كل فقيه تعرض لخيار العيب قال: اطلاق العقد يقتضي سلامة العين لأن الأصل في المبيع من الاعيان أن يكون سالماً من العيوب.. وما من عاقل يقدم على بذل ماله في مقام التعاقد المجرد عن القيد إلاّ بهذا القصد قال الشيخ الانصاري: «انما يترك الناس اشتراط السلامة في متن العقد اعتماداً على هذا الاصل». وقل غيره: اذا افترض أن شخصاً اشترط السلامة في متن العقد فان شرطه هذا يكون توضيحاً للمعنى الذي اقتضاه العقد لا تأسياً لمعنى جديد .
اذن اقتضاء العقد للسلامة ضابط كلي يصح الاعتماد عليه لاثبات أن الاتفاق بين المتعاقدين وقع على السليم دون المعيب اذا شككنا في ذلك ولا بينة .
الغبن وتخلف الوصف عن الموصوف والتدليس والعيب الموجب للخيار كل أولاء وما إليها لا ترد معرفتها إلى الشارع لأنها ليست من الحقائق الشرعية في شيء وانما هي موضوعات خارجية يرجع في تحديد معانيها والمفهوم إلى العرف واذا تعرض لها الشارع احياناً فانما يتعرض لها ارشاداً إلى ما عليه العرف وإذا بحثنا نحن عنها في كلماته فانما نبحث عنها طلباً لهذا الارشاد وهذه الهداية لأنه أكمل أهل العرف وأعلمهم. أمّا الرجوع إلى أقوال الفقهاء فانه لا يجدي نفعاً في معرفة معاني الاسماء بل قد يحدث الرجوع إليهم ردة فهم ويوقع في التشويش والاضطراب لأنهم أقل الناس معرفة للناس وأذواقهم وعادتهم. فعلى الفقهاء انفسهم أن يرجعوا في فهم معاني الاسماء إلى العرف ولا يرجع أحد إليهم في ذلك فانهم منذ عهد الطفولة إلى عهد الشيخوخة غارقين إلى الآذان في الكتب وحل الطلاسم وحفظ المتون والشروح والنظريات والاشكالات فمن التعليلات النحوية إلى القياسات المنطقية إلى الاحتمالات الاصولية ولا يصل أحدهم إلى الفقه ـ في الغالب ـ إلاّ وقد استحال ذهنه وعقله إلى كتلة من التوجيهات والتأويلات والتشكيك والتردد وإلاّ في قوله يحتمل ويحتمل «واذا طرأ الاحتمال بطل الاستدلال».. وهذا هو السر في توقفهم وعدم جزمهم في أكثر الفتاوي أو الكثير منها وتكرار لفظ الاحوط والأولى حتى في الرسائل واجوبة المسائل .
فالمعيار الوحيد ـ اذن ـ للعيب الموجب للخيار هو أن يرى العرف أن الزام المتملك بالعين المعيبة قهراً عنه يستدعي الحاق الضرر به ضرراً لا يتسامح بمثله عادة.. أمّا رواية الإمام الباقر أبي الإمام الصادق عليهماالسلامعن آبائه عن جده الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله و سلم أنّه قال: كل ما كان في أصل الخلقة فزاد أو نقص فهو عيب أمّا هذا الحديث الشريف وما إليه فهو ارشاد إلى المعنى العرفي في ذاك العهد وليس تحديداً للمعنى الشرعي الثابت إلى يوم القيامة. هذا إلى أن الحديث خاص في الطبيعيات ولا يشمل الاشياء الصناعية التي هي محل البلوى أكثر من غيرها بخاصة في هذا العصر.
وبالتالي فان العيب الذي يختلف باختلاف الاعيان لا ضابط له إلاّ فهم العرف الذي يختلف ايضاً باختلاف الازمان والبلدان واثبات غير هذا الضابط دونه أكثر من محال .
يشترط لثبوت هذا الخيار شرطان: الأول أن يكون العيب موجوداً في العين قبل قبضها سواء أحدث قبل العقد أو قبل القبض وبعد العقد لأن حكم العيب الحادث قبل القبض تماماً كحكم الحادث قبل العقد فاذا حدث العيب عند المتملك وبعد أن قبض العين فلا خيار.
