وبعد، فليس يخلو قوله: (لا تجتمع أمتي) من أن يكون عنى به جميع المصدقين، أو بعضا منهم، وهم المؤمنون المستحقون للثواب، فإن كان الأول وجب بظاهر الكلام أن لا يختص أهل كل عصر، بل يشيع في جميع المصدقين إلى قيام الساعة حتى لا يخرج عنه أحد منهم. لأن مذهب خصومنا في حمل القول المطلق على عمومه يقتضي ذلك، وإن جاز لهم حمل الكلام على المصدقين في كل عصر كان هذا تخصيصا بغير حجة، ولم يجدوا فرقا بينهم وبين من حمله على فرقة من أهل كل عصر، وإذا وجب حمله على جميع المصدقين في سائر الأعصار لم يكن دليلا على ما يذهبون إليه من كون إجماع أهل كل عصر حجة، وإن كان على ما ذكرناه ثانيا بطل بمثل ما أبطلنا الأول من وجوب حمله على كل المؤمنين المستحقين الثواب في
____________
(1) وهناك توجيه آخر للحديث - لو صح - أنهم لا يجتمعون على خطأ لو اجتمعوا، والاجماع الذي يدعيه القاضي على ما يدعيه له لم يحصل للقطع بوجود الخلاف في الأمر المدعى.
الصفحة 238
كل عصر على سبيل الجمع، وإن من خصص أهل كل عصر بتناول القول له كمن خص فرقة من أهل العصر ويبطل هذا الوجه أيضا بأن الذاهب إليه مقترح ما لا يقتضيه اللفظ، ولا توجبه الحجة، ولو قيل له: من أين لك أن لفظة (أمتي) تختص المؤمنين ومن كان للثواب مستحقا دون غيرهم؟ لم يجد متعلقا ولا فرق بين من اقترح هذا التأويل وبين من حمل اللفظ على بعض من الأمة، أو من المؤمنين مخصوص، وليس يمكن في هذا الخبر ما أمكن في الآيات المتقدمة من قولهم: إن الكلام يقتضي المدح فلا بد من إخراج من لا يستحقه من جملته، وتبقية من عداهم، لأنه ليس في نفي الاجتماع على الخطأ عنهم دلالة على مدح وتعظيم، لأنه قد يجوز أن يعلم من حال جميعهم لأنهم لا يختارون الاجتماع على الخطأ، وإن كان كل واحد منهم يفعله متفردا به، ولا شبهة في أن هذا لا يقتضي مدحا، وقد روي معنى هذا الخبر بلفظ آخر وهو (لم يكن الله ليجمع أمتي على ضلال) وهذا صحيح غير مدفوع، وهو يدل على أنهم لا يختارون الاجماع على الضلال من قبل أنفسهم.
فأما ما رواه من قوله " لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق " (1) فما قدمناه يبطل الاستدلال به على أن الظهور على الأمر في اللغة هو الاطلاع عليه، والعلم به، وليس يفيد التمسك به، ونفي فعل ما يخالفه، لأنه قد يظهر على الحق ويعلمه من لا يعمل به، فكان الخبر يفيد أن طائفة من الأمة لا بد من أن تكون ظاهرة على الحق، بمعنى مطلعة عليه، عالمة به، وهذا لا يمنع من اجتماع الأمة على فعل الخطأ.
____________
(1) المغني 17 / 180 ورواه كثير من المحدثين كالبخاري في صحيحة 8 / 149 كتاب الاعتصام والتوحيد و 8 / 189 المناقب. ومسلم في كتاب الإيمان ح 156 وعقد له بابا في كتاب الأمارة. وانظر المغني 17 / 180 و 181.
الصفحة 239
لأنه جائز أن تكون هذه الطائفة المطلعة على الحق لا تعمل به، وتفعل الخطأ والباطل على علم بالحق، وهذا مما لا يمتنع عند خصومنا على طائفة من الأمة، ويكون باقي الأمة بفعل الخطأ والباطل للشبهة فيكون الاجتماع على الخطأ من الأمة قد حصل مع سلامة الخبر.
فأما ما رواه من قوله: " من سره أن يسكن بحبوحة الجنة فليكن مع الجماعة " (1) و " يد الله مع الجماعة " (2) إلى غير ذلك من الأقوال المرغبة في لزوم الجماعة، وترك الخروج عنها فهو مما يبعد التعلق به في نصرة الاجماع، لأن لفظ الجماعة محتملة ليس يتناول بظاهرها جميع الأمة، ولا فيها دلالة على تخصيص جماعة معينة منهم، ومن مذاهب خصومنا أن الألف واللام إما أن يدخلا لتعريف أو استغراق، والاستغراق هاهنا محال، لأن في الجماعات (3) من لا شبهة في قبح الحث على اتباعه، والتعريف مفقود في هذا الموضع لأنا ما نعرف جماعة يجب تناول هذا اللفظ لهم على مذاهب مخالفينا، ومن ادعى منهم جماعة معينة يختص بهذه اللفظة كمن ادعى غير تلك الجماعة.
فأما ما ادعاه في نصرة الاستدلال بالخبر الذي ذكرناه وقوع العلم بتداول الصحابة والتابعين لذلك، واعتمادهم على الاجماع، وأنه مما لا
____________
(1) بحبوحة الدار - بضم البائين وسطها - والحديث رواه أحمد في موضعين من المسند ج 1 / 18 و 26 وفي الأول منهما " بحبحة الجنة " كما رواه الترمذي في كتاب الفتن 2 / 27 هكذا: " من أراد بحبوح الجنة فليلزم الجماعة " واستشهد به في تاج العروس مادة " بح " ونقله بحروف ما في المتن ونقل عن أبي عبيد " بحبوحة كل شئ وسطه وخياره " وانظر المغني 17 ص 180 و 181.
(2) رواه الترمذي في كتاب الفتن 2 / 27 والنسائي في كتاب تحريم الدم 7 / 92 في جملة حديث.
(3) كذا في المطبوعة والمخطوطة وفي تلخيص الشافي " في الجماعة ".
الصفحة 240
يحتاج إلى تتبع الألفاظ فيه كما لا يحتاج إلى تتبع الألفاظ في مثله من الأمور الظاهرة كأصول الصلوات وكثير من الفرائض (1).
ثم قوله " والذي ندعيه متعارفا ظاهرا في هذا الباب بين الصحابة إجماع الأمة، وأنه لا يكون خطأ ولا ضلالا فهذا المعنى منقول معمول به، ولا احتجاج به يقع دون اللفظ " (2) فمما لم يزد فيه على الدعوى، لأنا نعلم من حال الصحابة ما ذكره، ولا نقطع على أن جميعهم كان يحتج بالاجماع على الوجه الذي يذهب إليه صاحب الكتاب، وأهل نحلته.
ولو كان ما ادعاه في تمسك الصحابة بالاجماع، واحتجاجهم به جاريا مجرى أصول الصلوات والظاهر من الفرائض لوجب أن يكون المخالف في الاجماع، والمنكر لتمسك الصحابة به، وعملهم عليه كالمخالف في أصول الصلوات وما أشبهها، والدافع لظهور العمل بها في الصدر الأول، وقد علمنا فرق ما بين المخالف في المسألتين، وكيف يدعى في هذا الموضع العلم الشامل للكل، ونحن نعلم كثرة من يخالف في الاجماع كالشيعة على اختلاف مذاهبها، والنظام (3) وأصحابه ممن لا يجوز عليه دفع الضرورات لتدينه بمذهبه، وتقربه إلى الله عز وجل باعتقاده.
____________
(1) أنظر المغني 17 / 181.
(2) المغني نفس الصفحة.
(3) النظام أبو إسحاق إبراهيم بن سيار بن هاني البصري أحد أئمة المعتزلة مات كما في لسان الميزان لابن حجر 1 / 67 في خلافة المعتصم سنة بضع وعشرين ومائتين وإنكاره للاجماع نقله ابن أبي الحديد في شرح نهج البلادة 1 / 126 قال: " واعلم أن النظام لما تكلم في كتاب " النكت " وانتصر لكون الاجماع ليس بحجة، اضطر إلى ذكر عيوب الصحابة، فذكر لكل منهم عيبا، ووجه لكل واحد منهم طعنا " ثم نقل عنه أمورا يعرض بها بالإمام علي عليه السلام ثم استغفر ابن أبي الحديد النظام وسأل الله أن يعفو عنه في تعريضه بالإمام سلام الله عليه.
الصفحة 241
فأما ما ظنه من رجوعنا في إيجاب أصول الصلوات وما ماثلها (1) إلى ما نعلمه من عمل جميع الأمة بها، وأن ما علمنا من ذلك يغني عن لفظ مخصوص، فظاهر الفساد.
وقد بينا فيما سلف أن الرجوع في هذه العبادات وإيجابها إلى ما هو أقوى من نقل الألفاظ المخصوصة، لأن جميع المسلمين وغير المسلمين ينقلون عن أسلافهم أنهم خبروا عن أسلافهم حتى يتصل النقل بزمان الرسول صلى الله عليه وآله أنه أوجب هذه العبادات، وأنهم اضطروا من قصده إلى إيجابها، وعلموا أمر دينه ذلك كما علموا سائر ما هو ظاهر من أحواله، ولا فقربنا في العلم بما ذكرناه إلى نقل لفظ مخصوص بصيغة معينة، كما لا فقر بنا إلى ذلك في (1) نقل وجود النبي صلى الله عليه وآله ودعائه إلى نفسه، وتحديه بالقرآن، إلى غير ما عددناه (2) من الأحوال الظاهرة، وإنما يحتاج إلى تتبع الألفاظ فيما لم يبلغ هذه المنزلة في الظهور، ويشترك الجميع في نقله والعلم به.
وليس يمكن أن يدعى في اعتماد الصحابة على الاجماع وعلمهم به مثل هذه الطريقة لما ذكرناه آنفا من وجود من يخالف فيما ادعي على الصحابة من اعتقاد صحة الاجماع ممن لا يجوز أن يكون حاله حال من خالف في أمر الصلوات، ودفع ظهور العمل بها بين الصحابة.
وبعد، فليس يدفع في بعضهم أنه كان ينكر الخروج عن الجماعة، ومفارقتها في الاعتقاد، وأكثر ما نعلم من حالهم في باب الاجماع هذا
____________
(1) خ " من ".
(2) خ " إلى غير ذلك مما هو من ".
الصفحة 242
الذي ذكرناه، وليس فيه دلالة على اعتقادهم كون الاجماع حجة، وأن من خالفه ضال، وغير ممتنع أن يكون إنكارهم على من فارق الجماعة من حيث اعتقدوا من جهة الدليل كونها على الحق لا من جهة الاجماع كما يعتقد الواحد منهم ضلال من خالفه في مذهبه من حيث اعتقد أن الدليل معه، وفي يده.
فأما قوله: " وليس لأحد أن يقول: إن جاز ما ذكرتموه في أخبار الاجماع فجوزوا في كثير من التواتر الآن أن يصير من بعد آحادا، وتجويز ذلك يؤدي إلى أن لا تأمنوا في أصول الشرائع مثل ذلك (1)، بل في القرآن أن يصير كذلك، لأنا (2) قد أمنا تجويز ذلك لوجوه من الاشتهار نعلمها تتزايد على الأيام ولا تتناقص تفارق حالها في ذلك حال (3) الاجماع في الزمن الأول لأنها لم تبلغ هذا الحد، وهذا لا بد لكل أحد أن يجيب بمثله إذا سئل عن كثير من أخبار الآحاد في الزكوات (4) مما صح أن الحجة قامت به وهو من باب الآحاد في هذا الوقت " (5) فغير مقنع في الفرق بين الأمرين لأنه لم يزد على أن ادعى أن خبر الاجماع لم يبلغ في الأصل في باب الشهرة مبلغ الأخبار التي عورض بها، وهذا من أين له؟ وكيف أن أخبار الاجماع لم تبلغ في الظهور إلى حد أخبار الصلوات؟.
وبعد، فليس يخرجه ما ذكره عن المناقضة، لأنه اعتل في جواز كون أخبار الاجماع من باب الآحاد بعد أن كانت من باب التواتر بأن
____________
(1) في المغني " أن تصير كذلك ".
(2) وفيه: " قيل له: لأنا ".
(3) غ " أخبار الاجماع ".
(4) غ " أخبار الزكوات ".
(5) المغني 17 / 184.
الصفحة 243
الاجماع إذا حصل من الصحابة عليها، وظهر العمل بينهم بها قام هذا مقام التواتر، وكان آكد في معنى الحجة منه، وادعى أن أخبار الصلوات، وكثير من العبادات يجري هذا المجرى في أن حصول الاجماع عليها، والعمل بها غني عن التواتر فيها، وهذه العلة قائمة في جمع أصول الشرائع (1)، وفي القرآن نفسه، فما المانع من أن يصير نقل ذلك في طريق الآحاد بعد أن كان متواترا، ويكون الاجماع وظهور العمل به من الصحابة مغنيين عن غيرهما في معنى الحجة؟ وليس يفرق بين الأمرين أن أحدهما تمادت (2) بنقله الأزمان، ونقل من طريق التواتر على مر الأيام، أو ظهر في الأصل ظهورا لم يكن لغيره، لأن جميع ذلك تخصيص للعلة، وتلاف للفارط (3) في إطلاق القول.
فأما قوله: " ولا بد لكل أحد أن يجيب بمثل جوابنا إذا سئل عن كذا وكذا " (4) فقد بينا أن الجواب الصحيح غير جوابه، وأوضحنا القول في جهة حصول العلم بأصول الصلوات والزكوات وما أشبههما من العبادات بما يستغنى عن ذكره.
فأما قوله: " وقد علمنا أن الداعي إلى نقل القرآن إن لم يقو على الأيام لم يضعف، وذلك لشدة الحاجة من جهة الدين إليه، وكذلك القول في أصول الدين [ فلا يجوز أن يضعف نقله (5) ]، ولا يجوز ذلك من
____________
(1) الشريعة، خ ل.
(2) تمادت: بلغت مدى: وهو الغاية.
(3) الفارط: الذي يتجاوز الحد في الأمر وفي المخطوطة " من إطلاق ".
(4) المغني 17 / 185 وفيه: " ولا بد لكل أحد أن يجيب بمثله إذا سئل عن كثير من أخبار الزكوات ".
(5) ما بين المعقوفين من المغني.
الصفحة 244
جهة أخرى، لأن نقل المعجز لا بد من أن يكون اضطرارا للعلم به، وبنبوته صلى الله عليه وآله (1)، ولا يجوز أن لا تزاح علة المكلفين فيه أبدا، وكذلك القول في أصول الدين، والطريقة في نقل الجميع إذا تساوت لم يجز اختلاف حالها، وليس كذلك ما جوزناه في خبر الاجماع لأن الطريقة فيه مخالفة لما ذكرناه في القرآن فغير ممتنع أن تكون الحجة في الأخبار المروية فيه قائمة أو لا بالتواتر ثم تصير الحجة فيها من الوجه الآخر " (2) فالعلة التي ذكرها فيما أباه قائمة فيما التزمه، لأن الاجماع أيضا من أصول الدين الكبار، ولو شئنا لقلنا إنه كالأصل لسائر الأصول، لأن عليه مدار عمل مخالفينا، وإليه يفزعون في سائر الدين أو أكثر، فإن كان نقل القرآن وما أشبهه من أصول الدين يجب أن يقول على الأيام ولا يضعف لشدة الاحتجاج من جهة الدين إليه، فما تمس الحاجة من جهة الدين إليه أيضا وتشتد يجب أن يقوى نقله ولا يضعف، فكيف تم في أخبار الاجماع مع الحاجة الماسة إليها ما تم من ضعف نقلها، ورجوعها إلى الآحاد بعد التواتر ولم يجز أن يتم مثل ذلك في غيرها؟ وهل تعاطي الفرق بين الأمرين إلا محض الاقتراح!
وبعد، فقد صرح صاحب الكتاب في جميع كلامه الذي حكينا منه بعضا وتركنا آخر (3) بأن أخبار الصلوات والزكوات وكثير من أصول العبادات انتقل نقلا إلى الآحاد بعد أن كان متواترا من حيث أغنى الاجماع، وظهور العمل عن نقل الألفاظ المخصوصة، ثم رأيناه يمنع في هذا الموضع الذي قد انتهينا إليه من أن يتم في أصول الدين مثل ذلك.
____________
(1) في المغني ليعلم به نبوته صلى الله عليه.
(2) المغني 17 / 185.
(3) بعضا، خ ل.
الصفحة 245
ويعتل بأن شدة الحاجة من جهة الدين إلى الأمر المنقول يمنع من ضعف نقله، وهذا من أعجب العجب، لأنا ما نعرف شيئا من أصول الدين يفوق في باب شدة الحاجة - من جهة الدين - إليه الصلوات والزكوات التي أقر بأن نقلها قد ضعف بعد القوة، ولو صرح بذكر ما امتنع من أن يضعف نقله بعد القوة من أصول الدين لظهر لكل أحد تحكمه إذا جمع بين ما التزم جواز ضعف نقله من الصلوات والزكوات وبين ما امتنع من مثل ذلك فيه لكنه أبهم (1) الكلام سترا على نفسه فأما الجهة الأخرى التي ظن أن نقل القرآن لا يضعف من أجلها (2) فشبيهة بالضعف والفساد بالأولى، لأن القرآن لو لم ينقل على وجه الدهر لم يخل ذلك بالعلم بالنبوة، وكونه معجزا دالا عليها، لأنه إذا ظهر في الأصل وقامت به الحجة، ونقل ما يقتضي قيام الحجة به من فقد معارضته، والتسليم لم، فقد وجبت الحجة على سائر المكلفين الموجودين إلى قيام الساعة بهذا القدر وإن لم تنقل ألفاظ القرآن، ولو كان الاخلال بنقل القرآن مخلا بالاستدلال على كونه معجزا، ودالا على النبوة لكان هذا حكم سائر المعجزات التي وقعت في زمن الرسول صلى الله عليه وآله ولم تستمر حالا بعد حال.
فإذا قيل في تلك المعجزات: " إنها وإن لم تستمر فإن نقل كونها ووجودها على الوجه الذي يقتضي خرق العادة بها كاف في إزاحة علة المكلف. قلنا مثل ذلك في القرآن، وإن ادعى وجوب نقله لما يتضمنه من
____________
(1) يقال: أمر مبهم: لا معنى له، واستبهم عليه الكلام استغلق، والمراد أنه جاء بكلام لا وجه له.
(2) أنظر المغني 17 / 185.
الصفحة 246
الأحكام، قلنا: قد يجوز أن يغني عن ذلك إجماع الأمة على تلك الأحكام، وظهور العمل بينهم بها كما أغنى ما ذكرناه من حالهم عند صاحب الكتاب عن نقل أخبار الاجماع، وأخبار الصلوات والزكوات على الوجوه التي وقعت في الأصل عليها من الظهور والانتشار ونقل الجماعات.
فأما قوله: " واعلم أنه لا بد من إثبات ثلاثة أمور ليصح ما قدمناه: أحدها، صحة الخبر عنهم أنهم عملوا بموجب هذا الخبر، والثاني، أنهم تمسكوا به لأجله (1) دون غيره، والثالث، أن عملهم به على هذا الحد [ وتمسكهم به (2) ] يدل على صحة الخبر لا من جهة الاجماع، لكن لأن ذلك طريقة في صحة الأخبار الواردة في أحكام الشريعة (3)، فأما نقل تمسكهم بالاجماع وظهور ذلك فيهم مع ذكر هذه الأخبار فطريقه التواتر، وعلمنا بذلك من حال الصحابة كعلمنا بأنهم تمسكوا بالرجوع إلى أخبار الآحاد، بل العلم بذلك أقوى، والأمر ظاهر عنهم أنهم أجروه (4) مجرى القرآن والسنة لأن الاجتهاد ينقطع عنده، (5) " فلا شك في أن ثبوت ما ذكره من الأقسام يثبت الاحتجاج بالخبر ولكن دون ثبوته خرط القتاد (6) وأما القسم الأول الذي ادعى فيه حصول العلم بتمسك الصحابة
____________
(1) أي تمسكوا بالاجماع لأجل الخبر.
(2) التكملة من " المغني ".
(3) غ " في الأحكام الشرعية ".
(4) أي أجروا الاجماع.
(5) المغني 17 / 188.
(6) القتاد شجر له شوك أمثال الأبر ينبت بنجد وتهامة، والخرط نزع الورق اجتذابا بالكف، والمثل يضرب للشئ صعب المنال.
الصفحة 247
بالاجماع، والرجوع إليه، فقد بينا فساده، وأنه مقتصر فيه على دعوى، وذكرنا حال من يخالف في الاجماع ممن لا يعترف بصحة ما ذكره، ولا هو بصورة من يدفع الضرورات، وهؤلاء الذين أشرنا إليهم يقولون إن الاحتجاج بالاجماع مما ولد الفقهاء الاحتجاج به عن قرب (1)، وتبعهم عليه جماعة من المتكلمين، وأن الصحابة ومن كان في الصدر الأول لم يعرفوه لا سيما على هذا الوجه الذي يدعيه المخالفون، وإنما كانوا ينكرون على من خالف الحق، وخرج (2) عن المذهب الذي تعضده الدلائل سواء كان ذلك المذهب إجماعا أو خلافا، وقد أصاب صاحب الكتاب - وإن كان لم يقصد الإصابة - في قوله: " إن حال تمسكهم بالاجماع كحال رجوعهم إلى أخبار الآحاد " لأن الأمرين غير معلومين ولا ثابتين والمدعي لكن واحد منهما في بعده عن الحق كالمدعي للآخر.
فأما قوله في الاستدلال على أنهم تمسكوا بذلك لأجل الخبر: " إن شيخنا أبا هاشم عول في ذلك على أنه كما نقل عنهم التمسك بالاجماع، فقد نقل عنهم الاحتجاج بهذه الأخبار (3) " فقد بينا أنه لا نقل في الأول، ولا علم حاصلا على الوجه الذي ادعى، فإن كان أبو هاشم يدعي نقلا مخصوصا في احتجاج الصحابة بهذه الأخبار فيجب أن يشير لنا إليه (4)، فإنا ما نعرف خبرا عن أحد من الصحابة بأنه كان يحتج في الاجماع بهذه الأخبار المدعاة، بل قد ذكرنا أنه لم يثبت عنهم احتجاج بالاجماع على ما يذهب إليه الخصوم جملة، ومن رجع إلى نفسه، وراعى النقل علم فساد
____________
(1) ولده: صنعه، وعن قرب: أي قريب.
(2) لأنه خروج، خ ل.
(3) المغني 17 / 188.
(4) أن يدلنا عليه، خ ل.
الصفحة 248
هذه الدعوى من أبي هاشم، وإن ادعى في احتجاجهم بهذه الأخبار النقل الشائع العام الذي يشترك الجميع فيه، ولا يفتقر إلى لفظ مخصوص لظهوره وشهرته، كما ذكر مثل ذلك في الصلوات وما أشبهها، فيجب لو كان الأمر كذلك أن يرتفع الخلاف في هذا كما ارتفع في ذلك وتكون صورة المخالف فيهما واحدة، وهذا مما لا يبلغ إليه محصل.
وأما قوله: " وقد ذكر شيخنا أبو عبد الله (1) أنه إذا ثبت تمسكهم بذلك وعملهم (2) بموجب هذه الأخبار ولم يظهر بينهم إلا هذه الأخبار فيجب أن يقطع على أن عملهم بذلك لأجلها دون غيرها، كما يجب أن يقطع على أن تمسكهم بالرجم (3) لأجل الخبر المدعى (4) في ذلك، وأن قطعهم (5) للسارق المستحق للقطع، والزاني المستحق للجلد لأجل الآيات التي ذكروها " (6) فشبيه في البطلان بما تقدم، وليس يجب من حيث ظهر عملهم بالاجماع، وظهرت رواية الأخبار التي ادعوها لو سلمنا هذين الأمرين على بطلانهما أن يكون عملهم بالاجماع من أجل الأخبار دون أن يكون لأجل الآيات التي يحتج بها مخالفونا في صحة الاجماع، وقد ذكرها صاحب الكتاب واعتمدها.
فأما عملهم بالرجم والقطع لأجل الآيات دون غيرها، فليس
____________
(1) هو الحسين بن علي البصري من أكابر علماء المعتزلة، وهو من شيوخ قاضي القضاة، توفي سنة 376 أو 79. 3.
