وفيه فصول، منها في الآيات، ومنها في الروايات، ويلحقه كلام في وقعة الجمل ونحوها.
ذكر بعض الجهال طرفا من الالباس على ضعفاء الناس، أن مذهب الشيعة حدث على رأس أربعمائة من خلافة بني العباس، ولم ينظر إلى قول أكابر شيوخه كابن مسكويه وغيره ذكر في كتابه تجاريب الأمم أنه لما قتل الحسين عليه السلام اجتمعت الشيعة بالكوفة وقد ذكرنا علة تسمية الرافضة في باب المجادلة، ولو سلم ذلك فحدوث اللقب قد يتوخر عن حدوث الملقب، وقد قال يحيى القرشي في منهاج التحقيق: إن معاوية لما سن سب علي عليه السلام سمى ذلك عام السنة وبه سميت أهل السنة لا ما يوهمون به أهل السنة والجماعة.
وذكر ابن عبد ربه في كتاب العقد أن هذين أحدثهما معاوية بعد قتل علي وصلح الحسن، ونحوه ذكر العسكري في كتاب الزواجر، وحكى الكرابيسي أن ذلك من يزيد حين دخل عليه رأس الحسين عليه السلام، وحكى صاحب الإبانة أن الحجاج قال: سنة الجماعة سنة أربعين، وقال أبو يوسف: يقولون: السنة السنة إنما هي سنن الحجاج وأصحاب الشرط.
وفي مسند ابن حنبل قال أنس: ما أعرف اليوم شيئا مما كنا عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله قلنا: فالصلاة قال: أولم يضعوا فيها ما قد علمتم.
قال الصاحب:
حب علي بن أبي طالب هو الذي يهدي إلى الجنة
إن كان تفضيلي له بدعة فلعنة الله على السنة
الصفحة 85
وقد أسند ابن السمعاني وابن مردويه قول النبي صلى الله عليه وآله: من سب عليا فقد سبني وروى ابن مردويه من عدة طرق: من سب عليا فقد سبني ومن سبني فقد سب الله، ومن طريق الحسن وزيد ابني علي عليه السلام نحو ذلك قال شاعر:
لعن الله من يسب عليا وحسينا من سوقة وإمام
أيسب المطهرون جدودا وكريموا الأخوال والأعمام
وروى مسندا إلى أنس قول النبي صلى الله عليه وآله: أن لله خلقا ليسوا من ولد آدم ولا إبليس، وهم القنابر يقولون في السحر: ألا لعنة الله على مبغض علي بن أبي طالب وقد نظم ذلك مؤلف هذا الكتاب:
يسب علي بأعلى المنابر وفي جهلهم حسبوا أنها بر
فقد سخر الله من لطفه خليقة معروفة بالقنابر
تقوم بلعنة من يبغض الوصي عليا عدو مكابر
رواه أنيس عن المصطفى وقد كان فيما رواه لخابر
قالوا: كيف سميتم بالمؤمنين وقد تركتم الجمعة وهي من أعظم أركان الدين قلنا: لم نقل نحن ولا أنتم أن العبادات من أركان الدين، وإنما هو التصديق القلبي فقط، وقد شرط الشافعي في الجمعة أربعين، وشرط أبو حنيفة السلطان أو من أمره، وشرط فيها المصر، وأنها لا تصح في القرى، ولأنا سمينا أيضا بالمؤمنين لاتباعنا أمير المؤمنين.
قالوا: فعمر سمي أمير المؤمنين، قلنا: ذلك من تسمية المعاندين، كما سموا به يزيد، أو غيره؟ وهم أعداء المؤمنين، بخلاف من سماه النبي الأمين، حيث قال في علي: سلموا عليه بإمرة المؤمنين.
قالوا: نمنع ورود ذلك قلنا: قد رويتم أنه يعسوب الدين، وقد أسلفنا في الباب التاسع فصلا في تسميته أمير المؤمنين مستوفى فليراجع منه.
قالوا: فأنتم لا جهاد لكم، فلستم بمؤمنين، لقوله تعالى: (إنما المؤمنون
الصفحة 86
الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا (1)) قلنا: لو انحصر الجهاد بضرب السيف، لم يكن الشيخان من المؤمنين، حيث فرا بخيبر وحنين، فلم يكونا إذ ذاك بالمؤمنين.
بل من الجهاد جهاد النفس في الصبر، ومنه حراسة الدين بالحجج والبراهين وبهذا يندفع قولهم: لو كنتم مؤمنين لانتصرتم لقوله تعالى: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا (1)) قلنا: لو أريد نصرة الحرب لم يكن أنبياء بني إسرائيل مؤمنين، وقد أخرجوا أمعاء حبيب النجار بالوطي، وهو مؤمن آل ياسين وقد كسر المسلمون بأحد، وحصر عثمان وحزبه، وتولت البرامكة على الناصبية فلا إيمان لهم ولا لأئمتهم، بموجب تقريرهم، فلله الحمد على لزومهم التناقض كطوق الحمامة إلى يوم القيامة، وقد ذكر حزقيل من آل فرعون يكتم إيمانه.
قالوا: بلغ من إخفاء دينكم أن تلعنوا أنفسكم، إذا قيل: لعن الله الرافضي قلتم مثله، قلنا: فأنتم لعنتم إمامكم الذي هو أعظم من ذلك إذا قلنا: لعن الله من خالف النبي، قلتم مثله، مع نقلكم في صحاحكم أن عمر خالفه في كتابة الكتاب، ولعن الإمام عمدا أبلغ من لعن النفس تقية، ويكفيكم ما خرج في كتبكم عن عائشة من قول النبي صلى الله عليه وآله: شر الناس من يتقي الناس فحشه.
وقد ذكر صاحب كتاب الأوصياء أن القهر والاضطهاد في صالحي ولد آدم طبقة بعد طبقة إلى ما يشاء.
ولقد بلي أيوب بالبلاء، وعني يعقوب بالعناء وناح نوح حتى ثوى، وبكى داود حتى ذوي، ونشر يحيى، وذبح زكريا، وقتل بنو إسرائيل الأنبياء، و لو دلت المغلوبية على بطلان الدين، بطل الاسلام، حيث هرب في ابتدائه سيد المرسلين ولا عيب إذا ظفر الشقي بالولي.
فحربة وحشي سقت حمزة الردى وحتف علي في حسام ابن ملجم
____________
(1) الحجرات: 15.
(2) غافر: 51.
الصفحة 87
وقد قال صلى الله عليه وآله: أشدهم بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.
وقد أخرج البخاري ومسلم حديث المغيرة لا تزال أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله، وهم ظاهرون، قال الصادق عليه السلام: أهل العلم وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم خذلان من خذلهم فهذا صريح في أن خذلانهم لا يبطل أديانهم. ومع ذا فليتخذ الناصبة حكام الجور أئمة لهم، لأنهم الآن تحت قهرهم، مع إجماعهم على الباطل، إذ يجب عليهم نصب الإمام شرعا بزعمهم، فالظلمة على قولهم أحق بالأمر منهم، إذا كان السلطان لهم.
ومن أحسن ما يتمثل به:
فكم في الأرض من عبد هجين يقبل كفه حر؟ هجان
وقد يعلو على الرأس الذباب كما يعلوا على النار الدخان
وأما مغلوبية الشيعة بالدليل، فليس إليها بحمد الله من سبيل، فإن براهينها من المعقول مشهورة، ومن المنقول في صحاح مخالفيهم مذكورة.
قالوا: فأنتم الأقلون، قلنا: فالنبي صلى الله عليه وآله وأصحابه أولا هم الأقلون، و هل هذا إلا مثل قول فرعون: (إن هؤلاء لشرذمة قليلون (1)) وقد قال تعالى:
(وما آمن معه إلا قليل (2)) ونحوه كثير ومنه (وقليل من عبادي الشكور (3)) قالوا: كل قليل شكور، ولا ينعكس إلى كل شكور قليل، بل إلى بعض الشكور قليل قلنا: فإذا حصل الشكور ببعض القليل، خرج البعض الآخر منه، وجميع الكثير، ولزم المطلوب. على أن قولهم المعنى كل شكور قليل، ينعكس بالنقيض إلى كل ما ليس بقليل ليس بشكور، فالكثير ليس بشكور، فالكثير مذموم والمراد إيقاع نسبة (ليس بشكور) على ما ليس بقليل، لوجوب تطابق العكس للأصل في الكيف كما علم في المنطق.
____________
(1) الشعراء: 54.
(2) هود: 40.
(3) سبأ. 13:
الصفحة 88
فصل
* (في ذكر آيات ادعى نزولها في أبي بكر وصاحبيه) *
فمنها: (وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى، وما لأحد عنده من نعمة تجزى) (1) والأتقى في كتاب الله أكرم والأكرم مقدم.
قلنا: ذلك أبو الدحداح كما حكى شارح الطوالع ورواه الواحدي بإسناده إلى عكرمة وابن عباس أنه ابتاع نخلة لرجل في دار فقير بأربعين نخلة، وجعلها للفقير بنخلة في الجنة.
وأسند الثعلبي إلى عطا أنه أبو الدحداح وقد ذهب أكثر المفسرين إلى أن الأتقى علي بن أبي طالب قال شارح الطوالع: ويؤيده (ويطعمون الطعام) الآيات (2) إن قلت: من صفة الأتقى سلب نعمة تجزى، وعلي في تربية النبي صلى الله عليه وآله ونفقته نشأ وتلك نعمة تجزى قلنا: نفي الإجزاء من علي لا يدل به على نفيه من الله للنبي، ولا نسلم أنه ليس على أبي بكر نعمة تجزى، كيف ذلك وقد احتاج إلى معاضدته في حروبه وتدبيره، وأحوال معاشه ونعمة النبي عليه في إرشاده جزاؤها للنبي صلى الله عليه وآله من ربه، مع أن الأتقى إن حمل على أفعل التفضيل، لرم كون أبي - بكر أفضل من النبي، بل المراد التقى كقوله تعالى: (وهو أهون عليه (3)) أي هين وكقول طرفة:
تمنت سليمى أن أموت فإن أمت فتلك سبيلي لست فيها بأوحد
ولئن سلم أنه لا فعل التفضيل، فهو من الأمور الإضافية، تصدق بالكثير والقليل، ولو سلمنا أنه أتقى منعنا أنه الأتقى في الآية الأخرى فلا ينتج، لعدم اتحاد واسطته.
____________
(1) الليل: 19.
(2) الإنسان: 8.
(3) الروم: 27.
الصفحة 89
على أن الآية فيها: من كان أكرم فهو أتقى، ولا يلزمه من كان أتقى فهو أكرم لما تقرر في الميزان أن الموجبة الكلية لا تنعكس كلية إلا إذا تلازم الأتقى والأكرم كالانسان والناطق، ولا يلزم هنا لأن ظاهر الأتقى أنه مجانبة للعصيان وجائز كون الأكرم بملازمة الطاعات، فجائز وجود أحد الصفتين في شخص والأخرى في آخر.
وفي هذا نظر إذ يجوز كون الأتقى بمخالفة الأمر والنهي، فيتلازم هو والأكرم، ومن عدم عنه إحدى الصفتين عدم عنه الأخرى إلا أن يحمل الأتقى على التقى، والأكرم على الكريم، كما سلف فيفترقان.
على أن الخصم لما أسقط العلل الغائية عن أفعاله تعالى سقط احتجاجه بهذه الآية إذ ليست الكرامة معللة بالتقوى عندهم، فجاز حصولها لغير المتقي، فلا يلزم تقدم الأتقى وكيف قلتم: الأكرم مقدم، وأنتم تجوزون تقديم المفضول.
فإن قلتم هو إلزام قلنا: نلتزم به ونثبت الأفضلية لعلي بخبر الطائر، و بكونه لم يكفر قط، فكيف يجعل من مضى أكثر زمانه على الكفر أتقى منه، و بقوله تعالى: (وفضل المجاهدين على القاعدين (1)) وعلي بالاتفاق من أجهد المجاهدين، وأبو بكر من ملازمي القاعدين، ومتى كان ثبات علي أكبر فثوابه أكثر.
وقد أخرج صاحب الوسيلة عن أبي سعيد قول النبي صلى الله عليه وآله لعلي: لك من الثواب ما لو قسم على أهل الأرض لوسعهم.
إن قلت: كان أبو بكر يجاهد بلسانه قلت: فعلي بلسانه وسنانه، وكانت هداية أكثر الضلال على يده.
إن قلت: فكان النبي في القاعدين، فيدخل بزعمكم في جملة المفضولين قلت:
ليس للملوك مباشرة الضروب لما فيها من فساد نظام الحروب.
وكيف يقال إن الآية نزلت في أبي بكر وقد أخرج البخاري في صحيحه عن عائشة ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلا أنه أنزل عذري، وبعيد أن ينزل
____________
(1) النساء: 95.
الصفحة 90
في أبيها قرآن ولا تعلمه لشدة حرصها على قيام ناموسه كما دل عليه تقديمها له وفي منصب نبيه وغيره، ولو نزل به شئ لاحتج به يوم السقيفة ولم يحتج بالأئمة من قريش، لخروج علي من شركته، بل أولى لمسيس قرابته، وليحسن أن يقال في علي الولي شعرا:
علونا فلو مدت إلينا بنانها يمين المناوي زايلتها المعاصم
وعلت بمجد من سناء محلق إذا ما يمين قيدتها الأداهم
مفاخر ميراث ومجد مؤثل رفيع الذرى يشقى بهن المخاصم
ومنها: قوله تعالى: (قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون (1)) فالداعي ليس النبي لقوله تعالى: (قل لن تتبعونا) ولا علي لقوله: (أو يسلمون) لأنه لم يقاتل في خلافته إلا مسلما، فهو أبو بكر حين بعث خالدا لقتال أهل الردة، وهم الموصوفون بالبأس والشدة كانوا ثمانون ألفا فغنم وسبي وقتل مسيلمة وتسرى علي من سبيه بالحنفية وكان ذلك أسا لبقاء الاسلام بعد النبي صلى الله عليه وآله.
قلنا: لا نسلم أن النبي صلى الله عليه وآله لا يكون داعيا بقوله: (لن تتبعونا) فإن الله بشر من حضر الحديبية بغنيمة خيبر، فأراد المخلفون مشاركتهم، فقال النبي.
(لن تتبعونا) لأن الله وعدنا بها خاصة هكذا قال ابن عباس، ومجاهد، وغيرهما على أن (لا تتبعونا) خبر لا نهي، فلا يدل على عدم الدعوة كما قال تعالى: (فإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله (2)) قال: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا) فالنبي صلى الله عليه وآله خبر بأن المخلفين لن يتبعوه لامتناع تبديل كلام الله مع أنه دعاهم بعد ذلك إلى قوم ذي قوة مثل حنين والطائف وثقيف وهوازن في حياته، فلا موجب للحمل على ما بعد وفاته. ولئن سلم كون النبي صلى الله عليه وآله ليس داعيا لا يلزم كونه أبو بكر لجواز كونه عليا.
____________
(1) الفتح: 16.
(2) البقرة: 22 و 23.
الصفحة 91
وقولهم: ما حارب في خلافته إلا مسلما ممنوع، بما أخرجه البخاري وغيره قول النبي صلى الله عليه وآله: صرورة يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية وأخرج الفراء في مصابيحه وغيره قول النبي صلى الله عليه وآله لعلي وفاطمة والحسنين أنا حرب لمن حاربتم وحرب النبي كفر، ولأن من استحل دم مؤمن كفر، فكيف بالإمام.
إن قالوا: لو كانوا كفارا لسباهم قلنا: معارض بفعل النبي صلى الله عليه وآله بأهل مكة:
قالوا: لا يعلم بقاء المخلفين إلى زمان علي حتى يتم كونهم مدعوين قلنا ولا يعلم بقاهم إلى زمان أبي بكر على أن قوله: (ستدعون) يحتمل كون الداعي هو الله بإيجاب القتال عليهم، وذبهم عن أهل دينهم، ولو سلم كون أبي بكر داعيا لم يلزم كونه إماما لما أخرجه البخاري في صحيحه من قول النبي صلى الله عليه وآله: إن الله ينتصر لهذا الدين بالرجل الفاجر فلعلهم دعاهم إلى حق ولم يكن على حق، و الطاعة لله فيه لا لداعيه، وإن كان على حق لم يلزم أن يكون رئيسا، إذ يتعين على كل مدعو إلى صواب الإجابة، سواء كان الداعي شريفا أم لا، فسقط الاحتجاج.
ومنها: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله (1)) والنبي صلى الله عليه وآله لم يأخذ سوى جزيرة العرب، وإنما ظهر الدين في خلافة المشايخ، فإنهم أجلسوا على التراب ملوك الأديان، وكان في سبيهم بنت كسرى شاه زنان، فلا دليل أظهر منه على صحة خلافتهم، لظهور دين الحق بإمامتهم قلنا: المراد ظهوره على أهل الأديان بالحجة والبرهان، لقرينة (الهدى) لا لغلبة الأعداء، ولأن ما ذكروه ظهور على أهل الأديان لا على نفس الأديان والأصل عدم الاضمار وقد سلف أن الله لينتصر لهذا الدين بالرجل الفاجر، وقد علم أن السلاطين الفسقة بمصر وغيرها يغزون الكفار من الأنام، ويحمون بيضة الاسلام، فليتخذوهم مع ما هم من الآثام خلفاء للنبي عليه السلام.
ثم نقول لهم: يلزم على تقديركم، كون الدين ناقصا في حياة نبيكم، و
____________
(1) براءة: 33. الصف: 9.
الصفحة 92
فيه رد لقوله: (اليوم أكملت لكم دينكم (1)) وأي وصمة تصل إلى النبي صلى الله عليه وآله أعظم من التعريض بنقص دينه في حياته.
ومنها: قوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم (2)) قالوا: في الآفاق ما ذكره في الكشاف انتشار الدين في الأقطار (وفي أنفسهم) تملك الضعفا ممالك ملوك الكفار فحكم سلمان في ملك كسرى مع غربته، والمغيرة بن شعبة في ملك النعمان بحيرته، ومعاوية في ملك هرقل بالشام، مع كونه من صعاليك قومه وابن العاص في ملك فرعون بمصره، وفيه دليل حقية خلافة الثلاثة إذ كانوا أصلا لفرعيته.
قلنا: قد فسر من نسبتم التفسير إليه مقاتل بن سليمان (الآفاق) بمرورهم على ديار عاد وثمود ولوط (والأنفس) بالقتل ببدر، وليس لهم تكذيب مقاتل و تصديق الكشاف لأن فيهم من يكفره حيث حكم بأنهم القدرية المجوس في تفسير (وأما ثمود فهديناهم (3)) ونحوها مع أن اللام في (الآفاق) للعموم ولم يقع مقتضاها لاستمرار الشرك إلى الآن في أكثر البلدان، ولكنه سيقع بالمهدي إن شاء الله في آخر الزمان، كما أخرجه نعيم بن حماد في كتاب الفتن عن كعب ينزل عيسى من السماء فتأتيه اليهود والنصارى، ويقولون: نحن أصحابك فيقول: كذبتم أصحابي المهاجرون، بقية أصحاب الملحمة فيأتي مجمع المسلمين فيجد خليفتهم يصلي بهم، فيقول: يا مسيح صل بنا فيقول: بل صل أنت بأصحابك إنما بعثت وزيرا ولم أبعث أميرا. ثم إن أصل انتشار الدين كان بالنبي وحزبه وبسيف علي وحربه.
ومنها: (والذين معه أشداء على الكفار (4) الآية قلنا: أما أولا فإنه لا
____________
(1) المائدة: 6.
(2) فصلت: 53.
(3) فصلت 17.
(4) الفتح: 29.
الصفحة 93
عموم لها ولأنه لم يرد بالمعية المكان والزمان، لقوله: (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق (1)) ولا المعية في الدين لأن في الآية أوصاف لا تصدق على من كان مع في الدين، وخصوصا أبو بكر لم يكن له شدة على الكفار، لما عرف له من الفرار وقد ذكر ابن قتيبة في المعارف وهو عامي المذهب فرار الشيخين يوم حنين.
إن قالوا: تصدق تلك الأوصاف بفرد فرد قلنا: لو كفى لم يختص المصاحبون بالمدحة على أنكم عدوا لأبي بكر قتيلا واحدا.
إن قالوا: تحمل المعية على المصاحبة، وتعم إلا من أخرجه الدليل في المنافقين قلنا: فتصير الآية من المجاز، لأجل التخصيص، فحملها على المعية؟ في النصرة حقيقة لعدم التخصيص، فهي أولى * نعم وجدنا شدتهم على عترة نبيهم، في غصب عليهم وسيدة النساء فيهم، وسرى ذلك في أولادهما وشيعتهما، ولعل من من فعل ذلك بهم اعتقد الكفر فيهم، وسيأتي تكميل بحث في هذه في مكان قريب.
إن شاء الله.
ومنها: آية المحبة (2) ادعوا نزولها فيه، وقد سلف نزولها في علي عليه السلام فليطلب منه.
ومنها: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة وهم راكعون (3)) قلنا: هذه الآية سلفت في علي عليه السلام وما أنزل فيه، ولكن أعيدت استيناسا بها، ولنرد فيها على من حرفها عن موضعها، ولزياد؟
بحث لم ينظم فيها، فأثرنا أن نعثر عليها.
قالوا: الركوع التواضع، والثلاثة مؤمنون مصلون مزكون متواضعون ولقد كان أبو بكر يلين جانبا، وعمر يلبس مرقعا، وعثمان مع حصره لم يرق من مسلم دما، ولفظ الجمع في الآية صادق عليهم، والشروط صالحة فيهم دون
____________
(1) براءة: 101.
(2) يريد قوله تعالى: فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه الآية 54 من المائدة.
(3) المائدة: 55.
الصفحة 94
غيرهم وذلك كله دليل صحة إمامتهم في زمانهم دون غيرهم.
قلنا: نمنع كون الركوع التواضع، بل قال الجوهري في صحاحه: هو الانحناء فحمله على التواضع مجاز لا يصار إليه مع إمكان الحقيقة، ولئن سلم كونه التواضع كما فهم من قول الأضبط بن قريع من رواية الصغاني.
لا تحقرن الوضيع علك أن تركع يوما والدهر قد رفعه
فإنه يجب الحمل على الحقيقة الشرعية لطريانها على اللغوية فهي كالناسخة لها.
إن قيل: الحمل على اللغوية أولى لكونه تأسيسا فإن الركوع الشرعي دخل في قوله: (يقيمون الصلاة) فالحمل عليه يكون تأكيدا.
قلنا: بل الحمل هنا على الشرعي أولى، لأن المراد ليس بيان وقوع الركوع بل بيان أمر وقع حال الركوع، وقولهم: شرط الولاية حاصل فيهم دون غيرهم فيه إبطال لإمامة علي بمقتضى الحصر، وهو باطل إجماعا.
وأين لين أبي بكر مع هجومه على الخلافة غصبا، والنبي صلى الله عليه وآله لم يدفن وأين زهد عمر مع كشفه بيت فاطمة وضربها، ومع ما فيه من الفظاظة والغلظة كما في كتاب المحاسن: دخل المهاجرون على أبي بكر لما بلغهم أنه يستخلف عمر وقالوا: نراك مستخلفا عمر علينا وقد عرفته وبوائقه إلينا.
ومن كتاب ابن قتيبة: دخل رجل على عمر لما ولي، وقال: بغضك الناس للسانك وعصاك، ومن الكتاب دحل رجل شامي عليه، فسأله عن أهل الشام فقال:
سالمون ولولايتك ومن شرك مشفقون.
وأما ترك عثمان الدفاع عن نفسه، فهو ألقى إلى التهلكة بيده، ومعلوم أن الدفاع من الجهاد المأمور به، ومن يفعل ذلك بنفسه لا يصلح لأدنى ولاية. هذا إن كان تركه للقتال عن قدرة، وإن لم يكن فلا مدحة في عجزه وضعفه. وقد أنكر الناصب الشقي الأعور الواسطي نزول الآية في علي حيث ذكر لفظ الجمع فيها الممتنع حمله عليه، ومن حيث ذكر الزكاة المنفية عن الفقير الذي يلبس القصير، ويأكل
الصفحة 95
الشعير ومن حيث إن إخراج الزكاة يصرف عن الخشوع الذي هو روح الصلاة قلنا: قد جاء في الذكر الحكيم لفظ الجمع على الواحد للتعظيم فقد ذكر البخاري أن قوله: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم (1)) نزلت في النبي صلى الله عليه وآله حيث أخذ غوثر (2) سيفه حين نام، وقد غلقه بشجرة، وهم به فنادته الملائكة والمراد جبريل ومثله (إذ قالت الملائكة يا مريم (3)).
إن قلت: كيف يعظم علي ويخلو الله ورسوله منه قلت: وهمت، فإن لفظة الجلالة على ذات الواجب وإضافة الرسول تعظيم بالغ على أن الجمع قد جاء بدون التعظيم ففي تفسير مقاتل (الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله (4)) نزلت في ابن أبي بن سلول (والذين يظاهرون (5)) نزلت في أوس بن الصامت.
وفي تفسير الزمخشري وابن المرتضى وهو من أكابرهم (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم (6)) نزلت في نعيم بن مسعود، وقال: إنه قول عكرمة ومجاهد.
قوله: لا مال له ولا صدقة له قلنا: إخبار الله بزكاته أصدق من اعتداء الناصب وتخييلاته وقد قال العاقولي في شرحه للمصابيح من مسند ابن حنبل وغيره: إن عليا قال: لقد ربطت الحجر من الجوع على بطني، وبلغت أربعة آلاف دينار صدقتي وروي أربعين ألف دينار.
قالوا: نمنع الحصر بل المعنى أن كل فرد من المؤمنين موصوف بنصرة
____________
(1) المائدة: 11.
(2) ويقال غورث أيضا.
(3) آل عمران: 42.
(4) المنافقون: 7.
(5) المجادلة: 4.
(6) آل عمران: 173.
الصفحة 96
الآخر، فكأنه قال: إنما ناصركم الله ورسوله والبعض الآخر من المؤمنين ولا ينافي ذلك قوله: (والمؤمنون بعضهم أولياء بعض (1).
أجبنا بأن ذلك إثبات مطلوبنا الذي هو المغايرة وإلا لزم التكرار، فإن الإمامة أخص من النصرة.
قالوا: حسن التوكيد في قولنا: إنما جاءني زيد وحده، دليل عدم الحصر في (إنما) أجبنا بأن التوكيد تقوية المؤكد، فلولا الحصر تناقضا فلا تقوية.
