سورة النّبأ
و تسمّى سورة المعصرات، [و منهم من يقول: سورة التّساؤل.
مكّيّة] .
و آيها أربعون، أو إحدى وأربعون آية.
بسم الله الرحمن الرحيم
في كتاب ثواب الأعمال ، بإسناده: عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: من قرأ عَمَّ يَتَساءَلُونَ لم تخرج سنته إذا كان يدمنها في كلّ يوم حتّى يزور بيت اللّه الحرام.
و في مجمع البيان : أبيّ بن كعب، عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- قال: من قرأ عَمَّ يَتَساءَلُونَ سقاه اللّه برد الشّراب يوم القيامة.
و في كتاب الخصال : عن عكرمة، عن ابن عبّاس قال: قال أبو بكر: يا رسول اللّه، أسرع إليك الشيب! قال: شيّبتني هود والواقعة والمرسلات وعمّ يتساءلون.
عَمَّ يَتَساءَلُونَ . [أصله: عن ما حذف الألف لما مرّ. ومعنى هذا الاستفهام: تفخيم شأن ما يتساءلون عنه، كأنّه لفخامته خفي جنسه فيسأل عنه.
قيل : والضّمير لأهل مكّة كانوا يتساءلون] عن البعث فيما بينهم، أو يسألون الرّسول والمؤمنين عنه استهزاء، كقولهم: يتداعونهم، ويتراءونهم، أي: يدعونهم ويرونهم. أو للنّاس.
عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ : بيان لشأن المفخّم. أو صلة «يتساءلون» و«عمّ» متعلّق بمضمر يفسر به، ويدلّ عليه قراءة يعقوب: «عمه» .
و في كتاب الخصال : الحسين بن محمّد، عن معلّى بن محمّد، عن محمّد بن أو رمة ومحمّد بن عبد اللّه، عن عليّ بن حسّان، عن عبد اللّه بن كثير، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في قوله- تعالى-: عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ قال: النَّبَإِ الْعَظِيمِ الولاية.
محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد، عن محمّد بن أبي عمير أو غيره، عن محمّد بن الفضيل، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: قلت له: جعلت فداك، إنّ الشّيعة يسألونك عن تفسير هذه الآية: عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ.
قال: ذلك إليّ، إن شئت أخبرتهم، وإن شئت لم أخبرهم.
ثمّ قال: لكنّي أخبرك بتفسيرها. [قلت: «عمّ يتساءلون». قال:] فقال:
هي في أمير المؤمنين- عليه السّلام-. [كان أمير المؤمنين- عليه السّلام-] يقول: ما للّه آية هي أكبر منّي، ولا للّه من نبأ أعظم منّي.
و في روضة الكافي : خطبة لأمير المؤمنين- عليه السّلام- وهي خطبة الوسيلة، قال فيها: وإنّي النّبأ العظيم.و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن الحسين بن خالد، عن أبي الحسن الرّضا- عليه السّلام- في قوله- تعالى-: عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ قال: قال أمير المؤمنين- عليه السّلام-: ما للّه نبأ أعظم منّي، وما للّه آية أكبر منّي، ولقد عرض فضلي على الأمم الماضية على اختلاف ألسنتها فلم تقرّ بفضلي.
و في عيون الأخبار ، بإسناده إلى ياسر الخادم: عن الرّضا، عن أبيه، عن آبائه، عن الحسين بن عليّ- عليهم السّلام- قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- لعليّ: يا عليّ، أنت حجّة اللّه وأنت باب اللّه، وأنت الطريق إلى اللّه، وأنت النّبأ العظيم.
(الحديث)
الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ : بجزم النّفي والشّكّ فيه، أو بالإقرار والإنكار.
و في تهذيب الأحكام ، في الدّعاء بعد صلاة الغدير المسند إلى الصّادق- عليه السّلام-: شهدنا بمنّك ولطفك بأنّك أنت اللّه لا إله إلّا أنت ربّنا، ومحمّد عبدك ورسولك نبيّنا، وعليّ أمير المؤمنين والحجّة العظمى وآيتك الكبرى والنّبأ العظيم الّذي هم فيه مختلفون.
