الغبن ـ بفتح الغين وسكون الباء وفتحها ـ معناه في اللغة الخديعة أمّا الفقهاء فيريدون به الشراء بأكثر من قيمة السوق أو البيع بأقل منها حين العقد والتعامل بما لا يتسامح به عادة مع جهل المشتري بالزيادة والبائع بالنقصان بحيث لو علم المتعاقد القيمة على حقيقتها لما اقدم على التعاقد ورضي به .
وبقولنا «الشراء» يدخل المشتري اذا اشترى بأكثر من القيمة و«البيع» يدخل البائع اذا باع بأقل منها .
وبقولنا «حين العقد» تخرج الزيادة والنقيصة المتجددة بعد العقد .
وبقولنا «بما لا يتسامح به عادة» يخرج البيع والشراء مع التفاوت اليسير الذي يعد غبناً لأن المعاملة لا تنفك ـ في الغالب ـ عن هذا التفاوت ولا حد لهذا اليسير في الشرع فيتعين رده إلى العرف .
وبقولنا «مع الجهل» يخرج من باع بالأقل ومن اشترى بالأكثر مع علمهما بذلك إذ قد يقدم الانسان على الشراء بأكثر من قيمة السوق لنفع يعود عليه بالخصوص كمن يشتري عقاراً مجاوراً لعقاره ويضمه إليه لترتفع قيمته اضعافاً وكذا البائع قد يقدم على البيع بالأقل ليستغل الثمن فيما هو انفع وأعود .
استخلص من هذا التعريف وكل تعريف ذكره الفقهاء للغبن لأنّه يتقوم بأمرين:
الأول: جهل المغبون بالقيمة حين العقد فمن أقدم على الزيادة أو النقيصة مع العلم بها فلا خيار له لعدم الضرر ولأن لكل انسان ان يتصرف في ماله كيف شاء ما دام عاقلاً راشداً لحديث «الناس مسلطون على أموالهم» ولقول الإمام الصادق عليه السلام : «صاحب المال أحق بماله ما دام فيه شيء من الروح يضعه حيث يشاء» .
الأمر الثاني: عدم التسامح عادة بما زاد أو نقص لأن التغابن اليسير الذي يتسامح العرف بمثله لا يخرج الشيء عن قيمته السوقية لأن القيمة الحقيقية تصعب معرفتها على الكثير من الناس .
الدليل :
قال صاحب الحدائق: 5 / 104 طبعة 1317 هـ: «لم يذكر هذا الخيار كثير من المتقدمين والقول به انما ثبت عن الشيخ واتباعه» يريد الشيخ الطوسي المعروف بشيخ الطائفة (ت 460).. ثم قال صاحب الحدائق: «والمشهور بين المتأخرين ثبوت هذا الخيار».. أمّا صاحب الجواهر فقال في كتبا المتاجر «خيار المغبون ثابت بلا خلاف».. وقال صاحب المكاسب «هذا الخيار هو المعروف بين الفقهاء ونسبه في كتاب التذكرة إلى علمائنا» .
ومهما يكن فان خيار الغبن اصبح من ضرورات مذهب الإمامية بحيث يعدون القول بنفيه بدعة في الشريعة وتتلخص الأدلة التي جاءت في كتب الفقه الجعفري مع ملاحظة الشيخ الانصاري عليها وغيره تتلخص بما يلي :
الدليل الأول: قوله تعالى: إلاّ أن تَكُونَ تِجارة عَن تَراضٍ. وبديهة أن المغبون لو علم بالتفاوت الفاحش لم يرض بالتعامل فأكل ماله ـ اذن ـ يكون أكلاً للمال بالباطل .
ويلاحظ بأن هذا لو تم لكان دليلاً على بطلان البيع من الرأس لا على صحة البيع مع ثبوت الخيار للمغبون .
الدليل الثاني: أن الغبن ضرر ولا ضرر ولا ضرار في الاسلام .
ويلاحظ بأن هذا لا يثبت الخيار حيث يمكن تدارك الضرر بطريق آخر وهو أن يرجع البائع الزيادة للمشتري ان كان المغبون هو المشتري وان يرجع المشتري بمقدار النقيصة إلى البائع ان كان المغبون هو البائع .
الدليل الثالث: قول الإمام الصادق عليه السلام : غبن المؤمن حرام وفي رواية اُخرى: لا تغبن المسترسل والمسترسل هو الذي يثق بك ويطمئن إليك .
