الصفحة 63
(الفصل الأول)
* (في طريق إثباته) *
اختلف الناس في الإمامة، فأوجبها عقلا - مطلقا - على الله الإمامية والشيعة وأوجبها أكثر المعتزلة عقلا علينا، وأوجبها الزيدية والأشعرية والجاحظ و الكعبي وأبو الحسن البصري علينا سمعا ولم يوجبها بعض الخوارج أصلا وبعضهم والأصم وأتباعه أوجبوها إذا لم يتناصف الناس وعكس ذلك هشام وأتباعه فأوجبها إذا تناصف الناس.
لنا على الوجوب مطلقا على الله كون الإمام لطفا، فيجب عليه لامتناع نقض الغرض إذا علم أن المكلف لا يقرب من ذلك إلا به.
بيان اللطفية أن فيه رد المطامع، والقيام بحق الضائع، ولهذا تسارعوا إلى طلب الرئيس في السقيفة قبل تجهيز النبي، واشتغل به علي لعلمه أنه خليفة النبي وتبادر الناس إلى نصبه في كل صقع. ولأنه حافظ الشرع فهو معصوم ولا يعرف المعصوم إلا الله وهو من الألطاف في العقليات المتقدمة على السمعيات، فلو وجب سمعا لزم الدور. ولأن الوجوب سمعا إما على النبي، فلا يخل به لعصمته أو على الأمة فلا علم لها بتعيينه أو مشترك بينهما ويلزم التناقض فإنه إذا اختار وجب اتباعه وإذا لم تختر الأمة معه لم يجب اتباعه ولأن الأمة قد لا يقع اختيارها فيتعلق الواجب وهو قول النبي صلى الله عليه وآله ونصب الإمام بالحاير.
الصفحة 64
قالوا: الإمامة تثير الفتن في كل زمان، كما في علي وولديه، فكيف تجب من الله أو عليه؟ قلنا: جاز كون الفساد بتركها أكثر منها إذ لولاها جاز أن يستولي شوكة الكافرين، على تبديل مذهب المسلمين، فبتلك المنازعة خمدت نار الظلمة واجتمع المسلمون على كلمة.
إن قالوا: إذا كان تصرفه في الأمة بردها - بالمحاربة - إلى طاعته، يستلزم كفرها، لزم كون الإمامة مفسدة، فتخرج بذلك عن وجوبها.
قلنا: قال المرتضى إذا علم الله المصلحة فيها وجب أن يفرضها ويوجب طاعة الأمة لها وقد فعل، فخالفه الأمة بترك نصرتها بل منعت وصدت عنها، فاللوم عليها إذا لم تفعل ما يوجب تمكين الإمام من مصلحتها وليس له بالمحاربة أن يلجئها لأدائه إلى إبطال تكليفها ويجوز أن يغلب في ظنه عدم طاعتها بمحاربتها، بل قد يزداد نفورها، ولأن المفسدة المفروضة غير لازمة للإمامة وإلا لم توجد إمامة ولا نبوة، وأيضا فالتمكين واجب عليه تعالى لإزاحة العلة ونصب الإمام جزء منه، إذ الداعي بوجوده إلى فعل الطاعات أوفر، والصارف إلى ترك المعصيات أزجر وجزء الواجب واجب فالإمامة واجبة.
قالوا: جاز اشتمالها على قبيح لا تعلمونه قلنا: القبائح محصورة لتكليفنا باجتنابها فنكلف ما لا نطيق أو لم نعقلها.
إن قالوا: يجوز أن يعرفنا الله أقسام الحسن ويقول القبيح ما عداها ويكلفنا بتركه وإن لم نعلم تفصيل مجمله. قلنا: يلزم المطلوب لأن حصر أحد الجهتين يستلزم حصر الأخرى، ولما نصب الله الأنبياء والخلفاء انتفى القبيح بغير خفاء و لأن الطوايف المحاربة للإمام كان فيهم رؤساء، فلو كان الفساد في الرؤساء لم ينصبوا لأنفسهم رؤساء.
قالوا: مع الإمام يلتجئ المكلف إلى الطاعة والالجاء مفسدة لعدم الثواب فيه. قلنا: نمنع الالجاء على أنه وارد في النبوة.
قالوا: شرطتم لطفيته بتمكينه فمع عدم تمكينه يسارع المكلف إلى معصية ربه
الصفحة 65
قلنا لم نشرط ذلك بل نصبه لطف وتمكينه آخر على أن المكلف يكون خائفا مترقبا ظهوره دائما.
قالوا يكفي ترقب وجوده بعد عدمه، كما يكفي ترقب ظهوره بعد غيبته فلا قاطع الآن بوجوده. قلنا: قضت الضرورة بعد استواء الخوف مع غيبته بالخوف مع عدمه وإن جزم بوجوده عند مصلحته.
إذا عرفت هذا، فاعلم أنه قد اختلف الناس بعد النبي المختار، فقالت طائفة شاذة - يقال لها المحمدية - أنه لم يمت.
وقالت الفرقة المحقة: الإمامة ثبتت بالنص، لا الدعوى ولا الميراث ولا الاختيار، وقالت الزيدية أو بالخروج والدعوى، ويلزمهم الدور إذ لا يجوز الخروج قبل الإمامة، فلو كانت إنما ثبتت به دار. إلا أن يقال: الخروج كاشف عن سبق الاستحقاق قلنا: فبطلت الشرطية لوجوب تقدم الشرط.
وقال الجمهور من أهل المذاهب الأربعة وبعض المعتزلة والزيدية والصالحية والبترية والسلمية(1) وأصحاب الحديث أو بالاختيار ويلزمهم جواز أن تختار الأمة نبيا كما يجوز أن تختار إماما ولم يقل به أحد، وسيأتي البحث في تكميله إن شاء الله ولأن المنصوب منهم إن اختار نفسه معهم فقد زكاها فدخل في نهي الله (فلا تزكوا أنفسكم(2)) وإن لم يختر نفسه ولم يرض بها لم تجتمع الأمة عليه وكان غيره أولى لعدم الرضا به.
وقالت الراوندية أو بالميراث وقد ذكر صاحب نهج الإيمان أن هذه المقالة أحدثها الجاحظ، سنة عشر ومائة من الهجرة، ليتقرب بها إلى المأمون، حيث جعلها للعباس بكونه عم النبي صلى الله عليه وآله وعمل فيها كتابا ووضع فيها حججا على أنا لو قلنا بالميراث، فعلي أولى منه، لكونه ابن عم النبي لأبويه والعباس عمه لأبيه فذو السببين أولى بآيات أولي الأرحام المعتبر فيها بالأقرب فالأقرب وقد أجمعت
____________
(1) السلمانية، خ ل.
(2) النجم: 34.
الصفحة 66
الفرقة المعتبر صحة إجماعها بدخول المعصوم فيها على اختصاص الإرث بابن العم للأبوين، دون العم للأب، وأيضا فآية أولي الأرحام تتضمن ذكر المهاجرين ولم يكن العباس من المهاجرين، فليس له ميراث.
وأسند ابن جبر في نخبه إلى زيد بن علي في قوله تعالى: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض(1)) قال ذلك علي بن أبي طالب، كان مهاجرا وذا رحم، وعن جابر بن يزيد أثبت الله بهذه الآية ولاية علي ابن أبي طالب فحاز ميراث النبي و سلاحه ومتاعه وبغلته وكتابه وجميع ما ترك بعده ولم يرث الشيخان من ذلك شيئا.
وأسند ابن حنبل، إلى زيد بن آدمي، قوله: (أنت أخي ووارثي) وأسند إلى زيد بن أبي أوفى نحوه وأسند ابن المغازلي إلى أبي بريدة (لكل نبي وارث وإن وصيي ووارثي علي بن أبي طالب) وحديث: لا نورث، خبر واحد مردود لمخالفته الكتاب، في قوله: (وورث سليمان داود(2) ونحوه والسنة المتواترة من الأحاديث السالفة وغيرها.
وفي حديث زيد بن آدمي أن ميراث علي من النبي الكتاب والسنة لا يضرنا بل فيه النصرة لنا لأنه إذا كان علي ورث الكتاب الذي هو أكبر معاجز النبي وورث السنة التي فيها أحكام شريعة النبي، فقد ورثه الله علوم النبي صلى الله عليه وآله فكان أحق بالاقتداء بدليل: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون(3)).
