استعرض الشيخ الأشعري آراءه ونظرياته حول المبدأ والمعاد ، وأسمائه سبحانه ، وصفاته وأفعاله ، وما يمت إلى ذلك بصلة في كتاب « اللمع » واستمد في إثباتها من الأدلّة العقلية بوفرة ، وعززها بالأدلّة النقلية ، ونحن ندرس أُصول ما استعرضه واحداً بعد واحد ، ونعتمد على كتبه الثلاثة ، وعلى « اللمع » بالأخص ، لمّا عرفت من تميزه على الآخرين ، وإليك عناوين بحوثه :
1. استدلاله على وجوده سبحانه.
2. البارئ لا يشبه المخلوقات.
3. استدلاله على وحدانية الصانع.
4. إعادة الخلق المعدوم جائز.
5. الله سبحانه ليس بجسم.
6. صفاته الذاتية.
7. صفاته قديمة لا حادثة.
8. صفاته زائدة على ذاته.
9. رأيه في الصفات الخبرية.
10. أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه.
11. الاستطاعة مع الفعل لا قبله.
________________________________________
(64)
12. رؤية الله بالأبصار في الآخرة.
13. كلام الله سبحانه هو الكلام النفسي.
14. كلامه سبحانه غير مخلوق أو قديم.
15. عمومية إرادته لكلّ شيء.
16. إنكار التحسين والتقبيح العقلييّن ( التعديل والتجوير ).
________________________________________
(65)
(1)
استدلاله على وجود الصانع سبحانه
قال : الدليل على ذلك أنّ الإنسان الذي هو في غاية الكمال والتمام ، كان نطفة ، ثمّ علقة ، ثم مضغة ، ثم لحماً ، ودماً ، وعظماً ، وقد علمنا أنّه لم ينقل نفسه من حال إلى حال ، لأنّا نراهـ في حال كمال قوته وتمام عقلهـ لا يقدر أن يحدث لنفسه سمعاً ولا بصراً ، ولا أن يخلق لنفسه جارحة ، يدل ذلك على أنّه في حال ضعفه ونقصانه عن فعل ذلك أعجز ، ورأيناه طفلاً ثمّ شاباً ثم كهلاً ثمّ شيخاً ، وقد علمنا أنّه لم ينقل نفسه من حال الشباب إلى حال الكبر والهرم ، لأنّ الإنسان لو جهد أن يزيل عن نفسه الكبر والهرم ويردّها إلى حال الشباب لم يمكنه ذلك ، فدلّ ما وصفناه على أنّه ليس هو الذي ينقل نفسه في هذه الأحوال ، وأنّ له ناقلاً نقله من حال إلى حال ودبره على ما هو عليه ، لأنّه لا يجوز انتقاله من حال إلى حال بغير ناقل ولا مدبر.
ثمّ مثل لذلك بتحوّل القُطن إلى الغزل ، إلى الفتل ، إلى الثوب ، فكما هو يحتاج إلى ناسج فكذلك الإنسان ، فلو دلّ ذلك على وجوده ، كان تحوّل النطفة علقة ثمّ مضغة ثمّ لحماً ودماً وعظماً أعظم في الأعجوبة ، وكان أولى أن يدلّ على صانع صنع النطفة ونقلها من حال إلى حال ، وقد قال الله تعالى : أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ *ءَأَنْتُمْ تُخْلُفُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (1). وقال سبحانه : وَفي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) (2) فبيّن لهم عجزهم وفقرهم إلى صانع
________________________________________
1 ـ الواقعة : 58 ـ 59.
2 ـ الذاريات : 21.
________________________________________
(66)
صنعهم ومدبر دبرهم. (1)
يلاحظ على هذا الدليل :
أوّلاً : أنّ الاستدلال المذكور استدلال عقلي بحت ، ومعتمد على أصل فلسفي وهو حاجة الممكن إلى العلة ، أو حاجة الحادث إلى السبب.
وبعبارة أُخرى : معتمد على قبول قانون العلية. وهذا النوع من التفكير يختص بالمتكلّمين. ولا نرى مثله بين أهل الحديث. وهذا دليل على أنّ الشيخ يسير على ضوء العقل ، والاستدلال به ما أمكن.
ثانياً : أنّ صلب البرهان في البيان الأوّل يرجع إلى أنّ فاقد الكمال لا يعطيه ، فالإنسان إذا عجز عن إحداث السمع والبصر في حال القدرة ، فهو في حال العجز أولى.
وقد أفرغ أمير المؤمنين هذا البرهان في بعض خطبه ، في جمل في غاية الفصاحة فقال : « أم هذا الذي أنشأه في ظلمات الأرحام ، وشغف الأستار ، نطفة دهاقاً ، وعلقة محاقاً ، وجنيناً وراضعاً ، ووليداً ويافعاً ، ثمّ منحه قلباً حافظاً ، ولساناً لافظاً ، وبصراً لاحظاً ، ليفهم معتبراً ويقصر مزدجراً ». (2)
ثالثاً : أنّ ما استعرض الشيخ من الآيتين إنّما هو من الشواهد الواضحة على أنّ القرآن يعتمد في بيان الأُصول والمعارف على الأدلة العقليّة والبراهين الواضحة ، من أجل إقناع عامة البشر ، مؤمناً كان أم كافراً ، ولا يكتفي بالتعبّد ، فإنّ للتكلّم مع البرهان مكاناً ، وللتعبّد مكاناً آخر ، فما لم تستقر شجرة الإيمان في قلب الإنسان ، لا تصح مشافهته إلاّبما يوحيه إليه عقله وتقضي به فطرته ، فإذا صار مؤمناً معتقداً بربه وبرسوله ورسالته ووحيه ، يبلغ إلى مرحلة يصحّ معها التكلّم معه بصورة التعبّد وإلقاء الأُصول والوظائف مجردة عن البرهنة.
ثمّ إنّ الشيخ في أثناء تقرير البرهان جاء بأمر غير تام ، فاستدلّ على أنّ
________________________________________
1 ـ اللمع : 18.
2 ـ نهج البلاغة : 1/140 ، الخطبة 80 ، ط مصر.
________________________________________
(67)
هناك ناقلاً ومدبراً غير الإنسان بقوله : « إن الإنسان لوجهد أن يزيل عن نفسه الكبر لم يمكنه ذلك » وجعل هذا دليلاً على أنّه لم ينقل نفسه من حال الشباب إلى حال الكبر ، ولكن الملازمة غير ثابتة ، إذ لمشكّك أن يقول : إنّه قادر على نقل نفسه من الشباب إلى الهرم ، ولكنّه غير قادر على العكس ، ولا ملازمة بين القدرة على القضية الأُولى والقدرة على القضية الثانية ، فالإنسان الضعيف قادر على قذف الجسم الثقيل من السطح إلى الأرض ، وليس بقادر على رفعه منها إليه ، وقس على ذلك الأمثلة الأُخرى.
________________________________________
(68)
(2)
البارئ لا يشبه المخلوقات
استدلّ على تنزيهه سبحانه عن مشابهة المخلوقات بأنّه لو أشبهها لكان حكمه في الحدوث حكمها ، ولو أشبهها لم يخل من أن يشبهها في جميع الجهات أو في بعضها; فلو أشبهها في جميع الجهات ، كان محدثاً مثلها من جميع الجهات ، وإن أشبهها في بعضها كان محدثاً من حيث أشبهها ، ويستحيل أن يكون المحدث لم يزل قديماً و قد قال الله تعالى : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيء . (1)
وقال تعالى : وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفواً أَحَد (2). (3)
ويلاحظ على هذا الدليل : أنّ صلب البرهان عبارة عن كون المشابهة من جميع الجهات أو بعضها يلازم كونه محدثاً ، وهذه الملازمة في مجال المشابهة في جميع الجهات أمر صحيح لا غبار عليه.
ولكن المشابهة في بعض الجهات مع التحفّظ على قدمه سبحانه لا تستلزم حدوثه.
فلو قالت المشبهة : بأنّ الله قديم ولكن له يد وجارحة مثل يد الإنسان وجوارحه ، فالمشابهة من بعض الجهات مع حفظ القدم لا ينتج كونه محدثاً.
________________________________________
1 ـ الشورى : 11.
2 ـ الأخلاص : 4.
3 ـ اللمع : 20.
________________________________________
(69)
والحاصل أنّ المشابهة من بعض الجهات ـ مع القول بكونه قديماً ـ لا يستلزم الحدوث.
نعم لو اعتمد الشيخ على أنّ المشابهة للمخلوق في أيّة جهة من الجهات ، لا تنفك عن الحاجة ، والحاجة آية الإمكان صحّ الاستدلال ، لأنّ الممكن لا يكون واجب الوجود ، وما ليس بواجب فهو حادث ذاتاً أو زماناً ، و الكلّ محتاج إلى علة واجبة.
وفي مورد المثال : لو كان لذاته مكان كسائر الأجسام لكان لها حيز ، فتكون محتاجة إلى الحيز ، الحاجة لا تجتمع مع وجوب الوجود وتتناسب مع الإمكان ، والموصوف به إمّا حادث ذاتي أو حادث زماني ، فالأشياء الممكنة المجردة ، لها الحدوث الذاتي ، والأشياء الممكنة الواقعة في إطار الزمان ، لها الحدوث الزماني.
وباختصار : إنّ الاكتفاء بكون المشابهة مستلزمة للحدوث ، لا يوجب كون البرهان منتجاً ، وإنّما ينتج البرهان إذا كانت المشابهة منجرة إلى الحاجة المضادة لوجوب الوجود حتى ينتهي الأمر إلى إمكانه وحدوثه.
________________________________________
(70)
(3)
استدلاله على وحدانية الصانع
استدلّ الشيخ الأشعري على وحدانية الصانع ببرهان التمانع ، وقال : إنّ الصانعَيْن المفترضين لا يجري تدبيرهما على نظام ، ولا يتّسق على أحكام ، ولابدّ أن يلحقهما العجز أو واحداً منهما ، لأنّ أحدهما إذا أراد أن يحيي إنساناً ، وأراد الآخر أن يميته ، لم يخل أن يتم مرادهما جميعاً ، أو لا يتم مرادهما ، أو يتم مراد أحدهما دون الآخر ، ويستحيل أن يتم مرادهما جميعاً ، لأنّه يستحيل أن يكون الجسم حياً وميتاً في حال واحدة.
وإن لم يتم مرادهما جميعاً وجب عجزهما ، والعاجز لا يكون إلهاً ولا قديماً.
وإن تم مراد أحدهما دون الآخر وجب عجز من لم يتم مراده منهما ، والعاجز لا يكون إلهاً وقديماً ، فدلّ ما قلناه على أنّ صانع الأشياء واحد ، وقد قال الله تعالى : لَوْكانَ فِيهِما آلِهةٌ إِلاّالله لَفَسدَتا (1). (2)
يلاحظ على ما أفاده :
أوّلا : أنّ ما ذكره هو برهان التمانع الوارد في الكتب الكلامية ، ولكنّه لم يستقص جميع شقوقه ، إذ لقائل أن يقول : إنّ الإلهين بما أنّهما عالمان ـ بما لا
________________________________________
1 ـ الأنبياء : 22.
2 ـ اللمع : 20 ـ 21.
(71)
نهاية لعلمهما ـ واقفان على المصالح والمفاسد ، وما يصحّ فعله ممّا لا يصحّ ، فيتّفقان على ما فيه المصلحة والحكمة.
ومن المعلوم أنّه ليس إلاّ أمراً واحداً ، فحينئذ تتحد إرادتهما على إيجاد ما اتّفقا عليه ، فإنّ الاختلاف في الإرادة إمّا ناشئ من حبّ الذات ، فيقدّم ما فيه المنفعة الشخصية على غيره ، أو ناشئ من الجهل بالمصالح والمفاسد ، وكلا العاملين منفيان عن ساحة الإلهين المفروضين.
ولأجل استيعاب جميع الشقوق تجب الإجابة عن هذا الشق أيضاً.
وموجز الإجابة ( والتفصيل يطلب من الأسفار الكلامية ) أنّ تعدد الصانع في الخارج يدلّ على وجود تباين واختلاف بينهما في أمر من الأُمور ، فهما إمّا متباينان في جميع الذات ، ( كما هو الحال في الأجناس العالية ، فإنّ الجوهر يباين العرض بتمام الذات ) أو في بعضها كتباين نوع من نوع آخر ( مثل الإنسان بالنسبة إلى الفرس ) أو في الشخصيات والتعينات.
وعلى كلّ تقدير يجب أن يكون هناك نوع من التباين والاختلاف ولو من جهة واحدة ، وفي مرحلة من مراحل الوجود; وإلاّ فلو تساويا من جميع الجهات ، لارتفع التعدد وصار المفروضان إلهاً واحداً وهو خلف.
وعلى فرض وجود اختلاف بين الإلهين ، يجب أن يختلف شعورهما وإدراكهما ولو في مورد أو موردين ، إذ لا معنى لأن يتحد تشخيصهما وإدراكهما وعلمهما مع الاختلاف في الذات أو التعيّنات.
وعندئذ ، لا يمكن أن نقول إنّهما يتفقان في جميع الموارد على شيء واحد وهو مقتضى الحكمة والمصلحة ، لأنّ المفروض أنّ كلّواحد يرى فعله موافقاً للحكمة والمصلحة ، ولا دليل على انحصار المصلحة والحكمة في جهة واحدة ، بل من الممكن أن يكون كلا الفعلين مقرونين بالصلاح ولكلّ منهما فلاح.
هذا هو التقرير الصحيح للبرهان.
وثانياً : أنّ قوله سبحانه : لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاّ الله ليس ناظراً إلى
________________________________________
(72)
وحدة الصانع والخالق ، بل الآية تركّز على وحدة التدبير في العالم ، وأنّ مدبّر العالم إله واحد لا غير. والبرهان القرآني على وحدة التدبير جاء ضمن آيتين تتكفّل كلّ واحدة منهما ببيان بعض شقوق البرهان. وإليك الآيتان مع توضيح البرهان :
1. لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاّ الله لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ الله رَبّ العَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ. (1)
2. وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِله إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِله بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْض سُبْحانَ الله عَمّا يَصِفُونَ (2) توضيح البرهان بجميع شقوقه
إنّ تصوير تعدّد المدبّر للعالم يفترض على صور :
1. أن يتفرد كلّ واحد من الآلهة المفترضة بتدبير مجموع الكون باستقلاله بمعنى أن يعمل كلّواحد ما يريده في الكون دون منازع ، ففي هذه الصورة يلزم تعدّد التدبير لأنّ المدبّر متعدد ومختلف في الذات ، ونتيجة تعدّد التدبير طروء الفساد على العالم وذهاب الانسجام المشهود ، وإليه يشير قوله سبحانه : لَو كانَ فِيهِما آلهة إِلاّ الله لَفَسدتا ... .
2. أن يدبر كلّ واحد قسماً من الكون الذي خلقه ، وعندئذ يجب أن يكون لكلّ جانب من الجانبين نظام مستقل خاص مغاير لنظام الجانب الآخر وغير مرتبط به; وهذا الفرض يستلزم انقطاع الارتباط وذهاب الانسجام من الكون ، والحال أنّا نرى في الكون نوعاً واحداً من النظام شاملاً لكلّ جوانب الكون من الذرة إلى المجرة ، وإلى هذا القسم من البرهان يشير قوله سبحانه في الآية الأُخرىإِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِله بِما خَلَقَ .
3. أن يتفوّق أحد الآلهة المفترضة على البقية فيوحّد جهودهم وأعمالهم ،
________________________________________
1 ـ الأنبياء : 22.
2 ـ الأنبياء : 91.
________________________________________
(73)
ويصبغها بصبغة الانسجام والاتحاد ، وعندئذيكون ذلك الإله المتفوّق ، هو الإله الحقيقي دون البقية ، وإلى هذا الشق يشير قوله سبحانه : وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْض.
وباختصار ، أنّ ما ذكره الأشعري من البرهان على وحدانية الصانع ، غير مستوعب لجميع الشقوق ، وإنّ الآية التي استشهد بها ليست راجعة إلى وحدانية الصانع ، بل راجعة إلى وحدانية المدبّر.
والفرق بين التوحيد في الخالقية والتوحيد في المدبّرية غير خفي على العارف بالمسائل الكلامية.
________________________________________
(74)
(4)
إعادة الخلق المعدوم جائز
استدلّ الشيخ الأشعري على جواز إعادة الخلق المعدوم بالبيان التالي :
إنّ الله سبحانه خلقه أوّلاً ، لا على مثال سبقه ، فإذا خلقه أوّلاً لم يعيه أن يخلقه خلقاً آخر.
ثمّ استشهد بالآيات الواردة حول إمكان المعاد ، التي منها قوله سبحانه : وَضَرَبَ لَنا مَثلاً وَنَسيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحيي العِظام وَهَي رَميمٌ* قُلْ يُحييها الّذي أَنْشَأها أوّل مَرّة وَهُوَ بِكُلِّ خَلْق عَليمٌ . (1)
يلاحظ على ما ذكره : أنّ هنا مسألتين يجب فصل كلّ منهما عن الأُخرى :
الأُولى : إعادة الخلق الأوّل بعد فنائه بتلاشيه وتفرّق أجزائه ، وهذا ما أخبرت عنه الشرائع السماوية ، واستدلّ القرآن على إمكانه بطرق متعددة نشير إليها عن قريب ، ومثل هذا ليس إعادة للخلق الأوّل بعد انعدامه من جميع الجهات ، بل هو إحياء للمواد المبعثرة من الإنسان بإعادة الروح إليها. والحاكم بأنّ الإنسان المعاد هو الإنسان المبتدأ ، هو وحدة الروح المجردة المتعلّقة في كلّ زمن ببدن خاص ، والروح لا تفنى بفناء المادة ، ولا تنفك أجزاؤها.
________________________________________
1 ـ يس : 78 ـ 79.
________________________________________
(75)
وقد استدلّ القرآن على إمكان هذا النوع من الإعادة بطرق مختلفة نأتي بأُصولها :
1. الاستدلال بعموم القدرة ، مثل قوله سبحانه : أَوَلَمْ يَرَوا أَنَّ الله الّذي خَلَقَ السَّمواتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِر عَلى أَنْ يُحْييَ الْمَوتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلّ شَيء قَديرٌ . (1)
2. قياس الإعادة على الابتداء ، كما في قوله سبحانه : كَما بَدَأنا أَوّل خَلْق نُعيدُهُ . (2)
3. الاستدلال على إمكان إحياء الموتى بإحياء الأرض بالمطر والنبات ، كما في قوله سبحانه : وَيُحْيي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ . (3)
4. الاستدلال بالوقوع على الإمكان ، فإنّ أدلّ دليل على إمكان الشيء وقوعه ، ولأجل ذلك نقل سبحانه قصة بقرة بني إسرائيل ( البقرة : 67 ـ 73 ) وحديث عزير ( البقرة : 259 ).
5. الاستدلال ببعض المنامات الطويلة التي امتدت ثلاثمائة سنة وزيدت عليها تسع ، فإنّ النوم أخو الموت ، ولا سيّما الطويل منه. والقيام من هذا النوم يشبه تجدّد الحياة وتطوّرها.
6. قياس قدرة الإعادة على قدرة إخراج النار من الشجر الأخضر ، كما في قوله سبحانه : قُلْ يُحْيِيها الَّذي أَنْشَأَها أَوّلَ مَرّة وَهُوَ بِكُلِّ خَلْق عَليم*الَّذي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِالأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُون . (4)
هذه هي البراهين المشرقة التي اعتمد عليها القرآن فيما يتبنّاه من إمكان المعاد ووقوعه ، وهذه المسألة لا تمتّ إلى المسألة التالية بصلة.
الثانية : إعادة المعدوم من جميع الجهات ، بعينه لا بمثله ، وهذا هو الذي
________________________________________
1 ـ الأحقاف : 33.
2 ـ الأنبياء : 104.
3 ـ الروم : 19.
4 ـ يس : 79 ـ 80.
________________________________________
(76)
ادّعى الشيخ الرئيس ابن سينا الضرورة على امتناعه ، وأقام البراهين عليه ، ونذكر منها ما يناسب وضع كتابنا.
إنّ إعادة الشيء المعدوم من جميع الجهات نوع إيجاد له ، والمفروض أنّ هذا الإيجاد يغاير الإبداع الذي تعلّق بإيجاده قبل أن يكون معدوماً. ومع تعدّد الإيجاد وتعدّد أعمال القدرة كيف يكون المعاد نفس المبتدأ من جميع الجهات. نعم ، يكون المعاد مثل المبتدأ لا عينه ، ولأجل الإيضاح نأتي بمثال :
إذا قام الإنسان بخلق صورة الفرس بالشمعة اللينة ، ثمّ محا الصورة التي أوجدها وأعادها ثانياً ، فلا يصحّ لأحد أن يقول : إنّ الصورة الثانية عين الأُولى ، لأنّ الأُولى تعلّقت بها قدرة وأوجدت بإيجاد خاص ، والثانية تعلّقت بها قدرة أُخرى في زمان آخر ، وأُوجدت بإيجاد ثان ، والقدرتان مختلفتان ، والإيجادان متعدّدان ، فكيف يكون الموجدان واحداً بل لا مناص على القول باختلافهما. فإذا لم يصحّ إعادة المعدوم في المثال المذكور ( الذي كانت المادة فيه محفوظة والصورة فقط منعدمة ) فكيف يصحّ فيما كانت الصورة والمادة معدومتين غر باقيتين؟
هذا هو الفرق البارز بين المسألتين ، ولم يشر الشيخ الأشعري إلى الفرق بينهما.