الثاني: أن لا يقدم على التعاقد وهو علم بالعيب فاذا أقدم مع علمه هذا فلا خيار .
ومتى توافر هذان الشرطان تخير المتملك بين رد العين وبين امساكها بالارش وخيار العيب هو الوحيد من بين الخيارات التي يثبت فيه الارش .
الدليل :
ان أدلة الخيارات واحدة أو متشابهة لأن المناط فيها أو في أكثرها واحد ومن هنا استدلوا على هذا الخيار بالادلة على غيره وهي :
1 ـ ان الالزام بالمبيع المعيب ضرر ولا ضرر ولا ضرار في الاسلام.
2 ـ ان العقد يقتضي السلامة لأنه عقد معاوضة والمعاوضة مبناها على المساواة عادة وعلى هذا تكون سلامة المبيع شرطاً ضمنياً في العقد بحيث لو اشتراط الصحة في متن العقد لما افاد هذا الشرط سوى التأكيد والتوضيح كما تقدم وبديهة أن الشرط الضمني يجب الوفاء به تماماً كما يجب الوفاء بالشرط الصريح .
جاء في مفتاح الكرامة: «قال جماعة: ان اشتراط الصحة مجرد تأكيد لأن اطلاق العقد يقتضي السلامة لأن الاصل في المبيع من الاعيان السلامة من العيوب فاذا اقدم المشتري على بذل ماله في مقابل فانما بنى اقدامه على غالب ظنه المستند إلى أصل السلامة فاذا وجد عيب سابق على العقد وجب أن يتمكن من التدارك وذلك بثبوت الخيار» .
3 ـ النص ومنه قوله تعالى: وَلاَ تَأكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْباطِلِ .
وقول الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله و سلم : لا يحل مال امرىء مسلم إلاّ عن طيب نفس.. ومن غشنا ليس منا.. ولا يحل لمسلم أن يبيع سلعة من السلع وهو يعلم أن فيها عيباً قل أو كثر حتى يبين ذلك لمبتاعه ويقفه عليه وقفاً يكون علمه به كعلمه فان لم يفعل ذلك وكتمه العيب وغشه لم يزل في مقت اللّه ولعنة ملائكته .
وسبقت الاشارة إلى أن مثل هذه النصوص لا تدل على ثبوت الخيار وان أقصى ما تدل عليه أن الغش محرم تماماً كالكذب والغيبة والرياء أجل لقد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله و سلم أنّه اجاز للمشتري أن يرد عبداً من عيب وجده فيه وأيضاً أجاز لمن
اشترى شاة مصراة أن يردها مع صاع من تمر. ومعنى تصرية الشاة أن يترك الحليب في ضرعها أمداً حتى يكثر فيرغب الجاهل بحالها في الشراء بزيادة .
وروي عن الإمام عليهالسلامأنّه قال: ان خرج في السلعة عيب وعلم المشتري فالخيار إليه ان شاء رد وان شاء أخذ ورد بالقيمة أرش المعيب .
قال صاحب الحدائق: هذه الرواية هي المستند في ذلك لكلام المتقدمين وتبعهم جملة من المتأخرين .
وسئل الإمام الصادق عليهالسلامعن رجل يشترى الثوب أو المتاع فيجد فيه عيباً؟ قال: ان كان الثوب قائماً بعينه رده على صاحبه وأخذ الثمن وان كان الثوب قد قطع أو خيط أو صبغ رجع بنقصان العيب .
4 ـ الاجماع.. وما رأيت فقيهاً تردد في ثبوت هذا الاجماع حتى الشيخ الانصاري المعروف بالتشديد وكثرة التحفظ قال: «ظهور العيب في المبيع يوجب تسلط المشتري على الرد وأخذ الارش بلا خلاف». وقال صاحب الجواهر: «الخيار بين فسخ العقد وأخذ الارش عليه الاجماع المحصل والمحكي المستفيض صريحاً وظاهراً وهو الحجة».
واذا عطفنا الاجماع على النص السابق حصل لنا الاطمئنان الكافي الوافي بثبوت خيار العيب بين الرد والامساك بالارش .