تذنيب:
قال الجاحظ: لم تعرف الشيعة الاحتجاج بالقرابة إلا من قول الكميت:
يقولون لم يورث ولولا تراثه لقد تركت فيها نكيل وأرحب
إلى قوله:
فإن هي لم تصلح لقوم سواهم فإن ذوي القربى أحق وأوجب
____________
(1) الأحزاب: 7.
(2) النمل: 16.
(3) الزمر: 9.
الصفحة 67
قلنا: ويلك كيف ذلك، وقد رد علي يوم السقيفة حجة الشيخين، حين تقدم أبو بكر على الأنصار بالقرابة، فقال علي: نحن أحق برسول الله لأنا أقرب قريش كلها، وقد نظم علي عليه السلام هذا المعنى، فقال:
فإن كنت بالقربى حججت خصيمهم فغيرك أولى بالنبي وأقرب
وإن كنت بالشورى ملكت أمورهم فكيف بهذا والمشيرون غيب
فواعجبا، من أن تكون الخلافة بالصاحبة ولا تكون بالصحابة والقرابة(1) وقد قال سلمان له، لما رقى المنبر: إلى من تفزع إذا سئلت عما لا تعلم وفي القوم أعلم منك وأقرب برسول الله؟.
وذكر ابن عبد ربه في الجزء الأول من كتاب العقد، أن أروى بنت الحارث ابن عبد المطلب قالت لمعاوية: لقد كفرت النعمة، وأسأت لابن عمك الصحبة و تسميت بغير اسمك وأخذت غير حقك من غير دين كان منك ولا من آبائك ولا سابقة لك في الاسلام بعد أن كفرتم برسول الله صلى الله عليه وآله فأتعس الله منكم الجدود وصعر منكم الخدود فرد الحق إلى أهله، فأصبحتم تحتجون على الناس بقرابتكم من رسول الله ونحن أقرب إليه منكم وأولى بهذا الأمر فيكم، فكنا فيكم بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون وكان علي بمنزلة هارون من موسى، فغايتنا الجنة و غايتكم النار.
فيقبح من الجاحظ نسبة الشيعة إلى جهل ما تعرفه نساؤهم.
وقال الملك الصالح في ذلك:
أخذتم عن القربى خلافة أحمد وصيرتموها بعده في الأجانب
وأين على التحقيق تيم بن مرة لو اخترتم الإنصاف من آل طالب
وروي أن الرضا عليه السلام بات ساهرا متفكرا في قول ابن أبي العوجاء:
أنى يكون وليس ذلك بكائن للمشركين دعايم الاسلام
لبني البنات نصيبهم من جدهم والعم متروك بغير سهام
____________
(1) نهج البلاغة الرقم 190 من الحكم والمواعظ.
الصفحة 68
ما للطليق وللتراث وإنما سجد الطليق مخافة الصمصام
قد كان أخبرك القران بفضله فمضى القضاء به من الحكام
إن ابن فاطمة المفوه باسمه حاز الوراثة عن بني الأعمام
وقال عمرو بن حريث:
لو لم يكن لك في الإمامة مهلة إلا سوابقك التي لا تعدل
كنت المقدم قبلهم وأحقهم إذ لا يفوتك منهم متمهل
فلك المكارم والوراثة حزتها ومناقب لك جمة لا تجهل
أما ابن حرب فالإمارة همه لا المنجيات ولا الكتاب المنزل
وقال المرزكي:
أيا لائمي في حب أولاد فاطم فهل لرسول الله غيرهم عقب
هم أهل ميراث النبوة والهدى وقاعدة الدين الحنيفي والقطب
أبوهم وصي المصطفى وابن عمه ووارث علم الله والبطل الندب
(الفصل الثاني)
* (في تكميل شئ مما سبق في هذا الباب) *
قالوا: لطفية الإمام لا تتعين إلا عند امتناع البدل. قلنا: التجاء الخلق في الأزمان والأصقاع إليه، دليل [ على ] عدم البدل.
قالوا: فقد قام غيره مقامه في حق الإمامة وهو العصمة عندكم. قلنا: قد علمنا عدم عصمة الأمة وأيضا، فبدله لا يتصور إلا عند عدمه وقد بينا وجوبه في كل وقت وأيضا لزم من عدم الإمام، هدم الصوامع والبيع والصلوات، كما قال تعالى: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات)(1).
الآية، فلو كان له بدل، لم تلزم هذه المفاسد، وأيضا ففي أمره تعالى بطاعة أولي
____________
(1) الحج: 40.
الصفحة 69
الأمر دليل على عدم البدل، لعطفه على طاعة الله ورسوله وليس لهما بدل، ولإجماع الصدر الأول على امتناع خلو الزمان من خليفة، فدل على عدم البدل.
قالوا: قد يكون في نصبه مفسدة يعلمها الله دوننا فلا ينصبه ويجب نصبه علينا لأن وجه الوجوب كاف في حقنا. قلنا: لو علم الله فيها مفسدة لما أوجبها علينا و لنهانا عن نصب الإمام وطاعته مع أن القرب من الطاعة والبعد من المعصية المعلوم حصول عند الإمام مما يطابق غرض الحكيم وعكسها ينقضه، فلو كان ما يطابق غرضه مفسدة خرج عن الحكمة، وأيضا فالمفسدة بالإمام لا ترجع إلى الحكيم، لوجوبه وغنائه، فترجع إلى عبيده ونحن قد بينا أن فيه المصلحة العامة لعبيده، فيلزم كون المصلحة عين المفسدة وهو محال.
قالوا: مع وجود الإمام، يخاف العبد فيفعل ويترك، للخوف لا للوجه، و ذلك مفسدة قلنا: أما المطيع فلطفه تقريبه إليها، وأما العاصي، فلطفه ترك المعصية وليس القبيح ترك المعصية لا لكونها معصية، وإنما القبيح اعتقاد تركها، لا لكونها معصية، ووجه اللطف حصول الاستعداد بالتكرير الموجب لفعل الطاعة وترك المعصية للوجه على أنه معارض بنصب النبي.
قالوا: الثواب على الطاعة عند فقد الإمام أشد من وجوده فهو مفسدة قلنا:
وجوده ليس ملجئا إليها، فإن كثيرا لا يعلم الإمام حالهم، وما ذكرتم سار أيضا في النبي وفي كل لطف.
قالوا: جاز أن يكون في بعض الأزمان من يستنكف عن الإمام فهو مفسدة لبعض الأنام. قلنا: ذلك نادر [ فيه ] غير عام بل الأكثر على قبول نصب الإمام مع أنه معارض بالنبي.
قالوا: لطفية الإمام، ليست في أفعال الجوارح، والشرعيات منها الشرع كاف فيها، على أنه لا يجب الشرع في كل زمان فلا يجب اللطف فيه، والعقليات إن فعلت لكونها مصلحة دنيوية كما في ترك الظلم، إذ فيه قيام النظام فحينئذ لطف الإمام في مصالح الدنيا وهو غير واجب اتفاقا وإن فعلت لوجوهها المرادة لله فلا
الصفحة 70
اطلاع للإمام على قلوب عباد الله، فعلم من ذلك أن لطفيته ليست في أفعال القلوب أيضا، فانتفت لطفيته مطلقا.
قلنا: بل لطفيته عامة والشرع غير كاف في الشرعيات إذ أكثرها غير كائن في صدر الاسلام وبعد موت النبي ولا نسلم جواز الخلو من الشرايع والأحكام و إلا، لاختل النظام، وفي ترك الظلم مصلحة دنيوية ودينية، فإنه من التكاليف السمعية والعقلية وأما لطفه في العقليات، فإن الملازمة بوجوده على فعل الشرعيات يؤثر استعدادا تاما في قصد وقوعها لوجوهها، لا لغيرها (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر(1)).
(الفصل الثالث)
نذكر فيه شبهة من أوجب نصب الإمام على الأمة عقلا لا على الله ولا سمعا و هي خمسة:
1 - العقل لا يحكم في التحسين والتقبيح بشئ، فلا يجب على الله شئ.
قلنا: قد بينا حكمه فيهما كيف وصدق الأنبياء عليهم السلام مبني عليهما، فلا تتم شريعة إلا بهما.
2 - لطفية الإمام مربوطة بتمكينه فإذا علم الله عدمه سقط وجوبه. قلنا: لا بل نصبه لطف، وحال كف يده لا يؤمن المكلف كل لحظة من تمكنه. إن قيل:
تصرفه إن كان شرطا في لطفيته وجب على الله تمكينه، وإن لم يكن شرطا سقطت لطفيته قلنا تمكينه إنما هو بخلقه وقبوله وقد فعلاه(2) ونصرة الرعية له ولم تفعله وليس تمكينه بخلق الأنصار له ليقهر الرعية على اتباعه، لمنافاة الالجاء التكليف ولو جاز أن يقهر الإمام الرعية على طاعته جاز الالجاء والقهر في جميع التكاليف وهو محال.