و في أمالي شيخ الطّائفة ، بإسناده إلى ابن عبّاس قال: كنّا جلسوا مع النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- إذ هبط عليه الأمين جبرئيل ومعه جام من البلّور الأحمر مملوء مسكا وعنبرا، وكان إلى جنب رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- عليّ بن أبي طالب وولداه الحسن والحسين- عليهما السّلام-.
... إلى قوله: فلمّا صارت الجام في كفّ الحسن قالت : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ. (الحديث)
و في شرح الآيات الباهرة : قال محمّد بن العبّاس- رحمه اللّه-: حدّثنا أحمد بن هوذة، عن إبراهيم بن إسحاق، عن عبد اللّه بن حمّاد، عن أبان بن تغلب قال: سالت أباعبد اللّه- عليه السّلام- عن قول اللّه: عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ.
فقال: هو عليّ- عليه السّلام-، لأنّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- ليس فيه خلاف.
كَلَّا سَيَعْلَمُونَ : ردع عن التّساؤل، ووعيد عليه.
ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ : تكرير للمبالغة، و«ثمّ» للإشعار بأنّ الوعيد الثّاني أشدّ.
و قيل : الأوّل عند النّزع، والثّاني في القيامة. أو الأوّل للبعث، والثّاني للجزاء.
و عن ابن عامر : «ستعلمون» بالتّاء، على تقدير: قل لهم: ستعلمون.
و في شرح الآيات الباهرة: وذكر صاحب «كتاب النّخب» حديثا مسندا، عن محمّد بن مؤمن الشّيرازيّ، بإسناده إلى السّديّ في تفسير: عَمَّ يَتَساءَلُونَ قال: أقبل صخر بن حرب حتّى جلس إلى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فقال: يا محمّد، هذا الأمر بعدك [لنا، أم] لمن؟
قال: يا صخر، الأمر من بعدي لمن هو منّي بمنزلة هارون من موسى. فأنزل اللّه:
عَمَّ يَتَساءَلُونَ- إلى قوله-: مُخْتَلِفُونَ، يعني: أهل مكّة يتساءلون [عن خلافة] عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام- النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ منهم المصدّق بولايته وخلافته، ومنهم المكذّب بهما.
ثمّ قال: كَلَّا سَيَعْلَمُونَ بعدك أنّ ولايته حقّ.
ثمّ قال توكيدا: ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ أنّ ولايته حقّ إذا سئلوا عنها في قبورهم، فلا يبقى ميّت في مشرق ولا في مغرب، ولا برّ ولا بحر إلّا ومنكر ونكير يسألانه عن ولايته أمير المؤمنين- عليه السّلام- بعد الموت، يقولان للميّت: من ربّك، وما دينك، ومن نبيّك،و من إمامك؟
و ذكر- أيضا- حديثا ، بإسناده إلى علقمة أنّه قال: خرج يوم صفّين رجل من عسكر الشّام وعليه سلاح وفوقه مصحف، وهو يقرأ: عَمَّ يَتَساءَلُونَ فأردت البراز إليه.
فقال لي عليّ- عليه السّلام-: مكانك. وخرج بنفسه فقال له: أتعرف النّبأ العظيم الّذي هم فيه مختلفون؟
قال: لا.
فقال عليّ: أنا، واللّه، النّبأ العظيم الّذي فيّ اختلفتم، وعلى ولايتي تنازعتم، ومن ولايتي رجعتم بعد ما قبلتم، وببغيكم هلكتم بعد ما بسيفي نجوتم، ويوم الغدير قد علمتم، ويوم القيامة تعلمون ما عملتم. ثمّ علاه بسيفه فرمى برأسه ويده.
و في رواية الأصبغ بن نباته ، أنّ عليّا- عليه السّلام- قال: أنا، واللّه النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ، كَلَّا سَيَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ حين أقف بين الجنّة والنّار وأقول: هذا لي وهذا لك.
أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً :
تذكير ببعض ما عاينوا من عجائب صنعه، الدّالّة على كمال قدرته، ليستدلّوا بذلك على صحّة البعث، كما مرّ تقريره مرارا.
