.: زواج النبي (ص) بزينب :.
مقدمة: (1)
كانت خديجة قد اشترت قبل البعثة وبعد زواجها بالنبي (ص) عبدا اسمه زيد، ثمّ وهبته للنبي (ص) فأعتقه رسول الله (ص)، فلمّا طردته عشيرته وتبرأت منه تبنّاه النبي (ص). وبعد ظهور الإسلام أصبح زيد مسلما مخلصا متفانيا، وأصبح له موقع ممتاز في الإسلام، وكما نعلم فإنه أصبح في النهاية أحد قواد الجيش الإسلامي في معركة مؤتة واستشهد فيها.
قصة زواج زيد بزينب:
وعندما صمم النبي (ص) على أن ينتخب زوجة لزيد، خطب له " زينب بنت جحش" – والتي كانت بنت " أميّة بنت عبد المطلب"، أي بنت عمته – فكانت زينب تظن أن النبي (ص) يريد أن يخطبها لنفسه، فسرّت ورضيت، ولكنها لمّا علمت فيما بعد أن خطبته كانت لزيد تأثرت تأثرا شديدًا وامتنعت، وكذلك خالف أخوها عبد الله هذه الخطبة أشد مخالفة.
هنا نزل الوحي وحذّر زينب وعبد الله وأمثالها بأنهم لا يقدرون على مخالفة أمر يراه الله ورسوله ضروريا، فلمّا سمعا ذلك سلمّا لأمر الله.
إن هذا الزواج لم يكن زواجا بسيطا – كما سنرى ذلك – بل كان مقدمة لتحطيم سنّة جاهلية مغلوطة، حيث لم تكن أية امرأة لها مكانتها وشخصيتها في المجتمع مستعدة للاقتران بعبد في زمن الجاهلية، حتى وإن كان متمتّعا بقيم إنسانية عالية.
غير إن هذا الزواج لم يدم طويلا، بل انتهى إلى الطلاق نتيجة عدم الانسجام واختلاف أخلاق الزوجين، بالرغم من أن النبي الأكرم (ص) كان مصرا على أن لا يتم هذا الطلاق.
بعد ذلك اتخذ النبي (ص) بأمر الله " زينب" زوجة له لتعوّض بذلك فشلها في زواجها، ...
فانتهت المسألة هنا، إلا أن همهمات وأقاويل قد ظهرت بين الناس، وقد اقتلعها القرآن وعالجها في هذه الآيات التي نبحثها، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى.
ثمّ تناول القرآن الكريم قصة "زيد" وزوجته "زينب" المعروفة، والتي هي إحدى المسائل الحساسة في حياة النبي (ص)، ولها ارتباط بمسألة أزواج النبي (ص) فيقول، ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ﴾(2).
والمراد من نعمة الله تعالى هي نعمة الهداية والإيمان التي منحها لزيد بن حارثة، ومن نعمة النبي (ص) أنه كان قد أعتقه وكان يعامله كولده الحبيب العزيز.
ويستفاد من هذه الآية أن شجارا قد وقع بين زيد وزينب، وقد استمر هذا الشجار حتّى بلغ أعتاب الطلاق، وبملاحظة جملة (تقول) حيث إن فعلها مضارع، يستفاد أن النبي كان ينصحه دائما ويمنعه من الطلاق.