____________
(1) العنكبوت: 45.
(2) كذا.
الصفحة 71
3 - القول بالعصمة ممتنع وغير المعصوم ليس بلطف. قلنا: لا بد من عصمة الإمام لئلا يلزم احتياجه إلى إمام كسائر الأنام وسنبين وجودها في الآيات الكرام، على أنا نمنع نفي اللطف عمن ليس بمعصوم.
4 - لو وجبت عصمة الإمام، لوجبت عصمة نوابه، لاحتياج العباد إليهم لتباعد البلاد. قلنا: يكفي في كل زمان وجود معصوم.
قالوا: ويستحيل هنا وجود شيئين يقوم كل منهما مقام الآخر، دفعة.
قلنا: نوابه تراجعه [ فيها و ] فيما يشتبه على أنه معارض بنواب النبي صلى الله عليه وآله.
5 - يمكن تصور خلو كل زمان من التكاليف الشرعية، فيمكن خلوه من الإمام التابع لها في اللطفية. قلنا: إنا بينا وجوبه على تقدير التكليف على أنه لا يلزم من صحة تصور خلو الزمان وقوع ذلك الخلو، بل الواقع عدمه على أن دفع الخوف وقيام النظام إنما يكون بالإمام فهذه الشبهة، ليس لها شبهة نبوت إذ هي أو هي من بيت العنكبوت.
(الفصل الرابع)
* (في إبطال الاختيار) *
قالوا: إذا عقد خمس عدول علما، أو واحد منهم، ورضي باقيهم لرجل هو أهل الإمامة ولم يكن في الوقت إمام ولا عهد لإمام صار المعقود له إماما، لأن عمر عقد لأبي بكر في السقيفة، ورضي أبو عبيدة ابن الجراح وسالم مولى حذيفة و بشر بن سعيد وأسيد بن حضير وفي الشورى عقد عبد الرحمن لعثمان ورضي علي وسعد وطلحة والزبير وبهذا قال القاضي عبد الجبار وأكثر المجوزين للاختيار شرطوا الاجتماع وأجاز الجويني في إرشاده عقدها برجل واحد.
قلنا: لو جاز للأمة اختيار الإمام، جاز لها اختيار النبي، لاتحادهما في اللطف والمصلحة للأنام. ولو جاز ذلك، جاز لها اختيار الشرايع والأحكام لأنها فرع على الأنبياء. وإذا جاز اختيار الأصل جاز الفرع بالأولى، ولأن الاختيار
الصفحة 72
محدث، فهو بدعة لقوله عليه السلام: (إياكم ومحدثات الأمور فإنها بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار(1)) ولأن الله تعالى قال: (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة(2)) وقد أسند الشيرازي في كتابه الذي استخرجه من التفاسير الاثني عشر - إلى أنس قول النبي صلى الله عليه وآله عند هذه الآية: (إن الله تعالى اختارني وأهل بيتي على الخلق فجعلني الرسول وجعل عليا الوصي، ما كان لهم الخيرة) أي ما جعل [ ت ] للعباد أن يختاروا. ومثله أسند ابن جبر في نخبه إلى أنس أيضا، وقال سبحانه: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا، أن يكون لهم الخيرة(3).
إن قالوا ما قضى الله في الإمامة أمرا. قلنا: مر نقلنا نحن وأنتم في ذلك نصوص القرآن وأحاديث النبي.
إن قالوا: في الآية إضمار (لا) بعد أن أي أن لا يكون لهم الخيرة، كما أضمرت في قوله: (يبين الله لكم أن تضلوا(4)). قلنا: الأصل عدم الاضمار على أن الاضلال لما كان قبيحا لا يصدر منه تعالى، وجب إضمار لا، أما منع العباد من الاختيار، فليس قبيحا فلا ضرورة إلى إضمار لا، وقد قيل: يبين الله لكم وجه الضلالة لتجتنبوها، وحينئذ لا إضمار، ولأنه إذا قضى الله سبحانه أمرا، لم يحتج إلى الاختيار، ولو احتيج إليه، لزم توقف أمر الله ورسوله عليه ولأن صحة الاختيار إن لم تتوقف على قضاء الله كانت بدعة، وكل بدعة ضلالة، وإن توقفت لزم الدور، إذ لا يصح الاختيار إلا بقضاء الله، ولا يكفي قضاء الله إلا بانضمام الاختيار إليه.
وذكر ابن جرير الطبري أن بني كلاب، قالوا للنبي: نبايعك على أن
____________
(1) مشكاة المصابيح ص 27. من حديث جابر.
(2) القصص: 68.
(3) الأحزاب: 36.
(4) النساء: 175.
الصفحة 73
يكون الأمر لنا بعدك فقال صلى الله عليه وآله الأمر لله إن شاء كان فيكم، أو في غيركم. وروى الماوردي في أعلام النبوة أن عامر بن الطفيل قال للنبي صلى الله عليه وآله ما لي إن أسلمت؟
فقال صلى الله عليه وآله: ما للمسلمين، قال: ألا تجعلني الوالي بعدك؟ قال: ليس ذلك لك ولا لقومك.
فدل هذان الحديثان(1) وتانك الآيتان بتفسيرهم على المنع من الاختيار وقد قال سبحانه وتعالى: (تؤتي الملك من تشاء، ويؤتي الحكمة من يشاء، والله يزكي من يشاء، أهم يقسمون رحمة ربك، نرفع درجات من نشاء(2)) وفي الاختيار تقديم بين يدي الله ورسوله، فهو دخول في نهي كتابه(2).
إن قالوا: الاختيار من قضاء الله سبحانه لنفي أفعال العباد، قلنا: نمنع ذلك و قد بيناه في باب إبطال الاجبار، على أن نفي الاختيار في الآية مشروط بقضاء الله و رسوله، ولو انتفى فعل العباد، لزم العبث في الاشتراط.
إن قالوا: في الآية الجمع بين قضاء الله ورسوله: وعندنا أن الرسول لم يقض لأنه لم يوص، فإلينا الاختيار، لأنه لم يوجد مجموع الشرط. قلنا: ليس هنا قضاءان لأن قضاء الله هو قضاء رسوله لعموم (وما ينطق عن الهوى(4).
إن قالوا: نمنع الاتحاد، لأن الله قضى بأشياء ولم يقض بها النبي والآية دلت على أن قضاء النبي قضاء الله دون العكس. قلنا: بل هما متحدان هنا لأن الإمامة إن قضى بها دون النبي لزمه أن يصل إلى الأمة لا على يد النبي، وهو محال ولأن سلم كونه غيره، جاز كون الواو في الآية بمعنى أو، مثل: (مثنى وثلاث و رباع(5)). وكيف يتم لكم أن للرسول قضاء وقد نفيتم أفعال العباد وقد قال
____________
(1) هذا على أن الحديثين، خ.
(2) آل عمران: 26. البقرة 269. النساء: 48. الزخرف: 32. الأنعام: 83.
(3) حيث يقول: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله. الحجرات: 1.
(4) النجم: 5.
(5) النساء: 4.
الصفحة 74
تعالى لنبيه: (ليس لك من الأمر شئ(1)) فكيف يكون للرعية الجاهلة من الأمر شئ: (قل إن الأمر كله لله)(2) والإمامة من أعظم الأمور وأهمها. فإلى الله فعلها لعدم علم الخلق بمحلها، ولو جاز لهم نصب الإمام الذي هو سبب في الأحكام جاز لهم وضع الأحكام الصادرة من الإمام لأن علة السبب علة المسبب ولو كان لهم وضع الأحكام لم يكن الأمر كله لله، وقد اختار آدم أكل الشجرة فعصى وغوى، واختار موسى قومه فجاء على الأفسد اختياره، ونبينا شاور الصحابة في الأسرى فاختاروا الفداء وصوبه النبي فقال الله (ما كان لنبي أن يكون له أسرى(3)) فإذا كانت سادات الأنبياء مع علو قدرهم والمواد المتصلة من الله إليهم وقعت المفسدة في اختيارهم، فما ظنك برعيتهم.