ويلاحظ بأن هذا دليل على تحريم الخيانة لا على ثبوت الخيار للمغبون هذا إلى أن كلاً من البائع والمشتري قد يكونان جاهلين بالقيمة فلا يبقى للتحريم من موضوع.
الدليل الرابع: ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله و سلم أن من تلقى الركبان ـ وهم الذين كانوا يجلبون الطعام من بلد إلى بل ـ واشترى منهم بأقل من قيمة السوق مع جهلهم بذلك فصاحب السلعة بالخيار .
ويلاحظ بأن هذه الرواية مجهولة السند بل لم تدون في كتب الحديث المعروفة اطلاقاً لا بسند ضعيف ولا بسند صحيح ([1]) .
الدليل الخامس: قول الإمام الصادق عليه السلام غبن المسترسل سحت.
ويلاحظ بأن معنى هذا أن من أخذ مال غيره بالغش والخديعة فقد أكل حراماً واستحق العقاب ان لم يرجعه إلى صاحبه ويسترضيه اذن فلا دلالة فيه على الخيار من قريب أو بعيد.
الدليل السادس: أن المغبون انما أقدم باعتقاد أن قيمة المبيع تساوي ما دفع أو قبض من المال ومعنى هذا في واقعه أنّه قد اشترط على الطرف الآخر الذي أجرى معه المعاملة شرطاً ضمنياً أن البيع أو الشراء يبتني على أساس القيمة السوقية فإذا تبين العكس فله خيار تخلف الشرط وما من شك أن الشرط الضمني يؤثر أثر الشرط الصريح .
ويلاحظ بأن هذا يرجع إلى خيار الشرط غاية الأمر يكون الشرط على قسمين: أحدهما صريح والآخر ضمني وعلى هذا يكون خيار الغبن قسماً من خيار الشرط وليس قسماً له وفي قباله .
وبعد ان ذكر الشيخ الانصاري الأدلة وما لا حظه عليها قال: «فالعمدة في المسألة ـ أي في خيار الغبن الاجماع المحكيّ المعضّد بالشهرة المحققة». وقال السيد اليزدي معلقاً على ذلك: «وكيف كان فيكفي في اثبات هذا الخيار مجموع ما ذكره من الاجماع المحكي وخبر تلقي الركبان وقاعدة لا ضرر وخبر السحت ـ أي الدليل الرابعالمتقدم ـ وخبر غبن المسترسل» وهو الدليل الثالث .
وان شككنا في شيء فلسنا نشك في ثبوت هذا الخيار لما ذكره هذا السيد ولأنه يتفق كل الاتفاق مع مقاصد الشريعة السمحة الغراء ومبدأ العدالة ولذا اقرته الشرائع الوضعية .
لا أرش :
اذا تبين الغبن تخير المغبون بائعاً كان أو مشترياً بين رد ما غبن فيه أن امساكه وليس له أن يطالب الغبان بالارش أعني التفاوت بين قيمة السوق والثمن المسمى. كما أن الغابن اذا بذل التفاوت إلى المغبون لا يجب عليه القبول والامساك بل يبقى على خياره لأنه بعد أن ثبت بالدليل لا يسقط إلاّ برضاه وارادته .
______________________________________
[1] المعروف بين الفقهاء أن ضعف السند ينجبر ويقوى بعمل المشهور ولاحظت من طرف خفي وبعيد وأنا أبحث وانقب أن القائلين بذلك يشترطون أن يكون الضعيف موناً في أحد الكتب الاربعة: الكافي والاستبصار والتهذيب ومن لا يحضره الفقيه وانه اذا لم يوجد في أحدها فليس لعمل المشهور أي تأثير في جبر الضعيف وتقويته .
قال الشيخ الانصاري: «هل ظهور الغبن شرط شرعي لحدوث الخيار أو كاشف عقلي عن ثبوته حين العقد» .
اي أن حق المغبون في فسخ العقد: هل هو ثابت من حين العقد وفي زمن الجهل بالغبن والعلم به انما يكشف عن وجوده في السابق أو أن هذا الحق لا وجود له اطلاقاً حين العقد وانما يوجد من حين العلم بالغبن بحيث يكون هذا العلم شرطاً شرعياً لوجوده؟.
وتظهر الثمرة بين الوجهين فيما لو هلكت العين في زمن الجهل بالغبن فانها على الوجه الأول تهلك من مال الغابن لأن المفروض أن المغبون في هذي الحال له الخيار والغابن لا خيار له وقد ذهب كثير من الفقهاء على أن «التلف يكون من مال من لا خيار له».. وعلى الوجه الثاني تهلك العين من مال المغبون إذ لا خيار له في حال جهله بالغبن فتنطبق عليه قاعدة «التلف من مال من لا خيار له» .
