وقال عليه السلام: " إن الله تعالى اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم "(3).
وقال عليه السلام: " أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم "(4) فكيف يصح مع هذه الأحاديث أن يقترف(5) أصحابه السيئات، أو يقيموا على الذنوب والكبائر الموبقات؟!
قيل له: هذه أحاديث آحاد، وهي مضطربة الطرق والإسناد، والخلل ظاهر في معانيها والفساد، وما كان بهذه الصورة لم يعارض الاجماع ولا يقابل(6) حجج الله تعالى وبيناته الواضحات(7)، مع أنه قد عارضها من الأخبار التي جاءت بالصحيح من الإسناد، ورواها الثقات
____________
(1) في ب: ثم الذي يليه.
(2) مسند أحمد 2: 228، سنن أبي داود 4: 214 / 4657، صحيح مسلم 4: 1962 / 210، وفيها: خير أمتي القرن..
(3) مسند أحمد 1: 80 و 2: 295، صحيح مسلم 4: 1941 / 161، صحيح البخاري 6:
363 / 383، سنن الدارمي 2: 313.
(4) لسان الميزان 2: 137، تفسير البحر المحيط 5: 528، أعلام الموقعين 2: 223، كنز العمال 1: 199 / 1002، كشف الخفاء ومزيل الالباس 1 / 132.
وانظر تلخيص الشافي 2: 246.
(5) في م: يعترف.
(6) في أ: يعترض الإجماعات ولا قايل، في ب: تعترض الإجماعات ولا تقابل.
(7) في أ: وموضحاته.
الصفحة 50
عند أصحاب الآثار، وأطبق على نقلها الفريقان من الشيعة والناصبة على الاتفاق، ما ضمن خلاف ما انطوت(1) عليه فأبطلها على البيان:
فمنها: ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: " لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا في حجر ضب لاتبعتموهم ". فقالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: " فمن إذن؟! "(2).
وقال صلى الله عليه وآله في مرضه الذي توفي فيه: " أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها، الآخرة(3) شر من الأولى "(4).
وقال صلى الله عليه وآله في حجة الوداع لأصحابه: " ألا وإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب، ألا لأعرفنكم ترتدون بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا إني قد شهدت وغبتم "(5).
وقال عليه السلام لأصحابه أيضا: " إنكم محشورون إلى الله تعالى يوم
____________
(1) في أ: انطق.
(2) مسند أحمد 2: 511، سنن ابن ماجة 2: 1322 / 3994، صحيح البخاري 4:
326 / 249.
(3) في ب: آخره.
(4) مسند أحمد 3: 489، مجمع الزوائد 9: 24، سنن ابن ماجة 2: 1310 / 3961.
(5) الجامع الصحيح للترمذي 4: 461 / 2159 و 486 / 2193، صحيح البخاري 7: 182 و 8: 285 / 14 و 9: 90 / 27، صحيح مسلم 3: 1305 / 29 - 31، سنن أبي داود 4:
221 / 4686 قطعة منه، مسند أحمد 1: 230، سنن النسائي 7: 127 قطعة منه، سنن الدارمي 2: 69 قطعة منه.
الصفحة 51
القيامة حفاة عراة، وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب، أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم "(1).
وقال عليه السلام " أيها الناس، بينا أنا على الحوض إذ مر بكم زمرا، فتفرق بكم الطرق، فأناديكم: ألا هلموا إلى الطريق، فيناديني مناد من ورائي: إنهم بدلوا بعدك، فأقول: ألا سحقا، ألا سحقا "(2).
وقال عليه السلام: " ما بال أقوام يقولون: إن رحم(3) رسول الله صلى الله عليه وآله لا تنفع يوم القيامة، بلى - والله - إن رحمي لموصولة في الدنيا والآخرة، وإني - أيها الناس - فرطكم على الحوض، فإذا جئتم، قال الرجل منكم:
يا رسول الله أنا فلان بن فلان، وقال الآخر: أنا فلان بن فلان، فأقول: أما النسب فقد عرفته، ولكنكم أحدثتم بعدي فارتددتم القهقري "(4).
وقال عليه السلام وقد ذكر عنده الدجال: " أنا لفتنة بعضكم أخوف مني لفتنة الدجال "(5).
____________
(1) صحيح البخاري 6: 108، صحيح مسلم 4: 2194 / 58، الجامع الصحيح للترمذي 4:
615 / 2423، سنن النسائي 4: 117.
(2) مسند أحمد 6: 297.
(3) (إن رحم) ليس في ب، ح، م.
(4) مسند أحمد 3: 18 و 62 قطعة منه.
(5) كنز العمال 14: 322 / 28812.
الصفحة 52
وقال عليه السلام " إن من أصحابي من لا يراني بعد أن يفارقني "(1).
