَالا تَفْعَلُونَ ) ( الصف / 2 ).
فالتّعبير الرائج عن أفعال الإنسان بصورة عامّة هو الكسب و الفعل ، وبصورة خاصّة هو الأفعال المخصوصة من الأكل و الشرب.
________________________________________
1 ـ شرح عقائد الصدوق ، ص 14 ـ 15.
________________________________________
(356)
وأمّا استعمال كلمة الخلق في مورد الفعل بأن يقال: « خلق الفعل و العمل » فليس بمعهود ، وإنّما هو اصطلاح تسرّب إلى كلمات المحدِّثين والمتكلِّمين في نهاية القرن الأوّل وأوائل الثاني ، حتّى قام البخاري بتأليف أسماه « خلق الأعمال ».
قال الشيخ المفيد: « إنّ الخلق يفعلون ، و يحدثون ، ويخترعون ، ويصنعون ، ويكتسبون ، ولا أطلق القول عليهم بأنّهم يخلقون ولا لهم خالقون ، ولا أتعدّى ذكر ذلك فيما ذكر الله تعالى ، ولا أتجاوز به مواضعه من القرآن ، وعلى هذا القول إجماع الإماميّة ، والزيديّة ، والبغداديّين من المعتزلة ، وأكثر المرجئة ، وأصحاب الحديث ، وخالف فيه البصريّون من المعتزلة ، و أطلقوا على العباد أنّهم خالقون ، فخرجوا بذلك من إجماع المسلمين » (1).
أمّا القرآن فلم يصف فعل الإنسان بما هو فعله من دون أن يحدث هيئة أو تركيباً بالخلق إلاّ في مورد واحد ، قال سبحانه: ( إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْثَاناً و تَخْلُقُونَ إِفْكاً ) ( العنكبوت / 17 ) مع أنّه يحتمل أن يكون الخلق فيه بمعنى الكذب.
قال في اللّسان: « الخلق: الكذب. وخلق الكذب والإفك: افتراه ، ابتدعه. ومنه قوله سبحانه: ( وتخلقون إفكا ) و منه أيضاً قوله سبحانه: ( إنْ هَذَا إِلاّ خُلُقُ الأوّلين ) أي كذب الأوّلين (2).
نعم ، وصف القرآن عمل المسيح بالخلق ، لكن في مورد خاصّ وهو إحداث صورة وهيئة وتركيب في الخارج. فعندما جعل من الطّين كهيئة الطّير ، خاطبه سبحانه بقوله: ( وإذْ تَخلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتكونُ طَيراً بِإِذْنِي ) ( المائدة / 110 ) وعليه يحمل قوله سبحانه: (فَتَبَارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ خَالِقِينَ ) ( المؤمنون / 14 ).
وأمّا في غير هذه الصورة ، كالفعل المجرّد عن إحداث شيء مثل المشي و القعود ،
________________________________________
1 ـ اوائل المقالات: ص 25.
2 ـ لسان العرب: مادة خلق.
________________________________________
(357)
فلم يعهد توصيفه بالخلق ، وإنّما حدث هذا الاصطلاح ( أي خلق الأفعال و الأعمال ) في أواخر القرن الأوّل و أوائل الثاني. ولأجل ذلك تنصرف الاطلاقات الواردة في القرآن الكريم من أنّه خالق كلّ شيء إلى غير أفعاله.
هذا من حيث القرآن. وأما اللّغة ، فالظاهر من « اللّسان » التفريق بين الخلق بمعنى الانشاء على مثال أبدعه ، والخلق بمعنى التّقدير ، والأوّل يختصّ بالله سبحانه ، والثاني يعمّه و غيره ، وعليه حملوا قوله سبحانه: ( أحسن الخالقين ) ( أي المقدّرين ).
قال في اللّسان: « الخلق بمعنى التقدير ، وخلق الأديم يخلقه خلقاً: قدّره لما يريد قبل القطع ، وقاسه ليقطع منه » (1).
ولأجل ذلك ، فالأولى في عنوان البحث مكان خلق الأعمال أن يقال: هل أفعال العباد مستندة إلى الله سبحانه فقط ، أو إلى العباد فقط ، أو إليهما معاً ، أو ما يشبه ذلك؟
11 ـ إنّ الأبحاث العقليّة لا تدور مدار صحّة التّسمية. فسواء أصحّ توصيف أفعال العباد بالخلق أم لا ، ففعل الإنسان بما أنّه من الموجودات الامكانيّة ، لا يخرج من كتم العدم إلى حيِّز الوجود إلاّ بعلّة واجبة أو ممكنة منتهية إلى الواجب. فعلى الأوّل يكون فعلاً مباشرياً له ، وعلى الثاني يكون فعلاً تسبّبياً له.
وبذلك يظهر بطلان كلا المذهبين ، أمّا الجبر ـ وهو تصوير أنّ العلّة التامّة للفعل هو الواجب ـ فيلزم من كون الفعل الصادر من العبد فعلاً مباشريّاً للواجب ، وكيف يمكن أن يكون الأكل ، والشرب ، والمشي ، والقعود أفعالاً له مع انّ ماهيات هذه الأفعال واقعة بأعمال الجوارح من الإنسان.
وأمّا التفويض ـ وهو تصوير استقلال العبد في مقام الفعل والعمل ـ فلازمه كون الإنسان فاعلاً واجباً في مقام الفعل غير محتاج إلى الواجب في عمله ، ومرجعه إلى الثّنويّة في الاعتقاد ، والشرك في الفاعليّة.
________________________________________
1 ـ لسان العرب: مادة خلق.
________________________________________
(358)
فلا مناص من رفض القولين واختيار مذهب بين المذهبين الّذي يدعمه العقل ، والكتاب ، وأحاديث العترة الطاهرة. ومن أراد الوقوف على حقيقته فعليه بالمؤلفات الكلامية لأصحابنا الإماميّة.
12 ـ إنّ الجنوح إلى التّفويض لأحد أمرين أو كليهما :
ألف ـ كون الحادث في حدوثه محتاجاً إلى الواجب لا في بقائه. فإذا كان هذا حال الذات فيكون الفعل الصادر عنها غير مستند إليه بوجه أولى؟!
ب ـ لو كان الفعل مستنداً إلى خالق العبد ونفسه يلزم توارد القدرتين على مقدور واحد. ولأجل إيضاح حال كلا الدّليلين نبحث عن كلّ منهما مستقلاّ ً.
مناط الحاجة إلى العلّة هو الامكان لا الحدوث
إنّ هذا الأصل ( كون مناط الحاجة إلى العلّة هو الحدوث لا الامكان ) الّذي بنت عليها المفوِّضة نظريّتهم في أفعال العباد ، بل و آثار كلِّ الكائنات ، باطل من وجوه:
الوجه الأوّل: إنّ مناط حاجة المعلول إلى العلّة هو الامكان أي عدم كون وجوده نابعاً من ذاته ، أو كون الوجود والعدم بالنّسبة إلى ذاته متساويين ، وهذا الملاك موجود في حالتي البدء والبقاء. وأمّا الحدوث فليس ملاكاً للحاجة فإنّه عبارة عن تحقّق الشّيء بعد عدمه و مثل هذا ، أمر انتزاعيّ ينتزع بعد اتّصاف الماهيّة بالوجود ، وملاك الحاجة يجب أن يكون قبل الوجود لا بعده.
إنّ الحدوث أمر منتزع من الشّيء بعد تحقّقه ، و يقع في الدرجة الخامسة من محلّ حاجة الممكن إلى العلّة ، وذلك لأنّ الشيء يحتاج أوّلاً ، ثمّ تقترنه العلّة ثانياً ، فتوجده ثالثاً ، فيتحقّق الوجود رابعاً ، فينتزع منه وصف الحدوث خامساً. فكيف يكون الحدوث مناط الحاجة الّذي يجب أن يكون في المرتبة الاُولى ، وقد اشتهر قولهم : الشيء قرّر ( تصوّر ) ، فاحتاج ، فأُوجد ، فوجد ، فحدث.
________________________________________
(359)
وبعبارة ثانية : ذهب الحكماء إلى أنّ مناط الحاجة هو كون الشّيء ( الماهيّة ) متساوي النّسبة إلى الوجود والعدم ، وأنّه بذاته لا يقتضي شيئاً واحداً من الطّرفين ، ولا يخرج عن حدِّ الاستواء إلاّ بعلّة قاهرة تجرّه إلى أحد الطّرفين و تخرجه عن حالة اللاّاقتضاء إلى حالة الاقتضاء.
فإذا كان مناط الحاجة هو ذاك ( إنّ الشيء بالنّظر إلى ذاته لا يقتضي شيئاً ) فهو موجود في حالتي الحدوث و البقاء ، والقول باستغناء الكون في بقائه عن العلّة ، دون حدوثه ، تخصيص للقاعدة العقليّة الّتي تقول: إنّ كلّ ممكن ما دام ممكناً ، بمعنى ما دام كون الوجود غير نابع من ذاته ، يحتاج إلى علّة ، وتخصيص القاعدة العقليّة مرفوض جدّاً.
ويشير الحكيم المتألّه الشيخ محمد حسين الاصفهاني ( 1296 ـ 1361 ) في منظومته إلى هذا الوجه بقوله :
والافتقار لازم الامكانلا فرق ما بين الحدوث والبقا من دون حاجة إلى البرهانفي لازم الذّات ولن يفترقا
الوجه الثاني : إنّ القول بأنّ العالم المادّي بحاجة إلى العلّة في الحدوث دون البقاء ، يشبه القول بأنّ بعض أبعاد الجسم بحاجة إلى العلّة دون الأبعاد الاُخرى. فإنّ لكلِّ جسم بعدين ، بعداً مكانياً و بعداً زمانياً ، فامتداد الجسم في أبعاده الثّلاثة ، يشكّل بعده المكاني. كما أنّ بقاءه في عمود الزّمان يشكّل بعده الزماني. فالجسم باعتبار أبعاضه ذو أبعاد مكانيّة وباعتبار استمرار وجوده مدى الساعات والأيّام ذو أبعاد زمانيّة ، فكما أنّ حاجة الجسم إلى العلّة لا تختصّ ببعض أجزائه و أبعاضه ، بل الجسم في كلِّ بعد من الأبعاد المكانيّة محتاج إلى العلّة ، فكذا هو محتاج إليها في جميع أبعاده الزّمانيّة ، حدوثاً وبقاء من غير فرق بين آن الحدوث و آن البقاء و الآنات المتتالية ، فالتّفريق بين الحدوث و البقاء يشبه القول باستغناء الجسم في بعض أبعاضه عن العلّة. فالبعد الزّماني والمكاني وجهان لعملة واحدة ، وبعدان لشيء واحد فلا يمكن التّفكيك بينهما.
وتظهر حقيقة هذا الوجه إذا وقفنا على أنّ العالم في ظلّ الحركة الجوهريّة ، في تبدّل
________________________________________
(360)
مستمرّ و تغيّر دائم ، نافذين في جوهر الأشياء و طبيعة العالم المادّي ، فذوات الأشياء في تجدّد دائم وانتثار متواصل والعالم حسب هذه النظريّة أشبه بنهر جار تنعكس فيه صورة القمر ، فالنّاظر الساذج يتصوّر أنّ هناك صورة منعكسة على الماء وهي باقية ثابتة والنّاظر الدقيق يقضي على أنّ الصّور تتبدّل حسب جريان الماء و سيلانه ، فهناك صور مستمرّة.