وليس من شك أن الخيار حق وليس بحكم وان الآثار تترتب على الحق الواقعي من حيث هو بغض النظر عن العلم به.. أجل ان العلم به كاشف عن وجوده وليس شرطاً له كما أن استعمال الحق يتوقف على العلم به أيضاً ولكن استعمال الحق شيء وثبوته واقعاً شيء آخر. وعلى هذا يكون الخيار ثابتاً للمغبون من حين العقد وان كان جاهلاً بالغبن وبالتالي يكون تلف المبيع من مال الغبن الذي لا خيار له .
هل الخيار في فسخ العقد ثابت للمغبون على سبيل الفور بمعنى أن المغبون اذا اختار الفسخ فعليه أن يبادر إليه بمجرد علمه بالغبن واطلاعه عليه بحيث اذا تأخر في غير عذر ([2]) يسقط حقه في الخيار. ويصبح العقد لازماً أو أن هذا الحق ثابت على سبيل التراخي لا على الفور بحيث يجوز للمغبون أن يؤخر الفسخ إلى الوقت الذي يشاء ولا تجب المبادرة إليه حين الاطلاع على الغبن؟.
للفقهاء قولان: الأول التراخي لأن الخيار ثابت قطعاً وبالاتفاق حين الاطلاع على الغبن وفي الزمن التالي نشك هل ارتفع الخيار أو هو باقٍ كما كان فنستصحبnبقاءه .
القول الثاني: الفور ووجوب المبادرة إلى الفسخ حين الاطلاع على الغبن واذا أخره بلا عذر يسقط الخيار واكثر الفقهاء على هذا لأن التراخي يستدعي الضرر بمن تردّ عليه العين ولأن الوفاء واجب في كل حين وقد دل الدليل على عدم وجوب الوفاء به حين الاطلاع فيقتصر على هذا الحين فقط وقوفاً عند موضع اليقين ويبقى الزومن المتأخر داخلاً ومشمولاً لعموم وجوب الوفاء بالعقد .
وللشيخ الانصاري ـ هنا ـ والمعلقين على أقواله كلام طويل وغامض. ومن جملة أقوالهم ان العموم على نوعين: الأول عموم أعيان كأكرم العلماء أي كل فرد منهم. والثاني عموم ازمان كأكرم زيداً في آن فانه يشمل آنات عديدة وعبّر الفقهاء عن هذا بالعموم الزماني وعن الأول بالعموم الافرادي وقد يجتمع العمومان في صيغة واحدة مثل اوفوا بالعقود فانه عموم افرادي بالنظر إلى أنّه يعم كل فرد من افراد العقود كالبيع والاجارة والمزارعة وما إليها من العقود اللازمة وهو أيضاً عموم ازمان بالنظر إلى أن كل عقد يجب الوفاء به في كل آن وزمان .
ومعلوم أن ظهور العام هو المناط لدخول المشكوك في حكم العام سواء أكان عموم أعيان أو عموم أزمان .فاذا شككنا أن عقد المزارعة ـ مثلاً ـ خارج عن عموم أوفوا بالعقود ـ نتمسك بظهور لفظ العقود لادخاله. وكذلك اذا شككن في أن هذا العقد يجب الوفاء به في هذا الزمان الخاص أولاً نتمسك بعموم أوفوا لادخل الزمان المشكوك في حكم العام أمّا انطباقه على ما نحن فيه فظاهر لأن أوفوا معناه ـ كما اشرنا ـ اوفوا بكل عقد في كل آن ومنه عقد البيع ولكن لما دل الدليل على أن الآن الأول الذي علم فيه بالغبن لا يجب الوفاء به أخرجناه عن العموم أمّا الآن الثاني الذي يليه فإنّه نشك: هل خرج عن العموم وصار حكمه الآن الذي قبله من عدم وجوب الوفاء أو هو باقٍ تحت العموم ويجب الوفاء به وليس من شك أن العموم ظاهر فيه فنتمسك بهذا الظهور لاعطاء حكم العام لهذا الآن المشكوك .
