الصفحة 90
في أن أيوب عذب امتحانا ولم يعاقب:
(مسألة): فإن قيل: فما قولكم في الأمراض والمحن التي لحقت أيوب (ع) أوليس قد نطق القرآن بأنها كانت جزاء على ذنب في قوله:
(إني مسني الشيطان بنصب وعذاب) والعذاب لا يكون إلا جزاء كالعقاب والآلام الواقعة على سبيل الامتحان لا تسمى عذابا ولا عقابا، أوليس قد روى جميع المفسرين أن الله تعالى إنما عاقبه بذلك البلاء لتركه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقصته مشهورة يطول شرحها؟.
(الجواب): قلنا: أما ظاهر القرآن فليس يدل على أن أيوب عليه السلام عوقب بما نزل به من المضار، وليس في ظاهره شئ مما ظنه السائل، لأنه تعالى قال: (واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب) (1) والنصب هو التعب، وفيه لغتان بفتح النون والصاد، وضم النون وتسكين الصاد. والتعب هو المضرة التي لا تختص بالعقاب، وقد تكون على سبيل الامتحان والاختبار. وأما العذاب فهو أيضا يجري مجرى المضار التي يختص إطلاق ذكرها بجهة دون جهة. ولهذا يقال للظالم والمبتدئ بالظلم أنه معذب ومضر ومؤلم، وربما قيل معاقب على
____________
(1) ص الآية 41.
الصفحة 91
سبيل المجاز. وليست لفظة العذاب بجارية مجرى لفظة العقاب، لأن لفظة العقاب يقتضي ظاهرها الجزاء لأنها من التعقيب والمعاقبة، ولفظة العذاب ليست كذلك. فأما إضافته ذلك إلى الشيطان، وإنما ابتلاه به فله وجه صحيح، لأنه لم يضف المرض والسقم إلى الشيطان، وإنما أضاف إليه ما كان يستضر به من وسوسته ويتعب به من تذكيره له ما كان فيه من النعم والعافية والرخاء، ودعائه له إلى التضجر والتبرم مما هو عليه، ولأنه كان أيضا يوسوس إلى قومه بأن يستقذروه ويتجنبوه ويستخفوه لما كان عليه من الأمراض الشنيعة المنتنة، ويخرجوه من بينهم. وكل هذا ضرر من جهة اللعين إبليس، وقد روي أن زوجته (ع) كانت تخدم الناس في منازلهم وتصير إليه بما يأكله ويشربه، وكان الشيطان لعنه الله تعالى يلقي إليهم أن داءه (ع) يعدي، ويحسن إليهم تجنب خدمة زوجته من حيث كانت تباشر قروحه وتمس جسده، وهذه مضار لا شبهة فيها. وأما قوله تعالى في سورة الأنبياء:
(وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين) (1) فلا ظاهر لها أيضا يقتضي ما ذكروه، لأن الضر هو الضرر الذي قد يكون محنة كما يكون عقوبة.
فأما ما روي في هذا الباب عن جملة (جهلة) المفسرين فمما لا يلتفت إلى مثله، لأن هؤلاء لا يزالون يضيفون إلى ربهم تعالى وإلى رسله عليهم السلام كل قبيح ومنكر، ويقذفونهم بكل عظيم. وفي روايتهم هذه السخيفة ما إذا تأمله المتأمل علم أنه موضوع الباطل مصنوع، لأنهم رووا أن الله تعالى سلط إبليس على مال أيوب عليه السلام وغنمه وأهله، فلما أهلكهم ودمر عليهم ورأى من صبره (ع) وتماسكه، قال إبليس لربه يا رب إن أيوب قد علم أنك ستخلف عليه ماله وولده فسلطني على جسده، فقال تعالى قد
____________
(1) الآية (83 - 84) من سورة الأنبياء.
الصفحة 92
سلطتك على جسده كله إلا قلبه وبصره، قال فأتاه فنفخه من لدن قرنه على قدمه فصار قرحة واحدة، فقذف على كناسة لبني إسرائيل سبع سنين وأشهرا تختلف الدواب على جسده، إلى شرح طويل نصون كتابنا عن ذكر تفصيله، فمن يقبل عقله هذا الجهل والكفر كيف يوثق بروايته، ومن لا يعلم أن الله تعالى لا يسلط إبليس على خلقه، وأن إبليس لا يقدر على أن يقرح الأجساد ولا يفعل الأمراض كيف يعتمد روايته؟.
