القدريّة
القدريّة أسلاف المعتزلة
خرج المسلمون من الجزيرة العربيّة بدافع نشر الاسلام وبسط نفوذه ، فلمّا استولوا على البلاد واستتبّ لهم الأمر ، تفاجأوا بثقافات وحضارات ، وشرائع وديانات ، لم يكن لهم بها عهد ، ففرضت الظُّروف عليهم الاختلاط والتعايش مع غير المسلمين ، وربّما انتهى الأمر إلى التفاعل والتأثير بمبادئهم وأفكارهم ، فوقفوا على اُصول ومبادئ تخالف دينهم ، فأوجد ذلك اضطراباً فكريّا بين الأوساط الإسلاميّة. كيف لا ، وقد كان الخصم متدرّعاً بالسلاح العلمي ، ومجهّزاً بأساليب كلاميّة ، والمسلمون الغزاة بسطاء غير مجيدين كيفيّة البرهنة ، والمجادلة العلميّة مع خصمائهم ، فصار ذلك سبباً لطرح أسئلة ونموّ اشكالات في أذهان المسلمين خارج الجزيرة العربيّة وداخلها ، وقد كان الغزاة ينقلون ما سمعوا أو ما تأثّروا به في حلّهم وترحالهم داخل المدن وخارجها.
وهذا التلاقح الفكري بين المسلمين وغيرهم أدّى إلى افتراق الاُمّة الاسلاميّة إلى طائفتين:
الطائفة الاُولى: وهم يشكّلون الأكثريّة الساحقة في المسلمين ، جنحت إلى الجانب السلبي وأراحت نفسها من الخوض في تلك المباحث ، وإن كانت لها صلة بصميم الدين كالقضاء والقدر ، وعينيّة الصفات للذات أو زيادتها عليها ، كيفيّة
________________________________________
(112)
الحشر والنشر ، ووجود الشرّ في العالم ، مع كون خالقه حكيماً إلى غير ذلك ممّا لا يمكن فصلها عن الدين ، وأقصى ما كان لدى هؤلاء المتزمّتين ، دعوة المسلمين إلى التعبّد بما جاء من النصوص في القرآن والسنّة ، وقد تصدّر هذه الطائفة الفقهاء وأهل الحديث ولقد أثر عنهم قول وعمل يعرِّفان موقفهم في هذه التيّارات ، ويرجع مغزى ذلك إلى الأخذ بالجانب السّلبي وترك الكلام الّذي هو أسهل الأمرين ، ولأجل ذلك قامت تلك الطّائفة بتحريم علم الكلام والمنطق والفلسفة ، وإن كان يهدف إلى تقرير العقائد الإسلاميّة عن طريق العقل والبرهان.
وإليك نماذج من أقوالهم في هذا المضمار:
1 ـ عن أبي يوسف القاضي ( م 192 ) : طلب علم الكلام هو الجهل ، والجهل بالكلام هو العلم (1).
2 ـ وعن الشافعي: لأن يلقى الله تبارك وتعالى بكلّ ذنب ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من علم الكلام (2).
3 ـ وهذا الإمام مالك ( م 179 ) لمّا سئل عن كيفيّة الاستواء على العرش؟ فقال: الاستواء معقول والكيف مجهول والايمان به واجب والسؤال عنه بدعة (3).
فهؤلاء صوّروا البحث عن قوانين الكون ، وصحيفة الوجود جهلاً ، والجهل بها علماً ، والبرهنة على وجوده سبحانه أمراً مذموماً ، والسؤال عن مفاد الآية ومرماها بدعة.فكأنّ القرآن أُنزل للتلاوة والقراءة دون الفهم والتدبّر ، وكأنّ القرآن لم يأمر النّاس بالسؤال من أهل الذكر إذا كانوا جاهلين. فإذا كان هذا حال قادة الاُمّة وفقهائها ، فكيف حال من يَقتدي بهم؟
4 ـ سأل رجل عن مالك وقال: ينزل الله سماء الدنيا؟ قال: نعم. قال: نزوله بعلمه أم بماذا؟ فصاح مالك: اسكت عن هذا وغضب غضباً شديدا (4).
5 ـ قد بلغ تطرّف إمام الحنابلة إلى حدّ أنّ أبا ثور ( م 240 ) فسّر حديث رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم: « إنّ الله خلق آدم على صورته » على وجه لا يستلزم التجسيم والتشبيه بإرجاع الضمير إلى آدم حتّى يتخلّص من مغبّتهما ، فهجره أحمد ، فأتاه أبو ثور ، فقال أحمد: أيّ صورة كانت لآدم يخلق عليها ، كيف تصنع بقوله: ( خلق آدم على صورة الرحمان ) فاعتذر أبو ثور
________________________________________
1 ـ تاريخ بغداد ج 14 ص 253.
2 ـ حياة الحيوان للدميري ج 1 ص 11 ، كما في كتاب « المعتزلة » ص 242.
3 ـ طبقات الشافعية: ج 3 ص 126.
4 ـ الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة ، لابن قيم الجوزي ، طبع مكة المكرمة ، عام 1348 ج 2 ص 251 ، كما في « المعتزلة » ص 245.
________________________________________
(113)
وتاب بين يديه (1).
فالدواء عنده لكلّ داء هو الدّعوة إلى التعبّد بالنّصوص تعبّداً حرفياً من غير تحليل ولا تفسير.
6 ـ إنّ أحد أصحابه ، الحارث المحاسبي ( م 243 ) ألّف كتاباً في الردّ على المعتزلة ، فأنكره أحمد وهجره. ولمّا اعترض عليه المحاسبي بأنّ الردّ على البدعة فرض ، أجاب أحمد بقوله: إنّك حكيت شبهتهم أوّلاً ثمّ أجبت عنها فلم تأمن أطالع الشّبهة ولا ألتفت إلى الجواب أو أنظر إلى الجواب ولا أفهم كنهها (2).
يلاحظ عليه: أنّه لا شكّ في أنّ الردود على أصحاب البدع والضلالات ، يجب أن تكون بشكل تهدي الاُمّة ولا تضلّها ، وتقمع الإشكال ولا ترسّخه. فمن كانت له تلك الصلاحية فعليه القيام بالردّ والنقد. فهذا هو القرآن الكريم الأسوة المباركة ، ينقل آراء المشركين ثمّ ينقضها ويدمِّرها ، وإلاّ فمعنى ذلك أن يفسح المعنيّون من علماء الإسلام للأبالسة أن يهاجموا الإسلام و يضعضعوا أركانه ، ويتّخذوا الأحداث والشبّان فريسة لأفكارهم يفتكون بهم ، ويكون الغيارى من المسلمين القادرون على دفع هجومهم ، متفرّجين في مقابل جرأة العاصي وحملة الماجن « ما هكذا تورد يا سعد الإبل ». وكيف يرضى الشارع الّذي جعل الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فريضة على المسلمين بهذه
________________________________________
1 ـ نفح الطيب ج 3 ص 153 ، كما في كتاب « المعتزلة ».
2 ـ المنقذ من الضلال ص 45 راجع كتاب المعتزلة ص 245 ـ 251.
________________________________________
(114)
النكسة.
هذا حال الطائفة الاُولى وإليك نبذة عن وضع الطائفة الاُخرى.
الطائفة الثانية: وهم الأقليّة من أصحاب الفكر ، وقد عاينوا المشاكل عن كثب وحاولوا حلّها بالدراسة والتحليل. فلأجل تلك الغاية تدرّعوا بمنطق الخصم وأساليبه الكلاميّة ، فقلعوا بها الشبه وصانوا دينهم وايمان أحداثهم عن زيغ المبطلين. كلّ ذلك بدافع الذبّ عن حريم الدّين وصيانته ، وتجسيداً للأصل الأصيل في الكتاب والسنّة ـ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ـ واسوةً بالنبي الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم الّذي كان يدافع عن دين الله بسيفه وسنانه ، وبنانه وبيانه ، وكتبه ورسائله.
وقد نجم بين الاُمّة في هذه الطّائفة علماء أخيار اشتروا رضا الله سبحانه بغضب المخلوق ، فكانوا يحمون جسد الإسلام من النّبال المرشوقة والموجّهة من السلطة الحاكمة إليه ، تحت ستار الدفاع عن الدّين ومكافحة المضلّين ، وقد أساء لهم التاريخ فأسماهم بالقدريّة ، حطّاً من شأنهم ، وإدخالاً لهم تحت الحديث المرويّ عن الرسول الأكرمصلَّى الله عليه و آله و سلَّم « القدريّة مجوس هذه الاُمّة » وكان العصر الأموي ( من الوقت الّذي استولى فيه معاوية على عرش الملك إلى آخر من تولّى منهم ) ، يسوده القول بالجبر ، الّذي يصوِّر الانسان والمجتمع أنّهما مسيّران لا مخيّران ، وأنّ كلّ ما يجري في الكون من صلاح وفساد ، وسعة وضيق ، وجوع وكظّة ، وصلح وقتال بين الناس أمر حتمي قضى به عليهم ، وليس للبشر فيه أيّ صنع وتصرّف.