و قرئ : «مهدا»، أي: أنّها لهم كالمهد للصّبيّ. مصدر، سمّي به ما يمهّد لينوّم عليه.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قال: يمهّد فيها الإنسان [مهدا] .
وَ الْجِبالَ أَوْتاداً، أي : أوتاد الأرض.
و في نهج البلاغة : قال- عليه السّلام-: وتّد بالصّخور ميدان أرضه.
وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً : ذكرا وأنثى.
وَ جَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً : قطعا عن الإحساس والحركة، استراحة للقوىالحيوانيّة، وإزاحة لكلالها. أو موتا، لأنّه أحد التّوفّيين ، ومنه: المسبوت، للميت، وأصله: القطع- أيضا-.
وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً : غطاء يستتر بظلمته من أراد الاختفاء.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً قال: يلبس على النّهار.
وَ جَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً : وقت معاش، تتقلّبون فيه لتحصيل ما تعيشون به. أو حياة تنبعثون فيها عن نومكم.
و في كتاب علل الشّرائع ، بإسناده إلى عبد اللّه بن يزيد بن سلام، أنّه سأل رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فقال: أخبرني لم سمّي اللّيل ليلا؟
قال: لأنّه يلايل الرّجل من النّساء ، جعله اللّه ألفة ولباسا، وذلك قوله- تعالى-: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً.
قال: صدقت، يا محمّد.
و الحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة.
وَ بَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً : سبع سماوات أقوياء محكمات، لا يؤثّر فيها مرور الدّهور.
وَ جَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً : متلألئا وقّادا، من وهجت النّار: إذا أضاءت. أو بالغا في الحرارة، من الوهج، وهو الحرّ، والمراد: الشّمس.
وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ: من السّحائب إذا أعصرت، أي: شارفت أن تعصرها الرّياح فتمطر، كقولك: أحصد الزّرع: إذا حان له أن يحصد، ومنه: أعصرت الجارية: إذا دنت أن تحيض.
أو من الرّياح الّتي حان لها أن تعصر السّحاب ، أو الرّياح ذوات الأعاصير .
و إنّما جعلت مبدأ للإنزال لأنّها تنشئ السّحاب وتدرّ أخلافه، ويؤيّده أنّه قرئ : «بالمعصرات».ماءً ثَجَّاجاً : منصبّا بكثرة. يقال: ثجّه ، وثجّ بنفسه.
و في الحديث : أفضل الحجّ العجّ.
و الثّجّ، أي: رفع الصّوت بالتّلبية، وصبّ دماء الهدي.
و قرئ : «ثجاجا».
و مثاجج الماء: مصابّه.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قوله: وَهَّاجاً قال: الشّمس المضيئة.
و أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ قال: من السّحاب .
ماءً ثَجَّاجاً قال: صبّا على صبّ.
و فيه : وقال أبو عبد اللّه- عليه السّلام-: قرأ رجل على عليّ: ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ .
فقال: ويحك، أيّ شيء يعصرون؟ [أ يعصرون] الخمر؟! قال الرّجل: يا أمير المؤمنين، كيف أقرأها؟
فقال: إنّما نزلت: عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ أي: يمطرون بعد سني المجاعة، والدليل على ذلك قوله- تعالى-: وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً.
و في تفسير العيّاشي : عن محمّد بن عليّ الصّيرفي [عن رجل] ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام-: عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ بضمّ الياء ، يمطرون.
ثمّ قال: [أما سمعت قوله:] وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً.
عن عليّ بن معمّر ، عن أبيه، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- عن قوله:فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ مضمومة.
ثمّ قال: وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً.
لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً : ما يقتات به، وما يعتلف من التّبن والحشيش.
وَ جَنَّاتٍ أَلْفافاً : ملتفّة بعضها ببعض. جمع لفّ، كجذع، أو لفيف، كشريف، أو لفّ جمع لفّاء، كخضراء وخضر وأخضار، أو ملتفّة بحذف الزّوائد.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قوله: وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً قال: بساتين ملتفّة الشّجر.
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ: في علم اللّه، أو في حكمه مِيقاتاً : حدّا تؤقّت به الدّنيا وتنتهي عنده. أو حدّا للخلائق ينتهون إليه.