أمّا استصحاب الخيار من الزمن الأول إلى الزمن الثاني فلا يصلح لمقاومة العموم لأنه حاكم ومقدم على الاستصحاب وهذا الكلام بطوله شرح لهذه الجملة: «خيار الغبن فوري لأدلة لزوم كل بيع في كل زمان خرج الوقت المعلوم بالدليل فيبقى الباقي والاستصحاب لا يقاوم العموم» شرح لهذه لاجملة التي قالها الفقهاء فيما قالوه في هذه المسألة.
_________________________________________
[2] والعذر هنا هو الجهل بالخيار وقيل: لا اثر للجهل لأن الخيار من الأحكام الوضعية التي لا فرق فيها بين العلم والجهل وجوابه أن الحكم الوضعي يثبت حال الجهل اذا يكن ثبوته موجباً للضر وما من شك أن لزوم العقد مع الجهل بالخيار ضرر ظاهر مع العلم بأن هذا الخيار انما شرع لنفي الضرر .
هل يثبت خيار الغبن في كل معاوضة مالية أو هو مختص بالبيع فقط ؟
لقد أثبت الفقهاء خيار الغبن في الاجارة والمزارعة والمساقاة وما إليها من المعاوضات المالية لأن الغبن منفي في الشريعة الاسلامية من حيث هو والاحكام تتبع الاسماء والاسماء تبع لمعانيها العرفية.. أجل استثنوا المعاملة التي يقصد بها التساوي والمعادلة بين العوضين بل قصد بها شيء آخر كالاحتراز من التخاصم والتشاجر وذلك مثل الصلح على اسقاط الدعوى قبل ثبوتها أو على ابراء ما في الذمة بالغاً ما بلغ وهذا بديهي لا يحتاج إلى اثبات. وقد ذكر الشيخ الانصاري قاعدة عامة نقل القول بها عن بعض الفقهاء وهي: «ان كل عقد بني على التسامح بالتفاوت لا يصدق عليه اسم الغبن وكل عقد بني على المعاوضة المتعادلة وعدم التسامح بالتفاوت يصدق اسم الغبن عليه» وأيد ذلك السيد اليزدي في حاشيته والشيخ النائيني في تقريرات الخوانساري .
يسقط هذا الخيار بالامور التالية :
1 ـ اشتراط سقوطه في متن العقد لأن الخيار حق ولكل ذي حق أن يسقط حقه وتقدمت الاشارة إلى ذلك أكثر من مرة .
وتقول: لقد سبق في شروط العوضين أن الجهل بأوصاف المبيع موجب للغرر وان الغرر مبطل للتعامل من الأساس بحكم الشرع حتى ولو اتفق المتعاملان على الالتزام به ولم يقل فقيه بصحة العقد الغرري وثبوت الخيار للمغرور.. وبديهة أن الجهل بقيمة السوق يستدعي الغرر فينبغي بطلان المعاملة من رأس مع الغبن ولا وجه للقول بصحتها مع ثبوت الخيار للمغبون .
ونجيب بأن الغرر المبطل للبيع هو الذي ينشأ في الغالب من الجهل بالأوصاف الذاتية للعين كالسمن والهزال في الحيوان والسعة والضيق في الدار بحيث يكون الجهل بالوصف جهلاً بالعين نفسها أمّا الجهل بالقيمة السوقية فلا يستدعي الجهل بالذات المبيعة ولذا صح البيع مع الجهل بالقيمة ولم يصح مع الجهل بأوصاف العين الذاتية. ولو تم ما تقول للزم بطلان البيع مع الجهل بالقيمة حتى ولو صادف التساوي وعدم الغبن تماماً كما يبطل البيع مع الجهل بأوصاف العين حتى ولو تبين أنّها ملائمة لغرض المشتري.. وبكلمة: ان الجهل بأوصاف العين شيء والجهل بقيمتها شيء آخر فان الأول يبطل المعاملة من رأس حتى كأنها لم تكن والثاني لا يبطلها بل يوجب الخيار فقط .
2 ـ أن يسقط المغبون حقه بالخيار بعد العقد سواء أكان ذلك قبل الاطلاع على الغبن أو بعده وسواء اسقطه بعوض أو بغير عوض لأن الرضا مسقط للخيار أجل استثنى الفقهاء ما لو اسقط الخيار باعتقاد أنه غير مغبون فتبين العكس أو باعتقاد أن التفاوت عشرة ـ مثلاً ـ فتبين أنه مئة واثبت ذلك بطريق من طرق الاثبات .
3 ـ اذا تصرف المغبون في العين التي غبن فيها تصرفاً تاقلاً وملزماً كالبيع والوقف فقد ذهب المشهور بشهادة صاحب المكاسب إلى أن المغبون يسقط حقه في خيار الفسخ مشترياً كان أو بائعاً .