وقد اتّخذت الطغمة الأمويّة هذه الفكرة غطاءً لأفعالهم الشنيعة حتّى يسدّوا بذلك باب الاعتراض على أفعالهم بحجّة أنّ الاعتراض عليهم إعتراض على صنعه سبحانه وقضائه وقدره ، وأنّ الله سبحانه فرض على الانسان حكم ابن آكلة الأكباد وابنه السكّير. وأبناء البيت الاموي الخبيث يعيشون عيشة رغد ورخاء وترف ، ويعيش الآخرون على بطون غرثى وأكباد حرّى.
وقد كانت هذه الفكرة تروّج بالخطباء ووعّاظ السلاطين مرتزقة البلاط الاموي.
________________________________________
(115)
ففي هذه الظروف نهض رجال ذووا بصيرة لا يستسيغون هذه الفكرة ، بل يرونها من حبائل الشيطان ، اُلقيت لاصطياد المستضعفين ، وسلب حرّياتهم ونهب إمكانيّاتهم ، فثاروا على الفكرة وأصحابها وناضلوا من أجل ذلك بصمود وحماس ، وكان عملهم هذا انتفاضة في وجه المجبّرة تنزيهاً لساحته سبحانه عمّا وصفه به الجاهلون ، وسكت عنه الآخرون رهباً أو رغباً ، فكان جزاؤهم القتل والصّلب والتنكيل بعد الحكم بتكفيرهم من جانب قضاة الجور ، بدعوى مروقهم عن الدّين وخروجهم على أمير المؤمنين!! عبد الملك بن مروان!! وسيفه الشاهر الحجّاج بن يوسف.
ونقدّم إليك لمحات من حياتهم ونضالهم في طريق عقيدتهم ، وأنّهم لم يكونوا يدينون بشيء ممّا رموا به إلاّ القول بأنّ الانسان مختار في حياته ، وأنّه ليس له إلاّ ما سعى ، ولم تكن عندهم فكرة التفويض التّي تعادل الشرك الخفيّ ، وإنّما حدثت فكرة التفويض بعدهم بين المعتزلة. وعلى ذلك فهؤلاء المسمّون بالقدريّة ظلماً وعدوانا ، أسلاف المعتزلة في الدعوة إلى حريّة الانسان ، لا في الدعوة إلى التفويض البغيض.
واستغلّت الأشاعرة ومؤلّفو الملل والنّحل لفظ « القدريّة » ، فاستعملوها في مخالفيهم تبعاً لأهل الحديث في هذه الظّروف ، فأطلقوها على كلِّ من ادّعى للانسان حريّة في العمل واختياراً في الفعل الّذي هو مناط صحّة التكليف ، ومدار بعث الرسل ، فدعاة الحريّة عندهم قدرية إمّا لاتّهامهم ـ كذباً وزوراً ـ بانكار تقدير الله وقضائه ، من باب إطلاق الشيء ( القدريّة ) وإرادة نقيضه ( انكار القدر ونفيه ) ، أو لاتّهامهم بأنّهم يقولون نحن نقدّر أعمالنا وأفعالنا و... وسيوافيك بحث حول هذه اللفظة عند خاتمة البحث.
دعاة الحرية
1 ـ معبد بن عبدالله الجهني البصري ( م 80 ) : أوّل من قال بالقدر في البصرة. سمع الحديث من ابن عبّاس ، وعمران بن حصين وغيرهما وحضر يوم التحكيم ، وانتقل من البصرة إلى المدينة فنشر فيها مذهبه ، وكان صدوقاً ثقة في الحديث ومن التّابعين ،
________________________________________
(116)
وخرج مع ابن الأشعث على الحجّاج بن يوسف ، فخرج وأقام بمكّة فقتله الحجّاج صبراً بعد أن عذّبه ، وقيل صلبه عبد الملك بن مروان في دمشق على القول بالقدر ثمّ قتله (1).
وقال المقريزي في خططه: « أوّل من قال بالقدر في الإسلام معبد بن خالد الجهني وكان يجالس الحسن بن الحسين البصري ، فتكلّم بالقدر في البصرة ، وسلك أهل البصرة مسلكه لمّا رأوا عمرو بن عبيد ينتحله ، وأخذ معبد هذا الرأي عن رجل من الأساورة يقال له أبو يونس سنسويه ويعرف بالأسواري ، فلمّا عظمت الفتنة به عذّبه الحجّاج وصلبه بأمر عبد الملك بن مروان ، سنة ثمانين من الهجرة ـ إلى أن قال: وكان عطاء بن يسار قاضياً يرى القدر وكان يأتي هو ومعبد الجهني إلى الحسن البصري ، فيقولان له إنّ هؤلاء يسفكون الدّماء ويقولون إنّما تجري أعمالنا على قدر الله فقال: كذب أعداء الله فطعن عليه بهذا » (2).
2 ـ غيلان بن مسلم الدمشقي: وهو ثاني من تكلّم بالقدر ودعا إليه ولم يسبقه سوى معبد الجهني. قال الشهرستاني في « الملل والنحل »: « كان غيلان يقول بالقدر خيره وشرّه من العبد ، وقيل تاب عن القول بالقدر على يد عمر بن عبد العزيز ، فلمّا مات عمر جاهر بمذهبه فطلبه هشام بن عبد الملك وأحضر الأوزاعي لمناظرته. فأفتى الأوزاعي بقتله ، فصلب على باب كيسان بدمشق وقتل عام ( 105 ) (3).
قال القاضي عبد الجبّار: « ومنهم ( الطبقة الرابعة من المعتزلة ) غيلان بن مسلم ، أخذ العلم عن الحسن بن محمّد بن الحنفيّة » (4).
وقال ابن المرتضى نقلاً عن الحاكم: « أخذ غيلان الدمشقي المذهب عن الحسن بن محمّد بن الحنفيّة ولم تكن مخالفته ( الحسن ) لأبيه ولأخيه إلاّ في شيء من الإرجاء. روى
________________________________________
1 ـ الأعلام للزركلي ج 8 ص 177 ناقلاً عن تهذيب التهذيب ج 10 ص 225 ، وميزان الاعتدال ج 3 ص 183 ، وشذرات الذهب ج 1 ص 88 ، والبداية والنهاية ج 9 ص 34.
2 ـ الخطط المقريزية: ج 2 ص 356. سيوافيك نظرنا في كلامه فانتظر.
3 ـ الملل والنحل: ج 1 ص 47 ولسان الميزان ج 4 ص 424. والأعلام للزركلي ج 5 ص 320.
4 ـ طبقات المعتزلة: ص 229 ولكلامه ذيل يجيء عن ابن المرتضى عند البحث عن جذور الإعتزال.
________________________________________
(117)
أنّ الحسن كان يقول ـ إذا رأى غيلان في الموسم ـ : أترون هذا ، هو حجّة الله على أهل الشام ، ولكنّ الفتى مقتول ، وكان وحيد دهره في العلم والزهد والدعاء إلى الله وتوحيده وعدله ، قتله هشام بن عبد الملك وقتل صاحبه. وسبب قتله أنّ غيلان كتب إلى عمر بن عبد العزيز كتاباً يحذِّره فيه من انطفاء السنّة وظهور البدعة (1). فلمّا وصلت الرسالة إلى عمر بن عبد العزيز دعاه وقال: أعنّي على ما أنا فيه. فقال غيلان: ولّني بيع الخزائن وردّ المظالم فولاّه فكان يبيعها وينادي عليها ويقول: تعالوا إلى متاع الخونة ، تعالوا إلى متاع الظّلمة ، تعالوا إلى متاع من خلَف الرسول في أمّته بغير سنّته وسيرته ، وكان فيما نادي عليه جوارب خزّ فبلغ ثلاثين ألف درهم ، وقد أتكل بعضها. فقال غيلان: من يعذرني ممّن يزعم أنّ هؤلاء كانوا أئّمة هدى وهكذا يأتكل والناس يموتون من الجوع. فمرّ به هشام بن عبد الملك قال: أرى هذا يعيبني ويعيب آبائي وإن ظفرت به لاُقطّعنّ يديه ورجليه فلمّا ولى هشام قتله على النّحو الّذي وعده » (2).
وما ذكرناه من النُّصوص يوقفنا على اُمور:
1 ـ إنّ القول بكون الإنسان مخيّراً لا مسيّراً يتّصل جذورها بالبيت الهاشمي. فقد عرفت أنّ معبداً الجهني كان تلميذاً لابن عبّاس ، وغيلان الدمشقي تتلمذ للحسن بن محمّد بن الحنفيّة. فما ذكره المقريزي من أنّه أخذ ذلك الرأي من أبي يونس سنسويه لا يركن إليه ، بعد ثبوت تتلمذهما لقادة الفكر من البيت الهاشمي ، ولعمران بن حصين الصحابي الجليل ومن أعلام أصحاب علي ( عليه السلام ).