وأيضا فإن إمام الأنام من نصبه الإمام، فلو نصبته الرعية كانت إماما للإمام ولو صح ذلك لزم خرق الاجماع المنعقد على اتحاد الإمام، ولزم الدور لأنه يكون مأمورا منهم وآمرا لهم.
إن قلت: لا دور، لأن أمرهم له بأن يقوم فيهم وأمره لهم بما فرض الله عليهم. قلت: قد ذهب جماعة من الأصوليين، إلى أن الأمر بالأمر أمر، فيعلم أن من أمر الإمام بالقيام، ومن جملة قيامه أمر الآمر بالمفروضات، لزم منه كون الآمر بنصبه آمرا لنفسه ضمنا.
قالوا: يدل على جواز الاختيار، قوله عليه السلام: (إن وليتم أبا بكر، وجدتموه قويا في دين الله ضعيفا في بدنه، وإن وليتم عمر، وجدتموه قويا في دين الله قويا في بدنه، وإن وليتم عليا، وجدتموه هاديا مهديا). قلنا: إذا سلمنا صحة الخبر، فلا يدل على صحة الاختيار، والقوة في الدين لا توجبه مع أن غيرهما أقوى
____________
(1) آل عمران: 128.
(2) آل عمران: 154.
(3) الأنفال: 67.
الصفحة 75
فيه منهما على أن ذكره لهداية علي توجب اختصاصه، لكماله في نفسه فهو مكمل لغيره، وإنما عرض بذلك لعلمه بنفورهم عن علي، لحقدهم وأهويتهم، ولما غزى بسيفه قتل أقاربهم، وإهباط منازلهم.
قال الشاعر:
إن الإمامة رب العرش ينصبها مثل النبوة لم تنقص ولم تزد
والله يختار من يرضى وليس لنا نحن اختيار كما قد قال فاقتصد
وقال البشنوي:
أنكرتموا حق الوصي جهالة ونصبتموا للأمر غير معلم
عوجتم بالجهل غير معوج وأقمتم بالغي غير مقوم
صيرتم بعد الثلاثة رابعا من كان خامس خمسة كالأنجم
وقال السوراوي:
إن رمت تشرب من رحيق الكوثر فاخلص يقينك في ولاية حيدر
وابرأ فما عند الولي(1) إلا البرا من شيخ تيم ذي عصابة حبتر
ودع الصهاكي الزنيم ونعثلا أعني ابن عفان الغوي المفتر
هم غيروا سبل الرشاد وبدلوا سنن الهداية بالشنيع المنكر
جحدوا عليا حقه وتقدموا ظلما عليه ولم يكن بمؤخر
يا من يقدم حبترا بضلاله لم لا تقدم يوم بدر وخيبر
في أي يوم قدموا لملمة فيقدمون لذاك فوق المنبر
تالله لا أرضى أقايس منهم ألفا بشسع نعيلة من قنبر
من يعبد الأصنام ليس بجائز(2) منه يقايس من له بمكسر
يا آل طه حبكم لي جنة يوم المعاد من الجحيم المسعر
____________
(1)
وابرء فما عقد الولا إلا البرا من شيخ تيم ومن عصابة حبتر. خ.
(2) بواجب خ ل.
الصفحة 76
وقال المعري:
وهي الدنيا تراها أبدا زمرا واردة إثر زمر
يا أبا السبطين لا تحفل بها(1) أعتيق سار فيها أم زفر
(الفصل الخامس)
المختار للإمامة إن وجبت عصمته فلا طريق للمختارين إليها، لأنها من البواطن، وحسن الظواهر لا يدل عليها، لما علمنا من النفاق في مواطن. وإن لم تجب، جاز اختلافهم في أفراد الناس، بحسب اختلاف الأمارات الداعية إلى التعيين وربما طال الزمان ليقع الاتفاق على الأصلح، بل ربما لا يقع الاتفاق أبدا، ولا يخفى ما في ذلك التعطيل من الفساد وإن عمل ببعض ووجب على الآخر اتباعه لزم الرجوع إلى التقليد، عن الاجتهاد.
إن قالوا: لا حاجة إلى اتفاق الكل، بل يكفي الخمسة كما سلف. قلنا:
جاز اختلاف الخمسة، ولهذا أمر عمر بقتل أهل الشورى بعد ثلاثة إذا لم يتفقوا:
على أنه لا حجة في الاقتصار على الخمسة دون ما فوقها وتحتها، بل ما فوقها أولى لكون الظن بإصابته أقوى.
إن قالوا: لم لا يجوز أن يجعل الله الاختيار إلى الأمة لعلمه أنها لا تختار إلا الأصلح. قلنا: من أين علمنا أن الله تعالى علم ذلك. لا بد له من دليل، فلا يجب علينا اتباعه حتى نعلم أن الله تعالى علم ذلك.
إن قالوا: جعل الاختيار كافي في دليل ذلك العلم. قلنا: وأين دليل أن الله جعل الاختيار، بل الكتاب والسنة على نفي الاختيار كما تلوناه من غير إنكار، و أيضا من يختار الإمام إما أن يكون أفضل منه فكيف يصح [ منه ] أن يجعل المفضول إماما على نفسه ويحكمه في أمره، والانسان ليس له أن يستخلف على نفسه كما أنه
____________
(1) لا تجهل بها، خ.
الصفحة 77
ليس له أن يحكم لنفسه. أو يكون مفضولا، فكيف يقبل حكمه بالإمامة على من هو أفضل منه وأيضا فإذا جاز أن يكون الإمام مفضولا عن غيره في العلم وغيره بدرجة جاز كونه مفضولا بدرجتين لعدم الأولوية، وبثلاث، وهكذا إلى أن ينتهي إلى جواز أن يستفتي عن رعيته في وقايع دينه وعبادته وقد لا يجد في ذلك الوقت مسددا فيستمر تعطيل الحكومات والعبادات دهرا مديدا.
وقد أضاف الله الاختيار إلى نفسه وجعله مقصورا على الأفضلين في قوله تعالى: (ولقد اخترناهم على علم على العالمين(1)) وليس اختيار الرسول والإمام خارجا من هذا المقام، لأنه بأمر الملك العلام بسرائر الأنام.
وأيضا فمختار الإمام(2) لا يملك أمر كل الأمة، فكيف يملكه لغيره. و أيضا جاز لكل فرقة من المسلمين أن يختاروا منهم إماما لكونه يشرفهم، وإن لم يجز اختلافهم، فمن يتفقون عليه يلزم منه بطلان اعتقاد من خالفه، وفي ذلك كله [ يلزم ] تكثير الأئمة الموجب للفساد، الموجب لإبطال الاختيار، وكيف جاز للحكيم مع شدة رحمته إسناد أمر الإمامة إلى خليقته مع علمه بعدم اتفاقهم وتنازعهم.
وقد أمر الله تعالى بالقتال، حتى لا تكون فتنة، وفي تفويض الأمر إليهم إثارة الفتنة.
إن قيل إنما العبرة بمدينة الرسول صلى الله عليه وآله فمتى عقدوها لشخص وجب اتباعه على سائر الأنام. قلنا: أهل المدينة ليسوا كل الأمة، ولا كل المؤمنين، ولا كل العلماء. وقول النبي: (إن المدينة لتنفي خبثها كما ننفي الكير خبث الحديد(3)) لا ينفعها ذلك لإحداث عثمان ما أحدث فيها وقتله بإجماع أكثرها واشتهار الغلول وأنواع الفسوق منها، وإن أريد جميع أهلها بحيث يدخل المعصوم فيها، كان الاعتماد على قوله لا عليهم، وإذا لم ينحصر محل الاختيار في مصر من الأمصار مع تباعد أهل
____________
(1) الدخان: 32.
(2) يعني الذي يختار الإمام.
(3) مشكاة المصابيح ص 239 والحديث متفق عليه.
الصفحة 78
الاختيار في الأطراف والأقطار، أمكن بل وجب بحسب العادات، نصب كل قوم إماما غير الآخر لعدم العلم بفعل الآخر.
وما أصدق ما قيل:
تخالف الناس حتى لا وفاق لهم إلا شجب والخلق في الشجب
فقيل تخلص نفس المرء سالمة وقال بعضهم تشركه في العطب
إن قيل: فالنص حصل منه الاختلاف الموجب للفساد. قلنا: الاختلاف بعدمه أشيع فالنص عليه أنفع، لعموم الضلال بعدمه واهتدى قوم بقدمه، ولا يلزم من مخالفة بعض بطلان نص، فإن ترك العمل بالواجب لا يبطل الواجب.