قالوا: حسن الاستفهام بقولنا: كم أكلت؟ عند قولنا: إنما أكلت رغيفا أجبنا بمنع حسنه كما لا يحسن عند قولنا: إنما أكلت رغيفا واحدا، لعدم الفرق بينهما عقلا ولغة، ولو حسن الاستفهام لزم الاشتراك.
قالوا: (وهم راكعون) مشتركة بين الحال والاستيناف، لحسن الاستفهام بهل أداها حال ركوعه أو قبله؟ أجبنا بمنع حسنه، وإلا لزم الاشتراك.
قالوا: نفهمه من قوله: (يقيمون) إلى آخرها أن ذلك عادتهم إذ لا يطلق ذلك إلا على المعتاد أجبنا بالمنع من كونه ليس عادتهم، ولو سلم لكن أهليتهم له و فعلهم وقعها يجري مجرى عادتهم.
قالوا: لو كان المدح على الايتاء حال الركوع، لزم صيرورته سنة فينا وليس.
أجبنا بأن ليس كل حسن يفعل يصير سنة لنا، أو يكون صار سنة لهم دوننا.
قالوا: قلتم: لو لم يرد بالركوع الحال بل الاستيناف لزم التكرار لدخوله في (يقيمون الصلاة) قلنا: ذكره تشرفا له.
قالوا: إن قلتم: فذكر السجود أولى لكونه أشرف قلنا: جاز كون ذكر الركوع لمصلحة لا نعلمها أجبنا عن ذلك كله بأن ذلك رجوع منكم إلى أن (الواو) للاستيناف، ولو كان له، لزم ركة الكلام، لأن ذكر إقامة الصلاة أشرف من ذكر بعض أجزائها إذ لا يحسن الوصف بالأنقص بعد الوصف بالأكمل، ولو كان (الواو)
____________
(1) والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض: براءة: 71.
الصفحة 97
للاستيناف، لانقطع الكلام عما قبله، ويصير كأنه قال ابتداء: هم راكعون.
إن قالوا: الواو مع كونه للاستيناف هو للعطف أجبنا بأن (واو) الاستيناف لا تطلق على واو العطف، ولو جامعت واو العطف صار التقدير (الذين يقيمون الصلاة والذين يؤتون الزكاة وهم راكعون) فيلزم عطف الجملة على المفرد، وهو غير جائز أو يصير التقدير (والذين هم راكعون) فيلزم الاضمار وهو خلاف الأصل.
قالوا: إذا قيل: فلان يحارب عني ويبني داري لم يفهم منه الحال أجبنا بأن الموجب لذلك عدم إمكان الجمع بخلاف الآية.
قالوا: يحمل الراكع على ما من شأنه أن يكون راكعا وتصير الآية عامة لكل المؤمنين أجبنا بأن ذلك مجاز لم تلجئ الضرورة إليه قالوا: المقصود من الآية إثبات نصرة المؤمنين ونفيها عن الكتابيين، أجبنا بأن ذلك قد مر في قوله قبلها: (لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء (1)) فحمل آية (إنما وليكم) على الإمامة أكثر فايدة من حملها على النصرة، لاستلزام الخاص العام، ولرفع تكثير التكرار عن الكلام.
قالوا: لم يرد بالصدقة زكاة آتاها بل وقوفا أجراها فهدا؟؟ شيخه عن علمائه ولم ينقل لأحد الثلاثة ولا لمجموعها ما يقارب ذلك.
قوله: الزكاة تسلب الخشوع قلنا: لا، فإن هذا من خصائصه فإنه لما سمع السائل خشع قلبه لله خوفا من رده، فكان الاشتغال بالله لا عن الله، وأي تناف بين الخشوع لله في الصلاة لسبب خارج عن الصلاة.
وإنكاره نزول الآية في علي، فيه خلاف لشيوخه وغيرهم من المفسرين ذكر ذلك الزمخشري في كشافه، وعبد المطلب في تبصيره وهو من أكبر مشايخه ومقاتل في تفسيره، وذكره الواحدي، والكلبي والثعلبي، ورواه عن علي أبو ذر الغفاري قال: وكان الانزال بسؤال النبي صلى الله عليه وآله حين قال للسائل: من أعطاك؟
فقال: ذلك المصلي، فقال: يا رب إن موسى سألك أن تجعل له وزيرا من [ أهله
____________
(1) المائدة: 51.
الصفحة 98
وأنا أسألك أن تجعل لي وزيرا من ] أهلي عليا أخي اشدد به أزري، فظهر بهذا خلاف الناصب لمفسريه، وخالف أيضا محدثيه، فان صاحب جامع الأصول ذكره في حديث ورواه عن رزين في الجمع بين الصحاح ورواه سبط الجوزي في خصائصه وذكر صاحب المنهاج شعر حسان فيه مرفوعا بإسناده وقد أسلفناه مع أطراف أخر، في باب نزول الآيات وأسلفنا نيفا وعشرين من الروايات فليراجع منه.
فلا تغتر أيها العاقل بتمويه الناصبين وتفحص عن كتب علمائهم، لتخرج من زمرة الجاحدين، فانظر إلى الكتاب الأكبر كيف أوضح فضل علي، ويأباه الواسطي الغوي فظهر من جحده وكتمانه ظن البغض له في جنانه وإن أظهر المحبة والترضي بلسانه، فما أحقه بقول بعضهم:
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت له عن عدو في ثياب صديق
وإذا اتفق الخصمان على نزولها فيه، أوجبت له الولاية بأداة الحصر المذكور في الآية.
قالوا: فإذا دل الحصر على نفي غيره. لزم عدم إمامة أولاده، قلنا: كل من قال بإمامته قال بإمامة أولاده، فالقائل بها له دونهم خارق للاجماع، وجاز أن يدخلوا ضمنا وإن لم تكن الصفة ظاهرة فيهم، وما أحسن ما قال بعض الأدباء في مدحهم:
ليس كالمصطفى ولا كعلي سيد الأوصياء من يدعيه
من توالى غير الإمام علي رغبة فيه فالتراب بفيه
إنما هذه وليكم الله أتت بالولا من الله فيه
فإذا ما اقتضى بها اللفظ معنا عنه كانت من بعده لبنيه
ومنها: قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم و ليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا (1)) والشروط الثلاثة حصلت بعد النبي في الثلاثة.
____________
(1) النور: 55.
الصفحة 99
قلنا: قد أنزل الله في كتابه كمال الدين، فكيف يصرف نبيه ومن مات قبله عن هذا التكميل، ويخص به المخالفين والتابعين.
قال مقاتل: نزلت عند صد المسلمين عام الحديبية فقالوا: لو دخلنا مكة آمنين فنزلت، وعنى بالأرض مكة وبتمكين الدين الاسلام وبتبديل الخوف من أهل مكة أمنا.
هذا قول مقاتل: وهو من أكبر شيوخهم قال ابن حنبل: ما رأيت أعلم بالتفسير من مقاتل بن سليمان وقال الشافعي: الناس عيال على مقاتل في التفسير وعلى زهير في الشعر، وعلى أبي حنيفة في الكلام.
وقال شارح الطوالع نظام: لا يدل الاستخلاف على الرئاسة العامة، بل قد يكون المراد توريثهم بلاد الكفار، وقد جاء الاستخلاف بجميع المهاجرين بقوله: (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض) (1) ولم يرد بذلك الإمامة، والتوريث والتمكن والأمن لا تخصيص للخلفاء بها، فإن الله علق ذلك على الإيمان وعمل الصالحات وهما حاصلان لكثير وقد فتح بنو مروان كثيرا من البلدان واعلم أن الناصبة استدلوا بالآية على خلافة الأربعة، والواسطي الغوي خصها بالثلاثة معاندة لعلي، وقد روى ابن جريج عن مجاهد أن المراد بالاستخلاف جميع الأمة وروت الفرقة المحقة أنه عند خروج المهدي وأسند الشيرازي وأبو - عبيدة من أهل المذاهب إلى ابن مسعود نزولها في حلافة علي ثم إن أريد التمكن التام لم يحصل لأحد، وإن أريد غيره لم يخل منه أحد، على أنه ليس لأحد فضل في فعل يكون الكل من الله عندكم قال منصور:
سبحان ممهل من يقول بأن آل أبي قحافة
أولى وأحرى حرمة من آل أحمد بالخلافة
ومنها: قوله تعالى: (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا) الآية (2)
____________
(1) فاطر: 39 (2) التحريم: 3.
الصفحة 100
قالوا: أجمع المفسرون أنه أسر إلى حفصة أن أباك وأبا بكر يليان الأمر بعدي.
قلنا: هذا غير صحيح، وإلا لاحتج به أبو بكر يوم السقيفة لأنه أدل على تعيينه من قوله: الأئمة من قريش، وأقطع لقول علي: أنا أحق بهذا الأمر منكم أتأخذونه منا أهل البيت غصبا، لا تخرجوا سلطان محمد من داره، كما ذكره ابن قتيبة وغيره.
وقد أخرج البخاري ومسلم حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله في مرضه طلب أن يكتب كتابا لن نضل بعده، فقال عمر: إنه ليهجر، وقد سلف، ولو كان ما ذكروه أنه أراد أن يكتب بخلافتهم لسارعوا إلى الكتابة.
وأخرج البخاري عن ابن عباس الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين كتابه ولو أنه أسر إليها جاز ذلك أن يليا الأمر غصبا، كولاية بني أمية وبني العباس فلا يدل وقوع الآية على جوازها، كما أخبر بأشياء قبل وقوعها خولف الدين فيها.
ولقد أجزل أجر السيد الحميري حيث قال في ذلك:
إحداهما نمت عليه حديثه وبغت عليه بغشها أخراهما
لم تنصحا لمحمد بل غشتا وكذاك غش وصيه أبواهما
ومنها: قوله تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا (1)) وقد علم أن فيهم أبا بكر وعمر.
قلنا: أول ما فيها أن الألف واللام ليس للاستغراق، وثانيا أنه علق الرضا عنهم بحال مبايعتهم لقوله: (إذ يبايعونك) فلا تعم، ولا شك في الرضا عمن جمع الإيمان والبيعة، فمن أين لكم أن من بايع اتصف بهما، فإن ظاهر الآية لا يفيده مع أنه تعالى وصفهم بالسكينة والفتح، وهو فتح خيبر بلا خلاف، وقد علم هرب
____________
(1) الفتح: 18.
الصفحة 101
الشيخين منها، فيخرجان من الآية بمقتضى هربهما عنها، وقد كانت البيعة على أن لا يفروا وقد فر الشيخان، وفيه نكث للعهد والإيمان، وقد أخرج في المجلد الأول من جامع الأصول قول علي والعباس إن أبا بكر وعمر غادران ناكثان خائنان ولهذا أن النبي صلى الله عليه وآله لما هادن أهل مكة بعد البيعة تحت الشجرة حمل المسلمون بالسلاح على قريش، فهزمتهم قريش فبعث عليا فردهم فتابوا فقال النبي:
الآن عودوا إلى البيعة فقد نقضتم ما كان في أعناقكم، فبايعوا على أن لا يفروا فسميت بيعة الرضوان لوقوعها بعد العصيان، وقد فر الشيخان بخيبر وحنين وجماعة من المسلمين أيضا، وهذا نكث لبيعة الرضوان.
على أن الرضا ماض جاز أن يتعلق بفعل ماض، فلا يدل على الرضا في الآتي ولنعم ما قال العوني في هذا الشأن:
فهل بيعة الرضوان إلا أمانة فأول من قد خانها السلفان
وما استوجب الرضوان من خاف ربه فما لكما إياي تختدعان
وبئس الرفيقان الشريكان في الرخى وفي ساعة الأهوال ينهزمان
وكان الفتح لعلي فيها، فهو المخصوص بحكمها.
إن قالوا: يضاف الفتح إلى جميع المسلمين وإن جرى على يد بعضهم فدخل أهل البيعة فيهم فعم الرضا لجميعهم قلنا: هذا عدول عن الظاهر، فإن إضافة الفتح إلى متوليه حقيقة وإلى تابعيه مجاز ولهذا لا يوصف المسلمون المتباعدون بأن الفتح لهم، وإن أضيف إليهم، فلا يطلق على النائمين والنساء والنائين، أنهم هزموا جيوش المشركين.
ومنها: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصديقون (1)) قلنا: عندكم أن أبا بكر كان غنيا، فلا يدخل في الآية.
إن قالوا: الفقر هنا هو الفقر إلى الله من المال قلنا: الفقر حقيقة من المال، فلا
____________
(1) الحشر: 8.
الصفحة 102
يخرج عنها إلى المجاز، لعدم الاستدلال إن قالوا: المال المدعى لأبي بكر كان قبل الهجرة والآية فيما بعدها قلنا: و لو سلم ذلك فإن الألف واللام في (الفقراء) ليس للعموم كما سلف، ولأن الله وصف بالصدق من جمع الفقر والهجرة، وابتغاء الفضل والرضوان والنصرة، وليس لهم من الآية دليل على اجتماع هذه الأوصاف في أهل الهجرة.
تذنيب:
قد جاء في التواريخ أن أباه كان عضروطا لابن جذعان أي مناديا على السماط ذكر ذلك جماعة منهم الكلبي في كتاب المثالب، وهو من علمائهم فلو كان غنيا لصان أباه، وقد من الله على نبيه بأنه أغناه فواخيبتاه لمن رد كلام الله.
ففي الحديث الثالث بعد المائة من الجمع بين الصحيحين من أفراد مسلم أن النبي صلى الله عليه وآله خرج فوجد أبا بكر وعمر فقال: ما أخرجكما؟ قالا: الجوع فأين الغنا؟.
ومنها: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار والذين اتبعوه في ساعة العسرة) (1) قلت: قد عرفت أولا أن في العموم قولا ولا شك أن توبة الله عليهم مشروطة بتوبتهم، لأن الله لا يقبل توبة من لم يتب، وحينئذ فلا دليل على وقوع التوبة من جميعهم، حتى وقع قبولها لجميعهم.
ومنها: (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم (2)) قلنا: سلف الكلام في العموم، ولو سلم جاز حمل العفو على عقاب الدنيا دون المستحق في العقبى، وقد روي هذا المعنى بعينه وجاز حمل العفو على هذا الذنب دون غيره.
ومنها: (والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين
____________
(1) براءة: 117.
(2) آل عمران: 155.
الصفحة 103
سبقونا بالإيمان (1)) قلنا: لا دليل على سبق الشيخين إلى الإيمان، مع أن هذا سؤال، وليس كل سؤال تقع إجابته.
ومنها: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه (2)) قلنا: لا يتعين هنا السبق إلى الاسلام، بل جاز كونه إلى الخيرات، فإن الله يقول: (ومنهم سابق بالخيرات (3)).
قالوا: لو أراد السبق بالخيرات لم يخص المهاجرين والأنصار، قلنا: التخصيص بالذكر لا يوجب التخصيص بالحكم، وقد قرر في الأصول مع أنه قال بعد ذلك:
(والذين اتبعوهم بإحسان) ولو سلم أن المراد السبق إلى إظهار الاسلام، كان ذكر الشدة على الكفار التي هي ببذل النفس في جهادهم في قوله: (أشداء على الكفار (4)) في آية أخرى ادعي نزولها فيهم، مخرجا لما يعنونه إذ لاحظ لهم في القتال ونصرة الاسلام بحال.
إن قالوا: فأي شدة على الكفار في ستة نفر كانوا في جانب علي قلنا:
ومن حصر المتمسكين بالحق في ستة أو ستين أو ستمائة أو أكثر؟ على أن الذين معه لم يختص بمعاصريه لوجود النفاق في كثير منهم، بل بمن كان على دينه إلى يوم القيامة ولا شبهة أن فيهم من يغيظ الكفار، ولو سلم اختصاصها بمن في عصره فقد مات في حياته جم غفير منهم تنغاظ الكفار ببغضهم، على أنا لا نقطع بحصول الرضا لكل السابقين، فإن الله وعد الصادقين والصابرين ولم يلزم حصول الموعود به لكل صادق وصابر، فكذا ثم.
على أنه لم يعن بالسابق من سبق غيره، وإن كان مسبوقا وإلا لدخل فيه
____________
(1) الحشر: 10.
(2) براءة: 100.
(3) فاطر: 32.
(4) الفتح: 29.
الصفحة 104
ما عدا الأخير، بل عنى السابق مطلقا، ولهذا أكده بالأولية وذلك هو علي بالاتفاق، وسبق غيره على هذا الوجه مختلف فيه، وفرارهم في المواطن معروف قال سلامة شعرا:
قعدوا عن كل هذا جزعا ثم قالوا نحن أرباب الرتب
نحن أولى بالنبي المصطفى من بنيه وأخيه في النسب
وابنة الهادي الرضا فاطمة حقها بعد أبيها يغتصب
ما لهم لا غفر الله لهم جعلوا الدين إلى الدنيا سبب
ومنها: (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا (1)) قلنا: لفظة (من) من الصيغ المدعى فيها العموم، وقد عرفتم الكلام فيه، ونفي الاستواء ليس للعموم أيضا، وقد قرر في الأصول، ولو سلم عمومه فعظم الدرج مربوط بالاتفاق، وقد عرف من حال الشيخين عدم القتال، على أن لا نسلم النفقة على حال، وإلا لنقل وجهها الفريقان كما نقلوا تجهيز جيش العسرة من عثمان ولأن خبر إنفاق أبي بكر رواية عائشة وهي متهمة فيه، لأن لها فيه الحظ الأوفر مما يصل إليه، والإنفاق، إما بمكة ولم يجهز النبي هناك جيشا وكان بمال خديجة غنيا، وإما بالمدينة فأبو بكر وردها فقيرا وكان خياطا، وللصبيان معلما، وكان أبوه لما عمي لابن جذعان عضروطا، و لو سلم الإنفاق لم يعلم كونه غير بطر ولا رئاء، أو ترجي، لا كما أنزل؟ في علي لأن صدق النية يمتنع الاطلاع عليه بدون وحي قال العوني شعرا:
فإن تزعماه أنفق المال قربة فإنكما في ذاك تدعيان
وما باله لم يأت في الذكر ذكره يترجمه للناس وحي قران
كما جاءت الآيات في أهل هل أتى بأنهم من ربهم بمكان
لإطعام مسكين ومأسور قوته وقوت يتيم ما له أبوان
____________
(1) الحديد: 10.
الصفحة 105
فلم شكر الله اليسير وأهمل الكثير أما بالله تدكران
ومنها: (والذي جاء بالصدق وصدق به (1)) قال أبو العالية: صدق به:
أبو بكر. قلنا: قد ذكرتم عند قولنا: (الذين يقيمون الصلاة (2)) أنها لفظة جمع لا توضع لواحد فكيف جعلتم (أولئك هم المتقون) إلى آخر الآية لواحد، ولو سلم أن المراد به واحد لم يتعين كونه أبا بكر، وقول بعض المفسرين: لا يقطع به لمقابلة الآخر له.
فقد روى أبو بكر الحضرمي عن الباقر عليه السلام أنه علي، ورواه علي بن أبي - حمزة عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام.
إن قالوا: ليس حجة علينا رواياتكم قلنا: قد جاء من طرقكم فرواه إبراهيم ابن الحكم عن أبيه عن السدي عن ابن عباس وعبيدة بن حميد عن منصور عن مجاهد وقال مقاتل: المصدق به المؤمنون قال السدي: جاء بالصدق جبرئيل، و صدق به محمد صلى الله عليه وآله تلقاه بالقبول وقال ابن عباس: جاء بالصدق محمد وهو (لا إله إلا الله) وصدق به وبلغه إلى الخلق.
قال: وهو أقوى الأقوال، ولقد حدث أبو هريرة معاوية قال: حدثني الصادق المصدق الذي جاء بالحق وصدق به، أنه سيكون أمر يود أحدهم لو علق بلسانه منذ خلق الله السماوات والأرض، وأنه لم يل ما ولي.
وظاهر العامة تفضيل أبي بكر على النبي، حيث يقولون: بحق الصادق والصديق، وفعيل للمبالغة فكان النبي وعلي الذي يدور الحق معه أحق به منه.
ومنها: (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى (3)) نزلت في أبي بكر لما اشترى مماليك أسلموا وأعتقهم بلال وغيره.
قلنا: إن حملناها على العموم، لم يتعين أبو بكر لها وإن حملناها على الخصوص
____________
(1) الزمر: 33.
(2) المائدة: 55.
(3) الليل: 6.
الصفحة 106
فقد رويتم عن ابن عباس وأنس وغيرهم أنه أبو الدحداح وإذا تكافأت الروايات تساقطت ورجح حمل الآية على العموم.
ومنها: (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى (1)) قالوا: نزلت في أبي بكر لما حلف أنه لا يعول مسطح بن أثاثة.
قلنا: حمل الآية على العموم أولى من الخصوص بغير دليل، وقد قرر في الأصول أن السبب لا يخص مع أن في الآية الوصف بالفضل والسعة، وليس لأبي بكر واحد منهما، على أن الشيعة روت أن سبب نزولها كلام وقع بين المهاجرين والأنصار، فحلفت الأنصار أن لا تبرهم، فنزلت فعادوا إلى برهم.
فصل
قالوا: جعل الله طريق إثبات الحق شاهدين، وقد شهد لأبي بكر ثمانون ألف هم صدر الأمة وعدولها، بلا التباس، في قوله: (لتكونوا شهداء على الناس (2)) أو تسليم الخصم، وعلي لم ينازع فثبت لحق لأبي بكر.
قلنا: لا اعتبار بكثرة العوام، فإنهم كالهوام، بل الاعتبار بالرؤساء أولي الأحلام الذين هم أساطين الاسلام، وقد كانوا في جانب علي عليه السلام.
وقد ذكر البخاري حديث البيعة وفيه خالف عنا علي والزبير ومن معهما وأخرج مسلم أنه قيل للزهري: لم يبايع علي ستة أشهر؟ فقال: لا والله، ولا واحد من بني هاشم وقال نظام الدين الشافعي في شرح الطوالع: مالت طائفة إلى علي عليه السلام وهم أكثر أكابرهم وروي تخلفه عنها البلاذري وهو من ثقاتهم وابن عبد ربه وعمر بن علية والطبري والواقدي فقد ظهر بهذا ونحوه من نقلهم عدم تسليم علي بخلافتهم، وقد ثبت بحديث الراية وغيره محبة الله ورسوله له، ولا يحبانه إلا وهو متبع لهما لآية (إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله (3)) فامتنع
____________
(1) النور: 22.
(2) البقرة: 143.
(3) آل عمران: 31.
الصفحة 107
دخوله حال اتباعه تحت (ويتبع غير سبيل المؤمنين (1)) ودخل تحت متابعته (الضالون) ورجعت الأنصار عن قولهم: منا أمير ومنكم أمير، ومن رجع عن شهادته لم تقبل شهادته بإجماع الأمة.
وعدول الأمة إن أرادوا بعضهم فهم في جانب علي كما عرفت وإن أرادوا كلهم نقض بحديث الحوض وغيره أخرجه البخاري وغيره (ليردون علي الحوض، وفي رواية أعرفهم ويعرفوني، وفي أخرى يؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: أصحابي!
فيقال: ليسوا أصحابك إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك وفي رواية لم يزالوا مرتدين فأقول: سحقا لمن غير بعدي).
وحديث حذيفة في أهل العقبة أخرجه الحميدي في الجمع بين الصحاح في الحديث الأول من أفراد مسلم وفي الحديث الخامس أيضا وأخرجه العبدي في الجزء الثالث في ثاني كراس من صحيح مسلم، وفي ذلك أن منهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وفي الجزء الثالث من صحيح مسلم أنه قال عليه السلام لعائشة أشد ما لقيت من قومك القيامة.
ولما حدث الخدري أبا بكر بقول النبي صلى الله عليه وآله: من أحب أن يلقى الله وهو عليه عصبان فليبغضن عليا وفاطمة، منعه. وشك أنس في قول النبي صلى الله عليه وآله: إن عليا يدخل فيأكل معه من الحلوى فلم يتيقن حتى دخل فهذا حال من صاحب الرسول وشاهدوا منه ما بهر العقول.
وحديث ذات أنواط أخرجه في جامع الأصول أنه كان للمشركين شجرة يسمونها ذات أنواط يعلقون عليها أسلحتهم فقال المسلمون للنبي صلى الله عليه وآله: اجعل لنا ذات أنواط، فقال: هذا مثل قول موسى: (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة (2)) لتركبن سنن من كان قبلكم أخرجه الترمذي وزاد فيه: حذوا النعل بالنعل، والقذة
____________
(1) النساء: 115.
(2) الأعراف: 138.
الصفحة 108
بالقذة، حتى أنه كان فيهم من أتى أمه يكون فيكم، فلا أدري أتعبدون العجل أم لا وقد أخبر الكتاب السماوي بمخالفة أكثر الصحابة في قوله: (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما (1)) وقد أجمع المؤالف والمخالف أنهم انصرفوا والنبي صلى الله عليه وآله يخطب [ للجمعة ] بجامعة، إلا اثنا عشر.
وفي قوله (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون إلى قوله: كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون (2)) قالوا: عاد إلى الوفاق بعد الخلاف قلنا: نمنع ذلك وتظلماته طول عمره مشهورة في كتبهم، وقد سلف منها جانب وقد أنكر قوم على أبي بكر في مقام بعد مقام ولو فرض سكوته لم يدل على رضاه، وقعوده عن البيعة إن كان حقا، فالبيعة باطلة وإن كان باطلا بطل قول النبي فيه: علي مع الحق والحق معه، فسيأتي تحقيقه.
قالوا: صارت حقا بموافقته قلنا: لا يصير الباطل حقا بالموافقة، وحينئذ فمن مات قبل الموافقة أيضا ولم يجدد بيعة بعدها، مات بغير إمام على أن المخالفة دراية من الفريقين، والموافقة رواية من أحد الخصمين وقد أسلفنا تظلماته وهي تنافي موافقاته.
قالوا: أجمع على إمامة عمر بنص أبي بكر، وفي تصحيح إمامة الخليفة تصحيح إمامة المستخلف قلنا: قد بينا بطلان إمامة أبي بكر، وفي بطلان إمامة المستخلف بطلان إمامة الخليفة.