2 ـ إنّ نضال الرّجلين في العهد الأموي كان ضدّ ولاة الجور الّذين كانوا يسفكون الدماء وينسبونه إلى قضاء الله وقدره ، فهؤلاء الأحرار قاموا في وجههم وأنكروا القدر بالمعنى الّذي استغلّته السلطة وبرّرت به أعمالها الشنيعة ، وإلاّ فمن البعيد جدّاً من مسلم واع أن ينكر القضاء والقدر الواردين في الكتاب والسنّة على وجه لا يسلب الحريّة من الإنسان ولا يجعله مكتوف الأيدي.
________________________________________
1 ـ ستوافيك رسالته فانتظر.
2 ـ المنية والأمل: ص 26.
________________________________________
(118)
3 ـ إنّ هذا التاريخ يدلنا على أنّ رجال العيث والفساد إذا أرادوا إخفاء دعوة الصالحين اتّهموهم بالكفر والزندقة ومخالفة الكتاب والسنّة.
4 ـ إنّ صلب معبد الجهني بيد الحجّاج السفّاك بأمر عبد الملك أوضح دليل على أنّ الرجل كان من دعاة الإصلاح ، ولكن ثقل أمره على الطغمة الأمويّة فاستفزّوه من أديم الأرض وقطعوا جذوره بالصّلب والقتل ، كما أنّ قيام غيلان في وجه هشام بن عبد الملك يعرب عن صموده في سبيل الحقّ وإزهاق الباطل وقتله به يدلّ على قداسة ما كان يذهب إليه.
وعلى أيّ تقدير; فهذان الرجلان ، في الطّليعة من دعاة الحريّة و الاختيار ، ويعدّان أسلافاً للاعتزال ولا يمتّان له بصلة غير الإشتراك في نفي الجبر و التسيير.
5 ـ إنّ هؤلاء الأحرار و إن رُموا بالقدرية بمعنى إنكار القضاء و القدر ، ولكنّهم كانوا بصدد إثبات الاختيار و الحريّة للإنسان في مقابل الجبر و إغلال الأيدي الّذي كانت السلطة تشجّعه ، والاختيار هو الّذي بُنيت عليه الشرائع و عليه شرّعت التكاليف ، فإنكاره إنكار للأمر الضّروري.
ولكنّ السلطة لأجل إخماد ثورتهم اتّهمتهم بالقدريّة حتّى تطعن بهم أنّهم خالفوا الكتاب و السنّة الدالّين على تقدير الأشياء من جانبه سبحانه و قضائه عليها ، و أين هذه التهمة ممّا تمسّك به القوم من الدعوة إلى الاختيار و الحريّة؟
وأمّا تفسير القدريّة في حقّ هؤلاء بتفويض الإنسان إلى نفسه و أفعاله ، أنّه ليس لله سبحانه أي صنع في فعله فهو تفسير جديد حدث بعد هؤلاء ، و به رُميت المعتزلة كما سيأتي الكلام فيه.
و في الحقيقة كانت دعوة هؤلاء ردّ فعل لاسطورة الجبر الّتي كانت ذائعة في الصدر الأوّل عن طريق أهل الكتاب الّذين تلبّسوا بالإسلام ، و كانت الأكثريّة الساحقة من المسلمين يؤمنون بالقدر على وجه يجعل الإنسان مغلول اليدين. و قد قال
________________________________________
(119)
أحد رجّاز ذلك الزمان معبّراً عن تلك العقيدة:
يا أيهّا المضمِر همّاً لا تهَُمولو علوت شاهقاً من العلم إنّك إن تُقْدَر لك الحمّى تُحَمكيف توقِّيك و قد جفّ القلم (1)
فإذا كان الرأي العام عند المسلمين هذا ، فعلى العالم أن يظهر علمه. فلأجل ذلك نرى أنّ معبداً الجهني و غيلان الدمشقي و القاضي عطاء بن يسار و غيرهم كعمر المقصوص ( م / 80 ) الّذي ظهر بدمشق و كان اُستاذاً للخليفة معاوية بن يزيد بن معاوية و قتله الأمويّون بتهمة إفساد الخليفة (2)انتفضوا ضدّ هذه الفكرة الفاسدة فلقوا ما لقوا من القتل و التنكيل ، و قد أدّوا رسالتهم.
ولو أنّ علماء الإسلام في السنّة والجماعة قاموا بواجبهم في تلك الحقبة التأريخيّة وما هابوا السلطة ، لما ظهرت الحركات الرجعيّة بين الاُمّة الإسلاميّة في أوائل القرن الثاني ، الّتي كانت تدعو إلى الجاهليّة الاُولى ، ولأجل إيقاف القارئ على هذه الحركات ومبادئها سنعرض عليه بعض الحركات الرجعية الّتي ظهرت في القرن الثاني و الثالث بعد إكمال البحث في المقام فانتظر.
رسالة غيلان إلى عمر بن عبدالعزيز
الرسالة الّتي بعث بها غيلان إلى عمر بن عبدالعزيز توقفنا:
أوّلاً: على مكانته من الصمود في وجه المخالفين ، ومّما جاء في تلك الرسالة : « أبصرت يا عمر..... و ماكدت أعلم يا عمر ، أنّك أدركت من الإسلام خلقاً بالياً ، و رسماً عافياً ، فيا ميّت بين الأموات ، لا ترى أثراً فتتبع ، ولا تسمع صوتاً فتنتفع ، طفئ أمر السنّة ، وظهرت البدعة ، اُخيف العالم فلا يتكلّم ، ولا يعطى الجاهل فيسأل ، و ربّما نجحت الاُمة بالإمام ، و ربّما هلكت بالإمام ، فانظر أيّ الإمامين أنت ، فإنّه تعالى يقول :
________________________________________
1 ـ تأويل مختلف الحديث: ص 28 ط بيروت دار الجيل.
2 ـ مختصر الدول لابن العبري: ص 151. لاحظ كتاب المعتزلة ص 91.
________________________________________
(120)
( وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) فهذا إمام هدى ، ومن اتّبعه شريكان ، وأمّا الآخر: فقال تعالى ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّار وَ يَوْمَ القِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ ) ( القصص: 41 ) ولن تجد داعياً يقول : تعالوا إلى النار ـ إذاً لا يتبعه أحد ـ ولكنّ الدعاة إلى النار هم الدعاة إلى معاصي الله ، فهل وجدت يا عمر حكيماً يعيب ما يصنع ، أو يصنع ما يعيب ، أو يعذّب على ماقضى ، أو يقضي ما يعذّب عليه ، أم هل وجدت رشيداً يدعو إلى الهدى ثمّ يضل عنه ، أم هل وجدت رحيماً يكلّف العباد فوق الطاقة ، أو يعذّبهم على الطاعة ، أم هل وجدت عدلاً يحمل الناس على الظلم و التظالم ، و هل وجدت صادقاً يحمل الناس على الكذب أو التكاذب بينهم؟ كفى ببيان هذا بياناً ، و بالعمى عنه عمى » (1).
و هذه الرسالة الّتي نقلها ابن المرتضى تعرب أوّلاًَ : عن أنّ الرّجل كان ذا همّة قعساء ، و غيرة لا يرضى معها بتدهور الاُمور في المجتمع و رجوعه القهقرى ، أنّه بلغ من الإصحار بالحقيقة أن خاطب خليفة الزمان بما جاء في هذه الرسالة.. وأين كلامه هذا « اُنظر أيّ الإمامين أنت » من كلام مرتزقة البلاط الأموي من حيث تقريظهم للخلفاء والثناء على أعمالهم القبيحة ، ووصفهم بالسير على خطى الرسول محمّد صلَّى الله عليه و آله و سلَّم. هذا هو جرير بن عطية الخطفي يمدح بني اُميّة بقوله:
ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح
و هذه ليلى الأخيلية تمدح الحجّاج بن يوسف بقولها :
إذا هبط الحجاج أرضاً مريضةشفاها من الداء العضال الّذي بها تتبّع أقصى دائها فشفاهاغلام إذا هزّ القناة سقاها
وقال الآخر:
رأيت الوليد بن اليزيد مباركاً شديداً بأعباء الخلافة كاهله
________________________________________
1 ـ المنية والامل ص 25 ـ 26.
(121)
إلى غيرهم من الشعراء والاُدباء الّذين يمدحون الطغاة بشعرهم لابشعورهم ونثرهم لا بعقولهم.
ثانياً : إنّ المتبادر من قوله « أو يعذّب على ما قضى... الخ » إنمّا هو انكار القضاء الدارج في ألسن الأمويين من غلّ الأيدي و جعل الإنسان كالريشة في مهبّ الريح ، وأمّا القضاء بمعنى العلم الأزلي بالأشياء و الحوادث فلم يعرف إنكاره له.