قال أبو الحسين: لم لا يكون تفويض الاختيار إلى الأمة تغليظا للمحنة و تعريضا لزيادة المثوبة، وقد كان عدم إنزال المتشابهات أقرب إلى ترك الهرج والفساد في الاعتقادات، فلم يفعل لأجل تشديد التكليفات. قلنا: ذلك معارض بنص الله على أنبيائه، فإن مخالفة الكفار فيهم، لا يمنع من إرسالهم.
(الفصل السادس)
الأمة بعد النبي إما أن تحتاج إلى الإمام، فيجب في حكمة الله نصبه، وقد فعل كما وجب فيها نصب النبي، أولا تحتاج فالاختيار عبث وتصرف بغير أمر مالك الأمر وأيضا فالإمامة إن لم تكن من الدين، فليس لأحد أن يدخل في الدين ما ليس منه، وإن كانت منه، فإن كان الله سكت عنها، كان مخلا بالواجب، وهو قبيح ونقص، وإن فعلها بطل الاختيار، وقد فعلها يوم نصب النبي عليا علما فأنزل سبحانه: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي(1)) فإن بقي بعد ذلك شئ من الدين، كان الله تعالى كاذبا، تعالى الله عن ذلك، وإن لم يبق لزم المطلوب.
____________
(1) المائدة: 6.
الصفحة 79
وأيضا، فالمختار المحبوب قد يكون شريرا والمعزول المكروه قد يكون خيرا لعدم اطلاع الأمة على البواطن. قال الله تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) (إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا(1)) على أن الأمة اجتمعت على قول أبي بكر على المنبر: (وليتكم ولست بخيركم فإن استقمت فاتبعوني وإن اعوججت فقوموني). وروى الطبرسي في احتجاجه قوله: (إن لي شيطانا يعتريني فإذا ملت فسددوني) ومن احتاج إلى الرعية فهو إلى الإمام أحوج، وانعقد الاجماع على أن الإمام لا يحتاج إلى إمام آخر، وإلا لزم الدور أو التسلسل.
قالوا: إنما قال ذلك لأجل المشورة، وقد قال الله تعالى لنبيه: (وشاورهم في الأمر(2)) قلنا: مشورة النبي، لم تكن لأجل احتياجه إلى رعيته، لأنه كامل، وبالوحي مؤيد وإنما المراد بها استمالة قلوبهم، ولهذا قال تعالى: (فإذا عزمت فتوكل على الله) ولم يقل فإذا أشاروا فافعل، ولأن في المشورة إظهار نفاق المنافقين الأجل التحرز منهم كما قال تعالى: (ولتعرفنهم في لحن القول(3).
وقد قال تعالى (يحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم(4) ونحوها كثير.
وأيضا فقوله: لست بخيركم. إن كان صدقا، فالخير أولى منه، وإن كان كذبا لم تصلح الإمامة لكاذب لعدم الوثوق به.
إن قالوا: قال ذلك تخشعا وكراهة لمدح نفسه. قلنا: النبي أولى منه بذلك، ولم يقل: أرسلت إليكم ولست بخيركم، بل قال أنا سيد ولد آدم.
إن قيل: فعلي عليه السلام في نهج البلاغة تمنع بعد قتل عثمان من الإمامة لما أتوا إليه فيها، وذلك مثل قول أبي بكر: أقيلوني. قلنا: تمنعه لعلمه بعدم
____________
(1) البقرة: 216. والنجم: 28.
(2) آل عمران: 159.
(3) القتال: 30.
(4) براءة: 57.
الصفحة 80
استقامتهم للوعة(1) التي في صدور أكثرهم، وقد علمت ما حدث من الرعية و قتالهم، بخلاف أبي بكر، فإنه لعدم قتله فيهم، أقبلوا عليه بقلوبهم، وطمعوا منه في الرخص لميل طبائعهم، وعلمهم أن عليا عليه السلام يحملهم على الجادة الوعرة، و لأن المسؤول عن أمر إذا تمنع منه [ كان ] مجريا لسائله على تكرير سؤاله، وما أحق ما قيل من الأشعار في بطلان الاختيار:
إذا كان لا يعرف الفاضلين إلا شبيههم في الفضيلة
فمن أين للأمة الاختيار لولا عقولهم المستحيلة
فإن كان إجماعهم حجة فلم ناقض الشيخ فيها دليله
وعاد إلى النص يوصي به ومن قبل خالف فيه رسوله
وقام الخليفة من بعده يسن الضلال ويهدي سبيله
ويزعم بيعته فلتة ويصدق لا صدق الله قيله
ويجعلها بعد في ستة معلقة بشروط طويله
وما كان أعرفه بالإمام ولكن تضليله عنه حيله
تذنيب:
إن قالوا: قد يعلم الفاضل من ليس بفاضل، فإن المرجوح يعلم فضل أبي حنيفة في الفقه، وسيبويه في النحو، على نفسه. قلنا: أما على نفسه فنعم وأما أنه يعلم أفضليته على غيره، فلا.
(الفصل السابع)
نصب القاضي لا يصلح بالاختيار اتفاقا فأولى أن لا تصح الإمامة العظمى به التزاما، ولو جازت الإمامة بالبيعة، جازت القضاء بالأولى، ولأن الإمام، خليفة الله وخليفة رسوله، فكيف لم يثبت إلا ببيعة الخلق له ويترك النص له وأيضا لا يجوز الاختيار قبل النظر في الكتاب الذي هو (تبيانا لكل شئ(2)) فينزعونه منه.
____________
(1) للوغر خ، واللوعة حرقة الحزن والهوى وللوغر الحقد والضغن.
(2) النحل: 9.
الصفحة 81
ولما وجدنا الأمة، اختلفت على قولين مختلفين مشهورين: فقالت فرقة:
الإمام علي بنص النبي وقالت الأخرى: الإمام أبو بكر باختيار الأمة. واجتمعت الفرقتان على عدم جواز إهمال الخليفة من الخليقة. قلنا: فهل لله خيرة اصطفاها على خلقه، قالتا نعم، لقوله تعالى: (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة(1)) قلنا: فمن خيرته فأجمعتا على المتقين، لآية: (إن أكرمكم عند الله أتقيكم(2)) قلنا: فهل له من المتقين خيرة فأجمعتا على المجاهدين لآية: (و فضل الله المجاهدين)(3) قلنا: فهل من المجاهدين خيرة؟ فأجمعتا على السابقين لآية:
(لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح(4) قلنا: فهل له خيرة من السابقين فأجمعتا على أكثرهم نكاية في أعداء دين الله، لآية: (من يعمل مثقال ذرة خيرا يره(5)) قلنا: فمن كان أكثر جهادا، أبو بكر، أم علي، فأجمعتا على علي. قلنا: فقد علمنا من الكتاب والاجماع أن عليا أفضل، فهو أحق، فتفضيل أبي بكر بعد ذلك من المحال، لأنه من أحكام الخيال، لأن العقل والتخييل يتفقان على مقدمات الدليل، فلما تظهر النتيجة ينكص الخيال عنها ويستقر العقل عليها.
وهنا اتفق الفريقان على المقدمات فلما وصلا إلى تفضيل علي، رجع المبطلون إلى خيالهم الموجب؟ لضلالهم واستمر المحقون على قضاء عقولهم المخلص من وبالهم.
وأيضا قلنا للفريقين: من المتقون؟ فأجمعا على أنهم الخاشعون قلنا: فمن الخاشعون؟ فأجمعا على أنهم العالمون لآية (إنما يخشى الله من عباده العلماء(6)) قلنا فمن العالمون؟ فأجمعا على من كان أحكم بالعدل لآية " يحكم به ذوا عدل(7) " قلنا فمن أحكم بالعدل، فأجمعا على أنه الأهدى إلى الحق لآية (أفمن يهدي
____________
(1) القصص: 68.
(2) الحجرات: 13.
(3) النساء: 94.
(4) الحديد: 10.
(5) الزلزال: 7.
(6) فاطر: 28.
(7) المائدة: 98.
الصفحة 82
إلى الحق أحق أن يتبع(1)) قلنا: فعلي هو أحق أن يتبع لأنه أهدى إلى الحق لقول النبي: (أقضاكم علي) ولرجوع المشايخ عند الخطاء والإشكال إلى أحكام علي فهو أعلم فهو أخشى فهو أتقى، فإذا دل الكتاب الذي جعله الله تبيانا لكل شئ، عليه، حرم العدول عنه إلى غيره وتحتم المصير إليه.