معنى الارش في اللغة الدية وهذا المعنى هو الاصل لقول الفقهاء: الارش هو المال المأخوذ عوضاً عن نقص مضمون مادياً فمن اشترى شيئاً فوجده غير تام وأخذ عوض النقص الفائت فهذا العوض يسمى ارشاً .
وقد اتفق الفقهاء ـ كما قلنا ـ أن من اشترى شيئاً ووجد فيه عيباً فهو مخير بين رده إلى البائع واسترجاع الثمن وبين امساكه والمطالبة بالارش واختلفوا فيما بينهم: هل الارش على وفق الاصل بحيث يصح القول به حتى ولو لم يكن اجماع أو هو على خلاف الاصل وانما خرجنا عن الاصل لمكان الاجماع الحاكم على الاصول والقواعد ؟
وقد حاول بعض الفقهاء ان يجعل الارش على وفق الاصر بهذا التقريب: ان الوصف الفائت بمنزلة الجزء من المبيع والجزء الفائت له عوض يقابله فكذلك الوصف اذا فات.
ويلاحظ أولاً: أن الجزء شيء والوصف الشيء آخر وبتعبير الشيخ الانصاري «ان تنزيل الوصف منزلة الجزء لا دليل عليه عرفاً ولا شرعاً» .
ثانياً: ان هذا لو تم لثبت الارش في كل وصف تخلف عن المبيع حتى في خيار الرؤية ولا قائل بذلك .
والحق أن الارش على خلاف الاصل اذا أمكن رد العين ولو لا الاجماع لما صح القول به وذلك أن البائع لم يرض بانتقال العين عن ملكه إلاّ بالثمن المسمى فإلزامه قهراً عنه بما دون الثمن الذي رضى به ضرر وتحكم كما أن الزام المشتري قهراً عنه بالمعيب ضرر وتحكم.. وليس من شك أن ضرر المشتري يرتفع برد المبيع وارجاع كل شيء إلى أصله كما هو الشأن في سائر الخيارات التي اثبتوها بقاعدة لا ضرر وحكموا فيها بجواز الرد لا بأخذ الارش .
هذا إلى أن جعل خيار الارش للمشتري ليس بأولى من جعله للبائع بحيث اذا أراد المشتري الرد بالعيب ألزمه البائع بالامساك مع التعويض عليه وكما يرتفع الضرر عن المشتري اذا خيرناه بين الرد وبين الامساك بالارش يرتفع أيضاً اذا خيرنا البائع بين أن يرد الثمن ويسترجع المثمن وبين أن يدفع عوض العيب والنقص .
والناس كل الناس يرون البائع منصفاً أو محقاً اذا قال للمشتري: لا أرد عليك قرشاً واحداً من الثمن بل ادع لك الخيار بين أن تقبل المبيع على عيوبه وعلاته دون تعويض وبين أن ترده وتأخذ ما دفعته كاملاً غير منقوص .
أجل اذا تعذر رد المبيع إلى البائع جازت المطالبة بالارش إذ لا وسيلة لرفع الضرر إلاّ به ومثال ذلك أن يشتري الطعام فيأكله أو الثوب فيخيطه ثم يعلم بالعيب فهنا يمتنع الرد فيتلافى الضرر بالارش ومن هنا قال الشيخ الطوسي والسيد اليزدي بالخيار بين الرد والامساك مجاناً مع امكان الرد كسائر الخيارات واذا تعذر الرد جازت المطالبة بالارش . ولهذا القول وجه وجيه لولا الاجماع على أخذ الارش مع التمكن من الرد وبه خرجنا عن الاصل .