ثم نقول: إن كانت خلافة أبي بكر لا تثبت إلا بالبيعة، والبيعة لا تجوز إلا لخليفة لزم الدور، وقد ذكر البخاري حديث عمر كانت بيعة أبي بكر فلتة خالفت الأنصار يوم السقيفة، وعلي والزبير ومن معهما، وقالت: منا أمير ومنكم أمير فخشيت إن فارقنا ولم يكن بيعة أن يبايعوا رجلا بعدنا فبايعته ثم بايعه المهاجرون
____________
(1) الجمعة: 11.
(2) الأنفال: 5 - 6.
الصفحة 109
ثم الأنصار، وامتنع سيدهم سعد بن عبادة، فوعك فقيل قتلتموه فقال عمر: قتله الله.
قالوا: فبال في جحر فرمته الجن بسهم وسمع قائلا ينشد:
قد قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة ورميناه بسهم لم يكن يخطئ فؤاده
ولو لم يكن لبطلان البيعة وأنها وقعت فجأة لا عن تراض، إلا قول عمر:
خشيت إن فارقنا لم يكن بيعة، ومخالفة الأنصار وزعيمها، لكفى، ولما امتنع سعد دسوا إليه من رماه، ورموا قتله على الجن، ولفقوا شعرهم هربا من عداوة الأنصار قال شاعرهم شعرا:
يقولون سعد شقق الجن بطنه ألا ربما حققت فعلك بالغدر
وما ذنب سعد أنه بال قائما ولكن سعدا لا يبايع أبا بكر
وأنشأ ابنه قيس:
وقالوا دهى سعدا من الجن عارض غدا هالكا منه وذا لكذابها
أتغتصب الجن النفوس فمن رأى بعينيه ميت قد عراه اغتصابها
وخفي على الناس قاتله، وإنما قتله خالد، حيث كان بالشام، وكان سعد بقرى غسان بالشام، هاربا من البيعة، فلم يظهر ذلك حتى لقي عمر خالدا فعاتبه في قتل مالك فقال: إن كنت قتلته لهنات بيني وبينه، فقد قتلت سعدا لهنات بينكم و بينه فأعجب عمر قوله وضمه وقبله.
وقد ذكر الرازي في النهاية رواية أبي بكر للأنصار (الأئمة من قريش) أنه خبر واحد، ودلالته على منع غير القرشي من الإمامة ضعيفة فلا يعارض ما يدعونه من النص المتواتر.
ونحن نقول: ولو سلمنا الخبر، فعلي أقرب وأشرف، فقد أخرج مسلم في رواية واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وآله أن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، و قريشا من كنانة، وهاشما من قريش، واصطفاني من هاشم، وعلي أفضل بني هاشم بعد النبي صلى الله عليه وآله، فله التقدم لو خلا عن النص فكيف معه شعر:
وإذ كنت بالقربى ملكت أمورهم فإن عليا منك أولى وأقرب
الصفحة 110
أنشأ بريدة الأسلمي في البيعة:
يا بيعة هدموا بها أسا وجث دعائم
أتكون بيعتهم هدى وتغيب عنها هاشم
ويكون رائد أهلها مولى حذيفة سالم
فليصبحن وكلهم أسف عليها نادم
أمر النبي معاشرا هم أسرة ولهاذم
أن يدخلوا ويسلموا تسليم منه عالم
أن الوصي له الإمامة بعده والقائم
والعهد لا مخلولق منه ولا متقادم
وقال السيد الحميري:
غششت أبا حفص وصي محمد وظاهرت من يبغي عليه أبا بكر
وقلدته أمر الخلافة بعده وغيركما أولى بذالكما الأمر
فما لعدي والمكارم والعلا وما لبني تيم بن مرة والفخر
أطعت به رأي ابن شعبة مذهبا وهل لامرئ في طاعة الرجس من عذر
فصل
وقد علمت احتجاجهم بسكوت علي عند بيعة الناس لأبي بكر قلنا: مع ما سلف من الجواب قد طلب حقه في مواضع.
منها: حديث سعد بن قدامة في قوله: نحن والله أولى بمحمد ونحوه كلام طويل وفي حديث مخول أنه قال لهم: ما أسرع ما نقضتم، وفي حديث إسحاق وغيره لما أبى البيعة توعدوه بضرب عنقه ثم ارتد جماعة من العرب، وخاف على الاسلام فدخل مع الناس بوساطة عثمان رواه الواقدي.
ورأى عليه السلام أسياف الفتن شاهرة، وشواهد الفساد ظاهرة، ولئن سلم سكوته فسببه أمور.
الصفحة 111
منها: حشو المدينة من المنافقين الذين يعضون الأنامل من الغيظ، وينتهزون الفرصة وقد وثبوا وتهيؤا للفتنة، ووافق ذلك ارتداد العرب ومن حولهم، وقد قال عليه السلام لابن دودان: لما تعجب من تقدمهم عليه كانت أثرة سخت عنها نفوس قوم وشحت عليها نفوس آخرين، فإن ترتفع عنا محن البلوى نحملهم من الحق على محصنه وإن تكن الأخرى فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، ولا تأس على القوم الفاسقين.
وقال عليه السلام للخوارج لما قالوا: كان وصيا فضيع الوصية: أنتم كفرتم وأزلتم الأمر عني وليس على الأوصياء الدعاء إلى أنفسهم لغنائم عن ذلك بنص الأنبياء عليهم، وقد نصبني النبي صلى الله عليه وآله علما، وقال: أنت بمنزلة الكعبة تؤتى ولا تأتي.
وقد روى الشعبي عن شريح بن هاني قول علي: إن عندي من نبي الله عهدا ليس لي أن أخالفه، ولو خزموا أنفي، فلما بويع لأبي بكر مسكت يدي فلما ارتد قوم خشيت ثلمة الاسلام، فبايعت لئلا يبيد الاسلام، ورأيت ذلك أعظم من فوت ولاية أيام قلائل.
وقد روى البلاذري وهو من أكبر ثقاتهم أن عليا قال لعمر: احلب حلبا لك شطره، والله ما حرصك على إمارته اليوم إلا ليؤمرك غدا.
وروى إبراهيم بطريقين أن عليا قال لبريدة ولجماعة أخر أبوا البيعة:
بايعوا إن هؤلاء خيروني أن يأخذوا ما ليس لهم، أو أقاتلهم وأفرق أمر المسلمين ويرتد الناس.
إن قالوا: هذه ونحوها أخبار آحاد قلنا: اتفقت معنا فتواترت فيه.
وبهذا يبطل ما قالوا: إنه كان يعلم بوقت وفاته، فلا معنى لتقيته مع فرط شجاعته، ففي سكوته إما بطلان عصمته، أو اعتقاده في ذلك الوقت عدم خلافته.
قلنا: لا يختص الخوف بنفسه، بل على ذريته وأهل ولايته، وذهاب دين نبيه، مع أنه وإن علم بسلامته لم يأمن من جروح بدنه، وتطويل ألمه وشينه، و من أثره الذي يلحقه من المذلة به، ما يوفي على قتله، على أن ما أعلمه النبي من بقائه كان متعلقا بعلمه بكفه عن القوم، ومداراته على أنه معارض بكف النبي
الصفحة 112
عن أهل بلده وهربه إلى غاره ودار هجرته، هذا كله مع تقدم وعد الله لنبيه ببقائه وإتمام دعوته وإظهاره على الدين كله.
قالوا: طلب علي للبيعة فقال: اتركوني والتمسوا غيري، فإني أسمعكم وأطوعكم إن وليتم غيري قلنا: إنما قال ذلك ليختبر صدق نياتهم في الاقبال عليه فإن رآه التزم بما طلبوه، وإلا فلا فائدة.
تذنيب:
علي مع الحق والحق معه، رواه سعد بن أبي وقاص وحذيفة وأبو موسى الأشعري وأبو موسى الأشعري وأبو سعيد وعائشة وأم سلمة.
إن قيل: هذه مهملة فهي جزئية فلا تدل على عموم الكون مع الحق قلت:
قد تقرر في المنطق أن الشخصية كالكلية (1) والألف واللام في الحق للاستغراق ولو كانت خبرية لم يكن تخصيص علي بالذكر فائدة.
إن قلت: التخصيص بالذكر ليس فيه تخصيص بالحكم قلت: سلمت وقد اشترك في الحكم النبي وبقية المعصومين، وخرج من تواترت معاصيه، وقد عرف في بابه، على أن في الحديث (يدور معه حيث دار) وفي هذا برهان الحصر وهو المطلوب.
تنبيه:
قالوا: الاجماع على خلافة أبي بكر، قلت: لا يخفى ما وقع فيها من خلاف الأنصار وغيرهم، وقد سلف ذلك بنقلهم بل الاجماع على إمامة علي لأن الأمة فيه بين قائل: كان إماما في كل الأوقات بعد النبي إلى الممات، وبين قائل كان إماما في بعض تلك الأوقات والأمة في أبي بكر بين قائل أنه كان إماما في وقت ما وقائل لم يكن إماما أصلا، وفي كون هذا إجماعا نظر لأن القائل بإمامة علي عليه السلام في بعض الأوقات لا ينافيه القائل بإمامة الآخر في بعض الأوقات لعدم تنافي الجزئيتين، كما قرر في المنطق، إنما يكون إجماعا لو كان الكل قائلا بأنه كان إماما في الكل، وليس كذلك إلا أن يعتبر في الاجماع قول المعصوم كما هو المشهور من مذهب الشيعة فلا يضر خروج غيره منه.
____________
(1) يعني لشخص الموضوع.
الصفحة 113
قالوا: لو قدموا عليا لارتد أكثر الناس لما علموا منه من شدة البأس، و للحقد المركوز في صدورهم بقتله لأقاربهم قلنا: إذا كان علي سياف ربه وسيف رسوله، فأي وصمة في فعله، وهذا قدح فيهم إذ لم يرضوا من الله بحكمه وقد أنزل فيه (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) (1).
على أن ما ذكروه من إمكان الارتداد ظن يمكن وقوعه وعدمه، (وإن الظن لا يغني من الحق شيئا) (2) مع أن الارتداد وقع بما فعلوا كما في حديث الحوض وغيره (فأقول: سحقا لمن غير بعدي).
إن قالوا: هم قليلون والأكثر على الاستقامة، ولا تقدم مصلحة الخاصة على العامة قلنا: بل الأكثر منحرف عن الاستقامة، ومن نظر في القرون الماضية والأمم الخالفة علم ذلك، على أن الله علم كفر الأكثر عند إرسال الأنبياء، فلم يكن ذلك صارفا له عن بعثهم فكذلك القول في إمامة علي لولا بغيهم، ومن الذي يقطع بالارتداد عنه قيامه، ولم لا يكون علم العوام بشدة البأس، يذهب الاختلاف، و هذا فظاهر بغير التباس.
قال شاعر:
لو سلموا لولاة الأمر أمرهم ما سل بينهما في الناس سيفان
فصل
ثم احتجوا بسكوت علي وغيره عند النص على عمر، وبدفن أبي بكر في الحجرة، وقد كانت مقفولة ففتحت من غير فتح، وسمع فيها صوت: أدخلوا الحبيب على الحبيب.
____________
(1) المائدة: 54.
(2) النجم: 28.
الصفحة 114
قلنا: لا نسلم السكوت لما أخرجه ابن قتيبة في كتابه أن أبا بكر قال في وجعه ما ألقى منكم يا معاشر المهاجرين أشد من وجعي وليت أمركم خيركم فكلكم ورم من ذلك أنفه، أراد أن يكون هذا الأمر له.
ومن الكتاب قول علي للحسن: ما زلت مظلوما منذ هلك جدك وقد ذكرنا طرفا مما يدل على كراهة الناس لعمر، عند قولنا في قوله: (إنما وليكم الله و رسوله) (1) إذا كان إذا قد صدر * فأين الرضا بخلافة عمر * ولئن سلم سكوته فهو أعم من رضاه، وقد عرف في الأصول بطلان الاجماع السكوتي، إذ لا ينسب إلى ساكت قول، بل دلالة السكوت على السخط أولى من دلالته على الرضا.
قالوا: يكفي في الرضا ترك النكير، قلنا: لا فإن السخط أسبق للاجماع على تأخره عن البيعة كراهة لها.
قالوا: في وصية النبي صلى الله عليه وآله له أن لا توقع فتنة، دليل صحة خلافتهم، قلنا:
قد أمر الله نبيه بالصبر على أذى الكفار حتى نزلت آية السيف وقد أخرج صاحب جامع الأصول عن أبي ذر قول النبي صلى الله عليه وآله: كيف أنتم وأئمة من بعدي يستأثرون بهذا الفئ؟ قلت: أضرب بسيفي حتى ألقاك قال: هل أدلك على خير من ذلك؟
تصبر حتى تلقاني.
وفي صحيح مسلم والبخاري عن حذيفة نحو ذلك وأمره النبي صلى الله عليه وآله أن يسمع ويطيع وإن ضرب ظهره، وأخذ ماله، فهذا نص كتبهم وهم يستدلون بذلك على إمامة صاحبهم، فما أحسن قول بعضنا:
خصرك يا من حوت محاسنه غرائبا ما روين في عصر
أضعف من حجة النواصب في أن إمام الهدى أبو بكر
وأما الدفن، ففيه جرءة على الله ورسوله، حيث قال: (لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم) (2) (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي (3)) وحيث قال:
____________
(1) المائدة: 55.
(2) الأحزاب: 53.
(3) الحجرات: 2.
الصفحة 115
حرمة المؤمن من ميتا كحرمته حيا.
قيل: الحجرة لعائشة قلنا: يكذبه البخاري حيث روى في صحيحه قوله عليه السلام لبني النجار: ثامنوني وغير ذلك ولم يذكر أنها انتقلت إليها بسبب ناقل.
قيل: أضافها الله إليها بقوله: (وقرن في بيوتكن (1)) قلنا: الإضافة إليهن لا توجب الملك لقوله تعالى: (لا تخرجوهن من بيوتهن ((2) وقد سلف (لا تدخلوا بيوت النبي).
فروا إلى أخذها إياها بإرثها، أدركناهم بقول إمامهم (لا نورث) فخصمها جميع المسلمين فيها، وبأن النبي مات عن تسع نصيبها لا يسعه.
فروا إلى أخذها إياها من صداقها أدركناهم بأنه لم يدخل بامرأة حتى وفاها مهرها بقوله تعالى: (إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن (3)) وقد نسب النبي البيت إلى نفسه فروى الطبري في خبر ابن مسعود أنه عليه السلام قال:
غسلوني وكفنوني وضعوني في بيتي على شفير قبري، واخرجوا عني فإن أول من يصلي علي جبرائيل جليسي وخليلي ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم ملك الموت مع جنوده ثم الملائكة بأجمعها قالت عائشة منكرة عليه: فأين أسكن أنا؟ فقال:
إنما هو بيتي، فبلغ ذلك عمر فقال: إنما هو بيتك.
وقولهم: أدخلوا الحبيب على الحبيب منقوض بما روته عائشة أنه عليه السلام قال:
ادعوا لي حبيبي فجئ بأبي بكر ثم بعمر فغطى وجهه منهما فقالت عائشة: ادعوا له عليا فوالله ما يريد غيره، فأدخله تحت ثوبه وقد سلف ذلك.
إن قيل: فالحسن أوصى بدفنه مع جده وفيه ما ذكرتم من المحذور قلنا:
لا بل الوارد من طرقنا أنه أوصى الحسين عليه السلام أن يدخله ليجدد به عهدا ثم يدفنه بالبقيع، فلما أراد ذلك ظنوا أنه يدفنه، فمنعه مروان وعائشة في قوم من بني أمية حتى قال لها ابن أبي عتيق: نحن إلى الآن ما خلصنا من وقعة الجمل، فبالله
____________
(1) الأحزاب: 33.
(2) الطلاق: 2.
(3) الأحزاب: 50.
الصفحة 116
عليك لا تجعليها وقعة البغلة، ومن العجب العجيب، تقريب البعيد، وتبعيد القريب.
وكيف ضاقت عن الأهلين تربته وللأجانب في جنبيه متسع
وما جاء في طرقهم من كتاب الفتن من وصية الحسن، بدفنه مع جده المؤتمن فليس علينا فيه حجة، لكونه من طرق الخصم المائل عن المحجة، وقولهم: فتحت من غير فاتح، فهو من أكبر القبائح، لأنه كذب على مالك العباد، حيث لم يرد في متواتر الأخبار والآحاد، وقد رووا أنها أذنت في دفن عمر في حجرته، وكان ذلك شكرا منها لنعمته، حيث شارك أباها في معصيته، وتمهيد طريق غصبيته بالمسارعة إلى بيعته.
تذنيب:
روى عاصم بن حميد عن صفوان عن الصادق عليه السلام أنهما لم يبيتا معه إلا ليلة ثم نقلا إلى واد في جهنم يقال له: واد الدود قال الضبي:
ما ضر جدك أحمدا في قبره قبر اللذين كلاهما ظلام
ولجا عليه بغير إذن نبيه غصبا وكانا ناكثان غشام
وقال آخر:
ألا يا معشر الناس إلى ما هذه البدعة
رسول الله مدفون وشيطانان في بقعه
فصل
احتجوا لإمامة عثمان بالشورى حين قال لعمر: استخلف، فقال: لا أحملها حيا وميتا، إن كان الخلافة خيرا فقد أصبنا منها، وإن كانت شرا فقد كفانا ما حملنا منها بل اجعلوا الشورى لهؤلاء الستة الذين مات النبي صلى الله عليه وآله وهو عنهم راض:
علي، وعثمان، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص فبايع عبد الرحمن لعثمان.
الصفحة 117
قلنا: كيف لم يحملها ميتا وقد جعلها شورى في تلك القوم، وقد كانت الشورى سببا لكل شر إلى اليوم، وفي ذلك قوله (إن كانت خيرا) شك في خلافة نفسه وقول عثمان: لا أخلع قميصا قمصنيه الله، يناقض قول عمر هذا، وقول أبي بكر أقيلوني.
وقد ذكر نظام الدين الشافعي في شرحه للطوالع أن عبد الرحمن عرض على علي أن يبايعه على كتاب الله وسنة نبيه وسيرة الشيخين - ثلاث مرات - فأبى سيرة الشيخين، فأعرض ذلك على عثمان ثلاثا فقبله وهو من أقوى الأدلة على اعتقاده فساد سيرتهما وبايعه عليا خوفا عند قول عبد الرحمن له بايع ولا تجعل على نفسك سبيلا كما نقله المخالف عنه، والتخويف والتهديد ظاهر فيه.
وفي رواية ابن قتيبة عن عبد الرحمن أنه قال له: فإنه السيف لا غير، وفي كتاب ابن قتيبة قول علي عليه السلام [ عند قول عبد الرحمن ] بايع عثمان وإلا جاهدناك:
فبايعت مستكرها وفي رواية المخالف فبايعت واللج على قفي، واللج السيف والقف الفقار قال علي لعبد الرحمن: ما أملت منه إلا ما أمل صاحبك من صاحبه، فدق الله بينكما عطر منشم (1).
والعجب لعمر كيف يشهد لهم برضى النبي عنهم ثم يأمر أبا طلحة الأنصاري أن يكون في جيش من قومه إن مضت ثلاثة أيام ولم يتفقوا بقتلهم، ثم بقتل الثلاثة الذين ليس فيهم عبد الرحمن لعلمه أنه لا يعدل بها من ختنه عثمان، ثم وصف عمر كل واحد من الخمسة بوصف فيه تعريض بعدم صلاحه للخلافة، وقال في علي:
ما يمنعني منك إلا حرصك عليها وأنك أجرى القوم إن وليتها تقيمهم على الحق
____________
(1) المنشم كمجلس ومقعد: عطر شاق الدق، أو قرون السنبل سم ساعة، و - امرأة عطارة من همدان كانوا إذا تطيبوا من ريحها اشتدت الحرب فصارت مثلا في الشر، يقال:
أشأم من عطر منشم فكانوا إذا دخلوا الحرب بطيب تلك المرأة تقول الناس: قد دقوا بينهم عطر منشم. فذهب مثلا.
الصفحة 118
المبين، هذا قول ابن قتيبة في كتابه وهل ذلك إلا انحراف منه عن الحق وبغض منه لإمام الخلق.
وقد ورث بغضه له عبد الرحمن ابنه، فإنه أتى يبايع الحجاج ليزيد، وقيل لعبد الملك (1) قائلا: من مات ولم يعرف إمامه مات ميتة جاهلية فأخرج إليه الحجاج رجله ليبايعه بها استهانة به، حيث روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله قال بحضرته لعلي:
أنت خليفتي ومن مات يبغضك مات ميتة جاهلية ثم قال الحجاج: يا أهل الكوفة هذا زاهد زمانكم يروي في علي هذا، ويبايع لغيره برجل الحجاج فما أصدق قول النبي صلى الله عليه وآله: البغض يتوارث والحب يتوارث.
وقد ذكر الملا في آخر المجلد الخامس من كتاب وسيلة المتعبدين قول ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله: من فارق عليا فقد فارقني، ومن فارقني فقد فارق الله فلينظر العاقل فيمن هذا حاله.
إلحاق
وفي كلام عمر إن وليتموه ليحملنكم على المحجة البيضاء إلا أن فيه دعابة ولعمري إنها كلمة هو قائلها وإنما منعه مع البغض والحسد الصحيفة التي توافقوا فيها على منعه كما روي عن علي ذلك بعينه، وأقر ابن عمر أن عثمان قال له ذلك واستكتمه فقال علي عليه السلام: أخبرني به النبي في حياته وفي منامي بعد وفاته ذكره مسيلمة بن قيس في كتابه ويدل على عدم رضاه بالشورى، وإن دخلها ما ذكره في خطبته الشقشقية، فيا لله والشورى، متى اعترض الريب في مع الأولين حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر.
ولأنه خاف على نفسه لو لم يدخلها أن يفهموا منه تخطئتها وادعاء النص عليها دونها أو دخلها طمعا في أن يتفق عليه أو ليورد عليهم ما جاء من المناقب فيه وقد قال عليه السلام: اليوم أدخلت في باب إن أنصفت فيه وصلت إلى حقي، يعرض بيوم السقيفة حيث لم يشاور فيه! ذكره المفيد في المحاسن أو طلب الاحتجاج كما
____________
(1) زاد في النسخة: لما صار الأمر إلى علي كراهة له.
الصفحة 119
أمر الله نبيه بسؤال الكتابيين (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين (1)) ولأنه لو لم يدخل لفهم بعضهم أنه لا يصلح للإمامة، وأدى ذلك إلى عدم تنفيذه لأحكام الله سبحانه وقد صالح النبي صلى الله عليه وآله سهيل بن عمر، ومحا اسم النبوة من الكتاب وشرط عليه رد من أسلم إليه، وليس في ذلك دخول النبي صلى الله عليه وآله في ضلال، فسقط ما ذكرتم في الشورى من الاستدلال.
وقد أسند أخطب خوارزم برجاله إلى أبي الطفيل قال: كنت على الباب وقت الشورى، فارتفعت الأصوات فسمعت عليا يقول: بايع الناس أبا بكر وأنا والله أحق منه، فأطعت مخافة أن يرجع الناس كفارا ثم بايع أبو بكر لعمر، وأنا والله أولى بالأمر منه فأطعت مخافة أن يرجع الناس كفرا ثم تريدون أن تبايعوا لعثمان فإذا لا أطيع ثم شرع في المناشدة بخصال اعترفوا بها وذكر نحو ذلك ابن مردويه وهو من ثقاتهم.
وذكر ابن الراوندي من أعيانهم في منهاج البراعة أن عليا قال: أدخل معهم لأن عمر روى أن النبي صلى الله عليه وآله قال: لا تجتمع النبوة والإمامة في بيت، و الآن فقد استصلحني لها، فأدخل ليظهر أنه كذب نفسه، فأين الرضا بالشورى مع هذه الأمور المشهورة.
فصل
قالوا في إمامة علي: لم يكن لها سبب سوى البيعة والاجماع فيها، بل من الناس من أباها ومنهم من سكت عنها، ومنهم من أتاها، وقد كانت عائشة في الحج فلما قدمت وعلمت قتل عثمان طلبت من علي قتل قتلته وهم عشرون ألفا فأبى ذلك فخرجت إلى البصرة ساخطة عليه، قائلة ما باله يستولي على رقابنا، لا أدخل المدينة ولعلي فيها سلطان.
____________
(1) آل عمران: 93.
الصفحة 120
وخرج معها طلحة والزبير ومعظم الصحابة وكانت المحاربة فقتل طلحة و كف يده عن الزبير، لقول النبي صلى الله عليه وآله: بشروا قاتل ابن صفية بالنار، فصرف زبير الرمح عن ترقوة علي لما رآه لا يمد يده إليه فقال له: أنسيت قول النبي صلى الله عليه وآله: ستحاربه وأنت ظالم له؟ فحطم رمحه فولى فتبعوه وقتلوه، و انكسر العسكر، وأمر علي بستر عائشة ثم اجتمع معها، وتباكيا وندما، على ما كان منهما.
قالوا: ثم بعث علي إلى معاوية يعزله عن الشام، فدفع كتابه إلى عمرو بن العاص، فقال: اجعل لي مصر حتى أكفيك همه، ففعل قال: اكتب إليه: من ارتضاك حتى يصل عزلك إلي؟ ثم امتد الشر حتى كان حرب صفين، وقتل سبعون ألفا من المسلمين: من أصحابك علي خمسة وعشرون، ومن أصحاب معاوية خمسة وأربعون ثم جرى التحكيم فاتفق عمرو والأشعري على خلعهما، ونصب عبد الله بن عباس (1) فلما عزلهما الأشعري أثبتها عمرو في معاوية فقال: ما على هذا كان الاتفاق أنت كالحمار تحمل أسفارا فقال عمرو: وأنت كالكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ثم افترق الفيلقان، فشاق عليا الخوارج من أصحابه وكان حرب النهروان وكان منهم ابن ملجم، فقتل عليا بمسجد الكوفة ودفن علي فيه بين قصر الإمارة والقبلة.
قلنا: نمنع من عدم سبب آخر غير البيعة، لأن الأمة لما افترقت ثلاث و سبعين للحديث المشهور، خرج منها أربع النصيرية والناكثون والقاسطون والمارقون والباقون ادعوا النص وأنكروا الاختيار وقد أسلفنا ذلك في الآيات والأحبار.
وقد قال إمام الحرمين: الاجماع على إمامة علي لا حاجة له، وإنما هاجت الفتن لأمور أخر قلت: هي التهمة بقتل عثمان المسبب عن الشورى التي لم تكن برضا علي، فكان حرب الجمل وصفين عنها، والخوارج مسبب عن المسبب عنها.
____________
(1) بل عبد الله بن عمر.