وأيضا فالذين كانت الصحابة تأخذ عنهم أبواب شرايعهم خمسة: علي وابن عباس وعمر وابن مسعود وزيد بن ثابت. قلنا: فإذا اجتمعوا فمن يؤمهم، فأجمعا على أقرئهم لقول النبي صلى الله عليه وآله: (يؤمكم أقرأكم) قلنا: فمن هو؟ فأجمعوا على أن الأربعة كانوا أقرأ للكتاب من عمر. قلنا: فهم أولى بالتقدم من عمر.
قلنا: فأي الأربعة أولى، فأجمعوا على القرشي، لقوله صلى الله عليه وآله (الأئمة من قريش). قلنا: فعلي من قريش وابن عباس وليس الآخران من قريش.
قلنا: فمن أولاهما، فأجمعا على الأكبر سنا والأقدم هجرة للحديث في ذلك.
قلنا: فمن هو؟ فأجمعا على علي. قلنا: فسقط الأربعة، وفي هذا كفاية لانفراد علي بالولاية إذ لا يعدل عن الكتاب والسنة وإجماع الأمة إلا من عاند الله ورسوله أو كان قاصر الهمة.
تنبيه:
الثلاثة ظالمون، لأنهم كانوا كافرين، فلا يصح اختيارهم لإمامة المسلمين بدليل (لا ينال عهدي الظالمين(2)) قالوا: الاسلام اللاحق محى أحكام الكفر السابق. قلنا: التنفير الواجب سلبه عن الإمام حاصل فيهم بعد الاسلام، ولهذا قال علي عليه السلام في نهج بلاغته مع طهارته وعصمته: لو كان الاختيار إلى الناس لاختار كل واحد منهم نفسه ولو كان الاختيار لإبراهيم عليه السلام لجعلها في الظالمين، حتى منعه الله ذلك فقال: (لا ينال عهدي الظالمين) وكل من عبد وثنا أو جبتا أو طاغوتا أو يغوث أو يعوق أو نسرا أو شمسا أو قمرا أو حجرا أو شجرا أو قد انهزم في جهاد من سبيل الله، أو كذب أو همز أو لمز أو ظلم فلا إمامة له، قال الله تعالى: (ولقد آتينا موسى
____________
(1) يونس: 35.
(2) البقرة: 124.
الصفحة 83
الكتاب، فلا تكن في مرية من لقائه، وجعلناه هدى لبني إسرائيل، وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا(1)) فالله جعلهم أئمة؟ أم هم جعلوا أنفسهم؟
أم الناس جعلوهم؟.
تذنيب:
إن قيل: لا يلزم من منع اختيار نفسه منع اختياره لغيره، كما في ولي المرأة فإن له اختيار غيره لها دون اختيار نفسه لها. قلنا: المرأة لنقصها احتاجت إلى الولي في الكفؤ لها لضعفها، بخلاف أهل الحل والعقد لكمالهم، و لأن ولي المرأة الاختياري له أن يزوجها من نفسه، إذا لم يكن محرما لها.
تكميل:
أسند الشيخ أبو جعفر القمي، إلى الرضا عليه السلام، هل يعرفون قدر الإمامة؟ الإمامة أجل قدرا وأعظم شأنا وأعلى مكانا وأوسع جانبا وأبعد غورا من أن يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالوها بآرائهم، أو يقيموا إماما باختيارهم، إن الإمامة خص الله بها إبراهيم بعد النبوة والخلة، وجعلت له مرتبة ثالثة وفضيلة شرفه بها وشاد بها ذكره، فقال: (إني جاعلك الناس إماما(2)). فقال الخليل سرورا بها: ومن ذريتي؟ قال: (لا ينال عهدي الظالمين) فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة، وصارت في الصفوة.
ثم أكرمه الله بأن جعلها في ذريته وأهل الصفوة والطهارة فقال: (ووهبنا له إسحق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا و أوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين(3) فدل صريحا كلام هذين الإمامين على عدم صلاح الإمامة لأهل الكفر والمين.
____________
ألم السجدة: 23 و 24.
(2) البقرة: 124.
(3) الأنبياء: 73.
الصفحة 84
(الفصل الثامن)
لما قلنا: لو جاز للأمة اختيار الإمام جاز لها اختيار النبي صلى الله عليه وآله قالوا:
الفرق بينهما أن النبي تتلقى منه صالح الشرع، فلا بد في ثبوت نبوته من طريق يؤمن من الخطاء والتبديل فيه والإمام كالقضاة والأمراء في الأقطار، فجاز ثباته بالاختيار. قلنا: والإمام يراد مع ذلك لصيانة الشرع عن التبديل لعصمته ويجب الانقياد إلى طاعته، فلا بد من طريق يوثق به لتثبت إمامته.
إن قيل: لم لا يكون ظن الصلاح كافيا كما في قبول الشهادات وغيرها من الفروع الشرعيات؟ قلنا: قد نهى الله عن اتباع الظن في مواضع العلم، ومسألة الإمامة علمية ويعم بها بلوى الرعية والعام إذا خص بدليل لا يخرج عن دلالته في أصله وهنا أبحاث:
البحث الأول:
لو جاز نصب الإمام بالاختيار، جاز عزله بالاختيار، والتالي باطل فالمقدم مثله.
إن قيل: لم لا يجوز التولية دون العزل، كولي المرأة يملك تزويجها ولا يملك فسخ نكاحها؟. قلنا: خص الله تعالى إزالة النكاح بالزوج، وتخصيص الأمة بالاختيار يستلزم تخصيصها بالعزل.
إن قالوا: جاز أن يجعل العزل لنفسه دونها.
قلنا: إن الله تعالى لم ينصب من يجوز منه سبب وقوع العزل، فلا تقع من الله لمن ولاه.
البحث الثاني:
لما قلنا: ليس للانسان أن يستخلف على نفسه، كما ليس له أن يحكم لنفسه قالوا: إذا اجتهد الانسان في الحادثة وعمل بها لم يكن حاكما لنفسه، بل لله و لرسوله بشرط اجتهاده فكذلك الأمر في اختياره إماما لنفسه. قلنا: حكم الله في
الصفحة 85
الحادثة قد أمر الله المكلف بإجابته بواسطة نظره في أدلته، ولم يجعل حكم الحادثة منوطا باختياره وأنتم جعلتم النصب والعزل منوطا باختياره فافترقا.
البحث الثالث:
لو وجب على الرعية نصب الإمام، فإن جاز إخلالها به لزم الفساد، وإن لم يجز، فإما لأمر صدها عن الاخلال به فيلزم التسلسل في وجه حصول ذلك الأمر. أولا لأمر، فترجيح بغير مرجح. أما على رأينا، فإذا أخلت به لم يخل الواجب تعالى به، لأنه لطف واجب، والله تعالى لا يخل بالواجب فاندفع التسلسل.
البحث الرابع:
البلاد المتباعدة، إن لزم الرعية نصب الإمام لبعضها ترجيح بلا مرجح وطلب كل بلد كون الإمام منهم فيقع الهرج، وإن لزم أهل كل بلد نصب إمام وقعت المنازعة بسبب تكثر الأئمة حيث يطلب كل واحد الرياسة العامة.
البحث الخامس:
الخطاب في قوله تعالى (السارق والسارقة، فاقطعوا) (الزانية والزاني فاجلدوا(1)) أو غيرهما، لا يتعلق بالأمة بالاجماع على أن الحدود ليست لغير الإمام أو نايبه كما نقله الخوارزمي فيتعلق بالأئمة فنصبهم من الله لتوجه الخطاب إليهم فلو كان من الرعية لتوقف الخطاب عليهم.
إن قيل: الأمر بالحد مطلق وهو يقتضي وجوب مقدماته التي منها نصب الإمام، فيجب على الرعية لتوقف الواجب عليه قلنا: الآيات دلت بذاتها على الحد، فلا يحمل على نصب الإمام الموصل إلى قيام الحد، لأنه إضمار، والأصل نفيه وأيضا فإنه لا يصح أن يجب قيام الحد على الإمام وتجب مقدمته وهي نصب الإمام على الرعية إذ لا يكون الشئ واجبا على شخص ومقدمته على آخر واستدل البصري ب (اقطعوا) و (اجلدوا) على وجوب نصب الإمام، على الرعية لتناول الأمر للمباشرة والتسبيب والمباشرة لكل فرد من الرعية غير ممكنة، ولو أمكنت
____________
(1) المائدة: 41. النور: 2.
