يروي الشيخ البهائي في كشكوله أنه كان في جبل لبنان رجل من العباد، منزوياً عن الناس في غار ذلك الجبل، وكان يصوم النهار ويأتيه كل ليلة رغيف يفطر على نصفه ويتسحر بالنصف الآخر، وكان على ذلك الحال مدة طويلة لا ينزل من ذلك الجبل أصلاً، فاتفق أن انقطع عنه الرغيف ليلة من الليالي، فاشتد جوعه وقلّ هجوعه، فصلى العشاءين وبات في تلك الليلة في انتظار شيء يدفع به الجوع، فلم يتيسر له شيء، وكان في أسفل ذلك الجبل قرية سكانها نصارى.
فعندما أصبح العابد نزل إليهم واستطعم شيخاً منهم، فأعطاه رغيفين من خبز الشعير، فأخذهما وتوجه إلى الجبل، وكان في دار ذلك الشيخ كلب جرب [الجرب داء يحدث في الجلد بثوراً] مهزول، فلحق العابد ونبح عليه وتعلق بأذياله، فألقى عليه العابد رغيفاً من ذينيك الرغيفين ليشتغل به عنه، فأكل الكلب الرغيف ولحق العابد مرة أخرى، وأخذ في النباح والهرير، فألقى إليه العابد الرغيف الآخر، فأكله ولحقه تارة ثالثة، واشتد هريره [الهرير صوت الكلب دون النباح] وتشبث بذيل العابد ومزقه.
فقال العابد: سبحان الله!.. إني لم أر كلباً أقل حياء منك، إن صاحبك لم يعطني إلا رغيفين وقد أخذتهما مني، ماذا تطلب بهريرك وتمزق ثيابي؟.. فأنطق الله تعالى الكلب فقال: لست أنا قليل الحياء، إعلم أني ربيت في دار ذلك النصراني أحرس غنمه، وأحفظ داره، وأقنع بما يدفع إليَّ من خبز أو عظام، وربما نسيني فأبقى أياماً لا آكل شيئاً، بل تمضي أيام لا يجد هو لنفسه شيئاً ولا لي، ومع ذلك لم أفارق داره منذ عرفت نفسي، ولا توجهت إلى باب غيره، بل كان دأبي أنه إن حصل شيء شكرت وإلا صبرت، وأما أنت فبانقطاع الرغيف عنك ليلة واحدة، لم يكن عندك صبر ولا كان لك تحمل، حتى توجهت من باب رزّاق العباد إلى باب نصراني، وطويت كشحك [ أي أعرضت] عن الحبيب، وصالحت عدوه المريب، فقل: أينا أقل حياءً أنا أم ِأنت؟..
فلما سمع العابد ذلك ضرب بيده على رأسه وخر مغشياً عليه.