الصفحة 121
وقال المتكلمون منهم الإمامة: استقرت لعلي بالاجماع لانعقاده زمان الشورى على أنها له، أو لعثمان، فتعينت له بعد عثمان ذكر ذلك نظام الدين الشافعي في شرحه للطوالع وقد اعترفوا بسخط عائشة على علي في زمان إمامته المجمع عليها فلينظر العاقل في إيمان من هذا فعلها ولو فعل ذلك أحد غيرها بخليفة غيره لسارعوا إلى تكفيره مع أن النبي صلى الله عليه وآله لم يقل في حق غير علي: حربك حربي، وحرب النبي كفر بالاجماع وقد أسلفنا طرفا من حرب صفين في بدع معاوية، وسيأتي منه جانب آخر قريب إن شاء الله ويأتي أيضا حرب الجمل، في فصل مفرد، وأما الخوارج فقد ظهرت فيهم علامة المروق من الدين بقتل ذي الثدية كما أخبر به سيد المرسلين أمير المؤمنين، فليس في ذلك كله طعن في الاجماع، بل عارضوا الدين بالاجماع.
وما ذكر من دفن علي في موضع قتله فزور إذ قد أخبر الصادق عليه السلام وأولاده به، وأولاد كل شخص أعرف بقبره، ومذهب الإمامية مشهور بتحريم الدفن في المساجد، فلا عبرة بما افتراه المعاند.
وقال الغزالي: ذهب الناس إلى أن عليا دفن على النجف وأنهم حملوه على الناقة، فسارت حتى انتهت إلى موضع قبره، فبركت ولم تنهض فدفنوه فيه.
وقال أبو بكر الشيرازي في كتابه عن الحسن البصري: أنه عليه السلام قال لولديه:
إذا أنا مت ستجدان عند رأسي حنوطا من الجنة وثلاثة أكفان من استبرقها، فوجدوا عند رأسه طبقا من ذهب، عليه خمس خامات، فلما جهزوه حملوه على بعير، فبرك عند قبره، وكان قد أعلمهم بذلك فوالله ما علم أحد من حفره فالحد فيه وأظلت الناس غمامة بيضاء، وطير أبيض حتى فزعوا.
وأخرج الشيخ في تهذيب الأحكام عن الصادق عليه السلام أنه أوصى ولديه بحمل مؤخر السرير، وقال: تكفيان مقدمه، وتنتهيان إلى قبر محفور، واللبن موضوع فألحداني وأشرجا اللبن علي.
وفي دلائل البطائني كان في مقدم سريره جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، و
الصفحة 122
زمرة من الملائكة، يسمع منهم التقديس وفي حديث آخر مسندا إلى الحسين عليه السلام أنه أوصاهما بإخفاء أمره، وأن يستخرجا من الزاوية اليمنى لوحا، ويكفناه فيما يجدان، فإذا غسلاه وضعاه على اللوح، فإذا رأيا مقدم سريره يشال شالا بمؤخره وأن الحسن يصلي عليه ثم الحسين ففعلا ما رسم، فوجدا اللوح مكتوبا عليه بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما ادخره النبي نوح لعلي بن أبي طالب، وأصابا الكفن في دهليز الدار، وفيه حنوط قد أضاء نوره على نور النهار وفي حديث آخر عن أم كلثوم نحو ذلك.
وفي حديث آخر عن الحسين لما قضينا صلاة العشاء إذا قد شيل بمقدم السرير فلم نزل نتبعه إلى الغري فوجدنا قبرا على ما وصف، ونحن نسمع حفيف أجنحة كثيرة، وجلبة وضجة، فوضعناه ونضدنا عليه.
وعن الصادق عليه السلام لما نضدوا عليه أخذت اللبنة من عند رأسه، وإذا ليس في القبر أحد، وهاتف يقول: إن أمير المؤمنين كان عبدا صالحا فألحقه الله بنبيه وكذلك يفعل بالأوصياء حتى لو مات نبي بالمشرق ووصيه بالمغرب لألحق به.
وفي خبر أن إسماعيل بن عيسى العباسي سنة ثلاثة ومائتين أنفذ غلاما له في جماعة وقال: احفروا هذا القبر الذي افتتن به الناس، ويقولون: إنه علي فحفر خمسة أذرع فبلغوا أرضا صعبة فجاء الغلام وضرب فيها ثم صاح واستغاث فأخرجوه فإذا على يده دم إلى ترقوته فحملوه إلى مولاه ولم يزل لحمه ينتثر من عضده وساير شقه الأيمن حتى مات، وتاب مولاه، وتبرأ، وركب ليلا إلى علي بن مصعب بن جابر، وسأله أن يعمل على علي صندوقا.
وقال أبو جعفر الطوسي: حدثني محمد بن همام الكوفي عن أبي الحسن بن الحجاج قال: رأينا هذا الصندوق قبل أن يبني عليه الحسن بن زيد الحائط.
وفي الأمالي خرج بعض الخلفاء يتصيد في ناحية الغريين فأرسل الكلاب فلجأت الظبا إلى أكمة فرجعت عنها فهبطت منها فرجعت إليها فسأل شيخا من بني أسد فقال: إن فيها قبر علي بن أبي طالب جعله الله حرما لا يأوي إليه شئ إلا
الصفحة 123
أمن، قال: بل قبره في جامع الكوفة.
قال ابن الجوزي: لو علمت الرافضة قبر من هذا لرجموه، فإنه قبر مغيرة ابن شعبة فأخفى الله قبر علي وظهر للرافضة غيره، لعلمه أنهم ينقلون موتاهم إليه فمنعهم من الاتصال به.
قلنا: هذا النقل عن ابن الجوزي غير صحيح، لأنه قال في كتاب تاريخه:
إن أبا الغنايم من عباد أهل السنة ومحدثيهم قال: مات بالكوفة ثلاثمائة صحابي ليس قبر أحد منهم بمعروف إلا قبر أمير المؤمنين عليه السلام وهو هذا الذي تزوره الناس الآن.
جاء الصادق والباقر فزاراه وقد كان أرضا حتى جاء محمد بن زيد الداعي صاحب الديلم فأظهره السر في إنكاره أن لا ينقل المخالف إليه ميتا لا يتصل به فقطعوا أفلاذ أكباده وشردوا أولاده، من أجل هذا طرد الله عن جيرته أرواح أضداده.
قالوا: جعلتم في صندوقه معيديا كلم بعض السلاطين فرده رافضيا فكسر العاقولي الصندوق وأخرجه قلنا: لو كان ذلك حقا لورخ المخالف اسم ذلك السلطان وعين ما وقع فيه من الأزمان لينتهز به الفرصة لكسر أهل الإيمان ولو فرض وقوع ذلك من خدام الإمام لم يضر المذهب كما يضر الاسلام فسقة بني شيبة سدنة البيت الحرام، وقد تشيع السلطان خدابنده وكان من كمال إيمانه وعقله أن كتب الثلاثة على أسفل نعله، وليس هذا بأعجب من إنكارهم إبراء قبر الحسين عليه السلام ذوي العاهات، محتجين بأن الشفا يضاد فعل الله، قلنا: هذا رد لصريح القرآن في عيسى وباقي معاجز الأنبياء.
قالوا: هي هناك قلنا: فكذا هنا، ويلزم على قولهم إبطال الرقيات، وتحريم صناعة الأطباء على أنه قد أسند ابن الجوزي في المجلد الرابع من المنتظم إلى جعفر الجلودي أنه كان به جرب فمسحه بقبر الحسين عليه السلام ونام فانتبه، وليس به شئ منه.
الصفحة 124
تذنيب:
عابنا المخالف بما نفعل في العزا اقتداء بسيد الأنبياء فقد أخرج في المصابيح وجامع الأصول وغيرهما قول أم سلمة رأيت البارحة رسول الله صلى الله عليه وآله وعلى رأسه ولحيته التراب، وهو يبكي قلت: ما لك؟ قال: شهدت قتل الحسين، فقبلنا عليهم ذلك وقلنا: أنتم خالفتم رسول الله صلى الله عليه وآله في المصاب، وتشاهرتم بالاكتحال والخضاب، اقتداء بمن خضب بدمائه بنانه، وأجرى بالفرح والشماتة بنانه ولسانه.
(شعر)
فتوارث الهمج الخضاب فمن كفر تولد ذلك الكفر
نبكي فتضحكهم مصائبكم وسرورهم بمصائبكم نكر
تالله ما سر النبي ولا لوصيه بسرورهم سر [ وا ]
قال الثعلبي في تفسيره: قال السدي: لما قتل الحسين بكت عليه السماء وبكاؤها حمرتها، وحكى ابن سيرين أن الحمرة لم تر قبل قتل الحسين، وعن سليم القاضي مطرنا دما أيام قتله.
فصل
قالوا: عدل الله الأمة بقوله: (لتكونوا شهداء على الناس (1)) وقد شهدت لأبي بكر بلا نص قلنا: قد سلف في هذا الحديث الرابع من حديث الحوض وغيره، و نريد هنا أن نخص هذه الآية بعض الأمة قلنا أن نخص بعض الآخر، فلا حجة، و البعض هم الأئمة وقد دل صاحب الناسخ والمنسوخ أنها كانت (وكذلك جعلناكم أئمة) فحرفت إلى (أمة) إذ كيف تكون خير أمة وفيها أنواع المعصيات وترك الطاعات.
قالوا: إنما كفرتم بسب السلف قلنا: منع إمامكم الرازي في كتابه نهاية العقول من الكفر بذلك، وقد قرأ الكوفيون (كنتم غير أمة) وروي ذلك عن الصادق عليه السلام.
____________
(1) البقرة 143.
الصفحة 125
قالوا: في الآية (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) فتبطل الآية لو كانت خلافة الثلاثة من المنكر قلنا: الظاهر من (كنتم) تدل على الماضي فلا تستعمل في الآتي عند من يقول بدليل الخطاب.
إن قالوا: (تأمرون) تدل على الآتي قلنا: جاء الآتي بمعنى المضي فلا يتمحض اللفظ للآتي بل هو أعم ولا دلالة لعام، على أن الأمة تقال على البعض (إن إبراهيم كان أمة (1)) فيجب الحمل هنا على البعض لعدم اتصاف الكل بالخير، والبعض من ثبتت عصمته دون غيره، على أن الآمر بالمعروف قد يصير ناهيا عنه بتجديد الفسق وبالعكس، فلو لم يكن البعض هو المعصوم، لزم كون المأمور به منهيا بغير نسخ، والعدالة التي وصف الله بها الأمة ليست عامة لفسق البعض فهي موجبة جزئية ونقيضها لا شئ من الأمة بعدل، والإمام في زمان إمامته ليس من الأمة فلا ينقض به.
أو نقول: السلب الكلي كاذب، فيصدق نقيضه، وهو الايجاب الجزئي، ويلزم المطلوب من سلب العدالة عن المجموع.
وأيضا فشهادة الأمة على من سلف، وإلا لكانت شهادة على نفسها.
قالوا: قال عليه السلام: كونوا مع السواد الأعظم؟ قلنا: ممنوع الصحة، ومعها ممنوع العموم، وإلا لوجب الكون مع الكفار، ولأن رواته إن كانوا من السواد الأعظم لزم إثبات الشئ بنفسه، وإن كانوا من غيرهم فكيف تقبل روايتهم.
قالوا: لا تجتمع أمتي على خطأ قلنا: وأين الاجتماع مع افتراقها إلى اثنتين وسبعين فرقة، فما نراها اجتمعت إلا على الاختلاف والتساب فليس بخطاء.
قالوا: قال مؤمن الطاق في كتابه: افعل لا تفعل، أي لا تجتمع على خطأ بعينه، يعني أن خطأ الكثرة مثبت، فلم تعم هذا، وقد منع النظام حجية الاجماع بأدلة سلمها الرازي في معالمه هي أن الخطاب في الآية للحاضرين، وهم غير معلومين فلا يدخل غيرهم تحتهم.
____________
(1) النحل: 120.
الصفحة 126
إن قيل: لما لم تثبت حجيته هناك لم تثبت في كل إجماع لعدم القائل بالفرق قلنا: هذا إثبات لأصل الاجماع بأضعف أنواع الاجماع، وهو دور.
سلمنا وصف الأمة بالعدالة، فلم قلتم هي عدل في كل شئ فإن الوصف الثبوتي يكفي صورة صدقه، فإذا قلنا: فلان عالم لا يقتضي عموم علمه.
سلمنا تعميم العدالة لكن يجوز أن تكون شهادتها لأبي بكر خطأ لعدم عصمتها وهي من الصغائر، فلا تقدح في عدالتها انتهى معنى ما حكاه الرازي منها ولم يأت بنقض عليها.
قالوا: قال عليه السلام: لا تجتمع أمتي على ضلال قلنا: قد سلف هذا، ونزيد هنا بأنه خبر واحد، فيرجع الاجماع إليه، فلا حجة فيه، وإن كان مجمعا عليه لزم إثبات الشئ بنفسه، وقد أنكره النظام وجماعة وهو أيضا مخصوص بمن عدا المجانين والأطفال والعوام وقد اختلف في حجية العام المخصوص، وحينئذ نخص كل أدلة الاجماع، وخيار الأمة وأفضلها الإمام، فالعبرة بقوله فمن ثم لا تجتمع الأمة على ضلال.
على أنه يجوز تأويل الأمة بالأئمة كما سلف وقد قرئت (تجتمع) بسكون العين على أنه نهي لا خبر، وهو أولى وإلا لزم كذب الخبر عندهم لوجوب الأمر شرعا على الناس في كل أوان، وقد أجمعوا على تركها الآن.
إن قيل: لا تجتمع أمتي على ضلال اختيارا لا قهرا قلنا: فجاز اجتماعكم على خلافة أبي بكر قهرا، لا اختيارا، ولئن سلمت حجيته لا نسلم حصوله لخروج وجوه بني هاشم منه، والاثنى عشر الذين شهدوا على رسول الله صلى الله عليه وآله عند أبي بكر بالخلافة لعلي، وقد سلفت أقاويلهم وأسماؤهم ولقد أحسن بعض الفضلاء في قوله شعرا:
الناس للعهد ما والواو ما قربوا وللخيانة ما عابوا ولا شنعوا
وفيم صيرتم الاجماع حجتكم والناس ما اتفقوا طورا وما اجتمعوا
أمسى علي بعيدا من مشورته مستنزعا فيه والعباس يمتنع
الصفحة 127
وتدعيها قريش بالقرابة والأنصار ما رفعوا فيها ولا وضعوا
فأي خلف كخلف كان بينهم لولا تلفق أخبار وتصطنع
وقد سلف شئ من ذلك.
فصل
قالوا: توعد الله اتباع غير سبيل المؤمنين قلنا: قال النظام: ليست متابعة الغير الاتيان بمثل فعله، وإلا لكان اتباع اليهود في كلمة التوحيد، بل هو فعل مثل فعل الغير لأجل أنه فعله فلو فعل مثل فعل الغير لأن الدليل أداه إليه لم يكن متبعا له، وحينئذ فمتابعة سبيلهم وغير سبيلهم بينهما واسطة هي عدم المتابعة لأحد حتى يظهر الدليل، فلا يلزم من تحريم غير سبيلهم وجوب سبيلهم، فإن المتوقف غير تابع لأحد، و (سبيل) نكرة مثبتة، فلا تعم فتحمل على ما به صاروا مؤمنين وهو الإيمان انتهى نقل الرازي في معالمه عن النظام، ولم يحصل منه جواب تام.
على أن سبيل المؤمنين هو التمسك بالدليل لا الاجماع، إذ لو اجتمعوا على مباح وجب وهو تناقض، وفي هذا نظر إذ اللازم من الاجماع على إباحته وجوب اعتقاد إباحته لا أنه يصير واجبا حتى يلزم التناقض ولو سلم ذلك فالمراد بالمؤمنين من علم إيمانهم، وذلك متعذر إلا من المعصوم، لعدم العلم بموافقة باطنهم لظاهرهم.
ثم نقول: لا بد للاجماع من دليل، وليس في العقل ولا القرآن دليل إمامته ولا في السنة، لأنهم لا يقولون: بنص ولا وصية، ولأن كل فرد يجوز خطاؤه فما يعصم الكل عنه، ولأن الاجماع إن اعتبر فيه البعض، فقتل عثمان حق وإن اعتبر فيه الكل فقد قال إمام الحرمين: اجتماع الجمع العظيم على القول الواحد لا ينعقد إلا لدليل قاهر جمعهم عليه.
قال الرازي: وهو منقوض بإطباق الكتابيين على التثليث وصلب عيسى فالمعتمد على قوله تعالى: (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين (1)) قال: وهو كل الأمة فالاجماع حجة.
____________
(1) براءة: 119.
الصفحة 128
ونحن نقول: يصير المعنى كونوا معكم وهو مناف للمبالغة، على أنا قد بينا النص على علي عليه السلام فالاجماع على خلافة غيره خطأ بغير نزاع.
إن قالوا: سند الاجماع قوله عليه السلام: اقتدوا باللذين من بعدي أبا بكر وعمر قلنا: على تسليمه، المراد كتاب الله والعترة كما هو مشهور من وصية النبي بهما وقد وردت أبا بكر بالنصب على النداء فيكون أمرا للرجلين بالاقتداء بهما، وجهة تخصيصهما بعد دخولهما بالعموم ما علمه من خلافهما وأيضا فيمتنع الاقتداء بهما لما شهر من خلافهما، ولو كان الاقتداء موجبا لخلافتهما لزم ذلك في غيرهما على العموم لحديث أصحابي كالنجوم.
قالوا: نكح علي من سبيهم خولة، فهو دليل على الرضا بهم، وأنكح الحسين شاه زنان قلنا: قد روى البلاذري منكم في كتابه تاريخ الأشراف أن عليا اشتراها منهم ثم أعتقها وأمهرها وتزوجها، وولدت له محمدا، وشاه زنان بعث بها وبأختها الوالي من قبله على جهة المشرق، وهو حريث بن جابر فنحلها الحسين، فولدت له زين العابدين ونحل أختها محمد بن أبي بكر فولدت له القاسم، على أنهم إذا كانوا أهل ردة لا منع من نكاحهم لأحد من المسلمين، فضلا عن ولاة الدين.
وقد أسند ابن جبير في كتاب إبطال الاختيار إلى الباقر عليه السلام أن رجلين أتياه واحتجا بذلك على رضاه، فدعا بجابر بن حزام وأخبره بقولهما فقال: ظننت أن أموت ولا أسأل عن ذلك إن خولة لما دخلت المسجد أتت قبر النبي وسلمت و شكت فطرح طلحة والزبير ثوبيهما عليها، فقالت: أقسم بربي ونبيي لا يملكني إلا من يخبرني بما رأت في منامها أمي، وهي حامل بي، وما قالت لي عند ولادتي وإن ملكني أحد بقرت بطني، فيذهب ماله ونفسي، ويكون الله المطالب بحقي فدخل علي فأخبروه فقال: ما دعت إلى باطل أخبروها تملكوها.
قالوا: ومن فينا يعلم الغيب؟ قال أبو بكر: فأنت أخبرها، قال: فإن أخبرتها ملكتها بلا اعتراض فيها؟ قال: نعم، فقالت: من أنت لعلك الذي نصبه النبي صلى الله عليه وآله بغدير خم؟ قال: نعم، قالت: من أجلك غصبنا ومن قبلك
الصفحة 129
أتينا فقال عليه السلام: حملت بك أمك في زمان قحط، وكانت تقول: إنك حمل ميشوم ثم بعد سبعة أشهر رأت في نومها أنها قد وضعتك وهي تقول لك ذلك وإنك تقولين لا تشأمي في، فإني ولد مبارك يملكني سيد يولدني ولد، يكون للحنفية فخرا.
قالت: صدقت أنى لك هذا؟ قال: من رسول الله صلى الله عليه وآله، قالت: فما العلامة بيني وبين أمي؟ قال: لوح في عقيصتك قد كتبت فيه رؤياها وكلامك ثم دفعته إليك لما بلغت عشر سنين، وقالت: اجهدي أن لا يملكك إلا من يخبرك به فأخرجت اللوح بين الناس فملكها علي دون غيره بما ظهر من حجته وروي أنه حملها إلى أم سلمة فلما ورد أهلها خطبه منهم وتزوجها.
على أنه قد قيل بجواز نكاح سبي الكفار، وإن سباهم من لم يكن إليه:
سبيهم، وهذا يسقط السؤال عندكم.
قالوا: جلس في مجالسهم مباشرا لأشوارهم قلنا: لا بل كان يجلس في المسجد وليس هو مختصا بهم وكان يتفق الاجتماع معهم، ولو سلم أنه قصد ذلك فإنما كان ليردهم عن خطائهم، وقد رجعوا في مواضع إلى قوله عن آرائهم، ودخوله في أشوارهم ليرشدهم إلى ما يشذ من أمر الدين عنهم، أو لينهاهم عن ما يمكنه من مناكرهم.
قالوا: أخذ عطاهم، قلنا: له أخذه لأنه أحق به من حيث عموم ولايته.
فصل
قالوا: أنكح عمر ابنته، قلنا: قال المرتضى في كتابه الشافي: العقل لا يمنع إباحة نكاح الكفار، وإنما يمنع منه الشرع، وفعل علي أقوى حجة في أحكام الشرع على أنه لا يمتنع شرعا إنكاح الكافر قهرا لا اختيارا، وقد كان عمر على الاسلام ظاهرا وعمر ألح على علي وتوعده بما خاف علي على أمر عظيم فيه من ظهور ما لم يزل يخفيه، فسأله العباس لما رأى ذلك رد أمرها إليه فزوجها منه.
وقد أخرج ابن المغازلي الشافعي في مناقبه والبخاري في صحيحه أن عمر
الصفحة 130
صعد المنبر وقال: حملني الالحاح على علي في ابنته كذا وكذا الحديث.
وفي الحديث أن عمر أحضر العباس وقال على المنبر: أيها الناس هنا رجل من علية أصحاب النبي قد زنى وهو محصن، وقد اطلع أمير المؤمنين وحده عليه فقالوا: ليمض حكم الله فيه فلما انصرفوا قال للعباس: والله لئن لم يفعل لأفعلن فأعلمه فأبى، فسأله العباس السكوت ومضى إلى عمر فزوجه أم كلثوم وفي حديث آخر إنه أمر الزبير يضع درعه على سطح علي فوضعه بالرمح ليزميه؟ بالسرقة.
وفي كافي الكليني أنه قال: لأغورن زمزم ولا أدع لكم مكرمة إلا هدمتها ولأقيمن شاهدين بأنه سرق وأقطعه.
وسئل مسعود العياشي عن أم كلثوم، فقال: كان سبيلها سبيل آسية مع فرعون، وذكر النوبختي أنها كانت صغيرة ومات عنها قبل الدخول بها.
إن قيل: إنما منع عليا تزويجه الحياء والأنفة فولى العباس، قلنا: قد تولى تزويج غيرها من بناته ولم يمنعه ذلك فلم تبق علة الامتناع سوى الكراهة، و قد روى أهل المذاهب الأربعة عن جعفر بن محمد بن مالك الكوفي مسندا إلى الصادق عليه السلام أنه قال: ذلك فرج غصبنا عليه، وروته الفرقة المحقة أيضا.
على أنه لا خلاف أن التناكح والتوارث على الاسلام، ولا شك في كونه على ظاهر الاسلام.
وقد ذكر الراوندي في خرايجه رواية متصلة إلى الصادق عليه السلام أن عليا دعا يهودية نجرانية، فتمثلت بأم كلثوم فزوجه وحجبت أم كلثوم، فلما قتل ظهرت.
وحكى المفيد في المحاسن عن ابن هيثم أنه أراد بتزويجه استصلاحه وكفه عنه، وقد عرض لوط بناته على الكفار ليردهم عن ضلالهم (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم (1)) قالوا: أثبتم خلافة علي بالميراث، وظاهر أن الميراث والخلافة لا تقسم
____________
(1) هود: 78.
الصفحة 131
قلنا: لم نثبتها بالميراث بل بالنص والأفضلية، على أن أقارب الإنسان أحق بمعروفه لا على حد الميراث لآية (أولوا الأرحام) (1).
وما أحسن قول بعض المؤمنين: لو بعث النبي اليوم أين كان ينزل برحله؟
قال السامع: مع أهله؟ قال: فأنا أضع محبتي حيث ينزل النبي برحله.
قالوا: فالعباس أقرب منه فإن كان بالميراث فله: قلنا: قد أجمعنا وإياكم على أنه طلب مبايعة علي، وفي ذلك نفي استحقاقه، وقد رويتم في مسند ابن حنبل قول علي في حياة النبي: والله إني لأخوه وابن عمه ووليه ووارثه، ومن أحق به مني؟ ولا نسلم أقربية العباس لأنه عم للأب وعلي ابن عم للأبوين.
إن قيل: فعقيل أخوه قلنا: لا خفاء في امتياز علي عنه بشدة الملازمة والتربية والتزويج وغير ذلك لا يحصى.
قالوا: لم يخص النبي أحدا حيث قال: الأئمة من قريش، فرجحت الأمة المتقدمين من الأئمة قلنا: الخبر من طرقكم فليس حجة علينا، مع أن عليا أقرب قريش وأفضل، هذا مع قولكم: إن النبي لم يوص، فيكون الأحق بميراثه بمنطوق الكتاب ابنته وباقيه، للأقرب إليه.
قالوا: فقد استخلف موسى يوشع بن نون دون أولاد هارون، قلنا: هذا لنا لا لكم، لأنه إذا استخلف، ولا شك أن النبي أشفق منه، فكيف لم يستخلف عندكم؟ وأيضا فالكلام في استخلاف الأمة لا في استخلاف الأنبياء والمعصومين الأئمة.
على أن مقاتل ذكر في تفسيره أن يوشع ابن أخت موسى، وهو أفضل من أولاد هارون وهذا ما نقوله في علي والعباس
____________
(1) الأنفال: 75.
الصفحة 132
فصل
قالوا: قدم في الصلاة قلنا: هي عندكم جائزة خلف كل بر وجافر، مع أن الصلاة خاص وهو لا يدل على العام، على أن الأمر بالصلاة كان من عائشة لا غير، وإن اختلف طرقه إليها ولهذا لما عرف خرج غلى ما به من الجهد، وعزله كما أخرجه البخاري وغيره ورواه منهم إبراهيم بن ميمون والواقدي والشاذ - كوني ورواه أبو حنيفة عن إبراهيم النخعي، ومن هذا الرسول الذي بعثه النبي صلى الله عليه وآله إليه يأمره بالصلاة؟ كان ينبغي ذكره باسمه وقبيلته، لأنه عندهم من المهمات.