وعلى ضوء هذه النظرية ، العالم المادّي أشبه بعين نابعة من دون توقّف حتّى لحظة واحدة ، فإذا كان هذا حال العالم المادّي ، فكيف يصحّ لعاقل أن يقول إنّ العالم ، ومنه الإنسان ، إنّما يحتاج إلى العلّة في حدوثه دون بقائه ، مع أنّه ليس هنا أيّ بقاء و ثبات ، بل العالم في حدوث بعد حدوث و زوال بعد زوال ، على وجه الاتصال و الاستمرار بحيث يحسبه الساذج بقاء وهو في حال الزّوال و التبدّل والسيلان ( وتَرى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وهي تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ ) ( النمل / 88 ) (1).
الوجه الثالث : إنّ القول بحاجة الممكن إلى العلّة في حدوثه دون بقائه غفلة عن واقعيّة المعلول و نسبته إلى علّته ، فإنّ وزانه إليها وزان المعنى الحرفي بالنّسبة إلى المعنى الاسمي ، فكما أنّه ليس للأوّل الخروج عن إطار الثاني في المراحل الثلاث: التصوّر ، والدّلالة ، والتّحقق ، فهكذا المعلول ليس له الخروج عن إطار العلّة في حال من الحالين الحدوث والبقاء.
فإذا كان هذا حال المقيس عليه فاستوضح منه حال المقيس. فإنّ المفاض منه سبحانه هو الوجود ، وهو لا يخلو عن إحدى حالتين: إمّا وجود واجب ، أو ممكن ، والأوّل خلف لأنّ المفروض كونه معلولاً ، فثبت الثاني ، وما هو كذلك لا يمكن أن يخرج عمّا هو عليه ( أي الامكان ). فكما هو ممكن حدوثاً ممكن بقاء ، ومثل ذلك لا يستغني عن الواجب في حال من الحالات. لأنّ الاستغناء آية انقلابه عن الامكان إلى الوجوب وعن الفقر إلى الغنى.
________________________________________
1 ـ البحث عن الحركة الجوهرية طويل الذيل. لاحظ كتاب ( الله خالق الكون: ص 514 ـ 560 ) تجد فيه بغيتك.
(361)
نعم ، ما ذكرنا من النّسبة إنّما يجري في العلل والمعاليل الإلهيّة لا الفواعل الطّبيعيّة ، فالمعلول الإلهي بالنّسبة إلى علّته هو ما ذكرنا ، والمراد من العلّة الإلهيّة مفيض الوجود ومعطيه ، كالنّفس بالنسبة إلى الصّور الّتي تخلقها في ضميرها ، والارادة الّتي توجدها في موطنها ، ففي مثل هذه المعاليل تكون نسبة المعلول إلى العلّة كنسبة المعنى الحرفي إلى الاسمي.
وأمّا الفاعل الطّبيعي ، كالنّار بالنّسبة إلى الاحراق ، فخارج عن إطار بحثنا ، إذ ليس هناك علّيّة حقيقيّة ، بل حديث العلّيّة هناك لا يتجاوز عن تبديل أجزاء النّار إلى الحرارة ، وذلك كما هو الحال في العلل الفيزيائيّة و الكيميائيّة ، فالعلّيّة هناك تبدّل عنصر إلى عنصر في ظلّ شرائط و خصوصيات توجب التبدّل ، و ليس هناك حديث عن الايجاد و الاعطاء.
وعلى ذلك فالتّفويض ـ أي استقلال الفاعل في الفعل ـ يستلزم انقلاب الممكن وصيرورته واجباً في جهتين:
الاُولى: الاستغناء في جانب الذات من حيث البقاء.
الثانية: الاستغناء في جانب نفس الفعل مع أنّ الفعل ممكن مثل الذّات.
الوجه الرابع: إنّ القول بالتّفويض يستلزم الشّرك ، أي الاعتقاد بوجود خالقين مستقلّين أحدهما العلّة العليا الّتي أحدثت الموجودات والكائنات والإنسان ، والاُخرى الإنسان بل كلّ الكائنات ، فإنّها تستقلّ بعد الخلقة والحدوث في بقائها أوّلاً ، وتأثيراتها ثانياً.
فلو قالت المعتزلة بالتّفصيل بين الكائنات والإنسان و نسبت آثار الكائنات إلى الواجب ، فهو لأجل أنّها لا تزاحم العدل دون الإنسان ، وعلى ما ذكرنا يكون التفصيل بلا دليل.
ثمّ إنّ القوم استدلّوا على المسألة العقليّة ( غناء الممكن في بقائه عن العلّة ) ، بالأمثلة المحسوسة ، منها: بقاء البناء والمصنوعات بعد موت البنّاء والصانع ، ولكنّ
________________________________________
(362)
التّمثيل في غير محلّه ، لأنّ البنّاء والصانع فاعلان للحركة أي ضمّ بعض الأجزاء إلى بعض والحركة تنتهي بانتهاء عملهما فضلاً عن موتهما. وأمّا بقاء البناء والمصنوعات فهو مرهون للنّظم السائد فيهما ، فإنّ البناء يبقى بفضل القوى الطبيعيّة الكامنة فيه ، الّتي أودعها الله سبحانه في صميم الأشياء فليس للبنّاء والصانع فيها صنع ، وأمّا الهيئة والشّكل فهما نتيجة اجتماع أجزاء صغيرة ، فتحصّل من المجموع هيئة خاصّة وليس لهما فيها أيضاً صنع.
تمثيلان لإيضاح الحقيقة
الحقّ إنّ قياس المعقول بالمحسوس الّذي ارتكبته المعتزلة ـ لو صحّت النسبة ـ قياس غير تامّ ، ولو أراد المحقّق القياس والتّمثيل فعليه أن يتمسّك بالمثالين التّاليين:
الأوّل: إنّ مثل الموجودات الإمكانيّة بالنسبة إلى الواجب ، كمثل المصباح الكهربائي المضيء ، فالحسّ الخاطئ يزعم أنّ الضوء المنبعث من هذا المصباح هو استمرار للضّوء الأوّل ، ويتصوّر أنّ المصباح إنّما يحتاج إلى المولِّد الكهربائي في حدوث الضّوء دون استمراره. والحال إنّ المصباح فاقد للاضاءة في مقام الذّات ، محتاج في حصولها إلى ذلك المولِّد في كلِّ لحظة ، لأنّ الضوء المتلألئ من المصباح إنّما هو استضاءة بعد استضاءة واستنارة بعد استنارة ، من المولّد الكهربائي ، أفلا ينطفئ المصباح إذا انقطع الاتّصال بينه وبين المولّد؟ فالعالم يشبه هذا المصباح الكهربائي تماماً ، فهو لكونه فاقداً للوجود الذّاتي يحتاج إلى العلّة في حدوثه وبقائه ، لأنّه يأخذ الوجود آناً بعد آن ، وزماناً بعد زمان.
الثاني: نفترض منطقة حارّة جافّة تطلع عليها الشمس بأشعّتها المحرقة الشديدة. فإذا أردنا أن تكون تلك المنطقة رطبة دائماً بتقطير الماء عليها ، وإفاضته بما يشبه الرذاذ (1) ، فإنّ هذا الأمر يتوقّف على استمرار تقاطر الماء عليها ، ولو انقطع لحظة ساد
________________________________________
1 ـ المطر الضعيف
________________________________________
(363)
عليها الجفاف ، وصارت يابسة.
فمثل الممكن يتّصف بالوجود باستمرار ، مثل هذه الأرض المتّصفة بالرطوبة دائماً ، فكما أنّ الثاني رهن استمرار إفاضة قطرات الماء عليها آناً بعد آن ، فهكذا الأوّل لا يتحقّق إلاّ باستمرار إفاضة الوجود عليه آناً بعد آن ، ولو انقطع الفيض والصِّلة بينه وبين المفيض لانعدم ولم يبق منه أثر.
تعلّق مقدور واحد بقادرين أو قدرتين
قد سبق أن القاضي اعتمد على هذا الوجه (1) في نفي صلة فعل العبد بالله سبحانه ، وزعم أنّ القول بكون أفعال العباد مخلوقه للّه سبحانه يستلزم تعلّق المقدور الواحد بقادرين أو بقدرتين ، وهذا أمر محال سواء أكانا حادثين أم قديمين ، أم كان أحدهما حادثاً والآخر قديماً.
وقد خصّص القاضي الجزء الثّامن من أجزاء موسوعته « المغني » بالجبر والاختيار ، وأسماه « المخلوق » ويشتمل على عشرين فصلاً ، عرض فيها آراء المعتزلة المتنوِّعة في خلق الأفعال وناقش خصومهم ، وردّ على شبهاتهم.
وقد عقد فصلاً خاصّا (2) لهذا الأمر ، واستدلّ على الامتناع بأدلّة عشر أو أزيد ، وهو أبسط الفصول وأوسعها من بينها ، وقد فات على القاضي تحرير محلِّ النّزاع ، وأنّ المراد من القدرتين ما هو. فهل المراد القدرتان العرضيّتان أو الطوّليتان؟
فإن كان المراد هو الاُولى فاستحالة اجتماع قدرتين تامّتين عرضيّتين على مقدور واحد لا يحتاج إلى الاطناب الّذي ارتكبه القاضي ، لأنّه ينتهي إلى خلف الفرض ، وتخرج العلّة التامّة عن كونها علّة تامّة ، وتصير علّة ناقصة.
لأنّ المقدور بعد التحقّق إمّا أن ينسب إلى كلتا القدرتين ، بحيث يكون لكلِّ منهما تأثير و دخالة ، فتعود العلّة التامّة إلى العلّة الناقصة ، والقادر التامّ إلى القادر غير
________________________________________
1 ـ لاحظ ص 350 من هذا الجزء.
2 ـ المغني: الجزء 8 ، ص 109 ـ 161.
________________________________________
(364)
التامّ وهو خلف الفرض ، وهذا كما إذا اشترك رجلان في رفع الصّخرة ، مع قدرة كلِّ منهما على الرّفع وحده. فعند ذاك لا يعدّ كل منهما علّة تامّة في مقام الرفع.
وإمّا أن ينسب إلى واحدة منهما دون الاُخرى ، وهذا هو المطلوب.
وإمّا أن لا ينسب إلى واحدة منهما ، فكيف خرج عن كتم العدم ، مع أنّ حاجة الحادث إلى العلّة أمر واضح.
وأمّا اجتماع قدرتين عرضيّتين لكن ناقصتين على مقدور واحد ، فلا يترتّب عليه محذور أبداً.
واللائق بالبحث غير هاتين الصورتين ، فإنّ قدرة الله سبحانه و قدرة العبد ليستا في عرض واحد ، بل الثانية في طول الاُخرى ، فهو الّذي خلق العبد ، وحباه القدرة ، وأقدره على الايجاد وهو في كلِّ آن و حين يستمدُّ من مواهب ربّه. فالعبد وكلّ ما في الكون من علل وأسباب ، جنوده و قواه ، بين فاعل بالاختيار ، ومؤثّر بالاضطرار. فللفعل صلة بقدرة العبد ، كما أنّ له صلة بالله سبحانه و قدرته. وبوجه بعيد كالرؤية والسّماع ، فهما فعلان للأجهزة الظاهريّة من العين والسمع ، وفي الوقت نفسه فعلان للنفس القاهرة على قواه الباطنيّة والظاهريّة. فاجتماع قدرتين مثل هاتين لا يستلزم شيئاً من الاشكالات.
إنّ المعتزلة لم تجد في حلِّ مشكلة فعل الإنسان إلاّ سلوك أحد الطّريقين و زعمت أنّه لا طريق غيرهما ينتهي أحدهما إلى الجبر ، والآخرى إلى التفويض.
