و لو كان المولود يولد فهما عاقلا لأنكر العالم عند ولادته و لبقي حيران تائه العقل إذا رأى ما لم يعرف و ورد عليه ما لم ير مثله من اختلاف صور العالم من البهائم و الطير إلى غير ذلك مما يشاهده ساعة بعد ساعة و يوما بعد يوم و اعتبر ذلك بأن من سبي من بلد و هو عاقل يكون كالواله الحيران فلا يسرع إلى تعلم الكلام و قبول الأدب كما يسرع الذي سبي صغيرا غير عاقل ثم لو ولد عاقلا كان يجد غضاضة إذا رأى نفسه محمولا مرضعا معصبا بالخرق مسجى في المهد لأنه لا يستغني عن هذا كله لرقة بدنه و رطوبته حين يولد ثم كان لا يوجد له من الحلاوة و الوقع من القلوب ما يوجد للطفل فصار يخرج إلى الدنيا غبيا غافلا عما فيه أهله فيلقى الأشياء بذهن ضعيف و معرفة ناقصة ثم لا يزال يتزايد في المعرفة قليلا قليلا و شيئا بعد شيء و حالا بعد حال حتى يألف الأشياء و يتمرن و يستمر عليها فيخرج من حد التأمل لها و الحيرة فيها إلى التصرف و الاضطرار إلى المعاش بعقله و حيلته و إلى الاعتبار و الطاعة و السهو و الغفلة و المعصية و في هذا أيضا وجوه أخر فإنه لو كان يولد تام العقل مستقلا بنفسه لذهب موضع حلاوة تربية الأولاد و ما قدر أن يكون للوالدين في الاشتغال بالولد من المصلحة و ما يوجب التربية للآباء على الأبناء من المكافأة بالبر و العطف عليهم عند حاجتهم إلى ذلك منهم ثم كان الأولاد لا يألفون آباءهم و لا يألف الآباء أبناءهم لأن الأولاد كانوا يستغنون عن تربية الآباء و حياطتهم فيتفرقون عنهم حين يولدون فلا يعرف الرجل أباه و أمه و لا يمتنع من نكاح أمه و أخته و ذوات المحارم منه إذا كان لا يعرفهن و أقل ما في ذلك من القباحة بل هو أشنع و أعظم و أفظع و أقبح و أبشع لو خرج المولود من بطن أمه و هو يعقل أن يرى منها ما لا يحل له و لا يحسن به أن يراه أ فلا ترى كيف أقيم كل شيء من الخلقة على غاية الصواب و خلا من الخطإ دقيقه و جليله