ثم إن كانت صلاته أمارة ظنية دالة على خلافته كان عزل النبي له برهانا قاطعا على عدم إمامته.
إن قالوا: لا يدل عزله على عدم أمره كما في براءة، فإنه أمره ثم عزله قلنا: كفانا ما في عزله من عدم صلاحه، ويكون أمر النبي له في الجماعة اليسيرة لينبه بعزله على عدم صلاحه في المحافل الكثيرة، وإنما رواه عن النبي الحسن البصري حيث أجاز النص الخفي مستدلا بصلاة أبي بكر عن أمر النبي.
قالوا: لما أمر النبي صلى الله عليه وآله أبا بكر بالصلاة، قالت عائشة: لا يحتمل أن يقوم مقامك، فدل قولها على أن الأمر ليس منها، قلنا: هذا يبطله ما رواه البخاري ومسلم أنه صلى بالناس عند خروج النبي صلى الله عليه وآله إلى الصلح بين بني عمرو بن عوف فحضر عليه السلام فأخره عنها.
وفي الحديث الثاني والسبعين من الجمع بين الصحيحين قالت عائشة: لما اشتد وجع النبي استأذن أزواجه في أن يمرض في بيتي فأذن فحمل.
وفي الحديث الثالث والسبعين عنها أنه كان يقول: أين أنا اليوم؟ أين أنا غدا، استبطاء ليوم عائشة وفي مسلم والبخاري أنها وضعت له الماء ثلاث مرات و يغمى عليه في كل مرة، ويقول: أصلى الناس؟ ثم أرسل إلى أبي بكر يصلي
الصفحة 133
بالناس فوجد خفا فخرج.
وفي هذا الحديث دلالة على أنه كان يكره صلاة أبي بكر بالناس، وأنه ساء به ظنه أن يتقدم بغير إذنه في مرضه، كما تقدم بغير إذنه في صحته، وأنه كان يسئ الظن بهم أن يصلوا قبل إذنه وفي حديثها أن أباها لما أتته الرسالة بالصلاة أشار إلى عمر أن يصلي، فإن كان عرف أن الرسالة من النبي حرمت مخالفتها، و إن عرف أنها ليست منه لم يسع له فعلها، وفي حديثها أنها راجعت النبي صلى الله عليه وآله فاعتقد أن رأيها لأبيها أصلح له من رأي النبي، وكيف لم يصل النبي على حالة مرضه في بيته.
هذا وقد استخلف جماعة من الصحابة ولم يدع أحدهم إمامة ولا ادعاها لهم أحد من العامة فاستخلف أبا لبابة في غزاة بدر، وغزاة قينقاع، وابن أم مكتوم في عام الفتح، وفي غزاة الكدر، مع أنه لا يتحرز من أكثر النجاسات لكونه أعمى وفي حنين أبا ذر وفي الحديبية سباع بن عرفطة وفي ودان سعد بن عبادة، وفي بواط سعد بن معاذ، وفي طلب كرز زيد بن حارثة وفي بدر الموعد عبد الله بن رواحة وفي غزاة العشيرة أبا سلمة واستخلف عتاب ابن أسيد على مكة والنبي مقيم بالأبطح.
قالوا: صلاته متأخرة وقد علم وجوب الأخذ بالأقرب فالأقرب، قلنا:
قد جاءت رواياتكم أن المأمور بالصلاة على فقد روى علي بن بشر عن الصادق عليه السلام وابن المبارك عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وآله أمر عليا بالصلاة فخشي أن تفوته نفس رسول الله صلى الله عليه وآله فأمر أبا بكر بالصلاة ورجع، فقال: أصليت بالناس قال:
أمرت أبا بكر وخشيت أن تفوتني نفسك فقال: أخرجني فخرج فعزله وفي حديث عبد الله بن زمعة: لئلا يصلي بهم ابن أبي قحافة.
إن قيل: فما ورد على أبي بكر من رد رسالة النبي صلى الله عليه وآله يرد على علي قلنا:
إنما جاء من طرقكم، فذكرناه إلزاما لكم فلا ورود، وقد روى جماعة أن النبي صلى الله عليه وآله قال: مروا بعض القوم أن يصلي بالناس، فقالت عائشة لبلال:
قل لأبي يصلي، وقالت حفصة: مر أبي يصلي فأفاق النبي صلى الله عليه وآله فقال: إنكن
الصفحة 134
لصويحبات يوسف، وأورده الغزالي في الإحياء.
وعن الباقر عليه السلام أنه أخره آخر الصفوف وصلى ثم قال: ما بال قوم تقدموا بغير أمري حسدا لأهل بيتي، ملأ الله أجوافهم نارا وقلوبهم نارا فعاد بالتوبيخ عليهن، وهو دليل أن الأمر منهن.
قالوا: إنما قال: صويحبات يوسف عند قول عائشة: أبا بكر لا يحتمل القيام مقامك قلنا: لو كان كذلك لم يحسن تشبيههن بهن لأن نساء يوسف لا يخالفن يوسف، وإنما طلبت كل واحدة لنفسها كما طلبت كل من عائشة وحفصة الفخر لنفسها، ثم نقول: كيف يأمره بالصلاة وقد أنفذه في جيش أسامة لما خاف منه و من جماعة أن يبدلوا أمره.
قالوا: لم يكن أبو بكر فيه، قلنا: روى الواقدي عن ابن زياد عن هشام عن أبيه عروة قال: كان فيهم أبو بكر وروى عن عمرو بن دينار مثله، وقد اشتهر قول أسامة: أمرني النبي صلى الله عليه وآله على أبي بكر، وقد أسلفنا ذلك في المطاعن.
والصلاة وإن صحت لم توجب الإمامة، وإلا لاحتج بها على الأنصار و لوجبت إمامة صهيب حيث قدمه عمر يصلي بالمهاجرين والأنصار، وقد يؤمر المفضول على الفاضل عندكم، كما في أسامة، ولم يدع له أحد إمامة وقد قلتم أن النبي صلى الله عليه وآله صلى خلف عبد الرحمن بن عوف ركعة من الصبح، ولم توجب له إمامة، مع أن صلاته به أقوى دلالة لأنه أم سيد الأمة في رواية أبي شيبة وابن الإصبهاني وغيرهما وإن لم ينتظر النبي حتى يتطهر لا غير، كما في الحديث الأول من الجمع بين الصحيحين فإذا تقدموا بغير إذنه في صحته فكيف حال اليأس منه لمرضه.
إن قلت: لا يلزم من تسرع ابن عوف إلى ذلك تسرع غيره، قلت: قد ذكر البخاري ومسلم في صحيحيهما أن أبا بكر صلى بالناس من دون إذن النبي صلى الله عليه وآله حين مضى ليصلح بين بني عوف فجاء النبي فتأخر فكيف يقال: إنه يتوقف عن التقدم إلى الرياسة و [ لا ] يصلي بغير إذن.
الصفحة 135
تذنيب:
نقلنا من الأطراف لابن طاوس: سأل عيسى بن المستفاد الكاظم عليه السلام عن الصلاة فقال: لما ثقل النبي صلى الله عليه وآله دعا عليا ووضع رأسه في حجره، فأغمي عليه فحضرت الصلاة فأذن لها فخرجت عائشة وقالت، يا عمر صل بالناس، فقال: أبوك أولى فقالت: صدقت ولكنه لين وأكره أن يواثبه القوم، فقال: بل يصلي وأنا أكفيه من يثب عليه، مع أن محمدا مغمى عليه، لا أراه يفيق منها والرجل مشغول به، يعني عليا فبادر بالصلاة قبل أن يفيق منها فإن أفاق خفت أن يأمر عليا بها، فقد سمعت مناجاته منذ الليلة وفي آخر كلامه: الصلاة الصلاة.
فخرج أبو بكر ليصلي، فلم يكبر حتى أفاق النبي صلى الله عليه وآله فخرج متكيا على العباس وعلي، فصلى ثم حمل على المنبر، واجتمع أهل المدينة حتى خرجت العواتق فبين باك وصائح ومسترجع وصارخ، فخطب على جهد، وكان في خطبته: خلفت فيكم كتاب الله فيه النور والبيان، وخلفت فيكم العلم الأكبر علم الدين ونور الهدى، هو حبل الله فاعتصموا به ولا تتفرقوا عنه، ألا وإنه كنز الله اليوم، وما بعد اليوم، ومن أحبه وتولاه اليوم وما بعد اليوم، فقد أوفى بما عاهد عليه الله ومن عاداه اليوم وما بعد اليوم جاء يوم القيامة أعمى أصم لا حجة له عند الله، ألا ومن أم قوما إمامة عمياء، وفي الأمة من هو أعلم منه فقد كفر.
قال البرقي:
لقد فتنوا بعد موت النبي وقد فاز من مات عبدا رضيا
غداة أتى صائحا للصلاة بلال وقد كان عبدا تقيا
وأحمد إذ ذاك في حضرة يعالج للموت أمرا وحيا
فقامت من الدار شيطانة تنادي بلالا نداء حفيا
يصلي عتيقك بالمسلمين فجاءت بذلك أمرا فريا
فلما توسط محرابه أتى جبرئيل ينادي النبيا
محمد قم فتن المسلمون فقام النبي ينادي عليا
الصفحة 136
توكا على عمه والوصي سريعا على ضعفه منحنيا
فنحاه عنه مزيلا له وقد كان - لا كان - داء غبيا
وما قدموه بأمر النبي وما كان يوما له مرتضيا
فصل
قالوا: صحبة الغار دليل الأفضلية، قلنا: قد أسند ابن حنبل إلى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله ما أصحبه إلى غاره ولا اطلعه على أسراره، حيث قال أبو بكر:
فجئت وعلي نائم فحسبت أنه رسول الله فقال علي: إنه قد انطلق نحو بئر ميمون فهذا يشهد أن اتباعه لم يكن بأمره، على أنه قد وردت رواية أنه إنما أخذه خوفا منه وقد سلف ذلك في مبيت علي للفداء مستوفى ولئن سلم اصطحابه فالصحبة لا توجب الفضيلة لقول الله: (قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت) (1) (وما صاحبكم بمجنون) (2) وقال أمية بن الصلت:
إن الحمار مع الحمير مطية وإذا خلوت به فبئس الصاحب
وقال الشنفري:
وإني كفاني فقد من ليس جاريا بحسبي ولا في قومه متعلل
ثلاث صحاب لي فؤاد مشيع وأبيض إصليت وصفراء عيطل
وأبلغ من هذا أن الصحبة تصدق مع الكراهة والبغضاء، فقد سمي الزوجة صاحبة (3) وهي عدو (وإن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم) (4)
____________
(1) الكهف: 37.
(2) التكوير: 22.
(3) في قوله (أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة) الأنعام: 101، وقوله:
(ما اتخذ صاحبة ولا ولدا) الجن: 3، وقوله (وصاحبته وبنيه) عبس: 36.
(4) التغابن: 14.
الصفحة 137
وسمى المعذبين في النار أصحابها (وأن المسرفين هم أصحاب النار (1)).
قالوا: هي أفضل من النوم على الفراش، لأن نفسه كالمساوية لنفس النبي صلى الله عليه وآله ونفس علي كالفادية لها، قلنا: جاز أن يكون خادمه ولا مساواة للخدمة مع أن فيه ردا لما أجمع المفسرون عليه (وأنفسنا وأنفسكم (2)) أنها في علي دون كل أحد، وقد نزل فيه، إنه الأذن الواعية، والهادي، وصالح المؤمنين وغير ذلك كثير قد ذكرناه في بابه، ولم ينزل في أبي بكر شئ لما في صحيح البخاري أن عائشة قالت: ما أنزل الله فينا شيئا إلا أنه أنزل عذري ولو نزل في أبيها شئ لعلمته مع حرصها على علوه قالوا: وجاء النوم في التواريخ والسير فهو مظنون والغار مقطوع، قلنا: قد عرف نقل النوم بالتواتر وجميع العلماء يسندون إلى التواريخ والسير على أنه مقطوع الدلالة على الأفضلية وقصة الغار مظنون الدلالة، لعدم تصريحها باسم أبي بكر.
قالوا: عتب الله على كل الأمة غير أبي بكر بقوله: (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار (3)) ولم يقل: إذ نام على فراشه، قلنا: تلك حكاية حال تحتمل عدم الفضيلة بخلاف النوم المصرح فيه بالفضيلة في قوله: (ومن الناس من يشري نفسه) (4) الآية ولا نسلم عتب الله على كل الأمة، فإن الآية مختصة بقوم تثاقلوا في الجهاد، ويلزم على القول بالعموم دخول عمر وعثمان فيها، والعتب على الكل ينفي ما استدلوا به على عدالة الأمة في قوله:
(وكذلك جعلناكم أمة وسطا (5)) قالوا: نصر أبو بكر النبي صلى الله عليه وآله في ذلك الوقت
____________
(1) غافر: 43.
(2) آل عمران: 61.
(3) براءة: 40.
(4) البقرة: 207.
(5) البقرة: 143.
الصفحة 138
دون غيره، قلنا: يرده قوله تعالى: (فقد نصره الله (1)) ولم يذكره.
قالوا: أنزل الله سكينته على أبي بكر لأنها لم تفارق النبي قط قلنا: لو نزلت عليه لكان في المحاربين، وقد عرفت أنه من جملة الهاربين، والسكينة أجل قدرا وأعظم خطرا من أن يطيش محلها أو يهرب من وصف بها، وهذه كتب المغازي لم يذكر في شئ منها ثابتا، ولا لضعيف فضلا عن غيره قاتلا ولا جارحا، بل المشركون بريئون من محاربته، مبتلون بعلي ونكايته، وقد وسمه النبي صلى الله عليه وآله بالفرار كما سمى عليا بالكرار، وهما من أسماء المبالغة وأيضا فلو كانت لم تفارق النبي صلى الله عليه وآله قط فما بالها نزلت بعد ذلك في قوله: (فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين (2)) بل نقول: اختصت في الغار بالنبي إذ لو كان معه مؤمن لشركه فيها كغيرها، وما هذا إلا كتنبيه الغافلين، وإرشاد الضالين، ولأن (الهاء) كناية عن النبي من أول الآية إلى آخرها، ولم يأت بالتثنية في نزولها.
إن قالوا: جازت العناية بالواحد عن الاثنين في (انفضوا إليها (3)) (ولا ينفقونها) (4) قلنا: معلوم عند السامع الرجوع إليها بخلاف ما نحن فيه إذ لا يعلم السامع بدخول أبي بكر معه كما تدعيه، فيكون ملغزا غير لايق بقوله: (تبيانا لكل شئ (5).
قالوا: اختص أبو بكر بالحزن فاختص بالسكينة لحاجته قلنا: جاز مشاركة النبي له فيه فهو أولى بها منه، على أن السكينة لم ترتبط بالحزن لنزولها على النبي صلى الله عليه وآله في بدر وحنين.
إن قالوا: خاف ولم يظهره، قلنا: وفي الغار خاف ولم يظهره.
____________
(1) براءة: 40.
(2) الفتح: 26.
(3) الجمعة: 11.
(4) براءة: 34.
(5) النحل: 89.
الصفحة 139
قالوا: نهي النبي عن حزنه دليل شفقته، قلنا: حزنه ليس مباحا ولا طاعة وإلا لما نهى النبي عنه، فهو إما معصية أو مكروه فمرجوح ولا فضيلة في المرجوح.
قالوا: نهى الله نبيه في قوله: (فلا تحزن عليهم (1)) ونحوها فما ذكرتم ورد فيه، قلنا: ثبوت عصمته يوجب حمله على التنزيه.
قالوا: فليحمل نهي النبي صلى الله عليه وآله لصاحبه على التنزيه، قلنا: النهي حقيقة في التحريم، فلا يعدل عنها لغير دليل، فالمعصية لازمة دائما إذ لم تنقل التوبة وقد روى أبو إسحاق وهو من أمنائهم أن أبا بكر قال:
فلما ولجت الغار قال محمد أمنت فثق من كل ممس ومدلج
بربك إن الله ثالثنا الذي وثقنا به في كل مثوى ومفرج
ولا تحزنن فالحزن لا شك فتنة وإثم على ذي البهجة المتحرج
فقد شهد في شعره على نفسه أن النبي جعل حزنه فتنة، وهي أكبر من القتل.
إن قلت: لم تخص الفتنة في المعصية، لأن لها معان متكثرة، قلت: حيث إنه عليه السلام بالإثم قرنها، ارتفع باقي وجوهها.
قالوا: أخبر أن الله معهما في قوله: (إن الله معنا) قلنا: جاز كون الجمع للعظمة، وقد ذكر البيهقي أنه قال له: على ما تحزن؟ قال: على ابن عمك النائم على فراشك فقال: (إن الله معنا) أي معي ومعه، ولأن الله مع كل لقوله:
(ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم (2)) الآية.
قالوا: إنما كان حزنه على النبي فإن الحزن ما كان على الغير، والخوف ما كان على النفس، والنبي صلى الله عليه وآله لم يقل: لا تخف، قلنا: ذكر الزمخشري في كشافه أن الخوف غم يلحق الانسان لمتوقع، والغم حزن يلحقه لواقع، وأيضا فالقرآن عاكس ما قالوا، قال لأم موسى: (فإن خفت عليه (3)) وقال: (لا يحزنهم
____________
(1) النحل: 127، النمل: 70.
(2) المجادلة: 7.
(3) القصص: 7.
الصفحة 140
الفزع الأكبر (1)) وهذا على النفس.
قالوا: جمعهم الله في كلمة وهي قوله: (إذ هما في الغار) وهي شدة المناسبة بينهما، ولهذا ذم النبي الخطيب الجامع بين الله ورسوله في قوله: (ومن عصاهما) قلنا: لا شك في رفع المناسبة بين الله ورسوله، فلهذا حسن ذمه، أما بينه وبين أبي بكر فالمناسبة ثابتة في الجسمية والامكان والحاجة ونحو ذلك فجاز الجمع بهذه الأشياء لا للمناسبة في الفضيلة.
قالوا: جمعهما الغار فهو دليل الملازمة قلنا: المسجد أفضل من الغار وقد اجتمع فيه مع النبي الكفار في قوله: (فما للذين كفروا قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين (2)) فقد صار ما تمسك به المخالف (كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف)
إذا جاء تيمي يريد تفاخرا فقل عد عن ذا كيف أكلك للضب
ولو سلمت له تلك الأمور، فقد زالت بما أحدثه من الشرور، في سلب وصيه قميص خلافته، وما تبع ذلك من مخالفته، وفد؟ ورد في حديث الحوض عند قوله عليه السلام: أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، وقال عثمان للصحابة: ألم تعلموا أني جهزت جيش العسرة، واشتريت بئر أرومة، وفعلت وفعلت؟ قالوا: بلى إلا أنك غيرت وبدلت، وأيضا فإن الناكثين سلبتهم محاربة أمير المؤمنين ثمرة صحبة سيد المرسلين ولهذا اعتذروا لهما (3) بالتوبة وهي رواية فلا تخرجهما من الحوبة لأن المحاربة دراية.
____________
(1) الأنبياء: 103.
(2) المعارج: 37.
(3) يعني طلحة والزبير.
الصفحة 141
فصل
لما قلنا: نرى من السنة من تشيع، ولا نرى من الشيعة من يتسنن، وذلك دليل على حقية التشيع.
قالوا: هذا يدل على بطلان التشيع، ولأن جميع الأديان إنما فسد في آخرها بالخروج إلى الأصنام وغيرها عنها، ودين الاسلام إنما فسد بحدوث الرفض فيه، وتقوم الساعة على هذا الفساد، حتى يعود الدين غريبا كما في الحديث فالرفض منقصة.
قلنا: أول ما فيه أنه معارض بقول المسلمين: نرى من الكفار من أسلم فالاسلام منقصة.
وثانيا أن حدوث الفساد إنما هو بفعل السنة حيث قتلوا أولاد نبيهم، و شردوهم عن أوطانهم، ومنعوهم عن ميراثهم، وسبوا عليا في زمان إمامته بالاتفاق على منابرهم.
قال شيعي:
يا أمة كفرت وفي أفواهها القرآن فيه صلاحها ورشادها
أعلى المنابر تعلنون بسبه وبسيفه نصبت لكم أعوادها
وثالثا أن التشيع لم يكن كما ذكرته لك فيما سلف حادثا، والإمامية لم تفارق كتاب ربها وذرية نبيها، فلينظر ذو البصيرة والدين أبفعلهم فسد الدين أم بفعل الناصبين؟
ورابعا بالمنع من قيام الساعة على فساد الدين بل على إصلاحه لإجماع المسلمين على قوله عليه السلام: (يملأها عدلا كما ملئت جورا).
قالوا: أفسدتم الدين بسب الصحب الصالحين قلنا: لا إنما تبرأنا من الفاسقين المتغيرين كما ذكرته في كتبهم من حديث الحوض، لم يزالوا مرتدين فقال النبي:
سحقا لمن غير بعدي، فاتبعنا سيد المرسلين.
الصفحة 142
قالوا: تبرأتم من أزواج النبي، قلنا: إنما تبرأنا من زوجة خالفت ربها في قوله: (وقرن في بيوتكن (1)) ونبيها في قوله: من هنا تخرج الفتنة حيث يطلع قرن الشيطان، وأشار إلى مسكن عائشة وقال: لن تفلح قوم ولوا أمرهم امرأة كما أخرجهما البخاري في صحيحه وقولهم فعلوا كذا وكذا، فقد أجبنا عنه وهم افترقوا أربعا خارجة عن سنن الصواب، فصدق عليهم قول مؤلف هذا الكتاب:
افترقوا أربعا بلا نكر وكل فرقة تضلل الأخرى
إذ عثروا عثرة لها بتر وأمرضوا مرضة فلا تبرى
وأما الشيعة فلم تخالف أدلة العقول، ولزمت مع ذلك قول الله والرسول فما أحقها بقول الأعرابي لناقته حيث سلكت أوسط السبل به:
أقامت على ملك الطريق فملكه لها ولمنكوب المطايا جوانبه
فالشيعة صبرت على موالاة الله ورسوله، وأهل بيته، ورأت الذل معهم خيرا من الغز؟ بمخالفتهم، والفقر بحفظهم خيرا من الغنى بإضاعتهم، والخوف مع قضاء حقهم خيرا من الأمن مع كفرانهم، والقتل معهم خيرا من الحياة مع أعدائهم، و سيأتي أقوال محررة في باب تخطئة الأربعة.
فصل
* (في روايات اختلقوها ليستدلوا على خلافتهما بها) *
منها: قولهم أن النبي صلى الله عليه وآله قال: إن أبا بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة رووه عن ابن عمر وهو عن أهل البيت منحرف، وبذكر أبيه متهم معتسف، مع أن الجنة لا كهول فيها كما أجاب به أبو جعفر عليه السلام ليحيى بن أكثم ولاتفاق المفسرين أنهم يحشرون جردا مردا مكحلين. قال الطبرسي أبناء ثلاث وثلاثين، وإنما أرادوا بهذا معارضة قول النبي صلى الله عليه وآله المتواتر: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة.
____________
(1) الأحزاب: 33.
الصفحة 143
أخرجه الترمذي في صحيحه مسندا إلى الخدري، وأخرجه أيضا مسندا إلى حذيفة وأخرجه ابن خالويه في كتاب الآل والبخاري في حديث ابن عمر.
قالوا: يلزم كونهما سيدا أبيهما وجدهما قلنا: خرج النبي بقوله: أنا سيد ولد آدم وعلي بقوله: وأبوهما خير منهما.
قالوا: فلزم كونهما خيرا من الأنبياء قلنا: لا يبعد ذلك وإن بعد جاز إطلاق العام وإرادة الخاص مثل (وأوتينا من كل شئ (1)) على أنه يلزمهم كون أبي بكر وعمر سيدا من مات كهلا من الأنبياء، ولم يقل به أحد.
قالوا: المراد من قوله: سيدا شباب أهل الجنة من مات شابا وفي أبي بكر وعمر من مات كهلا، وقد مات الحسنان كهلين فيكون الشيخان لهما سيدين.
قلنا: هذا خلاف ما أجمع عليه قال العاقولي في شرحه للمصابيح: لم يرد سن الشباب لأن الحسنين ماتا كهلين، بل ما يفعله الشاب فيقال: فلان فتى إذا كان ذو مروة وفتوة وإن كان شيخا، فعلى هذا هما سيدا الشباب والكهول، وسيدا الشيخين إن كان لهما فتوة، وفيه تصريح بكذب سيدا كهول أهل الجنة فالمخالف يجتهد بإبطال تلك الفضائل، ويلزم النبي بمناقضة كلامه، وهي من أعظم الرذائل.
على أنه روي عن عائشة وقيس بن حازم الإصفهاني والشيرازي وابن مردويه والخوارزمي وابن حنبل والبلاذري وابن عبدوس والطبراني أن عليا خير البشر من أبى فقد كفر، وخير البرية وخير الخليقة وخير من أخلف، وخير الناس ولا يقاس، وهذه الأخبار تنقض ما قالوه، فيجب المصير إليها للاتفاق عليها.
إن قالوا: فتنقض سيادة الحسنين، قلنا: خرج والدهما بقوله: أبوهما خير منهما.
إن قالوا: فليخرج الشيخان بما ذكرنا، قلنا: لا اتفاق عليه.
قالوا: الحسنان لم ينفقا قبل الفتح ولا بعده ولم يقاتلا، فلا يعدلان من فعل ذلك لآية (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من
____________
(1) النمل: 16.
الصفحة 144
الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا (1)) قلنا: الشيخان قد بينا عدم إنفاقهما ولهذا لم ينزل به آية فيهما، وقد عرف من الغزوات هربهما وأنزل الله عدة آيات في نفقة الحسنين وأبيهما، فالإنفاق بعد الفتح من الحسنين لا يقاس به عدمه مطلقا من الشيخين.
قالوا: فيلزم أن يكون أول منفق كان قبل الفتح أفضل من الحسنين، قلنا: جاز أن يكون الخطاب في الآية متناولا لمن كان له أهلية الإنفاق في ذلك الوقت فلا يدخل الحسنان فيه، فلا يكون لمن تقدم إنفاقه فضل عليهما.
إن قالوا: لا يستوي سالبة كلية، قلنا: لا، فإن الأرجح في الأصول أن نفي (لا يستوي) أعم من نفيه من وجه ومن كل وجه، ولو سلم فتخصيص الكتاب بالسنة المتواترة جائز.