1 ـ صلة الفعل بالله سبحانه و انقطاعه عن العبد ، فعند ذاك يقال: فعلام يحاسَب العبد ويعاقب؟
2 ـ نسبة الفعل إلى العبد و انقطاعه عن بارئه ، فيسأل: هل هناك أفعال تجاوز قدرة الله وهل يصدر في ملكه ما لا يريد؟
فالأشاعرة استسهلوا الاشكال الأوّل ونسبوا الفعل إلى الله سبحانه و صوّروا العبد محلاً لارادته و قدرته سبحانه ، من دون أن يقميوا لإرادة العبد و قدرته و زناً وقيمة.
________________________________________
(365)
والمعتزلة اختارت الثاني واستسهلت وقوع ظاهرة خارجة عن سلطانه سبحانه.
ولو أنّ القوم وقفوا على الطّريق الثالث الّذي يتنزّه عن فساد المسلكين و يجمع مزيّتهما ، لأعرضوا عنهما والتجأوا إلى الحقّ اللاّحب وهو القول بالأمر بين الأمرين ، فللفعل صلة لخالق العبد ، كما أنّ له صلة لفاعل الفعل ، ولكنّ المسؤولية متوجّهة على العبد ، إذ هو الّذي يصرف القدرة الموهوبة عن اختيار فيما يختاره من الأفعال و يعمل من الأعمال. وسوف تقف على حقيقة الحال عند بيان عقائد الإماميّة فانتظر.
المسألة الثالثة:
في تقدّم الاستطاعة على الفعل
اختلفت المعتزلة والأشاعرة في تقدّم القدرة على المقدور ، فالطّائفة الاُولى على لزوم تقدُّمها عليه والثانية على لزوم المقارنة بينهما.
وكان الأولى البحث عن هذه المسألة فى باب القدرة. غير أنّ القاضي طرحه في باب العدل و قال: « ووجه اتّصاله به أنّه يلزم على القول بمقارنتها للمقدور ، تكليف ما لا يطاق و ذلك قبيح ، ومن العدل أن لا يفعل القبيح ».
ثمّ استدلّ على مذهبه بوجهين:
الأوّل: لو كانت القدرة مقارنة لمقدورها لوجب أن يكون تكليف الكافر بالإيمان تكليفاً بما لا يطاق ، إذ لو أطاقه لوقع منه ، فلمّا لم يقع دلّ على أنّه كان غير قادر عليه. وتكليف ما لا يطاق قبيح.
الثّاني: إنّ القدرة صالحة للضدّين ، فلو كانت مقارنة لهما لوجب بوجودها وجود الضّدّين ، فيجب في الكافر وقد كلّف بالإيمان ، أن يكون كافراً مؤمناً دفعة واحدة ، وذلك محال (1).
________________________________________
1 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 396.
________________________________________
(366)
يلاحظ على الاستدلال الأوّل: أنّه مبنيّ على تفسير القدرة بالعلّة التامّة الّتي يكون الفعل معها ضروريّ الوجود فيصحّ كلّ ما جاء فيه. وذلك لأنّ التّكليف مشروط بالقدرة ، والقدرة المفسّرة بالعلّة التامّة لا تنفكّ عن المقدور. فيستكشف عند عدم اعتناقه له بعد التّكليف ، فقدان القدرة والطّاقة ، إذ لو كانت لآمنت ، لاستحالة انفكاك العلّة التامّة عن معلولها. فيلزم تكليف ما لا يطاق وهو قبيح.
هذا ، ولكنّ المستدلّ غفل عن أنّ المراد من القدرة هو الاستعداد للفعل بحيث لو أراد وقع ، ومثل هذا لا يستلزم وجود المقدور ، ولا يستكشف من عدمه عدمه ، لأنّ الاستعداد للفعل ليس علّة تامّة للمقدور.
فللأشعري أن يلتزم باقتران القدرة للفعل في تكليف أبي جهل ، ولا يترتّب عليه أيّ تال فاسد عند امتناعه.
ويلاحظ على الثاني: أنّه فسِّرت القدرة فيه على خلاف ما فسّرت به في الدّليل الأوّل. ومبنى استدلاله في هذا الدّليل هو تفسير القدرة بالعلّة الناقصة والاستعداد ، لوضوح أنّ القدرة بهذا المعنى صالحة للضدّين ، لا القدرة بمعنى العلّة التامّة ، فلو قلنا باقترانها بالمقدور يصحّ أن نقول: إنّ القدرة صالحة للضدّين ولكن لا يلزم منه أن يكون مؤمناً و كافراً.
وبالجملة: كونها صالحة للضدّين مبنيّ على كونها علّة ناقصة ، ولزوم كون الإنسان مؤمناً وكافراً معاً ، مبنيّ على كونها علّة تامّة. فالاستدلال الواحد مبنيّ على مبنيين مختلفين.
والحقّ إنّ المسألة غير منقّحة في كلام الطّائفتين ، إذ لم ينقّح موضوع البحث ، ولا المراد من القدرة. فالحقّ هو التّفصيل بين القدرة بمعنى الاقتضاء فهي مقدّمة على الفعل ، والعلّة التامّة فمقارنة له (1).
________________________________________
1 ـ لاحظ الجزء الثاني من كتابنا هذا: ص 172.
________________________________________
(367)
المسألة الرابعة:
في قبح التكليف بما لا يطاق
القول بجواز التّكليف بما لا يطاق نشأ من المسألة السابقة. ولو كانت السابقة منقّحة من حيث الموضوع والحكم ، لما اندفعت الأشاعرة إلى اختيار الجواز في هذه المسألة الّتي يشهد العقل السّليم بقبحه أوّلاً وعدم إمكانه ثبوتاً ثانياً ، إذ كيف يريد الإنسان بالارادة الجدّيّة الركض من الفالج ، والنّكاح من الطّفل الرضيع؟
ولكنّهم لمّا فسّروا القدرة بالعلّة التامّة من جانب ، واعتقدوا بلزوم اقترانها بالمقدور من جانب آخر ، واستنتجوا من عدم الاعتناق عدم القدرة ، فلزمهم عند تكليف الكفّار بالإيمان وعدم اعتناقهم ، القول بجواز التّكليف بما لا يطاق ، وإنّه كان هناك تكليف للكافر ، ولم تكن له طاقة ، وذلك لأنّه لو كانت له طاقة لآمن قطعاً. فبقاؤه على الكفر يكشف عن عدم قدرته ، إذ لو كانت لآمن قطعاً لحديث امتناع الانفكاك. فينتج أنّ التّكليف كان موجوداً ولم يكن هناك قدرة.
غير أنّ الأشعري ومن قبله ومن بعده ، لو فسّروا القدرة الّتي هي من شرائط التّكليف بمعنى العلّة الناقصة والاقتضاء ، لما لزمهم الالتزام بهذه النّتيجة الفاسدة ، حتّى ولو قالوا بلزوم الاقتران. ففي مورد أبي جهل و أبي لهب كان هناك تكليف أوّلاً ، وطاقة بمعنى الاستعداد والاستطاعة على نحو لو أراد كلّ لآمن ثانياً ، وكانت القدرة بهذا المعنى مقارنة للتّكليف ثالثاً. ولكن عدم إيمانه و إصراره على الكفر ، لايكشفعنفقدان الشّرط ، لأنّ الاستطاعة بمعنى الاقتضاء أعمّ من تحقّق المعلول معها وعدمه.
والعجب أنّ هؤلاء استدلّوا بآيات على ما يتبنّونه من جواز التّكليف بالقبيح. وبذلك عرّفوا الإسلام والقرآن مناقضين للفطرة و حكم العقل و إدراك العقلاء ـ أعاذنا الله من سوء الموقف.
________________________________________
(368)
وبما أنّ الاجابة عن الاستدلال بالآيات واضحة ، طوينا الكلام عن استدلالاتهم ، روماً للاختصار ولما سبق منّا في الجزء الثاني في تحليل عقائد الأشعري (1).
المسألة الخامسة:
في أنّ الله لا يريد المعاصي
ذهبت المعتزلة إلى أنّه لا يجوز أن يكون سبحانه مريداً للمعاصي. وأوضح القاضي وجه صلة هذا البحث بباب العدل بأنّ الارادة فعل من الأفعال ، ومتى تعلّقت بالقبيح كانت واجبة لا محالة ، وكونه تعالى عدلاً يقتضي أن تنفى عنه هذه الارادة (2).
المعتزلة ينظرون إلى المسألة من زاوية التّنزيه فيتصوّرون أنّ تنزيه الرّبِّ يتحقق بعدم تعلّق إرادته بالقبائح ، لأنّ من أراد القبيح يتّصف فعله بالقبح و يسري إلى الفاعل ، بينما يريد الأشعري تعظيم الرّبّ ، وأنّه لا يكون في ملكه ما لا يريد ويذهب إلى سعة إرادته.
وقد نقل التفتازاني في « شرح المقاصد » أنّه دخل القاضي عبد الجبّار ( ت 415 هـ ) دار الصاحب بن عبّاد ( ت 385 هـ ) فرأى الاُستاذ أبا إسحاق الإسفرائيني ( ت 413 هـ ) ، فقال القاضي: « سبحان من تنزّه عن الفحشاء » ( مزدرياً بالاسفرائيني بأنّه لأجل القول بسعة إرادته يصفه سبحانه بالفحشاء ) فأجابه الاسفرائيني بقوله: « سبحان من لا يجري في ملكه إلاّ ما يشاء » إيماءً بأنّ القاضي لأجل قوله بضيق إرادته سبحانه ، يعتقد بأنّ هناك أشياء تقع في سلطانه ومملكته خارجة عن مشيئته » (3).
لكنّ القولين بين الافراط والتّفريط. وما يتبنّيانه من الغاية ( التّنزيه و التّعظيم ) يحصل برفض القولين ، والاعتناق بالقول الثّالث الّذي هو مذهب بين المذهبين ، وأمر
________________________________________
1 ـ لاحظ الجزء الثاني من هذه الموسوعة: ص 193.
2 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 431.
3 ـ انظر شرح المقاصد: ج 2 ، ص 145.
________________________________________
(369)
بين الأمرين.
وهذا المذهب هو المرويّ عن أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) ويوافقه العقل و تؤيّده نصوص الكتاب ، وهو جامع بين المزيّتين و منزّهٌ عن شناعة القولين.
فالمعتزلة ، وإن أصابوا في تنزيه الرّبّ عن القبائح ، لكنّهم أخطأوا في تحديد سلطنته بإخراج أفعال عباده عن إحاطة إرادته و سلطنته وملكه ، فصوّروا الإنسان فاعلاً يفعل بارادته ، ويعمل بمشيئته مستقلاً بلا استمداد من ارادته ومشيئته سبحانه.
والأشاعرة ، وإن أصابوا في إدخال أفعال العباد في ملكه و سلطنته ، لكنّهم أخطأوا في جعل أفعال العباد مرادة للّه بالارادة المباشريّة. فصار هناك مريد واحد وهو الله سبحانه و غيره من الفواعل مظاهر إرادته. وهذا يستلزم كونه سبحانه هو المسؤول عن القبائح لكونه الفاعل لها.
وأمّا القول الثالث فهو عبارة عن سعة إرادته لكلِّ ظاهرة امكانيّة ، لكن لا بمعنى كونه سبحانه هو المصدر المباشر لكلِّ شيء ، بل بمعنى أنّه تعلّقت إرادته على صدور كلِّ فعل عن فاعله بما فيه من الخصوصيّات ، فلو صدر عنه بلا هذه الخصوصيّات لزم تخلّف مراده عن إرادته ، فتعلّقت ارادته سبحانه على كون النّار مصدراً للحرارة بلا علم و شعور ، بل عن جبر واضطرار. كما تعلّقت إرادته على صدور فعل الإنسان عنه باختيار ذاتيّ و حرّيّة فطريّة.