(2) غ " وعلمهم " وما في المتن أوجه.
(3) أنظر صحيح مسلم 3 / 1317 كتاب الحدود، باب رجم الثيب في الزنى.
(4) خ " المروي ".
(5) خ " في قطع ".
(6) المغني 17 / 188.
الصفحة 249
المرجع فيه إلى ما ظنه من أن عملهم بذلك لما ظهر وكانت الآيات ظاهرة بينهم وجب القضاء بأنهم عملوا بها لأجلها، بل المرجع في ذلك إلى حصول العلم، وزوال الشك لكل أحد بعمل القوم على هذه الآيات، ومن أجلها، وليس يمكن أن يدعى مثل ذلك في أخبار الاجماع.
فأما قوله: " والواجب في الصحابة إذا علم أنهم تمسكوا بطريقة في الدين، والمتعالم من حالهم أنهم كانوا يرجعون فيما يتمسكون به من الأحكام إلى الأدلة أن يحمل (1) تمسكهم بذلك على الأمر أن (2) يظهر فيما بينهم دون غيره، لأن الذي وجب له حمل تمسكهم بالحدود والأحكام على أنه لأجل القرآن والسنة أنهم تمسكوا بذلك ولم يظهر فيهم سواه وهذا قائم فيما ذكرناه " (3) فهذا إنما كان يجب لو لم يظهر بينهم إلا ما ادعاه من الأخبار، فأما وظهور الآيات التي أشرنا إليها بينهم معلوم، فما المانع من أن يكون عملهم إنما كان لأجلها دون الأخبار.
وما رأينا أظرف من إقدام صاحب الكتاب على أن يدعي أنه لم يظهر بينهم إلا الأخبار التي ادعيت في الاجماع، وتكراره مرة بعد أخرى قوله " ولم يظهر بينهم غيرها " (4) مع علمه بأن القرآن الذي يتضمن الآيات المتعلق بها في الاجماع قد كان ظهوره فيهم (5) أقوى من ظهور كل خبر.
وبعد، فيلزمه على هذه الطريقة التي سلكها القطع على أن عمل الصحابة بالاجماع إنما كان للآيات دون الأخبار، فضلا عن التجويز
____________
(1) في المغني " نحيل ".
(2) خ " الذي ".
(3) المغني 17 / 189.
(4) أنظر المغني 17 / 189.
(5) معهم، خ ل.
الصفحة 250
لذلك، لأنه إذا أوجب على ما ادعاه في الصحابة إذا علم تمسكهم بطريقة في الدين أن يحكم بأن تمسكهم إنما كان لأجل ما يظهر بينهم من الأدلة دون غيرها، فهكذا يجب إذا علم تمسكهم بالاجماع، وظهر بينهم أمران لأحدهما على الآخر فضل عظيم في الظهور والشهرة والقوة، أن يقضى بأن عملهم إنما كان من أجل القوي العالي الرتبة في الظهور، لأن حسن الظن بهم الذي يقتضي حمل أفعالهم على الصحة، وموافقة الحق والدين يقتضي هذا، بل يجب إذا ظهر عملهم وتمسكهم واتفق على أمر ظهر بينهم واشتهر يمكن أن يكونوا فعلوا له، ومن أجله، وادعي ظهور أمر آخر بينهم لم يقع الاتفاق عليه، ولا التسليم من جماعة الأمة له، أن يحكم بأن تمسكهم إنما كان لأجل المعلوم المتيقن دون المشكوك فيه.
وهذا يوجب القطع على أن عملهم بالاجماع إن كانوا عملوا به من أجل (1) الآيات التي قد علم ظهورها بينهم، واتفق وقوفهم عليها، ومعرفتهم بها، دون الخبر الذي يعتقد كثير من الأمة أنه مولد (2) مصنوع لم تعرفه الصحابة، ولا سمعت به.
فأما قوله: " وقد صح من عادة الصحابة ومن بعده في الأخبار أنهم كانوا يتثبتون فيما لا يعظم الوزر والخطأ فيه مثل الذي روي عن عمر في الاستئذان (3) وغيره [ وما روي عن علي عليه السلام أنه كان يحلف من
____________
(1) لأجل، خ ل.
(2) مؤلف، خ ل.
(3) حديث الاستئذان رواه البخاري في كتاب الاستئذان من صحيحه 7 / 130 عن أبي سعيد الخدري، قال: كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور، فقال: استأذنت على عمر ثلاثا فلم يأذن لي فرجعت، فقال: ما منعك؟
قلت: استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع) فقال: والله ليتضمن عليه بينة، أمنكم أحد سمع من النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبي بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم فقمت معه فأخبرت عمران النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك.
الصفحة 251
كان يخبره الخبر عن الرسول (1) ] فكيف يصح أن يجري مثل ذلك عادتهم لما هم عليه من الديانة، وشدة التحرز من الغلط فيها ومع ذلك يتمسكون بالاجماع، ويجعلونه من أصول الدين، ويعتمدون عليه في الأحكام، ويقطعون عنده الاجتهاد والرأي لأجل خبر ذكروه غير صحيح عندهم والعادة الظاهرة عنهم أن ما طريقة الخبر الذي لم تثبت (2) صحته قد كان يقبله، واحد، ويرده آخر، وإنما كانوا يطبقون (3) على الخبر، والعمل به إذا حملهم ذلك على العلم بصحة ذلك (4) ". فغير ممتنع في الصحابة أن يتوقفوا في بعض الأخبار لضعف الشبهة فيه، ويمضوا غيره، ويعتقدوا صحة لقوة الشبهة، إما لأنهم أحسنوا الظن براويه، وغلب على قلوبهم من ثقته وأمانته ما دعاهم إلى اعتقاد صحة خبره، أو لأن الخبر وافق منهم اعتقادا متقدما لمعناه فاعتقدوا صحته من حيث طابق ما في نفوسهم، أو لأنهم وجدوه موافقا للآيات التي يتعلق بها في صحة الاجماع، وكانوا معتقدين فيها أنها دالة علي كون الاجماع حجة فصدقوا به من هذا الوجه، إلى غير ما ذكرناه من وجوه الشبه، وطرقها، وهي كثيرة.
وليس يجب إذا ردوا باطلا، أو توقفوا في مشكوك في أن يفعلوا ذلك في كل ما جرى هذا المجرى، لأن المسارعة إلى قبول بعض الباطل قد تقع من العقلاء وأهل الدين لقوة الشبهة، وإن لم يجب أن يسارعوا إلى التصديق بكل باطل وإن ضعفت شبهته.
____________
(1) ما بين المعقوفين من " المغني ".
(2) غ " لم تبد ".
(3) خ يظهرون الإطباق، خ ل.
(4) المغني 17 / 190.
الصفحة 252
ومحصول كلام صاحب الكتاب أنهم إذا أصابوا في شئ فلا بد أن يصيبوا في كل شئ، وعلى هذا بنى دعواه أن عادتهم جرت بأن لا يقبلوا إلا الصحيح، وهذا ظاهر الفساد (1)، لأن المصيب في أمور كثرة لا يمتنع أن يخطئ في غيرها، وليس هذا مما يراعي فيه عادة، على أنه أيضا مدع في العادة.
ولو قيل له: من أين لك أن جميع ما ردوه كان باطلا، وكل ما قبلوه كان صحيحا؟ لم يجد متعلقا، وليس تثبت له العادة التي ذكرها إلا بعد ثبوت أنهم لم يقبلوا إلا الصحيح، ولم يدفعوا إلا الباطل.
وهذا غير مسلم في كل شئ ردوه أو قبلوه، ولا فرق بين المعتمد على (2) هذه الطريقة، وبين من قال في نفسه أو غيره: إذا كنت أو كان فلان مصيبا في كل أفعاله واعتقاداته، ومتمسكا بالحق، ودافعا للباطل، وكان هذا معلوما ومسلما وجب أن تكون هذه عادة مستمرة مانعة من أن يخطئ في شئ من الأشياء، أو يعتقده باطلا (3).
فإذا كان هذا القائل عند جميع العقلاء مبطلا واضعا للقول في غير موضعه، وكان جوابهم له: أن فلانا وإن كان مصيبا عندنا في اعتقاداته وأفعاله - كما ذكرت - فليس هذا بعاصم له من اعتقاد باطل تقوى شبهته عليه، وإنما حكمنا بصواب أفعاله من حيث علمنا بالدليل صحتها، فيجب أن يكون هذا حكمنا في جميع ما يعتقده ويفعله، ولا نجعل (4) صوابه في البعض دلالة على صوابه في الكل، وهذه صورة صاحب
____________
(1) وظاهر فساد ذلك، خ ل.
(2) في، خ ل.
(3) أو بعد باطلا قوله واضعا القول خ ل.
(4) ولا يحصل، خ ل.
الصفحة 253
الكتاب فيما تعلق به، فيجب أن يكون جوابه مثل ذلك، ونهاية ما يقتضيه حسن الظن بالصحابة، وحمل أمورهم على ما يشبه ما استقر في النفوس من تعظيمهم وتبجيلهم أن يحكم (1) بأنهم لم يقبلوا الخبر المذكور، ويعدلوا عن رده، وتكذيب راويه إلا بعد أن اعتقدوا صحته، وقويت الشبهة عليهم في أمره.
وهذا قد فعلناه، وليس ينتهي حسن الظن بهم إلى أن يوجب علينا القطع على عصمتهم، وأنهم لا يعتقدون إلا الحق، ولا يدفعون إلا الباطل.
على أنا إذا زدنا في حسن الظن، وقلنا: أنهم لم يتلقوا أخبار الاجماع عن الآحاد، بل عن الجماعة لم يثبت ما يريده الخصوم، لأنه جائز عليهم أن يعتقدوا في الجماعة التي أوردت عليهم تلك الأخبار صفة المتواترين فيصدقوهم وإن لم يكونوا في الحقيقة كذلك، لأن العلم بصفة الجماعة المتواترة التي يقطع خبرها العذر ليس يحصل ضرورة، بل الطريق إلى استدراكه الاستدلال الذي يجوز على الصحابة - وإن تدينت، وحسنت طرائقها - الغلط (2) فيه.
وأرجو أن لا تنتهي الضرورة بصاحب الكتاب إلى أن يدعي أن الصحابة لا يجوز عليها الغلط في الاستدلال على كون الخبر متواترا، وإن كان ما ادعاه قريبا من هذا، ومتى طولب حامل نفسه على هذه الطريقة (3) بالدلالة على صحة قوله ظهر عجزه، وبان (4) أمره من قرب.
____________
(1) أن يحكموا، خ ل.
(2) الغلط فاعل " يجوز ".
(3) الأمور، خ ل.
(4) بأن - هنا -: اتضح.
الصفحة 254
وقوله من خلال كلامه: " فكيف يصح أن يفعلوا كذا وكذا لأجل خبر غير صحيح عندهم (1) " تمويه لأنا لم نقل أنهم قبلوا ما هو غير صحيح عندهم، وإنما أجزنا عليهم أن يقبلوا ما هو غير صحيح في الحقيقة وإن اعتقدوا بالشبهة صحته.
فأما قوله: " وأما الطريقة الثانية " فقد ذكرها (2) في البغداديات، وقال: " وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه ثم رحمة الله عليهم، ملازمين له في أكثر الأزمان إلا في الأوقات اليسيرة، والتعبد (3) بما أجمعت عليه الأمة يشمل الخاصة والعامة، فلو قال لهم قائل: إنه عليه السلام (4) قال: " إن أمتي لا تجتمع على ضلال " (5) ولم يكن فيهم من سمع ذلك مع أن هذا القول يجري [ منه صلى الله عليه ] (6) مجرى ما تقوم به (7) الحجة منه على الناس، ولم يخبر بذلك إلا واحدا لا يعرفون صدقه لقد كان الواجب أن يردوه، ويقفوا عند قوله، فلما رأيناهم قد أذعنوا لهذا الخبر، ولم ينكروه، علم (8) أنه صحيح (9) " فلو وجب أن يرد الصحابة من الأخبار ما لم يسمعه جميعهم، أو أكثرهم، لوجب ردهم كل الأخبار المروية، أو أكثرها، لأن الأكثر من الأخبار قد تفرد بنقله جماعة دون
____________
(1) المغني 17 / 190.
(2) يعني أبا عبد الله الحسين بن علي البصري وقد تقدم ذكره.
(3) غ " ثم التعبد ".
(4) غ " صلى الله عليه ".
(5) تقدم تخريج هذا الحديث.
(6) ما بين الحاصرتين من المغني.
(7) غ " ما يقيم به الحجة ".
(8) غ " علم بذلك وحاله ما ذكرناه أنه صحيح ".
(9) المغني ج 17 / 191.
الصفحة 255
غيرها، وآحاد دون جماعة، ولم يكن جميع الأصحاب ملازمين للنبي صلى الله عليه وآله في كل أحواله، بل قد كان يشهد منهم بعض، ويغيب آخر، وليس يمتنع على هذا أن يخبرهم. هذا الخبر جماعة لا يكون مثلها قاطعا للعذر في الحقيقة إذا أنعم النظر (1) في أمرهم فيعتقدوا صحة قولهم بالشبهة الداخلة من بعض الوجوه التي قدمنا ذكرها، ولا يكون لهم رد خبرهم من حيث لم يشهده جميعهم لم ذكرناه آنفا من أن أكثر ما نقل من الاخبار قد كان يحضره بعضهم، ويغيب عنه سائرهم، ولا يكون لهم أيضا رده، من حيث كان متضمنا ما يعم فرضه، ولم يرد من جهة تقطع العذر، لأنهم قد اعتقدوا في الخبر - لقوة الشبهة - أنه قاطع للعذر وان لم يكن كذلك، فلم يبق إلا أن يقال: إن الغلط في الاستدلال لا يجوز عليهم.
وهذا إن قيل عقلا عرفت صورة قائله، وإن قيل سمعا فنحن في الكلام على السمع المدعى، وقبل تصحيحه لا يجب القطع على ذلك.
وقوله في كلامه: " ولم يخبر بذلك إلا واحد لا يعرفون صدقه (2) " مضى الكلام على مثله، لأنهم وإن لم يعرفوا صدقه معتقدون له.
وقوله: " لقد كان الواجب أن يردوه، ويقفوا عند قوله " صحيح، غير أن الواجب يجوز أن لا يفعله من يجب عليه وكلامنا فيما يجوز أن يفعلوه، أو يخلوا به لا فيما يجب عليهم، وليس يكون نتيجة تقديمه أن الواجب أن يردوه، ويقفوا عنده، أنهم إذا أذعنوا له ولم ينكروه، علم أنه صحيح، بل إنما تكون هذه النتيجة إذا تقدم مع أن الواجب أن يردوه
____________
(1) أنعم النظر: زاد فيه تمعنا.
(2) المغني 17 / 191.
الصفحة 256
أنهم لا يعدلون عن واجب ولا يخلون به وهيهات (1) أن يصح هذا.
فأما قوله: " ونظير ذلك أن نجد إنسانا يروي خبرا عن مجلس حافل، ومجمع عظيم، فالمعلوم أنه متى كان كاذبا أنكر عليه من يحضر ذلك المجلس، وإذا لم ينكره علم صدقه في خبره (2) " فباطل لأنه غير ممتنع أن يمسك أهل المجمع الذي ذكره عن كاذب يعرفون كذبه إذا كان هناك غرض لهم، أو كان في الامساك عن تكذيبه دفع ضرر عنهم، أو جر نفع إليهم، لأنا نعلم أنه لو كان لأهل هذا المجمع ببعض الناس عناية، وكان شريكا لهم في أموالهم، أو قريبا إليهم في نسبهم، وكانوا قد أحسوا من بعض السلاطين الظلمة يطمع في حاله وماله (3)، وقام هذا المخبر الكاذب بحضرة ذلك السلطان، أو بحضرة من يبلغه من أصحابه، فقال وأهل المجمع حضور: هؤلاء يعلمون أن فلانا - وأشار إلى الذي ذكرناه - أنه شريك للقوم، أو هم على عناية شديدة به فقير لا حال له ولا مال، وأنه حضرهم في يوم كذا فسألهم ما يصلح به حاله، ويلم به شعثه (4)، لكان جميع أهل المجمع يمسكون عن الرد عليه مع علمهم بكذبه، بل ربما صدقوه، وشهدوا لفظا بمثل قوله، ومن دفع هذا كان مكابرا لعقله، على أن ما ضربه من المثل غير مشبه لما نحن فيه، ولو سلم له لأن خبر الاجماع لم يدعيه الراوي على الصحابة، ولا استشهدهم عليه، لأنا قد بينا بطلان
____________
(1) هيهات: كلمة تبعيد وهي مبنية على الفتح وبعضهم يكسرها على كل حال.
(2) المغني 17 / 192.
(3) الحال: التراب اللين الذي يقال له: السهلة، والطين الأسود ويسمى اللبن الذي عن كراع حالا، والمال في الأصل: الذهب والفضة ثم أطلق على كل ما يقتنى ويملك، فعليه يكون الحال والمال كل ما يملك من نقد وغيره، وفي حديث فدك قال أبو بكر لفاطمة عليها السلام لما طالبته بها: " وهذه مالي لا تزوى عنك ولا تدخر دونك ".
(4) الشعث - بالتحريك - إنشار الأمر.
الصفحة 257
ما ظنه من وجوب حضور جميع الصحابة كل الأقوال المسموعة من الرسول صلى الله عليه وآله، وأن المعلوم من حالهم تفرد بعضهم بسماع ما لم يسمعه الجميع، وإذا صح هذا لم يلزم أن يكذبوا رواية قياسا على تكذيب أهل المجلس لمن يروي عنهم خبرا، أو يستشهدهم على ما يعلمون أنه كاذب فيه، وجرى أمر الصحابة والخبر المروي بحضرتها في الاجماع مجرى من يروي خبرا في مجلس لا يدعيه عليهم، ولا يستنشدهم على صحته، ومتى فرض على هذا الوجه كان جائزا منهم أن يصدقوه إذا أحسنوا الظن به أو دخلت عليهم الشبهة في صحة قوله.
فأما قوله: " وقد يمثل ذلك بما هو أوقع في القلب مما نعرفه من حال أصحاب العالم الواحد الذي جرت عادتهم بمعرفة مذاهبه وأقاويله، والتشدد في ذلك والتبجح بالرواية له فغير جائز والحال هذه أن يحكي الواحد منهم عنه مذهبا تشتد به العناية، والباقون (1) مجتمعون فيسلموا له، وذلك المذهب ما لو كان حقا لظهر ظهورا لا يختص به ذلك الواحد، والمعلوم من حاله عليه السلام (2) في أصحابه أنهم إن لم يزيدوا معه فيما يبلغونه من شرائعه وينقلونه لم ينقصوا مما ذكرناه، فكيف يجوز مع كون الاجماع أحد الأصول للدين (3)، أن يتمسكوا بخبر واحد (4) مع علمهم أنه عليه السلام لا يجوز أن يخص بذلك مع أنه من علم الخاص والعام الواحد والاثنين، وأنه في بابه أوجب إظهارا من أكثرهم أركان
____________
(1) غ " والباقون يخضعون له ".
(2) في المغني " صلى الله عليه ".
(3) غ " أصول الدين ".
(4) غ " أن يتمسكوا به لخبر الواحد ".
الصفحة 258
الدين، ومن جوز ذلك فقد خرج عن طريقة (1) العادات،... " (2) فقد تقدم الكلام على معناه في الفصل الذي خرجنا عنه إلى حكاية كلامه هذا، وبينا أنه غير ممتنع أن تمسك الجماعة عن الإنكار على كاذب يعلم كذبه، وإن كان مدعيا عليها إذا حصل هناك غرض قوي، والقول في هذا المثال الذي صار إليه كالقول في المثال الأول الذي ضربه، لأنا نعلم أن أصحاب هذا العالم الذي وصف حاله، وشدة عنايتهم بحفظ مذاهبه، وضبطها، لو كان بحضرة سلطان قاهر ظالم، وكان له مذهب يخالف مذاهب العالم الذي يصحبونه يعادي فيه الخارج عنه، ولا يؤمن على من عرفه بمخالفته سطوته حتى يقوم قائم في المجلس الذي جمعهم، ويحكي عن ذلك العالم القول بالمذهب الذي يعتقده سلطانهم، وطمعوا في تمويه الحال عليه، وكون ما جرى سببا لكف شره عنه وعنهم لكانت الجماعة تمسك عن تكذيبه، وتظهر تصديقه، هذا إن لم يقسم على صدقه، وصحة خبره بأغلظ الإيمان.
وقد بينا أيضا أن ذلك لو لم يجز على هذا الوجه لجاز على طريق الشبهة، لكن ليس بأن يكون الحال على التقدير الذي قدره، لأنه أدخل في جملة كلامه " وذلك المذهب مما لو كان حقا لظهر ظهورا لا يختص به الواحد " (3) فكأنه فرض فيهم أن يكون كل ما لم يعرفه جماعتهم مذهبا للعالم باطلا، وليس هذا مثال مسألتنا، لأنا قد منعناه من مثل ذلك في الصحابة، وأعلمناه أن كثيرا من المنقول عن
____________
(1) غ " طريق ".
(2) المغني 17 / 192.
(3) المغني 17 / 192.
الصفحة 259
الرسول صلى الله عليه وآله لم يكن جميع الأصحاب شاهدا له، (1) فكيف يلزم أن يكون كل ما لم تعرفه الجماعة وتسمعه باطلا، يجب عليهم رده، وتكذيب راويه (2) وإذ لم تكن هذه حالهم لم يكن ما رتبه مثالا صحيحا فيهم، وكان المثال الصحيح أصحاب عالم واحد قد جرت عادته بأن يلقي بعض مذاهبه إلى بعض (3)، ويعول في وصول البعض الآخر إلى معرفته على خبر البعض الذي ألقي إليه، وإذا قدرت الحال هذا التقدير لم يجب أن يكذب هؤلاء الأصحاب من أخبرهم عن العالم بمذهب لم يسمعوه منه، بل جائز أن يصدقوا هذا المخبر إذا غلب في ظنهم صدقه، أو اعتقدوا ذلك لبعض الشبه وإن كان على الحقيقة كاذبا.
وقوله: " فكيف يجوز أن يتمسكوا به بخبر واحد (4) " إنما يكون حجاجا لمن قطع على أن خبر الاجماع لم يتصل بهم إلا من جهة الواحد وهذا مما لم نقله، ولا عولنا عليه، بل قد مضى في كلامنا أنه جائز نأ يكونوا تلقوه من جماعة لا يقطع بمثلها العذر واعتقدوا فيها بالشبهة أنها تقطع العذر، فإن كان ما ذكره قادحا في أن يكونوا عرفوه من جهة الواحد فليس بقادح فيما ذكرناه، اللهم إلا أن يقول: ولا يجوز أن يسمعوه أيضا من جماعة إلا ويجب عنهم تكذيبها من غير نظير في حالها، وهل يقطع أمثالها العذر أم لا؟ من حيث لو كان خبرها صحيحا لعرفه الكل، ولما اختص به جماعة دون جماعة، وهذا إن قاله أبطل بما تقدم، على أنه قد مضى في كلامه عند حكايته عن أبي هاشم ذكر الأقسام التي عرفت منها الصحابة صحة الخبر، عطفا على قوله " إما أن يكونوا علموا ذلك لكذا،
____________
(1) خ " الصحابة شاهدين ".
(2) خ " رواته ".
(3) خ " بعضهم ".
(4) المغني 17 / 192.
الصفحة 260
وأن يكونوا عملوا ذلك باستدلال من حيث أخبرهم جماعة لا يجوز عليهم التواطؤ " (1) وهذا محقق لإلزامنا، وناقض لما اعتمد عليه في الفصل الذي نحن في نقضه، وللمثال الذي أورده فيه.
