الصفحة 107
فصل
فإن قال: قد وضح لي ما ذكرتموه في أمر هذه الآية، وأثبتموه في معناها، كما ظهر الحق لي فيما تقدمها(1)، وانكشف بترادف الحجج التي أوردتموها ما كان مستورا عني من ضعف تأول مخالفيكم لها، غير أني واصف استدلالا لهم من آي آخر على ما يدعونه من إمامة أبي بكر وعمر، لأسمع ما عندكم فيه، فإن أمره قد اشتبه علي ولست أجد محيصا عنه، وذلك أنهم قالوا: وجدنا الله تعالى يقول في سورة الفتح: { سيقول لك المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا }(2).
ثم قال: { قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم، من قبل يعذبكم عذابا أليما }(3).
____________
(1) (في أمر.. تقدمها) ليس في ب، م.
(2) سورة الفتح 48: 15.
(3) سورة الفتح 48: 16.
الصفحة 108
قالوا: فحظر الله على نبيه صلى الله عليه وآله إخراج المخلفين معه بقوله : { قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل }.
ثم أوجب عليهم الخروج مع الداعي لهم من بعده إلى قتال القوم الذين وصفهم بالبأس الشديد من الكفار، وألزمهم طاعته في قتالهم حتى يجيبوا إلى الإسلام ووجدنا الداعي لهم إلى ذلك من بعده أبا بكر وعمر،.
لأن أبا بكر(1) دعاهم إلى قتال المرتدين، وكانوا أولي بأس شديد على الحال المعروفة، ثم دعاهم عمر بن الخطاب من بعده إلى قتال أهل فارس، وكانوا كفارا أشداء، فدل ذلك على إمامتهما بما فرض الله تعالى في كتابه من طاعتهما(2)، فهذا دليل للقوم على نظامه الذي حكيناه، فما قولكم فيه؟
قيل له: ما نرى في هذا الكلام - على إعجاب أهل الخلاف به - حجة تؤنس، ولا شبهة تلتبس، وليس فيه أكثر من الدعوى العرية عن البرهان، ومن لجأ إلى مثله فيما يجب بالحجة والبيان، فقد كشف عن عجزه وشهد على نفسه بالخذلان، وذلك أن متضمن الآي ينبئ عن منع المخلفين من اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله عند الانطلاق إلى المغانم التي سأله القوم اتباعه ليأخذوها(3)، وليس فيه حظر عليه صلوات الله عليه وآله إخراجهم
____________
(1) (لأن أبا بكر) ليس في ب، م.
(2) ممن ذهب إلى هذا الرأي ابن جريج والقرطبي والزمخشري والبيضاوي، أنظر تفسير القرطبي 16: 272، الكشاف 4: 338، تفسير البيضاوي 2: 410، الدر المنثور 7: 520.
(3) في ب، ح، م، له وأخذها.
الصفحة 109
معه في غير ذلك الوجه، ولا منع له كم من إيجاب الجهاد عليهم معه في مغاز أخر.
وبعد تلك الحال، فمن أين يجب، إذا كان الله تعالى قد أمره بإيذانهم عند الرد لهم عن وجه الغنيمة بالدعوة فيما بعد إلى قتال الكافرين، أن يكون ذلك بدعاء من بعده دون أن يكون بدعائه هو بنفسه صلوات الله عليه وآله، إذا كان صلى الله عليه وآله قد دعا أمته إلى قتال طوائف من الكفار أولي بأس شديد بعد هذه الغزاة التي غنم المسلمون، وحظر الله تعالى فيها على المخلفين الخروج، وهل فيما ذكروه من ذلك أكثر من الدعوى على ما وصفناه؟
فصل
ثم يقال لهم: أليس الوجه الذي منع الله تعالى المخلفين من اتباع النبي صلى الله عليه وآله فيه الوصول إلى الغنائم منه بالخروج معه، هو فتح خيبر، الذي بشر الله تعالى به أهل بيعة الرضوان على ما اتفق عليه أهل التفسير، وتواتر به أهل السير والآثار(1)؟! فلا بد من أن يقولوا: بلى. وإلا سقط الكلام معهم فيما يتعلق بتأويل القرآن، ويرجع فيه إلى علماء التفسير ورواة الأخبار، إذا ما وصفناه إجماع ممن سميناه.
فيقال لهم: أو لستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قد غزا بعد غزوة خيبر غزوات عديدة، وسار بنفسه وأصحابه إلى مواطن كثيرة،
____________
(1) معالم التنزيل 5: 170، الكشاف 4: 337، تفسير الرازي 28: 90، تفسير القرطبي 16: 270 وغيرها.
الصفحة 110
واستنفر(1) الأعراب وغيرهم فيها إلى جهاد الكفار، ولقي المسلمون في تلك المقامات من أعدائهم ما انتظم وصف الله تعالى له بالبأس الشديد، لا سيما بمؤتة(2) وحنين وتبوك سوى ما قبلها وبينها وبعدها من الغزوات؟! ولا بد أيضا من أن يقولوا: بلى. وإلا وضح من جهلهم ما يحظر مناظرتهم في هذا الباب.
فيقال لهم: فمن أين يخرج لكم مع ما وصفناه - أيها الضعفاء الأوغاد - وجوب طاعة المخلفين من الأعراب بعد النبي صلى الله عليه وآله دون أن يكون هو الداعي لهم بنفسه على ما بيناه؟ فلا يجدون حيلة في إثبات ما ادعوه مع ما شرحناه.