محاكمة غيلان
و من العجب « وما عشت أراك الدهر عجباً » أنّ هشام بن عبدالملك قبض على غيلان الدمشقي فقال له :قد كثر كلام الناس فيك ، فبعث إلى الأوزاعي ، فلمّا حضر قال له هشام : يا أبا عمر ناظر لنا هذا القدريّ ، فقال الأوزاعي مخاطباً غيلان : اختر إن شئت ثلاث كلمات و إن شئت أربع كلمات و إن شئت واحدة. فقال غيلان : بل ثلاث كلمات.
فقال الأوزاعي : أخبرني عن الله عزّ و جلّ هل قضى على مانهى؟
فقال غيلان : ليس عندي في هذا شيء.
فقال الأوزاعي : هذه واحدة. ثمّ قال : أخبرني عن الله عزّ و جلّ أحال دون ماأمر؟
فقال غيلان : هذه أشدّ من الاُولى ، ما عندي في هذا شيء.
فقال الأوزاعي : هذه اثنتان يا أمير الموٌمنين ثمّ قال : أخبرني عن الله عزّ و جلّ هل أعان على ما حرّم؟
فقال غيلان : هذه أشدّ من الاُولى و الثانية ، ما عندي في هذا شيء.
فقال الأوزاعي : هذه ثلاث كلمات. فأمر هشام فضربت عنقه (1).
ثمّ إنّ هشاماً طلب من الأوزاعيّ أن يفسّر له هذه الكلمات الثلاث. فقال
________________________________________
1 ـ لا تنس أن هشاماً قد يمّم قتله قبل القاء القبض عليه وقبل هذه المناظرة المسرحيّة.
________________________________________
(122)
الأوزاعي: أمّا الأوّل فإنّ الله تعالى قضى على ما نهى ، نهى آدم عن الأكل من الشجرة ثمّ قضى عليه بأكلها. أمّا الثاني فإنّ الله تعالى حال دون ما أمر ، أمرإبليس بالسجود لآدم ثمّ حال بينه و بين السجود ، و أمّا الثالث ، فإنّ الله تعالى أعان على ما حرّم ، حرّم الميتة و الدم و لحم الخنزير ، ثمّ أعان عليها بالاضطرار... (1).
يلاحظ على هذه المناظرة:
أوّلاً: أنّ الجهل بهذه الأسئلة الثلاثة لوكان مبرّراً لضرب العنق ، فهشام بن عبدالملك خليفة الزمان أولى بهذا ، لأنّه كان أيضاً جاهلاً بها بدليل استفساره عنها من الأوزاعي. فلماذا لا تضرب عنقه أيضاً؟ وهذا يعرب عن أنّ الحكم بالإعدام كان صادراً قبل المناظرة ، و إنّما كانت المناظرة بين يدي الأوزاعي تبريراً للإعدام حتّى لا يقال إنّ الحكم صدر إعتباطاً.
ثانياً : ما سأله الأوزاعي عنه ثمّ أجاب عنه ، يدل على أنّه كان يمشي على خطّ الجبر ، و أنّه كان معتقداً بأنّ قضاء الله يسلب عن الإنسان الحريّة و الإختيار. فكان أكل آدم من الشجرة بقضاء من الله و ما كان له محيص عن الأكل ، كما أنّ تخلّف إبليس عن السجود كان بقضاء الله و لم يكن له مفرّ عن المعصية. وقد حال سبحانه بينه و بين السجود على آدم ، ومن المعلوم أنّ غيلان الدمشقي و كلّ موحّد يعتقد بصحّة بعث الرّسل و صحّة التكليف ... لا يراه صحيحاً.
ثالثاً : إنّ المناظرة لم تكن مبنيّة على اُصولها. فإنّ من أدب المناظرة أن يطرح السؤال أو الإشكال على وجه واضح ، حتى يتدبّر الآخر فيما يرتئيه المناظر من الجواب ، وأمّا الأسئلة الّتي طرحها الفقيه الأوزاعي فإنّها أشبه بالأحاجى واللّغز ، لا يستفاد منها إلاّ في مواضع خاصّة لاختبار ذكاء الإنسان ، ولم يكن المقام إلاّ مقام السيف والدم لا الإختبار للذكاء.
________________________________________
1 ـ تاريخ المذاهب الاسلاميّة ج 1 ص 127 ـ 128 نقلاً عن العقد الفريد وشرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون.
________________________________________
(123)
وفي حدسي أنّ غيلان الدمشقي قد وقف على نيّة الأوزاعي و أنّه يريد أن يأخذ منه الإعتراف بأحد الأمرين إمّا بالجبر إذا أجاب بمثل ما يريد ، و عندئذ يكون مناقضاً لعقيدته.
وإمّا بالاختيار و الحريّة فيكون محكوماً بالإعدام و ضرب العنق. فاختار السكوت و عدم الإجابة حتّى يتخلّص من كلتا المغبّتين. وما كان المسكين عارفاً بأنّ الحكم بالإعدام قد سبق السؤال والجواب ، وهذه المناظرة مناظرة مسرحيّة رُتّبت لتبرير إراقة دمه تحت غطاء السؤال و الجواب.
هذا وقد قام بعض المعنيّين بالملل والنحل ، بنشر ما وصل إليه من الوثائق عن بدايات علم الكلام في الاسلام ، فنشر ضمن مجموعةِ رسالتين : رسالة الحسن بن محمّد ابن الحنفيّة في القدر ، و رسالة عمر بن عبدالعزيز فيه أيضاً. وسيوافيك الكلام حولهما في آخر المطاف.
وللكتاب ملحق يهدف إلى تبيان بعض القضايا المتعلّقة بشخصيّة من شخصيات القدريّة المفكّرين وهو غيلان الدمشقي ، وخاصة تلك القضايا المتعلّقة بحياته وإعدامه في زمن خلافة هشام بن عبدالملك ( 125 ).
قال محقّق الكتاب : وتدلّ معظم الروايات على أنّها أقاصيص موضوعة اختلقتها رواتها ليبرهنوا على أنّ غيلان كان خارجاً عن الجماعة ، و أنّ حججه كانت غير مقنعة ، وأنّ السلطة السياسيّة كانت على حقّ عندما أعدمته. و هذا كلّه مما يجعل استخلاص ما حدث على وجه الدقّة أمراً صعباً ، على أنّني حاولت توضيح الأمر بمعلومات استقيتها من كتاب « أنساب الأشراف » للبلاذري ، بالاضافة إلى المصادر الاُخرى (1).
________________________________________
1 ـ بدايات علم الكلام في الاسلام: رسالتان في الرد على القدرية مع ملحق في أخبار غيلان الدمشقي حققها وترجمها وعلّق عليها يوسف فان اسّ نشرها المعهد الالمائي للأبحاث الشرقية في بيروت. وقد وقفنا على تصوير الرسالتين الاوليين دون الملحق واكتفينا ببيان كلام المحقّق.
________________________________________
(124)
خاتمة المطاف
قد تكرّر لفظ « القدريّة » في كلمات أهل الحديث و المتكلّمين و مؤلّفي الفرق والملل والنحل ، ورويت حولها أحاديث وهي إحدى المصطلحات الدارجة بينهم ، وتحاول كلّ طائفة أن تتبّرأ منها وتتّهم مخالفها بها. ولأجل إكمال البحث نتحدّث عن سند الحديث أوّلاً ، ودلالته ثانياً على وجه الإجمال ، وإليك متن الحديث بصوره:
1 ـ روى أبو داود عن عبدالله بن عمر أنّ رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال : « القدريّة مجوس هذه الاُمّة إن مرضوا فلا تعودوهم و إن ماتوا فلا تشهدوهم ».
2 ـ وروى أيضاً عن عبدالله بن عبّاس (1) أنّ النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: « لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم ».
3 ـ روى الترمذي عن عبدالله بن عبّاس قال : قال رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم:
« صنفان من اُمّتي ليس لهم في الإسلام نصيب: المرجئة ، و القدرية » (2).
إذا عرفت متن الحديث فإنّ الكلام يقع في موردين:
الأوّل: في سند الحديث. فهل روي بسند صحيح يمكن الاحتجاج به أو لا؟
الثاني: فما هو المقصود من القدريّة على فرض صحّته؟
أمّا من ناحية السند ، فيكفي في ضعف الأوّل ما قاله المنذري: « إنّه منقطع لأنّه يرويه سلمة بن دينار عن ابن عمر ، ولم يدركه ، وقد روى عن ابن عمر من طرق لا يثبت منها شيء ».
و يكفي في ضعف سند الثاني وجود « حكم بن شريك الهذلي البصري » فيه وهو مجهول لم يعرف.
________________________________________
1 ـ كذا في جامع الاُصول ولكن في سنن أبي داود ، « عمر بن الخطاب » مكان « عبد الله بن عباس » ، لاحظ: ج 4 ، ص 228 ، الحديث 4710.
2. جامع الاُصول: ج 10 ص 526.