وباختصار ، شاء أن يكون الإنسان مختاراً في فعله و عمله. فإذا اختار و فعل فقد فعل بارادته ، كما فعل بارادة الله سبحانه. وليست الارادة الأزليّة منافية لحرّيّته و اختياره ، وقد أوضحنا ذلك في أبحاثنا الكلاميّة (1). فلاحظ.
وهناك كلام للشّهيد الأجلّ محمّد بن مكّي ( المتوفى عام 786هـ ) عند بحثه عن تضافر الأخبار على أنّ صلة الأرحام تزيد في العمر ، يقرب ممّا ذكرناه ، قال ( قدّس سرّه ) :
________________________________________
1 ـ لاحظ: الالهيات على ضوء الكتاب والسنة والعقل ، ص 632 ، والجزء الثاني من هذه الموسوعة ، ص 302.
________________________________________
(370)
« أُشكل هذا بأنّ المقدّرات في الأزل ، والمكتوبات في اللّوح المحفوظ لا تتغيّر بالزيادة والنقصان لاستحالة خلاف معلوم الله تعالى ، وقد سبق العلم بوجود كلِّ ممكن أراد وجوده و بعدم كلِّ ممكن أراد بقاءه على حالة العدم أو إعدامه بعد ايجاده ، فكيف يمكن الحكم بزيادة العمر و نقصانه بسبب من الأسباب؟ ».
ثمّ أجاب وقال: « إنّ الله تعالى كما علم كميّة العمر ، علم ارتباطه بسببه المخصوص ، وكما علم من زيد دخول الجنّة ، جعله مرتبطاً بأسبابه المخصوصة ، من إيجاده ، وخلق العقل له ، وبعث الأنبياء و نصب الألطاف ، وحسن الاختيار ، والعمل بموجب الشّرع ، فالواجب على كلِّ مكلّف الاتيان بما أُمر به ، ولا يتّكل على العلم ، فإنّه مهما صدر منه فهو المعلوم بعينه.
وبالجملة: جميع ما يحدث في العالم ، معلوم للّه تعالى على ما هو عليه واقع ، من شرط أو سبب وليس نصب صلة الرحم زيادة في العمر إلاّ كنصب الإيمان سبباً في دخول الجنّة » (1).
ولو أمعنت فى أطراف كلامه تجد أنّه ( قدّس الله سرّه ) يشير إلى نفس الجواب الّذي بيّناه خصوصاً قوله « جعله مرتبطاً بأسبابه المخصوصة من إيجاده.. وحسن الاختيار » وقوله: « جميع ما يحدث في العالم معلوم للّه تعالى على ما هو عليه... ».
المسألة السادسة:
في وجوب اللّطف
اشتهرت العدليّة بوجوب اللّطف (2) على الله سبحانه ، وخالفتهم الأشعريّة وبشر
________________________________________
1 ـ القواعد والفوائد: ج 2 ، ص 56 ، القاعدة 163.
2 ـ المراد من الوجوب كونه مقتضى الحكمة ، أو الجود والكرم ، لا الوجوب بالمعنى المتبادر في أوساط الناس من حاكمية العباد على الله ، وكون تركه مستلزماً للذم واللوم أو العقاب ، وعلى ذلك فالحكم مستكشف العقل باعتبار ملاحظة أوصافه الجميلة. وعلى أيّ تقدير فمن قال به فإنما قال به من باب الحكمة ، تحصيلاً لهدف الخلقة ، أو هدف التكليف ، أو من باب الجود والكرم ، وأما إيجابه من باب العدل فلم يعلم له معنى محصل.
(371)
ابن المعتمر من معتزلة بغداد ، وإيضاح الحقّ يستدعي البحث عن أُمور:
الأوّل : تعريف اللّطف و بيان حقيقته و أقسامه.
إنّ اللّطف ، في اصطلاح المتكلّمين ، يوصف بوصفين:
1 ـ اللّطف المُحَصِّل.
2 ـ اللّطف المُقَرِّب.
وهناك مسائل تترتّب على اللّطف بالمعنى الأوّل ، ومسائل أُخرى تترتّب على اللّطف بالمعنى الثاني ، وربّما يؤدّي عدم التّمييز بين المعنيين إلى خلط ما يترتّب على الأوّل بما يترتّب على الثاني.. ولأجل الاحتراز عن ذلك نبحث عن كلّ منهما بنحو مستقل.
1 ـ اللُّطف المحصِّل
اللُّطف المحصِّل: عبارة عن القيام بالمبادئ والمقدّمات الّتي يتوقّف عليها تحقّق غرض الخلقة ، وصونها عن العبث واللّغو ، بحيث لولا القيام بهذه المبادئ والمقدّمات من جانبه سبحانه ، لصار فعله فارغاً عن الغاية ، وناقَضَ حكمته الّتي تستلزم التحرّز عن العبث ، وذلك كبيان تكاليف الإنسان و إعطائه القدرة على امتثالها.
ومن هذا الباب بعث الرّسل لتبيين طريق السّعادة ، وتيسير سلوكها. وقد عرفت في الأدلّة السابقة ، أنّ الإنسان أقصر من أن ينال المعارف الحقّة ، أو يهتدي إلى طريق السّعادة في الحياة بالاعتماد على عقله ، والاستغناء عن التّعليم السماوي.
و وجوب اللّطف بهذا المعنى ، ليس موضع مناقشة لدى القائلين بحكمته سبحانه ، وتنزيهه عن الفعل العبثي الّذي اتّفق عليه العقل والنقل (1). وإنّما الكلام في « اللّطف المقرِّب » ، وإليك البيان فيه:
________________________________________
1 ـ لاحظ سورة الذاريات: الآية 56 وسورة المؤمنون: الآية 115.
________________________________________
(372)
2 ـ اللُّطف المقرِّب
اللّطف المقرِّب: عبارة عن القيام بما يكون محصِّلا لغرض التّكليف بحيث لولاه لما حصل الغرض منه و ذلك كالوعد والوعيد ، والتّرغيب و التّرهيب ، الّتي تستتبع رغبة العبد إلى العمل ، وبعده عن المعصية (1).
وهذا النّوع من اللّطف ليس دخيلاً في تمكين العبد من الطّاعة ، بل هو قادر على الطّاعة وترك المخالفة سواء أكان هناك وعد أم لا ، فإنّ القدرة على الإمتثال رهن التعرّف على التّكليف عن طريق الأنبياء ، مضافاً إلى إعطاء الطّاقات الماديّة ، والمفروض حصول هذه المبادئ والمقدّمات ، غير أنّ كثيراً من النّاس لا يقومون بواجبهم بمجرّد الوقوف على التّكليف ما لم يكن هناك وعد و وعيد و ترغيب و ترهيب ، فهذا النوع من اللّطف قد وقع موقع النِّقاش بين المتكلِّمين.
والحقّ هو القول بوجوب اللّطف إذا كان غرض التّكليف ( لا غرض الخلقة ) موقوفاً عليه عند الأكثريّة الساحقة من المكلّفين.
مثلاً لو فرضنا أنّ غالب المكلّفين ، لا يقومون بتكاليفهم بمجرّد سماعها من الرّسل ـ وان كانوا قادرين عليها ـ إلاّ إذا كانت مقرونة بالوعد والوعيد ، والتّرغيب والتّرهيب ، وجب على المكلِّف القيام بذلك ، صوناً للتّكليف عن اللّغوية ، ولو أهملها المكلِّف ترتّب عليه بطلان غرضه من التّكليف ، وبالتالي بطلان غرضه من الخلقة.
وفي الكتاب والسنّة إشارات إلى هذا النوّع من اللّطف. يقول سبحانه:
________________________________________
1 ـ عرّف اللطف المقرب بأنه هيئة مقربة الى الطاعة ومبعدة عن المعصية ، من دون أن يكون له حظّ في التمكين وحصول القدرة ، ولا يبلغ حدّ الالجاء.
فخرج بالقيد الأوّل ( لم يكن له حظ... ) اللطف المحصّل ، فإنّ له دخالة في تمكين المكلّف من الفعل بحيث لولاه لانتفت القدرة.
وخرج بالقيد الثاني ( لا يبلغ حدّ الإلجاء ) الإكراه والإلزام على الطاعة والاجتناب عن المعصية ، فإنّ ذلك ينافي التكليف الذي يتطلب الحرية والاختيار في المكلف ( لاحظ: كشف المراد ، ص 201 ، ط صيدا ).
وقال القاضي عبد الجبار: « اللطف هو كل ما يختار عنده المرء الواجب ويتجنب القبيح ، أو ما يكون عنده أقرب إمّا إلى اختيار الواجب أو ترك القبيح » ( شرح الاصول الخمسة: ص 519 ).
________________________________________
(373)
( وَبَلَوناهُم بالحَسَناتِ والسّيئاتِ لعلَّهُم يَرجِعون ) ( سوره الأعراف / 168 )
والمراد من الحسنات والسّيئات ، نعماء الدّنيا و ضرّاؤها ، و كأنّ الهدف من ابتلائهم بهما هو رجوعهم إلى الحقّ والطّاعة.
و يقول سبحانه: ( وما أرسَلْنَا في قَرْيَة مِن نَبِىّ إلاّ أخَذْنا أهلَها بالبَأْساءِ و الضََّرّاءِ لَعَلَّهُم يَضّرّعُون ) ( سوره الأعراف / 94 ) وفي الآية إشارة إلى كلا القسمين من اللّطف ، ومفاد الآية أنّ الله تعالى أرسل رسله لإِبلاغ تكاليفه إلى العباد و إرشادهم إلى طريق الكمال ( اللّطف المحصِّل ) ، غير أنّ الرّفاه و الرّخاء و التوغّل في النّعم المادّية ، ربّما يسبِّب الطّغيان وغفلة الإِنسان عن هدف الخلقة وإجابة دعوة الأنبياء ، فاقتضت حكمته تعالى أخذهم بالبأساء والضرّاء ، لعلّهم يَضّرّعون ويبتهلون إلى الله تعالى.
ولأجل ذلك نشهد أنّ الأنبياء لم يكتفوا باقامة الحجّة والبرهان ، والإتيان بالمعاجز ، بل كانوا ـ مضافاً إلى ذلك ـ مبشِّرين و منذرين ، وكان التّرغيب والتّرهيب من شؤون رسالتهم ، قال تعالى: ( رُسُلاً مُبَشِّرين و مُنذِرينَ ) ( سورة النساء / 165 ) و الإنذار والتّبشير دخيلان في رغبة النّاس بالطّاعة و ابتعادهم عن المعصية.
وفي كلام الإِمام عليّ ( عليه السلام ) إشارة إلى هذا:
قال ( عليه السلام ) : « أيّها الناس ، إنّ الله تبارك و تعالى لمّا خلق خلقَه أراد أن يكونوا على آداب رفيعة و أخلاق شريفة ، فعلم أنّهم لم يكونوا كذلك إلاّ بأن يعرّفهم ما لهم و ما عليهم ، والتّعريف لا يكون إلاّ بالأمر والنّهي (1) ، والأمر والنّهي لا يجتمعان إلاّ بالوعد والوعيد ، والوعد لا يكون إلاّ بالتّرغيب ، والوعيد لا يكون إلاّ بالتّرهيب ، والتّرغيب لايكون إلاّ بما تشتهيه أنفسهم و تلذّه أعينهم ، والتّرهيب لا يكون إلاّ بضدّ ذلك... الخ » (2).