ومنها: ما قاله أنس بن مالك: أن النبي أمره أن يبشر أبا بكر بالجنة والخلافة بعدة، وعمر بالجنة والخلافة بعد أبي بكر، قلنا: أنس مشهور بالإعراض عن علي عليه السلام وهو الذي كتم فضيلته ورده يوم الطائر، وفي دون هذا تتهم روايته وتسقط عدالته.
قالوا: فلترد روايته في خبر الطائر لعلي بتفضيله قلنا: تلقته الأمة بقبوله ولم يكن أحد منكرا لصحته، وقد رواه غيره: أم أيمن وسفينة واحتج علي يوم الدار والشورى به، فاعترف الجميع بصحته، ولئن سلمت عدالته لم يفد خبره علما لكونه آحاديا ولو سلم ذلك كله فهو موقوف على الوفاة.
ومنها: أنه لما أسري بالنبي رأى على العرش لا إله إلا الله محمد رسول الله أبو بكر الصديق قلنا: قال الصادق عليه السلام: غيروا كل شئ حتى هذا، إنما كتب مع الشهادتين عليا أمير المؤمنين، وكتب ذلك على اللوح، وعلى جناحي جبرئيل وعلى السماوات والأرضين، وعلى رؤس الجبال، وعلى الشمس والقمر، وهو السواد الذي يرى فيه.
ومنها: قوله: اقتدوا باللذين من بعدي أبا بكر وعمر. قلنا: أول ما فيه أنه
____________
(1) الحديد: 10.
الصفحة 145
خبر واحد لا يفيد علما، ومسألة الإمامة علمية وقد رد أبو حنيفة خبر الواحد فيما تعم به البلوى، ورواية عبد الملك اللخمي مطعون فيها، بأنه كان فاسقا جريئا على الله بالقتل، وهو قاتل عبد الله بن يقطر، وهو رسول الحسين إلى مسلم بعد رمي ابن زياد له، وكان مروانيا يتولى القضاء لبني أمية، شديد النصب والانحراف عن أهل بيت النبوة، ولو كان صحيحا لاحتج به أبو بكر في السقيفة، لأنه أقطع من قوله: الأئمة من قريش، لأنهما حينئذ أخص من قريش.
ولو سلم لم يمكن العمل به، لأنه إن أريد الاقتداء بهما في كل الأمور فلا شك في أنهما اختلفا وهو يمنع عموم الاقتداء بهما، ولو اتفقا لم يؤمن الخطأ منهما لإجماع الأمة على سلب العصمة عنهما، وإن أريد بعضها وهو ما يعلم حسنه منها قلنا: بطل اختصاص الاقتداء بهما، ولأن علم الحسن إن استفيد من غيرهما استغني عنهما، ويلزم الدور إن استفيد منهما.
ولأن الخبر روي بنصب (أبا بكر وعمر) اقتديا باللذين من بعدي، وهما كتاب الله وعترتي، فإنه حث عليهما ونفى الضلالة عند التمسك بهما ورواه أهل المذاهب في الجمع بين الصحاح وسنن أبي داود وصحيح مسلم والترمذي وابن عبد ربه والثعلبي وابن حنبل وابن المغازلي.
قالوا: لفظة (اقتدوا) جمع فلو كان ذلك نداء لهما لم يصح الجمع فيهما قلنا: إن جعلنا أقل الجمع اثنين سقط كلامكم، وإن لم نجعله جاز وضع الجمع على الاثنين كما جاز على الواحد.
على أنا لا نسلم أنه حال الخطاب لم يكن معهما ثالث، وأقله الراوي، و أنتم قلتم يراد به كل الأمة.
إن قالوا: نعم أريد الكل وحينئذ يسقط النداء لأنه لا اختصاص لهما بالنداء لو كانا داخلين في الأمة فعلم أن المراد الاقتداء بهما لا اقتداؤهما قلنا: وجه اختصاص النداء بهما تأكيد الحجة عليهما، لعلمه أنهما يليان الأمر بعده، فلذلك أفردهما كما رويتم أنه عليه السلام قال لعائشة: إن أباك يلي الأمر من بعدي، ثم عمر، مع أنه
الصفحة 146
لا حجة فيه، لأن الولاية أعم من الاستحقاق، وهو ظاهر في الظلمة على أنهم رووا (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) فعلى هذا الكل خلفاء.
إن قالوا: ليس في هذا أمر بالاقتداء، بل تعريض بخلاف الأول فإن الأمر للوجوب، قلنا: في كون الأمر للوجوب كلام، وقد جاء الأمر في التعريض في النصوص الخفية وغيرها، على أنكم رويتم قوله: اهتدوا بهدى عمار، ففيه الأمر ولم توجبوا خلافة عمار.
تذنيب:
لفظ الاقتداء لا يلزم منه العموم، وقد قيل: إن النبي صلى الله عليه وآله كان سالكا طريقا فسئل عنه وكان الشيخان خلفه، فقال في الجواب: اقتدوا باللذين من بعدي، و هذا وإن كان غير مقطوع به، فإن لفظ الحديث لا يأباه على أنه يلزم كونهما إمامين في عصر واحد وهو باطل.
وخطاب (أصحابي كالنجوم) إن كان للحاضرين فقد قتل بعضهم بعضا، وتبرأ بعضهم من بعض، وإن كان لمن لم يسلم بعد، فليسوا بأصحاب لأنهم لم يروه، و لزم أن أصحابه يقتدون بمن لم يره، فلو كان الاقتداء بكل واحد منهم صوابا كان الاقتداء بكل واحد خطأ لشهادة بعضهم على بعض بالخطأ.
ومنها: ما رواه أبو مالك الأشجعي أن أبا العريض من أهل خيبر كان النبي صلى الله عليه وآله يعطيه كل سنة مائة راحلة تمرا، فقال: أخاف أن لا أعطاها بعدك، فقال: بلى يعطيكها أبو بكر، قلنا: ليس في العطية دليل الولاية.
ومنها: ما رواه الشعبي أن رسول بني المصطلق سأله من يلي صدقاتهم بعده؟
فقال أبو بكر ثم عمر، قلنا: ليس في أخذ الصدقات أيضا دليل الولاية لأنها قد تكون بغير استحقاق، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله بأمور غير جائزة كحرب عائشة والفرقة الباغية.
ومنها: قوله في خبر سفينة (1) الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكا عضوضا.
____________
(1) شعبة خ ل.
الصفحة 147
وصف القائمين تلك المدة بالوصف المقتضي للمدح، ووصف الذي بعدهم بالوصف الدال على القدح، وذلك نص على صحة خلافتهم.
قلنا: أول ما فيه أنه حبر واحد، وجاز أن يكون مزيفة نظر إلى الواقع وبنى عليه الخبر، والثاني أن فيه اختلالا لأن النبي صلى الله عليه وآله قبض سنة عشر من الهجرة لليلتين بقيتا من صفر، وعلي سنة أربعين من الهجرة لتسع بقين من رمضان فهذه ستة أشهر وثلاثة عشر ليلة زائدة.
وفي رواية أن النبي قبض لاثني عشرة خلت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة، فهذه نقيضه، ولا يجوز دخول اختلال في إخباراته عليه السلام.
على أن توزيع السنين لم يسنده سفينة إلى النبي صلى الله عليه وآله بل هو من جهته، فلا يلتفت إليه وحينئذ لو فرضنا صحته كانت المدة بكمالها بعلي عليه السلام، وقد نطقت بخلافته دونهم الآيات المحكمات، والروايات المتواترات، ولو سلم التوزيع لم يدل على الجواز، ويكون النبي قد أخبر عن الواقع لا عن الفرض الواجب.
قالوا: رأى أبو بكر في النوم أن عليه بردا وأن فيه رقمتين ففسره النبي صلى الله عليه وآله بالخلافة بعده سنتين قلنا: قد قدمنا الجواب عنه.
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وآله لما بنى مسجد قبا، وضع في قبلته حجرا ثم أمر أبا بكر وعمر وعثمان أن يضع كل حجرا، وقال: هؤلاء الأئمة من بعدي، قلنا: لو كان حقا لاحتج به أبو بكر في السقيفة، ولاستغنى به عمر عن الشورى، ومن العجب أنه لم يذكر عليا بذلك وهو أحدهم إجماعا، وفي تركه بخس لحقه.
وهذا أيضا رواية سفينة وفي طريقه حشرج قال صاحب كتاب المجروحين لا يحتج بما تفرد به، وهو منهم لامنا.
ومنها: ما رووا أن أبا بكر أعتق مسلمين من أيدي الكفار، قلنا: لا صحة لذلك ولو سلم لم يواز فضيلة علي إذ فيه الخلاص من عذاب عاجل منقطع، وفي إعتاق علي بسيفه جميع المسلمين من العذاب الأبدي المهين فله على الكل حق السيد المحسن على عبده بسيوفه البواتر، وغروبه القواطر، فهذا شرف شامخ، و
الصفحة 148
مجد باذخ، تعدى شرف الأفلاك، وتردى به شرف الأملاك.
قال الجاحظ:
رأينا الرئيس الكبير اختار أبا بكر وزيرا وصاحبا ومعينا، قلنا: هذا بهت محض، فقد أسند ابن مردويه منهم برجاله أن النبي صلى الله عليه وآله طلب من ربه عليا وزيرا ولا يطلب ذلك إلا بإذن الله، حيث قال: (وما ينطق عن الهوى (1) وفي رواية الثعلبي في حديث الدار أنه وازره وأما معونة أبي بكر فظاهرة من هربه بخيبر ومجاهدته بحنين، وفراره بأحد، وقتله شجعان بدر، وغير ذلك من وقايعه المشهورة!
ومنها: لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر، قلنا: ولو وقعت لم توجب الخلافة، ولأنه قد روي أنه عليه السلام قال قبيل وفاته: برئت إلى كل خليل من خلته.
إن قالوا: نحن نثبت الخلة فتقدم، قلنا: ونحن نثبت البراءة فتقدم، إذ البراءة تنسخ الخلة.
قالوا: الأصل في الخلة عدم الناسخ، قلنا: الأصل عدم الخلة.
ومنها: ما رووه من قول النبي صلى الله عليه وآله: ما طلعت شمس على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر، قلنا: هذا مما تفردتم به، فلا يحكم بصحته، بل لم يذكر في صحاحكم، ولا هو متواتر عندكم، ولا دلالة فيه لجواز طلوعها على مساويها، ولأن لفظة طلعت ماضية، فجاز طلوعها فيما بعد على من هو أفضل منه.
إن قالوا: فلا يحكم بصحة ما تفردتم به، قلنا: لكم ذلك في غير المتواتر أما فيه فلا، ولأن أكثر أحاديثنا تروونها ويعز على أحاديثكم مشاركتنا فيها على أن هذا الحديث ينقضه قول أبي بكر وليتكم ولست بخيركم، وكيف ينكر قول النبي صلى الله عليه وآله: إنه خير، ويقول هو: إني لست بخير، وهل هذا إلا رد لقوله عليه السلام.
____________
(1) النجم: 3.
الصفحة 149
قالوا: الصحابة وأمير المؤمنين خاطبوا أبا بكر بالإمامة والخلافة لرسول الله صلى الله عليه وآله فيكون إماما صونا لألفاظهم عن النفاق قلنا: ذلك تبع لتسمية الناس له كما يقال: فلان عظيم الروم أي عندهم، وقال تعالى: (انظر إلى إلهك (1)) أي في اعتقادك (ذق إنك أنت العزيز الكريم (2)) أي عند نفسك، ومخاطبة علي بها خبر واحد، ولو سلم جازت منه تقية.
إن قيل: كان له مندوحة عنها، قلنا: لا، كيف وهي المرادة دون غيرها وإنما أحدث إخراج علي قهرا، وأحرق بيته لأجلها.
ومنها: قولهم كان مع النبي في عريشه، قلنا: قعوده إما للمشاورة أو السياسة أو لنشر علم وحكومة، والنبي صلى الله عليه وآله غني عنه في ذلك كله، للوحي المتصل به من ربه، ثم إن قعوده إما من تلقاء نفسه، وفيه نزول عن الجهاد وفضيلته أو بإذن رسوله لألفة، وحاشاه من ذلك، إذ فيه منع لفضيلة جهاده، أو أراد الأنس به وفيه هبوط أيضا لمنزلته، فلم يبق إلا أنه خاف الضرر بوهنه وفشله، حيث يرى الناس شيخا كبيرا في الاسلام قد آثر الانهزام، وهرب الشيخين أمر لا ينكر وقد رواه الثعلبي وغيره في خيبر.
ومنها: قولهم إن النبي صلى الله عليه وآله قال: إن الله بعثني إليكم جميعا فقلتم: كذبت وقال صاحبي: صدقت، قلنا: هذا يقتضي كذب الجميع إلا أبا بكر، وكيف يصح ذلك وقد صدق من سبقه إلى الاسلام وهو على التكذيب حينئذ.
ومنها: ما رووا من قول النبي صلى الله عليه وآله: أن أبا بكر لم يسؤني قط، قلنا:
هذه صيغة ماض، وهي يستلزم أن كفر أبي بكر لم يسؤه عليه السلام وذلك كفر.
ومنها: ما رووه أن عليا عليه السلام قال في خطبته: اللهم أصلحنا بما أصلحت به الخلفاء الراشدين: قيل: منهم؟ قال: أبو بكر وعمر إماما الهدى، من اقتدى
____________
(1) طه: 97.
(2) الدخان: 49.
الصفحة 150
بهما عصم، ومن تبع آثارهما هدي إلى صراط مستقيم.
قلنا: كيف صدر هذا من علي عليه السلام، وقد اشتهر عنه التظلم في مقام بعد مقام، وقد نقل الفريقان قوله: اللهم إني أستعديك على قريش فإنهم ظلموني، و قال: لم أزل مظلوما منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله، وقال: بايع الناس أبا بكر وأنا أولى بهم منه مني بقميصي هذا، وقال عند استخلافه عمر نحو ذلك وقال عند الشورى: جعلني عمر سادس ستة، فكظمت غيظي حتى ما وجدت إلا القتال أو الكفر بالله.
وأسند الشيخ أبو جعفر الطوسي برجاله إلى أبي بكرة قول علي عليه السلام:
قبض النبي صلى الله عليه وآله وما من الناس أحد أولى بهذا الأمر مني وأسند قوله: ما زلت مظلوما منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله إلى يوم الناس هذا، وأسند في حديثين قوله:
ظلمت عدد المدر والوبر وأسند إلى جعفر بن حريث قال: حدثني والدي أن عليا لم يقم على المنبر مرة إلا قال في آخر كلامه قبل نزوله: ما زلت مظلوما وقد أسلفنا في آخر الباب الثاني عشر طرفا من تظلماته.
على أن قوله فيهما إن صح خرج على التقية، ويقبل التأويل بكونهما إماما هدى أي إمامان في الاسلام، وهو الهدى، من اقتدى بهما فيه عصم من الكفر، و من تبع آثارهما فرأى خلافهما على أهل بيت رسولهما وتركهما نصب الأولى منهما وانحرافهما عن وصايا نبيهما هدي إلى صراط مستقيم بمخالفتهما.
ومنها: ما رووا من قول علي عليه السلام: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر و عمر، قلنا: هذا أخيره، حذف صدره، لأن الشيخ الطوسي رواه عن جماعة منحرفين عن علي عليه السلام أنه قال: ما هذا الكذب الذي تقولون: ألا إن خير الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر؟! وهذا يدل على أن ذلك إنكار منه عليه السلام كما أنكر النبي صلى الله عليه وآله على أبي عبيدة حين أودعوه الصحيفة بقوله. أصبحت أمين هذه الأمة، وأيضا يجوز أن يريد الازراء على اعتقاد المخاطبين، أنهما خير الأمة كقوله
الصفحة 151
تعالى: (انظر إلى إلهك (1)) أي في اعتقادك (إنك أنت العزيز الكريم (2)) أي عند نفسك في قومك.
إن قيل: هذا خروج عن الظاهر، قلنا: ذلك متعين لأجل دليل قاهر، هو ما ذكرناه من الفريقين، ومن كونه خير البرية ونحوه، وقد قيل: إن معاوية بث الرجال في الشام يخبرون بأنه عليه السلام تبرأ منهما وأنه شرك في دم عثمان ليصرف وجوه الناس عن نصرته، فغير بعيد أن يكون قال ذلك: لإطفاء هذه النائرة.
وأيضا لم يدل قوله: إنهما خير هذه الأمة، على تفضيل لهما عليه، لأن المتكلم يخرج من الخطاب فإن النبي صلى الله عليه وآله قال: ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء ذا لهجة أصدق من أبي ذر، ولم يكن كونه أصدق من النبي صلى الله عليه وآله.
وأيضا فإنه فأشار إلى أمة كانت حاضرة وهي دونهما في الفضل، ولأن تلك الأمة هي المتحيرة بنصبها من عزل الله، وعزلها من نصب الله، ولأنه أراد أن يستنهضهم بما تميل قلوبهم إليه فإن الحرب خدعة.
ومنها: قول النبي صلى الله عليه وآله: إذا سلك عمر طريقا سلك الشيطان في غيرها، قلنا:
الشيطان لم يهب آدم فأخرجه من الجنة وهي محفوفة بالملائكة، ولا موسى إذ قتل الرجل، فقال: (هذا من عمل الشيطان (3)) ولا يوشع إذ قال: (ما أنسانيه إلا الشيطان (4) (وقد قال تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته (5)) وقال: (الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان (6)) وقد كان عمر منهم، فكيف يستزله وهو يهابه.
____________
(1) طه: 97.
(2) الدخان: 49.
(3) القصص: 15.
(4) القصص: 28.
(5) الحج: 52.
(6) آل عمران: 155.
الصفحة 152
ومنها: قوله عليه السلام: لا أوتي برجل يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري، قلنا: راويه وهو سويد بن غفلة، أجمع أهل الأثر على كثرة غلطه وكيف يحد من ليس بمفتر، حد المفتري، أو نقول: تفضيله عليهما ولا فضل لهما من أعظم الافتراء. وهذا كمن فضل البر التقي على الكافر الشقي، أو فضل النبي على إبليس الغوي، مع أن الرسول قد فضله في المباهلة والمؤاخاة والطائر والموالاة والمصاهرة والمظاهرة وغير ذلك.
على أنا لا نمنع العبارة في أفضليته عليهما جدلا أو على اعتقاد الخصم وهذا مثل قول حسان:
أتهجوه ولست له بند فشركما لخيركما الفداء
ولم يكن في النبي شر بل على اعتقاد الهاجي.
هذا وقد رووا أن أبا بكر قال: وليتكم ولست بخيركم، وهذا يسقط فضيلته سواء كان صادقا أو كاذبا.
قالوا: قاله تواضعا، قلنا: وعلي قال ذلك تواضعا، إن كان، على أن التواضع لا يجوز في موضع يوجب التلبيس، وهل يسوغ للحرة أن تقول: لست بحرة، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله أولى بمثل ذلك فلا وجه لقوله: أنا سيد ولد آدم.
ومنها: أن أبا سفيان جاء إلى علي يبايعه، فقال: هذه من دواهيك قد أجمع الناس على أبي بكر ما زلت تبغي العوج للاسلام في الجاهلية والاسلام، قلنا:
هذا غير صحيح لعدم دورانه بين الفريقين، وإن صح فليس في الاجماع دليل الصواب لأنه قد يكون على الخطأ كما أجمع قوم موسى على العجل، والقبايل على قتل النبي ليلة المبيت.
إن قيل: لو كان خطأ لم يجز أن يقعد عنه علي وقد قال له أبو سفيان: والله لأملأنها على أبي فصيل خيلا ورجلا قلنا: خاف على ذهاب أصل الدين، بإثارة الفتنة، خصوصا مع كون المشير منافقا، وعلي بخبث سريرته قاطعا، على أن
الصفحة 153
العقود لو دل على الصواب، دل قعود الناس على الظلمة كبني أمية وغيرهم على استحقاقهم.
ومنها: ذكر الصحيفة رووا أن عمر لما كفن قال علي عليه السلام: وددت أن ألقى الله بصحيفة هذا المسجى، قلنا: كيف يقول ذلك وقد اتفق الفريقان على أفضليته.
على أن عمل إنسان لا يصح أن يكون لآخر، فلا بد لهم من إضمار مثلها وحينئذ لنا أن نضمر خلافها بل هو المعهود من تظلماته من عمر، وقد سلف ويعضده ما أسند سليم إلى معاذ بن جبل أنه عند وفاته دعا على نفسه بالويل والثبور قلت:
إنك تهذي قال: لا والله قلت: فلم ذلك؟ قال: لموالاتي عتيقا وعمر على أن أزوي خلافة رسول الله صلى الله عليه وآله عن علي وروي مثل ذلك عن عبد الله بن عمر أن أباه عمر قال له.
وروي عن محمد بن أبي بكر أن أباه قال له وزاد فيه أن أبا بكر قال: هذا رسول الله ومعه علي بيده الصحيفة التي تعاهدنا عليها في الكعبة، وهو يقول: لقد وفيت بها وتظاهرت على ولي الله، أنت وأصحابك، فأبشر بالنار، في أسفل السافلين ثم لعن ابن صهاك وقال: هو الذي صدني عن الذكر بعد إذ جاءني.
قال العباس بن الحارث: لما تعاقدوا عليها نزلت (الذين ارتدوا على أدبارهم) الآية (1) وقد ذكرها أبو إسحاق في كتابه، وابن حنبل في مسنده، والحافظ في حليته، والزمخشري في فائقه، ونزل (ومكروا مكرا ومكرنا مكرا (2)) الآيتان عن الصادق عليه السلام نزلت (أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون (3)) الآيتان.
ولقد وبخهم النبي صلى الله عليه وآله لما نزلت فأنكروا فنزلت (يحلفون بالله ما قالوا
____________
(1) القتال: 25.
(2) النمل: 50.
(3) الزخرف: 79.
الصفحة 154
ولقد قالوا كلمة الكفر) الآية (1) وقد سلف في باب إنزال الآيات، وسلف في الباب الثاني عشر مثل ذلك الدعوات.
ورووا أن عمر أودعها أبا عبيدة فقال له النبي صلى الله عليه وآله: أصبحت أمين هذه الأمة، وروته العامة أيضا وقال عمر عند موته: ليتني خرجت من الدنيا كفافا لا علي ولا لي، فقال ابنه: تقول هذا؟ فقال: دعني نحن أعلم بما صنعنا: أو صاحبي وأبو عبيدة ومعاذ.
قال البشنوي:
جر الضلال صحيفة ختمت بعد النبي ختامها فضوا
فكل قلب مسلم حرقوا وكل عظم مؤمن رضوا
إن قيل: كيف يصدر ذلك وقد كان النبي صلى الله عليه وآله يعظمه ويمدحه؟ قلنا:
ذلك غير معلوم، والخبر بذلك آحادي، ومطعون فيه، على أن المدح لا يستلزم الإمامة.
قالوا: فيدل على إيمانه وأنتم قلتم: إنه كفر بجحد النص، والإيمان عندكم لا يتعقبه كفر، قلنا: جار مدحه على الظاهر فإن النبي صلى الله عليه وآله لا يعلم الباطن.
قالوا: المدح ينافيه، قلنا: جاز كون المدح قبل أن يعلمه الله بالميل عنه على أنا نجوز كفر المؤمن.
تذنيب:
هذه الصحيفة تعاقد عليها أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وسالم الأبكم على أن لا يورثوا أحدا من أهل النبي صلى الله عليه وآله ولا يولوهم مقامه، وكان أبي (2) يصيح في المسجد ألا هلك أهل العقدة، فسئل عنهم، فقال: ما ذكرناه ثم قال: لئن عشت إلى الجمعة لأبينن للناس أمرهم، فمات قبلها.
____________
(1) براءة: 74.
(2) القائل محمد بن أبي بكر برواية سليم بن قيس الهلالي.
الصفحة 155
قال محمد بن أبي بكر: فحدثت مولاي أمير المؤمنين به، فقال: لقد حدثني بذلك عن أبيك وعمر وأبو عبيدة وسالم ومعاذ من هو أصدق منك، فعلمت من عنى، فإنه يرى رسول الله صلى الله عليه وآله في كل ليلة ويحدثه في المنام، وقد قال عليه السلام:
من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي، ولا بأحد من أوصيائي إلى يوم القيامة، ولعل ملكا يحدثه، فإن الأنبياء والأئمة محدثون، بل و فاطمة ومريم وسارة محدثات.
إذا عرفت هذا فالصحيفة التي أحب أن يلقى الله بها هي هذه إلى الله فيها، وقد تلونا عليك جانبا من البدع التي أحدثت بأفعاله فكيف يتمنى علي أن يلقى الله بصحيفة أعماله، وقد شهد عليه بالظلم في كثير من أقواله.
إن قالوا: فعله عنى ما فيها من الحسنات قلنا: ظلم الوصي، والرد على النبي صلى الله عليه وآله لا يقابله شئ من الحسنات، وقد اشتهر أنه آذى فاطمة، المربوطة أذية أبيها بأذيتها، أذية النبي كفر فلا حسنة.
إن قيل: فكيف نكح النبي صلى الله عليه وآله ابنتهما على تقدير كفرهما؟ قلنا: جاز ألا يعلم عاقبتهما أو جوز توبتهما أو كان مخاطبا بالبناء على ظاهر إسلامهما، أو كان ذلك من خصائصه، ولا دليل أوضح من فعله.
ومنها: ما قالوا: إن أبا بكر شبه من الملائكة بميكائيل، ومن الأنبياء بإبراهيم قلنا: لا يروي هذا إلا من روى أن الله بكى على عثمان حتى هاجت عيناه، وأن النبي صلى الله عليه وآله رأى في الإسراء ملائكة ملتفين بأكسية، فسألهم عنها، فقالوا: تشبهنا بأبي بكر حين تجلل بالعباءة، كيف يشبه من مضى أكثر زمانه على الكفر والمين بالملك والنبيين المعصومين.
إن قالوا: رويتم تشبيه علي بآدم ونوح وموسى وعيسى ومحمد قلنا: لا يقاس من لم يكفر طرفة عين بالرحمن، بمن خدم في أكثر عمره للأوثان، على أن ما تفردتم به من الحديث غير مسموع، لكونكم خصوصا، وليس لكم علينا مثله، لأنكم نقلتم ما نقلنا ورويتم ما روينا فتشبيه علي، نقله ابن حنبل وغيره، ونقلنا وأنتم أنه خير
الصفحة 156
البرية، فلا معنى لإيرادكم هذه الكلمة الفرية، وتشبه علي يوافق السنة و الكتاب المطاع، ودليل العقل الصريح والاجماع.