أمّا اذا تصرف المغبون فيما غبن فيه تصرفاً غير ناقل كالدار يسكنها والدابة يركبها والشاة يحلبها فينظر: فان كان هذا التصرف قبل الاطلاع على الغبن فان لا يسقط الخيار بالاجماع وان كان بعد الاطلاع عليه سقط الخيار لأن التصرف مع العلم بالغبن انشاء فعلي لاجازة البيع والرضا به وقد سبق بيان ذلك مفصلاً في مسقطات خيار الحيوان. ونقل الشيخ الانصاري الاجماع على هذه القاعدة وهى: «أن تصرف ذي الخيار فيما انتقل إليه اجازة وفيما انتقل عنه فسخ» ومثال الفقرة الأولى أن يشتري عيناً يكون له الخيار في ردها فاذا تصرف فيها مدة الخيار كان تصرفه اسقاطاً لخياره واجازة للشراء ومثال الفقرة الثانية أن يبيع عيناً ويجعل الخيار لنفسه في ارجاعها أمداً معلوماً فاذا تصرف فيها في هذا الأمد كان تصرفه فسخاً للبيع ورد العين إلى مكه .
وتسأل: لقد بينت أن التصرف الناقل على وجه اللزوم مسقط للخيار سواء أحصل ذلك قبل الاطلاع على الغبن أو بعده ولم تبين حكم التصرف الذي يغير العين كطحن الحنطة ولا حكم التصرف الناقل على وجه الجواز دون اللزوم كالبيع بالخيار والوصية والهبة قبل لزومها فما هو الحكم في ذلك؟.
والجواب: أن المغبون اذا نقل العين عن ملكه نقلاً جائزاً قبل اطلاعه على الغبن لا يسقط حقه في الخيار لأن له والحال هذي أن يعدل عن المعاملة الجائزة ويرد العين إلى مالكها الأول .
وان تصرف بالعين تصرفاً موجباً للنقصان كالدار يهدم بعضها سقط حقه في الخيار لأن النقصان عدم او بمنزلته .
وان كان التصرف موجباً للزيادة يسيراً كالحنطة يطحنها والثوب يصبغه فلا يسقط الخيار وله المطالبة بأجرة عمله .
وان كانت الزيادة كثيرة ويعتد بها كاصلاح البستان وتحسينه فقال البعض انّه يرد العين ويصير المغبون شريكاً بنسبة زيادة القيمة.. ولا أرى وجهاً لهذه الشراكة والأولى جواز الرد مع المطالبة بأجرة العمل .
وأيضاً تسأل: هذا حكم المغبون اذا تصرف هو فيما غبن فيه فما الحكم اذا تصرف الغابن في العين الذي انتقلت إليه ثمناً وبدلاً عن المبيع هل يبقى للمغبون الحق في الفسخ أو لا؟. وإليك المثال: باع زيد داره بعقار عمرو وبعد أن تسلم زيد العقار نقله عنه نقلاً لازماً ثم تبين لعمرو أنه مغبون وان عقاره أغلى واثمن .
واتفق الفقهاء كلمة واحدة على أن تصرف المغابن بالغبن التي انتقلت إليه من المغبون لا تسقط خيار المذكور بحال اذ لا صلة بين تصرف الغابن وبين خيار المغبون وانما الصلة بين تصرف المغبون وبين حقه في الخيار .
واختلفوا فيما اذا كان الغابن قد نقل العين عن ملكه نقلاً لازماً ثم فسخ المغبون فهل للمغبون ان يسترجع العين وينتزعها ممن انتقلت إليه من الغابن أو يرجع على الغابن بالبدل ولا سلطة له على العين إلاّ إذا وجدها باقية على ملك الغابن ويأتي التحقيق في فصل أحكام الخيار إن شاء اللّه .
الشروط :
من باع شيئاً ولم يسلمه إلى المشتري ولم يقبض منه الثمن كاملاً ولم يشترط المشتري تأجيل الثمن فليس للبائع أن يعدل ويفسخ البيع بحجة أنّه لم يقبض الثمن إلاّ بعد مضي ثلاثة أيام فان جاء به المشتري في هذه المدة فهو أحق بالبيع وان مضت الثلاثة ولم يأت بالثمن تخير للبائع بين فسخ العقد وبين امضائه فان امضاه يكون الثمن ديناً في ذمة المشتري .