وقوله ( عليه السلام ) : « والأمر والنّهي لا يجتمعان إلاّ بالوعد والوعيد » إشارة إلى أنّ
________________________________________
1 ـ هذا إشارة إلى اللطف المحصل.
2 ـ بحار الأنوار ، ج 5 ، كتاب العدل والمعاد ، الباب الخامس عشر ، الحديث 13 ، ص 316.
________________________________________
(374)
امتثال الأمر و النّهي و نفوذهما في نفوس النّاس ، يتوقّف على الثّواب والعقاب ، فلولاهما لما كان هناك حركة إيجابيّة نحو التّكليف إلاّ من العارفين الّذين يعبدون الله تعالى ، لا رغبة ولا رهبة ، بل لكونه مستحقّاً للعبادة.
فتحصّل من ذلك أنّ ما هو دخيل في تحقّق الرّغبة بالطّاعة ، والابتعاد عن المعصية في نفوس الأكثريّة الساحقة من البشر ، يجب على الله سبحانه القيام به صوناً للتّكليف عن اللّغو ، وبالتالي صوناً للخلقة عن العبث.
نعم ، إذا كانت هذه المبادئ كافية في تحريك الأكثريّة نحو الطّاعة ، ولكنّ القليل منهم لا يمتثلون إلاّ في ظروف خاصّة كاليسار في الرزق ، أو كثرة الرفاه ، فهل هو واجب على الله سبحانه؟ الظّاهر لا ، إلاّ من باب الجود والتّفضّل.
وبذلك يعلم أنّ اللّطف المقرِّب إذا كان مؤثّراً في رغبة الأكثريّة بالطّاعة و ترك المعصية يجب من باب الحكمة ، وأمّا إذا كان مؤثّراً في آحادهم المعدودين ، فالقيام به من باب الفضل والكرم. وبذلك تقف على مدى صحّة ما استدلّ به بعضهم على اللّطف في المقام ، أو سقمه.
استدلّ القاضي عبد الجبّار على وجوب اللّطف بقوله: « إنّه تعالى كلّف المكلّف ، وكان غرضه بذلك تعريضه إلى درجة الثّواب ، وعلم أنّ في مقدوره ما لو فعل به لاختار عنده الواجب ، واجتنب القبيح ، فلا بدّ من أن يفعل به ذلك الفعل و إلاّ عاد بالنّقض على غرضه ، وصار الحال فيه كالحال في أحدنا إذ أراد من بعض أصدقائه أن يجيبه إلى طعام قد اتّخذه ، وعلم من حاله أنّه لا يجيبه ، إلاّ إذا بعث إليه بعض أعزّته من ولد أو غيره ، فإنّه يجب عليه أن يبعث ، حتّى إذا لم يفعل عاد بالنّقض على غرضه و كذلك هيهنا » (1).
قال الشّهرستاني: « اللّطف عبارة عن كلِّ ما يوصل الإنسان إلى الطّاعة و يبعِّده عن المعصية ، ولمّا كان الله عادلاً في حكمه ، رؤوفاً بخلقه ، ناظراً لعباده ، لا يرضى لعباده
________________________________________
1 ـ شرح الاصول الخمسة: ص 521.
________________________________________
(375)
الكفر ، ولا يريد ظلماً للعالمين ، فهو لم يدّخر عنهم شيئاً ممّا يعلم أنّه إذا فعل بهم ، أتوا بالطّاعة والصّلاح » (1).
وقال العلاّمة الحلي: « إنّ المكلِّف ـ بالكسر ـ إذا علم أن المكلّف ـ بالفتح ـ لايطيع إلاّ باللّطف ، فلو كلّفه من دونه ، كان ناقضاً لغرضه ، كمن دعا غيره إلى طعام ، وهو يعلم أنّه لا يجيبه إلاّ أن يستعمل معه نوعاً من التّأدّب ، فإن لم يفعل الداعي ذلك النّوع من التأدّب كان ناقضاً لغرضه ، فوجوب اللّطف يستلزم تحصيل الغرض » (2).
وقال الفاضل المقداد: « إنّا بيّنّا أنّه تعالى مريد للطّاعة و كاره للمعصية ، فإذا علم أنّ المكلّف لا يختار الطّاعة ، أو لا يترك المعصية ، أو لا يكون أقرب إلى ذلك إلاّ عند فعل يفعله به ، وذلك الفعل ليس فيه مشقّة ولا غضاضة ، فإنّه يجب في حكمته أن يفعله ، إذ لو لم يفعله لكشف ذلك ، إمّا عن عدم إرادته لذلك الفعل ، وهو باطل لما تقدّم ، أو عن نقض غرضه إذا كان مريداً له ، لكن ثبت كونه مريداً له فيكون ناقضاً لغرضه.
ويجري ذلك في الشّاهد مجرى من أراد حضور شخص إلى وليمة ، وعرف أو غلب على ظنِّه أنّ ذلك الشّخص لا يحضر إلاّ مع فعل يفعله ، من إرسال رسول ، أو نوع ، أدب ، أو بشاشة ، أو غير ذلك من الأفعال ، ولا غضاضة عليه في فعل ذلك ، فمتى لم يفعل عُدّ ناقضاً لغرضه ، ونقض الغرض باطل ، لأنّه نقص ، والنّقص عليه تعالى محال ، ولأنّ العقلاء يعدّونه سَفَهاً وهو ينافي الحكمة » (3).
وهذه البيانات تدلّ على أنّ اللّطف واجب من باب الحكمة.
هذا كلام القائلين بوجوب اللّطف ، وهو على إطلاقه غير تامّ ، بل الحقّ هو التّفصيل بين ما يكون مؤثِّراً في تحقّق التّكليف بشكل عامّ بين المكلّفين ، فيجب من
________________________________________
1 ـ الملل والنحل: ج 1 ، ص 107.
2 ـ كشف المراد: الفصل الثاني ، المسألة الثانية عشرة ، ص 325 ، ط قم 1407.
3 ـ ارشاد الطالبين: ص 277 ـ 278.
________________________________________
(376)
باب الحكمة ، وإلاّ فيرجع إلى جوده و تفضّله من دون إيجاب عليه.
واستدلّ القائل بعدم وجوبه بقوله: « لو وجب اللّطف على الله تعالى لكان لا يوجد في العالم عاص ، لأنّه ما من مكلّف إلاّ وفي مقدور الله تعالى من الألطاف ما لو فعله به لاختار عنده الواجب و اجتنب القبيح ، فلمّا وجدنا في المكلّفين من أطاع وفيهم من عصى ، تبيّن أنّ الألطاف غير واجبة على الله تعالى » (1).
يلاحظ عليه: أنّ هذا المستدلّ لم يقف على حقيقة اللّطف ، ولذلك استدلّ بوجود العصاة على عدم وجوبه ، فهو تصوّر أنّ اللّطف عبارة عمّا لا يتخلّف معه المكلّف عن الإتيان بالطّاعة وترك المعصية ، فنتيجته كون وجود العصيان دليلاً على عدم وجوبه ، وعدم وجوده دليلاً على وجوبه ، مع أنّك قد عرفت في أدلّة القائلين به بأنّه ما يكون مقرِّباً إلى الطّاعة و مبعِّداً عن المعصية من دون أن يبلغ حدّ الإلجاء.
يقول القاضي عبد الجبّار: « إنّ العباد على قسمين ، فإنّ فيهم من يعلم الله تعالى من حاله أنّه إن فعل به بعض الأفعال كان عند ذلك يختار الواجب و يتجنّب القبيح ، أو يكون أقرب إلى ذلك ، وفيهم من هو خلافه حتّى إن فعل به كلّ ما فعل لم يختر عنده واجباً ولا اجتنب قبيحاً » (2).
ويؤيِّده ما ورد في الذِّكر الحكيم من أنّ هناك أُناساً لا يؤمنون أبداً ولو جاءهم نبيّهم بكلِّ أنواع الآيات والمعاجز.
قال سبحانه: ( وما تُغني الآياتُ و النُذُرُ عَن قول لا يُؤْمنون ) (3).
وقال سبحانه: ( ولَئِن أَتَيْتَ الّذين أُوتُوا الكِتابَ بكلِّ آية ما تَبِعوا قِبلَتَك ) (4).
وفي الختام نقول: إنّ اللُّطف سواء أكان المراد منه اللّطف المحصِّل أم اللّطف المقرِّب ، من شؤون الحكمة ، فمن وصفه سبحانه بالحكمة والتنزّه عن اللّغو والعبث ، لامناص له عن الاعتقاد بهذه القاعدة ، غير أنّ القول بوجوب اللّطف في المحصِّل
________________________________________
1 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 523.
2 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 520.
3 ـ سورة يونس: الآية 101.
4 ـ سورة البقرة: الآية 145.
________________________________________
(377)
أوضح من القول به في المقرِّب.
ولكن يظهر من الشّيخ المفيد أنّ وجوب اللّطف من باب الجود والكرم ، قال: « إنّ ماأوجبه أصحاب اللّطف من اللّطف ، إنّما وجب من جهة الجود والكرم ، لا من حيث ظنّوا أنّ العدل أوجبه ، وأنّه لو لم يفعل لكان ظالماً » (1).
يلاحظ عليه: أنّ إيجابه من باب الجود والكرم يختّص باللّطف الراجع إلى آحاد المكلّفين ، لا ما يرجع إلى تجسيد غرض الخلقة ، أو غرض التّكليف ، عند الأكثريّة الساحقة من المكلّفين ، كما عرفت.
ثمّ إنّ المراد من وجوب اللّطف على الله سبحانه ليس ما يتبادر إلى أذهان السطحيّين من الناس ، من حاكميّة العباد على الله ، مع أنّ له الحكم والفصل ، بل المراد استكشاف الوجوب من أوصافه تعالى ، فإنّ أفعاله مظاهر لأوصافه تعالى ، كما أنّ أوصافه مظاهر لذاته تبارك وتعالى. فإذا علمنا ـ بدليل عقليّ قاطع ـ أنّه تعالى حكيم ، استتبع ذلك واستلزم العلم بأنّه لطيف بعباده ، حيثما يَبطل غرض الخلقة أو غرض التّكليف لولا اللّطف.
المسألة السابعة:
في حدوث كلامه تعالى
من المسائل الّتي أثارت ضجّة كبرى بين العلماء وانتهت إلى محنة تعرف في التأريخ بمحنة الإمام أحمد بن حنبل ، هي البحث عن حدوث القرآن و قدمه ، وعن كونه مخلوقاً أو لا. فالمعتزلة على حدوث القرآن و نفي قدمه تنزيهاً له سبحانه عن المثل القديم و غير المخلوق ، وأصحاب الحديث و الحنابلة و بعدهم الأشاعرة على ضدّهم و أنّه قديم أو ليس بمخلوق فراراً عن سمة الحدوث الطارئ على صفاته مثل التكلّم.
ولمّا وصلت المعتزلة في عصر المأمون و بعده في عصر الواثق إلى قمّة القدرة و
________________________________________
1 ـ أوائل المقالات: ص 25 ـ 26.
________________________________________
(378)
كانت الخلافة العبّاسية تؤازرهم و تؤيّدهم ، خرجوا عن منهجهم السّابق ـ منهج الحرّيّة في الرأي والتفكّر ـ وسلكوا في هذه المسألة مسلك الضّغط. فطفقوا يحملون النّاس على عقيدتهم ( خلق القرآن ) بالقوّة والاكراه ، فمن خالفهم ولم يقرّ به يحكم عليه بالحبس تارة والضّرب أُخرى. وأوجد ذلك في حياتهم العلميّة نقطة سوداء ، وسيوافيك تفصيل حمل الناس على اعتناق عقيدتهم في هذا المجال في فصل خاصّ.