اذا اختار المشتري امساك المعيب بالارش فيحسب الارش هكذا: يقوم المبيع صحيحاً ثم يقوم معيباً وينظر إلى النسبة بين القيمتين ويدفع البائع للمشتري عوضاً عن الوصف الفائت مبلغاً يعادل النسبة بين قيمة الصحيح وقيمة المعيب مع صرف النظر عن القيمة السوقية للوصف الفائت فاذا كانت قيمة المبيع صحيحاً مئة وقيمته معيباً ثمانين تكون نسبة التفاوت الخمس فيرجع المشتري بخمس الثمن المسمى فإن كان هذا الثمن مساوياً للقيمة السوقية رجع عليه بعشرين وان كان أقل كما لو اشترى المبيع بخمسين رجع عليه بعشرة وان كان أكثر كما لو اشترى بمئة وخمسين رجع ثلاثين فليس المعيار لتقدير الارش القيمة الحقيقية للوصف الفائت بالغة ما بلغت وانما المعيار هو النسبة إلى الثمن المسمى لأن كلاً من المتعاقدين اقدم على التعاقد بالثمن المسمى والتزم به لا بالقيمة السوقية ومعنى هذا أن البائع قد تعهد للمشتري تعهداً ضمنياً بانه اذا تخلف وصف الصحة عوّض قيمة الفائت التي تتفق مع الثمن المسمى لا مع القيمة السوقية لأن هذه قد تحيط بالثمن المسمى أو تزيد عليه كما اذا اشترى بعشرة وكان قيمة الفائت تساوي عشرين فلو اجزنا للمشتري أن يرجع بالعشرين للزم أن يجمع بين العوض والمعوض مع زيادة عشرة .
اذا اختلف الخبراء في تقويم المبيع فقومه احدهم بعشرة صحيحاً وثمانية معيباً وقومه الآخر صحيحاً باثني عشر ديناراً ومعيباً بعشرة اخذنا النصف من كلٍ من القيمتين للصحيح والنصف من القيمتين للمعيب فتكون القيمة الصحيحة أحد عشر والمعيبة عشرة وان كان المقومون ثلاثة اخذنا الثلث أو أربعة الربع وهكذا. قال الشيخ الانصاري «هذا هو الاقوى وعليه معظم الفقهاء» لأن العمل بقول خبير دون خبير ترجيح بلا مرجح والعمل بالكل متعذر وطرح الجميع لا يحل المشكلة فتعين العمل بالبعض من كل قول .
اتفق الفقهاء كلمة واحدة بشهادة صاحب الجواهر وصاحب مفتاح الكرامة على أن من اشترى شيئين صفقة واحدة وبثمن واحد ثم وجد أحدهما صحيحاً والآخر معيباً تخير المشتري بين أن يردهما معاً أو يمسكهما معاً ويطالب بالارش بدلاً عن الوصف الفائت في العين وليس له أن يمسك الصحيح ويرد المعيب .
ولو تبين أن أحد الشيئين مملوك لغير البائع تخير المشتري أيضاً بين فسخ البيع واسترجاع الثمن وبين أن يمسك الشيء الذي يملكه البائع بقسطه من الثمن ويسمى هذا بخيار تبعيض الصفقة وبتفريق الصفقة وكذا لو كان المبيع شيئاً واحداً وظهر بعضه لغير البائع فان المشتري بالخيار بين الفسخ من الاساس وبين امساك حصة البائع .
يثبت هذا الخيار للبائع اذا ظهر العيب في الثمن تماماً كما يثبت للمشتري فمن باع بقرته بفرس غيره وبعد أن قبضها وجد فيها عيباً تخير بين رد الفرس وبين امساكه بالارش قال الشيخ الأنصاري: «لا فرق في الخيار بين الثمن والمثمن والظاهر أنّه مما لا خلاف فيه وان كان مورد الروايات ـ أي التي جائت عن أهل البيت عليهمالسلامـ ظهوره في المبيع لأن الغالب كون الثمن نقداً غالباً والمثمن متاعاً فيكثر فيه العيب بخلاف النقد»
هل تختص المطالبة بالارش بالبائع والمشتري فقط مع وجود العيب بحيث لا يثبت الارش اطلاقاً في غير البيع من العقود أو أنّه يثبت وتجوز المطالبة به لكل من تملك عيناً بعوض وثبت أنّها كانت معيبة قبل القبض سواء أكانت مهراً في عقد الزواج أو عوضاً في عقد الصلح أو عقد الاجارة ؟
وليس من شك أن الاصل يقتضي عدم جواز المطالبة بالارش وعدم الزام المملك به في جميع العقود من غير استثناء ولو خرجنا عن هذا الاصل وقلنا بالارش في عقد البيع لمكان الدليل فينبغي عدم التعدي عنه اقتصاراً على موضع اليقين أجل ان جواز الرد مع ظهور العيب ينبغي ثبوته في كل عقد دون استثناء لقاعدة لا ضرر وتخلف الشرط الضمني الذي هو بمثابة الشرط الصريح.. هذا ما تستدعيه الاصول والقواعد ولكن صاحب الجواهر قال: «ان المؤجر لو وجد عيباً في الاجرة فهو خير بين الرد والامساك بالارش بلا خلاف». وقال أيضاً: «ان المرأة لو وجدت عيباً سابقاً في المهر كان لها الرد بالعيب والرجوع إلى القيمة ولها أيضاً الامساك بالارش بلا خلاف». وعلى هذا يكون الارش ثابتاً في غير البيع .