________________________________________
(77)
(5)
الله سبحانه ليس بجسم
لقد أكّد الشيخ الأشعري على تنزيه الله سبحانه عن الجسم والجسمانيات في كتاب « اللمع » بشكل واضح ، وبذلك امتاز منهجه عن منهج كثير من أهل الحديث الذين لا يتورّعون عن إسناد أُمور إليه سبحانه تلازم تجسيمه وكونه ذا جهة. وقد أوضحنا حال هذه الطائفة عند البحث عن عقائد أهل الحديث والحنابلة في الجزء الأوّل.
وأمّا البرهان الذي اعتمد عليه الشيخ فيرسمه في العبارة التالية :
فإن قال قائل : لم أنكرتم أن يكون الله تعالى جسماً؟
قيل له : أنكرنا ذلك لأنّه لا يخلو أن يكون القائل بذلك أراد أن يكون طويلاً عريضاً مجتمعاً ، أو يكون أراد تسميته جسماً وإن لم يكن طويلاً عريضاً مجتمعاً عميقاً ، فإن أراد الأوّل فهذا لا يجوز ، لأنّ المجتمع لا يكون شيئاً واحداً ، لأنّ أقلّ قليل الاجتماع لا يكون إلاّمن شيئين ، لأنّ الشيء الواحد لا يكون لنفسه مجامعاً. وقد بيّنا آنفاً أنّ الله عزّوجلّ شيء واحد ، فبطل أن يكون مجتمعاً. وإن أردتم الثاني فالأسماء ليست إلينا ، ولا يجوز أن يسمى الله تعالى باسم لم يسمِّ به نفسه ، ولا سمّاه به رسوله ، ولا أجمع المسلمون عليه ولا على معناه. (1)
يلاحظ عليه : أنّ توحيده سبحانه على مراتب نذكر منها ماله صلة بالمقام :
________________________________________
1 ـ اللمع : 24.
________________________________________
(78)
1.توحيده سبحانه بمعنى أنّه واحد لا نظير له ولا مثيل. وهذا ما يعنى من قوله سبحانه : وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَد (1) ، وقوله سبحانه : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء ) (2) ، وهذا القسم منالتوحيد يهدف إلى أنّ واجب الوجوب بالذات واحد لا يتثنى ولا يتكرر ، ليس له نظير ولا مثيل.
2. توحيده سبحانه بمعنى بساطة ذاته وتنزهه عن أنواع التركيب والكثرة في مقام الذات. ولعل « الأحدية » التي يخبر عنها القرآن في الآيات الكريمة ، عبارة عن هذا النوع من التوحيد ، وهو بساطة الذات والتنزّه عن التركيب والكثرة. قال سبحانه : قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ . (3)
وفي ضوء هذين التوحيدين نخرج بالنتيجتين التاليتين :
أ. الله سبحانه واحد لا نظير له ولا مثيل.
ب. الله سبحانه أحد ، بسيط ، لا جزء لذاته ولا تركيب.
وهناك قسم ثالث من التوحيد ، وهو التوحيد في الخالقية ، وأنّه ليس في صفحة الوجود خالق إلاّ هو ، وخالقية الفواعل الأُخر بالاعتماد عليه والاستمداد من خالقيته سبحانه.
إذا عرفت ذلك ، تعرف الخلط في كلام الشيخ الأشعري بوضوح ، لأنّ ما تقدّم منه في البحث السابق هو وحدة صانع العالم ، ولكن ما هو مقدمة برهانه هنا بساطة ذاته وعدم تركبه من شيء ، ولم يسبق ذلك في البحث السابق حتى يعتمد عليه في إثبات ما يتبنّاه من : « أنّه سبحانه ليس جسماً ، لأنّ الجسمانية تستلزم كون الشيء عريضاً طويلاً مجتمعاً عميقاً. وهو يلازم الكثرة ، والكثرة لا تجتمع مع الوحدة ».
وعلى ذلك فلا يتم برهان الشيخ إلاّإذا برهن على بساطة الذات ووحدتها
________________________________________
1 ـ الاخلاص : 4.
2 ـ الشورى : 11.
3 ـ الاخلاص : 1.
________________________________________
(79)
وعدم تكثّرها عقلاً ولا خارجاً ، وإلاّ لا يكون برهانه موضوعياً معتمداً على شيء أثبته من قبل.
نعم ، في وسع الشيخ أن يبرهن على البساطة بأنّ الكثرة الخارجية أو الذهنية تستلزم احتياج الواجب إلى أجزائه ، والمحتاج لا يكون واجباً ، بل ممكناً.
________________________________________
(80)
(6)
صفاته الذاتية
اتّفق الإلهيون على أنّه سبحانه : عالم ، قادر ، حي ، سميع ، بصير ، وهذه هي الصفات الذاتية حسب مصطلح المتكلّمين ، والصفات الثبوتية الكمالية حسب مصطلح متكلّمي الإمامية. وهي في مقابل صفات الفعل ، أعني : ما ينتزع لا من مقام الذات بل من مقام الفعل ككونه رازقاً ، محيياً ، مميتاً وغيرها. وإليك نصوص استدلاله في تلك المجالات :
أ. الله سبحانه عالم
استدلّ الأشعري على كونه سبحانه عالماً : بأنّ الأفعال المحكمة لا تتسق في الحكمة إلاّ من عالم. وذلك أنّه لا يجوز أن يحوك الديباج بالتصاوير ويصنع دقائق الصنعة من لا يحسن ذلك ولا يعلمه. (1)
ما ذكره من البرهان قد ذكره قبله غيره ببيان رائق وتعبير بديع ، فإنّ إتقان الفعل واستحكامه آية علم الفاعل بشؤون الفعل و ما يقوّمه وما يفنيه.
ب. الله سبحانه حيّ قادر
استدلّ على هذا بأنّه لا تجوز الصنائع إلاّمن حيّ قادر ، لأنّه لو جاز
________________________________________
1 ـ اللمع : 24.
(81)
حدوثها ممّن ليس بقادر حي ، لم ندر لعل سائر ما يظهر من الناس يظهر منهم وهم عجزة موتى ، فلماّ استحال ذلك ، دلّت الصنائع على أنّ الله حي. (1)
كان الأليق التفكيك بين الحياة والقدرة ، وتقديم البحث في القدرة على البحث في الحياة ، لأنّه إذا ثبت كونه قادراً ـ و قد أثبت فعله كونه عالماً ـ ثبت كونه حياً بلا حاجة إلى الاستدلال الجديد ، لأنّ الحيّ عبارة عن العالم القادر ، أو الدرّاك الفعال. فمن كان عالماً قادراً فهو حيّ قطعاً.
ج. الله سبحانه سميع بصير
قال الأشعري : إنّ الحي إذا لم يكن موصوفاً بآفة تمنعه من إدراك المسموعات والمبصرات إذا وجدت ، فهو سميع بصير ، والله تعالى منزّه عن الآفة من الصمم والعمى ، إذ كانت الآفة تدّل على حدوث من جارت عليه. (2)
يلاحظ عليه : أنّ الأبصار تتعلّق بالأضواء والألوان. والسمع يتعلّق بالأصوات والكلمات ، فلو كان إبصاره سبحانه للمبصرات ، وسماعه للمسموعات بالإدراك الحسي المادي ، نظير الإنسان والحيوان ، لاحتاج في تحقّقهما إلى الآلة. وعند ذاك يأتي ما ورد في كلام الشيخ من مسألة الصحّة والتنزّه عن الآفة ، نظير الصمم والعمى ، وأنّ الآفة آية الحدوث.
وأمّا لو كان توصيفه بهذين الوصفين بالمعنى اللائق بساحته ، فحقيقة كونه سميعاً بصيراً ترجع إلى حضور المسموعات والمبصرات لديه ، وعدم غيابهماعنه سبحانه ولا يختص الحضور بهما ، بل الموجودات على الإطلاق بهوياتها الخارجية حاضرة لديه ، لأنّها قائمة به سبحانه ، قيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي ، فهي حاضرة لديه ، غير غائبة عنه ، من غير فرق بين المبصر والمسموع وغيرهما ، وتخصيصهما بالذكر لكون الحس المتعلّق بهما في الإنسان
________________________________________
1 ـ اللمع : 25.
2 ـ اللمع : 25.
________________________________________
(82)
أشرف من غيره ، فاقتصر عليهما ، وإلاّ فالله سبحانه أجل من أن يسمع ويرى بالآلة ، ويباشر بذاته الأضواء والأصوات.
وباختصار : إنّ واقع الإبصار والسماع ليس إلاّ حضور المبصرات والمسموعات لدى البصير والسميع.
وأمّا الآلة وأعمالها والتأثر من الخارج فمقدّمات إعدادية.
فلو تحقّق في مورده الحضور ، بلا حاجة إلى تلك المقدمات لكان أحقّ بكونه سميعاً وبصيراً.
ونضيف في الختام أنّه لم يعلم كنه قوله : « الآفة تدلّ على حدوث من جارت عليه » فإنّ كون المدرك ( بالكسر ) مادياً آية الحدوث لكونه ممكناً ، والممكن حاجته إلى الواجب أزلية ، وأمّا الصحّة والآفة ، فالكلّ بالنسبة إلى القدم والحدوث سواسية فلا الصحة آية القدم ، ولا الآفة آية الحدوث.
بل كون الشيء ( الإدراك ) مادياً آية الحدوث للتلازم بين المادية والحدوث.
________________________________________
(83)
(7)
صفاته قديمة لا حادثة
إنّ الحي إذا لم يكن عالماً كان موصوفاً بضدّالعلم ، أي الجهل. ولو كان موصوفاً به لاستحال أن يعلم ، لأنّ ضدّ العلم لو كان قديماً لاستحال أن يبطل ، وإذا استحال أن يبطل لم يجز أن يصنع المصانع الحكيمة ، فلما صنعها دلّت على أنّه عالم ، وصحّ أنّه لم يزل عالماً. (1)
يلاحظ عليه :
أوّلاً : أنّ الحدوث والقدم من أوصاف الأُمور الوجودية ، وضد العلم ليس إلاّ أمراً عدمياً ومثله لا يوصف لا بالحدوث ولا بالقدم ، فلا يصحّ قوله : « لأنّ ضد العلم لو كان قديماً لاستحال أن يبطل ».
وثانياً : أنّ كلّ موجود إمكاني مسبوق بعدم قديم ، فلو كان قدم العدم مانعاً عن الانقلاب إلى الوجود ، تلزم استحالة أن يبطل كلّ عدم وينقلب إلى الوجود.
وكان له الاستدلال بشكل آخر : إنّ اتصافه بالعلم بعد ما كان جاهلاً ، أو بالقدرة بعد ما كان عاجزاً ، يستلزم كون ذاته محلاً للحوادث ، وهو يلازم التغيير والانفعال في ذاته ، وهو آية الحدوث ، والواجب منزّه عن ذلك كلّه.
كما كان له الاستدلال بشكل ثان وهو : لو كان الذات الإلهية فاقدة
________________________________________
1 ـ اللمع : 25 ـ 26.
________________________________________
(84)
لهذه الصفات منذ الأزل ، لاستلزم ذلك كون صفاته « ممكنة » و « حادثة » وحيث إنّ كلّ ممكن مرتبط بعلّة ، ومحتاج إلى محدث ، لزم أن نقف على محدثها ، فهل وردت من قبل نفسها ، أو من قبل الله سبحانه ، أو من جانب علة أُخرى؟ وكلّها باطلة.
أمّا الأوّل : فلا يحتاج إلى مزيد بيان ، إذ لا يعقل أن يكون الشيء علة لنفسه.
وأمّا الثاني : فكسابقه ، فإنّ فاقد الكمال « العلم والقدرة » لا يعطيه.
أضف إليهـ أنّه يلزم الخلف أي قدم الصفات. لأنّ المفروض أنّ العلة هي الذات وهي قديمة فيلزم قدم معلولها. وأمّا الثالث فكسابقيه أيضاً إذ ليس هنا عامل خارجي يكون مؤثراً في عروض صفاته على ذاته سبحانه ـ مضافاً إلى أنّه يستلزم افتقار الواجب إليه.
إلى غير ذلك من البراهين المشرقة التي جاءت في الكتب الكلامية والفلسفية; وكأنّ الشيخ أبا الحسن ـ إبّان الانفصال عن المعتزلة وخلع الاعتزال عن نفسه كخلع القميص ـ شقّ عليه الأخذ من علومهم وأفكارهم ، وأراد الاعتماد على ما توحيه إليه نفسه ، فجاء بالبرهان الذي ترى وزنه وقيمته.
________________________________________
(85)
(8)
صفاته زائدة على ذاته
إنّ كيفية إجراء صفاته سبحانه على ذاته ، أوجد هوة سحيقة بين كلامي المعتزلة والأشاعرة ، فمشايخ الاعتزال ـ لأجل حفظ التوحيد ، و رفض تعدّد القديم ، والتنزّه عن التشبيهـ ذهبوا إلى أنّ ملاك إجراء هذه الصفات هو الذات ، وليست هنا أيّة واقعية للصفات سوى ذاته.
وقد استعرض القاضي عبد الجبار المعتزلي آراء مشايخه في شرح الأُصول الخمسة (1)و قال :
قال شيخنا أبو علي : إنّه تعالى يستحقّ هذه الصفات الأربع : ( القدرة ، العلم ، الحياة ، الوجود ) لذاته.
وقال شيخنا أبو هاشم : يستحقّ هذه الصفات لما هو عليه في ذاته.
ومفاد كلام الشيخين : أنّ الله سبحانه عالم ، قادر حي ، بنفسه لا بعلم وقدرة وحياة.
وهؤلاء هم المعروفون بنفاة الصفات ، لحفظ التوحيد ورفض تعدّد القدماء ، وهم يعنون بقولهم : ( لذاته ) أنّ ذاته سبحانه ـ ببساطتها ووحدتها ـ نائبة عن الصفات ، وتعبير أبي هاشم في إفادة ما يرومانه أدق من عبارة أبي علي ، وقد اشتهر هذا القول عند المتأخرين من المتكلّمين بالقول بالنيابة ،
________________________________________
1 ـ شرح الأُصول الخمسة : 182.
________________________________________
(86)
ونسبه أبو الحسن الأشعري في « مقالات الإسلاميين » إلى كثير من المعتزلة والخوارج ، وكثير من المرجئة وبعض الزيدية وقال : هؤلاء يقولون : إنّ الله عالم ، قادر ، حي ، بنفسه لا بعلم وقدرة وحياة. (1)
وعندئذ تكون الذات نائبة عن الصفات والآثار المترقبة من الصفات ، مترتبة على الذات ، وإن لم تكن الصفات موجودة فيها مثلاً : خاصية العلم اتقان الفعل ، وهي تترتب على نفس ذاته ، بلا وجود وصف العلم فيه ، و قد اشتهر عندهم « خذ بالغايات واترك المبادئ » و إنّما ذهبوا إلى هذا القول لأجل أمرين تاليين :
من جانب اتفقت الشرائع السماوية على أنّه سبحانه عالم حي قادر ، و يدلّ على ذلك إتقان أفعاله. و من جانب آخر : واقعية الوصف لا تنفك عن القيام بالغير ، فلو لم تكن قائمة به لم تصدق عليه الصفة. فعند ذلك يدور الأمر بين أحد الأُمور الأربعة :
1. نفي العلم مثلاً عن ساحته سبحانه على الإطلاق. وهذا تكذّبه آثار فعله سبحانه ، مضافاً إلى اتّفاق الشرائع السماوية على عدّه من صفاته الذاتية.
2. القول بأنّ علمه زائد ، ومثله سائر صفاته ، وهذا يستلزم تعدّد القدماء.
3. كون صفاته عين ذاته وهي متحدة معها ، وهذا لا يجتمع مع واقعية الوصف ، لأنّ واقعيته هو القيام بالغير ، ولولاه لما صدق عليه الوصف. فعندئذ يتبيّن القول التالي :
4. نيابة الذات مناب الصفات وإن لم تكن الذات موصوفة بنفس الصفات.
وهذا القول هو المشهور بين المعتزلة ، وإليه يشير الحكيم السبزواري في منظومته :
________________________________________
1 ـ مقالات الإسلاميين : 1/224.
________________________________________
(87)
والأشعرية بازدياد قائلة وقال بالنيابة المعتزلة
وممّن اختار هذا القول من المعتزلة وذبَّ عنه بصراحة ، هو عبّاد بن سليمان المعتزلي (1)قال :
هو عالم ، قادر ، حي ، ولا أثبت له علماً ولا قدرة ، ولا حياة ، ولا أثبت سمعاً ولا أثبت بصراً. وأقول : هو عالم لا بعلم ، وقادر لا بقدرة وحي لا بحياة ، وسميع لا بسمع ، وكذلك سائرما يسمّى به من الأسماء التي يسمّى بها. (2)
رأي أبي الهذيل العلاّف المعتزلي (3)
يعترف أبو الهذيل ـ على خلاف ما يروى عن أبي علي وأبي هاشم الجبائيين ـ بأنّ لله سبحانه علماً وقدرة وحياة حقيقة ، ولكنّها نفس ذاته; وإليك نصّ عبارته : هو عالم بعلم هوهو ، هو قادر بقدرة هي هو ، هوحي بحياة هي هو ـ إلى أن قال ـ : إذا قلت : إن الله عالم أثبتَّ له علماً هو الله ، ونفيت عن الله جهلاً ، ودللت على معلوم ، كان أو يكون ، وإذا قلت : قادر ، نفيت عن الله عجزاً ، وأثبتّ له قدرة هي الله سبحانه ودللت على مقدور. وإذا قلت : الله حي ، أثبتّ له حياة وهي الله ، ونفيت عن الله موتاً. (4)
والفرق بين الرأيين جوهري جداً ، فالرأي الأوّل يركز على أنّ الله عالم ، قادر حي ، بنفسه ، لا بعلم ولا قدرة ولا حياة. وعلى حد تعبير أبي هاشم أنّ الله يستحقها لما هو عليه في ذاته.
________________________________________
1 ـ من أئمة الاعتزال في القرن الثالث ، ودارت بينه و بين أبي كلاب ( المتوفّى بعد عام 340هـ ) مناظرات ، لاحظ الانتصار لأبي الحسين الخياط : 61.
2 ـ مقالات الإسلاميين : 1/225.
3 ـ . محمد بن هذيل المعروف بالعلاّف ، كان شيخ البصريين في الاعتزال ، ولد عام 130هـ وتوفّ ـ ي في سامراء235هـ . لاحظ وفيات الأعيان : 4/265 برقم 606.
4 ـ شرح الأُصول الخمسة : 183; مقالات الإسلاميين : 25.
________________________________________
(88)
فهؤلاء يستحقون أن يسموا بنفاة الصفات ونيابة الذات عنها ، وهذا بخلاف رأي أبي الهذيل فهو يركز على كونه سبحانه موصوفاً بهذه الصفات وعالماً بعلم وقادراً بقدرة ، ولكنّها تتحد مع الذات في مقام الوجود والعينية.
ولأجل التفاوت البارز بين الرأيين أراد القاضي عبد الجبار المعتزلي إرجاع مقالة العلاف إلى ما يفهم من عبارة أبي علي و ابنه أبي هاشم وقال : قال أبو هذيل : إنّه تعالى عالم بعلم هوهو ، وأراد به ما ذكره الشيخ أبو علي ، إلاّ أنّه لم تتلخص له العبارة ، ألا ترى أنّ من يقول : إنّ الله عالم بعلم ، لا يقول إنّ ذلك العلم هو ذاته تعالى.
ولكن الحقّ في باب الصفات هو ما ذهب إليه أبو الهذيل ، وعليه مشايخنا الإمامية ، أخذاً بالبراهين المشرقة في هذا المجال ، واقتداءً بما ورد عن أئمّة أهل البيت سلام الله عليهم أجمعين ، وسيوافيك عند استعراض عقائد المعتزلة أنّ أُصولهم مأخوذة من خطب الإمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) ، وهو إمام علم التوحيد ، تُعرف آراؤه العالية من خطبه وكلماته في نهج البلاغة ، ونأتي منها بما يمس المقام :
1. « وكمال توحيده الإخلاص له ... » الخطبة الأُولى ، ص 8 ، ط مصر ، أي تخليصه من كلّ جزء وتركيب.
2. وقال ( عليه السَّلام ) : « لا تناله التجزئة والتبعيض » الخطبة 81 ، ط مصر ، ج1 ، ص 146.
3. وقال ( عليه السَّلام ) : « ولا يجري عليه السكون والحركة ، وكيف يجري عليه ما هو أجراه ، ويعود فيه ما هو أبداه ، ويحدث فيه ما هو أحدثه ، إذاً لتفاوتت ذاته ، ولتجزأ كنهه » الخطبة 181ط مصر ج2 ص 144.
4. وقال ( عليه السَّلام ) : « ولا يوصف بشيء من الأجزاء ، ولا بالجوارح والأعضاء ، ولا بعرض من الأعراض ، ولا بالغيرية والإبعاض » الخطبة 181. إلى غير ذلك من الكلمات التي لا مناص معها عن القول باتحاد الصفات مع الذات.