فأما هذه الأمراض العظيمة النازلة بأيوب عليه السلام فلم تكن إلا اختبارا وامتحانا وتعريضا للثواب بالصبر عليها والعوض العظيم النفيس في مقابلتها، وهذه سنة الله تعالى في أصفيائه وأوليائه عليهم السلام. فقد روي عن الرسول صلى الله عليه وآله أنه قال وقد سئل أي الناس أشد بلاء فقال:
" الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل من الناس " فنظهر من صبره (ع) على محنته وتماسكه ما صار به إلى الآن مثلا، حتى روي أنه كان في خلال ذلك كله صابرا شاكرا محتسبا ناطقا بما له فيه المنفعة والفايدة، وأنه ما سمعت له شكوى ولا تفوه بتضجر ولا تبرم، فعوضه الله تعالى مع نعيم الآخرة العظيم الدائم أن رد عليه ماله وأهله وضاعف عددهم في قوله تعالى:
(وآتيناه أهله ومثلهم معهم) وفي سورة ص (ووهبنا له أهله ومثلهم معهم) (1)، ثم مسح ما به من العلل وشفاه وعافاه وأمره على ما وردت به الرواية، بأن أركض برجلك الأرض فظهرت له عين فاغتسل منها فتساقط ما كان على جسده من الداء. قال الله تعالى: (أركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب) (2) والركض هو التحريك ومنه ركضت الدابة.
فإن قيل، أفتصححون ما روي أن الجذام أصابه حتى تساقطت أعضاؤه؟.
____________
(1) ص الآية 43.
(2) ص الآية 42.
الصفحة 93
قلنا: إن العمل المستقذرة التي ينفر من رآها وتوحشه كالبرص والجذام فلا يجوز شئ منها على الأنبياء عليهم السلام لما تقدم ذكره في صدر هذا الكتاب، لأن النفور ليس بواقف على الأمور القبيحة، بل قد يكون من الحسن والقبيح معا. وليس ينكر أن يكون أمراض أيوب عليه السلام وأوجاعه. ومحنته في جسمه ثم في أهله وماله بلغت مبلغا عظيما يزيد في الغم والألم على ما ينال المجذوم، وليس ننكر تزايد الألم فيه (عليه السلام)، وإنما ننكر ما اقتضى التنفير.
فإن قيل: أفتقولون أن الغرض مما ابتلي به أيوب عليه السلام كان الثواب أو العوض أو هما على الاجتماع؟.
وهل يجوز أن يكون ما في هذه الآلام من المصلحة واللطف حاصلا في غيرها مما ليس بألم أم تمنعون من ذلك؟.
قلنا: أما الآلام التي يفعلها الله تعالى لا على سبيل العقوبة فليس يجوز أن يكون غرضه عز وجل فيها العوض من حيث كان قادرا على أن يبتدي بمثل العوض، بل الغرض فيها المصلحة وما يؤدي إلى استحقاق الثواب. فالعوض تابع والمصلحة أصل، وإنما يخرج بالعوض من أن يكون ظلما وبالغرض من أن يكون عبثا، فأما الألم، إذا كان فيه مصلحة ولطف، وهناك في المعلوم ما يقوم مقامه فيهما، إلا أنه ليس بألم. إما بأن يكون لذة أوليس بألم ولا لذة، ففي الناس من ذهب إلى أن الألم لا يحسن في هذا الموضع، وإنما يحسن بحيث لا يقوم مقامه ما ليس بألم في المصلحة، والصحيح أنه حسن. والله تعالى مخير في فعل أيهما شاء، والدليل على صحة ما ذكرناه أنه لو قبح والحال هذه، لم يخل من أن يكون إنما قبح من حيث كان ظلما أو من حيث كان عبثا. ومعلوم أنه ليس بظلم، لأن العوض الزايد العظيم الذي يحصل عليه يخرجه من كونه ظلما. وليس أيضا بعبث لأن العبث هو ما لا غرض فيه، أو ما ليس فيه غرض مثله. وهذا الألم فيه
الصفحة 94
غرض عظيم جليل، وهو الذي تقدم بيانه. ولو كان هذا الغرض غير كاف فيه ولا يخرجه من العبث لما أخرجه من ذلك إذا لم يكن هناك ما يقوم مقامه، وليس لهم أن يقولوا إنه إنما قبح وصار عبثا من حيث كان هناك ما يغني عنه، لأن ذلك يؤدي إلى أن كل فعلين ألمين كانا أو لذتين، أو ليسا بألمين ولا لذتين، أو أفعال تساوت في وجه المصلحة يقبح فعل كل واحد منهما، لأن العلة التي ادعيت حاصلة. وليس له أن يقول إن الألم إنما يقبح إذا كان فيه من المصلحة، مثل ما في فعل هو لذة من حيث كان يغني عنه ما ليس بألم، وذلك أن العوض الذي في مقابلته يخرجه من كونه ضررا ويدخله في أن يكون نفعا، ويجريه على أقل الأحوال مجرى ما ليس بضرر، فقد عاد الأمر إلى أن الألم بالعوض قد ساوى ما ليس بألم وحصل فيه من الغرض المودي إلى المصلحة مثل ما فيه، فيجب أن يكون مخيرا في الاستصلاح بأيهما شاء.