الصفحة 86
فليس لها الاستيفاء بالاجماع، فتعين التسبيب وهو نصب الإمام وتكون النسبة إلى الرعية صادقة كما يصدق في قولنا قطع الإمام السارق والحداد هو المباشر.
قلنا: يفهم عرفا أن الإمام قاطع إذا أمر ولا يفهم أن الرعية قطعت إذا نصبت إماما فأمر بالقطع وأيضا فإن تسمية السبب قاطعا مجاز وكلما بعد بعد الحمل عليه لأن السبب البعيد لا يكاد أن يكون إلا من الأسباب الاتفاقية ولا شك أن سببية الرعية أبعد من سببية الإمام، لتوسط الإمام بين الرعية والحداد عندهم.
البحث السادس:
بدأ الله بالخليفة قبل الخليقة بقوله: (إني جاعل في الأرض خليفة(1)) والحكيم يبدأ بالأهم، فالخليفة أهم من الخليقة، فلا بد من كونه أكمل وأشرف في قوتيه العلمية والعملية، وليس كذلك إلا المعصوم، فيجب، وهذا يبطل الاختيار لأنه إنما سمي خليفة لأنه يحكم، فهو خليفة الله وهو قول ابن عباس وابن مسعود والسدي، وشاهده: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق(2).
(الفصل التاسع)
وفيه أبحاث:
1 - قالوا: لو كان المحال يدخل في الاختيار لما صحت إمامة الثلاثة بالاختيار فلما صحت في هذه الأحوال خرج الاختيار إلى حد الجايز من حد المحال.
قلنا: ومتى سلمنا أن الإمامة التي من الله هي التي حصلت للثلاثة ونحن لم نحل بالاختيار وجود الرياسة مطلقا، فإن رياسة الظلمة ربما وقعت به، إنما أحلنا به
____________
(1) البقرة: 30.
(2) ص: 26.
الصفحة 87
وجود الرياسة الدينية.
قالوا: فاختارت الأمة عليا والحسن وصح. قلنا: إمامتهما حاصلة من الله ورسوله وإنما احتاجا إلى الاختيار لتلزم الحجة به من يراه من الشاكين على أنا نقول دعوى مسيلمة وطليحة والحلاج ومعاوية ويزيد وبني مروان وغيرهم وقعت فخرجت عن حد المحال، فصحت ولم يذهب إليه رشيد.
إن قالوا: فمن سلم كونهم أنبياء في الحقيقة وأئمة على الطريقة. قلنا: و من سلم أن الثلاثة كانوا أئمة في الحقيقة.
2 - قال الأصم وهو أحد رؤساء الناصبية: لا شك أن في زمان الثلاثة قد كان من يعتقد إمامتهم على حال، وإن كان هناك من يعتقد إمامة علي وبعد الثلاثة وقع الاختلاف في إمامته فقيل: هو إمام في ذلك الوقت وقيل: لا إمام في ذلك الوقت فالاجماع الحاصل في أيام الثلاثة دليل إمامتهم، لأنه إن كان واقعا عليهم، فهو قولنا وإن كان على علي فهو محال. لأنه هو الذي اختلف فيه في الماضي وفي وقته، و محال كون المختلف فيه هو المتفق عليه.
قلنا له: ذلك مغالطة، لأن المؤمنين قائلون بإمامته في الأحوال كلها، فلا يتحقق الاجماع المدعى على عدمها وهل يصح من عاقل علم الاختلاف بالضرورة دعوى الاجماع، وما كنت أظن أن هذا يذهب على الأصم(1) مع رياسته في قومه حتى أبان الله تعالى عن جهله وضلاله.
على أنا نقول له: اجتمعت الأمة في حياة النبي على الصلاة والزكاة وغيرهما من العبادات، ثم اختلف فيها، فعلى ما أصل من كون المتفق عليه غير المختلف فيه يلزم أن تكون عبادات اليوم غير التي كانت في عهد النبي صلى الله عليه وآله. لأن المتفق عليه غير المختلف فيه على ما قال.
3 - إنا نقلب الاستدلال على الأصم، فنقول: أجمعت الأمة في هذا الزمان على أنه قد كان إماما موجودا لا محالة في أيام الثلاثة والجماعة المتفقة مختلفة الآن
____________
(1) ذهب عليه كذا: أي نسيه وخفى عليه.
الصفحة 88
فالشيعة تأبى إمامة الثلاثة وتقول بإمامة علي دونها، فلم لا يكون الإمام في عصر الثلاثة غيرهم وأنه لا إمامة دينية لهم، إذ لا يصح عنده أن يكون المتفق عليه هو المختلف فيه وفي ذلك أن الاجماع إنما حصل على إمامة غيرهم، وفيه بطلان إمامتهم لوجوب اتحاد الإمام المعلوم ذلك من دين النبي صلى الله عليه وآله.
فإن قيل: هذا يلزمكم في إمامة علي لاختلاف الأمة فيه كما اختلفت في الثلاثة. قلنا: لا، فإن إمامة علي تثبت بغير ذلك وإنما أردنا إسقاط كلامك على ما أصلت واعتمدت فلا يلزمنا ما ألزمناك على أنه يلزمك إبطال إمامة علي أيضا كما لزمك إبطال إمامة الثلاثة، بدلالة الاختلاف في أعيانهم بعد الاجتماع في الجملة على وجوب إمام، فيجب التزامك أن الاجماع إنما حصل في إمامة من لم يقع الاختلاف في إمامته، فيخرج من هذا الكلام، أن المتفق على إمامته غير معروف بعينه.
4 - نقول للأصم لو اجتمعت أنت ومجبر في بيت لا ثالث لكما، فإن الأمة تجتمع على أن في البيت ضال. فيقال لو خرجت أنت وترك المجبر وقع اختلاف الأمة فتقول المجبرة ليس في البيت أحد من أهل الضلال، وتقول المعدلة بل الضلال باق، فالاجماع كان موجودا قبل خروجك، معدوما بعده، فيلزمك أن تكون من أهل الضلال لأن الاجماع أولا كان إما على ضلالك أو ضلال المجبر، ولو كان إنما هو على ضلال المجبر، لكان المجمع عليه هو المختلف فيه، وذلك عندك محال، و إن كان الاجماع إنما هو على ضلالك فهو ما ألزمناك به، وإن كان ذلك لا يوجب عليك الضلال، فما ذكرته من إمامة القوم واضح الاضمحلال.
إن قال: إني أقدر على خروج المجبر قبلي، فيقع الاختلاف في ويحصل الضلال بالاجماع على خصمي. قلنا: أفلا تعلم في هذا أن دليلك السابق في الأمة فاسد لا يجوز الاعتماد عليه، لأنه يشهد بصحة شئ تارة وبفساده أخرى. فإنه لو لم يدل على ضلاله لو خرج قبل المجبر لم يدل على ضلال المجبر لو خرج قبله.
تذنيب:
روي أن الأول كتب إلى مسيلمة الكذاب يوبخه على فعله، فأجابه:
الصفحة 89
اجتمع الناس علي، كما اجتمعوا عليك، واختاروني كما اختاروك، فأجبت كما أجبت، فاخلع نفسك بالعراق أخلع نفسي بالحجاز.
تكميل: دخل رجل شامي على الصادق عليه السلام، محاجا، فقال عليه السلام لهشام بن الحكم: كلمه، فقال: يا شامي ربك أنظر لخلقه أم خلقه أنظر لأنفسهم؟ قال: بل هو أنظر لهم قال فما نظره لهم؟ قال: أقام لهم الحجة وأراح عنهم العلة قال: فما الحجة؟ قال: الرسول صلى الله عليه وآله. قال: فبعده؟ قال: كتابه وسنته قال: فأزالا عنا الاختلاف اليوم؟ قال: لا. قال الشامي: وإلا فمن؟ قال هذا الجالس - يعني الصادق عليه السلام - الذي يخبرنا بأخبار السماء وراثة عن أبيه وجده. قال: فكيف أعلم ذلك؟ قال: سله، فابتدأه الإمام عليه السلام وأخبره بيوم خروجه من الشام وما حدث له في طريقه فصدقه فأقر بوصيته.
(الفصل العاشر)
قالوا: لو نص على علي، لما اختلف فيه، كما لم يختلف في النص على القبلة. قلنا: ولولا نصه لما اختلف فيه كما لا يختلف في عدم النص على سلمان.