________________________________________
(125)
و في ضعف سند الثالث وجود « محمّد بن فضيل بن غزوان » وهو ضعيف (1).
أضف إلى ذلك أنّ جمعاً من الحفّاظ عدّوا أصل الحديث من الموضوعات. منهم سراج الدين القزويني قال: إنّه موضوع و تعقّبه ابن حجر (2).
و قال أبوحاتم: « هذا الحديث باطل » ، وقال النسائي: « هذا الحديث باطل كذب » ، وقال ابن الجوزي: « حديث لعن القدريّة لا شكّ في وضعه » (3).
هذا وضع السند ، وأمّا الدلالة ، فقد اختلف النّظر في مفاده ، كلّ من المجبّرة والعدليّة يتبرّأ منه ، ويريد تطبيقه على خصمه. فأهل الحديث و الحشويّة والسلفيّة والأشعريّة الّذين يتّسمون بسمة الجبرالجليّ أو الخفيّ ، يفسّرون القدريّة بنفاة القدر ، من باب إطلاق الشيء و إرادة نقيضه ، والمعتزلة و أسلافهم ، أعني دعاة الحريّة و الاختيار يتّهمون الجبرية بالقدريّة ، لأنّهم قائلون بالقدر و التقدير ، وأنّ كل شيء يتحقّق بتقدير من الله سبحانه و لا محيص عمّا قدّر وقُضي.
وهناك كلمة للعلاّمة محمّد بن علي الكراجكي ( م 449 ) من تلاميذ الشيخ المفيد لا بأس بنقلها ، قال : « ولم نجد في أسماء الفرق ما ينكره أصحابه و يتبرّأ منه سوى القدرية ».
فأهل العدل يقولون لأهل الجبر : أنتم « القدريّة » ، وأهل الجبر يقولون لأهل العدل: « أنتم القدريّة » ، و إنّما تبرّأ الجميع من ذلك لأنّهم رووا ـ من طريق أبي هريرة ـ عن النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أنّه لعن القدرية وقال : « إنّهم مجوس هذه الاُمّة إن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تشهدوهم » (4).
وقد حاول الأشعري تطبيق الحديث على المعتزلة وقال : « زعمت القدريّة ـ يريد بها المعتزلة وأسلافهم ـ أنّا نستحقّ اسم القدر ، لأنّا نقول: إنّ الله عزّ و جلّ قدّر الشرّ
________________________________________
1 ـ جامع الاُصول: ج 10 ص 526.
2 ـ جامع الاُصول: ج 10 ص 526.
3 ـ الموضوعات لابن الجوزي: ج 1 ص 275 ـ 276 واللئالي المصنوعة للسيوطي ، ج 1 ، ص 258.
4 ـ كنز الفوائد: ج 1 ص 123 ط بيروت.
________________________________________
(126)
والكفر ، فمن يثبت القدر كان قدريّاً دون من لم يثبته ».
ثمّ أجاب عن استدلال المعتزلة وقال : « القدريّ من يثبت القدر لنفسه دون ربّه عزّ و جلّ ، وأنّه يقدّر أفعاله دون خالقه ، وكذلك هو في اللّغة ، لأنّ الصائغ هو من زعم أنّه يصوغ دون من يقول إنّه يصاغ له ، فلمّا كانت المعتزلة تزعم أنّهم يقدّرون أعمالهم ويفعلونها دون ربّهم ، وجب أن يكونوا قدريّة ، ولم نكن نحن قدريّة لأنّا لم نضف الأعمال إلى أنفسنا دون ربّنا ولم نقل : إنّا نقدّرها دونه. قلنا إنّك تقدّر لنا » (1).
يلاحظ عليه: أنّ القضاء و القدر من الكلمات الواردة في الكتاب والسنّة بكثرة. والفاعل في الجميع هو الله سبحانه و تعالى ، لا الإنسان قال تعالى : ( والّذي قدّر فهدى ) ( الأعلى ـ 3 ) وقال : ( إنّا كلّ شيء خلقناه بقدر ) ( القمر / 49 ). فلو أطلق « القدريّة » يراد به المعتقد لما جاء في المصدرين من قضاء الله و قدره ، لا المعتقد بأنّ الإنسان هو الّذي يقدّر أفعاله و أعماله.
وأعجب من ذلك قياسه اسم الفاعل على المصادر المنسوبة ، فالأوّل كالصائغ يراد منه الفاعل أي من يصوغ ، دون الثانية. بل يراد منها المعتقد بالمصدر الّذي نسب إليه ، كالجبريّة : من يعتقد بالجبر ، والعدليّة : من يعتقد بالعدل ، وهكذا.
ثمّ إنّ هنا محاولات اُخرى لأجل تطبيق الحديث على عقيدة دعاة الحريّة والاختيار غير ما عرفته من كلام الأشعري من أنّ الإنسان هو المقدّر لأعماله ، كما عرفت ضعفه وإليك بيانها:
1 ـ القدريّة منسوبة إلى « القدرة » بمعنى الاستطاعة ، فمن قال بتأثير قدرة الإنسان في فعله و أنّها المصدر له ، فهو قدريّ.
يلاحظ عليه: أنّه لو صحّ هذا الوجه لوجب ضمّ الفاء دون فتحها ، والمشهور هو الأوّل ولم يسمع الثاني.
________________________________________
1 ـ الابانة: ص 146.
________________________________________
(127)
أضف إليه أنّ المناسب على هذا الوجه هو التعبير « بالقادرية » لا « القدرية » بضمّ الفاء الّذي هو غير مأنوس للأذهان و الأفهام.
2 ـ إنّ الحديث من باب إطلاق الشيء و إرادة نقيضه ، أي نفاة القدر و منكروه ، وسيأتي في حديث أحمد ما يوافق ذلك.
يلاحظ عليه: أنّه لم ير مثله في أمثالها ، فلا تطلق الجبريّة ، ولا العدليّة على نفاة الجبر والعدل.
أضف إليه أنّه لم يظهر من هؤلاء ـ أعني معبداً الجهني ولا غيلان الدمشقي ـ إنكار التقدير بالمعنى الصحيح ، غير المنافي للحريّة والاختيار ، فإذا أردنا أن نعرف مذهبهم في مجال القضاء و القدر ، فيلزم علينا الرجوع إلى مذهب خصومهم ، فإنّ الاُمور تعرف بأضدادها ، و حاشا أن يكون المسلم الواعي منكراً للقضاء والقدر الواردين في الكتاب و السنّة ، غير السالبين للاختيار و الحريّة ، غير المنافيين لصحّة التكليف و بعث الرسل. و إنّما أنكروا القدر بالمعنى الّذي كان البلاط و مرتزقته ينتحلونه لتبرير أعمالهم الإجراميّة ، ولا يرون للإنسان ولا لأنفسهم أيّة مسؤوليّة فيها ، و يرفعون عقيرتهم بأنّ كلّ ما في الكون من خير و شرّ ، وكظّة وسغب ، إنّما يرجع إلى إرادته سبحانه. فلايصحّ الاعتراض على جوع المظلوم و شبع الظالم. وهؤلاء الأحرار قد قاموا في وجهالأمويين وأنكروا القدر بهذا المعنى الّذي يعرّف الإنسان كالريشة في مهبّ الريح.ونفي القدر بهذا المعنى ، غير نفيه بالمعنى الصّحيح سواء فسّر بالعلم والارادة الأزليين ، أم بتقدير الأشياء و القضاء على وجودها و تقدير الإنسان بينهما موجوداً مختاراً مسؤولاً عن فعله ، والقضاء على ما يصدر منه بهذه الصورة على ما أوضحناه في محلّه.
3 ـ ما نقله الشيخ أبو زهرة عن الشيخ مصطفى الصبري شيخ إسلام ( تركيا ) السابق وهو مقاربة رأيهم بعض عقائد المجوس ، فالمجوس ينسبون الخير إلى الله والشرّ إلى الشيطان و كذلك هؤلاء القدريّة يفرقون بين الخير و الشر فيسندون الخير إلى الله
________________________________________
(128)
والشرّ إلى الشيطان (1).
يلاحظ عليه: أنّ نسبة الثنوية بالمعنى الّذي ذكره شيخ إسلام تركيا إلى المعتزلة رجم بالغيب ، فإنّ المعروف من مذهب المعتزلة فضلاً عن أسلافهم هو نسبة الخير و الشرّ إلى الإنسان نفسه لا التّفريق بينهما.
وهذا كلام قاضي القضاة عبد الجبّار ، يمنع بتاتاً عن انتساب فعل الإنسان إلى الله خيره و شرّه و يقول : « إنّ أفعال العباد لا يجوز أن توصف بأنّها من الله و من عنده و من قبله ، وذلك واضح ، فإنّ أفعالهم حدثت من جهتهم و حصلت بدواعيهم و قصودهم ، واستحقّوا عليها المدح و الذّم ، والثواب و العقاب فلو كانت من جهته تعالى أو من عنده أو من قبله لما جاز ذلك ... » (2).