فإن قيل: ما أنكرتم أيكون الفرق بين الأمرين إن اللذة قد يحسن أن يفعل بمجرد كونها لذة، ولا يفتقر في حسن فعلها إلى أمر زايد، والألم ليس كذلك، فإنه لا يحسن أن يكون مجردا ولا بد من أمر زايد يجعله حسنا.
قلنا: هذا فرق بين الأمرين في غير الموضع الذي جمعنا بينهما فيه، لأن غرضنا إنما كان في التسوية بين الألم واللذة إذا كان كل واحد منهما مثل في صاحبه من المصلحة، وأن يحكم بصحة التخيير في الاستصلاح بكل واحد منهما، وإن كنا لا ننكر أن بينهما فرقان من حيث كان أحدهما نفعا يجوز الابتداء به واستحقاق الشكر عليه، والآخر ليس كذلك، إلا أن هذا الوجه وأن لم يكن في الألم فليس يقتضي قبحه، ووجوب فعل اللذة. ألا ترى أن اللذة قد يساويها في المصلحة فعل ما ليس بألم ولا لذة، فيكون المكلف تعالى مخيرا في الاستصلاح بأيهما شاء، وإن كان يجوز ويحسن أن يفعل اللذة بمجردها من غير عوض زايد، ولا يحسن ذلك الفعل الآخر الذي جعلناه في مقابلتها متى تجرد، وإنما يحسن لغرض زايد ولم يخرجهما اختلافهما في هذا الوجه من تساويهما فيما ذكرناه من الحكم. وإذا كانت اللذة قد تساوي
الصفحة 95
في الحكم الذي ذكرناه من التخيير في الاستصلاح ما ليس بلذة، وبينا أن العوض قد أخرج الألم من كونه ضررا، وجعله بمنزلة ما ليس بألم، فقد بان صحة ما ذكرناه لأن التخيير بين اللذة وما ليس بلذة ولا ألم، إذا حسن متى اجتمعا في المصلحة. فكذلك يحسن التخيير بين اللذة وما جرى مجرى ما ليس بألم ولا ضرر من الألم الذي يقابله المنافع، وليس بعد هذا إلا قول من يوجب فعل اللذة لكونها نفعا، وهذا مذهب ظاهر البطلان لا حاجة بنا إلى الكلام عليه من هذا الموضوع:
فإن قيل: ما أنكرتم ما يكون الاستصلاح بالألم إذا كان هناك ما يستصلح به، وليس بألم يجري في القبيح والعبث مجرى من بذل المال لمن يحتمل عنه ضرب المقارع، ولا غرض له إلا إيصال المال في أن ذلك عبث قبيح؟.
قلنا: أما قبح ما ذكرته فالوجه فيه غير ما ظننته من أن هناك ما يقوم مقامه في الغرض، لأنا قد بينا أن ذلك لو كان هو وجه القبح لكان كل فعل فيه غرض يقوم غيره فيه مقامه عبثا وقبيحا، وقد علمنا خلاف ذلك. وإنما قبح بذل المال لمن يحتمل الضرب، والغرض إيصال المال إليه من حيث حسن أن يبتدئ بدفع المال الذي هو الغرض من غير تكلف الضرب، فصار عبثا وقبيحا من هذا الوجه وليس يمكن مثل ذلك في الألم إذا قابله ما ليس بألم لأن ما فيه من العوض لا يمكن الابتداء به.