يرى الغزالي والشهرستاني أنّ المعتزلة تبعوا الفلسفة اليونانية في وحدة
________________________________________
(89)
صفاته مع ذاته فقالوا : إنّ الله عالم بذاته ، قادر بذاته ، حي بذاته ، لا بعلم وقدرة وحياة هي صفات قديمة ومعان قائمة به ، لأنّه لو شاركته الصفات في القدم الذي هو أخصّ الوصف لشاركته في الإلهية. (1)
يلاحظ عليه : أنّ المعتزلة تبعوا في ذلك إمام علم الكلام ومؤسسه عليّ بن أبي طالب عليمها السَّلام ، فهو رائد الموحدين وسيدهم ، فقد استدلّ في خطبته على وحدة صفاته مع الذات بشكل رائع. (2)
وهن نظرية النيابة
إنّ الشيخين ( أبا علي وأبا هاشم الجبائيين ) لو تأمّلا في واقعية الصفات الكمالية وأنّها من شؤون الوجود لما أكّدا ولا أصرّا على أنّ واقعية الصفة مطلقاً هي القيام بالغير ، لأنّه لا يمكن أن تكون الصفة عين الذات ، وذلك لأنّ كلّ الكمالات من شؤون الوجود و ترجع حقائقها إليه ، والوجود أمر مقول بالتشكيك ، فله العرض العريض ، فكما أنّ من الوجود ممكناً وواجباً وجوهراً وعرضاً ، فهكذا إنّ مرتبة من العلم كيف نفساني قائم بالغير ، ومرتبة أُخرى منه واجب قائم بنفسه ، ومثله القدرة والحياة ، والتفصيل يطلب من محلّه.
تحليل نظرية الزيادة
قد تعرّفت على نظرية الشيخين من أئمّة الاعتزال ، كما تعرّفت على نظرية أبي الهذيل ، وقد حان الآن وقت دراسة نظرية شيخ الأشاعرة ، وهو يخالف كلتا النظريتين ـ النيابة والوحدة ـ و يقول بوجود صفات كمالية زائدة على ذاته مفهوماً و مصداقاً ، فلا تعدو صفاته صفات المخلوق إلاّ في القدم والحدوث. ولأجل ذلك يهاجم النظريتين في « الإبانة » و « اللمع » فيقول في رد النظرية الأُولى ( النيابة ) :
إنّ الزنادقة قالوا : إنّ الله ليس بعالم ، ولا قادر ، ولا حي ، ولا
________________________________________
1 ـ الملل والنحل للشهرستاني : 1/51.
2 ـ لاحظ نهج البلاغة : الخطبة الأُولى ، وقد عرفت بعض كلامه في المقام.
________________________________________
(90)
سميع ، ولا بصير. وقول من قال من المعتزلة : إنّ لا علم لله ولا قدرة له ، معناه : إنّه ليس بعالم ولا قادر. والتفاوت في الصراحة والكناية ، فنفي المبادئ حقيقة ، يلازم نفي صفاته الثبوتية التي أجمع المسلمون على توصيفه سبحانه بها.
وأمّا الثانية ، فردّ عليها بقوله : كيف يمكن أن يقال : إنّ علم الله هو الله. وإلاّ يلزم أن يصحّ أن نقول : يا علم الله اغفر لي وارحمني. (1)
يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ القول بزيادة الصفات ليس من مبتكرات الأشعري ، بل تبع هو في ذلك« الكلابية » والتفاوت بينهما بالكناية والتصريح ، قال القاضي عبد الجبار :
عند الكلابية أنّه تعالى يستحقّ هذه الصفات لمعان أزلية ، وأراد بالأزلي : القديم ، إلاّ أنّه لما رأى المسلمين متفقين على أنّه لا قديم مع الله تعالى ، لم يتجاسر على إطلاق القول بذلك. ثمّ نبغ الأشعري ، وأطلق القول بأنّه تعالى يستحقّ هذه الصفات لمعان قديمة. (2)
ثانياً : ما ناقش به النظرية الأُولى غير كاف فيما ادّعاهـ أعني : رجوع قولهم إلى نفي كونه سبحانه عالماً ـ لأنّ نفي المبادئ ـ أعني : العلم والقدرة ـ إنّما يستلزم نفي كونه عالماً وقادراً إذا لم تقم الذات مقام الصفات في الأثر والغاية. فلقائل أن يقول : إنّ ما يطلب من العلم والقدرة من إتقان الفعل والقدرة عليه ، فالذات بنفسها كافية في تأمين الغاية المطلوبة منها. فإنّ ذاته سبحانه من الكمال على حد ، تقوم بنفسها لتأمين كلّ ما يطلب من الصفات ، فلا حاجة إليها.
وأضعف منه ما ناقش به النظرية الثانية من أنّ القول بتوحيد صفاته مع ذاته يستلزم جواز أن نقول : يا علم الله اغفر لي ، وذلك لأنّ القائل بالوحدة
________________________________________
1 ـ الإبانة : 108.
2 ـ الأُصول الخمسة : 183.
(91)
إنّما يقول بها وجوداً لا مفهوماً ، إذ لا شكّ أنّ المفهوم من « الله » غير المفهوم من « العلم » و « القدرة » ومشتقاتهما.
وعلى ذلك فبما أنّ العلم غيره سبحانه مفهوماً ، ولكن عينه مصداقاً ، لا يصحّ التعبير عن مقام العينية ب ـ « يا علم الله » بل يجب أن يقول : يا الله ، فالتعبير بصورة الإضافة « إضافة العلم إلى الله » دليل على أنّ الداعي يسير في عالم المفاهيم ، لا في عالم العين والخارج ، وإلاّ كان عليه أن يقول : يا الله.
استدلاله على المغايرة
وممّا يدلّ على أنّ الله عالم بعلم ، أنّه سبحانه لا يخلو عن أحد صورتين : 1. أن يكون عالماً بنفسه ، 2. أو بعلم يستحيل أن يكون هو نفسه.
1. فإن كان عالماً بنفسه كانت نفسه علماً ، ويستحيل أن يكون العلم عالماً أو العالم علماً ، ومن المعلوم أنّ الله عالم; ومن قال : إنّ علمه نفس ذاته لا يصحّ له أن يقول : إنّه عالم; فإذا بطل هذا الشقّ تعين الشقّ الثاني ، وهو أنّه يعلم بعلم يستحيل أن يكون هو نفسه. (1)
لبّ البرهان هو : أنّ واقعية الصفة هي البينونة فيجب أن يكون هناك ذات وعرض ، ينتزع من اتّصاف الأُولى بالثاني عنوان العالم والقادر ، فالعالم : من له العلم ، والقادر من له القدرة ، لا من ذاته نفسهما ، فيجب أن يفترض ذات غير الوصف.
يلاحظ عليه : أنّ القائل بالوحدة لا يقول بالوحدة المفهومية ، أي أنّ ما يفهم من لفظ « الجلالة » فهو نفس ما يفهم من لفظ « العالم » فإنّ ذلك باطل بالبداهة ، بل يقصد منه اتحاد واقعية العلم مع واقعية ذاته ، وأنّوجوداً واحداً ببساطته ووحدته مصداق لكلا المفهومين ، وليس مصداق لفظ الجلالة في الخارج مغايراً لمصداق العلم ، وأنّ ساحة الحقّ منزهة عن فقد أية صفة كمالية في مرتبة الذات ، بل لوجود البحث البسيط نعوت وأوصاف ، كلّها موجودة
________________________________________
1 ـ اللمع : 30.
________________________________________
(92)
بوجود واحد ، فتلكالصفات الإلهية متكثّرة بالمعنى والمفهوم ، واحدة بالهوية والوجود.
ولا يعني أصحاب نظرية الوحدة تعطيل الذات عن الصفات وخلوّها عن واقعيتها ، كما عليه القائل بالنيابة ، بل يعنون أنّ وجوداً اوحداً بوحدته وبساطته ، من دون تكثّر فيه ، هو نفس العلم والقدرة وسائر الكمالات ، وربّ وجود يكون من الكمال على حدّ يكون نفس الكشف والعلم ، ونفس القدرة والاستطاعة ، وهو في الكمال آكد من الوجود الذي يكون العلم والقدرة زائدين عليه.
أضف إلى ذلك : أنّ الشيخ الأشعري لم يتأمّل في مقالة القائل بالوحدة ، ولأجله رمى القائل بها بأنّه لا يصحّ له إجراء الصفات على الله ، وليس له أن يقول : إنّه عالم. فإنّ الفرق بين القول بالعينية والزيادة ، كالفرق بين قولنا : زيد عدل وزيد عادل ، فالأُولى من القضيتين آكد في إثبات المبدأ من الآخر ، والقول بالعينية آكد من القول بالزيادة ، فلو استحقّ الإنسان الواقف على ذاته وماوراءها بعلم زائد ، أن يوصف بكونه عالماً ، كان الموجود الواقف على الذات والأشياء بعلم هو نفسه وذاته ، أولى بالاستحقاق بالتوصيف.
وقد اغترّ الشيخ بظاهر لفظ « عالم » و« قادر » حيث إنّ المتبادر منه هو كون الذات شيئاً والوصف شيئاً آخر. فحكم بإجرائه عليه سبحانه بهذا النمط بلا تغيير ولا تحوير. ومعنى هذا هو أنّ المعارف العليا تقتنص من ظواهر الألفاظ وإن كانت الأدلّة العقلية الواضحة تخالفها وتردّها ، فإنّ الألفاظ العامة عاجزة عن تفسير ما هناك من المعارف والمعاني.
مضاعفات القول بالزيادة
إذا كان في القول بعينية الصفات مع الذات نوع مخالفة لظاهر صيغة الفاعل ـ أعني : العالم والقادر ـ الظاهرة في الزيادة ، كان في القول بالزيادة مضاعفات كبيرة لا يقبلها العقل السليم ، ونشير إلى بعضها :
1. تعدّد القدماء بعدد الأوصاف الذاتية. وربما يتمحّل في رفعه بأنّ
________________________________________
(93)
المراد من الزيادة هو أنّها ليست ذاته ولا غير ذاته ، ولكنّه كلام صوري ينتهي عند الدقة إلى ارتفاع النقيضين.
والعجب أنّ الأشعري في موضع من كتابه « اللمع » ينفي غيرية الصفات للذات حتى لا يلزمه القول بتعدّد القدماء. لكنّه يفسر الغيرية بالصفات المفارقة ، ويقول : إنّ معنى الغيرية جواز مفارقة أحد الشيئين للآخر على وجه من الوجوه ، فلمّا دلّت الدلالة على قدم الباري تعالى وعلمه وقدرته ، استحال أن يكونا غيرين.
وغير خفي على القارئ النبيه أنّ الزيادة المستلزمة لتعدّد القدماء كما تتحقّق في مفارقة الصفات كذلك تتحقّق في ملازمتها ، فالقول بعدم الوحدة يستلزم تعدّد القدماء ، وإن كانت الصفات لازمة.
إنّ القول بأنّ له سبحانه صفات زائدة على الذات قديمة مثله ممّا لا يجترئ عليه مسلم واع ، ولم يكن أحد متفوّهاً بهذا الشرك من المسلمين غير الكلابية ، وعنهم أخذ الأشعري. قال القاضي عبد الجبار :
وعند الكلابية أنّه تعالى يستحقّ هذه الصفات لمعان أزلية ، وأراد بالأزلي : القديم; إلاّ أنّه لماّ رأى المسلمين متّفقين على أنّه لا قديم مع الله تعالى لم يتجاسر على إطلاق القول بذلك ، ثمّ نبغ الأشعري وأطلق القول بأنّه تعالى يستحقّ هذه الصفات لمعان قديمة ، لوقاحته وقلّة مبالاته بالإسلام والمسلمين. (1)
2. إنّ القول باتّحاد صفاته مع ذاته ، يستلزم غناه في العلم بما وراء ذاته ، عن غيره ، فيعلم بذاته كلّ الأشياء من دون حاجة إلى الغير. وهذا بخلاف القول بالزيادة ، إذ عليه : يعلم سبحانه بعلم سوى ذاته ويخلق بقدرة خارجة عن ذاته. وكون هذه الصفات أزلية لا يدفع الفقر والحاجة عن ساحته ، مع أنّ وجوب الوجود يقتضي الاستغناء عن كلّ شيء.
وأمّا الاستدلال على الزيادة بظواهر بعض الآيات ، كقوله سبحانه :
________________________________________
1 ـ الأُصول الخمسة : 183. وقد تقدّم ملخّصاً فلاحظ.
________________________________________
(94)
أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ (1) ، وقوله سبحانه : وَماتَحْمِلُ منْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاّ بِعِلْمِهِ ) (2)فضعيف جدّاً ، إذ لا دلالة لهما على الزيادة ولا على العينية ، وإنّما تدلّ على أنّ له سبحانه علماً.
وأمّا الكيفية فتطلب من مجال آخر.
وفي الختام نقول : إنّ « الصفاتية » في علم الكلام وتاريخ العقائد هم الأشاعرة ومن لفّ لفّهم في القول بالأوصاف الزائدة. كما أنّ المعطّلة هم نفاتها ، حيث عطّلوا الذات عن التوصيف بالأوصاف الكمالية ، وقالوا بالنيابة.
وقد عرفت الحقّ ، وليس في القول بالوحدة ( لا القول بالنيابة ) أيّ تعطيل لتوصيف الذات بالصفات الكمالية.
وعلى أيّ تقدير ، فقد صارت زيادة الصفات مذهباً لأهل السنّة قاطبة ، وصدر في بغداد كتاب سمي « الاعتقاد القادري »و ذلك في 17 محرم سنة 409هـ و قرئ في الدواوين وكتب الفقهاء فيه : « إنّ هذا اعتقاد المسلمين ، ومن خالفهم فقد فسق وكفر » جاء في الكتاب : « وهو القادر بقدرة ، والعالم بعلم أزلي غير مستفاد ، وهو السميع بسمع ، والمبصر ببصر ، متكلم بكلام ، لا يوصف إلاّ بما وصفه به نبيّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وكلّ صفة وصف بها نفسه ، أووصفه بها رسول فهي صفة حقيقية لا مجازية ، وإنّ كلام الله غير مخلوق ، تكلّم به تكليماً فهو غير مخلوق بكلّ حال متلوّاً ومحفوظاً ومكتوباً ومسموعاً ، ومن قال : إنّه مخلوق على حال من الأحوال فهو كافر ، حلال الدم بعد الاستتابة منه ». (3)
وربما تطلق« الصفاتية » على من يصفه سبحانه بالأوصاف الخبرية ( مع التشبيه أو مع التنزيه ) في مقابل التفويض أو التأويل ، وهذا هو الذي نبحث عنه في البحث التالي.
________________________________________
1 ـ النساء : 166.
2 ـ فاطر : 11.
3 ـ المنتظم : 195 ـ 196; البداية والنهاية : 12/6 ـ 7 هامش تاريخ ابن الأثير : 7/299 ـ 302 .
________________________________________
(95)
(9)
رأيه في الصفات الخبرية
قسّم الباحثون صفاته سبحانه إلى صفات ذاتية وصفات خبرية.
فالعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر ، وكلّ ما يطلق عليه الصفات الكمالية « صفات ذاتية » ، و ما دلّت عليه ظواهر الآيات والأحاديث ، كالعلو والوجه واليدين والرجل إلى غير ذلك ممّا ورد في المصدرين « صفات خبرية » وقد اختلفت كلمات المتكلّمين في توصيفه سبحانه بالأخير على أقوال هي :
أ. الإثبات مع التشبيه والتكليف
وهو إجراؤها على الله سبحانه بنفس المعاني المرتكزة في أذهان الناس من دون أي تصرّف فيها ، وهو قول المشبهة ، فقد زعموا أنّ لله سبحانه عينين ويدين ورجلين مثل الإنسان.
قال الشهرستاني : أمّا مشبهة الحشوية فقد أجازوا على ربّهم الملامسة والمصافحة ، وأنّ المسلمين المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة إذا بلغوا في الرياضة والاجتهاد إلى حدّ الإخلاص والاتحاد المحض.
وحكى الكعبي عن بعضهم أنّه كان يجوّز الرؤية في دار الدنيا ، وأنّهم يزورونه ويزورهم.
وحكى عن داود الجواربي أنّه قال : اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عمّا وراء ذلك. و قال : إنّ معبوده جسم ولحم ودم ، وله جوارح
________________________________________
(96)
وأعضاء من يد ورجل ورأس ولسان وعينين وأُذنين ، ومع ذلك جسم لا كالأجسام ولحم لا كاللحوم ودم لا كالدماء ، وكذلك سائر الصفات ، وهو لا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا يشبهه شيء ، وحكى عنه أنّه قال : هو أجوف من أعلاه إلى صدره ، مصمت ما سوى ذلك ، وأنّ له فروة سوداء ، وله شعر قطط!!
وأمّا ما ورد في التنزيل من الاستواء ، والوجه واليدين والجنب ، والمجيء والإتيان والفوقية وغير ذلك ، فأجروها على ظاهرها ، أعني : ما يفهم عند إطلاق هذه الألفاظ على الأجسام ، وكذلك ما ورد في الأخبار من الصورة وغيرها في قوله عليه الصلاة والسلام : « خلق آدم على صورة الرحمن » وقوله : « حتى يضع الجبار قدمه في النار » وقوله : « قلب المؤمن بين اصبعين من أصابع الرحمن » وقوله : « خمّر طينة آدم بيده أربعين صباحاً » وقوله : « وضع يده أوكفّه على كتفي » ، وقوله : « حتى وجدت برد أنامله على كتفي » إلى غير ذلك ، أجروها على ما يتعارف في صفات الأجسام ، وزادوا في الأخبار أكاذيب وضعوها ونسبوها إلى النبي عليه الصلاةوالسلام ، وأكثرها مقتبسة من اليهود ، فإنّ التشبيه فيهم طباع ، حتى قالوا : اشتكت عيناه ( الله ) فعادته الملائكة ، وبكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه ، وإنّ العرش لتئط من تحته كأطيط الرحل الحديد ، وأنّه ليفضل من كلّ جانب أربع أصابع ، وروى المشبّهة عن النبي عليه الصلاة والسلام « لقيني ربي فصافحني وكافحني ووضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله ». (1)
هذه عقيدة المشبّهة والمجسّمة في الصفات الخبرية ، وإليك دراسة سائر المذاهب.
ب : الإثبات بلا تشبيه ولا تكليف
إنّ الشيخ الأشعري يجريها على الله سبحانه بالمعنى المتبادر منها في العرف ، لكن مع التنزيه عن التشبيه والتجنّب عن التكييف ، قال في الإبانة :
________________________________________
1 ـ الملل والنحل : 1/105 ـ 106.
________________________________________
(97)
وانّ الله استوى على عرشه » كما قال : الرَّحْمنُ عَلى العَرْشِ اسْتوى. (1)
وأنّ له وجهاً بلا كيف كما قال : وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ وَالإِكْرامِ. (2)
وأنّ له يدين بلا كيف كما قال : خَلَقْتُ بِيَدَي (3) ، وكما قال : بَل يَداهُ مَبْسُوطَتانِ. (4)
وأنّ له عيناً بلا كيف كما قال : تَجري بِأَعْيُنِنا (5). (6)
وقال في الباب السابع من هذا الكتاب : إن قال : ما تقولون في الاستواء؟ قيل له : نقول : إنّ الله عزّوجلّ يستوي على عرشه كما قال : يليق به من غير طول الاستقرار كما قال : الرّحمن على العَرْشِ اسْتَوى .
ثمّ قال بعد عرض عدّة من الآيات : كلّ ذلك يدلّ على أنّه ليس في خلقه ، ولا خلقه فيه ، وأنّه مستو على عرشه بلا كيف ولا استواء. (7)
وقال في الباب الثامن : قال الله تبارك و تعالى : كُلُّ شَيء هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ (8) و قال عزّوجلّ : وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ وَالإِكْرامِ9 ـ ، فأخبر أنّ له وجهاً لا يفنى ولا يلحقه الهلاك ، وقال عزّوجلّ : تَجري بِأَعْيُنِنا . وقال : وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا ، فأخبر عزّ وجلّ أنّ له وجهاً وعيناً ولا يكيف ولا يحد. (10)
وعلى ذلك فالأشعري من أهل الإثبات كالمشبّهة والمجسّمة ، لا من أهل التفويض ولا من أهل التأويل ، وسيوافيك بيانهما. والفرق بين المشبّهة وما
________________________________________
1 ـ طه : 5.
2 ـ الرحمن : 27.
3 ـ ص : 75.
4 ـ المائدة : 64.
5 ـ القمر : 14.
6 ـ الإبانة : 18.
7 ـ الإبانة : 92.
8 ـ القصص : 88.
9 ـ الرحمن : 27.
10 ـ الإبانة : 95.
________________________________________
(98)
ذهب إليه الأشعري ، هو أنّ الطائفة الأُولى تجريها على الله سبحانه بحرفيّتها من دون أي تصرف فيها ، ولكن الأشعري ومن لفّ لفّه يثبتونهاعلى الله بنفس معانيها لكن متقيدة باللاّ كيفية واللاّ تشبيه ، حتى يخرجوا من التجسيم والتشبيه وينسلكوا في أهل التنزيه. وليس هذا المعنى مختصاً به ، بل هناك من يوافقه من المتقدمين والمتأخرين ، يطلق عليهم أهل الإثبات أو المثبتة ، في مقابل المفوِّضة والمؤوِّلة والنفاة بتاتاً ، وإليك نقل ما أُثر عن غيره في هذا المجال ممّا يوافقه :
قال أبو حنيفة : وما ذكر الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه واليد والنفس ، فهو له صفات بلا كيف ولا يقال انّ يده قدرته ونعمته ، لأنّ فيه إبطال الصفة ، وهذا قول أهل القدر والاعتزال ، ولكن يده صفته بلا كيف ، وغضبه ورضاه صفتان من صفاته بلا كيف.
وقال الشافعي : لله أسماء وصفات لا يسع أحداً ردّها ، ومن خالف بعد ثبوت الحجّة عليه كفر ، وأمّا قبل قيام الحجّة ، فإنّه يعذر بالجهل; ونثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه ، فقال ب ـ ليس كمثله شيء .