في أحاديث من هذا الجنس يطول شرحها، وأمرها في الكتب عند أصحاب الحديث أشهر من أن يحتاج فيه إلى برهان، على أن كتاب الله عز وجل شاهد بما ذكرناه، ولو لم يأت حديث فيه لكفى في بيان ما وصفناه:
قال الله سبحانه وتعالى: { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين }(2)، فأخبر تعالى عن ردتهم بعد نبيه صلى الله عليه وآله على القطع والثبات.
وقال جل اسمه: { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب }(3) فأنذرهم الله سبحانه من الفتنة في الدين، وأعلمهم أنها تشملهم على العموم، إلا من خرج بعصمة الله من الذنوب.
وقال سبحانه وتعالى: { ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين * أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون }(4) وهذا صريح في الخبر عن
____________
(1) مسند أحمد 6: 307.
(2) سورة آل عمران 3: 144.
(3) سورة الأنفال 8: 25.
(4) سورة العنكبوت 29: 1 - 4.
الصفحة 53
فتنتهم بعد النبي صلى الله عليه وآله بالاختبار، وتمييزهم بالأعمال.
وقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه }(1) إلى آخر الآية، دليل على ما ذكرناه.
وقوله تعالى: { أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم }(2) يزيد ما شرحناه.
ولو ذهبنا إلى استقصاء ما في هذا الباب من آيات القرآن، والأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وآله، لانتشر القول فيه، وطال به الكتاب.
وفي قول أنس بن مالك -: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله المدينة، فأضاء منها كل شئ، فلما مات عليه السلام أظلم منها كل شئ، وما نفضنا عن النبي صلى الله عليه وآله الأيدي ونحن في دفنه حتى أنكرنا قلوبنا(3) - شاهد عدل على القوم بما بيناه.
مع أنا نقول لهذا السائل المتعلق بالأخبار الشواذ المتناقضة ما قدمنا حكايته، وأثبتنا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله الذين توهمت أنهم لا يقارفون الذنوب، ولا يكتسبون السيئات، هم الذين حصروا عثمان ابن عفان، وشهدوا عليه بالردة عن الإسلام، وخلعوه عن إمامة الأنام،
____________
(1) سورة المائدة 5: 54.
(2) سورة محمد صلى الله عليه وآله 47: 29.
(3) الجامع الصحيح للترمذي 5: 588 / 3618، مسند أحمد بن حنبل 3: 221 / 268، سنن ابن ماجة 1: 522 / 1631.
الصفحة 54
وسفكوا دمه على استحلال، وهم الذين نكثوا بيعة أمير المؤمنين عليه السلام بعد العهود والإيمان، وحاربوه بالبصرة، وسفكوا دماء أهل الإسلام، وهم القاسطون بالشام، ومنهم رؤساء المارقة عن الدين والإيمان، ومن قبل منع جمهورهم الزكاة حتى غزاهم إمام عدل عندكم(1)، وسبي ذراريهم، وحكم عليهم بالردة والكفر والضلال.
فإن زعمت أنهم(2) فيما قصصناه من أمرهم(3) على الصواب، فكفاك خزيا بهذا المقال، وإن حكمت عليهم أو على بعضهم(4) بالخطأ وارتكاب الآثام بطلت أحاديثك، ونقضت ما بينته(5) من الاعتلال(6).
ويقال له أيضا: وهؤلاء الصحابة الذين رويت ما رويت فيهم من الأخبار، وغرك منهم التسمية لهم بصحبة النبي صلى الله عليه وآله، وكان أكابرهم وأفاضلهم أهل بدر، الذين زعمت أن الله قطع لهم المغفرة والرضوان، هم الذي نطق القرآن بكراهتهم للجهاد، ومجادلتهم للنبي صلى الله عليه وآله في تركه، وضنهم بأنفسهم من نصره، ورغبتهم في الدنيا، وزهدهم في الثواب، فقال جل اسمه: { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون * يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى
____________
(1) (عندكم) ليس في ب، م.
(2) في أ، ح: أن جميعهم.
(3) في أ: أمورهم.
(4) (أو على بعضهم) ليس في ب، م.
(5) في أ: بنيته.
(6) في أ: الاعتدال.
الصفحة 55
الموت وهم ينظرون * وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين * ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون }(1).
ثم زجرهم الله تعالى عن شقاق نبيهم صلى الله عليه وآله، لما علم من خبث نياتهم وأمرهم بالطاعة والاخلاص، وضرب لهم فيما أنبأ به من بواطن(2) أخبارهم وسرائرهم الأمثال، وحذرهم من الفتنة بارتكابهم قبائح الأعمال، وعدد عليهم نعمه ليشكروه ويطيعوه فيما دعاهم إليه من الأعمال، وأنذرهم العقاب من الخيانة لله جلت عظمته، ولرسوله صلى الله عليه وآله، فقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون * ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون * إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون * ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون * يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون * واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب * واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم
____________
(1) سورة الأنفال 8: 5 - 8، وفي م زيادة: نفاقهم.
