الصفحة 65
فصل
فإن قال قائل: لسنا ندفع أنه قد كان في وقت رسول الله صلى الله عليه وآله طوائف من أهل النفاق يستترون(1) بالإسلام، وأن منهم من كان أمره مطويا عن النبي صلى الله عليه وآله، منهم من فضحه الوحي وعرفه الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله، ولا ندفع أيضا أنه قد وقع من جماعة من الصحابة الأخيار ذلك سهوا عن الصواب، وخطأ في الهزيمة من الذي فرض عليهم مصابرته في الجهاد، فإن الله تعالى قد عفا عنهم بما أنزله في ذلك من القرآن.
لكنا ندفعكم عن تخطئة أهل السقيفة، ومن اتبعهم من أهل السوابق والفضائل، ومن قطع له رسول الله صلى الله عليه وآله بالسلامة، وحكم له بالصواب(2)، وأخبر عنه أنه من أهل الجنان، كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي عليه السلام، وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن نفيل وعبد الرحمن بن عوف الزهري وأبي عبيدة بن الجراح، الذين(3) قال
____________
(1) في م: يستهزؤن.
(2) في أ، ح: بالثواب.
(3) (وأبي عبيدة بن الجراح، الذين) ليس في ب.
الصفحة 66
النبي صلى الله عليه وآله فيهم: " عشرة من أصحابي في الجنة "(1) على ما جاء به الثابت في الأخبار، ومن قاربهم في الفضائل، وماثلهم في استحقاق الثواب، فيجب أن يكون الكلام في هؤلاء القوم على الخصوص، دون العموم في الأتباع والأصحاب.
قيل لهم: لو كان سؤالكم فيما سلف عن خاصة من عممتموه على الاطلاق، لصدر جوابنا عنه بحسب ذلك على التمييز والإفراد، لكنكم تعلقتم بالاسم الشامل، فاغتررتم باستحقاق التسمية بالصحبة والاتباع على الاطلاق، فأوضحنا لكم عن غلطكم فيما ظننتموه منه بما لا يستطاع دفعه على الوجوه كلها والأسباب.
وإذا كنتم الآن قد رغبتم عن ذلك السؤال، واعتمدتم في المسألة عمن ذكرتموه على الخصوص دون كافة الأصحاب، فقد سقطت أعظم أصولكم في الكلام، وخرجت الصحبة والاتباع والمشاهدة وسماع الوحي والقرآن، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والإنفاق والجهاد من إيجاب الرحمة والرضوان، وسقط الاحتجاج في الجملة، بالعصمة من كبائر الآثام والردة عن الإسلام بذلك، وبما رويتموه عن(2) النبي صلى الله عليه وآله من الأخبار، ولم يبق لكم فيمن تتولونه وتدينون(3) بإمامته إلا الظن والعصبية
____________
(1) سنن أبي داود 4: 211 / 4649، سنن الترمذي 5: 648 / 3748، كنز العمال 11:
638 / 33105، و 646 / 33137 مع اختلاف.
(2) (وسماع الوحي.. رويتموه عن) من نسخة أ.
(3) في أ: فيما توالونه وتتقون.
الصفحة 67
للرجال، والتقليد في الاعتقاد، والاعتماد على ما يجري مجرى الأسمار(1) والخرافات، وما لا يثبت على السير والامتحان(2)، وسنقفكم على حقيقة ذلك فيما نورده من الكلام، إن شاء الله تعالى.
فصل
وعلى أن الذي تلوناه في باب الأسرى، وإخبار الله تعالى عن إرادة المشير به لعرض الدنيا، وحكمه عليه باستحقاق تعجيل العقاب، لولا ما رفع عن أمة رسول الله صلى الله عليه وآله من ذلك، وأخره للمستحقين منهم إلى يوم المآب، لخص أبا بكر ومن شاركه في نيته وإرادته فيه، لأنه هو المشير في الأسرى بما أشار على الاجماع من الأمة والاتفاق، فما عصمته السوابق والفضائل على ما ادعيتموه له من الأخبار بعاقبته، والقطع له بالجنان، حسبما اختلفتموه من الغلط في دين الله عز وجل، والتعمد لمعصية الله، وإيثار عاجل الدنيا على ثواب الله تعالى، حتى وقع من ذلك ما أبان الله به عن سريرته، وأخبر لأجله عن استحقاقه لعقابه، وهو وعمر وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد وسعيد وأبو عبيدة بن الجراح في جملة من انهزم يوم أحد، وتوجه إليهم الوعيد من الله عز وجل، ولحقهم التوبيخ والتعنيف على ما اكتسبوه بذلك من الآثام في قوله
____________
(1) أي أحاديث الليل. أنظر النهاية 2: 399.
(2) في ب: والاستحسان.
الصفحة 68
تعالى: { إذ تصعدون ولا تلون على أحد }(1) الآية.
وكذلك كانت حاله يوم حنين، بلا اختلاف بين نقلة الآثار، ولم يثبت أحد منهم مع النبي صلى الله عليه وآله، وكان أبو بكر هو الذي أعجبته في ذلك اليوم كثرة الناس، فقال: لم نغلب اليوم من قلة. ثم كان أول المنهزمين، ومن ولى من القوم الدبر، فقال الله تعالى: { ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين }(2) فاختص من التوبيخ به لمقاله بما لم يتوجه إلى غيره، وشارك الباقين في الذم على نقض العهد والميثاق.
وقد كان منه ومن صاحبه يوم خيبر ما لا يختلف فيه من أهل العلم اثنان، وتلك أول حرب حضرها المسلمون بعد بيعة الرضوان، فلم يفيا لله تعالى بالعقد مع قرب العهد، وردا راية رسول الله صلى الله عليه وآله على أقبح ما يكون من الانهزام، حتى وصفهما رسول الله صلى الله عليه وآله بالفرار، وأخرجهما من محبة الله عز وجل، ومحبة رسوله صلى الله عليه وآله بفحوى مقاله لأمير المؤمنين عليه السلام، أو ما يدل عليه الخطاب حيث يقول: " لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كرارا غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه "(3) فأعطاها أمير المؤمنين عليه السلام.
هذا وقد دخل القوم كافة سوى أمير المؤمنين عليه السلام في قوله تعالى:
____________
(1) سورة آل عمران 3: 153.
(2) سورة التوبة 9: 25.
(3) تقدم مع تخريجاته في ص 34.
الصفحة 69
{ ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا }(1).
____________
(1) سورة الأحزاب 33: 15.