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ: بدل، أو بيان «ليوم الفصل».
فَتَأْتُونَ أَفْواجاً : جماعات من القبور إلى المحشر.
و في مجمع البيان : وفي الحديث عن البراء بن عازب قال: كان معاذ بن جبل قريبا من رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- في منزل أبي أيّوب الأنصاريّ، فقال معاذ: يا رسول اللّه، أ رأيت قول اللّه.- تعالى-: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (الآيات).
فقال: يا معاذ، سألت عن عظيم من الأمر. ثمّ أرسل عينيه، ثمّ قال: يحشر عشرة أصناف من أمّتي أشتاتا قد ميّزهم اللّه من المسلمين وبدّل صورهم، فبعضهم على صورة القردة، وبعضهم على صورة الخنازير، وبعضهم منكّسون أرجلهم من فوق ووجوههم من تحت ثمّ يسحبون عليها، وبعضهم عمي يتردّدون فيه، وبعضهم صمّ بكم لا يعقلون، وبعضهم يمضغون ألسنتهم فيسيل القيح من أفواههم لعابا يتقذّرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطّعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلّبون على جذوع من نار، وبعضهم أشدّ نتنا من الجيف، وبعضهم يلبسون جبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم.
فأمّا الّذين على صورة القردة فالقتّات من النّاس، وأمّا الذين على صورة الخنازير فأهل السّحت، وأمّا المنكّسون على رءوسهم فأكلة الرّبا، والعمي الجائرون فيالحكم، والصّمّ البكم المعجبون بأعمالهم، والّذين يمضغون ألسنتهم العلماء والقضاة الّذين خالف أعمالهم أقوالهم، والمقطّعة أيديهم وأرجلهم الّذين يؤذون الجيران، والمصلّبون على جذوع من نار فالسّعاة بالنّاس إلى السّلطان، والّذين هم أشدّ نتنا من الجيف فالّذين يتمتّعون بالشّهوات واللّذّات ويمنعون حقّ اللّه في أموالهم، والّذين هم يلبسون الجباب فأهل الفخر والخيلاء.
وَ فُتِحَتِ السَّماءُ: وشقّت.
و قرأ الكوفيّون، بالتّخفيف.
فَكانَتْ أَبْواباً : فصارت من كثرة الشّقوق كأنّ الكلّ أبواب. أو فصارت ذات أبواب.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قوله: وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً قال: تفتح أبواب الجنان.
وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ، أي: في الهواء كالهباء.
فَكانَتْ سَراباً : مثل سراب، إذ ترى على صورة الجبال ولم تبق على حقيقتها لتفتّت أجزائها وانبثاثها.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قوله: وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً قال: تسيّر الجبال مثل السّراب الّذي يلمع في المفازة.
و في نهج البلاغة : وتدكّ الشّمّ الشّوامخ والصّمّ الرّواسخ، فيصير صلدها سرابا ورقرقا ومعهدها قاعا سملقا .
إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً : موضع رصد، يرصد فيه خزنة النّار الكفّار،أو خزنة الجنّة المؤمنين ليحرسوهم من فيها في مجازهم عليها، كالمضمار، فإنّه الموضع الّذي تضمر فيه الخيل. أو مجدة في ترصّد الكفرة، لئلّا يشذّ منها واحد، كالمطعان.
و قرئ : «أنّ» بالفتح، [على التعليل] لقيام السّاعة.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قوله: إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً قال: قائمة.
لِلطَّاغِينَ مَآباً : مرجعا ومأوى.
لابِثِينَ وقرأ حمزة وروح: «لبثين» وهو أبلغ .
فِيها أَحْقاباً : دهورا متتابعة. وليس فيه ما يدلّ على خروجهم منها، إذ لو صحّ أنّ الحقب ثمانون سنة أو سبعون ألف سنة فليس فيه ما يقتضي تناهي تلك الأحقاب، لجواز أن يكون المراد: أحقابا مترادفة، كلّما مضى حقب تبعه آخر، وإن كان فمن قبيل المفهوم فلا يعارض المنطوق الدّالّ على خلود الكفّار.