هذا من جانب و من جانب آخر ، لمّا أخذ أحمد بن حنبل في هذا المجال موقف الصّمود والثّبات في عقيدته صار بطلاً في حياته ، و بعدها يضرب به المثل في الصّمود على العقيدة ، و قد استبطلته المعتزلة و صار إماماً في عقائد أهل السنّة بصموده في طريق عقيدته. و لإيضاح الحقّ نرسم اُموراً:
1 ـ مسلك أهل الحديث
إنّ مسلك أهل الحديث في اتّخاذ العقيدة في مسائل الدّين هو اقتفاء كتاب الله وسنّة رسوله. فما جاء فيها يؤخذ به و ما لم يجئ فيها يسكت عنه ولا يبحث فيه ، ولأجل ذلك كان أهل الحديث يحرِّمون علم الكلام ، ويمنعون البحث عن كلِّ ما ليس وارداً في الكتاب والسنّة.
وعلى ضوء هذا كان اللازم على أهل الحديث السّكوت وعدم النّبس ببنت شفة في هذه المسألة ، لأنّ البحث فيها حرام على اُصولهم ، سواء أكان الموقف هو قدم القرآن أم حدوثه ، لأنّه لم يرد فيه نصّ عن رسول الله ، ولا عن أصحابه ، ومع الأسف كان موقفهم ـ وفي مقدّمهم أحمد بن حنبل ـ موقف الايجاب وتكفير المخالف.
يقول الإمام أحمد بن حنبل في كتاب « السنّة »: « والقرآن كلام الله ليس بمخلوق ، فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهميّ كافر ، ومن زعم أنّ القرآن كلام الله عزّوجلّ ووقف ولم يقل مخلوق ولا غير مخلوق فهو أخبث من الأوّل ، ومن زعم أنّ ألفاظنا بالقرآن و تلاوتنا له مخلوقة والقرآن كلام اللّه ، فهو جهميّ ، ومن لم يكفِّر هؤلاء القوم كلّهم فهو
________________________________________
(379)
مثلهم » (1).
إنّ السّلفيين و حتّى أتباعهم في هذه الأيّام يتحرّجون من القول بأنّ الله ليس بجسم ، قائلين بأنّه لم يرد نصّ فيه في الشّريعة ، ولكن يتشدّقون بقدم القرآن وعدم حدوثه ، بلا اكتراث سالفهم و لاحقهم حتّى جعلوه أصلاً يدور عليه إسلام المرء وكفره.
2 ـ النّصارى و قدم الكلمة
إنّ القول بقدم القرآن تسرّب إلى أوساط المسلمين من المسيحيّين ، حيث كانوا يقولون بقدم الكلمة. وقد صرّح بذلك الخليفة العبّاسي في كتابه الّذي بعثه من الرقّة إلى رئيس شرطة بغداد إسحاق بن إبراهيم يقول : « وضاهوا به قول النّصارى في ادّعائهم في عيسى بن مريم أنّه ليس بمخلوق إذ كان كلمة الله » (2).
قال أبو العبّاس البغوي: « دخلنا على « فثيون » النّصراني وكان في دار الروم بالجانب الغربي ، فجرى الحديث إلى أن سألته عن ابن كلاب ( الّذي كان يقول بأنّ كلام الله هو الله ) فقال: « رحم الله عبدالله كان يجيء فيجلس إلى تلك الزّاوية و أشار إلى ناحية من البيعة وعنى أخذ هذا القول ( كلام الله هو الله ) ولو عاش لنصّرنا المسلمين قال البغوي: وسأله محمّد بن إسحاق الطّالقاني ، فقال: ما تقول في المسيح؟ قال: ما يقوله أهل السنّة من المسلمين في القرآن » (3).
قال أبو زهرة: « إنّ النّصارى الّذين كانوا في حاشية البيت الأموي وعلى رأسهم يوحنّا الدمشقي و غيرهم ، كانوا يبثّون الشّكوك بين المسلمين. فقد جاء في القرآن أنّ عيس بن مريم كلمة الله ألقاها إلى مريم. فكان يبثّ بين المسلمين أنّ كلمة الله قديمة فيسألهم: أ كلمته قديمة أم لا؟ فان قالوا:لا ، فقد قالوا: إنّ كلامه مخلوق. وإن قالوا:
________________________________________
1 ـ كتاب السنّة: ص 49.
2 ـ تاريخ الطبري: ج 7 ، ص 198 ، حوادث سنة 218.
3 ـ فهرست ابن النديم: الفن الثالث من المقالة الخامسة ص 230.
________________________________________
(380)
قديمة ، ادّعى أنّ عيسى قديم » (1).
وبعد ذلك لا يعبأ بما قاله مؤلّف كتاب « المعتزلة » من أنّ القول بخلق القرآن جاء من اليهود ، وأنّ أوّل من نشرها منهم لبيد بن الأعصم عدوّ النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم اللّدود الّذي كان يقول بخلق القرآن ، ثمّ أخذ ابن اُخته طالوت هذه المقالة عنه ، وصنّف في خلق القرآن (2).
هذا ، وإنّ المشهور بين اليهود هو قدم التّوراة (3).
وعلى كلِّ تقدير ، فالمسألة مستوردة وليست نابتة من صميم الدّين و اُصوله. وقد طرحت في أواخر القرن الثّاني في عصر المأمون ، وامتدّت إلى عصر المتوكّل ومن بعده الّذين يضغطون على المعتزلة وينكِّلون بهم.
إنّ تأريخ البحث يعرب عن أمرين:
أ ـ إنّ المسألة طرحت في جوّ غير هادئ و مشحون بالعداء ، ولم يكن البحث لكشف الحقيقة وابتداعها ، بل كلُّ يصرّ على إثبات مدّعاه.
ب ـ لم يكن موضوع البحث منقّحاً حتّى يتوارد عليه النّفي والاثبات ، وأنّهم لماذا يفرّون من القول بحدوث القرآن ولماذا يكفّرون القائل به. أهم يريدون من قدم القرآن ، قدم الآيات الّتي يتلوها القارئ ، أو النّبي الأكرم ، أو أمين الوحي. أم يريدون قدم معانيه والمفاهيم الواردة فيه. أو يريدون قدم علمه ، سبحانه إلى غير ذلك من الاحتمالات الّتي لم يركّز البحث على واحد منها.
يقول القاضي: « ذهبت الحشويّة من الحنابلة إلى أنّ هذا القرآن المتلوّ في المحاريب والمكتوب في المصاحف ، غير مخلوق ولا محدث ، بل قديم مع الله تعالى ».
وقال ابن قتيبة: « اتّفقوا على أنّ القرآن كلام الله غير مخلوق و إنّما اختلفوا في
________________________________________
1 ـ تاريخ المذاهب الاسلاميّة: ج 2 ، ص 394.
2 ـ المعتزلة: ص 22 ، زهدي حسن جار الله.
3 ـ اليهودية: ص 222 ، تأليف أحمد شلبي ، كما في بحوث مع أهل السنة والسلفية ص 153.
(381)
اللّفظ بالقرآن لغموض وقع في ذلك وكلّهم يجمعون على أنّ القرآن بكلّ حال ـ مقروءاً و مكتوباً ومسموعاً و محفوظاً ـ غير مخلوق » (1).
وذهبت الكلابيّة (2) إلى أنّ كلام الله تعالى هو معنى أزليّ قائم بذاته مع أنّه شيء واحد.
وأمّا مذهبنا في ذلك فهو أنّ القرآن كلام الله تعالى و وحيه وهو مخلوق محدث أنزله الله على نبيِّه ليكون علماً و دالاً على نبوّته ، و جعله دلالة لنا على الأحكام لنرجع إليه في الحلال و الحرام واستوجب منّا بذلك الحمد و الشّكر والتّحميد والتّقديس ، واذن هو الّذي نسمعه اليوم ونتلوه و إن لم يكن محدثاً من جهة الله تعالى فهو مضاف إليه على الحقيقة كما يضاف ما ننشده اليوم من قصيدة امرئ القيس على الحقيقة ، وإن لم يكن مُحدِثاً لها من جهته الآن (3).
3 ـ استدلالهم على حدوث القرآن
إذا كان محلّ النزاع هو القرآن المتلوّ كما يظهر من كلام القاضي فحدوثه أمر واضح ، فإنّ الكلام هو الحروف المنظومة الّتي تظهر بالأصوات المقطّعة وليس حدوثه شيئاً يحتاج إلى دليل ولو احتاج حدوث مثل هذا إلى دليل إذاً احتاج النّهار إلى دليل. كيف وإنّ ترتيب حروف الكلمات والجمل يستلزم الحدوث ، لأنّ تحقّق كلمة بسم الله يتوقّف على حدوث الباء وانعدامها ، ثمّ حدوث السين كذلك ، ثمّ حدوث الميم وهكذا إلى آخر البسملة. فالحدوث ثمّ الانعدام لا يفارقان مفردات الحروف. وفي ضوء هذا توجد الكلمة فكيف يمكن أن يكون مثل هذا قديماً أزليّاً مع الله تعالى؟.
وهذا الاستدلال متين لا مفرّ منه.
________________________________________
1 ـ تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة: ص 16 طبع دار الجيل ،.
2 ـ المؤسس هو عبدالله بن محمد بن كلاب ، وله مع عباد بن سليمان مناظرات ، وكان يقول: إنّ كلام الله هو الله ، وكان عباد يقول: إنّه نصراني بهذا القول: فلاحظ فهرست ابن النديم الفن الثالث من المقالة الخامسة ص 230.
3 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 528.
________________________________________
(382)
ثمّ إنّ القاضي استدلّ على حدوث القرآن بآيات:
1 ـ ( وَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْر مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَث ) ( الأنبياء / 2 ) والذِّكر هو القرآن بدليل قوله: ( إنّا نَحْنُ نَزَّلنا الذِّكْرَ و إنَّا لَهُ لَحَافِظُون ). فقد وصفه بأنّه محدث ، ووصفه بأنّه منزّل ، والمنزّل لا يكون إلاّ محدثاً. وفيه دلالة على حدوثه من وجه آخر ، لأنّه قال: ( وإنّا له لحافظون ) فلو كان قديماً لما احتاج إلى حافظ يحفظه.
2 ـ ( الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُه ثُمَّ فُصِّلَتْ ) ( هود / 1 ).
بيّن كونه مركّباً من هذه الحروف وذلك دلالة حدوثه ، ثمّ وصفه بأنّه كتاب ، أي مجتمع من كتب ، ومنه سمّيت الكتيبة كتيبة ، وما كان مجتمعاً لا يجوز أن يكون قديماً.
3 ـ ( اللّهُ نزَّل أحْسَنَ الحديثِ كِتاباً مُتشابِهاً مَثانِيَ ) ( الزمر / 23 ).
وصفه بأنّه « منزّل » أوّلاً ، ثمّ قال: « أحسن الحديث ». وصفه بالحسن ، والحسن من صفات الأفعال. ووصفه بأنّه « حديث » وهو والمحدث واحد. فهذا صريح ما ادّعيناه. وسمّاه « كتاباً » ، وذلك يدلّ على حدوثه كما تقدّم. وقال: « متشابهاً » أي يشبه بعضه بعضاً في الاعجاز والدّلالة على صدق من ظهر عليه. وما هذا حاله لا بدّ من أن يكون محدثاً (1).