فصل
ثم يقال لهم: ينبغي أن تنتبهوا من رقدتكم، وتعلموا أن الله تعالى لو أراد منع المخلفين من اتباع النبي صلى الله عليه وآله في جميع غزواته - على ما ظننتموه - لما خص ذلك بوقت معين دون ما سواه، ولكان الحظر له واردا على الاطلاق، وبما يوجب عمومه في كل حال، ولما لم يكن الأمر كذلك، بل كان مختصا بزمان الغنائم التي تضمن البشارة فيها القرآن، وبوصف مسألتهم له بالاتباع دون حال الامتناع منه أو الإعراض(3) عن
____________
(1) في أ: واستبق، وفي م: استفز.
(2) مؤتة: قرية في حدود الشام. " معجم البلدان 5: 219 ".
(3) في أ، ب، م: والإعراض.
الصفحة 111
السؤال، دل على بطلان ما توهمتموه، ووضح لكم بذلك الصواب.
فصل آخر
وقد ظن بعض أهل الخلاف بجهله وقلة(1) علمه أن هؤلاء المخلفين من الأعراب هم الطائفة الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله في غزوة تبوك، وكانت مظاهرة له بالنفاق، فتعلق فيما ادعاه من حظر النبي صلى الله وآله عليهم الاتباع له على كل حال، بقوله جل اسمه في سورة التوبة: { فإن رجعك الله إلى طائفة منهم استأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين }(2).
فقال: هذا هو المراد بقوله في سورة الفتح: { كذلكم قال الله من قبل }(3) وإذا كان قد منعه من إخراجهم معه أبدا، ثبت أن الداعي لهم إلى قتال القوم الذين وصفهم بالبأس الشديد هو غيره وذلك مصحح عند نفسه ما ادعاه من وجوب طاعة أبي بكر وعمر وعثمان على ما قدمنا القول فيه وبيناه آنفا.
فيقال له: أيها الغافل الغبي الناقص، أين يذهب بك وهذه
____________
(1) في ب، ح، م: دون.
وممن ذهب إلى هذا الرأي ابن زيد والجبائي والفخر الرازي، أنظر تفسير الطبري 26: 51، والثعالبي 4: 175 والفخر الرازي 28: 90.
(2) سورة التوبة 9: 83.
(3) سورة الفتح 48: 15.
الصفحة 112
الآية وما قبلها من قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل }(1) نزلت في غزوة تبوك بإجماع علماء الأمة، ولتفصيل ما قبلها من التأول قصص طويلة قد ذكرها المفسرون، وسطرها مصنفو السير والمحدثون؟!
ولا خلاف أن الآيات التي نزلت في سورة الفتح نزلت في المخلفين عن الحديبية، وبين هاتين الغزوتين من تفاوت الزمان ما لا يختلف فيه اثنان من أهل العلم، وبين الفريقين أيضا في النعت والصفات اختلاف في ظاهر القرآن.
فكيف يكون ما نزل بتبوك - وهي في سنة تسع من الهجرة - متقدما على النازل في عام الحديبية - وهي سنة ست - لولا أنك في حيرة تصدك عن الرشاد؟!
ثم يقال له: فهب أن جهلك بالأخبار، وقلة معرفتك بالسير والآثار، سهل عليك القول في تأويل القرآن بما قضى على بطلانه التأريخ المتفق عليه بواضح البيان، أما سمعت الله جل اسمه يقول في المخلفين من الأعراب: { ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم، من قبل يعذبكم عذابا أليما }(2).
____________
(1) سورة التوبة 9: 38.
(2) سورة الفتح 48: 16.
الصفحة 113
فأخبر عن وقوع الدعوة لهم إلى القتال على الاستقبال، وإرجاء أمرهم في الثواب والعقاب بشرطه في الطاعة منهم والعصيان، ولم يقطع بوقوع أحد الأمرين منهم على البيان.
وقال جل اسمه في المخلفين الآخرين من المنافقين المذكورين في سورة براءة: { فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين * ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون }(1).
فقطع على استحقاقهم العقاب(2) وأخبر نبيه صلى الله عليه وآله بخروجهم من الدنيا على الضلال، ونهاه عن الصلاة عليهم إذا فارقوا الحياة، ليكشف بذلك عن نفاقهم لسائر الناس، وشهد عليهم بالكفر بالله عز اسمه وبرسوله صلى الله عليه وآله بصريح الكلام، ولم يجعل لهم في الثواب شرطا على حال، وأكد ذلك بقوله تعالى: { ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون }(3).
وهذا جزم من الله تعالى على كفرهم في الحال، وموتهم على الشرك
____________
(1) سورة التوبة 9: 83، 84.
(2) في بـ نسخة بدل، وفي ح: العذاب.
(3) سورة التوبة 9: 85.
الصفحة 114
به، وسوء عاقبتهم وخلودهم في النار، وقد ثبت في(1) العقول فرق ما بين المرجأ أمره فيما يوجب الثواب والعقاب(2)، وبين المقطوع له بأحدها(3) على الوجوه كلها.
وإن الإرجاء لما ذكرناه، والشرط الذي ضمنه كلام الله تعالى فيما تلوناه، لا يصح اجتماعه مع القطع، بما شرحناه من متضمن الآي الأخر على ما بيناه، لشخص واحد ولا لأشخاص متعددة على جميع الأحوال، وإن من جوز(4) ذلك وارتاب في معناه فليس بمحل من يناظر في الديانات، لأنه لا يصير إلى ذلك إلا بآفة تخرجه عن حد(5) العقلاء أو مكابرة ظاهرة وعناد، وهذا كاف في فضيحة هؤلاء الضلال الذين حملهم الجهل بدين الله، والنصب لآل محمد نبيه صلى الله عليه وآله على القول في القرآن بغير هدى ولا بيان، نسأل الله التوفيق، ونعوذ به من الخذلان.