أما سنة الرسول صلى الله عليه وآله فقد تواترت بأن عليا هو الإمام، وأما الكتاب المبين ففيه آيات كثيرة بولاية أمير المؤمنين، وقد أسلفنا هذين في بابين.
وأما دلائل العقول فلقبح تقديم المفضول، وقد روينا وأنتم أن عيسى يصلي خلف المهدي، وهو أحد أتباع أبيه علي بن أبي طالب عليه السلام.
وأما الاجماع فالحجة الكبرى فيه قول الإمام، وهو داخل في اتباعه عليه السلام و ليس لتشبيه أبي بكر من هذه الأربعة شاهد، بل كل واحد منها لولايته جاحد.
وقد روى الطبرسي في احتجاجه قول النبي صلى الله عليه وآله في حجة وداعه، قد كثرت علي الكذابة، وستكثر، فمن كذب علي فليتبوء مقعده من النار، فإذا جاء الحديث فاعرضوه على كتاب الله وسنتي فإن وافقهما فخذوا به وإلا فاطرحوه.
تذنيب:
حدث عبد الرزاق اليماني عن معمر عن الزهري والكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قالا: كان لتيم صنما من تمر يعجنونه غدوة ويعبدونه يومهم، فإذا أمسوا اقتسموه وأكلوه، ثم اتخذوا غيره.
وذكر صاحب اللؤلؤيات أنه قيل للأول: العن أبا قحافة، فإنه كان لا يقاتل عدوا ولا يقري ضيفا، وقال الكلبي: كان أبو قحافة دنيا ساقطا، وكان لجذعان أجيرا.
قال مؤلف الكتاب:
عجبت لتيم في سخافة عقلها إذ اتخذت تمرا إلها فضلت
تدين له يوما فعند مسائها تغذت به لما عليه تولت
فصير مأكولا ومنهضما به وفضلات من بول رزي وعذرة
فكيف دني القوم يضحي رئيسهم ويمسي بما فيه إماما لأمة
ومنها: ما رووه عن أبي نضرة في إبطاء علي والزبير عن بيعة أبي بكر، فقال:
الصفحة 157
أبطأتما وأنا أسلمت قبلكما؟ قلنا: أبو نضرة مشهور بعداوة علي مع أنه معارض بأصح منه طريقا أسند علي بن مسلم الطوسي إلى الشعبي أن أبا بكر قال: من سره أن ينظر إلى أول الناس سبقا في الاسلام فلينظر إلى علي بن أبي طالب.
ومنها: ما رووه عن عمر بن عيينة قال قلت للنبي صلى الله عليه وآله: من تبعك على هذا الأمر؟ قال: حر وعبد يعني أبا بكر وبلالا، قلنا: في طريقه أبو أمامة وهو من المنحرفين عنه إلى معاوية مع أن في الحديث مع وحدته اختلافا ذكر فيه تارة أنه لقي النبي بمكة مستخفيا، وتارة بعكاظ، وتارة ظاهرا يقيم الصلاة بالناس، وفي اختلافه مع وحدته دليل تزويره.
ومنها: حديث الشعبي سألت ابن عباس من أول من أسلم؟ فقال: أبو بكر قلنا: الشعبي منحرف عن علي وللشعبي حديث آخر من طريق الصلت بن بهرام بضده، وعزاه إلى ابن عباس، والمشهور عنه اعترافه بسبقه، وقد كان أبو صالح معروفا بعكرمة، وعكرمة معروف بابن عباس وقد روى عن النبي صلى الله عليه وآله صلت الملائكة علي وعلى علي سبع سنين، لم يكن معي من الرجال غيره.
ومنها: قوله عليه السلام: ما دعوت إلى الاسلام أحدا إلا وله كبوة غير أبي بكر فإنه لم يتلعثم أي لم يشك ويتأن، فلو تأخر إسلامه فإن كان قبل عرضة النبي صلى الله عليه وآله عليه كان مقصرا في تبليغه، وإن كان بعده رده الخبر المذكور.
قلنا: جاز أن يكون تأخره قبل تبليغه عليه السلام ولا تقصير منه، لعلمه بعدم قبوله له، في ذلك الوقت، فالمانع منه لا من النبي، على أن النبي صلى الله عليه وآله لا يجب عليه إعلام الأمة دفعة، وإن صح الحديث فمعنى ما عرضت الإيمان: حين عرضته، فلا يدل ذلك على سبق العرض على أبي بكر.
قالوا: قال حسان في شعره: إن أبا بكر أول من أسلم قلنا: حسان مشهور بالانحراف عن علي إلى معاوية، ويطالب عليا بدم عثمان، وليس في شعره أنه أول الأولين الذي هو محل النزاع.
ومنها: ما رووه عن مجاهد: أول من أظهر الاسلام سبعة وعد منهم أبا بكر
الصفحة 158
قلنا: بإزائه عالم من الناس ينكرون قوله، على أن سفيان بن عيينة روى عن مجاهد قول النبي صلى الله عليه وآله: السباق أربعة: يوشع إلى موسى، وصاحب يس إلى عيسى (1) و علي إلى النبي صلى الله عليه وآله.
ومنها: حديث عمر بن مرة عن النخعي: أبو بكر أول من أسلم، قلنا: يقابله من هو أجل منه الباقر والصادق عليهما السلام وقتادة والحسن وغيرهم وقد روى تمدحه عليه السلام بذلك من طرق لا تحصى وأخبار من النبي صلى الله عليه وآله والصحب والتابعين لا تستقصى، وأنشأت الفضلاء فيه أشعارهم، فلم ينكر عليهم، من طلبها عثر عليها، وقد أسلفنا جانبا منها.
ومنها: أن عليا احتج على طلحة والزبير بالبيعة ونكثها، ولم يذكر النص فدل على عدمه، واحتج على معاوية ببيعة الناس له.
قلنا: الإمامة لا تصح بالبيعة لأن البيعة لا تصح إلا لإمام كالنبوة فلو توقفت عليها لزم الدور، وإنما احتج عليهم لأنها حجة عندهم أي أقطع لعذرهم.
ومنها: قول العباس لعلي: امدد يدك أبايعك، دليل عدم النص قلنا:
لا بل إنما طلبها لأنها الحجة القاطعة عندهم، فأراد إلزامهم إن تمسكوا بها، و لأن البيعة لا تنافي النص، فإنها تقع للنصرة والدفاع، ولهذا قال: فلا تختلف عليك ولو كانت البيعة لتثبيت الإمامة لأوجبت الاختلاف، وقد بايع النبي صلى الله عليه وآله عند الشجرة بعد ثبوت نبوته، وحمل عمر الناس على بيعته بعد نص أبي بكر عليه، فما الحاجة إلى ذلك على ما ذكرتم، ولهذا لما ألح عليه قال: إن النبي صلى الله عليه وآله أمرني أن لا أجرد سيفا بعده، حتى يأتيني الناس طوعا أو أنه كره أن يتوصل إلى حقه بباطل مع قيام النص.
إن قيل: فقد توصل بباطل بعد عثمان، قلنا: كان النص مندرسا بمرور الأزمان، أو لأنه لو بايع لزمه الحرب والقيام، وفيه درس الاسلام، كما قال:
لولا قرب عهد الناس بالكفر لجاهدتهم، وقد احتج في الشورى بالنص، فلم يكن في حال من الأحوال ثابتا على الاختيار.
____________
(1) ومؤمن آل فرعون.
الصفحة 159
قالوا: قال العباس لعلي: اذهب حتى نسأل النبي عن هذا الأمر أهو فينا أم في غيرنا؟ وهذا دليل عدم النص قلنا: لا بل علم النص وأراد بالسؤال هل هو لهم أم يغصبون عليه؟ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله: إنكم المقهورون المظلومون، ولو كان السؤال: هل يستحقونه أم لا لم يكن للجواب بالقهر والظلم معنى، والنبي جليل عن هذه الوصمة، وبالله العون والعصمة.
على أنه يجوز أن يكتم النص عن بعض أهله خوفا عليهم من رده، ولهذا أن مؤمن الطاق لما دعاه زيد للخروج معه، فأبى فقال: أبي يخبرك بالدين ولم يخبرني؟
قال مؤمن الطاق: خاف عليك إن أخبرك لم تقبل، فتدخل النار، ولم يبال بي نجوت أم دخلت النار.
وقد أوصى يعقوب يوسف أن لا يقص رؤياه على إخوته خوفا من كيدهم.
ومنها: أن عليا لم يرد فدكا على وارث فاطمة عند مصير الأمر إليه، و فيه دليل على نفي ظلم المتقدم عليه، قلنا: أما استحقاقها فلا شك فيه، وقد ذكرنا طرفا جيدا من هذه الواقعة ففي باب المطاعن، وقد جمع المأمون مائتي رجل من أهل الحجاز والعراق من أهل الفقه وسألهم عنها فرووا أحاديث فيها، وأن عليا و أسماء وأم أيمن شهدوا لها عند أبي بكر، فكتب لها صحيفة بها، وأن عمر محاها فسألهم عن فاطمة فأخبروه بقول أبيها فيها: يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها وسألهم عن فضائل بعلها فأوردوا جملة منها، فسألهم عن أسماء وأم أيمن ما حالهما؟
فقالوا: شهد النبي صلى الله عليه وآله بالجنة لهما، فقال: إن الطعن على هؤلاء طعن على كتاب الله، وقال: قد نادى علي بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله: من كان له عدة أو دين فليحضر فحضر جماعة فأعطاهم بغير بينة، وأبو بكر نادى بذلك فادعى جرير بن عبد الله فإعطاء بغير بينة، وادعى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وآله وعده أن يحثو له من مال البحرين ثلاثا فأعطاه أبو بكر بغير بينة، أما كانت فاطمة وشهودها يجرون مجرى هؤلاء؟ ثم جعلها المأمون في يد محمد بن يحيى بن الحسين بن زين العابدين.
وقد ذكر هذه القصة صاحب الشافي مروية عن محمد بن زكريا الغلابي عن
الصفحة 160
شيوخه عن هشام ابن زياد وأيضا لو لم يكن الأمر معروفا مشهورا لم يفعله عمر بن عبد العزيز، لما فيه من التنفير مع موضعه من الخلافة، وعاتبه بنو أمية على ذلك، وقالوا: هجنت فعل الشيخين، فقال: إنكم جهلتم وعلمت ونسيتم وذكرت وطرف من ذلك قد تقدم في باب الطعن على من تقدم.
وأما تركه عليه السلام ردها في ولايته فلما أسنده ابن بابويه في كتاب العلل إلى الصادق عليه السلام إن الظالم والمظلوم كانا قد انتقلا إلى الله، فعاقب الظالم، وأثاب المظلوم، فلذلك كره عليه السلام ارتجاعها وأسند إلى إبراهيم الكرخي قول الصادق عليه السلام: إن عليا اقتدى في ذلك برسول الله صلى الله عليه وآله فإن عقيلا باع دوره بمكة فلما فتحها قيل: ألا تدخل دورك فقال: وهل ترك لنا عقيل دورا، إنا أهل بيت لا نسترجع شيئا يؤخذ منا ظلما، ونحوه أسند ابن فضال إلى الكاظم عليه السلام.
وقد قالت لأبي بكر: سيجمعني وإياك يوم يكون فيه فصل الخطاب، فلما وكلت الأمر فيه إلى الله أراد علي ما أرادته، أو تركها بوصيتها أو ليعلم بني أمية وغيرهم ظلمه لها.
وأيضا نقول: إنما لم يردها لاستمرار التقية، وخوف إفساد الدين، فإن أكثر من تابعه كان يعتقد إمامة الثلاثة، وأنها ثبتت بالاختيار، فإن أكثرهم بايعه على موالاة من كان قبله، والحذو على سيرتهم، فلم يتمكن من تغيير ما يقدح في إمامتهم، ولهذا لما قال عليه السلام: وسنة نبيه نزع (1) يده من يده، وبايع غيره.
إن قيل: فقد خالفهم في مسائل فما بال فدك؟ قلنا: ليس في تلك ما يؤدي إلى تظليم القوم، وتحريك الأحقاد الكامنة فيهم، وقد وافقهم في كثير، ولهذا قال لقضاته: اقضوا كما كنتم تقضون، حتى تكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي، فلينظر العاقل ما في هذه الأحوال.
____________
(1) يعني في شورى الستة، والرجل النازع عبد الرحمن بن عوف.
الصفحة 161
فصل
* (في أم الشرور) *
أكثر اعتقاد القوم على رواياتها، وقد خالفت ربها ونبيها في قوله تعالى:
(وقرن في بيوتكن) (1) الآية.
قال ابن عباس: لما علم الله حرب الجمل قال لنساء النبي صلى الله عليه وآله: (وقرن في بيوتكن) الآية وفي أعلام النبوة للماوردي وفردوس الديلمي عن ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وآله لنسائه: أيكم صاحبة الجمل الأديب تخرج فتفضحها كلاب الحوأب يقتل عن يمينها ويسارها كثير.
وفي تاريخ البلاذري وأربعين الخوارزمي وابن مردويه في الفضائل قال سالم ابن الجعد: ذكر النبي صلى الله عليه وآله خوارج بعض نسائه فضحكت الحميرا فقال: انظري أن لا تكوني هي، والتفت إلى علي عليه السلام وقال: إذا وليت من أمرها شيئا فارفق بها.
إن قيل: هذا دليل على محبة النبي لها مع علمه بمحاربتها، فلم تنته المحاربة بها إلى تكفيرها كما تزعمون فيها قلنا: كيف ذلك وقد أجمعنا وإياكم على قوله:
يا علي حربك حربي، وحرب النبي صلى الله عليه وآله كفر وقد نقل ابن البطريق في عمدته عن الجمع بين الصحيحين قول النبي صلى الله عليه وآله: من سل علينا السيف فليس منا، وقال النبي في موضع آخر: علي مني بمنزلة الرأس من الجسد، ولم يرد بقوله: ليس منا نفي الجنسية، ولا القرابة، ولا الزوجية، لأن ذلك لا تنفيه المحاربة فالمراد ليس من ديننا.
وأما وصيته له عليه السلام بالارفاق فإنما هو صون لعرض علي من أهل النفاق وقد بعث معها نساءا في زي الرجال، فنعت عليه في المدينة فانكشف حالهن ليظهر كذبها وافتراءها، وقد بذل أهل عسكرها مهجهم في رضاها، وقعدوا عن ابنة النبي صلى الله عليه وآله لما طلبت إرثها ونحلة أبيها، ولم يكن في معونة فاطمة كفر ولا
____________
(1) الأحزاب: 33.
الصفحة 162
مجاهدة، كما في عائشة فقعودهم عنها أعظم نكر كنهوضهم مع ابنة أبي بكر:
ما صح أن المسلمين بأمة لمحمد بل أمة لعتيق
جاءت تطالب فاطم بتراثها فتقاعدوا عنها بكل طريق
وتسارعوا نحو القتال جميعهم لما دعتهم ابنة الصديق
فقعودهم عن هذه ونهوضهم مع هذه يغني عن التحقيق
وقد أخرج أبو نعيم في كتاب الفتن وغيره حديث ماء الحوأب وأخرج صاحب المراصد قول النبي صلى الله عليه وآله لعائشة: أما تستحين أن تحاربين لمن رضي الله عنه؟ إنه عهد إلي أنه من خرج على علي فهو في النار، وقد رويتم قول النبي صلى الله عليه وآله لعلي بغضك سيئة لا تنفع معها حسنة، فحرب الجمل أكان من حب أو بغض؟
والعجب أنكم رويتم أنه قال: خذوا عن عائشة ثلث دينكم، بل ثلثيه، بل كله. فكان من دين النبي صلى الله عليه وآله قتال الوصي، وقد كتبت إلى صعصعة بن صوحان حين توجهت إلى الحرب أن يكسر سيفه ويجلس في بيته، فكتب إليها: أتاني كتابك تأمريني فيه بما أمرك الله من القرار في البيت وترك الفساد، وتفعلين ما أمرني الله به من الجهاد، فاتقي الله وارجعي إلى البيت الذي أمرت، وأنا في أثر كتابي خارج لألاقي لعلي ببيعتي، فالقرار في بيتها فعل من ضربت الصفائح على هودجها تتقي السهام بها.
وفي تاريخ الطبري أنها كانت تركب الجمل وتحمل السلاح وترتجز.
شكوت رأسا قد مللت حمله وقد مللت دهنه وغسله
ألا فتى يحمل عنا كله
وقطع علي خطام جملها أربعمائة وهي مسرورة.
وروى الواقدي أن عمارا قال لها: كيف رأيت ضرب بنيك عن أديانهم؟
قالت: لستم لي ببنين، قال: صدقت أمهاتنا نساء النبي، ذوات الحجاب، المطيعات لله ولرسوله، وأنت فمخالفة لهما.
وقد روت أن النبي صلى الله عليه وآله لعن المرأة المشبهة بالرجال والرجل المشبه
الصفحة 163
بالنساء، قال الفضل بن العباس:
آضت أمور الورى إلى امرأة وليتها لم تكن إذا آضت
مبشر جاءنا يبشرنا أميرة المؤمنين قد باضت
هبها تصلي بنا إذا طهرت فمن يصلي بنا إذا حاضت
وقد أسند الخوارزمي أن أبا الحارث مولى أبي ذر دخل على أم سلمة فقالت:
أين طار قلبك لما طارت القلوب؟ قال: مع علي، قالت: وثقت والذي نفسي بيده لقد سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول: علي مع القرآن، والقرآن معه، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، ومن العجب أن طلحة يطلب بدم عثمان، وهو ممن ألب على عثمان، ولما جاء لحرب البصرة أتاه عبد الله بن حكيم التميمي بكتابه إليه يدعوه إلى قتل عثمان، ويعيبه عليه قال السيد الحميري:
جاءت مع الأشقين في جحفل تزجي إلى البصرة أجنادها
كأنها في فعلها هرة تريد أن تأكل أولادها
عاصية لله في فعلها موقدة للحرب إيقادها
فبئست الأم وبئس الهوى هوى حداها وهوى قادها
وفي رواية الشعبي: استشارت أم سلمة في الخروج فنهتها وقالت: ألا تذكرين قول النبي صلى الله عليه وآله: لا تذهب الأيام والليالي حتى تنابح كلاب الحوأب على امرأة من نسائي في فئة طاغية فضحكت أنت، فقال: إني لأحسبك هي، فلما تهيأت للخروج أنشأت أم سلمة تقول:
نصحت ولكن ليس للنصح قابل ولو قبلت ما عنفتها العواذل
وقالت في طريقها وقد استبطأت بعض جندها: ما كان أغناني عن هذا لولا نفثة الشيطان، وعجلة الانسان، قال الزاهي:
كم نهيت عن تبرج فعصت وأصبحت للخلاف متبعه
قال لها الله في البيوت قري فخالفته العفيفة الورعه
وقال السوسي:
الصفحة 164
وما للنساء وحرب الرجال وهل غلبت قط أنثى ذكر
ولو أنها لزمت بيتها ومغزلها لم ينلها ضرر
فيا سفرا ضل تصحيفه لها وهو لما يصح السقر
وقد تمثل ابن عباس فيها بشعر بني أسد:
ما زال إيماء العصائب بينهم ثم الصديق وكثرة الألقاب
حتى تركت كأن رأيك فيهم في كل معركة طنين ذباب
إذا عرفت هذا فالقوم ادعوا توبتها ليزيلوا بها جريمتها، وهي رواية من طرقهم فليست حجة على خصمهم، مع ذلك فالتوبة رواية والمحاربة دراية، والرواية لا تعارض بالدراية، وأين التوبة والنزوع عن بغضة إمام العصر؟ وقد قالت: حين بلغها قتله عليه السلام ما ذكره ابن مسكويه وتاريخ الطبري:
فألقت عصاها واستقرت بها النوى كما قر عينا بالإياب المسافر
وقد ادعوا أنها لم تكن قاصدة حرب، فلا وجه لتوبتها وقد ذكر المؤرخون أنها نهبت بيت المسلمين بالبصرة، وقتلت عمال علي بها، ونتفت لحية عثمان بن حنيف، وذكر أن عليا ندم على ذلك وهذا زور بحت، كيف ذلك وقد أخبره النبي صلى الله عليه وآله أنها تقاتله ظالمة له وفي صحيح البخاري الفتنة تخرج من ههنا من حيث تطلع قرن الشيطان وأشار إلى مسكن عائشة، وقد نقل ابن أعتم صاحب الفتوح أنها كانت قبل ذلك تقول: اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا، فلقد أبلى سنة النبي صلى الله عليه وآله وثيابه لم تبل، ولما قتل قالت: قتل مظلوما وأنا طالبة بدمه، فقال لها عبيد: أول من طمع الناس فيه أنت، فقلت: اقتلوا نعثلا فقد فجر، قالت: قلته وقاله الناس
منك البداء ومنك الغير ومنك الرياح ومنك المطر
وأنت أمرت بقتل الإمام وقلت لنا إنه قد فجر
ونحن أطعناك في قتله وقاتله عندنا من أمر
الصفحة 165
قالوا: برأها الله في قوله: (أولئك مبرؤون مما يقولون (1)) قلنا: ذلك تنزيه لنبيه عن الزنا، لا لها كما أجمع فيه المفسرون، على أن في تفسير مجاهد (المبرؤون) هم الطيبون من الرجال، صيغة التذكير، وليس فيها ما يدل على التغليب.
قالوا: هي محبوبة النبي صلى الله عليه وآله وتوفى بين سحرها ونحرها، قلنا: لا تنفعها المحبة، وقد صدر حرب النبي عنها، ويكذب توفيته بين سحرها ونحرها ما أخرجه في المجلد الخامس من الوسيلة من قوله صلى الله عليه وآله: ادعوا لي حبيبي فادخل عليه أبو بكر فغيب وجهه عنه ثم عمر فغيب وجهه عنه، فدخل علي فساره ولم يزل محتضنه حتى مات هذه رواية عائشة فيه.
قالوا: لم ينزل القرآن في بيت غيرها قلنا: كيف ذلك وقد نزل أكثر القرآن في بيت غيرها.
قالوا: أذهب الله الرجس عنها قلنا: وأي رجس أعظم من محاربة إمامها فهذا أعظم فاحشة، وقد قال تعالى: (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة يضاعف لها العذاب ضعفين (2)) وقد أخبر الله عن امرأتي نوح ولوط أنهما لم يغنيا عنهما من الله شيئا (3) وكان ذلك تعريضا من الله لعائشة وحفصة في فعلهما وتنبيها على أنهما لا يتكلان
____________
(1) النور: 26.
(2) الأحزاب: 30.
(3) يريد قوله تعالى: ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط، كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما، فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين، التحريم الآية العاشرة.
والدليل على أن الآية فيها وفى حفصة قوله تعالى في صدر السورة النازلة في ذلك (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير، عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا).
والعجب من غفلة المسلمين عن تعاريض هذه الآية الأخيرة حيث ينفى عنهما الاسلام و الإيمان والقنوت والتوبة والعبادة والسياحة.
الصفحة 166
على رسوله فإنه لم يغن شيئا عنهما.
تذنيب:
قالت أم أفعه العبدية لعائشة: ما تقولين فيمن قتلت ابنا لها؟ قالت: في النار قالت: فمن قتلت عشرين ألفا من أولادها؟ فقالت: خذوا بيد عدوة الله، وهذا شأن المجبرين إذا أعجزهم الخطاب أمروا بالعذاب (حرقوه وانصروا آلهتكم) (1) (أخرجوا آل لوط من قريتكم) (2).
هذا وقد شكت عائشة في نبوته عليه السلام فذكر الغزالي في الإحياء أنها قالت:
أنت تزعم أنك نبي؟ ولم ينقل أحد أنها تيقنت بعد بذلك، وفي الإحياء أيضا كان بينها وبينه كلام فأدخل أباها حاكما فقالت: قل ولا تقل إلا حقا! فلطمها أبوها وقال: يا عدوة الله النبي يقول غير الحق؟
وفي مجمع البيان لما نزلت (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي) (3) قالت عائشة: ما أرى الله إلا يسارع في هواك! وفي هذا تهمة لرسوله، وعدم الرضا بقضائه.
ولقد افترت على نبيها ما رواه الزهري عنها أنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وآله إن عليا والعباس يموتان على غير ملتي وقالت: قال عليه السلام: إن سرك أن تنظرين إلى رجلين من أهل النار فانظري إليهما.
فقبح الله قوما يروون ذلك في وصي نبيه، وقد تواترت فيه محبة الله ورسوله وغيرها من فضائله، وقبلوا شهادة عائشة فيه مع كونها من أكبر أعدائه.
روى سعيد بن المسيب عن وهب أن فاطمة لما زفت إلى علي عليه السلام قالت نسوة الأنصار: أبوها سيد الناس، فقال النبي صلى الله عليه وآله: قلن: وبعلها ذو الشدة و
____________
(1) الأنبياء: 68.
(2) النمل: 56.
(3) الأحزاب: 50.
الصفحة 167
البأس، فلم يذكرن عليا فقال في ذلك فقلن: منعتنا فقلن: منعتنا عائشة فقال ما تدع عائشة عداوتنا أهل البيت، وهم يفضلونها على فاطمة فكأن النبي صلى الله عليه وآله قال في عائشة: سيدة نساء هذه الأمة وإنها بضعة منه يؤذيه ما يؤذيها، وينصبه ما ينصبها، ويغضبه ما يغضبها، ويريبه ما رابها. كما أسنده مسلم والبخاري وأبو داود والترمذي في صحاحهم.
وفي مسند أبي داود سيدة نساء العالمين، وفي الجزء الرابع من صحيح مسلم سيدة نساء المؤمنين ونساء هذه الأمة، ورواه الثعلبي في تفسير (إني سميتها مريم) (1) وذكره رزين في الكراس الخامس من الجزء الثاني من الجمع بين الصحاح، وفي الجزء الثالث أيضا منه.
أفلا تنظر العقول السليمة إلى ما صححوه في كتبهم مما يناقض ما هم عليه من جميع أمورهم، بل قد أنكر الجاحظ في كتاب الإنصاف مساواة عائشة لخديجة فضلا عن فاطمة هذا وفي الجمع بين الصحيحين من أفراد مسلم والبخاري أن ابن الزبير أراد أن يحجر عليها، فهذه شهادة منه وممن سمع حديثه، ولم ينكره: أنها أتت بما يوجب الحجر كالسفه والجنون.