وقال ابن كثير : وأمّا قوله تعالى : ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جداً ، وإنّما نسلك مذهب السلف الصالح : مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه ، وغيرهم من أئمة المسلمين قديماً وحديثاً ، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ، والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبّهين منفي عن الله ، فإنّ الله لا يشبهه شيء من خلقه ، وليس كمثله شيء. (1)
إثبات الأشعري بين التشبيه والتعقيد
يجب على كلّ مؤمن الإيمان بما وصف الله به نفسه ، وليس أحد أعرف به منه أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله كما أنّه ليس لأحد أن يصرف كلامه سبحانه ، عمّا
________________________________________
1 ـ راجع فيما نقلناه عن أبي حنيفة والشافعي وابن كثير« علاقة الإثبات والتفويض » : 46 ـ 49.
________________________________________
(99)
هو المتبادر من ظاهره ، إذ التأويل بلا اعتماد على نصّ قطعي يفقد النصوص هيبتها ، وإنّ المؤوّلة الذين يؤوّلون ظواهر الكتاب والسنّة ـ بحجّة أنّ ظواهرهما لا توافق العقل ـ مردودون في منطق الشرع ، إذ لا يوجد في الكتاب والسنّة الصحيحة ما ظاهره خلاف العقل ، وإنّما يتصورّونه ظاهراً ثمّ يحملونه على خلافه ، ليس مفاد الآية والمتبادر منها عند التدبّر.
هذا كلّه ممّا لا خلاف بين جمهور المسلمين فيه ، ولكن الذي يجب إلفات النظر إليه ، هو أنّ العقيدة الإسلامية المستقاة من الكتاب والسنّة تتّسم بالدقة والرصانة والسلامة من التعقيد و الألغاز ، وهي تبدو جليَّة مطابقة للفطرة والعقل السليم للجماهير على كافة المستويات ، وتتصف بالصفاء والنقاء. فهذه سمة العقيدة الإسلامية ، وعلى ذلك فإبرازها بصورة التشبيه والتجسيم المأثورين من اليهودية والنصرانية ، أو بصورة التعقيد والألغاز ، لا يجتمع مع موقف الإسلام والقرآن في عرض العقائد على المجتمع الإسلامي ، فلا محيص لمن يعرض العقائد الإسلامية عن رعاية أمرين :
1. التحرّز عن سمة التشبيه والتجسيم.
2. الاجتناب عن الجمود على اللفظ وجعل صفاته سبحانه ألفاظاً جوفاء ، أو معاني معقّدة لا يفهم منها شيء ، بحجّة أنّ البحث عن الكيف ممنوع.
إنّ إثبات الصفات له سبحانه لو انتهى إلى التكييف والتشبيه فهو كفر و زندقة ، لقوله سبحانه : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ ولا ينفع الفرار عنه بكلمة مبهمة ، أعني « الإمرار بلا كيف » كما هو المشاهد في كلمات أغلب المثبتين للصفات ، إذ هو أشبه بالإنكار بعد الإقرار ، ولا إنكار بعده.
فالإصرار على الإثبات تبعاً للنصوص ، والتهجّم على النفاة ، والذهاب في هذا السبيل إلى حدّ التجسيم ، غواية وضلالة; والاعتماد في ذلك على كلمات السلف اعتمادعلى قول من ليس بمعصوم ولا حجّة ، والعقائد تعرض على القرآن والسنّة الصحيحة والعقل السليم الذي به عرف الله وثبت وجوده ، لا على قول السلف الذين لم يخلوا من طالح ، فحشد عبارات بعض السلف في مجال العقائد لا ينفع شيئاً.
________________________________________
(100)
كما أنّ إثبات صفاته سبحانه ، على نحو ينتهي إلى اللغز والتعقيد ويتّسم بعدم المفهومية ، مردود بنص القرآن الكريم حيث ندب إلى التدبّر فيما أنزل إلى نبيّه ، قال عزّ من قائل : أَفَلا يَتَدَّبرون القُرآن (1). وقال سبحانه : كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الأَلْبابِ . (2)
ولكن مع الأسف إنّ إثبات الصفات الخبرية لله سبحانه وإمرارها عليه بين الأشاعرة وغيرهم لا يخرج عن أحد هذين الإطارين ، فالكلّ إمّا يتكلّمون عنها في إطار التشبيه والتكييف ، ويسترسلون في هذا المضمار ، أو يفسرونها في إطار من التعقيد والغموض إذا احترزوا عن البحث والتفصيل ، والكلّ مردود ، مرفوض.
وهانحن نأتي ببعض نصوص القوم في هذا المجال ، حتى نرى كيف أنّ العناية بالإثبات في مقابل « نفاة الصفات » أفضى بالقوم إمّا إلى حدّ التشبيه ، أو إلى حدّ التعقيد. فمن كلمات الطائفة الأُولى :
1. قيل لعبد الله بن مبارك : كيف يعرف ربنا؟ قال : بأنّه فوق السماء السابعة على العرش بائن من خلقه. (3)
2. وقال الأوزاعي : إنّ الله على عرشه ، ونؤمن بماوردت به السنّة من صفاته. (4)
3. وقال الدارمي في مقدّمة كتابه« الرد على الجهمية » : استوى على عرشه ، فبان من خلقه ، لا تخفى عليه منهم خافية ، علمه بهم محيط ، وبصره فيهم نافذ. (5)
4. وقال المقدسي في كتابه« أقاويل الثقات في الصفات » : ولم ينقل عن النبي أنّه كان يحذر الناس من الإيمان بما يظهر في كلامه في صفة ربّه من الفوقية
________________________________________
1 ـ النساء : 82.
2 ـ ص : 29.
3 ـ راجع في الوقوف على مصادر هذه النصوص كتاب « علاقة الإثبات والتفويض » : 48 ، 41 ، 68.
4 ـ راجع في الوقوف على مصادر هذه النصوص كتاب « علاقة الإثبات والتفويض » : 48 ، 41 ، 68.
5 ـ راجع في الوقوف على مصادر هذه النصوص كتاب « علاقة الإثبات والتفويض » : 48 ، 41 ، 68.
(101)
واليدين ونحو ذلك ، ولا نقل لهذه الصفات معاني أُخر ، باطنها غير ما يظهر من مدلولها ، وكان يحضر في مجلسه العالم والجاهل والذكي والبليد والأعرابي الجافي ، ثمّ لا تجد شيئاً يعقب تلك النصوص بما يصرفها عن حقائقها ، لا نصاً ولا ظاهراً ، ولما قال للجارية : أين الله؟ فقالت : في السماء ، لم ينكر عليها بحضرة أصحابه كي لا يتوهموا أنّ الأمر على خلاف ما هي عليه ، بل أقرّها و قال : أعتقها فإنّها مؤمنة. (1)
5. وقال القرطبي في تفسيره عند تفسير آية الأعرافثمّ استوى على العرش :
وقد كان السلف الأوّل ـ رضي الله عنهم ـ لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك ، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله ، ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنّه استوى على عرشه حقيقة ، وخص العرش بذلك لأنّه أعظم مخلوقاته ، وإنّما جهلوا كيفية الاستواء فإنّها لا تعلم حقيقته. (2)
إلى غير ذلك من الكلمات التي يتبادر منها أنّ القائل بها يريد إجلاسه سبحانه على العرش إجلاساً حقيقياً حسّياً ، وأنّ تلك هي العقيدة الإسلامية التي يشترك فيها العالم والأعرابي الجافي.
وتصحيح ذلك بالجهل بالكيفية لا يفيد شيئاً ، فإنّ تلك اللفظة المجملة شيء تلتجئ إليه كلّ من المشبّهة والمجسمة ، ويقولون إنّ لله سبحانه جسماً لا كسائر الأجسام ، ولحماً لا كاللحوم ، ودماً لا كالدماء ، وكذلك سائر الصفات; وإنّمااستحيوا عن إثبات الفرج واللحية ، وإذ قال قائلهم : اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عمّا وراء ذلك. (3)
ليت شعري إذا كانت تلك اللفظة المبهمة مفيدة في مجال التوحيد والتنزيه والتجنب عن التشبيه فليقولوا : إنّ الله جسم لا كالأجسام ، عرض لا كسائر
________________________________________
1 ـ علاقة الإثبات والتفويض : 115.
2 ـ علاقة الإثبات والتفويض : 115.
3 ـ الملل والنحل : 1/15.
________________________________________
(102)
الأعراض ، آكل وشارب لا كالإنسان والحيوان ، فلماذا يستحيون عن حشد هذه الأوصاف مع انّها تفيدهم في التنزيه ، « البلكفة » وتكرار بلا كيف ولا تشبيه بعد كلّ صفة خبرية.
وبعد هذا لا تتعجب ممّا ذكره الزمخشري في كشّافه عن هؤلاء القوم حيث يقول : ثمّ تعجب من المتسمّين بالإسلام ، المتسمّين بأهل السنّة والجماعة ، كيف اتّخذوا هذه العظيمة مذهباً ، ولا يغرّنك تسترهم بالبلكفة ( أي قولهم بلا كيف ) فإنّه من منصوبات أشياخهم ، والقول ما قال بعض العدلية فيهم :
ق ـ ـ د شبّهـ وه بخلق ـ ه وتخ ـ وّف ـ وا شنع الورى فتستّروا بالبلكفة (1)
ثمّ إنّنا نرى أنّ هؤلاء مع تحرّزهم عن تأويل الآيات يؤوّلون الآيات التي لا تناسب التجسيم بل تضاده ، فما هو الهدف من هذا التأويل مع كونه على خلاف منهجهم ، وإليك الآيات التي يصر القوم على تأويلها وحملها على خلاف ظاهرها ، وما ذلك إلاّ بأنّ الأخذ بظاهرها لا يجتمع مع جلوسه سبحانه على العرش ، وكونه في تلك الجهة ، و كونه جسماً متحيزاً في مكان خاص.
1. قوله سبحانه : وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَما كُنْتُمْ وَالله بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . (2)
2. قوله سبحانه : ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثة إِلاّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَة إِلاّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَما كانُوا. (3)
3. قوله سبحانه : وَهُوَ الَّذي في السّماء إِلهٌ وَفي الأَرْضِ إِلهٌ . (4)
فلو لم يكن هدف القوم من الجمود على الظواهر هو التجسيم والجهة فما هو الداعي إلى تأويل هذه الآيات بأنّ المراد منها هو إحاطة علمه سبحانه بالناس ، لا إحاطة ذاته ووجوده ، أليس ذلك يدلّ على أنّ القوم يبطنون
________________________________________
1 ـ الكشاف : 1/576.
2 ـ الحديد : 4.
3 ـ المجادلة : 7.
4 ـ الزخرف : 84.
________________________________________
(103)
العقيدة بجلوسه سبحانه في السماء على عرشه حقيقة ، ولما شاهدوا أنّ ذلك لا يجتمع مع إحاطة وجوده لجميع العوالم الإمكانية ، خرجوا عن منهجهم بتأويل هذه الآيات بحمل الإحاطة على الإحاطة العلمية لا الوجودية ، والعجب أنّهم من يقول بوجوده سبحانه في كلّ مكان بالقول بالطول والنفوذ في الأجسام ، وهم لا يفرّقون بين الإحاطة الجسمية المادية ولا الإحاطة القيّومية ، والآية ناظرة إلى الثانية لا الأُولى.
هذا حال الطائفة الأُولى ، وأمّاالطائفة الأُخرى التي أفضى بهم القول بالإثبات إلى مهزلة الغموض والتعقيد ، وكأنّ الصفات الواردة في الذكر الحكيم لم ترد للتدبر فيها ، فإليك نزراً من كلماتهم :
1. قال سفيان بن عيينة : كلّ شيء وصف الله به نفسه في القرآن فقراءته تفسيره ، لا كيف ولا مثيل. (1)
2. قال ابن خزيمة : إنّما نثبت لله ما أثبته لنفسه ، نقر بذلك بألسنتنا ونصدق بذلك في قلوبنا من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين. (2)
3. قال الخطيب : إنّما وجب إثباتها ، لأنّ التوقيف وَرَدَ بها ، ووجب نفي التشبيه عنها بقوله تعالى : ليس كمثله شيء . (3)
4. قال ابن قدامة المقدسي : وعلى هذا درج السلف والخلف ـ رضي الله عنهم ـ متفقون على الإقرار والإمرار والإثبات لما ورد من الصفات في كتاب الله وسنة رسوله من غير تعرض لتأويله. (4)
5. يقول ابن تيمية ـ مثير هذه النظرية بعد متروكيتها ـ « إنّ لله يدين مختصتين به ذاتيتين له كما يليق بجلاله ، وإنّه سبحانه خلق آدم بيده دون
________________________________________
1 ـ علاقة الإثبات والتفويض : 44.
2 ـ نفس المصدر : 58.
3 ـ علاقة الإثبات والتفويض : 59.
4 ـ نفس المصدر : 59.
________________________________________
(104)
الملائكة وإبليس ، وإنّه سبحانه يقبض الأرض ويطوي السماوات بيده اليمنى. (1)
6. يقول الخطابي : وليس اليد عندنا الجارحة ، وإنّما هي صفة جاء بها التوقيف ، فنحن نطلقهاعلى ما جاء ولا نكيّفها. (2)
7. يقول الإلكائي : إنّ وكيعاً قال : إذا سُئلتم عن ضحك ربّنا فقولوا سمعنا بها. (3)
هذه العبارة ونظائرها تصبغ صفات الله بصبغة التعقيد والإبهام ، ولا تهدي الإنسان إلى معرفة. فإنّ اليد والوجه والرجل موضوعة للأعضاء الخاصة في الإنسان ، ولا يتبادر منها إلاّ ما يتبادر عند أهل اللغة ، وحينئذ فإن أُريد منها المعنى الحقيقي يلزم التشبيه ، وإن أُريد غيره فذلك الغير إمّا معنى مجازي أُريد منه بحسب القرينة فيلزم التأويل ، وهم يفرون منه فرار المزكوم من المسك. وإمّا شيء لا هذا ولا ذاك ، فما هو ذلك الغير؟ بيّنوه لناحتى تتّسم العقيدة بالوضوح والسهولة ، ونبتعد عن التعقيد والإبهام. وإلاّ فالقول بأنّ له وجهاً لا كالوجوه ، ويداً لا كالأيدي ألفاظ جوفاء وشعارات خداعة لا يستفاد منها شيء سوى تخديش الأفكار وتضليلها عن جادة الصواب.
وباختصار : إنّ المعنى الصحيح لا يخرج عن المعنى الحقيقي والمجازي ، وإرادة أمر ثالث خارج عن إطار هذين المعنيين يعد غلطاً وباطلاً ، وعلى هذا الأساس لو أُريد المعنى الحقيقي لزم التشبيه بلا إشكال ، ولو أُريد المعنى المجازي لزم التأويل ، والكلّ ممنوع عندهم ، فما هو المراد من هذه الصفات الواردة في الكتاب والسنّة؟
إنّ ما يلهجون به ويكرّرونه من أنّ هذه الصفات تجري على الله سبحانه بنفس معانيها الحقيقية ولكن الكيفية مجهولة ، أشبه بالمهزلة ، إذ لو كان إمرارها
________________________________________
1 ـ مجموعة الفتاوى : 6/362.
2 ـ فتح الباري : 13/417.
3 ـ علاقة الإثبات والتفويض : 97.
________________________________________
(105)
على الله بنفس معانيها الحقيقية لوجب أن تكون الكيفية محفوظة حتى يكون الاستعمال حقيقياً ، لأنّ الواضع إنّما وضع هذه الألفاظ على تلك المعاني التي يكون قوامهابنفس كيفيتها ، ويكون عمادها وسنادها بنفس هويتها الخارجية. فاستعمالها في المعاني ، حقيقة بلا كيفية أشبه بالأسد بلا ذنب ولا مخلب ولا ولا ... فقولهم : « المراد هو أنّ لله يداً حقيقة لكن لا كالأيدي »أشبه بالكلام الذي يناقض ذيله صدره.
أضف إلى ذلك أنّه ليس في النصوص من الكتاب والسنّة من هذه « البلكفة » أثر ولا عين ، وإنّما هو شيء اخترعته الفاكرة ، للتذرّع به في مقام الردّ على الخصم والنقص عليهم ، بأنّ لازم إمرارها على الله بنفس معانيها ، هو التجسيم والتشبيه.
وقد ذكرنا ما يفيد في المقام عند تحليل عقائد الحنابلة حول الصفات ، فراجع.
ج : التفويض
إنّ هناك نظرية ثالثة حول الصفات الخبرية اختارها جمع من الأشاعرة وهي نظرية التفويض ، وحاصلها الإيمان بكلّ ما جاء في القرآن والسنّة من الصفات التي وصف الله سبحانه نفسه بها إجمالاً ، وتفويض ما يراد منها إليه :
1. يقول الغزالي : وأقلّ ما يجب اعتقاده على المكلّف هو ما يترجمه قوله ـ لا إله إلاّ الله ، محمّد رسول اللهـ ثمّ إذا صدق الرسول فينبغي أن يصدقه في صفات الله بأنّه حي قادر ، عالم متكلم مريد ، ليس كمثله شيء وهو السميع العليم. وعلى هذا الاعتقاد المجمل استمرت الأعراب وعوام الخلق ، إلاّ من وقع في بلدة يقرع سمعه فيها هذه المسائل كقدم القرآن وحدوثه ، ونفي الاستواء والنزول وغيره. (1)
2. قال الشهرستاني : اعلَم أنّ جماعة كثيرة من السلف كانوا يثبتون لله
________________________________________
1 ـ علاقة الإثبات : 162 نقلاً عن الرسالة الواعظية.
________________________________________
(106)
تعالى صفات أزلية من العلم والقدرة والحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام ... وكذلك يثبتون صفات خبرية مثل اليدين والوجه ، ولا يؤوّلون ذلك ، إلاّ أنّهم يقولون هذه الصفات قد وردت في الشرع فنسمّيها صفات خبرية ، ولمّا كانت المعتزلة ينفون الصفات ، والسلف يثبتون ، سمّي السلف صفاتية ، والمعتزلة معطّلة ( لتعطيل ذاته سبحانه عن التوصيف بمحامد الصفات ) ـ إلى أن حكى عن بعض السلف ـ : عرفنا بمقتضى العقل أنّ الله ليس كمثله شيء. فلا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا يشبهه شيء منها وقطعنا بذلك ، إلاّ أنّا نعرف معنى اللفظ الوارد فيه ، مثل قوله سبحانه :الرّحمن على العرشِ استوى ، ومثل قوله : لما خَلَقْتُ بيدي ، ومثل قوله : وَجاءَ رَبُّك ، إلى غير ذلك ، ولسنا مكلّفين بمعرفة تفسير هذه الآيات ، بل التكليف قد ورد بالاعتقاد بأنّه لا شريك له وليس كمثله شيء ، وذلك قد أثبتناه. (1)
3. قال ابن الجوزي في « تلبيس إبليس » : واعلم أنّ عموم المحدثين حملوا ظاهر ما تعلق من صفات الباري سبحانه على مقتضى الحس فشبهوا ، لأنّهم لا يخالطون الفقهاء فيعرفوا حمل المتشابه على مقتضى المحكم. (2)
4. ويظهر ذلك من الرازي في أساس التقديس قال : إنّ هذه المتشابهات يجب القطع بأنّ مراد الله منها شيء غير ظواهرها ، كما يجب تفويض معناها إلى الله تعالى ، ولا يجوز الخوض في تفسيرها. (3)
وهنا كلمات للقائلين بالتفويض يشبه بعضها بعضاً.
إنّ التفويض هو شعار من لا يتعرض للأبحاث الخطيرة ، ولا يقتحم المعارك المدلهمة ، ويرى أنّه يكفيه في النجاة قول رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « بني الإسلام على خمس : شهادة أن لاإله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والحجّ ، وصوم رمضان » (4) ، وعند ذاك يرى
________________________________________
1 ـ الملل والنحل : 1/92 ـ 93.
2 ـ تلبيس إبليس : 113 ، ط دار العلم.
3 ـ أساس التقديم : 223 كما في علاقة الإثبات : 102.
4 ـ صحيح البخاري : 1/7 ، كتاب الإيمان.
________________________________________
(107)
أنّ التفويض أسلم من الإثبات الذي ربما ينتهي ـ عند الإفراط ـ إلى التشبيه والتجسيم المبغوض ، أو إلى التعقيد واللغز الذي لا يجتمع مع سمة سهولة العقيدة.
هذه حقيقة التفويض ، غير أنّ ابن تيمية شنّ على هذه الطائفة بما ليس في شأنهم وقال : إنّ هؤلاء المبتدعة هم الذين فضلوا طريقة الخلف على طريقة السلف; من حيث ظنّوا أنّ طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث ، من غير فقه ولا فهم لمراد الله ورسوله منها ، واعتقدوا أنّهم بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم : وَمِنهُمْ أُمِّيُّونَ لايَعْلَمُونَ الكِتابَ إِلاّ أَمانِيَّ ) (1). (2)
وكأنّه تأثّر بما ذكره محيي الدين ابن العربي حيث رد على أهل التفويض وقال : « قالوا نؤمن بهذا اللفظ كما جاء من غير أن نعقل له معنى ، حتى نكون في هذا الإيمان به في حكم من لم يسمع به ، ونبقى على ما أعطانا دليل العقل من إحالة مفهوم هذا الظاهر. وهذا القول بهذا القسم متحكم أيضاً ، فإنّه ردّ على الله بأنّهم جعلوا نفوسهم في حكم نفوس لم تسمع ذلك الخطاب. وقسم آخر قالوا : نؤمن بهذا اللفظ على حدّ علم الله فيه وعلم رسوله ، فهؤلاء قد قالوا : إنّ الله خاطبنا عبثاً لأنّه خاطبنا بما لا نفهم ، والله يقول : وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُول إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ (3). (4)
غير أنّا نلفت نظر القارىء إلى أنّ ما عاب به ابن تيمية أهل التفويض مشترك بينهم و بين أهل الإثبات ، فقد عرفت أنّ إثبات الصفات الخبرية مع حفظ التنزيه تجعل الصفات ألفاظاً بلا معان واضحة ، لما سبق من أنّ الكيفية المادية هي المقوّمة لليد والوجه والرجل ، فإثبات مفاهيمها مع سلب كيفياتها أشبه شيء بإثبات شيء في عين سلبه ، فعندئذ تنقلب الآيات البينات الدالّة على
________________________________________
1 ـ البقرة : 78.