(2) في أ: مواطن.
الصفحة 56
تشكرون * يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون * واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم }(1).
ومن قبيل هذا ما أكده عليهم من فرض الصبر في الجهاد، وتوعدهم بالغضب على الهزيمة، لما علم من ضعف بصائرهم، فلم يلتفتوا إلى وعيده، وأسلموا نبيه صلى الله عليه وآله إلى عدوه في مقام بعد مقام.
فقال سبحانه: { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون }(2).
{ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار * ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير }(3).
هذا وقد أخبر جل اسمه عن عامة من حضر بدرا من القوم، ومحبتهم للحياة، وخوفهم من الممات، وحضورهم ذلك المكان طمعا في الغنائم والأموال، وأنهم لم يكن لهم نية في نصرة الإسلام. فقال تعالى:
{ إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة وإن الله
____________
(1) سورة الأنفال 8: 20 - 28.
(2) سورة الأنفال 8: 45.
(3) سورة الأنفال 8: 15، 16.
الصفحة 57
لسميع عليم * إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور }(1).
وقال في القوم بأعيانهم، وقد أمرهم نبيهم صلى الله عليه وآله بالخروج إلى بدر، فتثاقلوا عنه، واحتجوا عليه، ودافعوه عن الخروج معه:
{ ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا * أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة }(2) الآية.
وقال تعالى فيهم وقد كان لهم في الأسرى من الرأي:
{ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم }(3).
فأخبر سبحانه بالنص الذي لا يحتمل التأويل أنهم أرادوا الدنيا دون الآخرة، وآثروا العاجلة على الآجلة، وتعمدوا من العصيان ما لولا
____________
(1) سورة الأنفال 8: 42، 43.
(2) سورة النساء 4: 77، 78.
(3) سورة الأنفال 8: 67، 68.
الصفحة 58
سابق علم الله وكتابه، لعجل لهم العقاب.
وقال تعالى فيما قص(1) من نبأهم في يوم أحد، وهزيمتهم من المشركين، وتسليم النبي صلى الله عليه وآله:
{ إذ تصعدون ولا تلون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون }(2).
وقال جل اسمه في قصتهم بحنين، وقد ولوا الأدبار ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وآله أحد غير أمير المؤمنين عليه السلام، والعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وسبعة من بني هاشم ليس معهم غيرهم من الناس(3):
{ ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين * ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين.. }(4) يعني أمير المؤمنين عليه السلام، والصابرين معه من بني هاشم دون سائر المنهزمين.
وقال سبحانه في نكثهم عهود النبي صلى الله عليه وآله وهو حي بين أظهرهم موجود:
{ ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد
____________
(1) في أ: فيما نص به.
(2) سورة آل عمران 3: 153.
(3) إرشاد المفيد: 74، مجمع البيان 5: 28، السيرة الحلبية 3: 67، تاريخ اليعقوبي 2: 62، مع اختلاف.
(4) سورة التوبة 9: 25، 26.
الصفحة 59
الله مسؤولا }(1).
وقد سمع كل من سمع من الأخبار، ما كان يصنعه كثير منهم، والنبي صلى الله عليه وآله حي بين أظهرهم، والوحي ينزل عليه بالتوبيخ لهم والتعنيف والإيعاد، ولا يزجرهم ذلك عن أمثال ما ارتكبوه من الآثام:
فمن ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله كان يخطب على المنبر في يوم الجمعة، إذ جاءت عير لقريش قد أقبلت(2) من الشام، ومعها من يضرب بالدف ويصفر(3)، ويستعمل ما حظره الإسلام، فتركوا النبي صلى الله عليه وآله قائما على المنبر، وانفضوا عنه إلى اللهو واللعب، رغبة فيه، وزهدا في سماع موعظة النبي صلى الله وآله، وما يتلوه عليهم من القرآن.
فأنزل الله عز وجل فيهم: { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين }(4).
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله ذات يوم(5) يصلي بهم، إذ أقبل رجل
____________
(1) سورة الأحزاب 33: 15.
(2) في أ: أفلت.
(3) (ويصفر) ليس في ب، م.
(4) تأويل الآيات 2: 693 / 3، تفسير القمي 2: 367، مجمع البيان 10: 433، مسند أحمد 3: 313 و 370، صحيح البخاري 6: 267 / 393، الجامع الصحيح للترمذي 5:
414 / 3311، جامع البيان للطبري 28: 67، الدر المنثور 8: 165، والآية من سورة الجمعة 62: 11.
(5) (ذات يوم) ليس في أ.