واذا طلب البائع بالثمن ولم يدفع المشتري فلا يسقط حق البائع في الفسخ لأن مجرد المطالبة لا تدل على الرضا بالبيع على كل حال حتى مع قبض الثمن وبهذا يتبين أن الشروط التي لا بد من توافرها لهذا الخيار أربعة :
الأوّل: ان يقع البيع على الشيء المعين الموجود في الخارج فلو باع شيئاً في الذمة ولم يقبض الثمن فلا خيار إذ المفروض عدم وجود المبيع في الخارج حين العقد وعليه فلا يتأتى القول بأن تأخير الثمن مع منع البائع عن التصرف في المثمن يستدعي الاضرار به وانه لو تلف لذهب من ماله ومن هنا قال الشيخ الانصاري: ومن تأمل في أدلة هذا الخيار وفتاوى الفقهاء يشرف على القطع باختصاصه بغير الكلي .
الثاني: أن لا يستلم المشتري المبيع برضا البائع فان استلمه برضاه فلا خيار بل يكون الثمن ديناً في ذمة المشتري حكمه حكم سائر الديون.. واذا أخذ المشتري المبيع دون اذن الحاكم ودون أن يدفع الثمن جاز للبائع انتزاعه منه واذا بذل المشتري الثمن وامتنع البائع من قبضه سقط خياره لأن هذا الخيار شرّع للارتفاق بالبائع ودفع الضرر عنه الناشىء من تأخير الثمن ومع بذله يرتفع الضرر .
الثالث: أن لا يقبض الثمن كاملاً أمّا قبض البعض فانه كالقبض على احد تعبير الفقهاء لأن الضرر لا يرتفع إلاّ بدفع الجميع وكذا لو قبض جميع الثمن فتبين أنّه مستحق للغير كلاً أو بعضاً إذ لا عبرة بالقبض الفاسد .
الرابع: ان لا يشترط المشتري تأخير الثمن فان اشترطه فلا خيار للبائع مراعاةً للشرط وكذا اذا اشترط البائع تأجيل تسليم المبيع حيث لا يجب والحال هذي على المشتري المبادرة إلى دفع الثمن إلاّ مع الشرط .
وتبتدىء الأيام الثلاثة من حين العقد لا من حين افتراق المتبايعين ويبتدىء زمن الخيار من انتهاء الثلاثة .
ولا مانع أن يجتمع هذا الخيار مع غيره من الخيارات كخيار المجلس والحيوان والغبن. وايضاً كما لو باع بأقل من قيمة السوق ولم يقبض الثمن ولم يتبين له الغبن إلاّ بعد مضي ثلاثة أيام فله والحال هذه ان يفسخ بسبب الغبن كما له أن يفسخ بسبب تأخير الثمن .
ذهب المضهور إلى وجوب المبادرة فوراً إلى هذا الخيار عند انتهاء الأيام الثلاثة تماماً كما هي الحال في خيار الغبن فلو مضت الثلاثة وتأخر البائع عن الفسخ في غير عذر يكون البيع لازماً ولا يحق له الفسخ اقتصاراً فيما خالف ادلة اللزوم على موضع اليقين أعني أقل أمد يندفع به الضرر وسبق البيان مفصلاً ومطولاً في خيار الغبن فقرة: «الخيار مصيق لا موسع» .
الدليل :
استدل الفقهاء على ثبوت هذا الخيار بدليلين :
الأول: أن الصبر طويلاً يستدعي الضرر ولا ضر ولا ضرار في الاسلام بل هو اشد من ضرر الغبن لأن البائع ممنوع من التصرف في المبيع بعد أن نقله عن ملك الغير ولأنه لو هلك يذهب من مال البائع .
الثاني: قول الإمام الصادق عليه السلام : من اشترى بيعاً فمضت ثلاثة أيام فلا بيع له .
وأيضاً سئل عن الرجل يشتري من الرجل المتاع ثم يدعه عنده فيقول: اجيئك بثمنه؟ فقال الإمام عليه السلام : ان جاء ما بينه وبين ثلاثة أيام وإلاّ فلا بيع له.
وتقول: ان الظاهر من قول الإمام عليه السلام : «فلا بيع له» هو نفي البيع وبطلانه من رأس لا صحة البيع مع ثبوت الخيار للبائع وعليه فلا مستند للقول بهذا الخيار .