هذا بعض الكلام حول الحديث و مفاده و من أراد البسط والاستيعاب فعليه المراجعة إلى « شرح الاُصول الخمسة ص 772 ـ 778 ، وشرح التجريد للعلاّمة الحلّي ، ص 196 ، ط صيدا و شرح المقاصد للتفتازاني ج 2 ، ص 122 والتمهيد للباقلاني الفصل الثامن والعشرين ».
ولو أنّ الرّسول يعدّ القدريّة في هذا الحديث مجوس هذه الاُمّة ، ففي بعض ما روي عن ابن عمر عن الرسولصلَّى الله عليه و آله و سلَّم عدّت نفاة القدر مجوس الاُمّة ، وإليك نزراً منه:
روى أحمد في مسنده عن ابن عمر عن النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أنّه قال : « لكلّ أُمّة مجوس ، ومجوس أُمّتي الّذين يقولون لا قدر ، إن مرضوا فلا تعودوهم و إن ماتوا فلا تشهدوهم » (3).
وروى الترمذي و أبو داود عن نافع مولى ابن عمر أنّ رجلاً جاء ابن عمر فقال: « إنّ فلاناً يقرأ عليك السلام ، فقال ابن عمر : بلغني أنّه قد أحدث التكذيب بالقدر ،
________________________________________
1 ـ تاريخ المذاهب الاسلاميّة: ج 1 ص 124.
2 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 778.
3 ـ مسند أحمد: ج 2 ص 86.
________________________________________
(129)
فإن كان قد أحدث فلا تقرأ مني السّلام فإنّي سمعت رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم يقول : « ويكون في هذه الأُمّة ، أو في أمّتي ـ الشكّ منه ـ خسف و مسخ و ذلك بالمكذّبين بالقدر » (1).
ولا يخفى وجود التعارض الصّريح بين كون القدريّة مجوس الاُمّة ، و كون نافي القدر مجوسها. و تفسير الأوّل بنفاة القدر تفسير بلا دليل ، بل تفسير على خلاف اللّغة والعرف.
و يكفي في ضعف الحديث الثاني أنّه وقع التكذيب و صدر الشك في القدر في العصور الماضية ، ولم يعمّ الخسف والمسخ للمكذّبين و الشاكّين فيه.
إنّ السابر في كتب الحديث والتاريخ والملل والنحل يرى العناية التامّة من أصحاب الحديث و غيره لمسألة القدر. و قد كانت تحتلّ في تلك العصور ، المكانة العليا بين المسائل العقيديّة حتّى كان مدار الإيمان و الكفر فكان المثبت مؤمناً و النافي كافراً.
هذا مع أنّ الرسول الأعظمصلَّى الله عليه و آله و سلَّم كان يقبل إسلام آلاف القائلين بالشهادتين من دون أن يسألهم ولو في مورد عن القضاء والقدر ، وأنّه هل يعتقد القائل ، بأنّ الله سبحانه يقدّر أفعال الإنسان و أعماله ، فيحكم عليه بالإسلام أو لا ، فيحكم عليه بالكفر.
إذن فما معنى هذه العناية الحادثة بعد رحلة الرسولصلَّى الله عليه و آله و سلَّم بهذه المسألة؟
أليس هذا يدفع الإنسان إلى القول بأنّها كانت مسألة مستوردة ، زرعها الأحبار والرّهبان ، وغذّتها السلطة الأموية و... وبالتالي شقّ بها عصا المسلمين و صاروا يكفّر بعضهم بعضاً.
هذا و إنّ الشيخ البخاري يروي عن رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم أنّه قال : « بني الإسلام على خمس ، شهادة أن لا إله إلاّ الله و أنّ محمّداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزّكاة والحجّ وصوم رمضان » (2).
________________________________________
1 ـ جامع الاُصول: ج 10 ص 526 ـ 527.
2 ـ صحيح البخاري: ج 1 ص 7 من كتاب الايمان.
________________________________________
(130)
وروى عبادة بن الصامت و كان شهد بدراً و هو أحد النقباء ليلة العقبة: أنّ رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال ـ وحوله عصابة من أصحابهـ : « بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً و لا تسرقوا و لا تزنوا و لا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم و أرجلكم ولا تعصوا في معروف ، فمن وفّى منكم فأجره على الله و من أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدّنيا فهو كفّارة له ، و من أصاب من ذلك شيئاً ثمّ ستره الله ، فهو إلى الله إن شاء عفا عنه و إن شاء عاقبه » فبايعناه على ذلك (1).
فلو كان للاعتقاد بالقدر ، تلك المكانة العظمى ، فلماذا لم يذكره رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّمولو في مورد ، ولماذا تركه سبحانه عند أمره رسوله بأخذ البيعة عن النساء؟ (2)
كلّ ذلك يشرف الإنسان على القطع بأنّ البحث عن القدر و المغالاة فيه ، كان بحثاً سياسياً وراء ه غاية سياسية لأصحاب السلطة و الإدارة. و إلاّ فلا وجه لأن يتركه الوحي في أخذ البيعة عن النساء. ولا الرسول الاكرمصلَّى الله عليه و آله و سلَّم في عرض الإسلام و تبيينه وقبوله من الآلاف المؤلفة من المتشرفين بالإسلام.
رسائل ثلاث حول القدر
ولو طلب القارئ الكريم التعرّف على التشاجر الّذي كان قائماً على قدم و ساق في بيان معنى القدر و أنّه ماذا كان يراد منه ، وأنّه هل كان الاعتقاد به يوم ذاك ملازماً للجبر أو لا؟ فعليه بدراسة ثلاث رسائل في هذا المجال ، تعدّ من بدايات علم الكلام في الإسلام وقد نشرت تلك الرسائل حديثاً وهي:
1 ـ الرسالة المنسوبة إلى الحسن بن محمّد بن الحنفيّة ، والرسالة كتبت بايحاء من الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان ( م 86 هـ ) و يرجع تأريخ تأليفها إلى عام 73 هـ فيكون أقدم رسالة في هذا المجال إن صحّت النسبة إليه.
________________________________________
1 ـ صحيح البخاري: ج 1 ص 8 ـ 9 من كتاب الايمان.
2 ـ الممتحنة / 12.
(131)
2 ـ ما كتبه الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز ( م 101 هـ ) إلى بعض القدريّة المجهول الهوية وقد جاء القدر في الرسالتين مساوقاً للجبر. وقد فرض الحاكم الأموي قدريّاً ينكر علمه سبحانه الأزلي بالأشياء و أفعال العباد ، فيردّ عليه بحماس على نحو يستنتج منه الجبر ، والرسالة جديرة بالقراءة حتّى يعلم أنّ الأمويين من صالحهم إلى طالحهم كيف شوّهوا الإسلام ، وصاروا أصدق موضوع لقول القائل « ولولاكم لعمّ الإسلام العالم كلّه ».
وقدنشرت هذه الرسالة بصورة مستقلّة. وطبعت ضمن ترجمة عمر بن عبدالعزيز في كتاب حلية الأولياء ج 5 ص 346 ـ 353.
3 ـ ما كتبه الحسن بن يسار المعروف بالحسن البصري ( م 110 هـ ) حيث إنّ الحجّاج بن يوسف كتب إلى الحسن: « بلغنا عنك في القدر شيء » فكتب إليه رسالة طويلة ذكر أطرافاً منها ابن المرتضى في المنية و الأمل ص 13 ـ 14.
قال الشهر ستاني : « ورأيت رسالة (1) نسبت إلى الحسن البصري كتبها إلى عبدالملك ابن مروان و قد سأله عن القول بالقدر والجبر. فأجابه فيها بما يوافق مذهب القدريّة واستدلّ فيها بآيات من الكتاب و دلائل من العقل. وقال: ولعلّها لواصل بن عطاء فما كان الحسن ممّن يخالف السلف في أنّ القدر خيره و شرّه من الله تعالى. فإنّ هذه الكلمات كالمجمع عليها عندهم. والعجب أنّه حمل هذا اللّفظ الوارد في الخبر على البلاء و العافية ، والشدّة والرخاء ، والمرض والشفاء ، والموت والحياة ، إلى غير ذلك من أفعال الله تعالى دون الخير والشرّ ، والحسن والقبيح ، الصادرين من اكتساب العباد. وكذلك أورده جماعة من المعتزلة في المقالات عن أصحابهم » (2).
ولا وجه لما احتمله من كون الرسالة لواصل ، إلاّ تصلّبه في مذهب الأشعري و أنّ فاعل الخير والشر مطلقاً ـ حتّى الصادر من العبد ـ هو الله سبحانه دون العبد ، ومن
________________________________________
1 ـ نقل القاضي عبد الجبار نصّ الرسالة في كتابه « فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة » ص 215 ـ 223.
2 ـ الملل والنحل ج 1 ص 47 ، لاحظ نصّ الرسالة في الجزء الأوّل من هذه الموسوعات ثمّ اقض.