نقل صاحب المسالك وصاحب الحدائق وصاحب مفتاح الكرامة اجماع الفقهاء على أن خيار العيب يثبت للمتملك على سبيل التراخي لا على الفور فمن علم بالعيب وعلم أيضاً أن له الحق في الخيار ومع ذلك لم يبادر إلى الفسخ أو الامساك بالارش فوراً فلا يسقط خياره بل يبقى مهما طال الامد .
وتسأل: لماذا قال الفقهاء: خيار الغبن والتأخير والرؤية على الفور لا على التراخي وخيار العيب على التراخي لا على الفور مع العلم بأن المناط واحد في الجميع وهو الذي بيناه هناك من أدلة لزوم العقد تستدعي الاقتصار على اقل ما يرتفع به الضرر ويرتفع الضرر بالفور فيجب الاقتصار عليه .
والجواب: لست أرى وجهاً للفرق إلاّ النص الخاص بخيار العيب وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله و سلم أن رجلاً اشترى عبداً وبقي عنده ما شاء اللّه ثم رده من عيب وجوده فيه . وقول الإمام الصادق عليهالسلامالمتقدم في فقره «الدليل» من هذا الفصل: «ان كان الثوب قائماً بعينه رده على صاحبه» حيث دل على ثبوت الخيار ما دامت العين قائمة سواء أطال زمن قيامها أو قصر وسواء أعلم بالعيب وحقه الخيار أو لم يعلم.
ومن لا يرى العلم بهذا الحديث وهذه الرواية يلزمه القول بالفور في خيار العيب تماماً كخيار الغبن والرؤية والتأخير والغريب أن الشيخ الانصاري قال في المكاسب: «ان القول بالفور لا يخلو من قوة» ومع ذلك لم يشر من قريب أو بعيد إلى الحديث والرواية .
ومهما يكن فنحن مع القائلين بالتراخي في هذا الخيار على شريطة أن لا يمتد التراخي إلى أمد يتضرر المملك من التأخير اذا اختار المتملك رد العين أمّا اذا اختار امساكها مع الارش فله أن يتأخر ما شاء حيث لا ضرر على المملك في ذلك.. ودليلنا على التراخي هو عمل الفقهاء بالحديث والرواية وقد ذكرنا في مقدمة الجزء الأول من هذا الكتاب أنّا نقيس ثبوت النص باعتماد الفقهاء عليه وعملهم به لا بصدق الرواة والرجال الثقاة .
اذا تم البيع واستلم المشتري العين وتصرف بها تصرفاً مغيراً أو تلفت في يده بحيث يتعذر ملاحظتها والتعرف على أنّها صحيحة أو معيبة ثم اختلف البائع والمشتري في وجود العيب في المبيع فقال المشتري: كان فيه عيب قديم وعليك الارش والتعويض وقال البائع: كلا لقد كان سليماً من كل عيب فمن هو المدعي؟ ومن هو المنكر ؟
ولا بد من النظر والتفضيل: فان علمنا بالبينة أو بالاقرار أو بالعيان أن المبيع كان معيباً عند البائع وادعى زواله قبل القبض فنستصحب بقاء العيب ويكون المدعي هو البائع يكلف بالبينة على ذهاب العيب قبل القبض ويكون المنكر هو المشتري
تلزمه اليمين .
وان علمنا أن المبيع كان سليماً من العيوب فنستصحب بقاء السلامة وعلى المشتري البينة على حدوث قبل القبض فان عجز عنها حلف البائع وردت دعوى المشتري .