4 ـ محاولة بعض الحنابلة لإثبات القدم
ولمّا كانت العقيدة بقدم القرآن منافية لتوحيده سبحانه ، حاول ابن تيميّة تصحيح عقيدة الحنابلة ـ الّتي صارت متروكة و مندرسة بعد ثورة الإمام الأشعري على الطّائفتين ـ بالتّفريق بين القدم و عدم المخلوقيّة و قال:
« وكما لم يقل أحد من السّلف إنّ كلام الله مخلوق ، فلم يقل أحد منهم إنّه قديم ، ولم يقل واحداً من القولين أحد من الصّحابة ، ولا التّابعين لهم بإحسان ، ولا من بعدهم من الأئمّة الأربعة ولا غيرهم. وأوّل من عرف أنّه قال « هو قديم » ، عبدالله بن سعيد بن
________________________________________
1 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 532.
________________________________________
(383)
كلاب » (1).
ولا يخفى أنّ التّفريق بين عدم الخلقة و القدم ، كالتّفريق بين المترادفين مثل « الإنسان » و « البشر » فكما لا يصحّ أن يقال: هذا بشر لا إنسان ، فهكذا لا يصحّ أن يقال: « القرآن غير مخلوق و لكن ليس بقديم » لأنّ الشّيء إذا لم يكن مخلوقاً يكون وجوده لذاته ، وما كان كذلك لا يكون مسبوقاً بالعدم فيكون قديماً.
أضف إلى ذلك أنّ ابن الجوزي صرّح بأنّ الأئمّة المعتمد عليهم قالوا: إنّ القرآن كلام الله قديم (2).
فكما أنّ هذه المحاولة فاشلة ، فهكذا محاولته الثّانية الّتي لا يليق بها أن تسطر. وهي القول بقدم حروف المعجم الّتي هي موادّ كلمة الله ، حيث قال: « وما تكلّم الله به فهو قائم به ، ليس مخلوقاً منفصلاً عنه ، فلا تكون الحروف التي هي مباني أسماء الله سبحانه وكتبه المنزلة مخلوقة ، فقول القائل بأنّ الحروف قديمة ، أو حروف المعجم قديمة ، فإن أراد جنسها فهذا صحيح. وإن أراد الحرف المعيّن فقد أخطأ » (3).
إنّ القول بقدم موادِّ القرآن ـ أعني حروف المعجم ـ أشبه بالقول بقدم الماهيّات المنفكّة عن الوجود. وهذه الحروف بجنسها ، كما أنّ الماهيّات بنوعها ، ليست إلاّ مفاهيم بحتة معدومة و إنّما تتشخّص بالوجود ، وتتحقّق بالكينونة ، ولا يكون ذلك إلاّ فرداً و هو حادث قطعاً حسب ما اعترف به.
هذه المسائل صارت سبباً لسقوط عقيدة الحنابلة في أعين المفكِّرين والمحقّقين من علماء الإسلام. ولأجل ذلك التجأ الأشعري لتصحيح العقيدة إلى الكلام النّفسي القائم بذاته سبحانه. وقد عرفت في تبيين عقيدة الأشعري أنّ مرجع الكلام النّفسي إلى العلم ، وليس شيئاً غيره.
________________________________________
1 ـ مجموعة الرسائل: ج 3 ص 20.
2 ـ المنتظم في ترجمة الأشعري ، ج 6 ، ص 332.
3 ـ مجموعة الرسائل: ج 3 ، ص 45.
________________________________________
(384)
ثمّ إنّ هيهنا أدلّة سمعيّة للحنابلة في إثبات قدم القرآن نأتي بها على وجه الاجمال ، وقد طرحها القاضي في كتبه وقام بتحليلها.
5 ـ نقد أدلّة القائلين بالقدم
إنّ القاضي يذكر أدلّة القائلين بقدم القرآن و يقول: « وللمخالف في قدم القرآن شبه ، من جملتها:
الشبهة الأولى: قولهم: قد ثبت أنّ القرآن مشتمل على أسماء الله تعالى والاسم والمسمّى واحد ، فيجب في القرآن أن يكون قديماً مثل: الله تعالى. قالوا: والّذي يدلّ على أنّ الاسم والمسمّى واحد ، هو أنّ أحدنا عند الحلف يقول: تالله و والله. وهكذا يقول: بسم الله. ولا يكون كذلك إلاّ و الأمر على ما قلناه. وكذلك فقد قال لبيد:
إلى الحول ثمّ اسم السّلام عليكما ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر
أي السّلام عليكما.
وهكذا فإنّ أحدنا إذا قال: طلّقت زينب ، كان الطّلاق واقعاً عليها. فلو لم يكن الاسم والمسمّى واحداً لا يكون كذلك ».
وأجاب عنه القاضي بأنّ الاسم غير المسمّى و إلاّ فمن قال: ناراً ، يجب أن يحترق فمه.
وعلى هذا قال بعضهم:
لو كان من قال ناراً أُحرقت فمه لما تفوّه باسم النّار مخلوق
فكيف يكون الاسم و المسمّى واحداً ، مع أنّ الاسم عرض و المسمّى جسم؟.
أقول: يجب إلفات نظر القارئ إلى اُمور:
1 ـ إنّ اتّحاد الاسم مع المسمّى صحيح على وجه و باطل على وجه آخر. فإن أرادوا اتّحاد واقعيّة العالم مع ذاته سبحانه فذلك صحيح ، لما قلنا من أنّ ذاته سبحانه
________________________________________
(385)
بلا ضمّ ضميمة مصداق للعالم ، وليست ذاته شيئاً و عالميّته شيئاً آخر ، ولأجل ذلك ، الاسم هو واقعيّة العالميّة ، ولفظ ( العالم ) إسم للاسم.
وإن أرادوا اتّحاد لفظ ( العالم ) الّذي حدوثه ذاتيّ ، و تدرّجه عين تحقّقه ، مع المسمّى فذلك من البطلان بمكان.
2 ـ إنّ المعارف الإلهيّة لا تبتنى على المسائل الفقهيّة ، فإنّ لكلِّ علم منهجاً خاصّاً لتحليل مسائله. فالمعارف الإلهيّة مسائل حقيقيّة تطرح على بساط البحث ، و ينظر إليها من زاوية البرهان العقلي. وأمّا المسائل الفقهيّة فهي مسائل اعتباريّة ، اعتبرها الشّارع موضوعاً لأمره ونهيه و طاعته و عصيانه ، فلا يصحّ الاستدلال عليها إلاّ من زاوية العلوم الاعتباريّة.
فالعالم كلُّ العالم من يحلِّل كلّ مسألة بمنهجها الخاصّ ، ولا يخلط هذا بذاك. ولكنّ الحنابلة طفقوا يستدلّون على اتّحاد الاسم مع المسمّى بمسألة فقهيّة ، وهذا مثل من أنكر كرويّة الأرض بحجّة أنّ كرويّتها لا توافق كون ليلة القدر ليلة واحدة ، بل تستلزم أن تكون ليلتين. وقد أوضحنا حال هذه الشّبهة في أبحاثنا الفقهيّة.
3 ـ إنّ الحلف في قول « تالله » و « والله » ، واقع على الاسم لا على المسمّى ، لوضوح أنّ المقسم به هو لفظ الجلالة لا مصداقه ، غاية الأمر اللّفظ طريق و مرآة إلى المسمّى ، ومع ذلك فالمحلوف به لفظه واسمه ، لا مصداقه و ذاته مباشرة ، فأين للإنسان النّاقص شهود ذاته حتّى يحلف بها. فلو تصعّد و تصوّب لا يكون حلفه خارجاً عن الحلف باللّفظ. فإذا كان الحلف هنا على الاسم ، يكون الحلف في قوله « باسم الله » أيضاً على الاسم بحجّة أنّ الاضافة بيانيّة ، بمعنى أحلف على الاسم الّذي هو الله. ففي كلا القسمين الحلف واقع على الاسم ، دون المسمّى ، وليس الحلف في الأوّل على المسمّى حتّى يستدلّ بصحّة الحلف في الثّاني المشتمل على لفظ الاسم ، على أنّ الاسم هو المسمّى و يستنتج من قدم المسمّى قدم الاسم و منه قدم القرآن لاشتماله على أسمائه.
إنّ اتّحاد الاسم مع المسمّى من الأفكار الباطلة الّتي شطب العلم ، والفكر
________________________________________
(386)
الصحيح ، عليها طيلة قرون. ومع الأسف إنّ الشّيخ الأشعري جعله من جملة عقائد أصحاب الحديث و أهل السنّة ، وقال في قائمة عقائد تلك الطّائفة: « إنّ أسماء الله لا يقال إنّها غير الله ، كما قالت المعتزلة والخوارج » (1).
يحكى أنّ بعض الحنابلة ناظر أبا الهذيل في هذه المسألة فأخذ لوحاً و كتب عليه « الله ». قال: أفتنكر أن يكون هذا هو الله و تدفع المحسوس؟ فأخذ أبو الهذيل اللّوح من يده و كتب بجنبه: « الله » آخر. فقال للحنبليّ: أيّهما الله إذن؟ ـ فانقطع المدبر (2).
فلو صحّت هذه الوحدة لوجب تعدّد الآلهة حسب تعدُّد أسمائه و كثرتها في لغة العرب وسائر اللّغات.
الشبهة الثانية: إنّ القوم تعلّقوا بآيات من القرآن في إثبات قدمه. منها قوله تعالى: ( ألا لَهُ الخَلْقُ وَ الأمْرُ ) ( الاعراف / 54 ) قالوا: إنّه تعالى فصّل بين الخلق والأمر ، وفي ذلك دلالة على أنّ الأمر غير مخلوق (3). والقرآن مشتمل على الأمر فيكون غير مخلوق.
وأجاب عنه القاضي بأنّ ذلك من قبيل عطف الخاصِّ على العامّ ، مثل قوله سبحانه: ( فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمّانٌ ) ( الرحمن / 68 ).
ويمكن أن يجاب بالنّقض والحلّ.
أمّا نقضاً فبقوله سبحانه: ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي ) ( الإسراء / 85 ).
فلو كان الأمر غير مخلوق يلزم أن يكون الروح الّذي من الأمر غير مخلوق و قديماً.
وأمّا حلاّ ً فبوجهين:
أ ـ المراد من الخلق هنا هو التّقدير ، قال في اللّسان: « الخلق: التقدير ، وخلَق الأديم يخلقه خلقاً: قدّره لما يريد قبل القطع. قال زهير يمدح رجلاً:
________________________________________
1 ـ المقالات: ص 290. وفي هذا المصدر تكلّم عن أصحاب الحديث حول اتحاد الاسم مع المسمى ، فراجعه.
2 ـ شرح الاصول الخمسة: ص 544.
3 ـ المصدر نفسه
________________________________________
(387)
ولأنت تَفري ما خلقتَ و بعض القوم يَخلق ثمّ لا يفري (1).
والمراد من الأمر هو الايجاد ، لقوله سبحانه: ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذْا أَرَادَ شَيْئَاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون ) ( يس / 82 ). وعلى ذلك يعود معنى الآية إلى أنّ التقدير والايجاد في عالم الكون من السّماوات و الأرض و ما بينهما له سبحانه. ويشهد عليه ملاحظة نفس الآية: ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمواتِ وَ الأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوى عَلَى العَرْشِ ، يُغْشِى الَّيْلَ النّهارَ يَطْلُبُهُ حَثيثاً و الشَّمسَ والقَمَرَ و النُّجومَ مُسَخّرات بِأَمْرِهِ ، ألا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ العَالَمِين ) ( الأعراف / 54 ).