قالوا: من لم ينص النبي عليه ضربان: ضرب اختلف فيه كعلي، وضرب أجمع فيه كسلمان. قلنا: بل من نص عليه ضربان: ضرب اجمع فيه كالقبلة، وضرب اختلف فيه كعلي.
قالا: لا يصح النص عليه إلا بالاجماع واتفاق أهل المذاهب. قلنا: فلا تصح النبوة إلا باتفاق أهل المذاهب.
قالوا: ثبتت بالمعجزات، فتأولها(1) الناس بالسحر. قلنا: والإمامة ثبتت بالنص، فتأولوها(2) بالقرابة.
____________
(1) فناولها، خ.
(2) فناولوها، خ.
الصفحة 90
قالوا: لو نص عليه بالأمر لقام به. قلنا: ولو نص موسى على هارون لقام به.
قالوا: لو نص عليه مع علمه بالعجز عنه سفه. قلنا: [ ولو ] نص الله على أنبيائه مع علمه بعجزهم سفه.
قالوا: لو نص الأمر فيه لقاتل عليه. قلنا: ولو نص الله على سجود إبليس لآدم لقاتله عليه.
قالوا: ترك النص لعلمه بعصيان الأمة لئلا ترتد. قلنا: فالله أشفق منه، و قد أرسل أنبياء مع علمه قطعا بعصيان الخلق لها.
قالوا: ارتدت الأمة بمخالفة الإمام، فلو كان منصوصا عليه، وجب أن يجاهدها وإلا ارتد معها. قلنا: سكت هارون عن جهاد المرتدين فيلزم ارتداده.
قالوا: أقر علي لأبي بكر بالخلافة. قلنا: أقر يوسف لإخوته بالعبودية.
قالوا: في النص محاباة وهي مستحيلة على الرسول لتضمنها الغش لغيره. قلنا:
حابا يعقوب ليوسف وحابا الله لأنبيائه.
قالوا: إطاعة علي لأبي بكر دليل على عدم النص، إذ لا يطيع الظالم إلا ظالم. قلنا: أطاع دانيال، بخت نصر. ويوسف، العزيز: وموسى، فرعون. ولا يطيع الكافر إلا كافر.
قال: زوج عمر ابنته ولا يزوج الظالم إلا ظالم. قلنا: عرض لوط بناته على المفسدين. وزوج النبي ابنته من العاص، ولا يزوج الكافر إلا كافر.
قالوا: أخذ عطاء أبي بكر ولا يأخذ عطاء الظالم إلا ظالم. قلنا: أخذ دانيال عطاء بخت نصر ولا يأخذ عطاء الكافر إلا كافر.
قالوا: لم يبايع علي ثم بايع فأحدهما خطأ. قلنا: لم يدعي النبوة نبينا صلى الله عليه وآله ثم ادعى ولم يقاتل ثم قاتل، فأحدهما خطأ.
قالوا: لو جاز كتمان النص على بعض الأمة جاز على كلها، ولما لم يجز على كلها، لم يجز على بعضها. قلنا: لو جازت بغضة علي على بعض الأمة، جازت على كلها ولما لم تجز على كلها، لم تجز على بعضها، فلم تبغضه الخوارج والنواصب؟
الصفحة 91
قالوا: إمامته لم تثبت إلا بالمقرين بها وهم خصم قلنا فالنبوة لم تثبت إلا بالمقرين بها وهم خصم.
قالوا: فالصحابة نصار الدين، فكيف يكتمون النص مع كمالهم وشهادة النبي فيهم قلنا: فقد فروا من الزحف وباؤا بغضب من الرحمن، كما نطق به القرآن، وانهزم عثمان بأحد ثلاثة أيام.
قالوا: امتنع جماعة مع علي عن البيعة فلا معنى لعجزهم عن أهل(1) البيعة.
قلنا: سجدت الملائكة وامتنع إبليس ولا معنى لعجزهم عن إلزامه بالسجود.
قالوا: ترك علي النكير والوعظ وانتهاز حقه دليل عدم حقه قلنا: ترك آدم الوعظ ونحوه دليل عدم حقه في سجود إبليس.
قالوا: عندكم أن النبي عرفه أنه يبقى بعد الثلاثة، فلا معنى للتقية مع الأمن في ترك القتال. قلنا: وقد أعلم الله نبيه أنه يبقى ويبلغ رسالته، فلا معنى له مع الأمن لترك القتال.
قالوا: أيجوز أن نجمع على إنكار فرض حتى يلزمنا الكفر؟ قلنا: أيجوز أن نجمع على اختراع فرض حتى يلزمنا الكفر.
قالوا: أيجوز أن نجمع على إنكار فرض مع تباعد أوطاننا؟ قلنا: أيجوز أن نجمع على اختراع فرض مع تباعد أوطاننا؟
قالوا: من أين ألزمتمونا صحة ما تفردتم به دوننا؟ قلنا: ومن أين ألزمتم اليهود بصحة ما تفردتم به دونهم؟
قالوا: أيلزمنا أن ندين بما لا نعرف ولا نقله إلينا أسلافنا لدعواكم أنكم عرفتموه. قلنا: أيلزمنا ترك التدين بما عرفناه، ونقله إلينا أسلافنا لأنكم لم تعرفوه.
قالوا: إن أثبتم إمامة علي بقولكم فلا حجة فيه علينا لكم، ولا سبيل إلى إثباتها بقولنا وقولكم. قلنا: إن أثبتم نبوة محمد بقولكم فلا حجة على اليهود لكم ولا سبيل إلى إثباتها بقولهم وقولكم.
____________
(1) أخذ البيعة. ظ.
الصفحة 92
قالوا: إن عرفتم إمامة علي بنقل بعضكم، فعرفونا كم العدد المفيد للعلم و إن عرفتم بنقل جميعكم فلا تثبت إمامته حتى نلقى جميعكم. قلنا: إن عرفتم نبوة محمد صلى الله عليه وآله ببعضكم فعرفونا كم العدد المفيد للعلم؟ وإن عرفتم بنقل جميعكم، لم تثبت نبوته حتى نلقى الجميع.
قالوا: رجعتم في معرفة نصه إلى مثبتيه ولو رجعتم إلى منكريه، لعرفتم عدمه. قلنا: رجعتم في معرفة النبي إلى مثبتيه، ولو رجعتم إلى منكريه لعرفتم عدمه.
قالوا: حكم علي أبا موسى في دين الله وقد خفي عليه حقيقة أمره. قلنا:
حكم النبي سعدا في بني قريظة، فقد خفي عليه حقيقة أمره.
قالوا: حكم النبي سعدا ورضي به وبحكمه وحكم علي أبا موسى الأشعري ولم يرض بحكمه. قلنا: وحكم النبي المشايخ في دعوى الأعرابي بثمن الناقة ولم يرض بحكمهم.
قالوا: إذا كان الإمام عندكم يعلم كل علم رسول الله، إن جاز له أن يدعو:
(اللهم زدني علما) فقد طلب الأفضلية والزيادة على الرسول، وإن لم يجز له حرمتم عليه الدعاء بزيادة العلم. قلنا: إذا جاز أن يعلم الأمة كل علم الرسول إن جاز للأمة الدعاء جوزتم طلبها الأفضلية على الرسول، وإن لم يجز حرمتم عليها الدعاء بزيادة العلم.
قالوا: إذا جاز أن يكلنا الله إلى أنفسنا في معرفة العدول جاز في معرفة الإمام.
قلنا: فيجوز على هذا، أن يكلنا إلى معرفة الحدود والرسول عليه السلام.
قالوا: ولم لا يكون الله جعل للخاصة أن تولي على العامة إماما؟ قلنا:
ولم لا يكون الله جعل للخاصة أن تولي على العامة نبيا؟
قالوا: ما أنكرتم أن يسمى المنصوب من الناس خليفة الرسول، فإن الله تعالى جعل؟ ل قوما من بعد قوم نوح خلفاء ولم يستخلفهم قوم نوح. قلنا: ذلك معناه الوجود بعدهم، ولو كان هذا هو المراد بخليفة النبي، كانت اليهود والنصارى و
الصفحة 93
غيرهم خلفاء النبي.
قالوا: لم لا يجوز أن يولى المفضول على الناس لكراهة الفاضل من بعض الناس، قلنا: ولم لا يجوز عزل المنصوب لكراهة من بعض الناس على أنه معارض بالنبي.
وهذا القدر بل بعضه كاف في هذا الباب، وعليك باستخراج ما يرد لك من الجواب. فإن النقض آت على جميعه من قريب وبعيد، يسلمه من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.