وكذا يكون البائع منكراً والمشتري مدعياً ان كانت الحال السابقة مجهولة لأن الاصل سلامة المبيع حتى يثبت العكس تماماً كما يثبت بالاقرار والبينة والعيان ولو صرفنا النظر عن هذا الاصل الموضوعي لكان الاصل الحكمي كافياً وافياً لاعتبار المشتري مدعياً واعني بالاصل الحكمي ـ هنا ـ هو الذي ينفي الخيار ويثبت براءة ذمة البائع من الارش إذ الاصل عدم الخيار وبراءة الذمة . التنازع في تقدم العيب :
اذا كان العيب موجوداً بالفعل وظاهراً للعيان وقال المشتري: حدث هذا العيب عند البائع. وقال البائع: بل حدث عند المشتري فمن المدعي؟ ومن المنكر؟ ولا بد أن ينظر: فان شهدت الحال شهادة تفيد القطع والجزم بان العيب قديم ولا يمكن أن يحدث عند المشتري كمن اشترى داراً ثم تبين أنّها قائمة على غير اساسها المعتاد ان كان كذلك ترد دعوى البائع ويحكم لمشتري بحق الخيار من غير يمين .
وان شهدت الحال شهادة قطعية بأن العيب حادث وابن يومه ولا يمكن بحال أن يكون حادثاً قبل القبض كالجرح في الدابة الذي لا يزال طرياً ان كان كذلك يرد قول المشتري من غير أن يحلف البائع لأن اليمين انما نحتاج إليها مع عدم العلم بالواقع والواقع هنا معلوم فلا داعي لليمين .
وان كان من العيوب التي يمكن حدوثها عند البائع وعند المشتري أي قبل القبض وبعده فالقول قول البائع مع يمينه اذا لم يكن للمشتري بينة لأن الاصل سلامة العين من العيوب حتى يثبت العكس ولم يثبت العيب قبل القبض فيكون الاصل مع البائع وضد المشتري.
وبالايجاز ان كل من قبض عيناً فعليه ضمانها وضمان عيوبها إلاّ أن يثبت بالاقرار أو بالبينة أو بالعيان أن العيب حدث قبل القبض .
اذا اتفقا على أن العيب كان موجوداً قبل القبض ولكن ادعى البائع البراءة من العيب وانكر المشتري ذلك فالقول قول المشتري بيمينه اذا لم يكن للبائع بينة قال صاحب الجواهر: «بلا خلاف يعرف» .
وتقول: لماذا لا تجري هنا أصل عدم الخيار وبراءة ذمة البائع كما اجريته في حال الجهل والشك بوجود العيب ونتيجة العمل بهذا الاصل واجرائه يكون القول قول البائع لا قول المشتري .
والجواب: المفروض أنّا نعلم بأن العيب كان قبل القبض ويقتضي هذا العلم أن يكون الخيار للمشتري حتى يثبت العكس أي حتى يقيم البائع البينة على ثبوت دعواه وبديهة أن العلم بوجود العيب قبل القبض ينفي موضوع أصل براءة الذمة وأصل عدم الخيار لأن الاصول كل الاصول انما تجري في المجهول لا في المعلوم .
1 ـ لا خيار اطلاقاً لمن علم بالعيب قبل التعاقد قال صاحب الجواهر: «بلا خلاف لأنه اقدام معه رضا» .
2 ـ أيضاً لا خيار في الرد ولا في الارش اذا حدث العيب بعد العقد ثم زال كلية قبل القبض أو حديث بعد القبض لأنه حدث في ملك المتملك إلاّ إذا كان المبيع حيواناً وحدث العيب في الأيام الثلاثة .
واذا حدث عيب بعد القبض ثم تبين أن في العيب عيباً سابقاً على القبض ثبت الارش دون الرد لأن العيب الحادث عند المتملك يمنع من رد العين الى المملك فينحصر تلافي الضرر بالارش .
3 ـ يسقط خيار العيب بكلا شقية الرد والارش باسقاطه بعد العقد وباشتراط سقوطه في متن العقد ومنه البراءة من جميع العيوب ويجوز أن يشترط سقوط الرد فقط دون الارش .