2 ـ علاقة الإثبات والتفويض : 60.
3 ـ إبراهيم : 4.
4 ـ الفتوحات المكية : 4/928.
________________________________________
(108)
أشرف المعاني وأجلّها ، لدى القوم ، إلى آيات غير مفهومة ولا معقولة.
والعجب أنّ أحد المصرّين على الإثبات بصورة النمط الأشعري يحسبه عقيدة سلفية ، ويقول في كتابه : إنّ صفات الله يجب أن تكون لدى المسلم بديهيات ذهنية تتغلغل في قلبه ، فيتحرر من أي ضغط خارجي ، لما لها من انعكاسات تربوية هامة على النفس البشرية ـ إلى أن قال ـ : إنّ الجهل بالله أمر خطير ، وضرره على المسلمين كبير ، لأنّ ذلك يؤدي إلى أن يكون عرضة للزلاّت ، وأن يكون قلبه مورداً للشبهات ومستقراً للأوهام. (1)
إنّ السمة التي يثبتها الكاتب لصفات الله ، هل هي موجودة في قولهم : إنّ لله يداً لا كالأيدي ، أو وجهاً لا كالوجوه ، أو أنّ هذا لا يزيد في صفاته تعالى إلاّ غموضاً وتعقيداً ، وتصبح العقيدة الإسلامية عند الواصف كالعقائد المتخذة من الكنائس التي يدّعي أصحابها أنّ الإيمان بها واجب ، وإن لم يعلم كنهها ، كما هو قولهم في التثليث ونظائره.
قال حنبل بن إسحاق : سألت أحمد بن حنبل : ألم ترو عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أنّ الله ينزل إلى سماء الدنيا؟ قال أحمد : نؤمن بها و نصدق ولا نرد شيئاً عنها إذا كانت الأسانيد صحاحاً ـ إلى أن قال ـ : قلت : أنزوله بعلمه أو بماذا؟ قال : اسكت عن هذا ، مالك ولهذا ، امض الحديث على ما روي بلا كيف ولا حد. (2)
إنّ سؤال ابن إسحاق أوضح دليل على أنّ الإثبات على النمط الذي يتبنّاه أهل الحديث لا يجعل العقيدة الإسلامية واضحة مفهومة ، بل يجعلها مجهولة معقّدة. ولكن يجب الإيمان بها مهما كانت غير مفهومة ولا معقولة ، و لا تَنْسَ ما رمى به ابن تيمية أهل التفويض بأنّهم اعتقدوا أنّهم بمنزلة الأُميين الذين قال الله فيهم ـ إلخ. ولا تنس أيضاً ما شن به ابن العربي على تلك الطائفة بقوله : إنّهم جعلوا نفوسهم في حكم نفوس لم تسمع ذلك الخطاب ، إنّهم قالوا : إنّ الله خاطبنا عبثاً بما لا نفهم.
________________________________________
1 ـ علاقة الإثبات والتفويض : 15.
2 ـ شرح أُصول السنّة للألكائي كما في علاقة الإثبات والتفويض : 98.
________________________________________
(109)
إنّ المنهجين يرتضعان من ثدي واحد ، لا فرق بينهما في المعنى واللب ، وإنّما يختلفان في التعبير ، فأهل التفويض يعترفون بجهلهم بمعاني هذه الصفات ، وللتوقي عن التورط في مغبة التشبيه أو التقوّل بغير العلم ، يفوضون معانيها إلى الله.
وأمّا أهل الإثبات ، فلو أنّهم صدقوا في قولهم بلا تشبيه ولا تكييف ، فهم يعترفون بذلك مآلاً ، وإن كانوا يجحدون بها ابتداءً.
وإذا أردت أن تقف على أنّ نظرية الإثبات على النمط الثاني تجعل المعاني السامية والمعارف العليا الواردة في الذكر الحكيم في عداد الألغاز والمبهمات و ... ، فانظر إلى ما يذكره عبدالقادر الجيلاني في « الغنية ».
يقول الجيلاني : وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل وأنّه استواء الذات على العرش ، لا على معنى القعود والمماسّة ، كما قالت المجسّمة والكرامية ، ولا على معنى العلو والرفعة كما قالت الأشاعرة ، ولا على معنى الاستيلاء والغلبة كما قالت المعتزلة; لأنّ الشرع لم يرد بذلك ، ولا نقل عن أحد من الصحابة ، ولا نقل من السلف الصالح من أصحاب الحديث ، بل المنقول عنهم حمله على الإطلاق ، وقد روي عن أُمّ سلمة زوج النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) في قوله سبحانه : الرّحمن على العَرْشِ استوى (1) قالت : الكيف غير معقول والاستواء غيرمجهول ، والإقرار به واجب والجحود كفر. (2)
فعندئذ نسأل الجيلاني : إذا لم يكن هذا ولا ذاك ولا ذلك مراداً ، فما هو المراد من تلك الآية ، والتي تكررت في الذكر الحكيم سبع مرات؟ وهل فهم الشيخ منها أمراً معقولاً أو أوكل الجميع إلى الله سبحانه؟
وكم للقوم من هذه الكلمات المفروغة في قوالب ، ومآلها إلى الجهل بمفاهيم الآيات ومضامين الذكر الحكيم ، وكأنّه سبحانه لم يخاطبهم بقوله :
________________________________________
1 ـ طه : 5.
2 ـ الغنية : 56.
________________________________________
(110)
أَفَلا يَتَدَبّرونَ القُرآنَ . (1)
التفويض أو تعطيل العقول عن التفكير
إنّ أهل الإثبات بعامّة فروعه يرمون المعتزلة بالتعطيل ، ويصفونهم ب ـ « المعطّلة » لتعطيلهم ذاته سبحانه عن التوصيف بمحامد الأوصاف وجلائل النعوت ، غير أنّه يجب إلفات نظرهم إلى أنّ أهل التفويض من أهل الإثبات من المعطلة أيضاً ، لكن بملاك آخر ، وهو تعطيل العقول عن التفكّر في المعارف والأُصول ، كما عطّلوها عن التدبّر في الآيات والأحاديث ، فكأنّ القرآن ألغاز نزلت إلى البشر ، وليس كتابه هداية وتعليم وإرشاد ، قال تعالى : وَنَزَّلْنا عَلْيْكَ الكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيء . (2)
فإذا كان القرآن مبيناً لكلّ شيء ، فكيف لا يكون مبيّناً لنفسه ، وكيف يكون المطلوب نفس الاعتقاد من دون فهم معناه.
إنّ المنع عن التفكّر والتدبّر فيما نزل من الذكر الحكيم ، وما يحكم به العقل السليم محجوج بنص القرآن لا يقبل من أي إنسان ، والاستدلال عليه بقول الشاعر أخذ بنغمة الشاعر ، وترك لنص الباري :
نهاية إقدام العقول محال وأكثر سعي العالمين ضلال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقال ـ وا (3)
والعجب أنّ تعطيل العقول عن البحث والمعرفة أخذ في هذه الأعصار صبغة علمية مادية بحتة ، بحجة أنّ مبادئها ومقدّماتها ليست في متناول الباحثين ، لأنّها موضوعات وراء الحس والطبيعة ، ولا تعمل فيها حواس الإنسان ، فهذا هو السيد الندوي يتمسّك بهذا الوجه ، ويعد ترك البحث فضيلة ، والبحث عن المعارف القرآنية كفراناً للنعمة.
________________________________________
1 ـ النساء : 82.
2 ـ النحل : 89.
3 ـ منسوب إلى الرازي كما في شرح العقائد الطحاوية : 227.
(111)
يقول : « وقد كان الأنبياء ( عليهم السَّلام ) أخبروا الناس عن ذات الله وصفاته وأفعاله ، وعن بداية هذا العالم ومصيره ، وما يهجم عليه الإنسان بعد موته ، وآتوهم علم ذلك كلّه بواسطتهم عفواً بدون تعب ، وكفوهم مؤونة البحث والفحص في علوم ليس عندهم مبادئها ولا مقدّماتها التي يبنون عليها بحثهم ليتوصلوا إلى مجهول ، لأنّ هذه العلوم وراء الحس والطبيعة ، لا تعمل فيها حواسّهم ولا يؤدي إليها نظرهم ، وليست عندهم معلوماتها الأوّلية.
لكن الناس لم يشكروا هذه النعمة وأعادوا الأمر جذعاً ، وأبدوا البحث آنفاً وبدأوا رحلتهم في مناطق مجهولة لا يجدون فيها مرشداً ولا خرّيتاً. (1)
إنّ الكاتب حسب ما توحي عبارته متأثر بالفلسفة المادية التي تحصر أدوات المعرفة بالحس ، ولا يقيم وزناً للعقل الذي هو إحدى أدواتها ، وهذا من الكاتب أمر عجيب جداً ، فإنّ الله سبحانه كما دعا إلى الانتفاع بالحس ومطالعة الطبيعة ، وكشف قوانينها وأنظمتها ، دعا إلى التعّقل والتفكّر في كلّ ما ورد في القرآن الكريم حيث قال : أَفَلا يَتَدَبَّرونَ القُرآنَ أَمْ عَلى قُلُوب أَقْفالُها . (2)
وليست الآية ناظرة إلى التدبّر في خصوص الأنظمة السائدة على النبات والحيوان والإنسان ، بل التدبّر في مجموع ما جاء في القرآن ، فقد جاء في القرآن الكريم معارف دعا إلى التدبّر فيها نظير : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء (3) ، وَلله المَثَلُ الأَعْلى (4) ، لَهُ الأَسماءُ الحُسْنى ) (5) ، المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ العَزيزُ الجَبّارُ المُتَكبّرُ ) (6) ، فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله (7) ، هُوَ الأَوّلُ وَالآخِرُ وَالظّاهِرُ
________________________________________
1 ـ ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين : 97.
2 ـ محمد : 24.
3 ـ الشورى : 11.
4 ـ النحل : 60.
5 ـ طه : 8.
6 ـ الحشر : 23.
7 ـ البقرة : 115.
________________________________________
(112)
وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْء عَليمٌ (1) ، وَإِنْ مِنْ شَيْء إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاّ بِقَدَر مَعْلُوم (2) ، وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَما كُنْتُمْ (3) ، يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتابِ . (4)
إلى غير ذلك من المعارف العليا الواردة في القرآن الكريم ، ولا يصل إليها الإنسان إلاّ بالتدبّر والتعقّل ، ولا تكفي في التعرف عليها العلوم الحسية وإن بلغ القمة.
د. التأويل
إنّ تأويل نصوص الآيات وظواهرها على الإطلاق في مورد الصفات الخبرية وغيرها بلا دليل وحجّة شرعية ليس بأقل خطراً من الجمود ، لو لم يكن أكثر ، إذ ينتهي ذلك القسم من التأويل إلى الإلحاد وإنكار الشريعة. (5)
غير أنّا نخص البحث بتأويل الصفات الخبرية حيث يفسر اليد بالنعمة والقدرة ، والاستواء على العرش بالاستيلاء وإظهار القدرة.
فنقول : إن كان التأويل لأجل أنّ ظاهر القرآن يخالف العقل الصريح ولذا يجب ترك النقل لأجل صريح العقل ، فلا شكّ أنّه مردود ، إذ الكتاب العزيز والسنة الصحيحة منزهان عمّا يخالف صريح العقل. ولا أظن أنّ مسلماً واعياً يتفوّه بذلك. وما ربما ينسب إلى بعض المؤولة من أنّ الأخذ بظواهر الكتاب والسنّة من أُصول الكفر (6) ، أو أنّ التمسّك في أُصول العقائد بظواهرالكتاب والسنّة من غير بصيرة هو أصل الضلالة ، فقالوا بالتشبيه
________________________________________
1 ـ الحديد : 3.
2 ـ الحجر : 21.
3 ـ الحديد : 4.
4 ـ الرعد : 39 .
5 ـ قد أشبعنا الكلام في أقسام التأويل في مقدّمة الجزء الخامس من موسوعتنا القرآنية ـ مفاهيم القرآن ـ : ص 12 ـ 16.
6 ـ الصاوي على تفسير الجلالين : 3/10 ، كما في علاقة الإثبات والتفويض : 67.
________________________________________
(113)
والتجسيم والجهة عملاً بظاهر قوله تعالى : الرَّحمن على العَرْشِ اسْتَوى (1) ، فهو من هفوات القلم و زلاّت الفكر ، بل الأخذ بظواهر الكتاب نفس الهداية والإعراض عنه واللجوء إلى غيره سبب الضلالة.
غير أنّ الذي يجب التركيز عليه هو أنّ الكبرى الكلية ( لزوم الأخذ بالكتاب والسنّة الصحيحة ) لا نقاش لمسلم فيها; فيجب على الكلّ اتّباع الذكر الحكيم من دون أي تحوير وتحريف ، ومن دون أي تصرف وتأويل.
إنّما الكلام في الصغرى ـ أي تشخيص الظاهر عن غيره ، وتعيين مرمى الآية ـ مثلاً : هل اليد في قوله سبحانه : وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (2) ظاهرة في الجارحة المخصوصة ، أو كناية عن الجود والبذل ( بسط اليد ) أوالبخل والتقتير ( غلّ اليد ). وهذا هو الذي يجب بذل الجهد في سبيل معرفته ، بدل السب والشتم ، أو التفسيق والتكفير.
ولو أنّ قادة الطوائف الإسلامية وأصحاب الفكر منهم ، نبذوا الآراء المسبقة والأفكار الموروثة وركّزوا البحث على تشخيص الظاهر عن غيره ، حسب المقاييس الصحيحة; لارتفع جدال الناس ونقاشهم حول الصفات ، الذي دام طوال مئات السنين.
إنّ رؤساء الطوائف الإسلامية في هذه الأعصار ، لو ابتعدوا عن العصبية والحزبيةوالآراء التي ورثوها من أناس غيرمعصومين ، وأحسّوا بضرورة توحيد الكلمة ـ إثر كلمة التوحيد ـ و رصّ الصفوف وتكاتف الجهود ، لارتفع كثير من الخلافات النابعة من تقديم الهوى على الحقّ.
وبما أنّ المعتزلة هم المعنيون بالمؤولة تارة ، وبالمعطلة أُخرى ، نبحث عن هذا الموضوع ( تعيين ما هو الظاهر المتبادر عند الذكي والأعرابي الحافي من الصفات الخبرية ، الواردة في الذكر الحكيم ) في الفصل الذي نخصّصه لبيان
________________________________________
1 ـ شرح أُمّ البراهين : 82 كما في المصدر السابق.
2 ـ الإسراء : 29.
________________________________________
(114)
عقائد هذه الطائفة ، عسى أن نتوفق لذلك بإذنه سبحانه. وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيراً لَهُمْ . (1)
________________________________________
1 ـ النساء : 66.
________________________________________
(115)
(10)
أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه
قد وقفت عند ترجمة الشيخ الأشعري على أنّه رقي كرسياً في جامع البصرة ونادى بأعلى صوته : من عرفني فقد عرفني ـ إلى أن قال ـ : كنت أقول بخلق القرآن ، وأنّ الله لا تراه الأبصار ، وأنّ أفعال الشر أنا أفعلها ، وأنا تائب مقلع معتقد للرد على لمعتزلة. (1)
وقد ذكر في « الإبانة » في الباب الثاني : أنّه لا خالق إلاّ الله وأنّ أعمال العبد مخلوقة لله ومقدورة ، كما قال : وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (2) وأنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً وهم يُخْلَقُون كما قال سبحانه : هَلْ مِنْ خالِق غَيْرُ الله (3). (4)
وقال في « مقالات الإسلاميين » في حكاية جملة قول أهل الحديث وأهل السنّة : وأقروا أنّه لا خالق إلاّ الله ، وأنّ سيئات العباد يخلقها الله ، وأنّ أعمال العباد يخلقها الله عزّوجلّ ، وأنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا منها شيئاً. (5)
________________________________________
1 ـ وفيات الأعيان : 3/285; فهرست ابن النديم : 257.
2 ـ الصافات : 96.
3 ـ فاطر : 3.
4 ـ الإبانة : 20.
5 ـ مقالات الإسلاميين : 1/321.
________________________________________
(116)
وقد استدلّ الشيخ بالأدلّة العقلية والنقلية فاكتفى من الأوّل بوجهين :
الدليل الأوّل
ما ذكره في « اللمع » وحاصله :
1.الإيمان متصف بالحسن والكمال ولكنّه متعب; والكفر متصف بالقبح ، ولكنّه ملائم للقوى الحيوانية.
2. إذا أراد المؤمن أن لا يكون إيمانه متعباً مؤلماً لم يقدر على ذلك ، ولو أراد الكافر أن يكون كفره على خلاف ما هو عليه ، أي أن يكون مخالفاً للشهوات لم يقدر عليه.
3. كلّ فعل كما يحتاج في أصل الوجود إلى موجد ، فكذلك يحتاج إليه في الصفات والخصوصيات.
4. لا يصحّ أن يكون المؤمن موجداً للإيمان ، والكافر موجداً للكفر بما لهما من الخصوصيات ، لأنّ كلاًّ منهما يقصدهما على غير حقيقتهما ، فالكافر يقصد الكفر بما أنّه أمر حسن ، ولكنّه في الحقيقة قبيح. كما أنّ المؤمن يقصد الإيمان بما أنّه غير متعب ، وهو ليس كذلك ، فينتج : إذا لم يكن المحدث للكفر على ما له من الوصف شخص الكافر ، ولا المحدث للإيمان على حقيقته شخص المؤمن ، فوجب أن يكون المحدث هو الله تعالى سبحانه. (1)
وباختصار : إنّ الإيمان في الحقيقة متعب لكونه مخالفاً للقوى النفسانية والشهوانية; والكفر قبيح باطل; ولو قصد المؤمن أن يقع الإيمان على خلاف ما وقع من كونه مؤلماً و متعباً ، لم يكن له إلى ذلك من سبيل. ولو أراد الكافر أن يتحقّق الكفر في الخارج حسناً صواباً لم يقدر عليه ، هذا من جانب.
ومن جانب آخر : إنَّ المؤمن يجنح إلى الإيمان بما أنّه غير مؤلم ولا متعب ، والكافر يجنح إلى الكفر بما أنّه حسن حق. ولما كان واقع الإيمان والكفر على غير
________________________________________
1 ـ عبارة اللمع غير خالية عن التعقيد والبسط الممل ، وما ذكرناه في المتن ملخص مراده. راجع اللمع : 71 ـ 72.
________________________________________
(117)
الحقيقة التي يتصورها المؤمن والكافر ، يستكشف أنّ الفاعل الحقيقي للإيمان والكفر ، هو الله سبحانه. إذ لو كان الفاعل هو شخص المؤمن والكافر ، وجب أن يتحقّق الإيمان والكفر على النحو الذي يريدانه ، لا على الحقيقة التي هما عليها من الأوصاف والخصوصيات.
يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ توصيف الإيمان بالإتعاب والإيلام ، والكفر على خلافه ، إنّما يصحّ إذا قيسا إلى الإنسان الذي تتحكم به القوى الحيوانية ، فلا شكّ أنّ الإيمان يجعل الإنسان محدوداً مكبوحاً جماحه أمام الشهوات واللذات; والكفر يجعل الإنسان حرّاً غير محدود في حياته ، فيكون الأوّل مؤلماً متعباً ، والثاني ملذاً وموافقاً للطبع.
ولكن إذا قيسا إلى الفطرة الإنسانية العلوية التي خمرت بالإيمان والتوحيد ، فالأمر على العكس. فالإيمان نور و ضياء للروح ، والكفر سواد وظلمة لها. ويشهد على ذلك ما ورد في الكتاب العزيز حول الإيمان والكفر والفطرة الإنسانية ، ولا نطيل الكلام بذكرها ، ويكفي في ذلك قوله سبحانه :فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللّهِ الّتي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْديلَ لِخَلْقِ اللّه ذلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ. (1)
ثانياً : لو صحّ هذا الدليل لوجب القول بأنّ شارب الماء بتخيل أنّه خمر لم يشرب شيئاً ولم يصدر منه عمل ولا فعل ، لأنّه قصد شربه بعنوان أنّه خمر وكان الواقع في الحقيقة شرب الماء ، فما وقع لم يقصد ، وما قصد لم يقع.
ثالثاً : أنّ ما ذكره خلط بين الصفات الواقعية الحقيقية والصفات الانتزاعية ، فالأُولى : كالبياض والسواد ، والحرارة والبرودة ، تحتاج إلى محدث كما يحتاج الموصوف بها إليه كذلك ، والثانية : كالصغر والكبر المنتزعين من مقايسة شيء إلى شيء ، لا تحتاج إليه ، لأن ّ هذه الأوصاف من مصنوعات الذهن ومخترعاته. فالموجد يوجد نفس الجسم الكبير لا وصفه ، كما أنّه يوجد
________________________________________
1 ـ الروم : 30.
________________________________________
(118)
ذات الصغير لا وصفه ، وإنّما الذهن يقوم بعمل الانتزاع عند المقايسة.
فالجسم الذي هو بقدر ذراع ، أكبر من الجسم الذي على نصفه ، والثاني أصغر منه. فالذي أوجده الفاعل إنّما هو ذات الجسمين لا وصفهما ، فالموجد للجسم الكبير لا يقوم بعملين : إيجاد الجسم وإيجاد وصف الكبر فيه ، وهكذا في الجسم الصغير ، وإنّما ينتقل الإنسان إلى ذينك الوصفين عند المقارنة ، ولولاها لم يتبادر إلى الذهن أي من الوصفين.