أما تحقيقه للالزام فمن حيث يقال له: إذا أجزت أن يكونوا استدلوا على صحة الخبر من الوجه الذي ذكرته فما يؤمنك من أن يكونوا غلطوا في الاستدلال، واعتقدوا فيمن يجوز عليه التواطؤ، ولا يقطع خبره العذر خلاف ما هم عليه وهذا مما لا سبيل إلى دفعه، وأما كونه ناقضا لكلامه الذي أشرنا إليه، فلأنه عول فيه على أن المخبر إذا أخبر الصحابة مما لم تسمعه من الرسول صلى الله عليه وآله وجب أن يردوا خبره إذا كان الخبر متضمنا لما يشمل وجوب العلم به الخاص والعام، وهو يقول فيما حكيناه (2) عنه: " إنه جائز أن يكون الصحابة استدلت على صحة الخبر من حيث أخبرها به جماعة لا يجوز عليها التواطؤ، ولم يوجب عليهم رده من قبل أنهم لم يسمعوه كسماعهم من الرسول صلى الله عليه وآله ". وهذان الموضعان يتناقضان كما ترى، لأنه إن صح وجوب رد ما لم يسمعه جميع الصحابة (3) أو أكثرهم، وإن كان المخبر جماعة بطل قوله " أنهم استدلوا على صحة الخبر بنقل من لا يجوز عليه التواطؤ " لأنهم إذا لم يسمعوه يجب على قوله أن يردوه، وإن كانوا قد سمعوه فكيف يصح أن يستدلوا عليه، وإلا صح، وإن صح استدلالهم على الخبر بطل أن يكون رد ما لم يسمعوه ويعرفوه واجبا عليهم.
فأما قوله: " فإن قال: إن كان كذلك فيجب أن تقولوا بمثل هذه
____________
(1) أنظر المغني 17 / 187.
(2) حكاه، خ ل.
(3) يسمعوه بأسرهم، خ ل.
الصفحة 261
العادة في امتناعها في غير أمتنا [ أنها بمنزلتها في أمتنا في صحة التوصل إلى ثبوت الأخبار (1) ]، وهذا يوجب عليكم أن تثبتوا أخبار النصارى في صلب المسيح عليه السلام إلى غير ذلك (2)... ".
قيل له: إنا عرفنا هذه العادة في أمة نبينا صلى الله عليه وآله ولم نعرف مثلها في غيرهم، والعادات إن كانت تابعة للتمسك بالدين، لم يمتنع أن يختلف أحوال أهل الدين فيها، ولم يثبت عندنا من حال سائر الأمم في التمسك في باب الدين، وما ينقل فيه من الأخبار ما ثبت في أمة نبينا.
وأما خبر الصلب فبعيد من هذا الباب، لأنا إنما نذكر في هذا ما ينقل في باب الدين والتمسك به، فما نعرف لامتنا مزية فيما ادعاه تبين (3) فيها من سائر الأمم، لأنا نعلم أن أهل العقل والتدين - من أي أمة (4) كانوا - لا يجوز أن يقبلوا إلا ما يعلمون أن يعتقدون صحته، وليس يجوز أن يجعل ردهم لبعض الباطل إذا زالت عنهم الشبهة في أمره، دلالة على أنهم لا يقبلون باطلا وإن قويت شبهته.
والمقدار الذي استدل به على أمتنا لا يقبل إلا الحق موجود في كل أمة، لأنا كما وجدنا أهل ملتنا قد ردوا كثيرا مما لم يصح عندهم، أو مما اعتقدوا بطلانه، فقد وجدنا أيضا جماعة من الأمم الخارجة من الملة قد استعملوا مثل ذلك. وردوا كثيرا مما لم يصح عندهم.
____________
(1) ما بين المعقوفين من " المغني ".
(2) المغني 17 / 192.
(3) تبين: تفترق، وفي خ " تبين بها.
(4) ملة، خ ل.
الصفحة 262
فإن قال خصومنا: إنهم وإن ردوا بعض الباطل فقد قبلوا كثيرا منه بالشبهة، وقد علمنا هذا من حالهم فكيف يجوز أن يساوي حالهم حال أمتنا، ولم نعثر منهم على قبول باطل؟
قلنا: فقد بطل (1) إذا ما وقع من التعويل منكم عليه، لأنه إذا جاز أن يدفع بعض الباطل ولا يتقبله من يتقبل باطلا آخر، فما المانع من أن يكون هذه حال أمتنا؟، فلا يكون ما سلم في بعض المواضع من دفعهم لما لم يصح عندهم دلالة على أنهم مستعملون لهذه الطريقة في كل ما ليس بصحيح.
فأما الدعوى لأنه لم يعثر منهم على تسليم باطل وتقبله، فغير مسلمة، ولا طريق إلى تصحيحها، والمدعي لها كالمستسلم نفس ما وقع الخلاف فيه.
وأكثر ما يمكن تصحيحه في هذا الوجه أنهم ردوا بعض الأخبار لما لم يقطعوا على صحتها، وقد بينا أن ذلك غير موجب للقطع على أنهم لا يتقبلون إلا الصحيح، وليس لأحد أن يرجح حال أمتنا في هذه العادة المدعاة بما هو معلوم من حالهم من شدة التمسك بالدين، وقوة الحرص والاجتهاد في تشييده، لأنا نعلم ضرورة من حال كثير من الأمم من شدة التمسك وقوة التدين، والاجتهاد في التقرب إلى الله تعالى، مثل ما نعلمه من حال أمتنا، أو قريبا منه، ولم يكن ذلك عاصما لهم من اعتقادهم الباطل من طريق الرواية للشبهة، وكذلك حال أمتنا.
فأما قوله: " إن خبر الصلب ليس داخلا في هذا الباب (2)، من
____________
(1) أبطلنا بذلك، خ ل.
(2) غ " فبعيد من هذا الباب ".
الصفحة 263
حيث لم يكن من باب الدين " (1) فطريف، لأن المراعى في هذا الوجه اعتقاد الناقلين في الشئ أنه من باب الدين، أو أنه خارج عنه، ونحن نعلم أن اليهود تتدين بنقل خبر الصلب، وبتصديق ناقليه لاعتقادها المعرف الذي يقتضي كون ذلك عندهم من أكبر أبواب الدين، والنصارى أيضا في نقل الخبر وتقبله بهذه المنزلة، وإن كان تدينها بنقله وقبوله يخالف الوجه الذي منه تدينت اليهود بنقله، وعلى الوجهين جميعا لا يخرج الخبر عند القوم من أن يكون داخلا في باب الدين.
فأما قوله: " وقد ذكر شيخنا أبو هاشم في " نقض الالهام " (2): إن هذه الأخبار يعلم صحتها باضطرار، لأنها متظاهرة فاشية كما يعلم باضطرار أنه عليه السلام رجم، إلى غير ذلك، وعدل عن سائر ما ذكرناه من الاحتجاج بالعادة وهذا إذا صح فهو أحسم للأشاغيب (3)... " (4).
فلا شك أن ما ادعاه أبو هاشم - لو صح - كان حاسما للأشاغيب غير أن مرام (5) تصحيحه بعيد.
وكيف يستحسن (6) متدين أن يدعي في صحة الأخبار التي يستندون إليها الاجماع الاضطرار مع كثرة من يخالف فيها ممن لا يجوز على بعضهم دفع الاضطرار، ولم نجد أحدا ممن نصر الاجماع من المتكلمين والفقهاء أقدم على ادعاء الاضطرار في الأخبار التي يتعلق بها في صحته، بل
____________
(1) المغني 17 / 193.
(2) يعني أبا هاشم الجبائي ونقض الالهام من كتبه.
(3) الشغب - بسكون الغين وفتحها على اختلاف في الفتح -: تهييج الشر والفتنة أو المخاصمة والعناد.
(4) المغني 17 / 193.
(5) المرام: المطلب والغاية.
(6) يستجيز، خ ل.
الصفحة 264
الجميع معترفون بأنها أخبار آحاد وإنما يتوصلون إلى تصحيحها بالاستدلال الذي سلكه صاحب الكتاب، وبالغ فيه إلى هذا الموضع، ومن حمل نفسه في هذه الأخبار على ادعاء الضرورة عرفت صورته.
فأما قوله: " وقول من قال: المراد به أنهم لا يجتمعون على الخطأ الذي هو بمعنى السهو (1) لا وجه له، لأن ذلك لا يختص الأمة، لأن حال كل فريق منهم كحالهم في ذلك، لأن ذلك مما لا يقتضي فيهم طريقة المدح، ولا الاختصاص الذي يوجب تميزهم من سائر الأمم (2)... " فقد بينا فيما سلف أن لفظة الخطأ كالمجملة، وأنه لا يستفاد من ظاهرها نفي جميع الخطأ، ولا نفي بعض منه معين، وأن الواجب مع الاحتمال الامساك عن القطع، وانتظار الدليل المنبئ عن المراد به.
وليس يمتنع أن يريد بالكلام نفي السهو عنهم وإن شاركهم في ذلك سائر الأمم، وكان حكم كل فريق منهم كحكم جماعتهم في هذا المعنى، لأن نفي السهو عن الأمة حكم منطوق به فيهم، وليس يدل تعليق هذا الحكم بالأمة على نفيه عمن عداهم، بل جائز أن يكون حكم غيرهم فيه كحكمهم، وهذا أصل يوافقنا عليه فيه صاحب الكتاب إلا أنه ربما تناساه بحيث يضره التمسك به.
وليس لأحد أن يقول: فالعقل دال على نفي السهو عنهم، فأي وجه لحمل الخبر على ذلك مع دلالة العقل عليه؟ والواجب أن يحمله على أمر لا يستفيده بالعقل، وهو الخطأ من طريق الشبهة، وذلك أن العقل وإن كان دالا على ما ذكر، فغير منكر أن يرد السمع به على سبيل التأكيد، ولو أبطلنا ورود السمع بما يدل العقل عليه للزمنا إبطال أكثر
____________
(1) في المغني " بمعنى الشبهة ".
(2) المغني 17 / 194.
الصفحة 265
السمع، أو كثير منه، وإذا كان ورود السمع مؤكدا لما في العقل مما لا يأباه أحد من النظار (1)، وصح أيضا الأصل الأخير الذي هو أن تعليق الحكم بموصوف لا يدل على أن ما عداه بخلافه (2) بطل سائر ما تعلق به في هذا الموضع من إنكار ورود السمع بما يدل العقل عليه، ومن أن اختصاص اللفظ بالأمة يقتضي تخصيصها بالحكم، ويمنع من أن يكون المراد حكما يشركها فيه غيرها، وليس في الكلام ما يدل على المدح حسب ما توهمه، وأكثر ما فيه نفي الخطأ عنهم، وإذا كان نفي الخطأ على بعض الوجوه يكون مدحا، وعلى بعضها لا يكون مدحا لم يستفد من ظاهر الكلام ما يقتضي المدح، وكان من ادعى ذلك مفتقرا إلى الدلالة على أن الخطأ المنفي هاهنا هو الواقع عن الشبهة لا عن السهو ليصح أن يكونوا ممدوحين به، وهذا مما لا سبيل إليه، وإذا كان قد اعتمد في الاستدلال على أن الخطأ المراد ليس هو الواقع بالسهو على ادعاء المدح، وكان المدح لا يثبت له إلا بعد أن يثبت أن الخطأ المنفي هو ما أراده وادعاه فقد بان بطلان اعتماده.
فأما قوله: " وقولهم: إن المراد بذلك أنه تعالى لا يجمعهم على الخطأ يبطل بمثل ما قدمناه " فإنما أراد به الوجهين اللذين ذكرهما أبطلناهما وأحدهما أن الكلام يقتضي التخصيص، ووصف الأمة بما لا يشركها فيه غيرها، والآخر أنه مقتض للمدح، ولا يجوز حمله على ما لا مدخل للمدح فيه، وقد أفسدنا الوجهين بما يمنع من تعلقه بهما أولا وثانيا.
فأما قوله: " فإن قيل (3): فما معنى ما روي من قوله: " لم يكن الله
____________
(1) النظار: أهل النظر: وهو الفكر.
(2) يخالفه، خ ل.
(3) غ " فإن قالوا ".
الصفحة 266
ليجمع أمة نبيه على الخطأ " (1).
قيل له: المراد أنه تعالى لا يلطف لهم إلا في الحق دون الباطل وأن الله تعالى لا يصرفهم عن الاستفساد الذي يتفقون عنده على الخطأ، فلا يكون ذلك مانعا من طريقة التكليف، ومن صحة الخبر الآخر الدال على أنهم لا يجتمعون على الخطأ باختيارهم " (2) وكأنه كلام من لم يتعلق بما حكيناه قبيل هذا الفصل لأنه عول في رد إلزام من ألزمه أن يكون الخطأ المراد بمعنى السهو في الرواية الأولى على أن ذلك لا يقتضي تخصيصا لهذه الأمة من غيرها، وعلى أن الكلام مقتض للمدح، والوجهان جميعا يدخلان على جوابه هذا الذي نحن في الكلام عليه، لأنه تأول قوله: " لم يكن الله تعالى ليجمع أمة نبيه على الخطأ " على أنه تعالى لا يلطف لهم في الباطل ولا يستفسدهم، وهذا حكم يعم سائر المكلفين، وجميع الأمم، لأن الدليل قد أمن من أن يلطف الله تعالى المكلف في القبيح أو أن يستفسده (3) ولا يفترق في هذا الباب حكم أمة من أمة، ولا مدح أيضا في موجب تأويله هذا يتعلق بالأمة، لأن نفي لطف الله تعالى لهم في القبيح مما لو اقتضى مدحا فيهم لاقتضاه في الفراعنة والشياطين والكفار، وكل من قطعنا على أنه لا يجوز أن يلطف له في قبيح، فإن اعتمد صاحب الكتاب على بعض ما يقتضي مزية مثل أن يقول: إن المكلفين وإن اشتركوا فيما ذكرتموه فغير ممتنع أن هذا القول صدر من النبي صلى الله عليه وآله عن سبب يقتضي تخصيص أمته بهذا الكلام، إما بأن يكون معتقد
____________
(1) مر هذا الحديث.
(2) المغني 17 / 194.
(3) لهم - أعني المكلفين في قبيح أو يستفسدهم، خ ل.
الصفحة 267
اعتقد ذلك فيهم، وسائل سأل عن ذلك من حالهم إلى غير ذلك من الأسباب، كان لنا أن نعتمد في باب السهو على مثل ما أورده، وندفع به كلامه حرفا بحرف، فقد وضح أن الذي دفع به الالزام عن نفسه في الرواية الأولى يفسد تأويله الذي اعتمده في الرواية الأخرى، وأنهما لا يجوز أن يجتمعا في الصحة، ولسنا نعلم كيف ذهب مثل هذا عليه؟
فأما قوله: وقول من قال: إن قوله عليه السلام: " لا تجتمع أمتي على الخطأ " وإن كان بصورة الخبر فالمراد به الالزام كأنه قال: يجب أن لا يجتمعوا على خطأ، فبعيد (1)، وذلك ظاهر الخبر لا يترك للمجاز بغير دلالة، على أن هذا الوجه يوجب أن لا مزية لهم على سائر الأمم، ويقتضي أن لا يلحقهم بذلك مدح وهذا باطل " (2) فليس ما عول عليه في دفع أن يكون الخبر إلزاما بشئ، وإنما المرجع في حمل الكلام على الخبر والنهي إلى الرواية، فإن وردت بتحريك لفظة " تجتمع " فالمراد الخبر، وإن وردت بجزمها فالنهي (3) وليس للمجاز والحقيقة هاهنا مدخل، اللهم إلا أن يكون أجاب بما أجاب به عن سؤال من يسأله مع تسليم حركة لفظة " تجتمع " ويلزمه مع ذلك أن لا يكون خبرا، والجواب أيضا عن هذا مما قاله غير صحيح، بل الواجب في جواب هذا السائل أن يقال له: ليس يجوز أن يفهم النهي من لفظة " لا تجتمع " مع الحركة، لا حقيقة ولا مجازا.
فأما قوله: " وقول من قال: إن الخبر لا يدل إلا على أن إجماع من
____________
(1) غ " بعيد ".
(2) المغني ج 17 / 195.
(3) يعني إن كانت بالرفع فهو إخبار عنهم، وإن كانت بالجزم فهو نهي لهم.
الصفحة 268
كان (1) في زمنه من أمته حجة، فمن أين أن الاجماع في سائر الأعصار حجة غلط، وذلك لأنا قد بينا أن أمته تقع على من يجئ بعده من المكلفين كما تقع على من كان في زمنه بل كل (2) داخلون فيه على أن المحكي عنهم أنهم جعلوا الاجماع حجة، فإذا كان إجماعهم حجة، وثبت عنهم جعلهم الاجماع حجة في كل وقت (3) فقد صح ما ذكرناه " (4) فمؤكد لما كنا قدمناه في إبطال التعلق بالخبر لأن لفظة " أمتي " إذا كانت غير مختصة بمن كان في زمنه صلى الله عليه وآله حسب ما ادعاه، ووجب حملها على جميع من يأتي في المستقبل فقد تأكد إلزامنا له أن يكون المراد بالخبر إجماع سائر الأمم في جميع الأعصار على سبيل الجمع لأن اللفظ إذا أخذ بعمومه اقتضى ذلك، ومن ادعى أن إجماع سائر الأعصار داخل فيه على سبيل البدل لا الجمع كان مخصصا لظاهر اللفظ، ومطرقا (5) لخصمه أن يجعله مختصا ببعض أهل كل العصر دون جميعهم، وقد رضينا بما ذكره من قوله: " إن أمته تقع على من يجئ بعده من المكلفين، كما تقع على من كان في زمنه، فالكل داخلون فيه (6) " شاهد لصحته إلزاما لأن وقوع اللفظ على الكل لا يكون إلا على الجمع دون البدل، وليس ما ادعاه من جعلهم الاجماع حجة في كل وقت بصحيح، لأنا لم نعرف عنهم ذلك ولا نتحققه، ونهاية ما يمكن أن يدعى أنهم كانوا يكرهون الخروج عن أقوالهم ومذاهبهم، ويبدعون من خالفهم.
____________
(1) غ " الاجماع ممن كان ".
(2) في المغني " بل الكل ".
(3) وفيه " في كل وقت حجة ".
(4) المغني 17 / 197.
(5) مطرقا: مدخلا، وفي المخطوطة " ومنطوقا ".
(6) المغني 17 / 195.
الصفحة 269
فأما اعتقادهم أن ذلك واجب في كل عصر وأوان فغير معلوم، وقد صار صاحب الكتاب على ما نراه يضيف ما يتحرز به من المطاعن في كلامه إلى الصحابة، ويجعله معلوما من جهتهم وقل ما ينفع ذلك.
فأما قوله: " وقد استدل الخلق على صحة الاجماع بقوله تعالى:
(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) (1) وهذا إن دل فإنما يدل على أن الكبائر لا تقع منه، لأن حال جميعهم (2) كحال الواحد إذا وصف بهذه الصفة، وقد علمنا أن ذلك لا يمنع من وقوع الصغير منهم، فكذلك حال جميعهم، وليس لأحد أن يقول وقوع الصغيرة منهم لا يمنع من كونهم حجة كما لا يمنع ذلك في الرسول عليه السلام، لأنا قد بينا أن الذي نجيزه في الرسول لا يمنع من تمييز أفعاله وأقواله التي هو حجة فيها من الصغائر التي نجيزها عليه (3)، ولا طريق في ذلك يتميز به الكبير من الصغير (4) فيما يضاف إلى الأمة " (5) فقد سلك في الطعن على الاستدلال بهذه الآية مسلكنا (6) في الطعن على استدلاله بقوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) (7) فصار ما أورده هاهنا من الطعن طعنا في كلامه المتقدم، واعتراضا عليه، لأنه إذا كان ما تقتضيه هذه الآية هو نفي الكبائر التي يخرجون بها من أن يكونوا مؤمنين، ولاحظ لها في نفي الصغائر، وكان حال جميعهم كحال واحدهم لو وصفت بهذه الصفة على ما قرره (8)، فهكذا القول في
____________
(1) آل عمران 110.
(2) غ " جمعهم ".
(3) الضمير النبي صلى الله عليه وآله لأنهم يجيزون عليه فعل الصغائر من الذنوب ونحن نبرأ إلى الله وإلى رسوله من هذا الاعتقاد.
(4) المغني 17 / 196.
(5) يعني الصغير والكبير من الآثام.
(6) ما سلكنا، خ ل.
(7) سورة.
(8) قدرة، خ ل.
الصفحة 270
الشهداء، لأن أكثر ما تقتضيه الشهادة نفي الكبائر عن صاحبها دون الصغائر، وحال الجميع في ذلك كحال الواحد أو الاثنين لو وصفا بهذه الصفة، فإن خرجت إحدى الآيتين من أن تدل على صحة الاجماع خرجت الأخرى، فإن أعاد هاهنا ما كنا حكيناه عنه من أن تجويز الصغائر على الشهداء يخرجهم من أن يكونوا حجة، في شئ من أفعالهم وأقوالهم وقد ثبت (1) بمقتضى الآية أنهم حجة، في شئ من أفعالهم وأقوالهم وقد ثبت (1) بمقتضى الآية أنهم حجة، فإذا ثبت ذلك، ولم يكن بعض أقوالهم وأفعالهم بذلك أولى من بعض، منعنا من وقوع الصغائر منهم، قيل له: فكيف أنسيت هذا الضرب من الاستخراج في هذه الآية؟
وألا سوغت من تعلق بها أن يعتمد مثله! فيقول: قد ثبت أن قوله تعالى: " كنتم خير أمة أخرجت للناس) (2) تقتضي كون الموصوفين بالآية حجة. وليس بعض أقوالهم وأفعالهم بذلك أولى من بعض لأنها لا تتميز كتمييز بعض أفعال الرسول صلى الله عليه وآله فيجب نفي الصغائر عنهم، وألا خرجت جميع أقوالهم وأفعالهم من أن تكون حجة.
وقد كنا أبطلنا هذه الطريقة عند اعتصامه بها في الآية المتقدمة، وبينا فسادها، فلا حاجة بنا إلى إعادة كلامنا عليها، وإنما قصدنا بما أوردناه هاهنا إلزامه تصحيح التعلق بالآيتين، أو إطراحهما والكشف عن دخول ما طعن به في إحداهما على الأخرى، والصحيح ما بيناه من فساد التعلق بكل واحدة منهما في صحة الاجماع.
فأما قوله: " على أن قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت
____________
(1) أي وقد ثبت التجويز.
(2) آل عمران 110.
الصفحة 271
للناس) إن كانت إشارة إلى جميع المصدقين فالمتعالم من حال كثير منهم خلافه، وإن كانت إشارة إلى غيرهم فذلك مجهول لا يعلم به حال جماعة مخصوصة يصير إجماعها حجة " (1).
وقوله: " فإن قال: إذا أجمع (2) المصدقون على شئ يعلم دخول هذه الجماعة فيهم فيصير الاجماع حجة كما ذكرتم في الشهداء والمؤمنين، قيل له: إنما يصح ذلك لأنهم وصفوا بصفة (3) علمنا معها دخولهم تحت المصدقين، وخروجهم عمن سواهم، وليس كذلك الحال فيما تعلقت به من هذه الآية، لأنه لا يجوز أن يكون المراد بها من كان في عهد الرسول [ صلى الله عليه ]، وعند نزول الخطاب، لأنهم في تلك الحال كانوا بهذه الصفة فمن أين أن غيرهم بمنزلتهم (4)؟ وقوله تعالى: (كنتم) يدل على ذلك، ويفارق من هذا الوجه ما قدمناه وهو قوله: (وكذلك جعلناكم) لأن تلك الآية وإن كانت تقتضي الإشارة ففيها ما يدل على العموم وهو قوله: (لتكونوا شهداء على الناس) وليس في هذه الآية ما يقتضي هذا المعنى " (5).
فما نراه يخرج فيما يورده من الكلام على من تعلق بالآية التي ذكرها عما يأتي على جميع ما اعتمده في الآية الأولى وحتى كأنه يناقض من تعلق بالآيتين معا، وإن استدل بالآية التي يضعف التعلق بها أن يقول ليس المعني بها جميع المصدقين، بل من كان مؤمنا خيرا يستحق ما تضمنته الآية من الأوصاف، ونعلم إجماعهم عند علمنا بإجماع المصدقين الذين
____________
(1) المغني 17 / 197.
(2) غ " اجتمع ".
(3) غ " بصيغة ".
(4) غ " بعينهم ".
(5) المغني 17 / 197.