الصفحة 60
ببصره سوء يريد المسجد للصلاة، فوقع في بئر كانت هناك فضحكوا منه واستهزؤوا به، وقطعوا الصلاة، ولم يوقروا الدين، ولا هابوا النبي صلى الله عليه وآله، فلما سلم النبي صلى الله عليه وآله، قال: " من ضحك فليعد وضوءه والصلاة "(1).
ولما تأخرت عائشة وصفوان بن المعطل(2) في غزوة بني المصطلق، أسرعوا إلى رميها بصفوان، وقذفوها بالفجور، وارتكبوا في ذلك البهتان.
وكان منهم في ليلة العقبة من التنفير لناقته صلى الله عليه وآله، والاجتهاد في رميه عنها وقتله بذلك ما كان.
ثم لم يزالوا يكذبون عليه صلى الله عليه وآله في الأخبار حتى بلغه ذلك، فقال: " كثرت الكذابة علي فما أتاكم عني من حديث فاعرضوه على القرآن "(3).
فلو لم يدل على تهاونهم بالدين، واستخفافهم بشرع نبيهم صلى الله عليه وآله، إلا أنهم كانوا قد تلقوا عنه أحكام الإسلام على الاتفاق، فلما مضى صلى الله عليه وآله من بينهم جاؤوا بجميعها على غاية الاختلاف، لكفى في ظهور حالهم ووضح به أمرهم وبان، فكيف وقد ذكرنا من ذلك طرفا
____________
(1) سنن الدارقطني 1: 161 - 172 بعدة طرق، تاريخ بغداد 9: 379، وكنز العمال 9:
331 / 26281.
(2) أنظر ترجمته في أسد الغابة 3: 26، الجرح والتعديل 4: 420 / 1844، سير أعلام النبلاء 2: 545 / 115، الإصابة 3: 250 / 8084.
(3) الاحتجاج 2: 447.
الصفحة 61
يستبصر به أهل الاعتبار، وإن عدلنا عن ذكر الأكثر إيثارا للاختصار.
فأما من كان منهم يظاهر النبي صلى الله عليه وآله بالإيمان(1)، ممن يقيم معه الصلاة، ويؤتي الزكاة، وينفق في سبيل الله، ويحضر الجهاد، ويباطنه بالكفر والعدوان(2)، فقد نطق بذكره القرآن كما نطق بذكر من ظهر منه النفاق:
قال الله تعالى { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا }(3).
وقال جل اسمه فيهم: { وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون }(4).
وقال تعالى: { وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم }(5).
وقال سبحانه: { ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم
____________
(1) في ب، م: فأما من كان منهم زمن حياة النبي صلى الله عليه وآله بظاهر الإيمان.
(2) في ب، م: وبباطنه الكفر والعدوان.
(3) سورة النساء 4: 142.
(4) سورة التوبة 9: 54.
(5) سورة التوبة 9: 101.
الصفحة 62
ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم }(1).
وقال عز وجل: { وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فأحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون }(2).
وقال فيهم وقد أحاطوا بالنبي صلى الله عليه وآله، وجعلوا مجالسهم منه عن يمينه وشماله، ليلبسوا بذلك على المؤمنين:
{ فمال الذين كفروا قبلك مهطعين * عن اليمين وعن الشمال عزين * أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم * كلا إنا خلقناهم مما يعلمون }(3).
ثم دل الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله على جماعة منهم وأمره بتألفهم، والاغضاء عمن ظاهره بالنفاق منهم، فقال: { سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون }(4).
وقال: { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين }(5).
وقال تعالى: { ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه
____________
(1) سورة محمد صلى الله عليه وآله 47: 30 (2) سورة المنافقون 63: 4.
(3) سورة المعارج 70: 36 - 39.
(4) سورة التوبة 9: 95.
(5) سورة الأعراف 7: 199.
الصفحة 63
عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم }(1).
وجعل لهم في الصدقة سهما منصوصا، وفي الغنائم جزءا مفروضا، وكان من عددناه، وتلونا فيه القرآن، وروينا في أحواله(2) الأخبار، قد كانوا من جملة الصحابة(3)، وممن شملهم اسم الصحبة، ويتحقق إلى الاعتزاء إلى النبي صلى الله عليه وآله على طبقاتهم في الخطأ والعمد والضلال والنفاق بحسب ما شرحناه، فهل يتعلق عاقل بعد هذا بذكر الصحبة، ومشاهدة النبي صلى الله عليه وآله في القطع على فعل الصواب، وهل يوجب بذلك(4) العصمة والتأييد، إلا بأنه مخذول مصدود(5) عن البيان؟!
____________
(1) سورة فصلت 41: 34، 35.
(2) في ب: أحوالهم.
(3) في أ، ح: العصابة.
(4) في ب، م زيادة: بدون.
(5) في ب،: الإمامة حاشا فإنه غني.