وعلى ذلك فالموجد للإيمان إنّما يوجد ذات الإيمان ، وهكذا الموجد للكفر يوجد ذات الكفر. وأمّا كون الأوّل مؤلماً متعباً ، والثاني قبيحاً مخالفاً للواقع الحقّ الذي يضاد الكفر ، فلا يحتاج إلى فاعل وعلة أبداً.
وإن شئت قلت : إنّ الذي يوجد الإيمان لا يوجد إلاّ شيئاً واحداً ، وهو ذاته لا شيئين : أحدهما ذاته والآخر وصفه. وهكذا الكفر لا يقوم الموجد له بعملين. وهذا أمر واضح لمن له إلمام بالقضايا الاعتبارية والانتزاعية. وعندئذلا يصح قوله : « إنّ الإيمان في نظر المؤمن حلو مع أنّه في الواقع مر والكفر في نظر الكافر صواب حسن ، مع أنّه في الواقع باطل قبيح ، فلا يصحّ عد المؤمن والكافر خالقين لهما ، لكونهما في نظريهما على غير الوجه الذي هما عليه حسب الواقع ».
والعجب أنّ الأشعري المنكر للحسن والقبح اعترف هنا بقبح الكفر وحسن الإيمان ، مع أنّه ليس في منهجه أثر من الحسن والقبح العقليّين ، بالكل عنده شرعيّان. الدليل الثاني
إنّ الدليل على خلق الله تعالى حركة الاضطرار ، قائم في خلق حركة الاكتساب ، وذلك أنّ حركة الاضطرار إن كان الذي يدلّ على أنّ الله خلقها ، حدوثها ، فكذلك القصة في حركة الاكتساب ، وإن كان الذي يدلّ على خلقها ، حاجتها إلى مكان وزمان ، فكذلك قصة حركة الاكتساب ، فلماّ كان كلّ دليل يستدل به على حركة الاضطرار مخلوقة لله تعالى ، يجب به القضاء على
________________________________________
(119)
أنّ حركة الاكتساب مخلوقة لله تعالى ، وجب خلق حركة الاكتساب بمثل ما وجب به خلق حركة الاضطرار. (1)
وحاصله : إذا كانت الحركة الاضطرارية مخلوقة لله تعالى سبحانه لأجل حدوثها واحتياجها إلى الزمان والمكان ، فلذلك لملاك موجود في الحركة الاختيارية للإنسان فيجب أن تكونا مخلوقتين له تعالى.
يلاحظ عليه : أنّ ما ذكر من القياس والمشابهة بين الحركتين لا ينتج إلاّ أنّ للحركة الاكتسابية أيضاً محدثاً وموجداً. وأمّا كون محدثه هو الله سبحانه فلا يثبته القياس ، لأنّ مشاركة الحركتين في الحدوث والحاجة إلى الزمان والمكان ، تقضي بأنّ الثانية مثل الأُولى في الحاجة إلى المحدث. وأمّا كون محدثهما شخصاً واحداً فهذا ممّا لا يعلم من القياس.
وأمّا نسبة الحركة الاضطرارية إلى الله سبحانه على وجه القطع واليقين ، فلأجل أنّها ليست مستندة إلى الإنسان ، وليست واقعة في إطار اختياره وإرادته ، فيحكم باستنادها إلى الله ، إذ الأمر دائر بين أن يكون الفاعل أحدهما. وأمّا الحركة الاكتسابية فلا وجه لنفي إستنادها إلى الإنسان ، وتأكيد انتسابها إلى الله.
نعم لو قال أحد بمقالة الأشعري من أنّ القدرة الحادثة في العبد غير مؤثرة في وجود الفعل ، لكان له أن يسند الحركتين معاً إلى الله سبحانه. ولكنّه أوّل الكلام ، والاستناد إلى ذلك الأصل أشبه بكون المدّعى نفس الدليل.
إنّ المتأخرين من الأشاعرة كالرازي في محصله ، و ( الإيجي ) في مواقفه ، والتفتازاني في شرح مقاصده ، والقوشجي في شرحه لتجريد الطوسي ... حرّروا المسألة بصورة واضحة ، واعتمدوا في إقامة البرهان عليه على غير ما اعتمد عليه الشيخ الأشعري.
أوّلاً : بحثوا عن المسألة تحت عنوان « أنّ الله قادر على كلّ المقدورات »
________________________________________
1 ـ اللمع : 74 ـ 75.
________________________________________
(120)
أو « عموم قدرته لكلّ شيء » و أرادوا من « عموم القدرة » (1) أنّ كلّ موجود ، واقع بقدرته ابتداء ، وإن توقف تأثيره في البعض على شرط ، كتوقف إيجاده للعرض على إيجاده لمحله ، لامتناع قيامه بنفسه. (2)
وعلى ذلك فالمراد من عموم قدرته هو المؤثر بالفعل من القدرة ، لا القدرة الشأنية ، وإن لم يستعملها; فلو قيل : إنّ قدرته سبحانه عامة ، يراد أنّه هو الفاعل الخالق لكلّ شيء موجود في الخارج بلا واسطة.
ثانياً : اعتمدوا في إثبات المطلوب على الإمكان دون الحدوث ، و بين الملاكين فرق واضح لا يخفى على من له أدنى إلمام بالمسائل الكلامية.
يقول الرازي : إنّ ما لأجله صحّ في البعض أن يكون مقدوراً لله تعالى هو الإمكان ، لأنّ ما عداه إمّا الوجوب أو الامتناع ، وهما بخلاف المقدورية ، ولكن الإمكان وصف مشترك بين الممكنات ، فيكون الكلّ مشتركاً في صحّة مقدوريته لله تعالى ، ولو اختصت قادريته بالبعض دون البعض ، افتقر إلى المخصص. (3)
يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره صحيح ، ولكنّه عاجز عن إثبات ما رامه ، إذ لا شكّ أنّ جميع الموجودات الممكنة تنتهي إلى الواجب ، ولا غنى لأي ممكن في ذاته وفعله عنه سبحانه ، لكن فقر الممكنات وحاجتها إلى الواجب ، لا يستلزم أن يكون الواجب هو السبب المباشر لكلّ ما دقّ وجلّ ، ولكلّ حركة وسكون يعرضان على المادة. بل يكفي في رفع الحاجة إيجاد العوالم الإمكانية وفق نظام الأسباب والمسببات ، فكلّ وجود ، مسبب لما فوقه ، وسبب لما دونه. وبذلك يجري الفيض منه سبحانه على نمط الأسباب العالية إلى الأسباب المتوسطة ، إلى السافلة ، حتى ينتهي إلى عالم الهيولي والطبيعة ، فلكلّ حادث سبب ، ولسببه سبب حتى ينتهي إلى الواجب عزّ اسمه; وسببية كلّ سبب وتأثير كلّ علّة
________________________________________
1 ـ وقد يراد من « عموم قدرته تعالى » ، قدرته على القبيح خلافاً للنظام حيث قال : بعدم قدرته عليه ، ولكن المراد منه في المقام هو الأوّل .
2 ـ هامش شرح المواقف لعبد الحكيم السيالكوتي.
3 ـ المحصل : 298; شرح المواقف : 8/60; شرح المقاصد : 2/137.
(121)
متوسطة ، بإذنه سبحانه وإرادته ومشيئته ، و هذا هو المراد من التوحيد في الخالقية; فالخالق المستقل في خلقه ، واحد. وخالقية غيره بإذنه وإقداره. وهذا المقدار من الاستناد يكفي في رفع حاجة الممكن من دون حاجة إلى أن يكون هناك استناد مباشر.
وباختصار : إنّ الله سبحانه خلق الإنسان وأفاض عليه القدرة والاختيار ، وهو بالقدرة المكتسبة يوجد فعله ، وعليه يكون الفعل فعلاً لله سبحانه وفعلاً للعبد. أمّا الأوّل فلأنّ ذاته وقدرته مخلوقتان لله سبحانه. وأمّا الثاني فلأنّه باختياره وحريته النابعة من ذاته صرف القدرة المفاضة في مورد خاص ، ولأجل ذلك يقول أهل الحقّ : إنّ لفعل العبد نسبة إلى الله ونسبة إلى العبد« والفعل فعل الله وهو فعل العبد ».
الحجج الأُخرى للأشاعرة
احتج المتأخرون من الأشاعرة على كون أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه بوجوه أُخرى نأتي ببعضها :
الأوّل : لو كان العبد موجداً لأفعال نفسه لكان عالماً بتفصيل أفعال ، ه وهذا معنى قوله سبحانه : أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطيفُ الخَبير (1) ، وبما أنّه غير لم بتفاصيل أفعاله ، بشهادةأنّنا حال الحركة نفعل حركات جزئية لا نعقلها ، وأنّنا نقصد الحركة من المبدأ إلى المنتهى ، ولا نقصد جزئيات تلك الحركة ، وجب القطع بأنّ العبد غير موجد لها. (2)
يلاحظ عليه : أنّ الإيجاد لا يستلزم العلم ، فإنّ الفاعل قد يصدر عنه الفعل بمجرد الطبع ، كالإحراق الصادر من النار من غير علم ، فلا يلزم من نفي العلم نفي الإيجاد ، والمثبتون لعلمه سبحانه لا يستدلّون عليه بالإيجاد ، بل بإتقان الفعل وإحكامه. نعم الإيجاد بالاختيار لكونه مقارناً للقصد ،
________________________________________
1 ـ الملك : 14.
2 ـ الأربعون للرازي : 231 ـ 232 ، وشرح التجريد للقوشجي : 447 .
________________________________________
(122)
والقصد إلى الشيء لا يكون إلاّ بعد العلم به يستلزم العلم. ثمّ إنّ الفاعل لو كان قاصداً للفعل بالتفصيل ، يوجده بالعلم التفصيلي ، ولو كان قاصداً بالإجمال يوجده كذلك. فالفاعل للأكل والتكلّم يقصد أصل الفعل على وجه التفصيل ، فيستلزم علم الفاعل به كذلك ـ و في الوقت نفسهـ لا يقصد مضغ كلّ حبة ، أو التكلّم بكلّ حرف وكلمة إلاّ إجمالاً ، فيلزمه العلم بهما على وجه الإجمال.
كما أنّ صانع شربة كيمياوية من عدة عناصر مختلفة ، يقصد إدخال كلّ عنصر فيها على وجه التفصيل ، فيلزمه العلم به تفصيلاً ، وعلى ذلك يكون أصل العلم وكيفيته من الإجمال والتفصيل ، تابعين لأصل القصد وكيفيته.
الثاني : لو كانت قدرة العبد صالحة للإيجاد فلو اختلفت القدرتان في المتعلّق مثل ما إذا أراد الله تعالى تسكين جسم و أراد العبد تحريكه ، فإمّا أن يقع المرادان وهو محال ، أو لا يقع واحد منهما ، وهو أيضاً محال ، لأنّه يلزم منه ارتفاع النقيضين ، لأنّ الجسم لا يخلو من الحركة والسكون ، أو يقع أحدهما دون الآخر ، وهو أيضاً محال ، لأنّ وقوع أحدهما ليس أولى من وقوع أحدهما دون الآخر ، وهو أيضاً محال ، لأنّ وقوع أحدهما ليس أولى من وقوع الآخر. لأنّ الله تعالى وإن كان قادراً على ما لا نهاية له ، والعبد ليس كذلك ، إلاّ أنّ ذلك لا يوجب التفاوت بين قدرة الله تعالى و قدرة العبد. (1)
يلاحظ عليه : أنّ هذا الدليل إنّما يجري فيما إذا كانت القدرتان متساويتين كما في البحث عن الإلهين المفروضين ، فأراد أحدهما تحريك الجسم والآخر إيقافه وسكونه ، لا في المقام; أعني : إذا كان أحدهما أقوى والآخر أضعف كما في المقام ، ففي مثله يقع مراد الله لكون قدرته أقوى ، إذ المفروض استواؤهما في الاستقلال بالتأثير ، وهو لا ينافي التفاوت بالقوة والشدة. (2)
والأولى أن يقال : إنّ قدرة الله تعالى في الصورة المفروضة قدرة فعلية تامة في التأثير ، وقدرة العبد قدرة شأنية غير تامة ، وليست صالحة للتأثير ، لأنّ من
________________________________________
1 ـ الأربعون للرازي : 232.
2 ـ كشف المراد : 16; شرح التجريد للقوشجي : 447.
________________________________________
(123)
شرائط القدرة الفعلية ، أن لا تكون ممنوعة من ناحية بالغة كاملة ، فتعلّق قدرته وإرادته بتحريك الجسم تكون مانعة عن وصول قدرة العبد إلى درجة التأثير والإيجاد ، فإحدى القدرتين مطلقة ، والأُخرى مشروطة.
الثالث : إنّ نسبة ذاته سبحانه إلى جميع الممكنات على السوية ، فيلزم أن يكون الله تعالى قادراً على جميع الممكنات ، وأن يكون تعالى قادراً على جميع المقدورات ، وعلى جميع مقدورات العباد ـ و على هذا ـ ففعل العبد : إمّا أن يقع بمجموع القدرتين ـ أعني : قدرة الله وقدرة العبد ـ وإمّا أن لا يقع بواحدة منهما ، وإمّا أن يقع بإحدى القدرتين دون الأُخرى ، وهذه الأقسام الثلاثة باطلة. فوجب أن لا يكون العبد قادراً على الإيجاد والتكوين. (1)
يلاحظ عليه : أنّ الفعل يقع بمجموع القدرتين ، ولا يلزم منه محال ، لأنّ قدرة العبد في طول قدرة الله سبحانه ، ومفاضة منه ، ونسبة قدرته إلى قدرة الواجب ، نسبة المعنى الحرفي إلى المعنى الاسمي ، والشيء المتدلّي إلى القائم بالذات.
وصلب البرهان هو تفسير عموم قدرته لكلّ المقدورات ، ومنها أفعال العباد ، بتعلّق قدرته الفعلية التامة بكلّ مقدور مباشرة وبلا واسطة ، ومع هذا الفرض لا يبقى مجال لإعمال قدرة العبد ، غير أنّ لعموم القدرة معنيين صحيحين :
1. إنّه تعالى قادر على القبيح خلافاً للنظام ، فإنّه قال : لا يقدر على القبيح.
2. إنّ كلّ ما في صفحة الوجود من الأكوان والأفعال ، محققة بقدرة الله تعالى ، وموجودة بحوله وقوته ، لأنّ كلّ ما سواه ممكن ، ولا غنى للممكن عن الواجب ، لا في الذات ولا في الفعل ، لكن تحقّق الشيء بقدرته يتصور على وجهين :
أ : أن يتحقّق بقدرته سبحانه مباشرة وبلا واسطة ، كما هو الحال في
________________________________________
1 ـ الأربعون للرازي : 232.
________________________________________
(124)
الصادر الأوّل من العقول والنفوس والأنوار الملكوتية.
ب : أن يتحقّق بقدرة مفاضة منه سبحانه إلى العبد ، قائمة بقدرته ، وموجدة بحوله وقوته ، فالفعل مقدور للعبد بلا واسطة ، ومقدور لله سبحانه عن طريق القدرة التي أعطاها له ، و أقدر عبده بهاعلى الفعل ، فيكون الفعل فعل الله من جهة ، وفعل العبد من جهة أُخرى.
وباختصار : إنّ العوالم الممكنة من عاليها إلى سافلها متساوية النسبة إلى قدرته سبحانه ، فالجليل والحقير ، والثقيل والخفيف عنده سواسية ، لكن ليس معنى الاستواء هو قيامه تعالى بكلّ شيء مباشرة وخلع التأثير عن الأسباب والعلل ، بل يعني أنّ الله سبحانه يظهر قدرته وسلطانه عن طريق خلق الأسباب ، وبعث العلل نحو المسببات والمعاليل ، والكلّ مخلوق له ، ومظاهر قدرته وحوله ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله.
فالأشعري ، خلع الأسباب والعلل وهي جنود الله سبحانه عن مقام التأثير والإيجاد ، كما أنّ المعتزلي عزل سلطانه عن ملكه وجعل بعضاً منه في سلطان غيره ، أعني : فعل العبد في سلطانه.
والحقّ الذي عليه البرهان ويصدّقه الكتاب هو كون الفعل موجوداً بقدرتين ، لكن لا بقدرتين متساويتين ، ولا بمنعى علّتين تامّتين ، بل بمعنى كون الثانية من مظاهر القدرة الأُولى وشؤونها وجنودها : وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ هُوَ ) (1) وقد جرت سنّة الله تعالى على خلقالأشياء بأسبابها ، فجعل لكلّ شيء سبباً ، وللسبب سبباً ، إلى أن ينتهي إليه سبحانه ، والمجموع من الأسباب الطولية علّة واحدة تامة كافية لإيجاد الفعل ، والتفصيل يطلب من محله ، ونكتفي في المقام بكلمة عن الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) : « أبى الله أن يجري الأشياء إلاّ بأسباب ، فجعل لكلّ شيء سبباً ، وجعل لكلّ سبب شرحاً ». (2)
ثمّ إنّ للأشاعرة في مسألة « خلق الأفعال » حججاً وأدلّة ، أو شبهات وتشكيكات يقف عليها وعلى أجوبتها من سبر الكتب الكلامية للمحقّق الطوسي و شرّاح التجريد ، فراجع.
________________________________________
1 ـ المدثر : 31.
2 ـ الكافي : 1/183 ، باب معرفة الإمام ، الحديث7.
________________________________________
(125)
نظرية الكسب ومشكلة الجبر
ولما كان القول بأنّ أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه مستلزماً للجبر ، حاول الأشعري أن يعالجه بإضافة « الكسب » إلى « الخلق » قائلاً بأنّ الله هو الخالق ، والعبد هو الكاسب ، وملاك الطاعة والعصيان ، والثواب والعقاب هو « الكسب » دون الخلق ، فكلّ فعل صادر عن كلّ إنسان مريد ، يشتمل على جهتين« جهة الخلق » و « جهة الكسب » فالخلق والإيجاد منه سبحانه ، والكسب والاكتساب من الإنسان.
والظاهر أنّ بعض المتكلّمين سبق الأشعري في القول بالكسب.
قال القاضي عبد الجبار : إنّ جهم بن صفوان ذهب إلى أنّ أفعال العباد لا تتعلق بنا. وقال : إنّما نحن كالظروف لها حتى أنّ ماخلق فينا ، كان ، وإن لم يخلق لم يكن.
وقال ضرار بن عمرو (1) : إنّها متعلّقة بنا ومحتاجة إلينا ، ولكن جهة الحاجة إنّما هي الكسب ، فقد شارك جهماً في المذهب ، وزاد عليه الإحالة. (2)
أقول : إنّ نظرية الكسب التي انتشرت عن جانب الإمام الأشعري مأخوذة عن ذلك المتكلّم المجبر ، ونقلها العلاّمة الحلي في « كشف المراد » عن
________________________________________
1 ـ ضرار : من رجال منتصف القرن الثالث وهو ضرار بن عمرو العيني قال القاضي في طبقاته : ص 13 : كان يختلف إلى واصل ، ثمّ صار مجبراً وعنه نشأ هذا المذهب.
2 ـ شرح الأُصول الخمسة : 363 ، وقد نقل الشيخ مقالة ضرار في كتابه مقالات الإسلاميين : 313 وقال : والذي فارق ( ضرار بن عمرو ) المعتزلة قوله : إنّ أعمال العباد مخلوقة وإن فعلاً واحداً لفاعلين ، أحدهما خلقه وهو الله ، والآخر اكتسبه وهو العبد ، وإنّ الله عزّوجلّ فاعل لأفعال العباد في الحقيقة ، وهم فاعلون لها في الحقيقة ... .
________________________________________
(126)
النجار و حفص الفرد أيضاً. (1) وأخذ عنهم الأشعري على الرغم من ادّعائه أنّه يخالف المجبره ولا يوافقهم. غير أنّ الذي يجب التركيز عليه أمران :
الأوّل : ما هو الداعي لإضافة الكسب إلى أفعال العباد؟
الثاني : ما هو المقصود من كون الإنسان كاسباً والله سبحانه خالقاً؟
أمّا الأوّل : فلأنّ الأشعري من أهل التنزيه ، وهو يناضل أهل التشبيه والتجسيم كما يخالف المجبرة. ولمّا كان القول بأنّ أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه لا غير ، مستلزماً لوقوع الشيخ الأشعري و من لفّ لفّه في مشكلة عويصة ـ إذ لقائل أن يقول : إذا كان الخالق هو الله سبحانه فلابدّ أن يكون هو المسؤول لا غير ، وحينئذ يبطل الأمر والنهي والوعد والوعيد ، وكلّ ما جاءت به الشرائع السماوية ـ لجأ الأشعري وأضرابه لأجل الخروج عن ذلك المضيق إلى نظرية « ضرار » معتقدين بأنّهم يقدرون بها على حل العقدة ، وقالوا : إنّ الله سبحانه هو الخالق ، والإنسان هو الكاسب ، فلو كان هناك مسؤولية متوجّهة إلى الإنسان فهي لأجل كسبه وقيامه بهذا العمل.
هذا هو الحافز والداعي لتبنّي نظرية الكسب لا غير.