الصفحة 272
هم في جملتهم، وما ذكره في الشهداء والمؤمنين من أنهم وصفوا بصفة علمنا معها دخولهم تحت المصدقين وخروجهم عمن سواهم قائم في الآية الأخرى لأنها تتضمن من أوصاف المدح والتعظيم ما يقتضي كون المراد بها في جملة المصدقين، وإن لم يكن جميعهم، ويقتضي أيضا خروجهم عمن سواهم، وتخصيصه الآية بمن كان في عصر الرسول صلى الله عليه وآله يلزمه مثله في الآية الأخرى ويقابل بمثل كلامه، فيقال: قوله تعالى:
(وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) خطاب لمن كان في عهد الرسول صلى الله عليه وآله، لأنهم كانوا في تلك الحال بهذه الصفة، فمن أين أن غيرهم بمنزلتهم؟ والإشارة التي تشبث بها في إحدى الآيتين مثلها في الأخرى، لأن قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة) يجري في الإشارة مجرى قوله: (كنتم) وترجيحه الآية التي اعتمدها مع اعترافه بالإشارة فيها بقوله تعالى: (لتكونوا شهداء) بناء على ما تقدم من الكلام، فإذا كان قوله تعالى: (جعلناكم) يقتضي التخصيص من حيث الإشارة على ما ذكره في قوله تعالى: (كنتم خير أمة) فما هو بناء عليه، ومتعلق به من قوله: (لتكونوا شهداء على الناس) جار مجراه في الخصوص، لأن الاعتبار في العموم والخصوص بما تقدم في الكلام دون ما هو مبني عليه، على أنه إن رضي لنفسه بما ذكره فليرض بمثله إذا قال له خصمه: وكذلك قوله تعالى: (كنتم) وإن كان فيه معنى الإشارة فقد تلاه ما يقتضي العموم، ويخرج عن معنى التخصيص من قوله:
(تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله).
فأما قوله: " وقوله تعالى (1): (تأمرون بالمعروف وتنهون عن
____________
(1) في المغني " فأما قوله ".
الصفحة 273
المنكر) (1) ليس فيه دلالة على أنهم لا يأمرون إلا به حتى يستدل باتفاقهم على الأمر بالشئ على أنه حق، وإنما يبين بذلك أن هذه طريقة لهم (2)، وسجيتهم على طريقة المدح، فلا يمنع من أن يقع منهم خلافه إذا لم يخرجهم من طريقة المدح، ولأن ذلك يوجب تقدم المعرفة بالمعروف والمنكر، ويخرج بذلك أمرهم من أن يكون دالا على أن المأمور به من قبلهم معروف، والمنهي عنه من قبلهم منكر، فكذلك قوله تعالى:
(جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) (3) ليس فيه دلالة على أنهم خيار عدول في كل شئ، وفي كل حال، ولا أنهم أيضا شهود بكل أمر وفي كل حال، وليس يمتنع أن يخرجوا من أن يكونوا شهداء، فلا يجب أن يكونوا عدولا، على أنه في هذا الكلام تارك لعموم القول بظاهره الذي لا يزال يتعلق به ويعتمده، لأن قوله تعالى (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) إذا أخذ على عمومه لم يسغ (4) ما ذكره من التجويز عليهم أن يأمروا بغير المعروف، لأن تجويز ذلك تخصيص للعموم الذي يقتضيه إطلاق القول على أصله، وليس يجب تقدم المعرفة لنا بالمعروف والمنكر كما ظنه، بل لا ينكر أن يكون المراد أنهم يأمرون بالمعروف الذي يعلمه الله تعالى كذلك، وينهون عن المنكر على هذا السبيل، فيكون اجتماعهم (5) على الأمر بالشئ دلالة على أنه معروف، ونهيهم عنه دلالة على أنه منكر، ولسنا نعلم من أي وجه يلزم أن يتقدم علمنا بالمعروف والمنكر في هذا القول؟
____________
(1) آل عمران 110.
(2) طريقتهم، خ ل.
(3) البقرة 143.
(4) خ " لم يسمع ".
(5) خ " إجماعهم ".
الصفحة 274
أما قوله: " وأما التعلق في صحة الاجماع بأن المتعالم من حال أمة الرسول صلى الله عليه وآله عدولهم عن الأوطان (1) واللذات على جهة التدين، وأنفتهم من الكذب، وإظهارهم العار في اتباع الغير، وتقليده إلا بعد وضوح الحجة، فكيف يصح وهذه حالهم أن يتفقوا على الخطأ فبعيد، وذلك لأن كل الذي ذكروه لا يمنع من صحة اتفاقهم على الشئ بشبهة ظنوا أنها (2) دلالة، لأن هذه القضية قائمة في كثير من أمم من تقدم وقد اتفقوا مع ذلك على الخطأ من هذا الوجه، وهي أيضا قائمة في الجماعة الكثيرة من الأمة (3)، ولم يمنع من اتفاقها على الخطأ من هذه الجهة، فما الذي يمنع من مثله في اجتماع كل الأمة!، فلا بد للتمسك بأن الاجماع حجة من الرجوع إلى غير ذلك " (4) فبطل (5) أيضا ما اعتمده من قبل في تصحيح الخبر، لأنه إذا جاز على القوم - مع استبدادهم بالأوصاف التي ذكرها - أن يتفقوا على الخطأ للشبهة، ولا يكون ما هو عليه من تحري الحق، وتجنب الخطأ، عاصما من جواز ذلك عليهم، فألا جاز أيضا عليهم - وإن كانت عادتهم جارية بأن يردوا السقيم من الأخبار، ويقبلوا الصحيح منها، ليتثبتوا (6) في قبولها - أن يقبلوا (7)
____________
(1) في المغني " الأوطار " وعلق على ذلك محققه بقوله: " قد يقرأ الأصل " الأوطان " بالنون، لكن اشتباهها بالراء في خط الناسخ قوي ومن هنا مناسب للسياق ".
(2) غ " ظنوها " وفي خ " يظنونها ".
(3) في الأصل و خ " الأمم " وما في المتن من المغني وهو الظاهر.
(4) 17 / 203.
(5) خ " فمبطل ".
(6) خ " ويثبتوا ".
(7) الجملة في محل رفع بجاز.
الصفحة 275
بالشبهة خبرا غير صحيح، ويجمعوا عليه، ولا يكون ما جرت به عادتهم مانعا مما ذكرناه، وما نجد بين الطريقة التي اعتمدها، والتي أبطلها فرقا يرجع إلى المعنى وإن كان قد ذكر في إحداهما العادة ولم يذكرها في الأخرى، بل أورد معناها، وجعلها في طريقته عادة في قبول الصحيح من الأخبار دون السقيم، وفي هذا الموضع عادة في تجنب الخطأ على سبيل الجملة، ولا فرق بين الأمرين في المعنى، لأنه إذا جوز عليهم خلاف المعلوم منهم من قصد الحق، ومفارقة الباطل، وتجنبه على سبيل الجملة جوز عليهم خلاف المعلوم منهم من رد سقيم الأخبار، وقبول صحيحها، وما قامت به الحجة منها، فإن تجويز ذلك ضرب من تفصيل الجملة المجوز عليهم.
فأما قوله: " وهذه القضية قائمة في كثير من أمم من تقدم، وهي أيضا قائمة في الجماعات الكثيرة من الأمة (1) فكذلك ما ذكره من قبول الثابت من الأخبار، ورد المشكوك فيه، هو قائم في الجماعات من أمتنا وغيرهم من الأمم المتقدمة، ولم يمنع حصوله فيهم من الخطأ بالشبهة، فيجب أن يجوز مثله على الكل انتهى الكلام في الاجماع (2) ونحن نعود إلى كلامه فيما يتعلق بالإمامة والنقض عليه.
قال صاحب الكتاب: " على أنه لو صح ما قالوه، كان لا يجب إثبات معصوم لجواز أن تكون الشريعة محفوظة بالنقل المتواتر، كما أن
____________
(1) في الأصل " الأمم " واستظهرنا ما في المغني كما تقدم قبل قليل.
(2) إلى هنا انتهى ما نقله المرتضى من كلام قاضي القضاة في الاجماع وقد حذف ما لا يتعلق بمراده منه وتجده كاملا في الجزء السابع عشر وهو جزء الشرعيات " من " المغني " ص 153 - 203.
الصفحة 276
القرآن محفوظ بهذه الطريقة، إلى غير ذلك من السنن، فكأن لا يمتنع في كل شرع أن يكون منقسما (1) إلى ما يثبت بالتواتر، وإلى ما يثبت بطريقة الاجتهاد والقياس،... " (2).
فيقال له: قد مضى الكلام على هذا حيث بينا أن التواتر لا يجوز أن تحفظ به الشريعة، وإن كانت الحجة به تثبت عند وروده، وأنه لا بد من معصوم يكون وراء الناقلين.
فأما الاجتهاد والقياس فقد بينا بطلانهما في الشريعة، وأنهما لا يثمران فائدة، ولا ينتجان علما ولا ظنا، فضلا عن أن تكون الشريعة محفوظة بهما.
قال صاحب الكتاب: " فلا بد للقوم مما ذكرناه في الطريق الذي يعرف به الإمام المعصوم، لأنه لا بد من أن يرجعوا فيه إلى التواتر، فإذا صار ذلك محفوظا وهو من أصل الشريعة لم يمتنع مثله فيما عداه وإلا أدى ذلك إلى إثبات لا نهاية لهم،... " (3).
وهذا أيضا مما قد مضى الكلام عليه، لأنا قد بينا أن المعرفة بوجود إمام معصوم حجة في كل زمان لا يفتقر إلى التواتر والنقل، بل هو مستفاد بأدلة العقول.
فأما المعرفة بعين الإمام، وأنه فلان دون فلان، فهو وإن كان معلوما بالنقل فالأمان حاصل للمكلفين من ضياعه (4) بعلمهم بوجود
____________
(1) غ " منتسبا ".
(2) المغني 20 ق 1 / 80.
(3) المغني 20 ق 1 / 80.
(4) من اشتباهه خ ل.
الصفحة 277
معصوم في الزمان، فمتى لم يقم الناقلون بما يجب عليهم من النقل للنص على عين الإمام ظهر الإمام، ودل على نفسه بالمعجز، وهذا بخلاف ما ظنه صاحب الكتاب.
قال صاحب الكتاب: " ولا بد لهم في ذلك من وجه آخر، وذلك أنهم زعموا أن الإمام الذي يحفظ الشرع، لا يلقى كل المكلفين، ولا يلقاه جميعهم، ولا بد فيما يحفظه أن يبلغه المحتاج إليه منهم بطريق التواتر، فإذا صح فيما يحفظه أن ينتهي إلى المكلفين بهذا الوجه لم يمنع مثله في شريعة الرسول صلى الله عليه وآله ويستغنى عن إثبات المعصوم،... " (1) وهذا مما قد تكلمنا عليه، وبينا أن الشرع وإن كان واصلا إلى من نأى عن الإمام بالتواتر، فإنه محفوظ في الإمام، لكونه مراعيا له، ومراقبا لتلافي ما يعرض فيه من خطأ، وإخلال بواجب، فإن ألزمنا مخالفونا القول بوصول شريعة الرسول صلى الله عليه وآله، إلينا على هذا الوجه التزمناه لأنا لا نأبى أن تكون الشريعة واصلة إلينا بنقل متواتر يكون من ورائه معصوم يراعيه، ويتلافى ما يعرض فيه (2) بل هذا هو نص مذهبنا، وإن أرادوا إلزامنا كون الشريعة منقولة إلينا ولا معصوم وراءها لم يكن هذا مشبها لما نقوله فيما ينقل عن الإمام وهو حي إلى من نأى عنه في أطراف البلاد، وصار قولهم لنا: قولوا في هذا ما قلتموه في ذلك لا معنى له.
قال صاحب الكتاب: " ولا بد لهم من ذلك من وجه آخر، لأن الإمام عندهم قد يكون مغلوبا بالخوارج وغيرهم، ولا بد مع إثبات
____________
(1) المغني 20 ق 1 / 80.
(2) ومتلافيا ما يعرض، خ ل.
الصفحة 278
التكليف من معرفة الشرائع، فإذا صح أن يعرفوها (1) والحال هذه لا من جهة الإمام فلا يمتنع في سائر الأحوال مثله، ويستغنى عن الإمام المعصوم، ولا بد من ذلك من وجه آخر، لأن الإمام منذ زمان غير معلوم عينه، وإن كان له عين فغير معلوم مكانه، وغير متميز على وجه يصح أن يقصد، وقد صح مع ذلك أن نعرف الشرائع ونقوم بها، فغير ممتنع مثله في سائر الأزمنة،... " (2) يقال له: أما غلبة الخوارج فغير مانعة من حفظ الشرع، وأما معرفته في هذه الأحوال - يعني أحوال غلبتهم - فيكون بالنقل عن صاحب الشرع، أو عمن تقدم إمام الزمان من الأئمة، ويكون ذلك النقل محفوظا بإمام الزمان، وليس يجوز أن تنتهي غلبة الخوارج إلى حد يمنع الإمام من بيان ما ضاع من الشرع (3)،. وأخل به الناقلون، لأن ذلك لو علم لما كلفنا الله تعالى العمل بالشرع، والثقة به، والقطع على وصوله إلينا، وفي العلم بأنا مكلفون بما ذكرناه دليل على أن الإمام لا يجوز أن ينتهي به غلبة الخوارج إلى حد يمنعه من بيان ما يضيع من الشرع.
فأما حال الغيبة فغير مانعة من المعرفة بالشرع، ومن حفظة أيضا على الوجه الذي بيناه، ولم نقل: إنا نحتاج إلى الإمام في كل حال لنعرف الشرع، بل لنثق بوصوله إلينا، ونحن نثق بذلك في حال الغيبة لعلمنا بأنه لو أخل الناقلون منه بشئ يلزمنا معرفته لظهر الإمام، وبين بنفسه عنه.
قال صاحب الكتاب: " قد قال شيخنا أبو علي: إن كان الغرض
____________
(1) في الأصل (أن يعرفوه) وما في المتن عن " المغني ".
(2) المغني 20 ق 1 / 81.
(3) الشريعة، خ ل.
الصفحة 279
إثبات إمام في الزمان، وإن لم يبلغ (1) ولم يقم بالأمور، وصح ذلك، فما الأمان (2) من أنه جبرائيل، أو بعض الملائكة في السماء ويستغنى عن إمام في الأرض لأن المعنى الذي لأجله يطلب الإمام عندكم يقتضي ظهوره فإذا لم يظهر كان وجوده كعدمه وكان كونه في الزمان ككون (3) جبرئيل في السماء " (4).
يقال له: لا شك في أن الغرض ليس هو وجود الإمام فقط، بل أمره ونهيه وتصرفه، لأن بهذه الأمور ما يكون المكلفون من القبيح أبعد، وإلى فعل الواجب أقرب، غير أن الظالمين منعوه مما هو الغرض، واللوم فيه عليهم، والله المطالب لهم، ولما كان ما هو الغرض لا يتم إلا بوجوده أوجده الله تعالى، وجعله بحيث لو شاء المكلفون أن يصلوا إليه، وينتفعوا به لوصلوا وانتفعوا بأن يعدلوا عما أوجب خوفه وتقيته فيقع منه الظهور الذي أوجبه الله تعالى عليه مع التمكن، ولما كان المانع من تصرفه وأمره ونهيه غير مانع من وجوده لم يجب (5) من حيث امتنع عليه التصرف بفعل الظلمة أن يعدمه (6) الله تعالى، أو ألا يوجده في الأصل، ولو فعل ذلك لكان هو المانع حينئذ للمكلفين لطفهم، ولكانوا إنما أوتوا في فسادهم، وارتفاع صلاحهم من جهته، لأنهم غير متمكنين مع عدم
____________
(1) غ " وإن لم يقع " والظاهر التحريف..
(2) فما المانع، خ ل.
(3) بمنزلة كون، خ ل.
(4) المغني 20 ق 1 / 81.
(5) لم يجز، خ ل.
(6) أي لا يوجده أصلا.
الصفحة 280
الإمام من الوصول إلى ما فيه لطفهم ومصلحتهم، فجميع ما ذكرناه يفرق بين وجود الأمم مع الاستتار وبين عدمه، وبما تقدم يعلم أيضا الفرق بينه وبين جبرائيل في السماء لأن الإمام إذا كان موجودا مستترا كانت الحجة لله تعالى على المكلفين به ثابتة، لأنهم قادرون على أفعال تقتضي ظهوره، ووصولهم من جهته إلى منافعهم ومصالحهم، وكل هذا غير حاصل في جبرئيل عليه السلام فالمعارض به ظاهر الغلط.
قال صاحب الكتاب: " ومتى قالوا: بأن الاجماع حق لكون الإمام فيه، أريناهم أنه لا فائدة تحت هذا القول، لأن الحجة هي قول الإمام، فضم سائرهم إليه لا وجه له، كما لا يجوز أن يقال: إجماع النصارى حق إذا كان عيسى فيهم، وقول اليهود حق إذا كان موسى فيهم، وكما لا يجوز أن يقال: إن إجماع الكفار حق إذا كان رسول الله (1) صلى الله عليه وآله وسلم فيهم، فقد بينا من قبل أنه لا بد من محقين في الأمة من الشهداء وغيرهم على ما يقوله شيخنا أبو علي (2)، فإن رجعوا بهذا الكلام علينا في الشهداء لم يكن لازما لأنا لا نعينهم (3) ولا يمتنع لفقد التعين أن يجعل الاجماع الذي هو حجة إجماع المؤمنين ولو تميز ولجعلنا إجماعهم هو الحجة، وليس كذلك ما قاله القوم بأن الإمام عندهم مميزا، فالذي ألزمناه (4)، متوجه، وهو عنا زائل،... " (5).
يقال له: قول الإمام وإن كان بانفراده حقا، ولا تأثير لضم غيره
____________
(1) في المغني " رسولنا عليه السلام ".
(2) وهو أبو علي الجبائي وقد تقدمت الإشارة إليه.
(3) غ " لا نعيهم ".
(4) غ " ألزمناهم ".
(5) المغني 20 ق 1 / 81.
الصفحة 281
إليه، فلا بد من أن يكون جواب من سأل عن الاجماع الذي الإمام في جملته أنه حق، كما يكون مثل ذلك الجواب لمن سأل عن عشره (1) في جملتهم نبي.
فأما الفائدة في ذكر غير الإمام معه، والحجة في قوله بعينه، فإنما يسأل عنها من استعمل هذه اللفظة مبتدئا مع تميز قول الإمام، ونحن لا نكاد نستعملها في مثل هذه الحال، وإنما نجيب بالصحيح عندنا فيه عند سؤال المخالف عنه، وإن كان لا يمتنع أن يكون لذلك فائدة، وهي أن قول الإمام قد يكون غير متميز في بعض الأحوال كأحوال الغيبة، والخوف التي لا نعرف قول الإمام فيها على سبيل التفصيل، فلا يمتنع في مثل هذه الأحوال أن يعتبر الاجماع لعلمنا بدخول الإمام فيه، كما يقول خصومنا في الشهداء والمؤمنين، لأن إجماع هؤلاء عندهم هو الحجة، ولا تأثير بضم غيره إليه، ومع ذلك فنحن نراهم يعتبرون إجماع الأمة من حيث لم يتميز عندهم أقوال الشهداء والمؤمنين، وعلموا دخولها في جملة أقوال الأمة، وبهذا الجواب الذي ذكرناه يجب أن يجيب من سلم (2) الخبر المروي في الاجتماع الذي هو قوله: " لا تجتمع أمتي على ضلال " إذا تأوله على أن اجتماعهم حق لمكان الإمام المعصوم، ودخولهم في جملتهم متى سأل فقيل له: إذا كان قول الإمام هو الحجة بانفراده فأي معنى لضم غيره إليه، لأنا قد بينا الوجه في حسن استعمال ذلك ابتداء، ونبهنا على وجه الفائدة فيه في الأحوال التي لا يتميز قول الإمام فيها، وبينا أيضا الفرق بين ما يبتدئ المستعمل باستعماله من الكلام فيلزمه المطالبة لفائدته وبين ما يتناوله من سؤال خصمه، ويخرج له الوجوه وليس يمتنع أن يجيب من
____________
(1) عن غيره خ ل وما في المتن أوجه بل أصح.
(2) سلم الخبر: أي جعله سالما من الطعن والخدش.
الصفحة 282
سأل عن إجماع النصارى إذا كان عيسى عليه السلام فيهم بأنه حق، وكذلك القول في إجماع اليهود إذا كان قول موسى عليه السلام في جملة أقوالهم، لأنا إن لم نقل أنه حق فلا بد أن يكون باطلا وكيف يكون باطلا وفي جملتهم نبي مقطوع على صدقه، اللهم إلا أن يسأل عن الفائدة في الابتداء بهذا القول، فقد قلنا إنه لا فائدة فيه إذا كان قول عيسى عليه السلام منفردا متميزا ولو عدم تميزه في بعض الأحوال لحسن استعماله كما حسن ذلك في الإمام عند الغيبة على مذهبنا، وفي الشهداء والمؤمنين على مذاهب خصومنا.
فأما تعاطيه (1) الفرق بين قولنا في الإمام وقوله في الشهداء، لأن الإمام متميز والشهداء غير متميزين، فقد بينا أن قول الإمام قد يكون غير متميز في بعض الأحوال فيجب أن يسوغ لنا فيه ما ساغ له في الشهداء.
ثم يقال له: لو تعين الشهداء عندكم وتميزوا وسئلت عن إجماع الأمة هل هو حق بأي شئ كنت تجيب؟ فإذا قال أجيب بأنه حق قلنا:
فلم عبت علينا أن نجيب بمثل ذلك إذا سئلنا عن إجماع الأمة؟ وألا منعك من الجواب بأنه حق تميز الشهداء أو تعينهم؟ وأنه لا تأثير لضم غيرهم إليهم، فإن قال: كل هذا لا يمنع من الجواب بأنه حق إذا سئلت عن ذلك، لأنه لا بد أن يكون حقا إذا فرضنا هذا الفرض، وإنما العيب إذا ضم مبتدئا إلى الشهداء مع تعينهم وتميزهم غيرهم ثم قضى بأن في قولهم الحق قلنا: أصبت في هذا التفصيل وبمثله أجبنا.
قال صاحب الكتاب: " شبهة لهم أخرى، قالوا: إذا كان لا بد في شريعة محمد صلى الله عليه وآله وهو خاتم الأنبياء من حافظ
____________
(1) يقال: فلان يتعاطى كذا: أي يخوض فيه.
الصفحة 283
ومبلغ، وكان لا يصح أن يقع ذلك بالتواتر فلا بد من إثبات إمام معصوم يكون في حال بمنزلة الرسول صلى الله عليه وآله في أنه يبلغ ويعلم ويرجع إليه في المشكل، ويؤخذ عنه الدين وكما لا يجوز أن لا يكون الرسول في كل حال مع الحاجة إلى معرفة الشرع (1) فكذلك لا يجوز أن لا يكون الإمام في كل حال مع الحاجة إلى ذلك، وقد حوا في التواتر بوجوه قد قدمنا ذكرها في باب الأخبار (2) وأحدها أن كل واحد منهم إذا جاز أن يكتم النقل ويكذب ويغير فيجب جواز ذلك على جميعهم، وإن لا يصح القطع عل صحة خبرهم، (3)... ".
يقال له: هذه الطريقة صحيحة معتمدة ويؤيدها ما دللنا عليه من قبل أن التواتر لا يجوز أن يقتصر عليه في حفظ الشرع، وأدائه، وأنه لا بد من كون معصوم وراءه.
فأما القدح في التواتر فمعاذ الله أن نراه أو نذهب إليه، فإن كان يظن أنا إذا منعنا من أن يحفظ الشرع به، فقد قدحنا فيه، فقد أبعد لأن القدح فيه إنما يكون بالطعن في كونه حجة، وطريقا إلى العلم عند وروده على شرائطه فأما لما ذكرناه فلا.
وقوله في الحكاية عنا: " إن كل واحد منهم إذا جاز أن يكتم ويكذب فيجب جواز ذلك على جميعهم، وإن لا يصح القطع على صحة خبرهم " غلط طريف لأنا لا نجيز الكذب على جماعتهم على الحد الذي أجزناه على آحادهم، ولو كنا نجيز ذلك للحقنا بمنكري الأخبار، والذاهبين إلى أنها لا توجب علما، والمعلوم من مذهبنا خلاف هذا.
____________
(1) غ " الشريعة ".
(2) باب الأخبار في الجزء السادس عشر من المغني.
(3) المغني 20 ق 1 / 82.