4 ـ اذا تصرف تصرفاً دالاً على الرضا والالتزام بالعقد يسقط الرد فقط دون الارش سواء أكان التصرف قبل العلم بالعيب أو بعده وتدل عليه الرواية المتقدمة في فقرة «الدليل» حيث جاء فيها: «ان كان الثوب قائماً بعينه رده على صاحبه وأخذ الثمن
وان كان الثوب قد قطع أو خيط أو صبغ رجع بنقصان العيب». فان الإمام قد ترك التفصيل بين حال العلم بالعيب وبين حال الجهل وما من شك أن ترك التفصيل دليل على العموم والشمول .
وقال الإمام الباقر أبو جفر الصادق عليهماالسلام: «ايما رجل اشترى شيئاً وبه عيب وعوار ولم يتبرأ إليه ولم ينبه واحدث فيه حدثاً بعد ما قبضه وعلم بذلك العوار وبذلك العيب فانه يمضي عليه العيب ويرد عليه بقدر ما ينقص». أي يأخذ الارش ولا يرد المبيع. وقول الإمام عليهالسلام«احدث حدثاً وعلم بالعوار والعيب» ظاهر في أن التصرف كان قبل العلم بالعيب ومع ذلك سقط خيار الرد وبالاولى أن يسقط الرد اذا كان التصرف بعد العلم بالعيب .
ومن التصرفات المانعة من الرد دون الارش وقف العين وتأجيرها وهبتها وبيعها حتى ولو كان مع الخيار لأن ذلك كله من التصرفات الدالة على الرضا بالبيع ولكن الرضا به لا يدل على اسقاط الارش لأن الرضا بالبيع أعم من الرضا به مع الارش والرضا به من غير أرش وبديهة أن العام لا يثبت به الخاص .
ولو رجعت العين إلى من كان قد تملكها ثم اخرجها عن ملكه لا يجوز له أن يردها بالعيب استصحاباً للحال السابقة قال الشيخ الانصاري: «لو عاد الملك إلى المشتري لم يجز رده للاصل» يريد بالاصل الاستصحاب وتقريره أن المشتري سقط خياره بالرد قطعاً بعد أن خرجت العين عن ملكه ولما عادت إليه نشك: هل له خيار الرد أو لا؟ فنبقي ما كان على ما كان .
5 ـ التلف ولو بآفة سماوية يمنع من الرد لفوات موضوعه ولكن حق المطالبة بالارش باقٍ كما كان لعدم المانع منه .
ذكر محمد بن مكي المعروف بالشهيد الأول في كتاب اللمعة الدمشقية أربعة عشر قسماً للخيار وهي خيار المجلس والحيوان والشرط والتأخير وما يفسد ليومه والرؤية والغبن والعيب والتدليس والاشتراط والشركة وتعذر التسليم وتبعيض الصفقة والتفليس.
ومن هذه الخيارات ما يتداخل بعضها في بعض ومنها ما يدخل في باب آخر من أبواب الفقه فما يفسد ليومه ذكرناه في خيار التأخير لأنه قسم منه وخيار الاشتراط أن تخلف الشرط ذكرناه في فصل الشروط أمّا خيار التدليس فيدخل في خيار العيب وخيار تبعيض الصفقة خصصنا له فقرة في خيار العيب ومنه خيار الشركة وهو اذا اشترى شيئاً وظهر بعضه مستحقاً للغير أمّا التسليم فان استحال كما لو هلك المبيع قبل قبضه بطل البيع من رأس ويأتي البيان عنه في فصل القبض وان لم يهلك المبيع قبل القبض ولكن تعذر التسليم كالجمل الشارد الذي يظن عودته وامكان قبضه في المستقبل يدخل في خيار تخلف الشرط الضمني لأن الطلاق العقد يقتضي تسليم كل من المثمن والثمن أو يدخل في خيار العيب وأمّا خيار التفليس وهو اذا وجد غريم المفلس متاعه قائماً بعينه عند التحجير يتخير صاحبه بين اخذه مقدماً على الغرماء وبين الضرب معهم بثمنه أمّا هذا فيأتي الكلام عنه في باب التحجير على المفلس .