وأمّا الثاني : ـ أعني : ما هي حقيقة تلك النظرية ـ فقد اختلفت كلمات الأشاعرة في توضيح تلك النظرية اختلافاً عجيباً ، فنحن ننقل ما ذكروه باختصار :
1. نظرية الكسب والشيخ الأشعري
قبل أن نقوم بنقل ما ذكره تلاميذه نأتي بنص عبارة الشيخ في « اللمع » ، يقول عند إبداء الفرق بين الحركة الاضطرارية والحركة الاكتسابية : لماّ كانت القدرة موجودة في الحركة الثانية وجب أن يكون كسباً ، لأنّ حقيقة الكسب هي أنّ الشيء وقع من المكتسب له بقوة محدثة. (2)
________________________________________
1 ـ كشف المراد : 189 الفصل الثالث من الإلهيات ، ط لبنان.
2 ـ اللمع : 76.
________________________________________
(127)
وحاصله أنّ صدور الفعل من الإنسان في ظل قوة محدثة هو الكسب.
يلاحظ عليه : أنّ ظاهر العبارة هو صدور الفعل بسبب قوة محدثة من الله في العبد ، وعليه يكون الفعل مقدوراً للعبد ومخلوقاً له ، ومعه : كيف يمكن أن يكون في عرضه مقدوراً لله ومخلوقاً له؟!
وبعبارة ثانية : إمّا أن يكون للقوة المحدثة في العبد تأثير في تحقّق الفعل أو لا؟فعلى الأوّل يكون الفعل مخلوقاً للعبد ، لا لله سبحانه ، وهو ينافي الأصل المسلّم عند الأشعري ومن قبله من الحنابلة ، من أنّ الخلق بتمام معنى الكلمة راجع إليه سبحانه ، ولا تصحّ نسبته إلى غيره ، وعلى الثاني : يكون الفعل مقدوراً مخلوقاً لله سبحانه ، من دون أن يكون لقدرة العبد دور في الفعل والإيجاد. وعندئذ يعود الإشكال وهو : إذا كان الفعل مخلوقاً لله كيف يكون المسؤول هو العبد؟!
وباختصار : إنّ العبارة المذكورة عبارة مجملة ، وهي على فرض القول بتأثير قوة العبد في عرض قدرة الله سبحانه أو طولها ، يستلزم إمّا اجتماع القدرتين على مقدور واحد ـ إذا كانت القدرتان في عرض واحد ـ أو كون الفعل مقدوراً للقدرة الثانية ، أعني : قدرة العبد ـ إذا كانت القدرتان طوليتين ـ و على فرض عدم تأثير قدرة العبد ، و كون الفعل متحقّقاً بقدرته سبحانه عند حدوث القدرة في العبد ، يعود الإشكال بعينه ، ولا تكون للكسب واقعية أبداً.
والظاهر من المحقّق التفتازاني ترجيح الشق الأوّل في تفسير كلام الأشعري ، حيث قال في شرح العقائد النسفية : فإن قيل : لا معنى لكون العبد فاعلاً بالاختيار إلاّكونه موجداً لأفعاله بالقصد الإرادة ، وقد سبق أنّ الله تعالى مستقل بخلق الأفعال وإيجادها ، ومعلوم أنّ المقدور الواحد لا يدخل تحت قدرتين مستقلتين ، قلنا : لا كلام في قوّة هذا الكلام ومتانته ، إلاّ أنّه لما ثبت بالبرهان أنّ الخالق هو الله تعالى ( هذا من جانب ) و ( من جانب آخر ) ثبت بالضرورة أنّ لقدرة العبد وإرادته مدخلاً في بعض الأفعال ، كحركة اليد ، دون البعض كحركة الارتعاش ، احتجنا في التقصي عن هذا المضيق إلى
________________________________________
(128)
القول بأنّ الله تعالى خالق ، والعبد كاسب. (1)
ولا يخفى أنّ القول بتأثير قدرة العبد لا يجتمع مع ما ثبت بالبرهان عندهم من أنّ الخالق هو الله تعالى ، فعلى مذهبه يقع التعارض بين ما ثبت بالبرهان ومااختاره من الأصل.
ثمّ الظاهر من الفاضل القوشجي هو اختيار الشق الثالث. أي عدم تأثير قدرة العبد في الفعل حيث قال : والمراد بكسبه إيّاه مقارنته لقدرته و إرادته ، من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلاً لهو. (2)
وعلى ما ذكره ذلك الفاضل لا يكون هنا للعبد دور إلاّ كون الفعل صادراً من الله وموجداً بإيجاده ، غاية الأمر كون الإصدار منه تقارن مع صفة من صفات العبد ، وهما صيرورته ذا قدرة غير مؤثرة بل معطلة ، عن إيجاد الله تعالى الفعل في الخارج.
أنشدك بوجدانك الحر ، هل يصحّ تعذيب العبد ، بحديث المقارنة ، ألا بعد ذلك من أظهر ألوان الظلم ، المنزة سبحانه عنه؟!
قال القاضي عبد الجبار : : إنّ أوّل من قال بالجبر وأظهره معاوية ، وإنّه أظهر أنّما يأتيه بقضاء الله ومن خلقه ليجعله عذراً فيما يأتيه ، و يوهم أنّه مصيب فيه ، وأنّ الله جعله إماماً وولاّه الأمر ، ومشى ذلك في ملوك بني أُمية.
وعلى هذا القول قتل هشام بن عبد الملك غيلان ( رحمه الله ) ، ثمّ نشأ بعدهم يوسف السمني فوضع لهم القول بتكليف ما لايطاق. (3)
وقال الدكتور« مدكور » في تصديره للجزء الثامن لكتاب المغني للقاضي عبد الجبار : إنّ هناك صلة وثيقة بين الحياة السياسية ونشأة الفرق والآراء الكلامية ، ولكن الوشاية والدس هما الّلذان قضيا على غيلان ـ فيما يظهر ـ أكثر
________________________________________
1 ـ شرح العقائد النسفية : 115.
2 ـ شرح التجريد للفاضل القوشجي : 445.
3 ـ المغني : 8/4.
________________________________________
(129)
من قوله بالاختيار ، بدليل أنّ عمر بن عبد العزيز سبق له أن جادله ولم يوقع عليه عقاباً ، ولعلّ من هذا أيضاً ما قيل عن معبد الجهني ، وجهم بن صفوان ، وأغلب الظن أنّهما قتلا لأسباب سياسية لا صلة لها باللدين. (1)
قال الراغب في محاضراته : خطب معاوية يوماً فقال : إنّ الله تعالى يقول : وَمامِنْ شَيء إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاّ بِقَدَر مَعْلُوم فلم نلام نحن؟ فقام إليه الأحنف فقال : إنّا لا نلومك على ما في خزائن الله ، ولكن نلومك على ما أنزل الله علينامن خزائنه ، فأغلقت بابك دونه يا معاوية. (2)
2. نظرية الباقلاني في تفسير الكسب
« تأثير قدرة الإنسان في ترتّب العناوين على أفعاله ».
قد قام القاضي الباقلاني (3) من أئمّة الأشاعرة بتفسير نظرية صاحب المنهج بشكل آخر ، وقال ما هذا حاصله : الدليل قد قام على أنّ القدرة الحادثة لا تصلح للإيجاد ، لكن ليست الأفعال أو وجوهها واعتباراتها تقتصر على وجهة الحدوث فقط ، بل هاهنا وجوه أُخر هي وراء الحدوث.
ثمّ ذكر عدّة من الجهات والاعتبارات وقال : إنّ الإنسان يفرّق فرقاً ضرورياً بين قولنا : أوجد ، وبين قولنا : صلّى و صام وقعد و قام. وكما لا يجوز أن تضاف إلى الباري تعالى جهة ما يضاف إلى العبد ، فكذلك لا يجوز أن تضاف إلى العبد ، جهة ما يضاف إلى الباري تعالى.
فأثبت القاضي تأثيراً للقدرة الحادثة ، وأثرها هو الحالة الخاصة ، وهو جهات من جهة الفعل ، حصلت نتيجة تعلّق القدرة الحادثة بالفعل ، وتلك الجهة هي المتعيّنة لأن تكون مقابلة بالثواب والعقاب ، فإنّ الوجود من حيث هو
________________________________________
1 ـ المغني : 8/هـ ، المقدّمة.
2 ـ الكشكول لبهاء الدين العاملي : 429 ، ط عام 1321هـ ـ الحجرية.
3 ـ القاضي أبو بكر الباقلاني ( المتوفّى عام 403 هـ ) من مشاهير أئمّة الأشاعرة في بغداد ، وله تأليفات ، وقد طبع منها : 1. التمهيد ، 2. الإنصاف في أسباب الخلاف ، 3. إعجاز القرآن.
________________________________________
(130)
وجود لا يُستحق عليه ثواب وعقاب ، خصوصاً على أصل المعتزلة ، فإنّ جهة الحسن والقبح هي التي تقابل بالجزاء ، والحسن والقبح صفتان ذاتيتان وراء الوجود ، فالوجود من حيث هو وجود ليس بحسن ولا قبيح.
قال : فإذا جاز لكم إثبات صفتين هما حالتان ، جاز لي إثبات حالة هي متعلّق القدرة الحادثة ، ومن قال هي حالة مجهولة ، فبيّنا بقدر الإمكان جهتها ، وعرّفنا أيّ شيء هي ، ومثّلناها كيف هي. (1)
وحاصل كلامه الذي قمنا بتلخيصه : هو أنّ للقدرة الحادثة تأثيراً في حدوث العناوين والخصوصيات التي هي ملاك الثواب والعقاب ، وهذه العناوين وليدة قدرة العبد ، حادثة بها ، وإن كان وجود الفعل حادثاً سبحانه.
فوجود الفعل مخلوق لله سبحانه ، لكن تعنونه بعنوان الصوم والصلاة والأكل والشرب راجع إلى العبد والقدرة الحادثة فيه.
يلاحظ عليه : أنّ هذه العناوين والجهات التي صارت ملاكاً للطاعة والعصيان لا تخلو من صورتين : إمّا أن تكون من الأُمور الوجودية ، وعندئذ تكون مخلوقة لله سبحانه حسب الأصل المسلم.
وإمّا أن تكون من الأُمور العدمية ، فعندئذ لا تكون للكسب واقعية خارجية ، بل يكون أمراً ذهنياً غنياً عن الإيجاد والقدرة. ومثل ذلك كيف يكون ملاكاً للثواب والعقاب.
وباختصار : إنّ واقعية الكسب إمّا واقعية خارجية موصوفة بالوجود ، فحينئذيكون مخلوقاً لله سبحانه ، ولا يكون للعبد نصيب في الفعل; أو لا تكون له تلك الواقعية ، بل يكون أمراً وهمياً ذهنياً ، فحينئذ لا يكون العبد مصدراً لشيء حتى يثابه أو يعاقب.
3. نظرية الغزالي في تفسير الكسب
« صدور الفعل من الله عند حدوث القدرة في العبد ».
________________________________________
1 ـ الملل والنحل : 1/97 ـ 98.
(131)
إنّ الغزالي من مشاهير الأشاعرة في أواخر القرن الخامس وأوائل القرن السادس ، وقد اختار في تفسير الكسب نظرية صاحب المنهج ، وقام بتوضيحه بكلام مبسوط نذكره باختصار ، قال : ذهبت المجبرة إلى إنكار قدرة العبد فلزمها إنكار ضرورة التفرقة بين حركة الرعدة ، والحركة الاختيارية ، ولزمها أيضاً استحالة تكاليف الشرع. وذهبت المعتزلة إلى إنكار تعلّق قدرة الله تعالى بأفعال العباد والحيوانات والملائكة والجن والشياطين ، و زعمت أنّ جميع ما يصدر منها ، من خلق العباد واختراعهم ، لا بقدرة الله تعالى عليها بنفي ولا إيجاد ، فلزمتها شناعتان عظيمتان :
إحداهما : إنكار ما أطبق عليه السلف من أنّه لا خالق إلاّ الله ، ولا مخترع سواه.
والثانية : نسبة الاختراع والخلق إلى قدرة من لا يعلم ما خلقه ، كأعمال النحل والعنكبوت وغيرهما من الحيوانات التي تقوم بأعاجيب الأعمال وغرائبها ، ثمّ قال : وإنّما الحقّ إثبات القدرتين على فعل واحد ، والقول بمقدور منسوب إلى قادرين ، فلا يبقى إلاّ استبعاد توارد القدرتين على فعل واحد. وهذا إنّما يبعد إذا كان تعلّق القدرتين على وجه واحد ، فإن اختلفت القدرتان واختلف وجه تعلّقهما فتوارد المتعلقتين على شيء واحد غير محال ، كما نبينّه.
ثمّ إنّه حاول بيان تغاير الجهتين ، وحاصل ما أفاد هو : إنّ الجهة الموجودة في تعلّق قدرته سبحانه على الفعل غير الجهة الموجودة في تعلّق قدرة العبد. والجهة في الأُولى جهة إيجادية تكون نتيجتها وقوع الفعل في الخارج ، وحصوله في العين. والجهة في القدرة الثانية جهة أُخرى ، وهي صدور الفعل من الله سبحانه عند حدوث القدرة في العبد. (1)
فلأجل ذلك تُسمّى الأُولى خالقاً ومخترعاً ، دون الثاني ، فاستعير لها
________________________________________
1 ـ وأوضح التفتازاني تلكما الجهتين في مقاصده وقال : لما بطل الجبر المحض بالضرورة ، وكون العبد خالقاً لأفعاله بالدليل ، وجب الاقتصاد في الاعتقاد. وهو أنّها مقدورة بقدرة الله تعالى اختراعاً وبقدرة العبد على وجه آخر من التعلّق يعبر عنه عندنا بالاكتساب. وليس من ضرورة تعلّق القدرة بالمقدور أن يكون على وجه الاختراع ... شرح المقاصد : 127.
________________________________________
(132)
النمط من النسبة اسم الكسب تيمّناً بكتاب الله تعالى. (1)
ثمّ اعترض على نفسه بما هذا حاصله : كيف تصحّ تسمية القدرة المخلوقة في العبد قدرة ، إذا لم يكن لها تعلّق بالمقدور ، فإنّ تعلّق القدرة بالمقدور ليس إلاّ من جهة التأثير والإيجاد و حصول المقدور بها .
وأجاب عنه : بأنّ التعلّق ليس مقصوراً على الوقوع بها ، بل هناك تعلّق آخر غير الوقوع ، نظير تعلّق الإرادة بالمراد ، والعلم بالمعلوم ، فإنّهما يتعلّقان بمتعلّقهما بتعلّق غير الوقوع ضرورة أنّ العلم ليس علّة للمعلوم ، فإذاً لابدّ من إثبات أمر آخر من التعلّق سوى الوقوع. (2)
يلاحظ عليه : أنّ الغزالي لم يأت في تفسير نظرية الكسب جديدوحاصله يتلخّص في كلمتين :
1. إنّ دور قدرة العبد ليس إلاّ دور المقارنة ، فعند حدوث القدرة في العبد يقوم سبحانه بخلق الفعل.
2. إنّ للتعلّق أنواعاً ولا تنحصر في الإيجاد والوجود ، والإيقاع والوقوع ، بل هناك جهة أُخرى نعبر عنها بالكسب ـ فالعبد مصدر لهذه الجهة ، وبذلك يسمّى كاسباً ـ .
ومع هذا التطويل فالإشكال باق بحاله ، فإنّ وقوع الفعل مقارناً لقدرة العبد ، لا يصحح نسبة الفعل إلى العبد ، ومعه لا يتحمّل مسؤولية ، فإنّ نسبة المقارن إلى المقارن كنسبة تكلّم الإنسان إلى نزول المطر إلى الصحراء ، فإذا لم يكن لقدرة العبد تأثير في وقوع الفعل ، كيف يصحّ في منطق العقل التفكيك بين الحركة الاختيارية ، والحركة الاضطرارية؟ والغزالي بكلامه هذا نقض ما ذكره في صدر البحث حيث رد على المجبرة بوجدان الفرق بين
________________________________________
1 ـ وإليك نصّ عبارة الغزالي : لما كانت القدرة ( قدرة العبد ) والمقدور جميعاً بقدرة الله تعالى : سُمّي خالقاً ومخترعاً ، ولما لم يكن المقدور بقدرة العبد وإن كان معه ، فلم يسم خالقاً ولا مخترعاً. الاقتصاد في الاعتقاد : 92.
2 ـ الاقتصاد : 92 ـ 93.
________________________________________
(133)
الحركتين ، وهذا الفرق لا يتعقّل إلاّفي ظل تأثير قدرة العبد على الوقوع والوجود.
وأضعف من ذلك تنزيل تعلّق قدرة العبد بتعلّق العلم على المعلوم ، مع أنّ واقعية العلم وماهيته هي الكشف التابع للمكشوف ، فلا يصحّ أن يكون مؤثراً في المعلوم وموجداً له ، ولكن واقعية القدرة والسلطة واقعية الإفاضة والإيجاد ، فلا يتصور خلعها عن التأثير مع فرضها قدرة كاملة وبصورة علة تامة.
والمنشأ لهذه الاشتباهات والتناقضات هو العجز عن تفسير الأصل المسلّم من أنّه لا خالق إلاّ الله تعالى ، حيث إنّ الأشاعرة فسّروه بحصر الخلق والإيجاد والتأثير في ذاته سبحانه ، ونفي أيّ تأثير ظلي أو إيجاد حرفي لغيره. فصوّروه سبحانه وتعالى ، الفاعل المباشر لكلّ ماجلّ ودقّ في عالم المجرّدات والماديات ، فصارت ذاته قائمة مقام العلل الطبيعية والأسباب المادية ، فعند ذلك وقعوا في ورطة الجبر ومشكلة إضطرار العبد.
ولكن الحقّ في تفسير الأصل المذكور هو غير ذلك ، وحاصله : إنّ قصر الخالقية المستقلة بالله سبحانه ، لا ينافي قيام غيره بأمر الخلق والإيجاد بإذنه سبحانه وإقداره ، وقد شهدت الدلائل العقلية بصحّة هذا التفسير ، كما نطقت الآيات في الذكر الحكيم بتأثير جملة من العلل الطبيعية في معاليلها ، لكن بإذن منه سبحانه وإقدار له ، فليس للتوحيد في الخالقية معنى غير ذلك ، وسيوافيك تفسيره.
4. نظرية التفتازاني في تفسير الكسب
« توجه قدرة العبد على الفعل عند صدوره من الله ».
إنّ المحقّق التفتازاني جنح في تفسيره إلى ما نقلناه عن الغزالي ، ولخّص كلامه على ما عرفت في التعليقة.
ولكنّه في « العقائد النسفية » قام بتفسير الكسب بوجه واضح. وهو أنّ
________________________________________
(134)
صرف العبد قدرته وإرادته إلى الفعل كسب ، وإيجاد الله تعالى الفعل عقيب ذلك خلق. والمقدور الواحد داخل تحت قدرتين ، لكن بجهتين مختلفتين. فالفعل مقدور الله تعالى بجهة الإيجاد ، ومقدور العبد بجهة الكسب ، وهذا القدر من المعنى ضروري وإن لم نقدر على أزيد من ذلك في تلخيص العبارة المفصحة عن تحقيق كون فعل العبد بخلق الله تعالى وإيجاده ، مع ما فيه للعبد من القدرة والاختيار. (1)
ومراده من الصرف هو توجه القدرة إلى الفعل وإن لم تكن مؤثرة في المقدور ، فمجرّد التوجيه من غير دخل في وجود الفعل ، كسب.
ويرد عليه ما أوردناه على الغزالي من أنّ القدرة غير المؤثرة لا تورث المسؤولية ولا تصحح العقاب والثواب ، إلاّ أن يكون الجزاء على نفس العزم والإرادة ، لا على الفعل وهو كما ترى.
ثمّ إنّ نظرية الكسب بلغت من الإبهام إلى حدّ أنّ القمة من مشايخ الأشاعرة كالتفتازاني يعترف بعجزه عن تفسيره حيث قال : « وإن لم نقدر على أزيد من ذلك في تلخيص العبارة المفصحة ... ».
5. نظرية تخصيص ما دلّ على حصر الخلق بالله
إنّ هناك نظرية خامسة في حلّ مشكلة الجبر نقلها شارح العقيدة الطحاوية عن صاحب كتاب « المسايرة » (2) وحاصلها : إنّ ما دلّ على حصر الخلق بالله يخصص بما سوى العزم ، فكلّ شيء مخلوق لله سبحانه ، وهو خالقه ، إلاّ العزم على الطاعة والعصيان ، فالخالق له هو العبد.
وقال في ذلك المجال ما هذا نصّه : فإن قيل : لا شكّ أنّه تعالى خلق للعبد قدرة على الأفعال ، ولذا يدرك تفرقة ضرورية بين الحركة المقدورة
________________________________________
1 ـ شرح العقائد النسفية : 117.
2 ـ تأليف الشيخ كمال الدين محمد بن همام الدين الشهير بابن الهمام ( المتوفّى م 861هـ ) ولكتابه هذا شروح.
________________________________________
(135)
والرعدة الضرورية ، والقدرة ليست خاصيتها إلاّ التأثير ، فوجب تخصيص عمومات النصوص بما سوى أفعالالعباد الاختيارية ، فيكونون مستقلين بإيجاد أفعالهم بقدرتهم الحادثة بخلق الله تعالى إيّاها كما هو رأي المعتزلة والفلاسفة. وإلاّ كان جبراً محضاً فيبطل الأمر والنهي.