الصفحة 284
وأما الكتمان فإذا جاز على آحادهم وجماعاتهم فليس يجب أن يكون مانعا من القطع على صحة خبرهم إذا ورد على الشرائط المخصوصة، وإنما يكون مانعا من كونهم حافظين للشرع، لأنه إذا جاز ذلك عليهم لم نثق بأنه لم يقع منهم إلا بأن يقطع على وجود معصوم يكون وراءهم متى وقع منهم الكتمان الجائز عليهم تلافاه وبين عنه فليس يجب أن يخلط صاحب الكتاب جواز الكتمان بجواز الكذب (1) وإخراجهم من أن يكونوا حافظين للشرع بإخراجهم من أن يكونوا حجة فيما يتواترون به فإن ذلك لا يختلط إلا عند من لا معرفة عنده.
قال صاحب الكتاب: " واعلم أن أمثال هذه الشبهة (2) لا يجوز أن يكون مبتداها إلا من ملحد طاعن في الدين لأنها إذا صحت وجب بطلان النبوة والإمامة لأنا إنما نعلم بالتواتر كون النبي صلى الله عليه وآله وكون القرآن ووقوع التحدي به، وأنه لم يقع من جهتهم معارضة، وبه نعلم ثبوت الشرائع (3) ونسخ المنسوخ منها، وبه نعلم أنه صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين، وأن شريعته ثابتة، وأنه لا نبي معه ولا بعده [ إلى غير ذلك ] (4) فالطاعن في التواتر يريد التشكيك في جميع ما قدمناه مما بإبطاله أو بإبطال بعضه يبطل الدين، فكيف يعلم مع فساد التواتر القرآن وتميزه من غيره حتى يكون حجة؟ وهذا القول أداهم إلى جواز الزيادة في القرآن وأنها قد كتمت،... " (5)
____________
(1) خ " بجواز الكذب جواز الكتمان ".
(2) غ " الشبه ".
(3) غ " إثبات الشرائع ".
(4) الزيادة من المغني.
(5) المغني 20 ق 1 / 82.
الصفحة 285
يقال له: أما التواتر فقد بينا أنا لا نطعن عليه ولا نقدح فيه، بل هو عندنا من حجج الله تعالى على عباده، وأحد الطرق إلى العلم، فمن ظن علينا خلاف هذا، أو رمانا بإبطاله فهو مبطل سرف (1) والذي نذهب إليه من جواز الكتمان والعدول عن النقل عن الناقلين لا يقتضي إبطال التواتر، وترك العمل عليه إذا ورد على شرائطه، لأنه إنما يكون حجة إذا قام الرواة بأدائه ونقله، فأما إذا لم يفعلوا ذلك فقد سقطت الحجة به، وجميع ما ذكره وجعل التواتر طريقا إليه من العلم بكون النبي والقرآن ووقوع التحدي صحيح، وليس بحجة علينا، بل على من طعن على التواتر، وذهب إلى أنه ليس بطريق إلى العلم.
فأما عدم المعارضة وادعاؤه أن الطريق إلى فقدها (2) هو التواتر وإدخاله ذلك في جملة ما تقدم فطريف، لأن مثل هذا لا يعلم بالتواتر ولا يصح النقل فيه، وإنما يعلم فقد المعارضة من حيث علمنا توفر دواعي المخالفين إلى نقلها، وحرصهم على ذكرها والإشارة بها، لو كانت موجودة، فإذا فقدنا الرواية لها مع قوة الدواعي وشدة البواعث قطعنا على نفيها.
وأما ثبوت الشرائع، والناسخ والمنسوخ، وما جرى مجراهما فنعلم من جهة التواتر ما وردت به الرواية المتواترة، ونعلم أن جميع الشرع وأصل إلينا من جهته وأنه لم ينكتم عنا منه شئ بالطريق الذي قدمناه، وهو أن الإمام المعصوم إذا كان موجودا في كل زمان وجرى في الشريعة ما قدرناه وجب عليه الظهور والبيان، وإيصال المكلفين إلى العلم بما طواه
____________
(1) السرف - بفتح السين وكسر الراء -: الجاهل والسرف: الخطأ، وهي في الأصل " مشوف " ولم يظهر معناها.
(2) الضمير للمعارضة.
الصفحة 286
الناقلون، فنعلم بفقد تنبيهه على الخلل الواقع في الشريعة عدم ذلك.
فأما القول بأن في القرآن زيادة كتمت ولم تنقل فلم يتعد الذاهبون إليه ما تناصرت به الروايات وأجمع عليه الرواة من نقل آي وألفاظ كثيرة شهد جماعة من الصحابة أنها كانت تقرأ في جملة القرآن وهي غير موجودة فيما تضمنه مصحفنا والحال فيما روي من ذلك ظاهرة (1)، وليس المعقول فيما جرى مجرى النقل على من ليس من أهله ممن يدفع باقتراح كل ما ثلم اعتقادا له أو خالف مذهبا يذهب إليه، وليس يلزم لأجل هذا التجويز ما لا يزال يقوله لنا مخالفونا من الزامهم التجويز، لأن يكون في جملة ما لم
____________
(1) كرواية مسلم في صحيحه 3 / 1317 في كتاب الحدود باب رجم الثيب في الزنى عن ابن عباس، قال عمر بن الخطاب وهو جالس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل عليه آية الرجم قرأناها ووعيناها وعقلناها، فرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بنا الزمان، أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وأن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف " فيكون هذا من باب ما نسخ رسمه وبقي حكمه، أو كما روي عن ابن مسعود أنه كان إذا قرأ (وكفى الله المؤمنين القتال) يتبعها " بعلي " فيكون هذا من باب التوضيح وتبين سبب النزول لا أنها من نفس القرآن الكريم، وكل ما ورد من الروايات سواء كان من طريق أهل السنة أو الشيعة مرفوضة مردودة على روايتها لأن القرآن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه، وقد تعهد سبحانه بحفظه (لو كان من عنده غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) وكل من ادعى غير ذلك فهو مخترق أو مغالط أو مشتبه، هذا غير القراءات التي لا تغير مباني الكلمات التي أذن الله بها على لسان نبيه صلى الله عليه وآله كما هو معروف بين الإمامية للمظفر، وأصل الشيعة وأصولها لكاشف الغطاء ومراد المرتضى أن ذلك وارد لا أنه يعتقد صحته، وعلى كل حال فإجماع الأمة أن من زعم أن شيئا ما بين الدفتين ليس من القرآن فهو خارج عن الملة، وانظر الاتقان للسيوطي 1 / 101 و 120 و 2 / 40 و 41.
الصفحة 287
يتصل بنا من القرآن فرائض وسنن وأحكام لأنا نأمن ذلك بالوجه الذي ذكرناه وعولنا عليه بالثقة بوصول جميع الشرع إلينا، وليس الملحد المشكك في الدين من لم يجعل الأمة المختلفة المتضاربة (1) التي يجوز عليها الخطأ والضلال حجة في حفظ الشرع وقصر حفظه على معصوم كامل لا يجوز عليه شئ مما عددناه، بل الملحد المشكك في الذين الناطق بلسان أعدائه وخصومه هو من ذهب إلى أن الشرع محفوظ بمن وصفنا حاله، لأن الناظر المتأمل إذا فكر فيمن جعله هؤلاء القوم حجة في الشرع حافظا له، ورأى ما هم عليه من جواز الخطأ، والإعراض عن النقل، والميل إلى الهوى وأسبابه كان هذا له طريقا مهيعا (2) إلى الشك في الدين، وارتفاع الثقة بالشريعة، إن لم يوفقه الله تعالى لإصابة الحق، ويلهمه ما ذهبنا إليه من أن الحافظ للشرع والحجة فيه هو المعصوم الخارج عن صفات الأمة.
قال صاحب الكتاب: " فإن لم يثبت التواتر كيف يعلم الإمام المعصوم لأنه لا يمكن في إثباته إلا أحد طريقين أما النص أو المعجز، ولا بد في صحتهما من التواتر وكيف يعلم من جهة الإمام ما يتحمله من الشرع [ لأنه لا يمكن إثبات النص عند كل مكلف إلا بهذا الوجه، وكذلك القول في المعجز إذا كان به يتبين الإمام من غيره، وبه تعرف إمامته ] (3)... " (4) وهذا كله مما قد مضى الكلام عليه مكررا.
قال صاحب الكتاب: " على أن ذلك يجري مجرى البهت (5) لأنا
____________
(1) خ " المتعادية ".
(2) المهيع: الواسع.
(3) ما بين المعقوفين ساقط من " الشافي " وأعدنا من " المغني ".
(4) المغني 20 ق 1 / 82.
(5) البهت - بسكون وبفتح أيضا - البهتان، وهو الكذب على الغير، مأخوذ من الحيرة، لأن المكذوب عليه إذا سمعه تأخذه الحيرة.
الصفحة 288
نجد من أنفسنا أنا نعرف إن كان الشرائع بالتواتر وإن لم نعرف الإمام المعصوم [ ولا تعرف صحته ] (1) ولا يمكنهم أن يدعوا علينا هذا الاعتقاد ونحن نعلم من أنفسنا خلافه، بل يعلمون ذلك من حالنا... " (2).
يقال له: هذا الكلام إنما يلزم من يذهب إلى أن التواتر لا يعرف به صحة شئ، وإن عرفت به فلا بد من تقدمة معرفة الإمام، وليس هذا مما نذهب إليه ولا نراه، بل قد يتمكن من الاستدلال بالتواتر من يجهل الإمام، فإن أراد بقوله: " إنا نجد من أنفسنا معرفة إن كان الشرع ما ذكرناه مما قد تواتر الخبر به، وقامت حجته بالنقل " فقد قلنا: " إن ذلك غير ممتنع، وإن أراد أنه يعرف من نفسه الثقة بأن شيئا من الشرع لم ينطو عنه، ولم يخف عليه، وإن لم يعرف الإمام ليبطل بذلك ما اعتمدناه من أن هذه الثقة لا تحصل إلا مستندة إلى الإمام فغير مسلم له ما ادعاه من المعرفة، وعندنا أنه متوهم غير عارف، ومعتقد غير عالم، وكون الانسان عارفا في الحقيقة لا يعلمه ألواح منا من نفسه ضرورة، وليس هذه الدعوى بأكثر من دعوى سائر المبطلين (3) من المجبرة وغيرهم، أنهم عارفون بصحة مذاهبهم، وعالمون بها، فكما أن ذلك غير ملتفت إليه منهم فكذلك ما ادعاه.
قال صاحب الكتاب: " شبهة لهم أخرى، قالوا: متى جوزنا على الإمام أن لا يكون معصوما يؤمن سهوه وغلطه جوزنا أن يقدم على ما يوجب الحد وسائر ما احتيج من أجله إلى الإمام، وذلك يوجب أنه مشارك (4) للرعية فيما له احتاجت إلى الإمام، وهذا يوجب حاجته إلى الإمام
____________
(1) الزيادة من المغني.
(2) المغني 20 ق 1 / 83.
(3) مخالفينا، خ ل.
(4) غ " مساو ".
الصفحة 289
آخر، والقول فيه كالقول في هذا الإمام إن لم يكن معصوما، ولا يمكن التخلص من ذلك إلا بإثبات معصوم في الزمان على ما نقوله ".
قال: " واعلم أن ذلك ينتقض عليهم بالأمير لأنهم يجوزون عليه ما يجوز [ ون ] على رعيته، ولم يمنع ذلك من كونه أميرا يقيم عليهم الحدود، ولا يقيمونها (1) عليه، ومتى قالوا في الأمير (2): إنه متى أقدم على ما يوجب الحد فالإمام يقيم الحد عليه، لم يمنع ذلك من صحة التفرقة بينه وبين رعيته، وإنما أردنا بالكلام (3) إبطال قولهم: إن كونه غير معصوم يؤدي إلى أن لا يكون بينه وبين رعيته فرق لأنه قد ظهر الفرق بما ذكرناه، فكما يجوز في الأمير أن يقوم بهذه الأمور ويكون له المزية عليهم فإذا أحدث حدثا وجب عزله، ولم يقدح عزله في مزيته عليهم من قبل، فكذلك القول عندنا في الإمام... " (4).
فيقال له: هذا الدليل من آكد ما اعتمد عليه في عصمة الإمام من طريق العقول، وترتيبه أن حاجة الناس إلى الإمام إذا وجبت بالعقل لم يخل من وجهين، إما أن يكون ثبت وجوبها لارتفاع العصمة عنهم، وجواز فعل القبيح منهم، أو لغير ذلك، فإن كان لغيره لم يمتنع أن تثبت حاجتهم إلى الإمام مع عصمة كل واحد منهم، لأن العلة إذا لم تكن ما ذكرناه لم يكن لفقدها تأثير، وجاز أن تثبت الحاجة بثبوت مقتضاها، ألا ترى أن المتحرك لم تكن العلة في كونه متحركا سواده جاز أن يكون متحركا
____________
(1) غ " ولا يقيمون ".
(2) يعني بالأمير الذي يوليه الإمام إحدى الجهات.
(3) " بالكلام " ساقطة من " المغني ".
(4) المغني 20 ق 1 / 84.
الصفحة 290
مع عدم السواد (1)، ولو جاز أن يحتاج المكلفون إلى الإمام مع عصمتهم لجاز أن يحتاج الأنبياء إلى الأمة، والرعاة مع ثبوت عصمتهم، والقطع على أنهم لا يقارفون شيئا من القبائح، وهذا معلوم فساده على أنه لو لم تكن العلة في حاجتهم ارتفاع العصمة لجاز أن يستغنوا عنه مع كونهم غير معصومين، وليس يجوز أن يستغنوا عن الإمام، وأحوالهم هذه، لما دللنا عليه عند الكلام في وجوب الإمامة، ولا شئ أظهر في إثبات العلة من وجود الحكم تابعا لوجوده، وارتفاعه بارتفاعها، وإن كانت الحاجة إلى الإمام إنما وجبت بارتفاع العصمة وجواز الخطأ، وفعل القبيح لم يخل حال الإمام نفسه من وجهين، إما أن يكون معصوما مأمونا من فعل القبيح، أو غير معصوم فإن لم يكن معصوما وجب حاجته إلى الإمام بحصول علة الحاجة فيه، ولم يخل إمام (2) أيضا من أن يكون معصوما أو غير معصوم، فإن لم يكن معصوما احتاج إلى إمام، واتصل ذلك بما لا نهاية له، فلم يبق إلا القول بعصمة الإمام، وانتهاء الأمر في الرئاسة والإمامة إلى معصوم لا يجوز عليه فعل القبيح.
فإن قيل: قد بنيتم كلامكم على أن المعصوم لا يحتاج إلى إمام، وعولتم في ذلك على أمر الأنبياء عليهم السلام فلم زعمتم أن كل من ثبتت عصمته لا يحتاج إلى إمام؟ ولم أنكرتم أن يعلم الله تعالى من بعض عباده أنه إذا نصب له إماما اختار الامتناع من كل القبائح وفعل جميع الواجبات؟ ومتى لم ينصب له إماما لم يختر ذلك فيكون معصوما مع أن له إماما؟.
____________
(1) سواده خ ل.
(2) في الأصل " إمامة " والوجه ما أثبتناه.
الصفحة 291
يقدح في قولنا إن المعصوم لا يحتاج إلى إمام مع عصمته لأن كل من كانت عصمته بالإمام لم يحتج إلى إمام مع عصمته، وإنما احتاج إليه ليكون معصوما به، فلم تستقر له العصمة بغير الإمام مع حاجته إلى الإمام، وإنما يكون مفسدا لما ذكرناه (1) معارضتك لنا على معصوم لم تكن عصمته ثابتة بالإمام، وهو مع ذلك يحتاج إلى إمام، على أن ما بنينا عليه الدليل يسقط هذه المعارضة، لأنا عللنا (2) وجوب حاجة الناس إلى ذلك المعصوم، وقضينا بأن من كان معصوما لا تجب حاجته إلى إمام، وتقديرك هذا ليس بموجب حاجة المعصوم إلى إمام، وإنما يقتضي إذا صح تجويز ذلك، والتجويز لا يقدح فيما اعتمدناه، لأن الحاجة إلى إمام لا تجب للمعصوم.
فإن قيل: ولم أنكرتم أن يكون يحتاج المعصوم مع عصمته الثابتة بغير إمام إلى إمام ليكون مع وجوده أقرب إلى فعل الواجب وترك القبيح؟
قيل له: ليس يجب عندنا إذا فعل الله تعالى ما يعلم أن العبد يفعل عنده الواجب وترك القبيح أن يفعل به جميع ما يكون معه أقرب إلى فعل الواجب وترك القبيح، لأن ما فعله مما قد علم أنه لا يخل معه بالواجب يغني ويكفي، وإذا ثبتت هذه الجملة بطل ما سأل عنه، لأن المعصوم الذي قد علم الله تعالى أنه لا يختار شيئا من القبائح عندما فعله به من الألطاف التي ليس من جملتها الإمامة هو مستغن عن إمام يكون عند وجوده أقرب إلى ما ذكر.
فإن قيل: ما ذكرتموه يؤدي إلى أن يكون المعصومون مستغنين عن
____________
(1) لما اعتمدناه، خ ل.
(2) دللنا خ ل.
الصفحة 292
تكليف المعرفة بالله تعالى (1) بعصمتهم كما استغنوا بعصمتهم عن الإمام وإلا فإن وجب أن يحتاجوا إلى المعرفة مع عصمتهم ليكونوا عندنا أقرب إلى فعل المراد وتجنب المكروه وجب أن يحتاجوا إلى إمام مع عصمتهم لمثل ذلك.
قيل له: ليس ينكر أن يكون المعصومون إنما كلفوا المعرفة بالله تعالى لأن بها تتكامل عصمتهم، ومن أجلها لم يختاروا فعل القبيح، ولو جاز أن تتكامل لهم العصمة من دون تكليف المعرفة لم يجب تكليفهم المعرفة، كما لا تجب إقامة أئمة لهم إذا ثبتت عصمتهم من دون الإمام، فيكون الدليل الدال على عموم تكليف المعرفة للخلق كاشفا عن وقوع ما قدرناه في المعصومين منهم، من أن بالمعرفة تتكامل عصمتهم.
فإن قيل: هذا كلام من يجوز أن لا يكلف الله تعالى معرفته المعصومين على حال من الأحوال، وهي الحال التي يعلم أن عصمتهم تحصل من دون المعرفة، فإذا جاز ذلك عندكم فما الدليل الموجب لعموم تكليف المعرفة للمعصومين، وإذا كنتم قد أفسدتم التعلق بطريقة الأقرب فلم يبق لكم معتمد في عموم تكليفها.
قيل: ليس الأمر كما ظننت من بعد الدلالة على عموم تكليف المعرفة علينا إذا لم نعتمد طريقتك، وعندنا أن طريقة السمع هي الدلالة على عموم تكليفها لسائر من تكاملت شروطه، ولا شبهة في دلالة السمع على ذلك، لأن الأمة مجمعة على تساوي أحوال العباد في باب المعرفة لأن من ذهب إلى أنها مستدل عليها يذهب إلى عموم الخلق بتكليفها إذا تكاملت شروطه تكليفهم، ومن قال فيها بالاضطرار يقول في عمومها
____________
(1) حيث أن معرفته تعالى واجبة - كما يقول القاضي في شرح الأصول الخمسة ص 64 - لأنها لطف في أداء الواجبات واجتناب المقبحات.
الصفحة 293
بمثل ذلك، ولو لم يكن في هذا إلا ما يعلم ضرورة من دين النبي صلى الله عليه وآله من أن تكليف معرفة الله تعالى، ومعرفة رسله عليهم السلام عامة للعقلاء، وأنه لا تخصيص فيها ولا تمييز إلا لمن لم تتكامل شروطه (1) لكان مقنعا، وبعد فقد علم أيضا من دين محمد صلى الله عليه وآله عموم وجوب الصلوات، وما أشبهها من العبادات الشرعية، لكل من تكاملت شروطه من المكلفين على وجه لا إشكال فيه، ونحن نعلم أن هذه العبادات لا يصح وقوعها قربة، وعلى الوجوه التي وجبت عليها ممن هو جاهل بالله تعالى أو غير عالم به، بل لا بد من تقدم معرفته تعالى بصفاته ومعرفة صدق رسوله صلى الله عليه وآله وفي هذا أوضح دلالة على وجوب المعرفة، لأن ما لا يتم فعل الواجب إلا به لا بد أن يكون واجبا، وليس لأحد أن يقول: هذه العبادات قد تسقط عن بعض العقلاء لأعذار معلومة فيجب أن تسقط المعرفة بسقوطها حتى يقضى على كل من لا يلزمه فعل شئ من العبادات بزوال تكليف المعرفة عنه، لأنه غير ممتنع أن يرجع في ثبوتها على من سقطت عنه العبادات الشرعية لبعض العذر إلى ضرب آخر من الاعتبار، وهو أن الأمة مجمعة على أن سقوط فرض المعرفة غير مانع لسقوط هذه العبادات، وهذا ما لا خلاف فيه، لأن من ذهب فيها إلى الضرورة لا يجعل فرضها ثابتا على المكلف في حال من الأحوال، فكيف يجعل سقوطها تابعا لسقوط العبادات في بعض الأحوال، ومن ذهب إلى أنها اكتساب من أهل الحق لا شبهة في قطعه على عموم تكليفها وأنها مما لا تتبع في الزوال العبادات الشرعية، والذاهب إلى أنها تقع
____________
(1) أي شروط التكليف.
الصفحة 294
بالطبع بعد النظر لا يخالف أيضا في هذه الجملة التي هي أن المعرفة غير تابعة في الزوال هذه العبادات.
واعلم أنا إنما سلكنا في ترتيب الدلالة التي قدمناها على عصمة الإمام مسلك من تقدم من سلفنا رضي الله عنهم، وإن كنا قد احترزنا في أثنائها بألفاظ مسقطة لبعض شبه الخصوم اللازمة على من يخالف ترتيبنا، واستقصينا الجواب عن قوي ما يمكن إيراده عليها من المطاعن والاعتراضات، ويمكن أن يستدل بمعنى هذه الطريقة على الترتيب الذي رتبته الآن.
فيقال: إذا ثبت وجوب الإمامة من الوجه الذي تقدم بيانه فالطريق الذي به يعلم وجوبها به يعلم جهة الوجوب المقتضي له، لأن الطريق إلى وجوب الحاجة إلى الإمام إذا كان هو كونه لطفا في ارتفاع القبيح وفعل الواجب، قد ثبت أن فعل القبيح والاخلال بالواجب لا يكونان إلا ممن ليس بمعصوم، فقد ثبت أن جهة الحاجة هي ارتفاع العصمة، وجواز فعل القبيح، واقترن العلم بالحاجة بالعلم بجهتها، وصارت الحاجة إلى وجوب الإمامة ما ثبت من كونها لطفا، وجهة الحاجة إلى كونها لطفا ارتفاع العصمة وجواز فعل القبيح، فالنافي لجهة الحاجة ومقتضيها كالنافي لنفس الحاجة، وجرى هذا في بابه مجرى ما يعتبره في تعلق أفعالنا بنا من حيث كانت محدثة، لأنا نقول ما دل على تعلقها بنا وحاجتها إلينا هو بعينه دال على أنها احتاجت إلينا من حيث كانت محدثة، لأنا إنما أثبتنا التعلق، والحاجة من حيث وجب وقوعها بحسب قصورنا وأقوالنا مع السلامة، وإذا وجدنا الصفة التي تحل عليها عند قصدنا هي الحدوث قطعنا على حاجتها إلينا في الحدوث، ومثل هذا الاعتبار استعملنا في استخراج جهة الحاجة إلى الإمام فلا بد على هذا من أن يكون الإمام معصوما ليخرج عن
الصفحة 295
العلة المحوجة إلى الإمام، وإلا أدى ذلك إلى وجود من لا نهاية له من الأئمة، ومتى اعتمد في عصمة الإمام هذا الترتيب الذي اخترناه سقط سائر ما يعترض به المخالفون في استخراج علة الحاجة إلى الإمام، وخف بذلك شغل كثير.