هل أن هذا الشجار كان نتيجة عدم تكافؤ الحالة الاجتماعية بين زينب وزيد، حيث كانت من قبيلة معروفة، وكان هو عبدا معتق؟ أم كان ناتجا عن بعض الخشونة في أخلاق زيد؟
أو لا هذا ولا ذاك، بل لعدم وجود انسجام روحي وأخلاقي بينهما، فإن من الممكن أن يكون شخصان جيدين، إلا إنهما يختلفان من ناحية السلوك والفكر والطباع بحيث لا يستطيعان أن يستمرا في حياة مشتركة؟(3)
إن النبي (ص) كان قد قرّر أن يتخذ "زينب" زوجة له إذا ما فشل الصلح بين الزوجين ووصل أمرهم إلى الطلاق لجبران هذه النكسة الروحية التي نزلت بابنة عمّته زينب من جرّاء طلاقها من عبده المعتق، إلا أنه كان قلقا وخائفا من أن يعيبه الناس ويثير مخالفيه ضجة وضوضاء، من جهتين:
الأولى: أن زيدا كان ابن رسول الله (ص) بالتبني، وكان الابن المتبنى -طبقا لسنة الجاهلية- يتمتع بكل أحكام الابن الحقيقي، ومن جملتها أنهم كانوا يعتقدون حرمة الزواج من زوجة الابن المتبنى المطلقة.
والأخرى: هي كيف يمكن للنبي (ص) أن يتزوج مطلقة عبده المعتق وهو في تلك المنزلة الرفيعة والمكانة السامية؟
ويظهر من بعض الروايات أن النبي (ص) قد صمّم على أن يقدم على هذا الأمر بأمر الله سبحانه رغم كل الملابسات والظروف، وفي الجزء التالي من الآية قرينة على هذا المعنى.
بناء على هذا، فإن هذه المسألة كانت مسألة أخلاقية وإنسانية، وكذلك كانت وسيلة مؤثرة لكسر سنتين جاهليتين خاطئتين، وهما: الاقتران بمطلقة الابن المتبنى، والزواج من مطلقة عبدٍ مطلق.
من المسلّم أن النبي (ص) لا ينبغي أن يخاف الناس في مثل هذه المسائل، ولا يدع للضعف والتزلزل والخشية من تأليب الأعداء وشائعاتهم إلى نفسه سبيلا، إلا أن من الطبيعي أن يبتلى الإنسان بالخوف والتردد في مثل هذه المواقف، خاصة وأن أساس هذه المسائل كان اختيار الزوجة، وأنّه كان من الممكن أن تؤثر هذه الأقاويل والضجيج على انتشار أهدافه المقدّسة وتوسع الإسلام، وبالتالي ستؤثر على ضعفاء الإيمان، وتغرس في قلوبهم الشك والتردد.
يقول سبحانه في متابعة المسألة: إن زيد لمّا أنهى حاجته منها وطلقها زوجناها لك: ﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا﴾ وكان لابد أن يتم هذا الأمر ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾(4).
ومما يستحق الانتباه أن القرآن الكريم يبين بمنتهى الصراحة الهدف الأصلي من هذا الزواج، وهو إلغاء سنة جاهلية كانت تقضي بمنع الزواج من مطلقات الأدعياء، وهذا بنفسه إشارة إلى مسألة كلية، وهي أن تعدد زواج النبي (ص) لم يكن أمرا عاديا بسيطا، بل كان يرمي إلى أهداف كان لها أثرها في مصير دينه(5).
1- على رأي أكثر المفسرين والمؤرخين إن الآيات 63 إلى 83 من سورة الأحزاب نزلت في هذه القصة.
2- الأحزاب، 37.
3- ثم تضيف الآية: ((وتخفي في نفسك مالله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه)).
4- الأحزاب، 37.