________________________________________
(132)
كان هذا مذهبه ، يستبعد أن ينسب ما في الرسالة إلى الحسن البصري ـ ذلك الإمام المقدّم عند أهل السنّة ـ.
وأمّا على المذهب الحقّ من أنّ الفاعل الحقيقي لأفعال الإنسان هو نفسه ، لا على وجه التفويض من الله إليه ، بل بقدرة مفاضة منه إليه في كلّ حين ، واختيار كُوِّنت ذاته به ، و حريّة فطرت بها فالفعل فعل الإنسان ، وفي الوقت نفسه فعل الله تسبيباً ، بل أدقّ وأرقّ منه كما حقّق في محلّه.
وأخيراً نلفت نظر القارئ إلى ما كتبه كافي الكفاة الصاحب إسماعيل بن عبّاد ( ت: 326 ـ م ـ 385 ) في الردّ على القدريّة أسماها « الابانة عن مذهب أهل العدل بحجج القرآن والعقل ».
وبما أنّ هذه الرّسالة طريفة في بابها نأتي بنصّ ما يخصّ بردّ القدريّة ، ويريد من هذه اللّفظة القائلين بالقدر على وجه يستلزم الجبر و إليك نصّها:
رسالة الصاحب في الرد على القدريّة ( المجبّرة )
زعمت المجبّرة القدريّة : أنّ الله يريد الظلم والفساد ، ويحبُّ الكفر والعدوان ، ويشاء أن يشرك به ولا يعبد ، ويرضى أن يجحد و يسبّ و يشتم ، وقالت العدليّة : بل الله لا يرضى إلاّ الصّلاح و لا يريد إلاّ الاستقامة والسّداد ، وكيف يريد الفساد و قد نهى عنه و توعّد ، وكيف لا يريد الصّلاح و قد أمر به ودعا إليه ، ولو لم يفعل العباد إلاّ ما أراد الله تعالى لكان كلّهم مطيعاً لله تعالى ، فإن كان الكافر قد فعل ما أراد منه مولاه فليس بعاص ، وأطوع ما يكون العبد لمولاه إذا فعل ما يريده ، وأيضاً فليس بحكيم من أراد أن يشتم ، ولم يرد أن يعظّم ، ورضى أن تجحد نعمه ، وأحبّ أن لا تشكر مننه ، قال الله تعالى : ( وَمَا اللّهُ يُريدُ ظُلماً لِلْعِبادِ ) (1) وقال تعالى : ( ولا يَرضى لِعبَادِهِ الكُفْرَ ) (2)
________________________________________
1 ـ المؤمن / 31.
2 ـ الزمر / 9.
________________________________________
(133)
وقال تعالى : ( وَاللّهُ لا يُحِبُّ الفَسَادَ ) (1) وقال تعالى في تكذيب من زعم أنّ الكفّار كفروا بمشيئة الله : ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَ لاآبَاؤُنَا وَ لا حَرَّمْنَا مِنْ شَيء كَذَلِكَ ـ إلى قوله ـ و إِنْ أَنْتُمْ إلاّ تَخْرُصُونَ ) (2) أي تكذبون.
فإن قالوا : وقال الله ( وَمَا تَشَاءُونَ إلاّ أَنْ يَشَاءَ اللّهُ ) (3) فقل: هذه الآية وردت على الخير دون الشرّ. وقال تعالى : ( لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إلاّ أَنْ يَشَاءَ اللّهُ (4) ) وقال تعالى في سورة اُخرى: ( فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً * وَ مَا تَشَاءُونَ إلاّ أنْ يَشَاءَ اللّهُ ) (5).
فإن قالوا : لو أراد من العبد شيئاً ولم يفعل لكان العبد قد غلبه ، فهذا ينقلب في الأمر ، لأنّه قد خولف ولم يكن مغلوباً ، وكذلك الارادة. ألا ترى إلى من قال و أراد من مملوك شيئاً ولم يفعله ، وأمر آخر بفعل فخالف لكان المخالف في الأمر أعظم في النفوس عصيانا ، كلاّ...بل هو الغالب ، و إنّما أمهل العصاة حلماً ولم يجبرهم على الإيمان ، لأنّ المكره لا يستحقّ ثواباً ، بل أزاح عللهم ، وأقدرهم و أمكنهم ، فمن أحسن فإلى ثوابه ، ومن أساء فإلى عقابه ، ولو شاء لأكرههم على الإيمان أجمعين كما قال تعالى: ( وَلَو شَاءَ رَبُّكَ لاَمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتّى يَكُونُوا مُؤْمِنينَ ) (6) وكقوله تعالى: ( وَلَو شِئْنَا لاََتَيْنَا كُلَّ نَفْس هُداهَا ـ إلى قوله ـ أَجْمَعِينَ ) (7) وقال تعالى: ( لاإِكْرَاهَ فِي الدّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ ) (8).
وزعمت القدريّة: أنّ الله تعالى خالق الكفر و فاعله ، و منشئ الزنا و مخترعه ومتولّي القيادة و موجدها ، ومبتدع السرقة و محدثها ، و كلّ قبائح العباد من صنعته ، وكلّ تفاوت فمن عنده ، وكلّ فساد فمن تقديره ، وكلّ خطأ فمن تدبيره.
فإن قالوا على سبب التلبيس : إنّ العبد يكتسب ذلك ، فإذا طولبوا بمعنى
________________________________________
1 ـ البقرة / 205.
2 ـ الأنعام / 148.
3 ـ الدهر / 30.
4 ـ التكوير / 28 ـ 29.
5 ـ الدهر / 29 ـ 30.
6 ـ يونس / 99.
7 ـ السجدة / 13.
8 ـ البقرة / 256.
________________________________________
(134)
الكسب لم يأتوا بشيء معقول ، وقالت العدليّة: معاذالله أن يكون فعله إلاّ حكمة و حقّاً ، وصواباً وعدلاً ، فالزنا فعل الزاني انفرد بفعله ، فكلّ قبيح منسوب إلى المذموم به ، و إنّما تولّى المذمّة العاصي ، إذ باع الآخرة بالدُّنيا ، ولم يعلم أنّ ما عندالله خير وأبقى ، ولو كان قد خلق أعمال العباد لما جاز أن يأمر بها وينهاهم عنها كما لم يجز أن يأمرهم بتطويل جوارحهم و تقصيرها ، إذ خلقها على ما خلقها ، ولو خلق الكفر لما جاز أن يعيب ما خلق ، ولو كان فاعل الكفر لما جاز أن يذمّ و يعيب ما خلق و يذمّ مافعل ، ولو كان مخترعَ الفساد لما جاز أن يعاقب على ما اخترع ، ولا تنفكّ القبائح من أن تكون من الله تعالى فلا حجّه على العبد ، أو من الله و من العبد فمن الظلم أن يفرده بعقاب ما شارك في فعله ، أو من العبد فهو يستحقّ العقاب ، وقال تعالى : ( يَلْوون أَلْسِنَتَهُمْ بِالكِتَابِ ـ إلى قوله ـ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (1) ) فلو كان لوي ألسنتهم من خلق الله تعالى لما قال: ( وما هو من عند الله ) (2).
وبعد ، فالكفر قبيح و أفعال الله حسنة ، فعلمنا أنّ الكفر ليس منها ، و هكذا أخبر تعالى بقوله : ( الّذي أحْسَنَ كُلَّ شَيْء خَلَقَهُ ) (3) وقوله تعالى: ( صُنْعَ اللّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء (4) ).
فإن سألوا عن قوله تعالى: ( وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَ مَا تَعْمَلُونَ ) (5) فقل: هذه الآية لو تلوتم صدرها لعلمتم أن لا حجّة لكم فيها ، لأنّه تعالى أراد بالأعمال هيهنا الأصنام ، والأصنام أجساد ، وليس من مذهبنا أنّا خلقنا الأصنام ، بل الله خلقها ، ألا ترى أنّه قال تعالى : ( أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَ مَا تَعْمَلُونَ ) (6).
فإن قالوا: ( لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْأَلُونَ ) (7) فقل: إنّه أدلّ على العدل ، لأنّ العباد يُسألون عن أفعالهم لما كان فيها العبث و الظلم والقبيح ، والله تعالى لمّا كانت أفعاله كلّها حسنة لا قبيح فيها ، وعدلاً لا ظلم معها ، تنزّه عن أن يسأل ، ولم يرد بهذا ما
________________________________________
1 ـ آل عمران / 78.
2 ـ آل عمران / 78.
3 ـ السجدة / 7.
4 ـ النمل / 88.
5 ـ الصافات / 96.
6 ـ الصافات / 95 ـ 96.
7 ـ الأنبياء / 23.