ويسقط أيضا ما لا يزالون يتعلقون به، فيقولون: كي تحكمون بأن المعصوم لا يجب حاجته إلى الإمام مع اعتقادكم كون أمير المؤمنين عليه السلام معصوما في حياة النبي صلى الله عليه وآله وهو مع ذلك محتاج إليه ومؤتم به وكذلك القول في الحسن والحسين عليهما السلام في حياة أمير المؤمنين عليه السلام، اللهم إلا أن تزعموا أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يكن محتاجا إلى النبي صلى الله عليه وآله فتخرجوا عن الدين أو تزعموا أنه لم يكن معصوما في تلك الحال فتتركوا مذهبكم، وذلك أنا إنما منعنا حاجة المعصوم إلى إمام يكون لطفا له في تجنب القبيح وفعل الواجب، ولم نمنع حاجته إليه من غير هذه الوجهة، ألا ترى أن كلامنا إنما يكون في تعليل الحاجة إلى إمام يكون لطفا في الامتناع من المقبحات، ولم يكن في تعليل غير هذه الحاجة فإذا ثبتت هذه الجملة لم يمتنع استغناء أمير المؤمنين عليه السلام بعصمته في حال حياة النبي صلى الله عليه وآله عنه فيما ذكرناه، وإن لم يكن مستغنيا عنه في غير ذلك من تعليم وتوقيف (1) وما أشبهها، وكذلك القول في الحسن والحسين عليهما السلام أنهما يستغنيان بعصمتهما عن إمام يكون لطفا لهما في الامتناع عن القبيح. وإن جازت حاجتهما إلى الإمام للوجه الذي ذكرناه.
فأما قول بعضهم: إن الإمام إنما احتيج إليه لإقامته الحدود،
____________
(1) وهو الاستغناء بعصمته عنه بأن يكون لطفا له في الامتناع عن القبيح ولكنه لا يستغني عن تعليمه (لأنه باب مدينة علمه) وتوقيفه على ما يختص الإمامة.
الصفحة 296
وصلاة الجمعة، والغزو بالمسلمين، وقسمة الفئ، فيبطل بما بينا من ثبوت الحاجة إليه من الوجه الذي ذكرناه، وبأن الحاجة إليه عقلية وسائر ما ذكر سمعي، وبأن سائر ما ذكر قد يسقط عن بعض الأمة لأعذار مع ثبوت الحاجة إلى الإمام، على أنه ليس يخلو ما ذكروه من إقامة الحدود أن يريدوا به إقامتها على مستحقيها، أو يريدوا أن الإمام يحتاج إليه قبل استحقاقها ليتولى إقامتها عند استحقاق الجناة لها، فإن أرادوا الوجه الثاني فإنا لا نضايق فيه لأن المعنى يرجع إلى ما أردناه لأن من لم يقارف ما يوجب الحد إذا احتاج إلى إمام قبل مقارفته فلم يحتج إليه إلا للوجه الذي نعتبره، وهو كونه ممن يجوز أن يفعل القبيح ويقارف ما يستحق به التأديب، وإن أرادوا الوجه الأول (1) بطل بأنه مؤد إلى أن يكون أبرار الأمة (2) ومن كان منهم على حال السلامة غير محتاجين إلى الإمام، وأن تكون الحاجة إليه مختصة بالفساق ومستحقي الحدود، وهذا فاسد بالعقل والسمع معا.
وأما معارضة صاحب الكتاب لنا بالأمير (3) وقوله " إذا جوزتم عليه ما تجوزونه على رعيته ولم يمنع ذلك من إثبات فرق ما بينه وبين رعيته، فقولوا: في الإمام مثله " فظاهر البطلان، لأنا أولا لم نقل: إن الإمام لو لم يكن معصوما لوجب أن لا يكون بينه وبين رعيته فرق من غير تقييد، بل قلنا: كان يجب أن لا يكون فرقا فيما احتاجوا من أجله إليه، وهكذا حكى عنا في الكلام الذي تعاطى اعتراضه، ولا ندري كيف استحسن
____________
(1) وهو القول بأن الحاجة إلى الإمام لإقامة الحدود بعد استحقاقها.
(2) أبرار الأمة: أهل الطاعة منهم، واحدهم بر قال الجوهري: " فلان يبر خالقه ويتبرره: أي يطيعه ".
(3) أي المنصوب من قبل الإمام في بعض الجهات.
الصفحة 297
حكاية شئ والكلام على غيره؟ ولم نقل أيضا إنه لا يجوز أن يقيم الحد من يمكن أن يستحق إقامته عليه، والذي قلناه غير هذا، وقد بيناه، وهو مفهوم، فأما الأمير فإنه لما لم يكن معصوما، وشارك رعيته في علة الحاجة إلى الإمامة والسياسة، قضينا بحاجته إلى إمام كما قضينا بحاجتهم، فإمامه هو إمام الكل، ورئيس الجميع، فيجب على صاحب الكتاب إذا ألزمنا حمل حال الإمام على حال الأمير أن يلتزم كون الإمام إذا كان غير معصوم مأموما بغيره قبل أن يحدث كما كان الأمير كذلك قبل أن يحدث، ولو جاز أن يستغني الإمام مع كونه مشاركا لرعيته والأمراء من قبله في كونهم غير معصومين عن إمام إلى أن يحدث لجاز أن يستغني الأمير وأبرار الأمة عن الإمام إلى أن يحدثوا، وإذا كان استغناء هؤلاء عنه محالا وجب ما ذكرناه فيه من لزوم الحاجة إلى إمام.
قال صاحب الكتاب: " ومتى قالوا بأن ذلك لا يصح لأمر يرجع إلى أن الإمام لا يكون (1) بالاختيار بينا فساد قولهم بما نذكره من بعد " (2) يقال له: الاختيار وإن كان عندنا فاسدا بما سنبينه بمشيئة الله تعالى عند بلوغنا إلى كلامك فيه، فإنا غير محتاجين في كسر اعتراضك على دليلنا في العصمة إلى ذكره، وفي بعض ما أوردناه كفاية في إبطاله.
قال صاحب الكتاب: بعد كلام في الحدود ذكره لا نرتضيه ولا نتعلق بمثله: " على أن الذي أوردتموه (3) من دعوى لا دلالة عليها فيقال لهم:
فما الذي يمنع من أن يجوز على الإمام الحدث ومع ذلك يقارف حاله حال
____________
(1) غ " لا يصح أن يكون ".
(2) المغني 20 ق 1 / 84.
(3) في الأصل " ذكروه " والتصحيح من المغني.
الصفحة 298
الرعية، لأنه إنما صار إماما لا من حيث لا يجوز عليه الحدث، لكن لطريق مخصوص حصل فيه ولم يحصل في أحد (1) من رعيته فكان له أن يقوم بالحدود والأحكام دونهم، فإن جاز عليه في المستقبل ظهور الحدث فما الذي يمنع من ذلك،... (2). " يقال له: إذا جاز عليه الحدث فقد شارك الرعية فيما من أجله احتاجت إليه، ووجبت حاجته إلى إمام كما وجبت حاجتهم إليه، ومفارقته للرعية في غير ذلك مع مشاركته لهم في علة الحاجة لا يمنع من حاجته إلى إمام كحاجتهم.
فأما قولك: " إنما صار إماما لا من حيث لا يجوز عليه الحدث " فهو صحيح إلا أنه رد على غيرنا لأنا لم نقل ذلك ولم نعتمده، وإن كان الإمام عندنا لا بد أن يكون ممن لا يجوز عليه الحدث للوجه الذي ذكرناه لا لأنه إنما صار إماما لأن الحدث لا يجوز عليه.
قال صاحب الكتاب: " فإن قالوا: لو جاز ذلك فيه لجاز في الرسول صلى الله عليه وآله حتى لا يبين (3) من أمته ولا يجب عصمته، قلنا لهم إنما وجب ذلك في الرسول صلى الله عليه وآله لأنه حجة فيما يؤديه لا للوجه الذي ذكرتم، فما الذي يمنع إذا لم يكن هذه حالة الإمام أن يكون بمنزلتهم في جواز ذلك عليه؟ وإن كان قد بان منهم بأن حصل معه الطريق الذي له كان إماما... " (4).
____________
(1) في المغني " حصل منه ولم يحصل من أحد ".
(2) المغني 20 ق 1 / 84.
(3) يبين: يفترق.
(4) المغني 20 ق 1 / 85.
الصفحة 299
يقال له: قد بينا فيما تقدم أن الإمام حجة فيما يؤديه من الشرع وأنه يجب أن يكون معصوما لنا من خطئه فيما يؤديه كالرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأبطلنا أن يكون الشرع محفوظا مؤدى بالأمة بما نستغني عن إعادته، وهو موجب لحصول العلة التي ارتضاها القوم في عصمة الرسول في الإمام غير أن كلامنا في هذا الموضع في نصرة الدليل الذي حكاه عنا، ورتبناه على الوجه الذي يصح معه دلالته على العصمة.
فيقال له: لو سلمنا أن الإمام ليس بحجة فيما يؤديه تبرعا، ولئلا نخرج من دليل إلى غيره لوجبت عصمته (1) لما قدمنا ذكره، لأن علة الحاجة إليه إذا كانت جواز فعل القبيح فلو لم يكن هو معصوما لجاز عليه فعل القبيح ولاحتاج إلى إمام لحصول علة الحاجة فيه ولا تصل ذلك بما لا نهاية له، وليس إذا لم تكن العلة في عصمة الرسول بعينها حاصلة في الإمام يجب أن ننفي عصمته، بل غير منكر أن تثبت عصمتهما جميعا بطريقين مختلفين.
قال صاحب الكتاب: " على أنه يقال لهم على علتهم هذه: فيجب أن لا يكون في رعية الإمام عندكم من يشاركه في العصمة ليكون بائنا منهم وإلا فإن جاز أن يكون فيهم من يكون حاله كحاله ولم يمنع ذلك من كونه إماما دونهم يلزمه في طريقه إثبات الإمامة فما الذي يمنع من مثله فيما نذهب إليه... " (2).
يقال: هذا الكلام إنما يلزم على العلة التي تظنها لا على العلة التي حكيتها عنها، ولا على ما رتبناه لأنا لم نقل: أن الإمام يجوز أن يشارك
____________
(1) عصمة الإمام، خ ل.
(2) المغني 20 ق 1 / 86.
الصفحة 300
رعيته في شئ من الصفات فيلزمنا أن لا نجوز أن يكون في رعيته معصوم، والذي قلناه وحكيت عنا معناه هو أن الإمام لا يجوز أن يشارك رعيته فيما احتاجوا من أجله إليه لأنه يؤدي إلى ما ذكرناه.
فأما قولك: " فما الذي يمنع من مثله فيما نذهب إليه " فالذي يمنع منه أنا إذا أثبتنا في الرعية معصوما مشاركا للإمام في العصمة لم نقض بحاجته إلى الإمام في الوجه الذي يكون الإمام عليه لطفا في ارتفاع القبيح لحصول علة الغنى ولم نناقض؟ وأنت إذا أثبت الإمام غير معصوم وجوزت عليه القبيح لزمك أن يكون له إمام لحصول علة الحاجة فمتى أثبت ذلك ناقضت.
قال صاحب الكتاب - بعد كلام في معنى العصمة وحدها لا حاجة بنا إلى ذكره: " فإن قالوا إنما نمنع من مشاركة الإمام رعيته فيما له وقعت الحاجة إلى الإمام وهو جواز الحدث فأما أن يشاركهم في العصمة فمما لا ننكره لأن ذلك بأن يكون مغنيا عن الإمام أولى من أن يكون سببا [ فكيف يلزمنا ما ذكرتموه ] (1) للحاجة إليه.
قيل لهم: ذلك لازم لا من الوجه الذي ظننتم لكن بأن يقول إذا كان في رعيته من يستغني عنه فيما ذكرتم ولم يمنع ذلك من كونه باينا منه بطريق الإمامة فما الذي يمنع من مثله فيما نذهب إليه ولا يجب أن يلزم الكلام إلا على طريق المناقضة، بل قد يلزم على هذا الوجه الذي ذكرناه، ويقع به التنبيه على أن الذي أوردتموه دعوى لا دلالة عليها،... " (2).
____________
(1) التكملة من المغني.
(2) المغني 20 ق 1 / 87.
الصفحة 301
يقال له: وهذا كالأول في أنه كلام على غير ما اعتمدناه، واعتراض على غير اعتلالنا،.
وقد بينا علتنا وطريق توجهها وإنا لم نحل مشاركة الإمام للرعية في بعض الصفات والذي أحلناه (1) وأبطلناه قد أفصحنا عنه.
والجواب من قولك: " فما الذي يمنع من مثله فيما نذهب إليه " فقد تقدم، وجملته أنك تثبت للإمام الصفة الموجبة للحاجة وتمنع من حاجته، ونحن إذا أثبتنا الصفات المغنية لبعض الرعية لم تدفع القطع على استغنائه، بل قضينا بذلك على الوجه الذي تقدم بيانه، اللهم إلا أن تلزم (2) حاجة الإمام لحصول علة الحاجة كما فعلنا نحن عكس ذلك عند حصول علة الاستغناء، وهذا إذا صرت إليه أبطل بما ذكرناه من أنه يؤدي إلى ما لا نهاية له من الأئمة.
قال صاحب الكتاب: " على أن القوم إذا اعتلوا بهذه العلة عقلا فهي غير مسلمة، لأنا نجوز في العقل ورود الشرع بأن نجعل إقامة الحد إلى من يلزمه الحد كما لا يمتنع ورود الشرع بأن يكون على المقدم على المنكر إنكار مثله، وإن كانوا يعولون في ذلك على السمع فيجب أن يبينوا طريقه... " (3) يقال له: ما اعتللنا بما ذكرناه إلا عقلا من غير رجوع إلى السمع، أو تعلق به، وقولك " يجوز أن تجعل إقامة الحد إلى من يلزمه الحد " إن أردت أنه يجعل إلى من هذه حالة من غير أن يكون وراءه راع أو إمام فهذا
____________
(1) أي لم نجعله محالا.
(2) تلتزم، خ ل.
(3) المغني 20 ق 1 / 87 وفيه " فيجب أن يثبتوا طريق ذلك ".
الصفحة 302
لا يجوز لأن من جعل إليه أن يقيم الحد عليه إنما احتاج إلى كونه من ورائه لجواز وقوع ما يوجب الحد منه، فإذا كانت هذه العلة قائمة في المقيم للحد احتاج إلى مثل نفسه، وإن أردت جواز إقامة الحد ممن يجوز أن يستحق الحد مع أن له إماما من ورائه يقيم عليه الحد عند استحقاقه فهذا مما لا نأباه، وهذا حال الأمراء وجميع خلفاء الإمام عندنا.
قال صاحب الكتاب: " شبهة أخرى لهم، ربما قالوا: لا بد من كون إمام معصوم في كل زمان لأن أدلة الشرع من كتاب وسنة لا تدل بنفسها لاحتمالها (1) ولذلك اختلفوا في معناها مع اتفاقهم في كونها دلالة، فلا بد من مبين عرف معناها اضطرارا من الرسول أو من إمام سواه، فقالوا: فلو جاز خلافه كان لا يمتنع أن ينزل الله تعالى كتابا ولا نبي في الزمان، فلما بطل ذلك من حيث لا بد من مبين للمراد بالكتاب للاحتمال الحاصل فيه فكذلك القول في الإمام " قال: " وهذا مبني على أن الكلام لا يدل بظاهره، وقد بينا فيما تقدم أنه يدل وأبطلنا الأقاويل المخالفة لذلك وبينا ما يلزم عليها من الفساد... " (2).
يقال له: " لسنا نقول: إن جميع أدلة الشرع محتملة غير دالة بنفسها بل فيها ما يدل إذا كان ظاهره مطابقا لحقائق اللغة، وتقدم العلم للمستدل بأن المخاطب به حكيم وأنه لا يجوز أن يريد خلاف الحقيقة من غير أن تدل عليه (3) ولا شبهة في أن جميع أدلة الشرع ليست بهذه الصفة
____________
(1) أي لأنها تحتمل عدة وجوه.
(2) المغني 20 ق 1 / 88.
(3) أي حقائق اللغة.
الصفحة 303
لأنا نعلم أن في القرآن متشابها (1) وفي السنة محتملا (2) وأن العلماء من أهل اللغة قد اختلفوا في المراد بهما، وتوقفوا في الكثير مما لم يصح لهم طريقة ومالوا في مواضع إلى طريقة الظن، والأولى فلا بد والحال هذه من مبين للمشكل، ومترجم للغامض، يكون قوله حجة كقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وليس يبقى بعد هذا إلا أن يقال إن جميع ما في القرآن إما معلوم بظاهر اللغة، وفيه بيان من الرسول صلى الله عليه وآله يفصح عن المراد به، وإن السنة جارية هذا المجرى، وهذا قول يعلم بطلانه ضرورة لوجودنا مواضع كثيرة من الكتاب والسنة قد أشكلت على كثير من العلماء وأعياهم القطع فيها على شئ بعينه، ولو لم يكن في القرآن إلا ما لا خلاف فيه ولا في وجوده، ولا يتمكن من دفعه وهو المجمل الذي لا شك فيه أغني في حاجته إلى البيان والايضاح، مثل قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة) (3) وقوله: (في أموالهم حق معلوم) (4) إلى غير ما ذكرناه وهو كثير، وإذا كان هذا مما لا بد من
____________
(1) في القرآن الكريم آيات محكمات وآخر متشابهات فالمحكم هو ما علم المراد بظاهره من غير قرينة تقترن إليه ودلالة تدل على المراد به لوضوحه نحو قوله تعالى: (إن الله لا يظلم الناس شيئا) وقوله تعالى: (ولا يظلم مثقال ذرة) لأنه لا يحتاج في معرفة المراد إلى دليل، والمتشابه ما لا يعلم المراد بظاهره حتى يقترن به ما يدل على المراد منه، نحو قوله تعالى: (وأضله الله على علم) فإنه يفارق قوله: (وأصلهم السامري) لأن إظلال السامري قبيح، وإضلال الله - بمعنى حكمه بأن العبد ضال - ليس بقبيح بل هو حسن، كما عرف المحكم والمتشابه بتعاريف أخرى أكثرها يختلف لفظا، ويتقارب معنى، ينظر في ذلك التبيان للشيخ الطوسي عند تفسير قوله تعالى (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات...) الآية آل عمران 7.
(2) أي يحتمل عدة وجوه.
(3) التوبة 103.
(4) المعارج 24.
الصفحة 304
ترجمته، والبيان من المراد به، فلو سلمنا أن الرسول صلى الله عليه وآله قد تولى بيان جميع ما يحتاج إلى البيان منه، ولم يخلف (1) منه شيئا على بيان خليفته، والقائم بالأمر بعده، على نهاية ما يقترحه الخصوم في هذا الموضع، لكانت الحاجة من بعده إلى الإمام في هذا الوجه ثابتة، لأنا نعلم أن بيانه عليه السلام وإن كان حجة على من شافهه به، وسمعه من لفظه فهو حجة أيضا على من يأتي بعده فمن لم يعاصره ويلحق زمانه (2)، ونقل الأمة لذلك البيان قد بينا أنه ليس بضروري، وأنه غير مأمون منهم العدول عنه، وقد تقدم استقصاء هذا الموضع وتكرر فلا بد مع ما ذكرناه من إمام مؤد لترجمة النبي صلى الله عليه وآله مشكل القرآن وموضح عما غمض عنا من ذلك، فقد ثبتت الحاجة إلى الإمام مع التسليم لكثير مما ينازع فيه المخالف.
قال صاحب الكتاب: " ويقال لهم: إن الكتاب يعرف به المراد، وإذا لم يعرف ببعضه قارنه ما يعرف به المراد من سنة وغيرها، فلماذا يجب أن يحتاج إلى مبين؟ وإن كان ذلك واجبا فواجب في نفس (3) الإمام أن يعرف من غاب عنه بكلامه المراد، فإن بين تأويل الآية وصح أن يعرفه الغائب عنه بكلامه، كذلك القول في القرآن، وبعد فلو صح ما قاله لكان لا يمتنع أن يكون بيان الرسول ينقل بالتواتر فيغني عن الإمام كما أن بيان الإمام ينقل إلى الغائب عنه بالتواتر ويغني عن إمام سواه... " (4).
____________
(1) يخلف: يؤخر، والمراد يترك.
(2) لأن شريعته صلى الله عليه وآله خاتمة الشرائع فتعم جميع البشر بعد وفاته كما هي لجميع البشر في حياته.
(3) غ " في تبيين الإمام ".
(4) المغني 20 ق 1 / 89.
الصفحة 305
يقال له: قد بينا أن في الكتاب متشابها لا يقطع على المراد به، وأنه لم يثبت من السنة ما يكون مبينا لذلك وموضحا عنه، وكلامك في هذا الفصل كلام من ينازع فيما ذكرناه، فقد تقدم أن الدفع له مكابرة ظاهرة والمحنة بيننا وبينك إذا أنكرت أن يكون في القرآن من المتشابه ما هو بالمنزلة التي ذكرناها فإنما (1) نكشف عن الحقيقة فيما اختلفنا فيه فأما كلام الإمام الذي عارضت به ومعرفة من غاب عنه مراده به فغير مشبه لما نحن فيه، لأن الإمام يمكن أن يتكلم بكلام غير محتمل فلا يشتبه على السامع ولا على المنقول إليه ذلك الكلام مراده منه، ويمكن إذا كان كلامه محتملا أن يضطر السامع إلى مراده بمخارجه وقرائنه، ومن غاب عنه وإن لم يكن مضطرا فإنه يعرف المراد بنقل من سمعه من الإمام ممن الإمام مراع لنقلهم، وحافظ لأمرهم، فمتى علم أنهم قد أخبروا عنه على وجه لا حجة (2) فيه أو لا ينبئ عن مراده أردفهم (3) بغيرهم من النقلة أو يتولى الإفهام بنفسه، وهذا كله مفقود في القرآن لاحتمال مواضع منه واشتباهها، ولأن ما يثبت بالسنة في بيان تلك المواضع لو كانت ثابتة إذا لم يكن وراء الناقلين لها من يرعاهم كما أثبتنا وراء النقلة (4) عن الإمام من يرعاهم، ويتلافى ما يعرض فيه، لم يؤمن فيه الاخلال والعدول عن الواجب، وهذا هو الفرق بين بيان الرسول صلى الله عليه وآله المنقول بالتواتر وبين بيان الإمام المنقول إلى الغائب عنه، ومعنى هذا الكلام كله قد تقدم حيث دللنا على أن حفظ الشريعة لا يجوز أن يكون بالتواتر من غير إمام في الزمان.
____________
(1) فإنها، خ ل.
(2) أردفهم: أتبعهم، وكل شئ تبع شيئا فهو ردفه.
(3) خ " لا حاجة ".
(4) الناقلين، خ ل.
الصفحة 306
قال صاحب الكتاب: " على أن الإمام عرف من قبل الرسول، ولا بد من أول عرفه من قبل الله تعالى، ولا يعلم مراده باضطرار فإذا صح أن يعرف مراده بكلامه ولا ضرورة فمن الذي يمنع من مثله في كل زمان ولا يمكن التخلص من ذلك إلا بأن يوجب أن كل أحد جاهل بمراد الله تعالى ذاهب عن الحق في هذا الزمان، وفي كل زمان كان الإمام مغلوبا عليه فيه فيجب من ذلك الشهادة على الكل بالجهل والكفر وأن يلزمه أن لا يكون هو محقا... " (1).
يقال له: ما قدمته في هذا الفصل يدل على أنك ظننت علينا أن المراد بالكلام إذا لم يعلم (2) ضرورة لم يصح أن يعلم، وأنا نفصل بين القرآن في العلم بالمراد منه وبين كلام الإمام، بأن كلام الإمام يعلم مراده باضطرار، وليس كذلك القرآن، وهذا ظن بعيد وغلط شديد، لأن الذي قلناه وذهبنا إليه هو غير ما ظننته، وإنما أوجبنا في كثير من القرآن والسنة الحاجة إلى مترجم للاحتمال والاشتباه، وفقد الدليل المقطوع به على المراد لا لفقد العلم الضروري ولو كان جميع القرآن والسنة محكما غير متشابه، ومفصلا غير مجمل يصح أن يعلم المراد بهما.
فأما الأول الذي عرف من جهة الإمام أو الرسول وكيفية علمه بمراد الله تعالى فيصح أن يكون يعلم مراده جل اسمه بأن يخاطبه بلغة لا مجاز فيها ولا احتمال، أو يخاطبه بما ظاهره متطابق لحقائق اللغة، ويعلمه أنه لم يرد إلا الظاهر، وليس يمكن أن يدعي في جميع الكتاب والسنة مثل ذلك.