قلنا : إنّ براهين وجوب استناد كلّ الحوادث إلى القدرة القديمة بالإيجاد ، إنّما تلجئ إلى القول بتعلّق القدرة بالفعل بلا تأثير ، لو لم تكن عمومات تحتمل التخصيص. فأمّا إذا وجد ما يوجب التخصيص فلا. لكن الأمر كذلك. وذلك المخصص أمر عقلي ، هو أنّ إرادة العموم فيها يستلزم الجبر المحض المستلزم لضياع التكليف وبطلان الأمر والنهي. ثمّ أوضح ذلك بقوله : لو عرف الله تعالى العبد العاقل أفعال الخير والشر ، ثمّ خلق له قدرة أمكنه بها من الفعل والترك ، ثمّ كلّفه بالإتيان بالخير ووعده عليه. وترك الشر وأوعده عليه ، بناء على ذلك الإقدار لم يوجب ذلك نقصاً في الألوهية. إذ غاية ما فيه أنّه أقدره على بعض مقدوراته لحكمة صحة التكليف واتجاه الأمر والنهي. غير أنّ السمع ورد بما يقتضي نسبة الكل إليه تعالى بالإيجاد وقطعها عن العباد. فلنفي الجبر المحض وصحة التكليف وجب التخصيص ، وهو لا يتوقف على نسبة جميع أفعال العباد إليهم بالإيجاد ، بل يكفي لنفيه أن يقال : جميع ما يتوقف عليه أفعال الجوارح من الحركات وكذا التروك التي هي أفعال النفس من الميل والداعية التي تدعو والاختيار ، بخلق الله تعالى ، لا تأثير لقدرة العبد فيه. وإنّما محل قدرته ، عزمه عقيب خلق الله تعالى هذه الأُمور في باطنه عزماً مصمماً بلا تردد ، فإذا أوجد العبد ذلك العزم خلق الله تعالى له الفعل. فيكون منسوباً إليه تعالى من حيث هو حرّكه ، وإلى العبد من حيث هو زنى و نحوه. فعن ذلك العزم الكائن بقدرة العبد المخلوقة لله تعالى ، صحّ تكليفه وثوابه وعقابه. وكفى في التخصيص تصحيح التكليف هذا الأمر الواحد. أعني : العزم المصمّم ، وما سواه ممّا لا يحصى من الأفعال الجزئية والتروك كلّها مخلوقة لله تعالى و متأثرة عن قدرته ابتداءً بلا واسطة القدرة الحادثة. (1)
________________________________________
1 ـ شروح العقيدة الطحاوية : 122 ـ 126 نقلاً عن « المسايرة » لاحظ شرحها 98.
________________________________________
(136)
يلاحظ عليه : أنّ المجيب تصوّر أنّ القول بانحصار الخلق بالله سبحانه يستند إلى دليل سمعي قابل للتخصيص كسائر عمومات الكتاب والسنّة. ولكن القول به يستند إلى برهان عقلي غير قابل للتخصيص ، وهو أنّ الممكن في ذاته وفعله قائم بالله سبحانه ، متدلّ به ، وليس يملك لنفسه ذاتاً ولا فعلاً. ولا فرق في ذلك بين الأفعال الخارجية و الأفعال القلبية ، أعني : العزم والجزم ، فالكل ممكن ، والممكن يحتاج إلى واجب في وجوده وتحقّقه ، فينتج أنّ العزم والجزم في وجوده وتحقّقه محتاج إلى الواجب ومعلول لوجوده.
نعم ، لو كان صاحب المسايرة وأساتذته وتلامذته ممّن يفرّقون بين الخالق على وجه الاستقلال والخالق على الوجه التبعي لما صعب عليهم المقام.
6. نظرية ابن الخطيب في تفسير الكسب
« قدرة الله مانعة عن قدرة العبد ».
وإليك نصّ عبارته : إنّ الطاعة والمعصية للعبد من حيث الكسب ، ولا طاعة ولا معصية من حيث الخلق ، والخلق لا يصحّ أن يضاف إلى العبد ، لأنّه إيجاد من عدم ، والفعل موجود بالقدرة القديمة لعموم تعلّق القدرة الحادثة بها. (1)
فالقدرة الحادثة تتعلّق ولا تؤثر ، وهي ـ أي القدرة الحادثة ـ تصلح للتأثير لولا المانع ، وهو وجود القدرة القديمة ، لأنّهما إذا تواردتا لم يكن للقدرة الحادثة تأثير. (2)
________________________________________
1 ـ العبارة لا تخلو من حزازة ، والصحيح أن يقال : لعموم تعلّق القدرة القديمة به ، أي بالفعل.
2 ـ القضاء والقدر لعبد الكريم الخطيب : 187 نقلاً عن « الفلسفة والأخلاق » للسان الدين بن الخطيب قال : يرى لسان الدين بن الخطيب أنّ الكسب فعل يخلقه الله تعالى في العبد كما يخلق القدرة والإرادة والعلم ، فيضاف الفعل إلى الله خلقاً لأنّه خالقه ، وإلى العبد كسباً لأنّه محلّه الذي قام به ، ثمّ نقل العبارة التي نقلناها في المتن. ولا يخفى أنّه لو كان الكسب أيضاً فعلاً مخلوقاً لله سبحانه ، تكون المحاولة المذكورة فاشلة ، إذ عندئذ يكون الخلق والكسب كلاهما من جانبه سبحانه ، فلاحظ.
________________________________________
(137)
وحاصل هذه النظرية أنّ لقدرة العبد شأناً في التأثير لولا المانع ، ولكن وجود القدرة القديمة مانع عن تأثير قدرة العبد الحادثة. ولولا سبق القدرة القديمة لكان المجال للقدرة الحادثة مفتوحاً.
يلاحظ عليه : أوّلاً : إذا كان دور الإنسان في مجال أفعاله دور الظرف والمحل ، فلا معنى لإلقاء المسؤولية في الشرائع السماوية والأنظمة البشرية على عاتقه ، لأنّ مكان الفعل لا يكون مسؤولاً عن الفعل المحقّق فيه ، وقد صرح صاحب النظرية بكون الإنسان محلاً لإعمال قدرته سبحانه.
ثانياً : أنّ ما جاء في هذا البيان يغاير ما عليه الأشعري وأتباعه ، فإنّهم لا يقيمون لقدرة الإنسان وزناً ولا قيمة ، ولكن ابن الخطيب يعتقد بكونها قابلة للتأثير لولا سبق المانع وهو القدرة القديمة ، ومع ذلك ليس بتام.
وذلك لأنّ فرض المانعية لإحدى القدرتين بالنسبة إلى الأُخرى إنّما يتم لو صحّ فرض كونه سبحانه هو الفاعل المباشر لكلّ ما ظهر على صفحة الوجود الإمكاني ، فعند ذاك يصحّ جميع ما يتصوّر من أنّ القدرة في الإنسان مغلوبة لقدرة الخالق ، وأنّها عاطلة وباطلة خلقت عبثاً وسدى ، ولكنّه لم يثبت ، بل الثابت خلافه ، وأنّ النظام الإمكاني نظام مؤلّف من أسباب ومسببات ، وكلّ مسبب يستمد ـ بإذنه سبحانه ـ عمّا تقدّمه من السبب تقدّماً زمانياً أو تقدّماً رتبياً وكمالياً.
وعلى ذاك الأصل يسقط حديث مانعية إحدى القدرتين ، بل تصبح قدرة العبد بالنسبة إلى قدرته تعالى ، مجلى لإرادته ومظهراً لمشيئته ، كيف وقد تعلّقت مشيئته بصدور فعل كلّ فاعل عن مبادئه التي أفاضها عليه ، حتى تكون النار مبدأً للحرارة عن إجبار واضطرار ، والإنسان مصدراً لأفعاله عن قدرة واختيار ، فلو قام كلّ بفعله فقد قام في الجهة الموافقة لإرادة الله لا المضادّة والمخالفة ، فقيام هؤلاء أشبه بقيام الجنود بأمر آمرهم : وَللّهِ جُنُودُ السَّمواتِ وَالأَرضِ وَكانَ اللّهُ عَليماً حَكيماً (1) ، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ
________________________________________
1 ـ الفتح : 4.
________________________________________
(138)
هُوَ . (1)
ثالثاً : أنّ هذه المحاولات والتمحّلات ناشئة عن تصوير القدرتين في عرض واحد ، فلأجل ذلك يتصور تارة كون قدرته سبحانه مانعاً عن تأثير قدرة العبد ، وأُخرى بأنّه لو تعلّقت قدرة العبد على ما تعلّقت به قدرته ، يلزم توارد القدرتين على مقدور واحد.
ولكن الحقّ كون فعل العبد مقدوراً ومتعلّقاً بهما ، ولا يلبزم من ذلك أيّ واحد من المحذورين ، لا محذور التزاحم والتمانع ، ولا محذور اجتماع القدرتين التامّتين على مقدور واحد ، وذلك لأنّ قدرة العبد في طول قدرة الله سبحانه ، فالله سبحانه بقدرته الواسعة أوجد العبد وأودع في كيانه القدرة ، وأعطاه الإرادة والحرية والاختيار ، فلو اختار أحد الجانبين فقد أوجده بقدرة مكتسبة من الله سبحانه ، واختيار نابع عن ذاته ، وحرية هي نفس واقعيته وشخصيته ، فالفعل منتسب إلى الله لكون العبد مع قدرته وإرادته ، وما يحف به من الخصوصيات قائمة بذاته سبحانه ، متدلّية بها ، كما أنّه منتسب إلى الإنسان لكونه باختياره الذاتي وحريته النابعة منها ، اختار أحد الجانبين وصرف قدرته المكتسبة في تحقّقه ، كما قال سبحانه : وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللّهَ رَمى ) (2) ، وَما تَشاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ الله. (3)
فنفى عنه الرمي بعد إثباته له ، وأثبت له المشيئة في ظل المشيئة الإلهية.
وما جاء في هذه الآيات من المعارف الإلهية لا يصل إليها إلاّ المتأمّل في آي الذكر الحكيم ، وما نشر عن أئمّة أهل البيت ( عليهم السَّلام ) حولها ، وعليه « فالفعل فعل الله وهو فعلنا ». (4)
________________________________________
1 ـ المدثر : 31.
2 ـ الأنفال : 17.
3 ـ الإنسان : 30.
4 ـ شرح المنظومة للسبزواري : ص 175 اقتباس من قوله فيها :
لكن كما الوجود منسوب لنا والفعل فعل الله وهو فعلن ـ ا
________________________________________
(139)
حصيلة البحث
هذه هي النظريات المطروحة حول قدرة العبد على الكسب ، وقدعرفت أنّ في الجميع إبهاماً وإجمالاً ، ولا تسمن ولا تغني من جوع ، ولا تحل بها عقدة الجبر. وقد بلغت نظرية الكسب من الإبهام إلى حدّ عدّت من إحدى المبهمات الثلاثة التي لم يقف أحد على حقيقتها. وفي ذلك يقول الشاعر :
مما يقال ولا حقيقة عندهالكسب عند الأشعري والحال معقولة تدنو إلى الأفهامعند البهشمي وطفرة النظام (1)
فعد الشاعر نظرية الكسب في إحاطة الإبهام بها في عداد نظرية « الحال » عند المعتزلة و« الطفرة » عند النظام. وهذا دليل على قصور النظرية وعدم كفايتها لحلّ العقدة ، وهناك كلام متين للقاضي عبد الجبار نأتي بنصه :
قال : إنّ فساد المذهب يعلم بأحد طرفين :
أحدهما : بأن يتبيّن فساده بالدلالة.
والثاني : بأن يتبيّن أنّه غير معقول في نفسه ، وإذا تبيّن أنّه غير معقول في نفسه كفيت نفسك مؤونة الكلام عليه ، لأنّ الكلام على ما لا يعقل لا يمكن ... والذي يبيّن لك صحّة ما نقوله أنّه لو كان معقولاً لكان يجب أن يعقله مخالف المجبرة في ذلك ، من الزيدية والمعتزلة والخوارج والإمامية. فإنّ دواعيهم متوفرة ، وحرصهم شديد في البحث عن هذا المعنى ، فلمّ في واحد من هذه الطوائف ، على اختلاف مذاهبهم ، وتنائي ديارهم ، وتباعد أوطانهم ، وطول مجادلتهم في هذه المسألة ، من ادّعى أنّه عقل هذا المعنى أو ظنه أو توهّمه ، دلّ على أنّ ذلك ممّا لا يمكن اعتقاده والإخبار عنه ألبتة.
وممّا يدلّ على أنّ الكسب غير معقول ، هو أنّه لو كان معقولاً لوجب ـ كما عقله أهل اللغة وعبروا عنهـ أن يعقله غيرهم من أهل اللغات ، وأن يضعوا له عبارة تنبئ عن معناه. فلمّا لم شيء من اللغات ما يفيده هذه الفائدة ،
________________________________________
1 ـ القضاء والقدر لعبد الكريم الخطيب : 185.
________________________________________
(140)
دلّ على أنّه غير معقول. (1)
قال الشيخ المفيد :
ثلاثة أشياء لا تعقل ، وقد اجتهد المتكلّمون في تحصيل معانيها من معتقديها بكلّ حيلة فلم يظفروا منهم إلاّ بعبارات يتناقض المعنى فيها على مفهوم الكلام :
1. اتحاد النصرانية.
2. كسب النجارية.
3. أحوال البهشمية.
وقال الشيخ : ومن ارتاب فيما ذكرناه في هذا الباب فليتوصل إلى إيراد معنى ـ في واحد منها ـ معقول ، والفرق [كذا] بينها في التناقض والفساد ، ليعلم أنّ خلاف ما حكما به هو الصواب وهيهات. (2)
7. مالبرانس الفرنسي ونظرية الكسب ( 1631 ـ 1715م )
ثمّ إنّ المنقول عن الفيلسوف الفرنسي« مالبرانس » يتحد مع نظرية الأشعري حرفاً بحرف و من المظنون أنّه وقف على بعض الكتب الكلامية للأشاعرة ، فأفرغ نظرية الكسب حسب ما تلقّاه من تلك الكتب ، وحاصل ما قال :
إنّ كلّ فعل إنّما هو في الحقيقة لله ، ولكن يظهر على نحو ما يظهر ، إذا تحقّقت ظروف خاصة إنسانية أو غير إنسانية حتى لكأنّها يخيل للإنسان أنّ الظروف هي التي أوجدته.
فهذه النظرية أولى بأن تسمّى بنظرية الاتفاقية ، أو نظرية الظروف
________________________________________
1 ـ شرح الأُصول الخمسة للقاضي عبد الجبار : 364 ـ 366.
2 ـ حكايات الشيخ المفيد برواية الشريف المرتضى لاحظ مجلة « تراثنا » العدد3 ، من السنة الرابعة ، ص 118.
(141)
والمناسبات ، وهي نفس نظرية الأشعري حيث يرى أنّه لا تأثير للقدرة الحادثة في الأحداث ، وإنّما جرت سنّة الله بأن يلازم بين الفعل المحدث وبين القدرة المحدثة ( بالكسر ) له إذا أراد العبد وتجرد له ، ويسمّى هذا الفعل كسباً. فيكون خلقاً من الله ، وكسباً من العبد ، عندما يقع في متناول قدرته واستطاعته ، من غير تعلّقه عليه ». (1)
وقد نقل ذكاء الملك نظرية ذلك الفيلسوف الفرنسي في موسوعته الفلسفية. وهي تبتني على إنكار قانون العلية والمعلولية بين الأشياء ، وأنّ كلّ ما يعدّ علّة لشيء فهو من باب المقارنة. فلو رأينا أنّ جسماً يحرك جسماً آخر ، فذلك إدراك سطحي ، والمحدث هو الله سبحانه ، وتلاقي الجسمين ظرف لقيامه بالتحريك ، ومثله تحريك النفس عضواً من أعضاء البدن ، فالمحرك هو الله سبحانه و إرادة النفس ظرف ومحلّ لظهور فعله سبحانه. (2)
ولا نعلّق على هذه النظرية سوى القول بأنّها مخالفة للبراهين الفلسفية القائمة على وحدة حقيقة الوجود في جميع المراتب ، واختلافها بالشدة والضعف ، فعندئذ لا معنى لأن يختص التأثير ببعض المراتب دون آخر مع الوحدة في الحقيقة.
إنّ إنكار التأثير على وجه الإطلاق بين الظواهر الطبيعية وما فوقها يخالف البرهان العقلي الفلسفي أوّلاً ، وصريح الذكر الحكيم ثانياً ، والفطرة السليمة الإنسانية ثالثاً ، والتفصيل في الجهات الثلاث موكول إلى محله.
8. نظرية إمام الحرمين
« الاعتراف بتأثير قدرة العبد في طول قدرة الله ».
إنّ الأشاعرة ، وإن أصرّوا على نظريتهم في أفعال العباد طوال قرون ، ولم يتجاوزوا ما رسمه لهم شيخهم في هذه المسألة إلاّ شيئاً يسيراً ، كما عرفته عند
________________________________________
1 ـ القضاء والقدر للكاتب المصري عبد الكريم الخطيب : 182.
2 ـ سير الحكمة في أُوروبا : 2/24 ـ 25.
________________________________________
(142)
البحث عن نظرية الباقلاني ، غير أنّه وجد فيهم من أدرك خطورة الموقف ، وجفاف النظرية ، ومضاعفاتها السيئة ، وتخبّط القوم تخبّطاً واضحاً في المسألة ، فنقض كلّ ما أبرموه وأجهر بالحقيقة ، ونخص بالذكر هنا شخصيات جليلة يعدّون من مشاهير العلم ورجال الفكر :
أ. إمام الحرمين أبو المعالي الجويني ، وهو من أعلام القرن الخامس. فقد صرح ـ كما يظهر من العبارة التالية ـ بتأثير قدرة العباد في أفعالهم ، وأن قدرتهم ستنتهي إلى قدرة الله سبحانه و إقداره ، وأنّ عالم الكون مجموعة من الأسباب والمسببات ، وكلّ مسبب يستمد من سببه المقدم عليه ، وفي الوقت نفسه ، ذاك السبب يستمد من آخر ، إلى أن يصل إلى الله سبحانه ، وإليك نصّ عبارته :
إنّ نفي هذه القدرة والاستطاعة ممّا يأباه العقل والحس ، وأمّا إثبات قدرة لا أثر لها بوجه ، فهو كنفي القدرة أصلاً. وأمّا إثبات تأثير في حالة لا يفعل ، فهو كنفي التأثير ، فلابدّ إذاً من نسبة فعل العبد إلى قدرته حقيقة لا على وجه الإحداث والخلق ، فإنّ الخلق يشعر باستقلال إيجاده من العدم ، والإنسان كما يحس من نفسه الاقتدار ، يحس من نفسه أيضاً عدم الاستقلال فالفعل يستند وجوده إلى القدرة ، والقدرة يستند وجودها إلى سبب آخر تكون نسبة القدرة إلى ذلك السبب ، كنسبة الفعل إلى القدرة ، وكذلك يستند سبب إلى سبب آخر حتى ينتهي إلى مسبب الأسباب ، وهو الخالق للأسباب ، ومسبباتها ـ المستغني على الإطلاق ـ فإنّ كلّ سبب مهما استغنى من وجه ، محتاج من وجه ، والباري تعالى هو الغني المطلق الذي لا حاجة له ولا فقر. (1)
قال الشهرستاني بعد ما نقل كلامه هذا : وهذا الرأي إنّما أخذه من الحكماء الإلهيين ، وأبرزه في معرض الكلام. وليس تختص نسبة السبب إلى المسبب ـ على أصلهـ بالفعل والقدرة ( قدرة الإنسا من الحوادث فذلك حكمة ، وحينئذ يلزم القول بالطبع وتأثير الأجسام في الأجسام إيجاداً ، وتأثير الطبائع في الطبائع إحداثاً ، وليس ذلك مذهب الإسلاميين ،
________________________________________
1 ـ الملل والنحل : 1/98 ـ 99.
________________________________________
(143)
كيف ، ورأي المحقّقين من العلماء أنّ الجسم لا يؤثر في الجسم. (1)
هذا هو ما علّق به الشهرستاني على كلام إمام الحرمين وآخذه عليه ، وهو غير صحيح. فإنّ المراد من العلية الطبيعية بين الأجسام والمظاهر المادية ، ليس هو الإيجاد والإحداث من كتم العدل ، بل المراد هو تفاعل الأجسام الطبائع ، بعضها مع بعض بإذنه سبحانه ، كانقلاب الماء إلى البخار ، والمواد الأرضية إلى الأزهار والأشجار ، وغير ذلك ممّا كشف عنه الحس والعلم.
وأمّا الصور الطارئة على الطبائع عند التفاعل والانقلاب كصور الزهر والشجر ، فليست مستندة إلى نفس الطبائع ، بل الطبائع معدّات وممهّدات لنزول هذه الصور من علل عليا ، كشف عنها الذكر الحكيم عندما صرح بأنّ لعالم الكون مدبّرات يدبّرونه بإذنه سبحانه ، قال : فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً.(2)
إنّ كون العبد فاعلاً لفعله ، وعالم الطبائع مؤثراً في آثاره فإنّما هو بمعنى كونهما « ما به الوجود » لا « ما منه الوجود » ، وكم من فرق بين التعبيرين. فمن اعترف بالتأثير فقد اعترف بالمعنى الأوّل والسببية الناقصة ، لا بالمعنى الثاني ، أعني : إفاضة الوجود والخلق بالمعنى القائم بالله سبحانه ، فإنّ الخلق فيض يبتدئ منه سبحانه ، ويجري في القوابل والقوالب فيتجلّى في كلّ مورد بصورة وشكل ، والإنسان بما أنّه مجبول على الاختيار ، يصرف باختياره ما أُفيض عليه في مكان دون مكان وفي صورة دون صورة. نعم ليس لغيره من الطبائع إلاّ طريق واحد وتجلّ فارد.
وأظن أنّ الشهرستاني لو وقف على الفرق بين الفاعلين ، لما اعترض على كلام إمام الحرمين ـ بأنّه ليس من مذهب الإسلاميين ـ نعم هو ليس من مذاهب الحنابلة والأشاعرة ، وأمّا العدلية بعامة طوائفها فهم قائلون بذلك ، وقد عرفت قضاء القرآن العقل في ذاك المجال.
________________________________________
1 ـ المصدر نفسه.
2 ـ النازعات : 5.