5- أساطير كاذبة:
مع أن القرآن الكريم كان غاية في الصراحة في قصة زواج النبي الأكرم (ص) من زينب، وفي تبيان هذه المسألة، والهدف من هذا الزواج، وأعلن أن الهدف هو محاربة سنة جاهلية فيما يتعلق بالزواج من مطلقة الابن المدعى، إلا أنها ظلت مورد استغلال جمع من أعداء الإسلام، فحاولوا اختلاق قصة غرامية ليشوهوا بها صورة النبي المقدسة، وأخذوا من الأحاديث المشكوك فيها أو الموضوعة في هذا الباب آلة وحربة يلوحون بها. ومن جملة ذلك ما كتبوا من أن النبي (ص) جاء إلى دار زيد ليسأل عن حاله، فما إن فتح الباب حتى وقعت عينه على جمال زينب، فقال: ((سبحان الله خالق النور! تبارك الله أحسن الخالقين)) واتخذوا هذه الجملة دليلا على تعلق النبي (ص) بزينب. في حين إن هناك دلائل واضحة – بغض النظر عن مسألة العصمة والنبوة – تكذب هذه الأساطير:
الأولى: أن زينب كانت بنت عم النبي (ص)، وقد تريبا وكبرا معا في محيط عائلي تقريبا، والنبي (ص) هو الذي خطبها بنفسه لزيد وإذا كان لزينب ذلك الجمال الخارق، وعلى فرض إنه استرعى انتباهه، فلم يكن جمالها أمرا خفيا عليه، ولم يكن زواجه منها قبل هذه الحادثة أمرا عسيرا، بل إن زينب لم تبد أي رغبة في الاقتران بزيد، بل أعلنت مخالفتها صراحة، وكانت ترجح تماما أن تكون زوجة للنبي (ص)، بحيث إنها سرت وفرحت عندما ذهب النبي (ص) لخطبتها ظنا منها بأن النبي (ص) يخطبها لنفسه، إلا إنها رضخت لأمر الله ورسوله بعد نزول هذه الآية القرآنية وتزوجت زيدا. مع هذه المقدمات هل يبقى مجال لهذا الوهم بأن النبي (ص) لم يكن عالما بحال زينب وجمالها؟ وأي مجال لهذا الظن الخاطئ بأن يكون راغبا في الزواج منها ولا يستطيع الإقدام عليه؟
والثانية: إن زيدا عندما كان يراجع النبي (ص) لطلاق زوجته زينب، كان النبي ينصحة مرارا بصرف النظر عن هذا الأمر، وهذا بنفسه شاهد آخر على بطلان هذه الإدعاءات والأساطير. ومن جهة أخرى فإن القرآن الكريم قد أوضح الهدف من هذا الزواج بصراحة لئلا يبقى مجال لأقاويل أخرى.
ومن جهة رابعة قرأنا في الآيات المذكورة أعلاه إن الله تعالى يقول: قد كان في حادثة زواج النبي (ص) بمطلقة زيد أمر كان النبي (ص) يخشى الناس فيه، في حين أن خشيته من الله أحق من الخشية من الناس.
إن مسألة خشية الله سبحانه توحي بأن هذا الزواج قد تم كتنفيذ لواجب شرعي، يجب عنده طرح كل الاعتبارات الشخصية جانبا من أجل الله تعالى ليتحقق هدف مقدس من أهداف الرسالة، حتى وإن كان ثمن ذلك جراحات اللسان التي يلقيها جماعة المنافقين في اتهاماتهم للنبي، وكان هذا هو الثمن الباهض الذي دفعه النبي (ص) – ولا زال يدفعه إلى الآن – في مقابل طاعة أمر الله سبحانه، وإلغاء عرف خاطئ وسنة مبتدعة.
إلا أن هناك لحظات حرجة في حياة القادة المخلصين تحتم عليهم أن يضحوا ويعرضوا أنفسهم فيها للاتهام أمثال هؤلاء الأفراد ليتحقق هدفهم!
أجل.. لو كان النبي (ص) لم يرى زينب من قبل مطلقا، ولم يكن يعرفها، ولم يكن لدى زينب الرغبة في الاقتران به، ولم يكن زيد مستعدا لطلاقها – وبغض النظر عن مسألة النبوة والعصمة – لكان هناك مجال لمثل هذه الأقاويل والتخرصات، لكن ملاحظة انتفاء كل هذه الظروف يتضح كون هذه الأكاذيب مختلقة.
إضافة إلى أن تاريخ النبي (ص) لم يعكس أي دليل أو صورة تدل على وجود رغبة خاصة لديه (ص) في الزواج من زينب، بل هي كسائر الزوجات، بل ربما كانت أقل من بعض الزوجات من بعض الجهات، وهذا شاهد تأريخي آخر على نفي هذه الأساطير.