____________
(1) المغني 20 ق 1 / 89.
(2) يعرف، خ ل.
الصفحة 307
فأما زمان الغيبة فليس يجب الجهل بمراد الله تعالى كما ألزمت لأنا قد علمنا تأويل مشكل الدين ببيان من تقدم من الأئمة صلوات الله عليهم، الذين لقيتهم الشيعة وأخذت عنهم الشريعة، فقد بثوا من ذلك ونشروا ما دعت الحاجة إليه ونحن آمنون من أن يكون من ذلك شئ لم يتصل بنا لكون إمام الزمان من وراء الناقلين على ما بيناه وفصلناه.
قال صاحب الكتاب: " وإذا جاز أن يقع الاختلاف في العقليات، والمحق يرجع إلى الدليل القائم فما الذي يمنع من مثله في الشرعيات؟ وإذا جاز والإمام الذي هو أعظم الأئمة حاضر (1) أن يقع الاختلاف الشديد كما وقع في أيام أمير المؤمنين عليه السلام (2) ولم يمنع ذلك من ثبوت الدليل فما الذي يمنع مع الاختلاف الشديد من أن يدل القرآن والسنة على الحق، وإن ذهب بعضهم عنه، وإذا جاز عندهم في دليل الإمامة أن يذهب بعضهم عنه ولا يخرجه من أن يكون دالا وإن لم يحصل فيه الاضطرار فما الذي يمنع من مثله في سائر الأدلة... " (3).
يقال له: وهذا كلام من لم ينعم النظر في الاستدلال الذي حكاه عنا وحقيقة مرادنا به لأنا لم نوجب الإمامة لأجل الاختلاف الحاصل في الشرعيات، وذهبنا إلى أن الاختلاف في الشئ مزيل لقيام الحجة به إذا
____________
(1) في المغني " قائم " ويريد بأعظم الأئمة أمير المؤمنين عليه السلام.
(2) قال الدكتور زكي مبارك: " أمير المؤمنين هو اللقب الاصطلاحي لعلي بن أبي طالب فإذا رأى القارئ هذا اللقب في كتاب قديم من غير نص على اسم فليعلم أن المراد علي بن أبي طالب " (أنظر عبقرية الشريف الرضي 2 / 228) وقاضي القاضي عادته في المغني إطلاق هذا اللقب ولا يريد به إلا عليا عليه السلام كما يظهر ذلك بحسب مقتضى كلامه.
(3) المغني 20 ق 1 / 89.
الصفحة 308
كانت الأدلة عليه منصوبة، والطرق إليه واضحة، أوجبنا الحاجة إلى الإمام في الشرعيات لاشتباه كثير منها واحتماله ووروده مجملا غير مفصل.
ولفقدنا في كثير منها الأدلة القاطعة على المراد بعينه، حتى أوجب ذلك وقوف بعضنا في المراد، وميل بعض آخر إلى طريقة الظن والاجتهاد، ولو كان جميع الشرع نصل إليه بالأدلة القاطعة كما نصل إلى الحق في العقليات بمثل ذلك لما وجبت الحاجة إلى الإمام من هذا الوجه، كما لم تجب إليه في العقليات من هذا الوجه، وهذه الجملة تسقط جميع كلامه في هذا الفصل، ومعارضته بالاختلاف الواقع في أيام أمير المؤمنين عليه السلام، وفي الإمامة نفسها لأنه مبني على التوهم علينا إيجاب الإمامة من حيث الاختلاف، والذي قصدناه قد أوضحنا عنه.
قال صاحب الكتاب: " شبهة أخرى لهم، وربما تعلقوا في إثبات معصوم (1) بأنه يجب الائتمام به، والقبول منه، والانقياد له، فلو لم يكن معصوما لم يؤمن فيما يأتيه ويأمر به أن يكون قبيحا، ولا يجوز أن يكلف الرعية الاقتداء بمن هذه حاله، والتزام (2) طاعته، بل كان لا يمتنع إن لم يكن معصوما أن يرتد، ويدعو إلى الارتداد، وفساد ذلك يوجب كونه معصوما، وليس بعد ثبوت العصمة إلا القول بأنه لا بد من إمام منصوص عليه في كل زمان ".
قال: " وهذا بعيد، لأنه لا خلاف فيما إلى الإمام، وعندنا أن الذي إليه القيام بأمور مبينة في الشرع أو الذي يلزم من طاعته فيه ما بين الشرع أن ذلك يحسن، ولسنا نجعله إماما من حيث يتبع في كل شئ، بل نقول فيه مثل الذي روي عن أبي بكر إنه قال: " أطيعوني ما أطعت
____________
(1) غ " إمام معصوم ".
(2) إلزام، خ ل.
الصفحة 309
الله تعالى، فإذا عصيت الله تعالى فلا طاعة لي عليكم " وهذه طريقة أمير المؤمنين عليه السلام فيما كان يأمر به،... " (1).
يقال له: قد استدل بهذا الوجه كثير من أصحابنا على عصمة الإمام، وأقوى ما ينصر به، أن الإمام لا بد أن يكون مقتدى به، لأن لفظ الإمامة مشتق من معنى الاقتداء والاتباع، والاجماع أيضا حاصل على هذه الجملة، يعني أن الإمام مقتدى به، وإن كان الخلاف واقعا في كيفية الاقتداء به وصورته، وإذا ثبت وجوب الاقتداء به وجب أن يكون معصوما، لأنه إذا كان غير معصوم لم نأمن في بعض أفعاله أن يكون قبيحا، ويجب علينا موافقته فيه من حيث وجب الاقتداء به، وفي استحالة تعبدنا بالأفعال القبيحة دليل على أن من أوجب علينا الاقتداء به لا بد أن يكون ذلك منه مأمونا، ولا يكون كذلك إلا وهو معصوم.
فإن قال قائل: ولم أنكرتم أن يكون الاقتداء بالإمام إنما يجب فيما نعلمه حسنا، فأما ما نعلمه قبيحا، أو نشك في حاله فلا يجب الاقتداء به فيه؟.
قيل له: هذا إسقاط لمعنى الاقتداء جملة، وإزالة عن وجهه، لأنه لو كان من يعمل بالشئ لا من أجل عمله به، ولا من حيث كان حجة فيه، مقتدى به في ذلك الفعل لوجب أن يكون بعضنا مقتديا ببعض في جميع أفعاله التي اتفقنا عليها (2)، وإن كنا لم نقل بذلك القول، أو نفعل ذلك الفعل من أجل قول بعضنا به، أو فعله له، ولوجب أيضا أن نكون مقتدين باليهود والنصارى لموافقتنا لهم بالاقرار بنبوة موسى وعيسى عليهما
____________
(1) المغني 20 ق 1 / 89 و 90.
(2) ما اتفقنا فيه، خ ل.
الصفحة 310
السلام وإن كنا لم نعترف بنبوتهما من أجل إقرار اليهود والنصارى بهما، وللزم أيضا أن يكون الإمام نفسه مقتديا برعيته من هذا الوجه، وفساد ما أدى إلى ما ذكرنا ظاهر.
فإن قال: لو كان الإمام إنما كان يقتدى به فيما يعلم صوابه منه، ولا يكون إماما ومقتدى به فيما عرف صوابه بغيره للزم من هذا أن لا يكون الإمام إماما لنا في أكثر الدين، لأن أكثره معلوم بالأدلة التي ليس من جملتها قول الإمام، وللزم أيضا أن لا يكون النبي صلى الله عليه وآله إماما لنا فيما أكده من العقليات.
قيل له: ليس الأمر كما توهمت لأن الذي أفسدناه هو أن الإمام مقتدى به فيما لا يكون قوله أو فعله حجة فيه، وطريقا إلى العلم بصوابه، ولم نفسد أن يكون إماما فيما عرفنا صوابه بغيره إذا كنا أيضا نعرف صوابه، فالإمام على هذا التقدير حجة في جميع الشرعيات والعقليات، لأن ما علم من جملتها بأدلته فقول الإمام أيضا حجة فيه، وطريق إلى العلم بصوابه، وما كان هو الطريق إليه دون غيره فكونه حجة فيه ظاهر، وقد ذكر ابن الراوندي (1) في كتابه في الإمامة في نصرة هذا الدليل شيئا ليس بمرضي ولا مستمر لأنه قال: " لو جاز أن يكون من يعمل بالشئ لا من أجل عمله به، وفعله له إماما فيه وقدوة لجاز أن يكون من يعمل الشئ من أجل عمله به، ويعرف صوابه بفعله له لا يكون إماما فيه " وهذا ليس بصحيح، لأن الذي قدره إنما يسوغ لو كان
____________
(1) هو أبو الحسين يحيى بن أحمد بن إسحاق الراوندي نسبة إلى راوند قرية من قرى قاسان بنواحي إصبهان تقدم ذكره، وتكرر في الكتاب تجد له ترجمة مفصلة في معاهد التنصيص 1 / 155.
الصفحة 311
كل واحد من الأمرين منفصلا من الآخر، وغير منطو عليه، فأما إذا لم يكن هذه حاله لم يستقم ما ذكره، لأن من عمل بالشئ من أجل عمله به، وعرف صوابه بفعله له لا بد أن يكون إماما فيه، من حيث كان معنى الإمامة والأمر الذي من أجله كان الإمام إماما حاصلين فيه، لأن هذه الصفة - يعني كونه ممن يعمل بالشئ من أجل عمله به - تشتمل على الأولى، وتزيد عليها، فكيف يجوز مع اشتمالها على ما له كان الإمام إماما، وزيادتها عليه تحصل لمن ليس بإمام، ولا فرق بين ما ذكره ابن الراوندي وبين قول القائل: لو جاز أن يكون الإمام غير نبي لجاز أن يكون النبي غير إمام، ولو جاز أن يكون الأمير غير إمام لجاز أن يكون الإمام لا يتصرف فيما يليه الأمراء، ولا يشتمل ولايته على ما يتولاه الأمراء، وإذا كان كل هذا يفسد الوجه الذي ذكرناه لحق به في الفساد ما اعتبره ابن الراوندي.
فأما قوله: " إن الإمام يطاع فيما بين الشرع أنه يحسن " فساقط فيما بيناه في معنى الاقتداء بالإمام، وأنه لا بد من أن يكون مقتدى به من حيث قال وفعل، وفيما يكون قوله وفعله حجة فيه.
فأما قوله: " ولسنا نجعله إماما من حيث يتبع في كل شئ " فيفسد بأن الإمام لا بد أن يكون إماما في سائر الدين فما خرج من أن يكون متبعا فيه من الدين يخرج من أن يكون إماما فيه وهذه الجملة لا خلاف فيها، يعني أن الإمام إمام في جميع الدين، وإنما الخلاف في كيفية الائتمام به، والاتباع له في الدين، فليس لأحد أن ينازع فيها، لأن المنازعة في هذه الإطلاق خرق للاجماع، وإذا كنا قد بينا معنى الاقتداء به، ودللنا على أنه لا بد أن يكون على الوجه الذي قدرناه، ثبت أن الإمام لا بد أن يكون متبعا ومقتدى فيه في جميع الدين، على أنه لو نتخطى معه
الصفحة 312
هذا الموضع: وسلم أن الإمام يكون إماما في بعض الدين لم يخل ذلك بما قصدناه من دليل العصمة، لأنه إذا كان متبعا في بعض الدين، ومقتدى به، وكان الاقتداء به لا بد أن يكون على الوجه الذي ذكرناه، وأفسدنا ما عداه وجبت عصمته، وإلا أدى ذلك إلى أن الله تعالى يجوز أن يتعبدنا بفعل القبيح على وجه من الوجوه.
فأما ما رواه عن أبي بكر من الخبر الذي استدل به على أنه ليس بمعصوم، وأن طاعته تجب ما أطاع الله فإنما يلزم من جمع (1) بين القول بإمامة أبي بكر والاستدلال بالطريقة التي ذكرناها، ومعلوم أنا لا نجمع بين الأمرين.
فأما قوله: " وهذه طريقة أمير المؤمنين عليه السلام فيما كان يأمر به " فما زاد على الدعوى، ولم يذكر رواية عنه عليه السلام تقتضي ذلك، ولا دلالة فنتكلم عليها، والذي يؤمننا مما ظنه قيام الدلالة على إمامته عليه السلام (2) وقيامها على أن الإمام لا بد أن يكون مقتدى في جميع الدين.
قال صاحب الكتاب: " فإن قال: أرأيتم إذا دعا قوما إلى محاربة أو غيرها وهم لا يعلمون وجهها أيلزم (3) طاعته؟ قيل له: نعم، فإن قال:
فيجب أن يكون معصوما لأنه إن لم يكن كذلك جاز فيما يأمر به أن يكون قبيحا، قيل له: إن ذلك وإن كان قبيحا فالقائل بقوله، والمطيع له، فاعل للحسن، لأنه لا يمتنع فيما حل هذا المحل أن يكون حسنا، وأن لا
____________
(1) فلا تلزم إلا من جمع، خ ل.
(2) خ " صلوات الله عليه ".
(3) غ " أنلزم طاعته ".
الصفحة 313
يتبع في القبيح حال الأمر، والمنع (1) يبين ذلك أنه قد كلف العبد أن يطيع مولاه فيما لا يعلمه قبيحا وإن كان لا يمتنع أن يأمره بالقبيح، لكنه بما يفعله مقدم (2) على حسن من حيث يفعله لا على الوجه الذي يقبح فكذلك القول في رعية الإمام،... " (3).
يقال له: محال أن يقع الفعل قبيحا على وجه من بعض الفاعلين ويقع على ذلك الوجه من فاعل آخر فلا يكون قبيحا، فالمحاربة إذا دعا الإمام إليها وفعلها وكانت قبيحة منه فلم تقبح منه لأنه عالم بقبحها، بل لأنه متمكن من العلم بذلك، لأن التمكن في هذا الباب يقوم مقام العلم، ورعية الإمام إذا كانوا متمكنين من العلم بقبح المحاربة، وما يعود بها من الفساد في الدين قبحت منهم وإن لم يعلموا وجهها في الحال، لأن تمكنهم من العلم بقبحها (4) يجري مجرى علمهم بذلك، فلا بد أن يكونوا متمكنين، فكيف تكون المحاربة قبيحة منه غير قبيحة منهم على هذا، ولو سلمنا جواز كونهم غير متمكنين من العلم بحال المحاربة في القبح أو الحسن لم يكن ذلك مخلا بما قصدناه، لأن كلامنا فيما تمكنوا من العلم بحاله من جملة ما دعاهم الإمام إلى فعله، ولو استقام له أيضا ما أراده في المحاربة لم يستقم له مثله في غيرها من أمور الدين، لأن الإمام لا بد أن يكون إماما في سائر الدين، ومقتدى به في جميعه، ما كان منه معلوما للرعية وجهه وما لم يكن معلوما لهم على ما دللنا عليه من قبل، فيلزم على هذا أن لو دعاهم إلى غير المحاربة مما لم يمكن صاحب الكتاب أن
____________
(1) في الأصل " والمتبع " وما في المتن من " المغني ".
(2) غ " يقدم ".
(3) المغني 20 ق 1 / 90.
(4) خ " بقبح المحاربة ".
الصفحة 314
يدعي كونه حسنا منهم أن تلزم طاعته والانقياد لأمره من حيث وجب الاقتداء به.
فأما العبد فلم يكلف طاعة مولاه إلا فيما لا يعلمه قبيحا مما تمكن من العلم بقبحه، وحكم ما يتمكن من العلم بقبحه حكم ما يعلمه قبيحا، فأما ما لا سبيل إلى العلم بحاله فيجوز أن لا يقبح منه وإن قبح من المولى، وليس هذه حال الإمام، لأن كلامنا على ما أمرنا باتباعه فيه مما نتمكن من العلم بحاله فلا بد أن يكون القبيح منه قبيحا منا.
قال صاحب الكتاب: " وقد ثبت أيضا أنه يلزم المأموم في الصلاة أن يتبع الإمام إذا لم يعلم صلاته فاسدة، ولا يخرج من أن يكون مطيعا وإن جوز في صلاة الإمام أن تكون قبيحة، لأنه إنما كلف أن يلزم اتباعه في أركان الصلاة، ولم يكلف أن يعلم باطن فعله فكذا القول في الإمام، وعلى هذه الطريقة يجري الكلام في الفتوى والأحكام وغيرها،... " (1).
يقال له: أما إمامة الصلاة فليست بإمامة حقيقية لأنه لم يثبت فيها معنى الاقتداء الحقيقي ولو تبرعنا بتسليم كونها إمامة على الحقيقة لم تخل المعارضة بها إما أن تكون من حيث جاز أن يكون القبيح من الإمام غير قبيح من المأموم، فهذا إنما جاز فيما لا يعلمه المأموم قبيحا ولا سبيل له إلى العلم به، كقصود إمام الصلاة وعزومه وما يجري مجراهما من باطن أمره، وكلامنا في الإمام على الاقتداء به فيما يمكن أن يعلم كونه حسنا أو قبيحا، أو أن تكون المعارضة من حيث اقتدينا بمن هو غير معصوم، فهذا الضرب من الاقتداء ليس هو الذي أحلنا أن يثبت إلا للمعصوم، والاقتداء بالإمام يخالف الاقتداء بإمام الصلاة، بل يخالف كل اقتداء بمن ليس بإمام
____________
(1) المغني 20 ق 1 / 90.
الصفحة 315
من رعيته، وليس بمنكر أن يؤمر بالاقتداء بمن ليس بإمام ما لم يظهر لنا قبح فعله، فإذا ظهر لنا لم يلزمنا الاقتداء به، وليس يصح مثل ذلك في الاقتداء بالإمام لوجوب حصول المزية التي ذكرناها، والذي يدل على ذلك إجماع الأمة على سبيل الجملة، على أنه لا بد أن يكون بين الإمام وبين رعيته وخلفائه فرق ومزية في معنى الإئتمام والاقتداء، وإذا ثبت ذلك ولم يمكن أن يشار إلى مزية معقولة سوى ما ذكرناه من أن الاقتداء بالإمام يجب أن يكون فيما عرف صوابه به، وكان فعله حجة فيه، وليس كذلك الاقتداء بغيره من أمرائه وخلفائه وصح ما قصدنا إلى إيضاحه، والقول في المفتي ووجوب اتباعه كالقول في إمام الصلاة فيجب أن يجري الكلام فيهما مجرى واحدا.
قال صاحب الكتاب: " وبعد، فإن هذا القول يوجب عليهم أن لا تنقاد الرعية للأمراء إذا لم يكونوا معصومين بمثل (1) هذه العلة التي ذكروها، وإذا لم يجب لأجل ذلك عصمتهم، ولم يمنع ذلك من وجوب طاعتهم، وما لم يعلم [ أنه ] (2) دعاهم إلى المعصية، فكذلك القول في الإمام،.... " (3).
يقال له: قد بينا أن الاقتداء بالإمام لا بد أن يكون مخالفا للاقتداء بكل من هو دونه من أمير وقاض وحاكم، لأن معنى الإمامة أيضا لا بد أن يكون مخالفا لمعنى الإمارة من غير رجوع إلى اختلاف الاسم، وإذا كان لا بد من مزية بين الإمام ومن ذكرنا من الأمراء وغيرهم في معنى الاقتداء فلا مزية يمكن إثباتها إلا ما ذكرناه، وليس لقائل أن يقول: إن الإمام
____________
(1) غ و خ " لمثل ".
(2) ما بين المعقوفين يدعو إليه السياق.
(3) المغني 20 ق 1 / 91.
الصفحة 316
يخالف الأمير بكثرة رعيته، وسعة عمله، لأنه جائز أن يستخلف الإمام على جميع أعماله، وسائر رعيته خليفة وخلفاء فيجعل إليهم التصرف فيما إليه التصرف فيه، من تدبير الأمور الحاضرة والغائبة، وتولية الولاة، واستخلاف الخلفاء فيما نأى من البلاد إلى غير ما ذكرناه مما يتصرف فيه الإمام، ويتولاه بنفسه، لأنه إذا جاز أن يتولى جميعه بنفسه جاز أن يستخلف على جميعه، كما أنه لما جاز أن يتولى بعضه بنفسه جاز أن يستخلف على بعضه، فلولا أن الحال في ثبوت المزية في معنى الاقتداء بين الإمام والأمير على ما ذكرناه، لوجب أن يكون ما قدرناه وأجزناه من استخلاف الإمام على جميع ما إليه خليفة إذ كان لا فرق بينهما في معنى الاقتداء بهما، والائتمام على ما يدعيه الخصوم قادحا في الاجماع، على أن الإمام لا يكون في الزمان إلا واحدا، وإذا وجبت علينا حراسة هذا الاجماع، وإبطال ما أدى إلى القدح فيه وجب القطع على أن حال الإمام مخالفة في معنى الاقتداء لحال خلفائه والولاة من قبله، وليس لأحد أن يقول إن الاجماع إنما انعقد على أن الإمام لا يكون في الزمان إلا واحدا على معنى أن الأمة لا تولي إلا واحدا، أو الرسول لا ينص إلا على واحد.
فأما جواز تولية الإمام خليفة يكون حكمه كحكمه في معنى الاقتداء، وسعة العمل (1) فليس يمنع منه الاجماع، لأن هذا القول من مخرجه تخصيص للاجماع، وإطلاقه يقتضي (2) إبطال هذا القول وما ماثله.
وليس له أيضا أن يقول: إن الاجماع إنما منع من ثبوت إمامين في
____________
(1) في خ " العلم " وما في المتن أوجه.
(2) خ " يقتضي القول بإبطال هذا القول ".
الصفحة 317
عصر واحد، يتسميان بالإمامة، ويدعيان بها، وليس بمانع من كون أحد المتوليين على الأمة ملقبا بالإمامة، والآخر ملقبا بالإمارة، لأن الأسماء لا معتبر بها، وإنما المعتبر بالمعاني فإذا ثبت معنى الإمامة في الاثنين كانا إمامين سواء لقبا بالإمامة (1) أو لم يلقبا، والاجماع مانع من هذا، على أنه لو لم يتسم الواحد بالإمامة، وتصرف فيما يتصرف فيه الأئمة، وحصل على الصفات التي تقتضي كون الإمام إماما لوجب كونه إماما على الحقيقة، من غير اعتبار بالتسمية أو اللقب، وكذلك القول في الاثنين.
قال صاحب الكتاب: " شبهة أخرى لهم، ربما قالوا: قد ثبت (2) أن من حق الإمام أن يكون واحدا في الزمان، وأنه يولي ولا يولى، ويعزل ولا يعزل، ويأخذ على يد غيره، ولا يؤخذ على يده، ويجب على غيره طاعته، ولا تلزمه طاعة غيره، فحل محل الرسول، فإذا وجبت عصمة الرسول وجبت عصمة الإمام، وإذا وجب في الرسول أن يكون متميزا من سائر الولاة فكذلك الإمام، وليس بعد صحة ذلك إلا القول بأنه لا بد من إمام معصوم في كل زمان ".
قال: " واعلم أن جميع ما أوردوه ليس بعلة في عصمة الرسول عليه السلام، وإنما يجب حمل الإمام على الرسول في العصمة إذا بين علة العصمة في الرسول، وأنها قائمة في الإمام، ولا يقتصر على الدعوى، وليست العلة ما ذكروها لكنها التي ذكرناها في كتابنا (3)، وهو أنه إذا كان حجة فيما يؤديه عن الله تعالى فيجب أن لا يجوز عليه ما ينقض كونه حجة
____________
(1) بالإمامة أو الإمارة خ ل.
(2) غ " قد بينا ".
(3) يعني المغني ولعله يشير إلى الجزء الخامس عشر منه الذي هو في النبوات والمعجزات.
الصفحة 318
من الغلط والسهو وغير ذلك... " (1).
يقال له: ليس ما ذكرته على الترتيب الذي رتبته بدال عندنا على وجوب عصمة الإمام، لأنك إنما جمعت فيما حكيته بين أشياء لا تأثير لها جملة، وبين أشياء مؤثرة، وأخرى تؤثر إذا ردت إلى بعض الأصول المقررة (2)، وبنيت عليها.