ونجيب بأن قوله: «لا بيع له» ظاهر في نفي البيع للمشتري فقط لا نفي البيع من رأس لأن الضمير في «له» يعود إلى المشتري هذا إلى أن الغرض الأول من هذا البيع هو الارقام بالبائع وعدم تضرره بالتأخير وليس من شك ان الارفاق وعدم الضرر يتحقق بجعل امضاء البيع وفسخه في يد البائع بل ان بطلان البيع يتنافى مع الارفاق اذ من الجائز ان تكون مصلحة البائع في الامضاء ولو مع تأجيل الثمن ولهذا وغيره فهم الفقهاء من النفي في قول الإمام عليه السلام نفي اللزوم لا نفي الصحة .
وقد اتضح من الدليل والشروط أن هذا الخيار مختص بالبيع فقط دون سائر العقود .
يسقط هذا الخيار بأمور :
1 ـ اجمع الفقهاء ان هذا الخيار يسقط باسقاط البائع له بعد مضي الأيام الثلاثة واختلفوا اذا اسقطه بعد العقد وقبل مضي الثلاثة فمنهم من قال: لا يصح لأنه اسقاط لما لم يجب إذ المفروض ان الخيار يثبت بعد الثلاثة لا قبلها ومنهم من قال: بل يصح وهو الحق لأن السبب لثبوت هذا الخيار بعد الثلاثة هو العقد الموجود بالفعل فلا يكون اسقاطاً لما لم يجب بل لما وجب بوجود سببه .
2 ـ ان يشترط المشتري على البائع اسقاط هذا الخيار في متن العقد.. ولا مانع من ذلك ما دام ممكناً عقلاً غير منهي عنه شرعاً وأي مانع أن ينشىء الانسان ـ الآن ـ سقوط حقه الذي سيوجد حتماً بعد ثلاثة أيّام أو أقل أو أكثر مع العلم بأن السبب متحقق وموجود بالفعل وسبق في فصل «شروط العقد» أنّه لا دليل على بطلان مثل هذا التعليق .
3 ـ اذا قبض البائع الثمن من المشتري بعد الثلاثة سقط خياره لأن الأخذ منه امضاء فعلي للبيع تماماً كما لو قال شخص آخر: اشتريت منك هذا المتاع بكذا واعطاه الثمن فأخذه منه صاحب المتاع .
أمّا قول من قال: انما يكون الاخذ امضاء للبيع اذا حصل منه العلم أو الظن بالرضا وإلاّ فلا أثر للأخذ ـ أمّا هذا القول فأجاب عنه الشيخ الانصاري بقوله: الأقوى عدم اعتبار الظن الشخصي في دلالة التصرفات على الرضا كما هو الشأن في سقوط خيار الحيوان وغيره بالتصرف وسبق ذلك مفصلاً .
التحديد بالأيام الثلاثة انما هو للمبيع الذي لا يسرع إليه الفساد كالعقار والثوب والحيوان أمّا الذي يسرع إليه الفساد كالخضار والفواكه واللبن واللحم وما إليه فيثبت الخيار فيه للبائع في الزمان الذي يكون التأخير عنه ضرراً عليه لأن الغرض من هذا الخيار هو تلافي الضرر.. وقد سئل الإمام الصادق عليه السلام عن الرجل يشتري الشيء الذي يفسد من يومه ويتركه حتى يأتي بالثمن؟ قال: ان جاء فيما بينه وبين الليل وإلاّ فلا بيع له .
والانتظار إلى الليل أو يوماً كاملاً ليس بشرط في كل ما يسرع إليه الفساد وان كان ظاهر الرواية ذلك لأن من الاشياء ما يسرع إليه الفساد في نصف يوم أو دونه فينبغي ـ اذن ـ تحديد الانتظار بالوقت الذي يخشى فيه الفساد بحيث اذا تأخر عنه
فسد المبيع وتضرر البائع فينتظر ساعة فقط فيما لا ينبغي الانتظار فيه أكثر من ذلك وساعتين اذا اقتضى الأمر الصبر ساعتين وهكذا. أمّا النص الذي دل بظاهره على الانتظار إلى الليل فمنزل على ما يفسده أو ينقص من ثمنه المبيت والبقاء إلى اليوم التالي كالخضار والفواكه واللحم لأن هذه وما إليها مما يفسده المبيت هي السلعة الغالبة فيحمل النص عليها .
هذا ما قالها لفقهاء أيام زمان وقد كان ملائماً لظروفهم وعاداتهم وعلينا نحن اليوم أن نفتي بما يتفق مع أهل هذا العصر وعاداتهم اذا لم تحلل حراماً ولم تحرم حلالاً .