________________________________________
(135)
تريده الفراعنة إذ قالت لرعيّتها: وقد سألناكم فلا تسألونا لم أظلمكم وأفسقكم ( كذا ) ، كلاّ... فإنّه تعالى لم يدع للسؤال موضعاً بإحسانه الشامل ، وعدله الفائض ، ولولا ذلك لم يقل: ( لئلا يكون للنّاس على الله حجّة بعد الرسل ) (1) فنحن نقول: إنّ أفعالنا الصالحة من الله ليس بمعنى أنّه فعلها ، وكيف يفعلها و فيها خضوع وطاعة ، والله تعالى لا يكون خاضعاً ولا مطيعاً ، بل نقول: إنّها منه ، بمعنى أنّه مكّن منها ، ودعا إليها وأمر بها و حرّض عليها ، و نقول: إنّ القبائح ليست منه لأنّه نهى عنها ، وزجر وتوعّد عليها ، وخوّف منها و أنذر ، ونقول: إنّها من الشيطان بمعنى أنّه دعا إليها و أغوى ، و مَنّى في الغرور ( وَمَا رَبُّكَ بِظَلاّم لِلْعَبِيدِ (2) ) ( أنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَ الإحْسَانِ ـ إلى قوله ـ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (3) و قال تعالى في صفة الشيطان: ( يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلاّ غُرُوراً ) (4).
فإن قالوا: فقد قال تعالى: ( كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ) (5) قلنا: معنى الآية غير ما قدّرت ولو قدّرتها كما نقدّر لعلمت أن لا حجّة فيها لك ، لأنّه تعالى يقول: ( وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هِذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ـ إلى قوله ـ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ) (6) فإنّما هذا في الكفّار حيث تطيّروا بنبيّ الله ـ عليه السلام ـ وكانوا إذا أتاهم الخصب يقولون هذا من عندالله و إذا أتاهم الجدب يقولون: هذا من عندك ، كما قال تعالى: ( وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةً يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ ـ إلى قوله ـ لا يَعْلَمُونَ ) (7) فبيّن الله تعالى أنّ ذلك كلّهـ يعني الخصب والجدب ـ من عنده ، إلاّ أنّه لم يقل: و إن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندنا على ما تذكره المجبّرة وقد دلّ الله على بطلان قولهم: ( مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَة فَمِنَ اللّهِ وَ مَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَة فَمِنْ نَفْسِكَ ) (8).
وزعمت المجبّرة القدريّة أنّ الله خلق أكثر العباد للنّار ، وخلقهم أشقياء بلا ذنب
________________________________________
1 ـ النساء / 165.
2 ـ فصلت / 46.
3 ـ النحل / 90.
4 ـ النساء / 120.
5 ـ النساء / 78.
6 ـ النساء / 78.
7 ـ الاعراف / 131.
8 ـ النساء / 79.
________________________________________
(136)
ولا جرم ، وغضب عليهم و هو حليم من غير أن يغضبوه ، وخذلهم من قبل أن يعصوه ، وأضلّهم عن الطّريق الواضح من غير أن خالفوه ، وقالت العدليّة: خلق الله الخلق لطاعته ، ولم يخلقهم لمخالفته ، وأوضح الدّلالة والرّسل لصلاح الجماعة ، ولم يضلّ عن دينه و سبيله.
وكذا أخبر بقوله تعالى: ( وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَ الإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُون ) (1) وكيف يمنع إبليس من السّجدة ثمّ يقول: ( مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (2).
فإن سألوا عن قوله تعالى: ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الجِنَّ وَ الإنْسِ ) (3) قيل: « لام العاقبة » معناها أنّ مصيرهم إلى النار ، كما قال تعالى: ( فَالتَقَطَهُ آلُ فِرْعَونَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَ حَزَناً ) (4) و إن كانوا التقطوه ليكون لهم قرّة عين ، وقد بيّن ذلك بقوله تعالى: ( وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَونَ قُرَّتُ عَيْن لِي وَلَكَ ) ـ إلى (5) آخرهـ وكذلك الجواب بقوله تعالى: ( أنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إثْماً ) (6).
وزعمت المجبّرة القدريّة أنّ الله يضلّ أكثر عباده من دينه ، فأنّه ما هدى أحداً من العصاة إلى ما أمرهم به ، وأنّ الأنبياء ( عليهم السلام ) أراد الله ببعثهم الزيادة في عمى الكافرين ، و قالت العدليّة: أنّ الله لا يضلّ عن دينه أحداً ، ولم يمنع أحداً الهدى الّذي هو الدلالة ، وقد هدى ومن لم يهتد فبسوء اختياره غوى. قال الله تعالى: ( وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا العَمَى عَلَى الهُدَى ) (7) على أنّا نقول أنّ الله يضلّ من شاء ويهدي ، و أنّه يضلّ الظالمين عن ثوابه وجنّاته ، وذلك جزاء على سيئاتهم ، وعقاب على جرمهم ، قال الله تعالى: ( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلاّ الفَاسِقِينَ ـ إلى قوله ـ أُولئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ ) (8) فأمّا الضلال عن الدين فهو فعل
شياطين الجنّ والإنس ، ألا ترى أنّ الله تعالى ذمّ عليهم فقال: ( وَأَضَلَّهُمُ السّامِرِيُّ ) (9) وقد حكى عن أهل النّار أنّم يقولون:
________________________________________
1 ـ الذاريات / 56.
2 ـ ص / 75.
3 ـ الأعراف / 179.
4 ـ القصص / 8.
5 ـ القصص / 9.
6 ـ آل عمران / 178.
7 ـ فصلت / 16.
8 ـ البقرة / 26 ـ 27.
9 ـ طه / 85.
________________________________________
(137)
( وَمَا أَضَلَّنَا إلاّ المُجْرِمُونَ ) (1) وما يقولون: وما أضلّنا إلاّ ربّ العالمين.
وقالت المجبّرة القدريّة: أنّ الله كلّف العباد ما لا يطيقون ، وذلك بادّعائها أنّ الله خلق الكفر في الكفّار ، ولا يُقدرهم على الإيمان ثمّ يأمرهم به ، فإذا لم يفعلوا الإيمان الّّذي لم يُقدره عليهم ، وفعلوا الكفر الّذي خلقه فيهم ، وأراده منهم ، وقضاه عليهم ، عاقبهم عذاباً دائماً.
وقالت العدليّة : معاذالله! إنّ الله لايكلّف العباد ما لايتّسعون له ( الوسع: دون الطاقة ) إذ تكليف ما لا يطاق ظلم و عبث ، و أنّه لا يظلم ولا يعبث ولو جاز أن يكلّف من لا يُقدره على الإيمان لجاز أن يكلّف من لا مال له باخراج الزّكاة ، وأن يكلّف المُقعد بالمشي والعدو وقال تعالى: ( لايكلّف الله نفساً إلاّ وسعها ) (2) فهو لايكلّف من لا يستطيع قبل الفعل أن يفعل ، قال تعالى: ( ولله عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إليهِ سبِيلاً ) ـ إلى آخره (3) ـ فهو يأمر بالحجّ قبل الحجّ ، فكذلك استطاعته قبل أن يحجّ ، ولو لم يستطيعوا الإيمان لم يقل لهم: ( فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ) (4) ولو نصرهم على الإفك لم يقل: ( فَأَنّى يُؤْفَكُونَ ) (5).
و ادّعت المجبّرة أنّ الأقدار المذمومة حتم من الله ، ونفيناها عنه سبحانه ، لأنّ تقديره لا يكون باطلاً ولا متناقضاً ، فلمّا وجدنا الأشياء المتناقضة الباطلة علمنا أنّه لا يقدّرها و كفى القدريّة إذا أثبتوا ما تنازعنا فيه و نفيناه ، ولو جاز لجاز أن يكون من ينفي التنصّر نصرانيّاً ، ومن ينفي التهوّد يهوديّاً.
فإن قالوا: إنّكم أثبتّم ذلك لأنفسكم ، ومثبت الشيء لنفسه أولى ممّن ينسبه إليه ، فالجواب: أنّ التنازع بيننا لم يقع في كوننا قادرين ، فأنّما تنازعنا في أنّ الأقدار المذمومة تثبت لله سبحانه و تعالى أوينزّه عنها ، فأثبتوها إن كنتم قدريّة.
________________________________________
1 ـ البقرة / 286.
2 ـ الشعراء / 99.
3 ـ آل عمران / 97.
4 ـ التكوير / 26.
5 ـ العنكبوت / 61.
________________________________________
(138)
وبعد: فلوكان من أثبتها لنفسه قدريّاً لكان على زعمكم قد أثبته الله لنفسه فهو قدريّ و بعد هذا القول ، فلو كان هذا اسم ذمّ فهو لكم أليق ، لأنّكم فعلتم القبائح وأضفتموها إلى الله تعالى البريء منها ، وقد قال عزّ من قائل : ( وَمَنْ يَكْسِبُ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمَاً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَريئاً ) ـ إلى آخرها ـ (1).
تمّ الكلام في القدريّة
________________________________________
1 ـ النساء / 112.