و لو جعل قوله: لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً : حالا من المستكنّ في «لابثين» وأن نصب «أحقابا» «بلا يذوقون» احتمل أن يلبثوا فيه أحقابا غير ذائقين إلّا حميما وغسّاقا، ثمّ يبدّلون جنسا آخر من العذاب.
و يجوز أن يكون جمع حقب، من حقب الرّجل: إذا أخطأه الرّزق، وحقب العام:
إذا قلّ مطره وخيره، فيكون حالا بمعنى: لابثين فيها حقبين، وقوله: لا يَذُوقُونَ تفسير له.
و المراد بالبرد: ما يروّحهم وينفّس عنهم حرّ النّار أو النّوم، وبالغسّاق:
ما يغسق، أي: يسيل من صديدهم.
و قيل : الزّمهرير، وهو مستثنى من البرد، إلّا أنّه اخّر ليتوافق رؤوس الآي.و قرأ حمزة والكسائي وحفص، بالتّشديد .
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قوله: لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً قال: «الأحقاب» السّنين، والحقب سنة، والسّنة، عددها ثلاثمائة وستّون يوما، واليوم كألف سنة ممّا تعدّون.
أخبرنا أحمد بن إدريس، عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن النّضر بن سويد، عن درست بن أبي منصور، عن الأحول، عن حمران بن أعين قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- عن قول اللّه- عزّ وجلّ-: لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً.
قال: هذه في الّذين لا» يخرجون من النّار.
و في كتاب معاني الأخبار : أبي- رحمه اللّه- قال: حدّثنا سعد بن عبد اللّه، عن يعقوب بن يزيد، عن جعفر بن عقبة ، عمّن رواه، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في قول اللّه- عزّ وجلّ-: لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً قال: «الأحقاب» ثمانية أحقاب، والحقب ثمانون سنة، والسّنة ثلاثمائة وستّون يوما، واليوم كألف سنة ممّا تعدّون.
و في مجمع البيان : وروى نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: لا يخرج [من النار] من دخلها حتّى يمكث فيها أحقابا، والحقب بضع وستّون سنة، والسّنة ثلاثمائة وستّون يوما، وكلّ يوم كألف سنة ممّا تعدّون، فلا يتّكلنّ أحد على أن يخرج من النّار.
جَزاءً وِفاقاً ، أي: جوزوا بذلك جزاء ذا وفاق لأعمالهم. أو موافقا لها. أو وافقها وفاقا.
و قرئ : «وفاقا» فعال، من وفقه كذا.إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً : بيان لما وافقه هذا الجزاء.
وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً : تكذيبا. وفعّال بمعنى: تفعيل، مطرّد شائع في كلام الفصحاء.
و قرئ بالخفيف، وهو بمعنى: الكذب، كقوله:
فصدّقتها وكذّبتها والمرء ينفعه كذابه
وإنّما أقيم مقام التّكذيب للدّلالة على أنّهم كذّبوا في تكذيبهم .
أو المكاذبة، فإنّهم كانوا عند المسلمين كاذبين وكان المسلمون عندهم كاذبين، فكأنّ بينهم مكاذبة.
أو كانوا مبالغين في الكذب مبالغة المغالبين فيه.
و على المعنيين يجوز أن يكون حالا، بمعنى: كاذبين أو مكاذبين، ويؤيّده أنّه قرئ : «كذّابا» وهو جمع كاذب.
و يجوز أن يكون للمبالغة، فيكون صفة للمصدر، أي: تكذيبا مفرطا كذبه.
و في مجمع البيان : وروى العيّاشي بإسناده عن حمران قال: سألت أبا جعفر- عليه السّلام- عن هذه الآية.
فقال: هذه في الّذين يخرجون من النّار.
و روى ، عن الأحول، مثله.
و رووا ، عن عليّ- عليه السّلام-: كذبوا باياتنا كذابا خفيفة. والقراءة المشهورة: وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً بالتّثقيل.