____________
(1) آل عمران: 36.
الصفحة 168
فصل
* (في أختها حفصة) *
طلقها النبي صلى الله عليه وآله في حديث أنس وخيرة الزجاج فسأله أبوها من طلاقها فقال: انطلق عني أما والله إن قلبك لوعر، وإن لسانك لقذر، وإن دينك لعور ثم إنك لأضل مضل ذكر، وإنك من قوم عذر، أما والله لولا ما أمرني الله من تألف عباده، لأبدين للناس أمركم، اعزب عني! فوالله ما يؤمن أحدكم حتى يكون النبي أحب إليه من أبيه وأمه، وولده، وماله، فقال: والله أنت أحب إلي من نفسي، فأنزل (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون (1)) وفي حديث الحسين بن علوان والديلمي عن الصادق عليه السلام في قوله: (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا (2)) هي حفصة قال الصادق عليه السلام: كفرت في قولها: (من أنبأك هذا) وقال الله فيها وفي أختها: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما (3)) أي زاغت والزيغ الكفر، وفي رواية أنه أعلم حفصة أن أباها وأبا بكر يليان الأمر، فأفشت إلى عائشة، فأفشت إلى أبيها فأفشى إلى صاحبه، فاجتمعا على أن يستعجلا ذلك يسقينه سما فلما أخبره الله بفعلهما هم بقتلهما، فحلفا له أنهما لم يفعلا، فنزل (يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم (4)) قال الناشي:
إذ أسر النبي فيه حديثا عند بعض الأزواج ممن تليه
نبأتها به وأظهره الله عليه فجاء من قيل فيه
سئل المصطفى فعرف بعضا بعض ابطان بعضه يستحيه
وغدا يعتب اللتين بفضل أبدأتا سره إلى حاسديه
____________
(1) يوسف: 106.
(2) التحريم: 2.
(3) التحريم: 4.
(4) التحريم: 7.
الصفحة 169
فأتى الوحي إن تتوبا إلى الله فقد صاغ قلب من يتقيه
أو تحبا تظاهرا فهو مولاه وجبريل ناصر في ذويه
ثم خير الورى أخوه علي صالح المؤمنين من ناصريه
كتبت عائشة إلى حفصة: نزل علي بذي قار، إن تقدم نحر، وإن تأخر عقر فجمعت حفصة النساء وضربن بالمزامر، وقلن: ما الخبر ما الخبر؟ علي في سفر إن تقدم نحر، أو تأخر عقر، فدخلت أم سلمة وقالت: إن تظاهرا عليه فقد تظاهرتما على أخيه من قبل.
تذنيب:
في الطرف: تخرج عليك فلانة، وتتخلف الأخرى تجمع لها هما سواء، فما أنت صانع؟ قال: أدعوهما إلى الكتاب والسنة وبيان حقي عليهما، فإن قبلتا وإلا قاتلتهما، قال: وتعقر الجمل وإن وقع في النار، قال: نعم، قال: اللهم فاشهد ثم قال: فأبنهما مني فإنها بائنتان، وأبوهما شريكان لهما فيما فعلتا.
ملحة:
قال ناصبي لشيعي: أتحب أم المؤمنين؟ قال: لا، قال: ولم؟ قال: لئلا يقول النبي: لم تجد امرأة غير امرأتي تحبها؟ ما لي ولزوجة النبي؟ أفترضى أن أحب امرأتك.
الصفحة 170
فصل
الناكثان يطلبان عليا بدم عثمان، وقد روى المدائني أن عليا سمع بعض بنات أبي سفيان تضرب بالدف وتقول:
ظلامة عثمان عند الزبير وأوثر منه بها طلحة
هما سعراها بأجذالها وكانا حقيقين بالفضحة
يهران سرا هرير الكلاب ولو أعلنا كانت النبحة
فقال علي: قاتلها الله ما أعلمها بموضع ثأرها.
ويعضده ما رواه الواقدي أن مروان لما رأى طلحة يحث الحرب على علي قال: والله إني لأعلم أنه ما حرض على قتل عثمان كتحريض طلحة ولا قتله سواه وقد أسلفنا كتابه إلى عبد الله بن حكيم يحثه على قتل عثمان ولما رمى طلحة بسهم أسقط مغشيا عليه، فأفاق واسترجع، وقال: أظن أنا عنينا بقوله تعالى: (و اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة (1)) ما أظن هذا السهم إلا أرسله الله علي، ثم دفن بالصبخة (2) ولم يصل عليه أحد، وكان الرامي له مروان، وذكره في المعارف قال الأصمعي: رماه بسهم وقال: لا أطلب ثأر عثمان بعد اليوم فمات طلحة (3).
____________
(1) الأنفال: 25.
(2) الصبخة لغة في السبخة، وهي محركة: أرض ذات نزو ملح و - ما يعلو الماء كالطحلب، يقال: علت هذا الماء سبخة.
(3) قال ابن عبد البر في الاستيعاب: روى حصين عن عمرو بن جاوان قال: سمعت الأحنف يقول: لما التقوا، كان أول قتيل طلحة بن عبيد الله، وروى عن ابن سيرين قال:
رمى طلحة بن عبيد الله بسهم فأصاب ثغرة نحره قال: فأقر مروان أنه رماه.
وروى عن يحيى بن سعيد عن عمه قال: رمى مروان طلحة بسهم ثم التفت إلى أبان بن عثمان فقال: قد كفيناك بعض قتلة أبيك.
وذكر ابن أبي شيبة قال حدثنا أبو أسامة قال حدثنا إسماعيل بن أبي خالد قال حدثنا قيس قال رمى مروان ابن الحكم يوم الجمل طلحة بسهم في ركبته، قال فجعل الدم يسيل فإذا أمسكوه أمسك، وإذا تركوه سال، قال: فقال دعوه، قال: وجعلوا إذا أمسكوا فم الجرح انتفخت ركبته، فقال: دعوه، فإنما هو سهم أرسله الله. فمات فدفناه على شاطئ الكلا.
الصفحة 171
وأما الزبير فقال ابن عباس: نزلت (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم) الآية في طلحة والزبير، قال الزبير: لقد قرأناها ولم نعلم فإذا نحن المعنيون بها.
قال سلمان قال عثمان: يقتل ابن الجاهلية وهو مرتد عن الاسلام، قال:
فقلت لعلي ذلك: فقال: صدق عثمان وذلك أنه يبايعني ثم ينكث، فيقتل مرتدا وقد روى ابن مردويه في فضائل أمير المؤمنين من طرق ثمانية أن عليا ذكر الزبير بقول النبي له: ستقاتل عليا وأنت ظالم له (1) وفي حلية الأولياء والواقدي و
____________
(1) هو الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى الأسدي يكنى أبا عبد الله وكان أمه صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وآله فهو ابن عمة رسول الله و ابن أخي خديجة بنت خويلد زوج الرسول صلى الله عليه وآله.
شهد الجمل مقاتلا لعلي عليه السلام فناداه علي ودعاه فانفرد به وقال له: أتذكر إذ كنت أنا وأنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله فنظر إلي وضحك وضحكت، فقلت أنت: لا يدع ابن أبي طالب زهوه، فقال: ليس بمزه، ولتقاتلنه وأنت له ظالم؟
فتذكر الزبير ذلك فانصرف عن القتال فنزل بوادي السباع، وقام يصلى فأتاه ابن جرموز فقتله، وجاء بسيفه ورأسه إلى علي عليه السلام فقال عليه السلام: إن هذا سيف طالما فرج الكرب عن رسول الله صلى الله عليه وآله.
ثم قال: بشر قاتل ابن صفية بالنار، وكان قتله يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الأولى من سنة ست وثلاثين.
وقيل: إن ابن جرموز استأذن على علي عليه السلام فلم يأذن له وقال للآذن: بشره بالنار فقال:
أتيت عليا برأس الزبير أرجو لديه به الزلفه
فبشر بالنار إذ جئته فبئس البشارة والتحفه
وسيان عندي: قتل الزبير وضرطة عنز بذى الجحفة
وقيل: إن الزبير لما فارق الحرب وبلغ سفوان أتى إنسان إلى الأحنف بن قيس فقال: هذا الزبير قد لقى بسفوان، فقال الأحنف ما شاء الله كان، قد جمع بين المسلمين حتى ضرب بعضهم حواجب بعض بالسيوف ثم يلحق ببيته وأهله؟!.
فسمعه ابن جرموز وفضالة بن حابس ونفيع بن غواة من تميم فركبوا، فأتاه ابن جرموز من خلفه فطعنه طعنة خفيفة، وحمل عليه الزبير وهو على فرس له يقال له: ذو الخمار حتى إذا ظن أنه قاتله. نادى صاحبيه فحملوا عليه فقتلوه، بل الظاهر من بعض الأخبار أن ابن جرموز قتله في النوم، وقد روى المسعودي في مروج الذهب أن عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل وكانت تحت عبد الله بن أبي بكر فخلف عليها عمر ثم الزبير قالت في ذلك:
غدر ابن جرموز بفارس بهمة يوم اللقاء وكان غير مسدد
يا عمرو! لو نبهته لوجدته لا طائشا رعش الجنان ولا اليد
هبلتك أمك إن قتلت لمسلما حلت عليك عقوبة المتعمد
ما أن رأيت ولا سمعت بمثله فيمن مضى ممن يروح ويغتدي
أقول: إنما قال عليه السلام: بشر قاتل ابن صفية بالنار، لأن القاتل وهو عمرو بن جرموز - مع أعوانه - قتله غدرا وغيلة ومغافصة، بعد ما ترك الزبير القتال فهو من أهل النار من جهتين.
الأول لقول رسول الله صلى الله عليه وآله: الإيمان قيد الفتك، فمن فتك مسلما وقتله غيلة كان بمنزلة من قتل مسلما متعمدا لإسلامه، فهو من أهل النار، ولو كان المقتول ظالما مهدور الدم.
فالذي قتله إنما قتله غدرا وبغيا وعدوانا فهو من أهل النار وإنما يقتله أمير المؤمنين عليه السلام به ولم يقد منه، لأنه كان جاهلا بذلك كله، متأولا يعتقد أن قتله واجب وهو مهدور الدم. لأجل أنه أجلب على إمامه أمير المؤمنين وخرج عليه بالسيف، ولم يظهر توبة ولم يستغفر عند وليه أمير المؤمنين.
لكنه كان مقصرا في جهالته ذلك، حيث إن اعتزاله كان بمسمع ومرأى من أمير المؤمنين ولم يحكم فيه بشئ ولا هو استأمره عليه السلام في قتله، مع وجوده بين ظهرانيهم والله أعلم.
وأما الزبير فالظاهر من الأحاديث أنه ندم عن فعله ندامة قطعية بحيث التزم العار فرارا من النار، لكنه لم يظهر منه توبة ولا استغفار، ولو كان أراد التوبة والاستغفار، كان عليه أن يفئ أولا إلى أمير المؤمنين عليه السلام ويستغفره مما فعله، ويجدد بيعته، فلم يفعل.
وقد روى المفيد قدس سره في جمله أنه لما رأى أمير المؤمنين رأس الزبير وسيفه قال للأحنف: ناولني السيف فناوله، فهزه وقال: سيف طالما قاتل بين يدي النبي صلى الله عليه وآله ولكن الحين ومصارع السوء، ثم تفرس في وجه الزبير وقال: لقد كان لك بالنبي صحبة ومنه قرابة، ولكن دخل الشيطان منخرك فأوردك هذا المورد.
الصفحة 172
الطبري والبلاذري أنه رجع فلامه ابنه، فقال: حلفت لا أقاتله، فقال: كفر يمينك وفي رواية الطبري والواقدي أنه أعتق عبدا وعاد إلى القتال، وفي خبر أنه قال: كيف أرجع ألا إنه لهو العار، فقال علي عليه السلام: ارجع قبل أن يجتمع عليك العار والنار، قال: كيف وقد سمعت عثمان يقول: شهد النبي صلى الله عليه وآله لي و لعشرة بالجنة فقال علي عليه السلام: سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول: تسعة ممن ذكرتهم في
الصفحة 173
تابوت في أسفل درك الجحيم، على رأسه صخرة إذا أراد الله عذاب أهلها رفعت، فرجع وهو يقول: نادى علي بأمر لست أنكره، الأبيات.
ادعوا لهما التوبة قلنا: ذكر المفيد في المحاسن أن عليا مر به وهو مرمي فقال: قد كان لك صحبة لكن دخل الشيطان منخريك فأوردك النار، ودعوى التوبة دعوى علم الغيب، إذ كل كافر وضال مات يمكن دعوى توبته باطنا، وانهزام الزبير لا يدل على توبته، وإلا لكان كل من يحارب النبي صلى الله عليه وآله ولا أقر بنبوته ظاهرا يمكن دعوى إيمانه باطنا.
قالوا: لما حمل فيهم قال لهم علي: أفرجوا له فإنه مغضب، وهذا يدل على توبته، قلنا: الكف عنه إنما هو استصلاح ومن كما من النبي صلى الله عليه وآله على أهل مكة مع كفرهم.
الصفحة 174
قالوا: لما قتله ابن جرموز قال علي قال النبي صلى الله عليه وآله: بشروا قاتل ابن صفية بالنار، قلنا: قتل الكافر قد يوجب النار، كما في قتل المعاهد، والقتل غيلة والقتل للسمعة، والقتل المزبور علامة الفجور، وابن الجرموز آمن الزبير، ثم اغتاله، وقد كان أيضا مع عائشة فلما رأى الدائرة عليهم اعتزلهم، وقد كان علي نادى لا يتبع مدبر، فتبعه وقتله، فاستحق النار بمخالفته، وقد جاهد قزمان يوم أحد فاثني عليه بحضرة النبي صلى الله عليه وآله فقال: إنه من أهل النار، فكشف عن حاله فلم يجدوه قاتل إلا لأحساب قومه (1) أقر بذلك قبل موته.
إن قيل: فلم لا يكون في بشراه قاتله بالنار إيماء إلى العلة فيكون المعلول مؤمنا؟ قلنا: ليس في ذلك شئ من أدوات العلة، وجواز كون البشارة لجواز توهم ثواب قاتله من حيث إنه قتل رأس الفتنة فأراد النبي صلى الله عليه وآله الإخبار عن معاقبته أنه معاقب بخاتمة عمله، كما قد يخبر عمن ظاهره الفساد أنه مثاب نظرا إلى خاتمته وهذا شئ معروف. فهذه قطره من بغيهم وغوايتهم، ونزرة من ميلهم وعداوتهم انتصرنا عليهم بعد العثور على جملة منها، لو شرحناها لطال كتابنا.
ومن أحسن ما قيل في هذه القصة ونحوها قول رجل من بني سعد:
صنتم حلائلكم وقدتم أمكم فهذا لعمري قلة الإنصاف
أمرت بجر ذيولها في بيتها فهوت تجوب البيد بالأسجاف
____________
(1) مع أنه كان قتل نفسه بمشقص لما كان يجد من ألم الجراح.
الصفحة 175
فصل
* (في حرب صفين) *
وفيه نعيب على القاسطين، حيث بغوا على الأنزع البطين، ومن معه من المؤمنين، وهذا عمرو بن العاص شاهرا سيفه، محاربا بصفين إمامه، هاتكا عند حيرته سوءته، حتى قال معاوية من عظمها: أنها تعقب فضيحة الأبد وكذا جرى لبشر ابن أرطاة حين رأى عليا عليه السلام في حملته، فسقط عن فرسه، وكشف عن استه، فقال فيهما شاعر:
أفي كل يوم فارس ذو كريهة له عورة وسط العجاجة باديه
يكف لها عنه علي سنانه ويضحك منها في الخلاء معاوية
فلا تحمدا إلا الحيا وخصاكما فقد كانتا والله للنفس واقيه
فهذا فعل عمرو. وهم له يعدلون، ولدينهم عنه يأخذون، ونحو هذا ذكر سبط الجوزي في كتاب الرجال أن عبد الله بن عمر كان زاهدا عابدا يقاتل يوم صفين بسيفين، وهذا تناقض ظاهر للناظرين، فنعوذ بالله من أهواء المضلين، هذا وقد سمع النبي صلى الله عليه وآله يقول: من بايع إماما وجاء آخر يبايعه فاضربوا عنق الآخر ذكره مسلم في الجزء الرابع من صحيحه، وفيه أيضا عن الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الأخير، قال رجل لابن عمر: هذا معاوية يأمرنا بأكل أموالنا بيننا بالباطل وبقتل أنفسنا، فسكت ساعة ثم قال: أطعه في طاعة الله واعصه في معصية الله، قلت: ولا طاعة في محاربة أمير المؤمنين، وقد علم أن حربه حرب رسول الله صلى الله عليه وآله.
وقد ظهرت فيهم علامة البغي بقتل عمار، كما يؤمي إليه حديث النبي المختار قال: يا عمار تقتلك الفئة الباغية، ذكره مسلم في الجزء الخامس من صحيحه وزاد جماعة من الرواة: يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار.
الصفحة 176
قال الحميدي في جمعه: لم يذكرها البخاري، وربما حذفها لغرض قصده بل ونقول: كان تدبير حرب صفين معلقا بابن العاص قديما وحديثا فإن معاوية كبت إليه يستنهضه بدم عثمان ويمدحه، فكتب في جوابه يمتنع من ذلك فكتب معاوية يعده بالأموال والولايات، وفي آخر كتابه:
جهلت ولم تعلم محلك عندنا فأرسلت شيئا من خطاب ولا تدري
فثق بالذي عندي لك اليوم آنفا من العز والاكرام والجاه والقدر
فأكتب عهدا ترتضيه مؤكدا وتشفعه بالبذل مني وبالبر
فكتب إليه عمرو:
أبى القلب مني أن أخادع بالمكر بقتل ابن عفان أجر إلى الكفر
وإني لعمرو ذو دهاء وفطنة وليس أبيع الدين بالربح والوفر
فلو كنت ذا رأي وعقل وحيلة لقلت لهذا الشيخ إن خاض في الأمر
تحية منشو جليل مكرم بخط صحيح ذي بيان على مصر
أليس صغير ملك مصر ببيعة هي العار في الدنيا على العقب من عمرو
فإن كنت ذا ميل شديد إلى العلا وإمرة أهل الدين مثل أبي بكر
فإن دواء الليث صعب على الورى فإن غاب عمرو زيد شر على شر
فكتب إليه معاوية بمنشور مصر، فكثر تفكره حتى ذهب نومه، وقال:
تطاول ليلي بالهموم الطوارق فصافحت من دهري وجوه البوائق
وأخدعه؟ والخدع فيه سجية أم أعطيه من نفسي نصيحة وامق
أم أقعد في بيتي وفي ذاك راحة لشيخ يخاف الموت في كل شارق
فلما أصبح دعا مولاه وردان فشاوره، فقال: إن مع علي آخرة لا دنيا وهي التي تبقى لك، ومع معاوية دنيا لا آخرة، وهي التي لا تبقى على أحد، فاختر أيهما شئت فتبسم عمرو وقال:
يا قاتل الله وردانا وفطنته لقد أصاب الذي في القلب وردان
لما تعرضت الدنيا عرضت لها بحرص نفسي وفي الأطماع ارهان
الصفحة 177
نفس تعف وأخرى الحرص يغلبها والمرء يأكل تبنا وهو غرثان
أما عليا فدين ليس يشركه دنيا وذاك له دنيا وسلطان
فاخترت من طمع دنيا على بصر وما معي بالذي اخترت برهان
إني لأعرف ما فيها وأبصره وفي أيضا لما أهواه ألوان
لكن نفسي تحب العيش في شرف وليس يرضى بذل النفس إنسان
ثم رحل إلى معاوية وكان الحرب، وقال فيه شاعر:
قد باع عمرو دينه بمصر مبدلا إيمانه بكفر
ثم خدع الأشعري في التحكيم، وقيل: إنما كان ذلك عن علم منه كما قال ابنه أبو بردة فيه:
أنا بن مشتت الاسلام لما صير الحكما
أزل عن الورى علما وأنصب للورى صنما
ولم يخدع كما زعموا ولكن كان متهما
ولقد قال له عمرو: أنت كالكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، وقال الأشعري له: أنت كالحمار يحمل أسفارا، ولعمري إنهما صادقان، وقد أخرج البخاري في الشيطان لقد صدقك وهو كذوب.
وقد أسند الخوارزمي في مناقبه أن حريثا مولى معاوية كان بطلا عظيما يلبس سلاح معاوية، ويقاتل، فتظنه الناس معاوية، وكان يتمنى مبارزة علي عليه السلام فنهاه معاوية فخلا به عمرو وقال: إنما نهاك كراهة أن يقتل غلامه ابن عمه، فإن وجدت فرصة فاقتحم فإنها أحظى لك، فخرج فبرز إليه علي عليه السلام فقالوا: تبرز إلى هذا الكلب؟ فقال: والله إنه لأعظم عناء عندي من معاوية فقتله، فشق على معاوية فقال لعمرو: ما أنصفته حين أمرته بأمر كرهته لنفسك ثم أنشأ:
حريث ألم تعلم وعلمك صائر بأن عليا للفوارس قاهر
وأن عليا لا يبارز فارسا من الناس إلا أحرزته الأظافر
أمرتك أمرا حازما فعصيتني فجدك إن لم تقبل النصح عاثر
الصفحة 178
ودلاك عمرو والحوادث جمة فلله ما جرت عليك المقادر
وظن حريث أن عمروا نصيحه وقد يدرك الانسان ما قد يحاذر
وأسند أيضا أن الملأ اجتمعوا في صفين لمعاوية وذكروا شجاعة الأشتر وعلي فقال عتبة بن أبي سفيان: لا نظير لعلي، قال معاوية: قتل علي أباك يا وليد بن أبي معيط يوم بدر، وأخاك يا أبا الأعور يوم أحد، وأباك يا أبا طلحة يوم الجمل فإذا اجتمعتم أدركتم ثأركم، وشفيتم أنفسكم. فضحك الوليد وقال:
يقول لكم معاوية بن حرب أما فيكم لواتركم طلوب
يشد على أبي حسن علي بأسمر لا تهجنه الكعوب
فيهتك مجمع اللبات منه ونقع اليوم مطرد يثوب
فقلت له أتلعب يا بن هند كأنك بيننا رجل غريب
أتأمرنا بحية بطن واد إذا نهشت فليس لها طبيب
وبسر قبلنا لاقى جهارا فأحظى نفسه الأجل القريب
سوى عمرو وفتنة خصيتاه نجى ولقلبه منها وجيب
وما ضبع يدب ببطن واد أتيح لقتله أسد مهيب
بأصغر حيلة منا إذا ما لقيناه وذا منا عجيب
كأن القوم لما عاينوه خلال النقع ليس لها قلوب
وقد نادى معاوية بن حرب فأسمعه ولكن لا يجيب
قال الوليد: إن لم تصدقوني فاسألوا عمروا يخبركم عن شجاعته، وقد ردها بكشف سوءته.
وبالجملة فشجاعة علي غنية عن الكشف والبيان، والثبوت والبرهان لاشتهارها عند كل إنسان، وظهورها في كل مكان، ومن قام دين الاسلام بقتله وحمل ثقله، كيف يقوم عليه من لم يبلغ معشارا من نبله وفضله.
ثم جرى التحكيم على رغم أمير المؤمنين حيث قال له الأشعث بن قيس:
افعل وإلا قتلناك بالسيوف التي قتلنا بها عثمان، فقال: لا رأي لمن لا يطاع.
الصفحة 179
قال ابن البطريق: وكان العذر في [ عدم ] قتل من خرج من أصحابه بصفين عن أمره ما علم من خروج المؤمنين من أصلابهم فإنه كانت تعرف به الفتن كما تقدم في الخبر وقتل الخوارج لعلمه أنه لا مؤمن فيهم كما أعلم الله نوحا بعدم إيمان قومه، فدعا عليهم، هذا.
ولما انقضت الحال من صفين توجه عمرو إلى مصر في جيش فأخذ محمد بن أبي بكر بغير قتال فقتله وحشى جثته في جوف حمار ميت وأحرقه.
تذنيب:
أورد الشهيد محمد بن النيشابوري عن الشافعي عن رجاء الكندي أن عمرا سأل معاوية حاجة فقضاها سريعا فشكره، فقال: لو شكرتني على إحساني لشغلك عن أمورك، فرفع عمرو صوته وقال: يدي عليك تعلو جميع أياديك لأني أبطلت حقا لأجلك، وسخرت الناس لإطفاء نور غيرك، وأنت لعين ابن لعين، طليق ابن طليق، وثن ابن وثن، حتى خلت أني لو لقيت ربي بأحسن أعمال العاملين، لم ينجني من النار، وصرفت لك سيد العرب وأنت في قعر جب يابس آيسا من كل خير متوقعا لكل شر، فقال معاوية: ما تركت بابا إلا فتحته، ولا وكاء إلا حللته، الويل لك والويل منك ثم افترقا فأنشأ عمرو: معاوية الخال لا تنس لي الأبيات وقد سلف في آخر الباب الثاني عشر طرف من ذلك.
وأما الخوارج فقد ظهر فيهم علامة المروق من الدين، بقتل ذي الثدية رأس المضلين، كما أخبر سيد المرسلين، عليا أمير المؤمنين.
تذنيب:
قال الجاحظ: لا فضيلة لعلي في قتال الفرق الثلاثة حيث أخبره النبي صلى الله عليه وآله بالنصرة عليهم والسلامة منهم قلنا: أول ما فيه أنه وثق بقول النبي صلى الله عليه وآله بخلاف من شك فيه، وقد روى الخصم أنه أعلمه بأنه الخليفة من بعده، حيث أسر ذلك إلى ابنته، ولم يقدم على قتل أحد، بل كان في النظارة في بدر واحد، وثانيا أن النبي صلى الله عليه وآله مدحه على ذلك، وما ذكره الجاحظ يجعل المدح عبثا والجد هزلا
الصفحة 180
والفخر هزوا وكلام الرسول يجل عن ذلك جانبا، ولو كانت هذه الفضيلة لأبي بكر لسارت فيهم بها الركبان، ولعلت بينهم على كيوان، وقد وجدنا أن كل ذي نقصان يسارع إلى هدم فضيلة غيره في كل زمان، ورأينا كل من يجتنب الفضائل، ويكتسب الرذائل، يتمنى مشاركة غيره له ليصرف عنه اللؤم، ولا يؤنبه بها أحد من القوم من أنصف من نفسه، علم ذلك في أبناء جنسه.