فخلق العالم من الذّرّة إلى المجرّة ، رهن التّقدير و الايجاد ، ولا شريك له سبحانه في واحد من هذين الأمرين ، و عندئذ لا صلة لكلمة الأمر ، بالأوامر الشّرعية الواردة في القرآن الكريم حتّى يستدلّ من حديث المقابلة أنّ الأمر غير الخلق.
ب ـ المراد من الخلق هو الايجاد ، كما هو الشائع ، والمراد من الأمر السنن السائدة على العالم ، الحاكمة عليه والوسيلة للتدبير. و يشهد له قوله قبل ذلك: ( مسخّرات بأمره ) أي مسخّرات بسننه و قوانينه سبحانه. فيعود معنى الآية أيضاً إلى أنّ الخلق و التّدبير بالسنن له سبحانه ، لا يشاركه فيهما شيء.
ويظهر ذلك إذا علمنا أنّ « الألف واللام » في « له الأمر » إشارة إلى الأمر الوارد قبله أي: ( مسخّرات بأمره ) ومن المعلوم أنّ التّسخير قائم بوضع سنن و قوانين على عالم الخلق.
الشبهة الثالثة: إنّ توصيف القرآن بأنّه مخلوق ربّما يوهم وصف القرآن بالكذب والاختلاق ، ولهذا يقال: قصيدة مخلوقة و مختلقة ، إذا كانت مشتملة على أكاذيب وأباطيل.
قال سبحانه: ( إن هذا إلاّ خلق الأوّلين ) ( الشعراء / 137 ).
وقال سبحانه: ( إن هذا إلاّ اختلاق ) ( ص / 7 ).
والإجابة عنه واضحة ، فإنّ المراد من كونه مخلوقاً ، كونه مخلوقاً لله سبحانه.
________________________________________
1 ـ لسان العرب: مادة « خلق ».
________________________________________
(388)
ويشهد له أنّه سبحانه وصفه بـ « أنزله » ، و « جعله » ، وغيرذلك من الأفعال الدالّة على انتسابه إلى الله سبحانه.
واستغلال الملحد لهذه الكلمة بتفسيرها بالكذب و الاختلاق لا يغيِّر الواقع ، فالمراد أنّ القرآن المتلوّ على لسان النّبي والصّحابة و التّابعين والمسلمين ، شيء موجود و لا بدّ له من محدث و خالق ، و خالقه هو الله سبحانه.
قال المفيد ـ رحمه الله ـ : « إنّ كلام الله تعالى محدث ، وبذلك جاءت الآثار عن آل محمّد ( عليهم السلام ) والمراد أنّ القرآن كلام الله و وحيه و أنّه محدث كما وصفه الله تعالى. وأمنع من إطلاق القول عليه بأنّه مخلوق. وبهذا جاءت الآثار عن الصّادقين ، وعليه كافّة الإماميّة إلاّ من شذّ » (1).
والحاصل إنّ إطلاق لفظة « الخلق » على القرآن ، لم ـ ّا كان موهماً لكونه كذباً و مختلقاً ، منع من إطلاقه في هذا المقام ، وأجيز إطلاق ما لا يوهم مثل هذا المعنى. كلفظ « محدث ». وأنّه كلام الله و كتابه و تنزيله ، مما يفيد أنه غير أزليّ ، وليس بقديم. فإذن ، يكون من قبيل:
عباراتنا شتّى و حسنك واحد وكلّ إلى ذاك الجمال يشير
وقد وردت الروايات في النّهي عن إطلاق الخلق على القرآن ـ لصدّ استغلال الملاحدة ـ في ( توحيد الصّدوق ) (2).
هذا ، وقد أشار القاضي عبد الجبّار إلى هذا الوجه و قال:
« فان قيل: أليس قوله تعالى ' « و تخلقون إفكاً » أريد به كونه كذباً فما أنكرتم ، أليس من أنّ القرآن لا يوصف بذلك من إيهام كونه كذباً... أليس يقولون قصيدة مخلوقة مختلقة يعني أنّها كذب ، و على هذا الوجه يقول القائل: خلقت حديثاً و اختلقته » (3).
________________________________________
1 ـ اوائل المقالات: ص 18 ـ 19.
2 ـ لاحظ: توحيد الصدوق ، باب القرآن ، الأحاديث 2 و 3 و 4 و 5 ، ص 221 ـ 222.
3 ـ المغنى: أبواب التوحيد والعدل ، ج 7 ، ص 216 ـ 217.
________________________________________
(389)
ولكنّ الإجابة عنه واضحة ، لما عرفت من أنّه يمكن التّعبير عنه بوجه لا يستلزم ذلك الوهم ككونه محدثاً ، أو إنّه غير قديم.
والظّاهر أنّ الوجه في عدم توصيفه بكونه مخلوقاً هو تصوّر الملازمة بين كونه مخلوقاً وكون علمه سبحانه حادثاً.
وهناك وجه آخر لعدم التزامهم بكونه مخلوقاً وهو تصوّر أنّ كلِّ مخلوق فان ، فيلزم فناء القرآن و موته مع أنّه سبحانه يقول: ( إنّا نحن نزّلنا الذِّكر و إنّا له لحافظون ) (1).
الشّبهة الرابعة: إنّ الله سبحانه خلق العالم بلفظ « كن » ، يقول: ( إنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) ( يس / 74 ) و يقولون لو لم يكن هذا ال ـ « كن » قديماً ، لوجب أن يكون محدثاً. فكان لا يحدث إلاّ ب ـ « كن » آخر. والكلام في ذلك ال ـ « كن » كالكلام فيه ، فيتسلسل إلى ما لا نهاية له (2).
وأجاب عنه القاضي: ليس المراد من هذه اللّفظة هو المركّب من الكاف و النّون ، إذ لا شكّ في حدوثه ، فيجب أن يكون المراد هو الارادة (3).
ثمّ قال: « والغرض من هذه الآية و ما جرى مجراها إنّما هو الدّلالة على سرعة استجابة الأشياء له من غير امتناع ، نظيرها قوله تعالى: ( وقال لها و للأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً ) ( فصلت / 11 ). ومنه قول الشاعر:
و قالت له العينان سمعاً و طاعة وحدرتا كالدُّرّ لمّا يثقّب
والّذي يدلّ على أنّ المراد هنا ليس لفظة « كن » ، أنّه ليس في المقام مخاطب ذو سمع يسمع الخطاب فيوجد به ، وعندئذ تصير الآية تمثيلاً لحقيقة فلسفيّة ، وهي أنّ إفاضته سبحانه وجود الشّيء لا تتوقّف على شيء وراء ذاته المتعالية. فمشيئته سبحانه
________________________________________
1 ـ المغنى: ج 7 ، ص 121 وهو أيضاً كما ترى.
2 ـ شرح الاصول الخمسة: ص 560.
3 ـ المصدر السابق. ولمّا كان القول بالارادة الحادثة في ذاته مستلزماً لحدوث الذات ، التجأ القاضي وأتباعه إلى أنّ للّه سبحانه إرادة غير قائمة بذاته ، وهو كما ترى.
________________________________________
(390)
مساوقة لوجود الشّىء بلا تخلّف. وأمّا حقيقة إرادته فلبيانها مقام آخر.
وفي نفس الآيات إشارات لطيفة إلى هذا المعنى.
قال سبحانه: ( وما أمرنا إلاّ واحدة كلمح بالبصر ) ( القمر / 50 ) فيكون الهدف من الآية ونظائرها بيان أنّ إرادته و مشيئته المتعلِّقة بتحقّق الشيء يساوق وجوده و ليست كارادة الإنسان. فإنّ الارادة والمشيئة فيه لا تساوق وجود الشّيء ، بل يحتاج إلى مقدّمات و أسباب.
المسألة الثامنة:
ما تتعلّق بالنبوّات و الشّرائع و معاجز الأنبياء
إنّ القاضي رتّب على القول بالعدل عدّة مسائل زعم أنّها من نتائج القول به ، وبما أنّ الاختلاف فيها بين المعتزلة و غيرهم بسيط ، نكتفي بإيرادها إجمالاً:
1 ـ بعث الأنبياء: قال: « ووجه اتّصاله بباب العدل هو أنّه سبحانه إذا علم أنّ صلاحنا يتعلّق بالشّرعيات ، فلا بدّ من أن يعرِّفناها ، لكي لا يكون مُخلاًّ بما هو واجب عليه ، ومن العدل أن لا يخلّ بما هو واجب عليه ».
2 ـ لزوم اقتران النبوّة بالمعجز: قال: « إذا بعث إلينا رسولاً ليعرِّفنا المصالح ، فلا بدّ من أن يدّعي النبوّة و يظهر عليه العلم المعجز الدّالّ على صدقه عقيب دعواه النُّبوة ».
ثمّ فصّل حقيقة المعجز.
يلاحظ عليه: إنّ مقتضى العدل بعث الأنبياء بالدّلائل و البيّنات المثبتة لدعواهم النّبوّة ، ولا تنحصر البيّنات بالمعجزات ، بل المعجز إحدى الطّرق إلى التعرّف على صدق النّبي. وهناك طريقان آخران نشير إلى عنوانيهما:
أ ـ تصديق النبّيّ السابق ( الّذي ثبتت نبوّته قطعيّاً ) نبوّة النّبىِّ اللاّحق.
(391)
ب ـ جمع القرائن والشّواهد الّتي تدلّ على صدق دعواه صدقاً قطعيا (1).
3 ـ صفات النّبي: يقول: « الرّسول لا بدّ أن يكون منزّهاً عن المنفِّرات جملة ، كبيرة أو صغيرة ، لأنّ الغرض من البعثة ليس إلاّ لطف العباد و مصالحهم. فلا بدّ من أن يكون مقبولاً للمكلّف.
ثمّ جوّز صدور الصّغائر عن الأنبياء الّتي لا حظّ لها إلاّ في تقليل الثّواب دون التنفير... ، لأنّ قلّة الثّواب ممّا لا يقدح في صدق الرُّسل ولا في القبول منهم » (2).
يلاحظ عليه: أنّ صدور الذّنب من النّبي يوجب زوال الثّقة بصدق قوله ، فيقال: لو كان صادقاً فيما يرويه فلماذا يتخلّف عنه.
4 ـ نسخ الشرائع: فقد ذكر جملة من الأدلّة على جواز النّسخ في الشّرائع وطرح القول بالبداء و بيّن الفرق بينه و بين النّسخ.
5 ـ نبوّة نبيّ الإسلام و دلائل نبوّته وأنّ القرآن معجز: ثمّ بسط الكلام في إعجاز القرآن إلى أن وصل بحثه إلى القول بالتّحريف في القرآن.
ومن أعجب ما أتى به قوله إنّ الإماميّة جوّزوا فى القرآن الزّيادة و النّقصان حتّى قالوا: إنّ سورة الاحزاب كانت بحمل جمل ، وإنّه قد زيد فيها ، ونقص ، وغيِّر و حرِّف (3).
أقول: غاب عن القاضي أنّ الإماميّة على بكرة أبيهم لم يصدر منهم هذا الكلام الرّكيك.
نعم ، روى القرطبي عند تفسيره سورة الأحزاب من عائشة قالت: كانت سورة الأحزاب تعدل على عهد رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم مائتي آية ، فلمّا كتب المصحف لم يقدر منها إلاّ على ما هي الآن (4).
تمّ الكلام حول الأصل الثّاني والفروع الّتي تترتّب عليه.
________________________________________
1 ـ قد فصلنا تلك الطرق في بحوثنا الكلامية لاحظ الالهيات ج 3 ص 61 ـ 114.
2 ـ شرح الاصول الخمسة: ص 574 ـ 575.
3 ـ شرح الاصول الخمسة: ص 601.
4 ـ تفسير القرطبي: ج 14 ، ص 113.