ونحن نفصل هذه الجملة تفصيلا يوضح عما قصدناه، ثم نعترض جملة كلامك الذي اعترضت به هذه الطريقة، ونبين عن مواقع الخلل فيه والفساد، فقد ضممت أيضا في الاعتراض على هذه الطريقة التي لم نرتض ترتيبها، واستضعفنا الاستدلال بها على الوجه الذي حكيته، بين صحيح وسقيم، وقادح وغير قادح، وليس لك أن تقول: إنني ما حكيت إلا ما اعتمد أصحابكم في كتبهم، فإنا لا نعلم أن أصحابنا اعتمدوا ما حكيته على ترتيبك، ولعل بعضهم إن كان اعتمده فعلى طريق التقريب، وربما أوردوا هذا الضرب من الكلام على طريق الفصل بين الإمام والأمير في وجوب العصمة إذا ألزمهم مخالفوهم أن يساووا بينهما، ومتى حكى هذا الكلام الذي حكيته على سبيل الفصل بين الإمام والأمير، والفرق بينه وبينه بعد عن الفساد، وليس كلما يورد على سبيل الفرق بين الشيئين يحسن أن يجعل اعتلالا، فإن للاعتلال مذهبا (3) يخالف مذهب الفصول بين الأشياء والفروق وهذا معروف عند أهل النظر.
ونحن نعود إلى ما وعدنا به من التفصيل: أما كون الإمام واحدا في
____________
(1) المغني 20 ق 1 / 91.
(2) المقدرة خ ل.
(3) فإن الاعتلال له مذهب، خ ل.
الصفحة 319
الزمان فلا تأثير له جملة في وجوب عصمته، وأما كونه يولي (1) فيمكن أن يكون له تأثير من جهة أنه لو لم يكن الخطأ عليها مأمونا لم يؤمن أن يولي من لا تحسن ولايته، ومن تكون ولايته سببا لهلاك الدين، وفساد المسلمين.
فأما كونه لا يولى فله تأثير واضح، لأنه إذا كان المراد بهذا القول أن أحدا من البشر لا يوليه، وأن ولايته إنما تكون من قبل القديم، علام الغيوب تعالى، فلا بد من أن يكون معصوما. لأن القديم تعالى لا يجوز أن يوليه إلا مع العلم بطهارة مغيبه، لأنه عز وجل عالم بذلك، وإنما جاز عند من جوز (3) اختيار الإمام أن يختار على ظاهره من حيث لم يكن للبشر سبيل إلى العلم بمغيبه، ولو كان لهم إلى ذلك سبيل لما جاز أن يقيموا إلا من يعلمون من حاله الطهارة، وحسن الطريقة، ويقطعون على باطنه، كما أنهم لما كان لهم طريق (3) إلى غلبة الظن فيمن يختص بهذه الأحوال لم يجز أن يقيموا إلا من يغلب على ظنهم ما ذكرناه من حاله.
فأما كونه يعزل (4) فتأثيره كتأثير كونه يولي، وقد بيناه، وأما كونه لا يعزل فلا تأثير له في عصمته على ما ذكرناه في اشتراط أن يكون واحدا.
فأما كونه يأخذ على يد غيره، ويجب على الغير طاعته فيرجع تأثيره إلى دليل الاقتداء الذي تقدم، لأنه يقال: إذا ثبت طاعته، وأخذه على الأيدي على الوجه الذي يجب للأئمة، وهو على جهة الاقتداء المخصوص
____________
(1) يشير إلى قول القاضي: " وأما قولهم: إن من حقه أن يولي ولا يولى، فمتنازع فيه " الخ أنظر المغني 20 ق 1 ص 92.
(2) سوغ، خ ل.
(3) سبيل، خ ل.
(4) يشير إلى كلام القاضي الذي لم ينقله بحرفه وهو " فأما قولهم: إنه يعزل ولا يعزل فلا تأثير له في العصمة " الخ أنظر المغني 20 ق 1 / 95.
الصفحة 320
الذي بيناه وجب أن يكون معصوما، وإلا أدى إلى وجوب الاقتداء به في القبيح فإن وقعت المعارضة بالأمير ووجوب الاقتداء به مع سقوط عصمته، فالجواب عنه ما تقدم، وقد مضى الكلام في نصرة هذا الدليل مستقصى، وأما كونه ممن لا تلزمه طاعة غيره ولا يؤخذ على يده فيرجع تأثير إلى الدليل الذي اعتبرنا فيه أنه لو لم يكن معصوما لاحتاج إلى إمام لحصول علة الحاجة، لأنه إذا أثبت أنه ممن لا يؤخذ على يده ولا طاعة لأحد عليه لم يخل حاله من وجهين، إما أن يكون معصوما أو غير معصوم، فإن كان غير معصوم وجبت حاجته إلى من يأخذ على يده لحصول العلة المحوجة إليه فيه، ولو جاز أن لا يكون على يده أخذ مع كونه غير معصوم لجاز مثل ذلك في كثير من الأمة، بل في جميعهم، وقد تقدم فساد هذا، فلا بد إذا من أن يكون معصوما وقد سلف من نصرة هذا الدليل، وذكر الزيادات عليه مما فيه كفاية.
فأما قول صاحب الكتاب: " إن العلة في عصمة الرسول ليست ما ذكرتموه. وإنما العلة ثبوت كونه حجة " (1) فقد تقدم لنا ما يدل على أن الإمام أيضا حجة في الأداء فيجب أن يكون معصوما على الطريقة التي فزع إليها صاحب الكتاب، وظن أنا لا نتمكن من مثلها.
وأما قوله: إنه ينازع (2) في كون الإمام من حقه أن يولي ولا يولى وادعاؤه إنه على مذهبه يولى وينصب كالأمير، وقوله: " ومتى قالوا: إن الإمامة تثبت بالنص فلذلك قلنا: أنه لا يولى فقد صاروا يعتمدون في أنه معصوم وفي النص على أنه معصوم " فمما لا يقدح في الكلام الذي حكاه
____________
(1) نقل هنا كلام القاضي بمعناه.
(2) يشير إلى قول القاضي الذي تقدم ذكره في الحاشية (فمتنازع فيه).
الصفحة 321
لأن القوم بنوا (1) كلامهم على أصولهم فلا يضرهم خلاف من خالفهم في أن الإمام يولى إذا رجعوا في إفساد ذلك إلى الدليل الواضح، ولهم على وجوب النص وإفساد الاختيار أدلة غير وجوب العصمة، وإن كان دليل العصمة أقواها " فليس يجب تعليق ما ظنه من كل واحد من الأمرين بالآخر.
فأما قوله: " أليس من ينص عليه يوليه؟ فلم قلتم: أنه لا يولى، وإنما يفارق حال الأمير بأنه يولى بعد الموت، والأمير يولي في حال الحياة؟
فإن قالوا: إذا نص عليه الرسول أو الإمام المتقدم فهو من قبل الله تعالى لا أنه يولى. قيل لهم: لا فرق بينكم وبين من قال في الأمير إذا ولاه الإمام أنه من قبل الله تعالى " فظاهر الفساد لأن مراد القوم بقولهم: إنه لا يولى معروف، وهو أن البشر لا يولونه، ولا يكون ولايته إلا من قبل الله تعالى، فيجب أن يكلموا على غرضهم، ويرجع إليهم في مرادهم بما أطلقوه من اللفظ والمعارضة بالأمير لا يلزم لأنهم يقولون: إن الدليل الدال على فساد اختيار الإمام، ووجوب نصبه من قبل (2) القديم تعالى ليس مثله في الأمير.
فأما قوله: " وبعد، فإنه إذا ثبت أنه لا يولى فمن أين ثبت أنه يجب أن يكون معصوما؟ وما تأثير هذه الصفة في العصمة حتى يجب لأجلها ثبوتها؟ وهلا جاز أن يكون ممن يولي ولا يولى ولا يكون معصوما؟
ولو أنه عليه السلام نص على الإمام ما كان يجب أن يكون معصوما عندنا، كما أنه عليه السلام يولي الأمراء وإن لم يكونوا معصومين... "
____________
(1) بني، خ ل.
(2) من جهة، خ ل.
الصفحة 322
فليس يخلو كلامه هذا من أن يكون على تسليم مرادنا بقولنا: إنه لا يولى أو على المنازعة في ذلك، فإن كان مع التسليم فقد دللنا على تأثير هذه الصفة في العصمة بما لا مطعن عليه، وليس صاحب الكتاب ممن يخالفنا في أن الإمام لو تولى الله تعالى نصبه لوجب أن يكون مأمون الباطن، لأنه قد صرح في كلامه في هذا الموضع بذلك، وإن كان منازعا فيما أردناه بقولنا: إن الإمام لا يولى فلا معنى لإخراجه كلامه مخرج التسليم وإظهاره العدول عن المخالفة إلى الموافقة، ومفهوم كلامه أن الأمر إذا كان على ما ذكرتم فمن أين أنه يجب أن يكون معصوما، وقد كان يجب إذا كان منازعا أن يقيم على كلامه الأول ولا يعدل عنه.
فأما قوله: " وبعد، فلو أنه تعالى تعبد الإمام بأن يقوم بالحدود والأحكام، ولم يجوز له أن يولى كان لا يمتنع أن يكون التولية إلى صالحي الأمة فليست هذه الصفة بواجبة للإمام حتى يصح أن يجعل علة في العصمة " فلسنا نعلم من أي وجه كان كلامه هذا مفسدا لتأثير كون الإمام ممن تولى في العصمة.
فيقال له: أتوجب عصمته إذا كان له أن يولي، وإن سلمنا لك تطوعا جواز رد التولية إلى صالحي الأمة والعدول بها عنه على فساد ذلك عندنا، فإن قال: لا، قيل له: فلم نرك أفسدت ذلك بشئ أكثر من ذكر تقدير لم يثبت، وهو تقديرك أن تكون الولاية إلى غيره ولو ثبتت له لم يبطل ما قصدناه بالكلام من إيجاب كون الإمام معصوما إذا كانت إليه الولاية، وهذا موضع الخلاف لأنا لم نختلف في صفة من لا يولى بل فيمن له أن يولي.
فإن قال: إنما أردت أنها لو كانت علة في العصمة للزمت ووجبت على أصلكم وإذا جاز بما قدرته خروج الإمام عنها بطل أن تكون علته.
الصفحة 323
قيل له: ولم لا يكون علة في العصمة وإن لم تلزم في كل حال لأنها علة في العصمة من جملة علل فقد أردنا أن نزول وتثبت عصمة الإمام لغيرها مما لا يجوز خروجه عنه، ولا يمنع ذلك من تأثير العلة التي ذكرناها في العصمة إذا ثبتت.
وبعد، فإن من اعتل بهذا الوجه لم يعتل لعصمة الإمام على سائر الوجوه، وعلى كل حال يقدر له، ويمكن أن يحصل عليها، بل إنما اعتل لعصمته مع أنه على الصفات المعلوم حصولها له، التي من جملتها كونه ممن يولي، وفي عصمة من هذه حاله خالفهم خصومهم فيجب أن يفسد اعتلالهم على وجهه، ولم نجدك تعرضت لذلك.
فأما ما طعن به من كونه يعزل فالكلام عليه كالكلام فيما طعن به في كونه يولي، لأنه طعن في الأمرين بما ذكره من التقدير وقد مضى بيان فساده.
فأما قوله: " إن كونه يأخذ على يد غيره فغير مسلم " قال: " لأن عندنا أن الإمام يأخذ على يده العلماء والصالحون، وينهونه على غلطه، ويردونه عن باطله، ويذكرونه بما زل عنه " فقد أطلق في الإمام ورعيته ما كنا نعهد أصحابه يتجافونه (1)، ويعتذرون من إطلاقه (2)، ولم يبق بعد ما أطلقه إلا أن يقول: إن طاعتهم عليه مفترضة، وأنهم أئمة له، ودعاة لأمره، وإن كان قد أعطى معنى ذلك فيما تقدم وصرح به، وكل هذا لو سلم من الفساد لم يكن مخلا بالمراد في هذا الموضع، لأن رد العلماء على الإمام، وتنبيههم له على الغلط عند من جوزه إنما يختص حال الخطأ
____________
(1) يتجافونه: يتباعدون عنه.
(2) منه أن يطلقوه، خ ل.
الصفحة 324
الواقع من الإمام، ولا يدلهم عليه، ولا يسوغ لهم من تنبيهه والأخذ على يده ما يسوغ له أن يستعمله معهم، ولذلك لا يلزمه طاعتهم، وتلزمهم طاعته، وهذه الجملة لا خلاف فيها، لأن الإجماع منعقد على أنه لا بد من مزية ثابتة بين الإمام ورعيته في باب الطاعة، والأخذ على اليد وكيف لا يكون بين الإمام والمأموم مزية فيما ذكرناه ونحن نعلم أن المزية لو ارتفعت حتى يجب على كل حال واحد من طاعة الآخر في الشئ بعينه مثل ما يجب للآخر عليه لكان ذلك فاسدا مستحيلا لا يخفى على عاقل بطلانه، وإذا ثبت ما أردناه من المزية للإمام على الرعية في باب الطاعة، والأخذ على اليد استحال أن تكون العلة المحوجة إلى من له تلك المزية حاصلة في الإمام، لأنها لو حصلت فيه كحصولها في رعيته لاحتاج إلى مثله وقد مضى هذا الكلام مستوفى.
فأما قوله: " ثم يقال لهم على طريقة الابتداء: إذا كان الذي يقوم به الإمام هو الذي يقوم به الأمير ولا مزية له، ولم يجب في الأمير أن يكون معصوما، فكذلك في الإمام، لأن العصمة لو وجبت فيه لكان إنما تجب لأمر يقوم به لا شئ يرجع إلى خليقته (1) وأوصافه وتكليفه في نفسه " (2).
فقد بينا أن الذي يقوم به الإمام يفارق لما يقوم به الأمير، وأنه لا بد من مزية بين ما يتولاه الإمام والأمير، وذكرنا أن القول بتساوي ولايتهما يؤدي إلى القدح في الإجماع المنعقد، على أنه لا يصح في زمان واحد كون إمامين على أن لو كان الذي يقومان به ويتوليانه واحدا - كما يريد الخصوم - لم تجب عصمة الأمير قياما على عصمة الإمام، لأن الإمام لو لم يكن معصوما
____________
(1) الخليقة: الطبيعة والجمع خلائق. وفي المغني " خلقته ". فيكون المعني الصورة.
(2) المغني 20 ق 1 / 96.
الصفحة 325
لوجب أن يكون له إمام، وقد علمنا أنه لا إمام له فيجب القطع على عصمته، والأمير إذا لم يكن معصوما واحتاج إلى إمام فله إمام، وهو إمام الجماعة (1) ولم يخرج الأمير على هذا القول من جملة الرعية المؤتمين بالإمام، فلا وجه يقتضي عصمته.
وأما قوله: " ومتى توصلوا بنص الرسول على الإمام إلى العصمة لزمهم فيمن يوليه الإمام، وولاه الرسول في حال حياته أن يكونوا معصومين، ومتى جاز أن يولي الأمراء وهو حي على النواحي ولا عصمة، فما الذي يمنع لو نص على الإمام أن لا يكون معصوما " فرجوع منه إلى التوهم الأول الذي قد بينا أن المذهب بخلافه، لأن من توصل منا بنص الرسول صلى الله عليه وآله على الإمام إلى العصمة لم يذهب إلى أن ذلك النص وإن كان صادرا من جهة الرسول صلى الله عليه وآله، ومسموعا من لفظه، واقع برأيه، وراجع إلى اختياره، بل يقولون: إنه من جهة رب العالمين - جلت عظمته - وأن الرسول صلى الله عليه وآله مؤد له، ومعبر عنه، وليس هذا بمشكل من مذهبهم، وغامض من قولهم، حتى يشتبه مثله على خصومهم، وإذا كانوا بهذا النص توصلوا إلى العصمة لم يكن ما ذكره قادحا، وكيف يجوز أن يظن عليهم إيجاب عصمة الإمام لردها إلى نص الرسول صلى الله عليه وآله الذي صدر من جهته وذلك عندهم حكم جميع الأمراء والخلفاء في حياته؟ وكيف يصح أن يجمعوا بين اعتقاد عصمة الإمام لردها إلى نص الرسول صلى الله عليه وآله على الوجه الذي راعيناه لا لغير ذلك، واعتقاد كون الأمراء مع أنهم منصوص عليهم على هذا الوجه غير معصومين، وهذا سوء ظن بهم شديد.
____________
(1) يريد إمام الجميع وهو المعصوم.
الصفحة 326
قال صاحب الكتاب: " شبهة أخرى لهم، وربما أوجبوا الإمامة لمن هو أفضل في الزمان بأن يقولوا: إنها مستحقة (1) بالفضل لما يقارنها من التعظيم والاجلال (2) بنفاذ الأمر، ولزوم الانقياد، فلا بد من أن يكون إماما إذا كان حاله هذا، ولا يجوز أن يكون كذلك إلا بأمر يتميز به من نص أو معجز ".
قال: " وقد بينا في الكلام في النبوءات [ من هذا الكتاب ] (3) أن الرسالة ليست مستحقة، وأنها تكليف لأمر تعظم (4) فيه المشقة، وأنه يستحق الرفعة لقيامه بذلك، وتوطينه النفس على الصبر عند العوارض، [ وبما يقدم من طاعاته ] (5) ودللنا على ذلك بوجوه كثيرة فيجب أن تكون الإمامة كمثلها، بل هي أولى بذلك فإذا بني هذا الكلام على كونها مستحقة - وذلك لا يصح - فقد بطل قولهم " (6) والذي نذهب إليه أن الإمامة غير مستحقة، وكذلك الرسالة، وأن الذي يذهب إليه طائفة من أصحابنا من أنهما (7) يستحقان استحقاق الثواب والجزاء، باطل لا شبهة في
____________
(1) أي مستحقة بصفات تظهر للناس كعمل وعبادة، وقد نفى المرتضى ذلك - كما ستراه - وخطأ من يقول به لأن الإمامة كالنبوة لا تكون إلا باصطفاء من الله تعالى (الله أعلم حيث يجعل رسالته) وقد اصطفى الله سبحانه عيسى عليه السلام وجعله (نبيا) ساعة ولادته ولم يسبق منه عمل ولا عبادة، واختار يحيى عليه السلام وآتاه (الحكم صبيا) وكذلك الحال في الإمامة.
(2) ما بين النجمتين ساقط من " المغني ".
(3) ما بين الحاصرتين ساقط من " الشافي " وأعدناه من " المغني ". ويعني بالكتاب المغني والجزء الخامس عشر منه في النبوات والمعجزات.
(4) خ " عظيم ".
(5) كذلك.
(6) المغني 20 ق 1 / 97.
(7) أي الرسالة والإمامة.
الصفحة 327
مثله (1).
وفي إفساد كونهما مستحقين طرق كثيرة:
فمما أشار إليه صاحب الكتاب من ذكر المشقة والكلفة (2) أحدها وهو آكدها، ونحن وإن لم نقل في الإمامة أنها مستحقة بأعمال متقدمة على الوجه الذي رغبنا عنه، فإنا لا نوجبها إلا للأفضل لما سنذكر عند الكلام في المفضول، على أن من ذهب فيها إلى الاستحقاق لا يصح أن يستدل على وجوب الإمامة بما حكاه، لأنه قد يجوز أن لا يكون في الزمان من بلغت أعماله القدر (3) الذي تستحق بمثله الإمامة، وليس بواجب أن يكون في كل زمان من تبلغ أعماله إلى هذا الحد، ولا يصح أيضا أن يستدل بطريقة الاستحقاق على العصمة، لأنه قد يجوز أن يستحقها بأعماله، وكثرة ثوابه من لم يكن معصوما، وغير ممتنع أن تزيد طاعات من ليس بمعصوم على طاعات المعصوم فيزيد ما يستحقه بها من الطاعات الثواب على ثواب المعصوم، فلو سلم للقوم أن الإمامة مستحقة بأعمال لم يثبت لهم وجوبها على الحد الذي يذهبون إليه، ولا العصمة أيضا من الوجه الذي أوضحناه، فتشاغل صاحب الكتاب مع هذا بمنازعته لهم في الاستحقاق لا وجه له مع بطلان قولهم من دونه، وإنما يصح أن يستدل بكون الإمامة مستحقة من ذهب (4) إلى ذلك فيها على أن الإمام أفضل أهل زمانه فيكون ذلك وجها يتعلق بمثله، وإن كان الأصل الذي بني عليه فاسدا.
____________
(1) " كمثله ".
(2) لأنه قال: " إن الرسالة ليست مستحقة وإنها تكليف لأمر تعظم فيه المشقة " ص 97.
(3) خ " إلى هذا القدر ".
(4) يذهب خ ل.
الصفحة 328
فأما قوله: " ثم يقال لهم: لا فرق بينكم في قولكم: إنها مستحقة فيطلب لها المعصوم، والأفضل، وبين من قال بمثله في الإمارة، لأنا قد بينا أن الذي يقوم به الإمام هو ما يقوم به الأمير ظاهرا " وقد بينا أنا لا نذهب في الإمامة إلى أنها مستحقة، ولا نجعل كونها مستحقة علة فيما ذكره، وفصلنا فيما تقدم بين الإمام والأمير في معنى الولاية، ثم على تسليم تساويهما في الولاية لا يلزم تساويهما في غيرها بما بينا به أن ما يوجب عصمة أحدهما لا يوجب عصمة الآخر، وتكرار ذلك لا فائدة فيه.
فأما قوله: " وبعد، فإن علتهم توجب أن غير الإمام لا يساويه في العصمة والفضل وإلا كان يجب أن يكون إماما، ولما صح بأن الإمام لا يكون إلا واحدا " فغير لازم للقوم الذاهبين في الإمامة إلى الاستحقاق لأن لهم أن يقولوا: إن الاعتبار في استحقاق الإمامة ليس بالعصمة وحدها فيلزمنا أن نمنع من مساواة غير الإمام له في العصمة، بل الاعتبار بزيادات الفضل، وكثرة الثواب، وليس يجوز أن يساوي الإمام عندهم في الفضل المستحق به الإمامة من ليس بإمام، وهذا نص مذهبهم وصريحه، والعقل يجوز ثبوت عدة أئمة، وإنما السمع منع من ذلك، وعند منع السمع منه قطع القوم على أنه لا يتفق لاثنين من الفضل ما يستحق به الإمامة وإن جاز أن يكون ذلك قد اتفق فيما مضى، ونحن وإن لم نذهب في الإمامة إلى الاستحقاق، وكان مذهبنا فيها موافقا لمذهب صاحب الكتاب فغير منكر أن نبين فساد ما قدر أنه يلزم القائلين بذلك، وليس بلازم في الحقيقة ونميز صحيح ذلك من باطله إذ كان الخلاف في الطريقة إلى نصرة المذهب، وربما لا يكون خلافا في المذهب نفسه.
فأما قوله: " ويلزم القوم في أيام أمير المؤمنين عليه السلام أن يكون حال الحسن والحسين عليهما السلام كحاله في الإمامة، لأنهما معصومان
الصفحة 329
فاضلان وأن لا يمكن أن يقال: إن له عليه السلام مزية في الإمامة وذلك يوجب ثبوت أئمة في الزمان، ويلزمهم أن لا يصيروا الثاني إماما عند تقصي الأول (1)، بل يجب أن يكون إماما معه للعلة التي ذكروها، بل يلزمهم أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام في أيام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إماما (2) فمما لا يلزم أيضا لأن الإمامة ليس تستحق عندهم بالعصمة حسب ما ذكرناه من قبل، ولا بها وبضرب من الفضل المخصوص، بل إنما تستحق على مذهبهم بقدر من الفضل مخصوص، ومن انتهى إليه كان إماما، وعندهم أن أمير المؤمنين عليه السلام لم ينته في أيام الرسول صلى الله عليه وآله إلى ذلك القدر من الفضل، وإنما انتهى إليه في الحال التي وجبت له فيها الإمامة، وهي بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بلا فاصل، وكذلك القول في الحسن والحسين عليهما السلام في أيام أمير المؤمنين عليه السلام، وهذه أيضا حال كل إمام تثبت له الإمامة بعد من كان قبله من الأئمة في أنه لا يجب أن يكون إماما في حال من كان إماما قبله، لأنه لا يحصل له من الفضل في تلك الأحوال القدر الذي يستحق به الإمامة وسقوط هذا عن القوم واضح لا إشكال فيه.