و من تدبير الحكيم جل و علا في خلقة الأرض أن مهب الشمال أرفع من مهب الجنوب فلم جعل الله عز و جل كذلك إلا لتنحدر المياه على وجه الأرض فتسقيها و ترويها ثم تفيض آخر ذلك إلى البحر فكما يرفع أحد جانبي السطح و يخفض الآخر لينحدر الماء عنه و لا يقوم عليه كذلك جعل مهب الشمال أرفع من مهب الجنوب لهذه العلة بعينها و لو لا ذلك لبقي الماء متحيرا على وجه الأرض فكان يمنع الناس من أعمالها و يقطع الطرق و المسالك ثم الماء لو لا كثرته و تدفقه في العيون و الأودية و الأنهار لضاق عما يحتاج إليه الناس لشربهم و شرب أنعامهم و مواشيهم و سقي زروعهم و أشجارهم و أصناف غلاتهم و شرب ما يرده من الوحوش و الطير و السباع و تتقلب فيه الحيتان و دواب الماء و فيه منافع أخر أنت بها عارف و عن عظيم موقعها غافل فإنه سوى الأمر الجليل المعروف من عظيم غنائه في إحياء جميع ما على الأرض من الحيوان و النبات يمزج الأشربة فتلذ و تطيب لشاربها و به تنظف الأبدان و الأمتعة من الدرن الذي يغشاها و به يبل التراب فيصلح للأعمال و به يكف عادية النار إذا اضطرمت و أشرف الناس على المكروه و به يستحم المتعب الكال فيجد الراحة من أوصابه إلى أشباه هذا من المآرب التي تعرف عظم موقعها في وقت الحاجة إليها فإن شككت في منفعة هذا الماء الكثير المتراكم في البحار و قلت ما الأرب فيه فعلم أنه مكتنف و مضطرب ما لا يحصى من أصناف السمك و دواب البحر و معدن اللؤلؤ و الياقوت و العنبر و أصناف شتى تستخرج من البحر و في سواحله منابت العود اليلنجوج و ضروب من الطيب و العقاقير ثم هو بعد مركب للناس و محمل لهذه التجارات التي تجلب من البلدان البعيدة كمثل ما يجلب من الصين إلى العراق و من العراق إلى الصين فإن هذه التجارات لو لم يكن لها محمل إلا على الظهر لبارت و بقيت في بلدانها و أيدي أهلها لأن أجر حملها يجاوز أثمانها فلا يتعرض أحد لحملها و كان يجتمع في ذلك أمران أحدهما فقد أشياء كثيرة تعظم الحاجة إليها و الآخر انقطاع معاش من يحملها و يتعيش بفضلها