اذا تم البيع ولم يدفع المشتري الثمن ولا قبض المبيع ثم هلك في يد البائع فهل يهلك من مال المشتري أو من مال البائع ؟
لقد اتفق الفقهاء بشهادة صاحب الجواهر والمسالك ان المبيع اذا تلف بعد الايام الثلاثة ذهب من مال البائع واختلفوا اذا هلك في اثنائها وقبل مضيها فذهب المشهور إلى أنّه من مال البائع أيضاً وقيل: بل من مال المشتري .
وقبل أن نذكر الدليل على الحق الذي ذهب إليه المشهور نمهد بالاشارة إلى قواعد ثلاث :
القاعد الأولى: «كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه». واصل هذه القاعدة حديث نبوي مشهور .
القاعدة الثانية: واصلها حديث نبوي مشهور أيضاً وهي: «الخراج بالضمان» أي أن من له ثمرة الشيء ونتيجته فعليه ضمانه وخسارته فاستحقاق الثمرة في مقابل تحمل الخسارة .
القاعدة الثالثة: «تلف المبيع بعد قبضه من مال من لا خيار له». واصل هذه القاعدة الاجماع على ما قيل .
واذا قارنا بين القاعدة الثالثة وبين القاعدة الاولى ظهر الأول وهلة وجود التنافي بين القاعدتين اذا اردنا تطبيقهما على ما نحن فيه لأن الأولى تستدعي أن يكون تلف المبيع بعد الثلاثة من مال البائع لا من مال المشتري سواء أكان هناك خيار لاحدهما أو لهما أو لا خيار من الاساس والقاعدة الثالثة تستدعي أن يكون التلف بعد الثلاثة من مال المشتري لا من مال البائع لأنها تقول: ان تلف المبيع فهو من مال من لا خيار له سواء أكان بائعاً أو مشترياً ومعلوم أن الذي لا خيار له في مسألتنا هو المشتري أمّا البائع فله الخيار وعليه ينبغي أن يكون التلف من مال المشتري لا من مال البائع .
ولكن بالنظر والروية يرتفع هذا التنافي وذلك أن القاعدة الأولى مختصة بغير المقبوض والثالثة مختصة بالمقبوض فاين المنافاة؟ هذا إلى أن الثالثة لا تشمل جميع افراد الخيار بل هي مختصة بخيار المجلس والشرط والحيوان عند الشيخ الانصاري ويأتي الكلام والتحقيق في فصل احكام الخيار .
واذا قارنا بين القاعدة الاولى وهى كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه والقاعدة الثانية وهي الخراج بالضمان ـ بدا الأول وهلة التنافي بين القاعدتين لأن الثانية تقول: من كانت له ثمرة الشيء فعليه ضمانه سواء أكان مقبوضاً في يده أو لم يكن مقبوضاً وعلى هذا يكون تلف المبيع قبل قبض المشتري من ماله لا من مال البائع لان خراجه للمشتري لا للبائع والأولى تقول: ان تلف المبيع قبل قبضه من مال البائع لا من مال المشتري حتى ولو كان الخراج له وهذا هو التنافي بعينه .
ولكن لما كانت الاولى مختصة بالتلف قبل القبض والثانية تعم التلف قبل القبض وبعده والخاص مقدم على العام ترتفع المنافاة ولا يبقى لها من أثر وتكون نتيجة الجمع بين القاعدتين وعطف أحدهما على الأخرى هكذا: الخراج بالضمان إلاّ اذا تلف المبيع الذي خراجه المشتري وهو ما زال في يد البائع فانه تلف والحال هذي من مال البائع لا من مال المشتري .
فتحصل مما قدمنا أن المبيع اذا تلف في الأيام الثلاثة أو بعدها يكون التلف من مال البائع للقاعدة السالمة عن كل معاوض والدالة بنحو الشمول والعموم على أن كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه سواء أكان هناك خيار أو لم يكن وسواء أتلف المبيع في زمن الخيار أو قبله أو بعده وسواء أكان الخيار للبائع أو للمشتري .
ومما يدل على أن التلف من مال البائع قبل القبض ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه سئل عن رجل اشترى من آخر متاعاً واوجبه له غير أنّه ترك المتاع عنده ولم يقبضه وقال: آتيك غداً إن شاء اللّه تعالى فسرق المتاع من مال من يكون؟ قال الإمام: من مال الذي هو في بيته حتى يقبض المتاع ويخرجه من بيته .