أقول: يحتمل أن يكون سقطت في تلك الرّواية لفظة «لا»، وعلى تقدير عدم السّقوط يحتمل أن يكون خرجت مخرج الإنكار
، كما أنّ الرّواية السّابقة المرويّة عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-: لا يخرج من دخلها حتى يمكث فيها أحقابا
على تقدير أن يكون بيانا لهذه الآية محمول على التّعليق بالمحال، كقوله : حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ.وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ وقرئ بالرّفع، على الابتداء.
كِتاباً : مصدر «لأحصيناه» فإنّ الإحصاء والكتبة يتشاركان في معنى الضّبط، أو لفعله المقدر. أو حال بمعنى: مكتوبا في اللّوح، أو صحف الحفظة. والجملة اعتراض، وقوله: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً : مسبّب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات، ومجيئه على طريقة الالتفات المبالغة.
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً : فوزا. أو موضع فوز.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وقوله: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً قال: يفوزون.
حَدائِقَ وَأَعْناباً : بساتين فيها أنواع الأشجار المثمرة. بدل من «مفازا» بدل الاشتمال أو البعض.
وَ كَواعِبَ: نساء فلكت ثديهنّ.
أَتْراباً : لدات .
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قوله: وَكَواعِبَ أَتْراباً قال: جوار وأتراب لأهل الجنّة.
و في رواية أبي الجارود ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال في قوله: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً قال: هي الكرامات. وَكَواعِبَ أَتْراباً، أي: الفتيات النّواهد .
وَ كَأْساً دِهاقاً : ملآنا، من أدهق الحوض: إذا ملأه.
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً .
و قرأ الكسائي ، بالتّخفيف، أي: كذبا، أو مكاذبة أو يكذب بعضهم بعضا.
جَزاءً مِنْ رَبِّكَ: بمقتضى وعده.
عَطاءً: تفضّلا منه. وهو بدل من «جزاء».
و قيل: منتصب به نصب المفعول به.حِساباً : كافيا، من أحسبه الشّيء: إذا كفاه حتّى قال: سبي. أو على حسب أعمالهم.
و قرئ : «حسّابا»، أي: محسبا، كالدّرّاك، بمعنى: المدرك.
و في أمالي شيخ الطّائفة ، بإسناده إلى أمير المؤمنين- عليه السّلام- حديث طويل، يقول فيه: حتّى إذا كان يوم القيامة حسب لهم حسناتهم، ثمّ أعطاهم بكلّ واحدة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال اللّه: جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً.
و قال : فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ.
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا: بالجرّ بدل مِنْ رَبِّكَ.
و قد رفعه الحجازيّان وأبو عمرو، على الابتداء.
الرَّحْمنِ: بالجرّ صفة له، إلّا في قراءة ابن عامر وعاصم [و يعقوب] .
و وافقهم حمزة والكسائي في جرّ «ربّ» ورفع «الرّحمن» وحده، على أنّه خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ خبره لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً .
و «الواو» لأهل السّماوات والأرض، أي: لا يملكون خطابه والاعتراض عليه في ثواب أو عقاب، لأنّهم مملوكون له على الإطلاق، فلا يستحقّون عليه اعتراضا، وذلك لا ينافي الشّفاعة بإذنه.
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً : تقرير وتوكيد لقوله: «لا يملكون» فإنّ هؤلاء الّذين هم أفضل الخلائق وأقربهم من اللّه، إذا لم يقدروا أن يتكلّموا بما يكون صوابا، كالشّفاعة لمن ارتضى إلّا بإذنه، فكيف يملكه غيرهم؟
و «يوم» ظرف «للا يملكون» أو «ليتكلّمون».
و «الرّوح» قيل : ملك موكّل على الأرواح أو جنسها. [أو جبرئيل] . أوخلق أعظم من الملائكة.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قوله: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا قال:
«الرّوح» ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل، وكان مع رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وهو مع الأئمة.
و في أصول الكافي : عليّ بن محمّد، عن بعض أصحابنا، عن ابن محبوب، عن محمّد بن الفضيل، عن أبي الحسن الماضي- عليه السّلام- قال: قلت: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ (الآية).
قال: نحن، واللّه، المأذون لهم يوم القيامة، والقائلون صوابا.
قلت: ما تقولون إذا تكلّمتم؟
قال: نمجّد ربّنا، ونصلّي على نبيّنا- صلّى اللّه عليه وآله- ونشفع لشيعتنا، ولا يردّنا ربّنا.
و الحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة.
و في مجمع البيان : لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً
روى معاوية بن عمّار [عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام-]» قال: سئل عن هذه الآية.
فقال: نحن، واللّه، المأذون لهم يوم القيامة، والقائلون صوابا.
قلت : جعلت فداك، ما تقولون؟
قال: نحمّد ربّنا، ونصلّي على نبيّنا، ونشفع لشيعتنا، فلا يردّنا ربّنا. رواه العيّاشيّ مرفوعا.
و في كتاب التّوحيد : عن عليّ- عليه السّلام- حديث طويل، وفيه يقول حاكيا أحوال مواقف أهل المحشر: ثمّ يجتمعون في مواطن اخر فيستنطقون فيفرّ بعضهم من بعض، فذلك قوله : يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ فسينطقون فلا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً فيقوم الرّسل فيشهدون في هذاالموطن، [فذلك قوله : فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً] .
و في شرح الآيات الباهرة : وروى محمّد بن العبّاس- رحمه اللّه- عن أحمد بن هوذة، عن إبراهيم بن إسحاق، عن عبد اللّه بن حمّاد، عن أبي خالد القمّاط، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- عن أبيه قال: قال: إذا كان يوم القيامة، وجمع اللّه الخلائق من الأوّلين والآخرين في صعيد واحد، خلع قول «لا إله إلّا اللّه» من جميع الخلائق إلّا من أقرّ بولاية عليّ، وهو قوله- تعالى-: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ (الآية).
ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ: الكائن لا محالة.
فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ: إلى ثوابه مَآباً : بالإيمان والطّاعة.
َّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
، يعني: عذاب الآخرة. وقربه لتحقّق وقوعه، فإنّ كلّ ما هو آت قريب، ولأنّ مبدأه الموت.
ْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ
: يرى ما قدّمت من خير وشرّ.
و المرء عامّ.
و قيل : هو الكافر، لقوله:نَّا أَنْذَرْناكُمْ
فيكون الكافر ظاهرا، وضع موضع الضّمير لزيادة الذّمّ.
و «ما» موصولة منصوبة «بينظر»، أو استفهاميّة منصوبة «بقدّمت»، أي:
ينظر أيّ شيء قدّمت يداه.
يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
: في الدّنيا فلم اخلق ولم اكلّف، أو في هذا اليوم فلم ابعث.
و قيل : يحشر سائر الحيوانات للاقتصاص ثمّ تردّ ترابا، فيودّ الكافر حالها.
و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وقوله:نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
قال: في النّار.
و قال:وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
، أي: علويّا.
و
قال. إنّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- قال: المكنّى أمير المؤمنين أبو تراب.و في كتاب علل الشرائع ، بإسناده إلى عباية بن ربعي قال: قلت لعبد اللّه بن عبّاس: لم كنّى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- عليّا أبا تراب؟
قال: لأنّه صاحب الأرض، وحجّة اللّه على أهلها بعده، وله بقاؤها وإليه سكونها، ولقد سمعت رسول اللّه يقول: إذا كان يوم القيامة ورأى الكافر ما أعدّ اللّه لشيعة عليّ من الثّواب والزّلفى والكرامة قال:ا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً، أي: من شيعة عليّ- عليه السّلام-. وذلك قول اللّه- تعالى-: ويوم يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا.
و في شرح الآيات الباهرة : قال محمّد بن العبّاس- رحمه اللّه- حدّثنا الحسين بن احمد ، عن محمّد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرّحمن، عن يونس بن يعقوب، [و] عن خلف بن حمّاد، عن هارون بن خارجة، عن أبي بصير، عن سعد السّمّان، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: قوله:وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ
- إلى قوله-:نْتُ تُراباً
، يعني:
علويّا يوالي أبا تراب.
و روى محمّد بن خالد البرقيّ ، عن يحيى الحلبيّ، عن هارون بن خارجة وخلف بن حمّاد، عن أبي بصير، مثله.